البطريرك يوحنا ابن المعدني

البطريرك يوحنا ابن المعدني (1263+)

 

ولد في أواخر القرن الثاني عشر، درس وترهّب ورسم كاهناً في أحد أديار ملاطية، وسنة 1230 رسمه البطريرك إغناطيوس داود (1252+) مطراناً لماردين باسم يوحنا. ورسم مفرياناً على تكريت والمشرق سنة 1232.

من أخباره أن أهل أبرشية الموصل ونينوى لم يتلقوه بادئ بدء بترحاب، لأنه لم يكن كسلفه، الشهيد المفريان ديونيسيوس الثاني، جميل الصورة، فصيح اللسان، بل كان الجدري قد ترك في وجنتيه أخاديد داكنة السواد، وكانت لغته العربية ركيكة.

ومكث المفريان في أبرشية الموصل ونينوى نحو خمس سنوات. ثم رحل إلى بغداد سنة 1237 فرحّب به المؤمنون هناك إذ عرفوا فضله وفضيلته، وجلده على الدرس والتنقيب وملازمته قلايته.

وكان في بغداد آنذاك الإخوة الثلاثة الأشراف شمس الدولة وتاج الدولة وفخر الدولة أبناء توما الذين كانوا مقربين لدى الخليفة العباسي المستنصر باللّـه (1226 ـ 1242) ومتولين إدارة بلاطه. فكرّموا المفريان يوحنا كثيراً، وبوساطتهم نال حظوة لدى الخليفة ورجال الدولة.

وكانت بغداد تزهو بمدرستها المستنصرية التي تعتبر مركز إشعاع فكري في الشرق يومئذ، فاهتمّ المفريان يوحنا بدراسة اللغة العربية وآدابها على أحد أفاضل علماء المسلمين فسبر غورها وتعمق بها وملك ناصيتها، مما رفع منزلته كثيراً لدى الخليفة العباسي وكبار رجالات دولته.

أما أهل أبرشية الموصل ونينوى فإذ رأوا المكانة المرموقة التي احتلها المفريان في قلوب الناس في بغداد، ندموا على ما صدر منهم ضده، والتمسوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل (1233 ـ 1258) فأنفذ رسالة إلى المفريان على يد ابي الحسن ابن الشماع رئيس دير مار متى يسأله فيها العودة إلى الموصل.

فكتب المفريان إلى بدر الدين لؤلؤ جواباً لرسالته شاكراً وقائلاً: «إنه قد نذر الحج إلى القدس. وأنه قاصد السفر بعد مدة يسيرة فإذا أتمّ هذا الغرض القدسي سيعود إلى الموصل لأداء واجب الأدعية والتوقير له».

وهكذا كان إذ شدّ المفريان الرحال إلى القدس وعرَّج بطريقه إلى أنطاكية حيث التقى بالبطريرك ثم عاد سنة 1244 إلى الموصل وكان بدر الدين لؤلؤ في مقدمة مستقبليه فتلقّاه والشعب كله بحفاوة واحترام.

وسنة 1252 على أثر انتقال البطريرك إغناطيوس داود إلى جوار ربه، طمح المترجم إلى التربع على الكرسي البطريركي فرسم في 4 كانون الأول سنة 1252 بطريركاً في كنيسة حلب، واستحصل على براءة من الملك الناصر بدمشق. وانفرد بالبطريركية مدة سنتين بعد وفاة ديونيسيوس السابع، ودبّر الكنيسة باجتهاد، ووافته المنية سنة 1263 في سيس بقيليقية. ورثاه المفريان يوحنا ابن العبري بقصيدة عصماء.

وترك مؤلفات قيّمة منها (نافورا) ليتورجية سريانية جمعها من ليتورجيات الآباء وخطب دينية سريانية وعربية، وقوانين كنسية وديوان شعر سرياني يدل على براعته بهذا الفن.

ومن ما يدل على تعمق المترجم في علم اللاهوت ننشر فيما يأتي صورة إيمانه التي كتبها كما قيل عند اجتماعه بالمدعو أفري أفندي الإفرنجي ورفاقه ودونك نصها)*(:

«أقول وأنا يوحنا الضايل أي الضعيف فاطريرك الملة السريانية بأنطاكية الشام بأن اعتقادي وإيماني بالرب يشوع المسيح كلمة اللّـه الأزلية إقنوم الابن الأزلي المولود من الآب قبل كل الدهور والأحقاب أنه تنازل من قلة سمائه بمشيئته وإيثار أبيه وروحه، ولم يرتحل عن سدة ربوبيته وحلّ بذاته في مريم العذراء أمته، واتخذ منها جسماً بشرياً ذا نفس ناطقة عالمة، واتحد بوساطة النفس المذكورة اتحاداً حقيقياً غير مجازي. ولسنا نقول أنه تكوّن إنساناً أولاً ثم حلّ فيه اللاهوت، لكن ما ظهر إلى الوجود جزء من البشرية المشار إليها إلاّ واللاهوت متحداً به بغير امتزاج ولا اختلاط ولا فساد، بل اتحاداً باقياً دائماً سرمدياً لا يغيره ولا يعتريه افتراق ولا انفصال. ولهدا نعتقد أنه اللّـه متجسد ابن واحد مولود من الآب ولادة أزلية. ومن مريم البتول أخيراً ولادة زمنية. أقنوم واحد جوهر واحد من جوهرين. وما نقول أن اللاهوت استحال إلى الناسوت، والناسوت إلى اللاهوت. ولا أنه تألف من هذين الجوهرين جوهر ثالث. بل هو واحد بقانون الاتحاد الإلهي الغير عرضي. مع أنه وإن كان الاتحاد سلب الاثنينية والعدد، فإنما إذ له طبيعتان وأوصافهما ثابتة فيه تُعرف بالوهم والعقل فقط. وليست تُسند الآيات المبهرة إلى لاهوته مجردة من البشرية، ولا تُنسب الطبيعيات إلى بشريته مجردة من اللاهوت وإنما نقول صنع المعجزات بالقوة الإلهية، وباشر الآلام والموت الاختياري بالطبيعة البشرية. وهو واحد فقط ابن اللّـه وابن البشر. ونقول أنه لما قبل الآلام والصلب والموت بمشيئته لأجل خلاص بريته لم تفارق لاهوته ناسوته ولا لنفسه المفارقة بدنها في حال الموت. لكن لم يزل متحداً بالبدن الموضوع لقبول الآلام وبالنفس المفارقة من غير أن يعتريها ألم. لأن الجوهر الإلهي جلّ عن قبول الأعراض والآلام. ولما كان كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة يسمّى لمجرده إله وجوهر، وثبت أن الابن هو أحد هذه الأقانيم الثلاثة ويسمى جوهر وإله، لزمنا الأمر في هذا القانون أن نسمّي البتول أمه والدة اللّه. فإن قال قائل إن اسم اللّـه هو مشاع بين الأقانيم فربما تعدّى القول إلى غير أقنوم الابن وإلى الثلاثة معاً، قلنا له: هذا الاسم هو مشاع دون التعريف وخاص بوجود التعريف، لأن كل أقنوم من هذه الأقانيم المقدسة تجرد بمفرده بوصف يختص به دون غيره وذلك أن الآب اختص بالأبوة دون الابن والروح. والابن بالبنوة دون الآب والروح. والروح بالانبثاق دون الآب والابن. فإذا سمّينا الآب اللّـه وعرفناه بالأبوة لم يلزم أن يتعدّى الاسم إلى الابن والروح. وإذا سمّينا الابن اللّـه وخصصناه بالبنوة لم يلزم أن يتعدى القول إلى الآب والروح وكذلك يجري الأمر في روح القدس. فقولنا مريم البتول والدة اللّـه هو عبارة عن الابن فقط، وتخصيص الاسم يُعرف بوصف الولادة، والولادة دالة على المولود. فلا يلزم أن يتعدى القول إلى غيره. ولو قال لنا قائلٌ لمَ لا دعيتموها والدة المسيح. قلنا له: هذا مشتق من المساحة ومن الدهانة، ويحتاج إلى تفسير يطول شرحه ويخرج عن صيغة الاسم وربما ظن الجاهل أن المسمى هو داود أو شاول ومن يشاكلهما ممن سبق إلى هذا الاسم. مع أنه لو كان اسماً مشتقاً من اللاهوتية والناسوتية لكنّا اقتصرنا في حقيقة النسب عليه. وإنما هو بخلاف ذلك. وإذ كان المولود من البتول هو بالحقيقة إله سميناها والدة اللّه. ونحن في ذلك مقتفين أثر السليحيين (الرسل) والآباء القديسين وهذا ما أعتقده وأراه بلا زيف».

 

 

المصادر:

1 ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم ص 409 ـ 410 ـ الطبعة الثالثة ـ بغداد 1976.

2 ـ تاريخ البطاركة بالسريانية ـ مخطوط لابن العبري.

3 ـ مجلة الحكمة ص 145 ـ 151 ـ القدس 1927 ـ ترجمة يوحنا بن المعدني بقلم الراهب يوحنا دولباني (مطران ماردين بعدئذ).

4 ـ ذخيرة الأذهان للقس بطرس نصر الكلداني ـ المجلد الثاني ـ ص 56 ـ 58.

5 ـ تاريخ مختصر الدول بالعربية لابن العبري.

6 ـ تاريخ المفارنة ـ مخطوط بالسريانية لابن العبري.

7 ـ رسالة البرهان والإرشاد للقس صليبا الموصلي.

الهوامش

————————————–

)*( ـ لم يذكر البطريرك أفرام الأول برصوم فيما كتبه عن البطريرك يوحنا ابن المعدني مما نشره عن صورة إيمانه أنه اجتمع مع بافري أندري الإفرنجي ورفاقه. وقد نقلنا ذلك عن كتاب رسالة البرهان والإرشاد تأليف القس صليبا الموصلي (1309 ـ 1350م) التي كان قد نقلها الراهب (البطريرك بعدئذ) أفرام الأول برصوم عام 1909 عن نسخة في خزانة نمرود رسام بالموصل.

 

للأعلى