تاريخ الطب وأعلام الأطباء عند السريان

تاريخ الطب وأعلام الأطباء عند السريان

في العصـرين الأمـوي والعباسـي

 

بقلم الأستاذ الدكتور فيصل دبسي

كلية الطب ـ جامعة حلب

 

مقدمة

خدم السريان الطب في العصر العربي بالممارسة والترجمة والتأليف والتعليم، وكان أكثرهم فلاسفة وأطباء معاً لأن دراستهم الطبية لم تكن منفصلة عن دراستهم الفلسفية. إن إبداع هؤلاء الأطباء يندرج ضمن الحضارة العربية، طالما أنهم نشؤوا ضمن الدولة العربية وتكلموا لغتها ونعموا واستفادوا من دعمها المعنوي والمادي، فقد كانوا من أطباء البلاط، وكانت أغلب مؤلفاتهم بالعربية.

كان السريان ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية ثم يترجمونها بعدئذ من السريانية إلى العربية. وهكذا أصبحوا حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية والثقافة العربية، وقد وصلت الثقافة الهيلينية إلى الفكر العربي عن طريق السريان واللغة السريانية.

المراكز العلمية للأطباء السريان

  • جنديسابور:

جنديسابور مدينة في خوزستان، في الأحواز (الأهواز)، تقوم مقامها الآن مدينة شاه آباد في الجنوب الغربي من إيران. أسّسها الملك الساساني (شابور الأول) الذي تزوج ابنة القيصر البيزنطي أورليانوس وبنى لها هذه المدينة، ومنح الأطباء الذين رافقوها مكاناً لبناء مدرسة ومستشفى، فانتقل بذلك الطب اليوناني إلى بلاد فارس. وقد عني كسرى أنوشروان (531 ـ 579م)، بمدينة جنديسابور وجامعتها، فساعد على توسع علوم الطب، كما أوعز بوضع مؤلف في السموم بلغ ثلاثين مجلداً، نقله العرب فيما بعد إلى لغتهم.

كانت مدرسة طب جنديسابور في أوج مجدها حين فتح العرب بلاد فارس سنة (19هـ ـ 642م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد التقت فيها حضارة اليونان بحضارات الشرق بفضل العلماء السريان، فجعلوها مركزاً مرموقاً  بين مراكز الدولة الإسلامية العلمية. كانت لغة العلم في جنديسابور اليونانية مع اللغات الفارسية والسريانية والعربية. وكان لمدرسة جنديسابور مستشفى يعد من أكبر المشافي في العهد السابق للإسلام بثلاثة قرون.

كان للسريان إسهام كبير في جنديسابور وشهرة واسعة، لذلك فقد اعتمد الخلفاء المسلمون عليهم في العلاج والترجمة.

  • الـرهــا:

الرها هي أدسا Edessa، (وحالياً أورفه Urfa)، وهي أقدم مقر للنصارى السريان. كان في الرها مدرسة طبية ألحق بها مستشفيان، وكانت تلحق بها مدرسة وأراضٍ لزراعة النباتات الطبية بحسب المعيار الذي وضعه الساسانيون لدى إنشاء مسشفى جنديسابور.

  • حــران:

تقع حران على أحد روافد الفرات الشرقية في سوريا، وسكانها من السريان الوثنيين الذين انتحلوا الصابئة تستراً ليعدهم المسلمون من أهل الكتاب. انتقلت إليها والى أنطاكية معارف الإسكندرية الهيلينية، ولا سيما الطبية، لانقطاع صلتها بالروم، ولهذا واصل، كما يذكر بروكلمان ـ السوريون في إنطاكية وحران حماية تراث بيزنطة وتنميته ونقله إلى بغداد.

لقد كانت حران مع المدن السورية المهمة الأخرى مراكز علمية تقوم فيها الدراسات العلمية والفلسفية والدينية ـ الكنسية، ولما جاء المسلمون حافظت على مكانتها وأهميتها العلمية لجهل الفاتحين باللغتين الإغريقية واللاتينية، التي يتقنها الكثير من أبناء السريان المسيحيين والوثنيين (الصابئة). لذلك فقد اعتمد العرب في أول أمرهم على ترجمات أخرجها لهم السريان، وكانت طريقة هؤلاء الأخيرين أن ينقلوا الكتاب اليوناني إلى لغتهم السريانية ثم يترجموه بعدئذ من السريانية إلى العربية. وهكذا أصبحوا أعظم حلقة للاتصال بين الثقافة الهيلينية والحضارة العربية.

  • الحيــرة:

كانت الحيرة (حيرتا ـ بالسريانية ـ مخيم أو معسكر)، والتي تقع على بعد 5 كيلومترات جنوبي الكوفة، مركزاً حضارياً في عهد المناذرة، حيث كانت عاصمتهم. وفي الحيرة كان يسكن، بالإضافة إلى العرب، النبط (وهم سكان العراق القدماء) و الإيرانيون والروم، وهم من أديان مختلفة، زرادشتية ونصرانية ويهودية وصابئة، وكانت ملتقى الحضارات القديمة؛ وأهلها يتكلمون في الغالب العربية ويكتبون بالسريانية، لغلبة المسيحية فيها، ويستخدمون الخط النبطي (الذي عرف بالكوفي بعد الفتح الإسلامي)، ويعرفون الفارسية والآرامية (سلف السريانية). وقد فقدت الحيرة أهميتها بعد الفتح الإسلامي، ولا سيما بعد إنشاء الكوفة القريبة منها. غير أن كنائسها وأديرتها القريبة أصبحت منبعاً لرواد المعرفة من المؤرخين العرب، حيث كان باستطاعتهم شراء المخطوطات وتدارسها والنقل عنها. وكان في العراق، المحتل من قبل الإيرانيين الساسانيين، قد توفرت، قبيل قدوم العرب المسلمين الفاتحين إليه، ظروف موضوعية وذاتية لان يمارس المسيحيون نشاطهم بحرية أوفر، نتيجة تطور العلاقات الاجتماعية وتسامح السلطة الإيرانية الزرادشتية ـ غير التبشيرية ـ مما خلق ظروفاً أفضل لممارسة النساطرة السريان، الفرقة الأكثر قبولاً وتجاوباً مع السلطة الساسانية، لمجمل نشاطاتهم الدينية والثقافية والحضارية، وإن كانت على العموم غير عميقة وذات أبعاد غير فسيحة.

  • بصــرى:

كانت بصرى (بسترا) قبل الإسلام تنافس الحيرة بصفتها عاصمة الغساسنة، أعداء المناذرة حكام الحيرة. و بصرى وإن لم تكن العاصمة الوحيدة للغساسنة غير أن لها شهرتها ومركزها ومدنيتها، التي فاقت منافستها، حيث كان الغساسنة أكثر التصاقاً بالبيزنطيين، ولا سيما بعد هجرهم لآلهتهم وتنصرهم نظراً لمجاورتهم وتبعيتهم للبيزنطيين. كما كانت بصرى مركزاً لشبكة الطرق التي أسسها الرومان، لأنها كانت قديماً سوقاً تجارية نبطية، فمنها كانت تسير القوافل في كل الاتجاهات.

لقد أخذ الغساسنة بالتحضر والتقرب إلى البيزنطيين حتى تنصروا (الكنيسة السورية الغربية ـ السريانية) واتخذوا الآرامية لغة ثانية مع العربية.

لقد ورث نصارى المدن الغسانية في العهد الإسلامي خبرات ومعارف أسلافهم، وقد استفادوا من إتقانهم للآرامية والعربية والسريانية والإغريقية في الترجمة، وأستعين بهم لهذا السبب.

العصر الأمـوي

عني الأمويون بنقل العلوم القديمة من يونانية وفارسية وهندية إلى اللغة العربية. و قد وجدوا في المدارس السورية ومدرسيها من السريان ما يحقق غاياتهم، كما بادلهم هؤلاء الإخلاص والولاء. كان للسريان مدارس متعددة فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها، رعاها الأمويون. اشتهر منهم في العصر الأموي يعقوب الرهاوي. كان السريان ينقلون العلوم اليونانية إلى اللغة العربية كالمنطق والطب والطبيعة. وظلت المدارس السريانية مفتوحة الأبواب عند الدولة الأموية كما كانت في الدولة البيزنطية. وقد حفظت اللغة السريانية بعض الكتب اليونانية التي فقد أصلها، وقد كانت الترجمة التي أنجزها السريان في عهدها الأول ترجمة حرفية تقريباً ثم تحرر المتأخرون من حرفية الترجمة. ولم يقتصر السريان على الترجمة من اليونانية بل ترجموا من الفهلوية (الفارسية) أيضاً.

  • ماسـرجويـه:

هو ماسرجش اليهودي، الذي يعرف بيحيى بن ماسرجويه السوري والذي ترجم كتاب الطب (كناش) أهرون Syntagma للقس النصراني والطبيب الاسكندراني هارون، من السريانية إلى العربية، وهو من أقدم التآليف العربية الطبية. يرى مايرهوف بأنه ربما كتب بالإغريقية ثم ترجم إلى السريانية، ثم إلى العربية. كان يهوديَّ المذهب سريانياً، وهو الذي يعنيه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابه الحاوي بقوله: قال اليهودي. ويظهر أن أبحاث أهرون كانت تشتمل على أول وصف لمرض الجدري، وهو داء لم يكن معروفاً في الطب اليوناني القديم.

كان في أيام بني أمية، وإنه تولى في الدولة المروانية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية والذي وجده عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه في خزائن الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مُصَلاّه واستخار اللّه في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تم له في ذلك أربعون صباحاً أخرجه إلى الناس وبثَّه في أيديهم. لماسرجويه من الكتب : كناش، وكتاب في الغذاء، وكتاب في طب العين.

العصـر العبـاســي

اقتبس العباسيون الطب عن اليونان خاصة، وعن الفرس والهنود أيضاً. وكان عصر هارون الرشيد، عصر الإسلام الذهبي فأصبحت بغداد عاصمة العالم في الثقافة والسياسة والاقتصاد. وقد نشّط الخليفة الرشيد العلوم بجميع الوسائل، وتبعه في ذلك رجاله فزادوها تبسطاً في الأبحاث وتوسعاً في العلاج ومهارة في الجراحة والتشريح وخبرة في العقاقير وتركيبها ومعرفة في الكيمياء وتحليلها، وكانوا قد استقدموا إليهم كثيرين من أطباء تلك الأمم فطببوا الخلفاء ونقلوا لهم الكتب. وقد اشتهر من خلفاء العباسيين المنصور والمأمون بحبهما للتوسع العلمي ورغبتهما في التطلع إلى آفاقه البعيدة مما أثار سخط الجامدين عليهم.

يعزي بعضهم ترجمة الكتب اليونانية في عصر المأمون، إلى رؤيا رآها المأمون، فقد رأى في منامه شيخاً بهي الشكل، جالساً على منبر وهو يخطب ويقول: أنا ارسطوطاليس، فانتبه من منامه وسأل عن أرسطوطاليس فقيل له: رجل حكيم من اليونانيين، فاحضر حنين بن اسحاق، إذ لم يجد من يضاهيه في الترجمة وطلب منه نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية وبذل له من الأموال والعطايا شيئاً كثيراً. إن هذه القصة لا يصح أن تكون سبباً أساسياً في نقل العلوم، إلا أنها تبين في كل حال رغبة الخلفاء في العلم ونقل كل ما كان معروفاً من علوم الأولين إلى اللغة العربية، والدليل على ذلك أن حركة الترجمة بدأت قبل عهد المأمون، وقصة رؤياه إن صحت فهي تدل على أن الحلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة.

لقد داخل الخلفاء ملوك الروم، وأتحفهم المنصور بالهدايا الثمينة وسألهم صلته بما لديهم من كتب الحكماء والفلاسفة، وعين لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها، ثم حض الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في قصره وتنافس أولو النباهة في العلوم، لما كانوا يرونه من الحظوة التي ينالها أصحاب العلم عند الخليفة، واهتمامه بهم و تقديره لهم، فكان يخلو بهم، ويأنس لمناظرتهم، ويسر بمذاكرتهم، وينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، حتى صارت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومانية عندما كانت في أوج حضارتها. ولم يمض أكثر من ثلاثة أرباع القرن الأول لتأسيس بغداد حتى تمّ للعالم العربي أن يقف على أهم كتب أرسطو الفلسفية وعلى نخبة من كتب الشروح لأهل الفلسفة الأفلاطونية الجديدة وعلى جملة من كتب جالينوس الطبية وطائفة من الكتب العلمية الفارسية والهندية.

دار الحكـمة في بغـداد ودور الأطباء السريان فيها

أنشأ الرشيد سنة (174هـ/790م) دار الحكمة في بغداد، وكانت مكتبة ومركزَ علمٍ ودار ترجمة. وقد كان هذا المعهد من وجوه كثيرة أعظم المعاهد الثقافية التي نشأت بعد مكتبة الاسكندرية التي أسست في القرن الثالث قبل الميلاد. و قد ترجم ما وجد من الكتب القديمة اليونانية في أنقرة وعمورية وغيرها من بلاد الروم خلال الحروب مع البيزنطيين، بعد نقلها إلى دار الحكمة، وكذلك ما يهدى للخليفة من الكتب من الأباطرة البيزنطيين، وما يرسل الخليفة لشرائه. وقد كلف الرشيد الطبيب السرياني يوحنا بن ماسويه بإدارتها فجعله أميناً للترجمة، ورتب له كتّاباً حاذقين لتدوين الترجمة ونسخها، فترجم كثيراً من الذخائر اليونانية. كانت دار الحكمة مناراً للثقافة والفكر في العالم ذلك الحين. وفي سنة (208هـ/823م) قام المأمون بتدعيم دار الحكمة بالعلماء والمترجمين، وقد عين حنين بن اسحاق السرياني قيماً على دار الحكمة ووضع بين يديه مترجمين، فكان حنين يراجع ما يترجمونه من كتب.

  • جورجيوس بن جبرائيل:

مرض المنصور في سنة 148هـ/770م، وفسدت معدته وفقد شهيته للطعام، وكلما عالجه أطباؤه ازداد مرضه، فطلب من وزيره وكاتم أسراره الربيع أن يجمع له الأطباء لمشاورتهم، فسألهم المنصور: من تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيباً ماهراً؟ فأجابوه: ليس هناك في هذا الوقت أحدٌ يشبه جرجس رئيس أطباء جنديسابور. فأرسل المنصور حالاً من يحضره.

وصل الرسول إلى حاكم جنديسابور الذي أحضر جورجيوس وطلب منه الذهاب إلى بغداد، فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان، وأخذ معه تلميذيه إبراهيم، وعيسى بن شهلا.

لما وصل جرجس إلى المنصور، دعا له بالفارسية والعربية، فأعجب الخليفة بحسن منظره ومنطقه، وأجلسه أمامه، وسأله عن أشياء، فأجابه عنها بهدوء، فقال له المنصور: قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه، وحدثه عن مرضه، وطلب من الوزير الربيع أن يُكرم كما يُكرَّم أخص الأهل. وقد عالجه جرجس حتى شُفي. وكان فرح الخليفة به عظيماً، وأمر أن يُجاب له كل ما يسأل.

في سنة 152هـ/774م أي بعد أربع سنوات من حياة جرجس في بغداد، مرض جرجس مرضاً صعباً، وكان الخليفة يطمئن عليه كل يوم. ولما اشتد مرضه، قال له: وجدت راحةً عظيمة في جسمي منذ رأيتك، كما تخلصت من أمراضي. وأمر الخليفة أن يُنقل جورجيوس إلى بلده جنديسابور، وأن يُدفع له عشرة آلاف دينار، وأرسل معه خادماً وقال له: إن مات في طريقه، فاحمله إلى منزله ليُدفن هناك كما آثر، وقد وصل إلى بلده حياً. توفي سنة 152هـ/774م في جنديسابور.

كان رئيساً لأطباء جنديسابور، وله مؤلفات جليلة، منها  كتاب في الطب باللغة السريانية، نقله فيما بعد حنين بن اسحق إلى اللغة العربية.

  • بختيشوع بن جورجيوس:

وصل إلى مرتبة أبيه في الطب. وقد خلف أباه في رئاسة بيمارستان جنديسابور. استقدمه الهادي من جنديسابور لمعالجته، إلا أنه لما وصل ورآه علم أنه لن ينجو من الموت، وذلك في سنة 170هـ/792م.

من مؤلفاته: كتاب في الطب (كناش) مختصر، وكتاب التذكرة ألفه لابنه جبرائيل.

  • جبرائيل بن بختيشوع:

أعظم الأطباء السريان وأشهرهم. لازم هارون الرشيد ثلاثاً وعشرين سنة حتى وفاة الرشيد، وقد جعله رئيساً على جميع الأطباء. كما خدم الأمين والمأمون، وحصَّل منهم من الأموال ما لم يحصَّله غيره من الأطباء. وكان عند المأمون مثلما كان عند أبيه الرشيد.

ازدهرت في عصر المأمون العلوم والفنون، ونُقلت المؤلفات اليونانية إلى اللغة العربية، ويعتبر عصره عصر الدولة الذهبي. ولما عزم المأمون على حرب الروم سنة 213هـ/835م مرض جبرائيل مرضاً شديداً. فلما رآه المأمون ضعيفاً، طلب منه إرسال ابنه بختيشوع معه فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والفضل والسخاء. ولما خاطبه المأمون وسمع حسن جوابه، فرح به فرحاً شديداً وأكرمه غاية الإكرام، ورفع منزلته واصطحبه معه في غزواته إلى بلاد الروم. وفي خلال غياب المأمون مرض جبرائيل إلى أن بلغ الموت، وكتب وصيته إلى المأمون وتركها عند صهره ميخائيل ومات. وقد أقيمت له جنازة لم تقم لأمثاله وذلك لفضله وبره، ودفن في دير مار سرجيوس بالمدائن (على مسافة 30 كم جنوبي بغداد). ولما عاد ابنه بختيشوع من بلاد الروم جمع للدير رهباناً وتكفل جميع نفقاتهم.

لجبرائيل بن بختيشوع من الكتب: رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب، وكتاب صنعة البخور ألفه أيضاً للمأمون، وكتاب المدخل في صناعة المنطق، وكتاب الباه، ورسالة مختصرة في الطب، وكتاب شامل في الطب (كناش).

  • يوحنا بن ماسويه Yuhanna ibn Masawayh (Mésué) 240هـ/862م:

كان أبوه صيدلانياً في بيمارستان جنديسابور ثم من أطباء العيون في بغداد، وقد تقدم أبوه في دولة الرشيد. كان سريانياً مسيحي المذهب، وتلقى علومه في بيمارستان جنديسابور، وكان طبيباً ذكياً فاضلاً خبيراً بالطب، وكان أحد الذين عهد إليهم الرشيد بترجمة ما وجد من الكتب القديمة اليونانية في أنقرة وعمورية وغيرها من بلاد الروم. وقد نقلت هذه الكتب إلى بيت الحكمة في بغداد، وجعل يوحنا أميناً لترجمتها إلى العربية، ورتب له الرشيد كتّاباً حاذقين لتدوين الترجمة ونسخها، وقد ترجم كثيراً من الذخائر اليونانية. تولى تطبيب الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. حظي بتقدير كبير من الخليفة الواثق، وقد أغدق عليه مالاً وفيراً. أصاب شهرة واسعة وثروة طائلة.

ينسب إلى يوحنا أقدم معالجة للرمد وكذلك تميزه في طب العيون.

كان مبجلاً ومحظياً عند الملوك، وقد لازم الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل من الخلفاء العباسيين، وكان ملوك بني هاشم لا يتناولون أطعمتهم إلا بحضوره.

كان ضعيف التمسك بدينه، ورغم أنه كان شماساً، فقد كانت له نساء كثيرات. كما كان مجلس يوحنا أفضل مجلس لطبيبٍ أو فيلسوفٍ في بغداد، لأنه كان يجمع كل أصناف العلوم، و كان ذا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر لأجلها. وكان عصبياً شديد الحدة، على أشد مما كان عليه جبرائيل بن بختيشوع، وحدته هذه تخرج منه ألفاظاً مضحكة. وكان أطيب ما يكون مجلسه، في وقت نظره في قوارير البول، وكان يعتمد عليها في تشخيص المرض.

كان يوحنا غزير الإنتاج، من  مؤلفاته: في التشريح (كتاب مجسة العروق، وكتاب الجنين، وكتاب تركيب خلق الإنسان وأجزائه وعدد أعضائه ومفاصله وعظامه وعروقه، وكتاب التشريح) وفي طب العين (معرفة محنة الكحالين)، وفي الطب العام (كتاب البرهان وهو في ثلاثين باباً، وكتاب جامع الطب، وكتاب معرفة أسباب الأوجاع ألفه للمأمون، وكتاب السموم وعلاجها) وفي الطب النفسي (كتاب الماليخوليا وأسبابها وعلاماتها وعلاجها)، وفي الأدب الطبي (كتاب محنة الطبيب)، وفي طب الجلد (كتاب في الجذام) لم يسبقه أحد إلى مثله، وفي طب الحنجرة (كتاب الصوت والبحّة).

  • بختيشوع بن جبرائيل 256هـ/878م:

كان سريانياً نبيل القدر بلغ من عظم المنزلة والحال، وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره. نقل حنين بن إسحاق لبختيشوع بن جبرائيل كتباً كثيرة من كتب جالينوس إلى اللغة السريانية واللغة العربية. ولما تولى الواثق تاسع الخلفاء العباسين وقد تسلط القواد الأتراك على الحكم في أيامه، كان وزيره محمد بن عبد الملك الزيات وابن أبي داوود يعاديان بختيشوع ويحسدانه، فكانا يوغران صدر الواثق عليه إذا خلوا به، فسخط الواثق عليه وصادر أملاكه وضياعه وأمواله ونفاه إلى جنديسابور، وذلك في سنة (230هـ/852م)، لكنه لما أصيب الواثق بالاستسقاء واشتد عليه المرض، طلب بختيشوع من منفاه في جنديسابور، إلا أنه توفي قبل وصوله. قضى بختيشوع بن جبرائيل أكثر أيامه بصحبة الخليفة المتوكل. وقد علا شأنه في عهد المتوكل، حتى بلغ من الجلالة والرفعة، وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال والجاه، ومباراة الخليفة في الزي واللباس والطيب والفرش وبذخ الحياة مبلغاً يفوق الوصف. ويُروى أن المتوكل أمر وزيره شفاهاً قائلاً: «أكتب من ضياع بختيشوع كأنها ضياعي وملكي لأن محله منا محل أرواحنا من أبداننا». لكن بختيشوع أفرط في إدلاله على الخليفة، فصادر المتوكل أمواله ونقله من سامراء إلى بغداد. وعرض للمتوكل بعد ذلك قولنج فاستحضره واعتذر إليه، وعالجه بختيشوع فشفي، فأنعم عليه المتوكل ورضي عنه، وأعاد له أمواله وأملاكه.

أصيب بختيشوع بنكبة أخرى أيام المتوكل عندما تآمر عليه وزيره وكاتبه لقتله، وكانا يعلمان محبة بختيشوع له، فأوغرا صدر الخليفة عليه، فنُفي إلى البصرة، واغتيل المتوكل. ولما استخلف المستعين، رد بختيشوع إلى الخدمة وأحسن إليه إحساناً كثيراً. وعندما صار الأمر إلى المهتدي جرى على حال المتوكل في أنسه بالأطباء وتقديمه إياهم وإحسانه إليهم. وقد شكا بختيشوع إلى المهتدي ما أُخذ منه في أواخر أيام المتوكل وقبل اغتياله، فأمر برد ما كان له. وقد توفي سنة 256هـ/878م.

لبختيشوع بن جبرائيل من الكتب: كتاب الحجامة بطريقة السؤال والجواب.

  • حنين بن إسحاق (194 ـ 264هـ/810 ـ 873م):

حنين بن إسحاق هو أبو زيد العبادي نسبة إلى قبائل عباد، وهي قبائل عربية نصرانية نسطورية من الحيرة. ولغته الأم السريانية. ولد بالحيرة في العصر الذهبي من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية سنة 194هـ/810م، وحين شب تنقل في البلدان وقد أقام مدة في البصرة حيث لازم الخليل بن أحمد الفراهيدي حتى برع في اللغة العربية  كبراعته بلغته الأم السريانية. وكان فصيحاً لسناً بارعاً شاعراً. ثم حلّ به المطاف في بغداد، وبدا يحضر مجالس العلماء والأدباء وعلى الأخص مجلس يوحنا بن ماسويه مترجم البلاط العباسي آنذاك. واشتغل بصناعة الطب حيث لازم مجلس يوحنا بن ماسويه الذي كان مجلسه الأفضل لتعلم الطب، وكان يقرأ عليه كتاب فرق الطب المسمى باللغة اليونانية والسريانية «هراسيس». كان حنين كثير السؤال مما كان يزعج يوحنا، وكان أهل جنديسابور وأطباؤها خاصة ينفرون من أهل الحيرة ويكرهون دخول أبناء التجار في مهنتهم، وقد سأله حنين في بعض الأيام عن بعض ما كان يقرأ عليه مستفسراً، فانزعج يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة وتعلم الطب، اذهب للبيع والشراء فذلك أنفع لك، وطرده من داره، فخرج حنين باكياً حزيناً. فقرر الرحلة في طلب العلم وعاد إلى التنقل في البلدان والأمصار حتى حلّ به المطاف في بلاد الروم (البيزنطيين) حيث بقي هناك مدة تزيد على السنتين تعلم خلالها اللغة اليونانية بطلاقة وإتقان بحيث أصبح قادراً على حفظ أشعار هوميروس. ويقول ابن جلجل في ذلك: كان حنين عالماً بلسان العرب فصيحاً باللسان اليوناني جداً بارعاً في اللسانين بلاغة بلغ فيها تمييز علل اللسانين. وقد أحسن الخليفة المأمون (198 ـ 218هـ/814 ـ 833م) استغلال مواهب حنين بن إسحاق فعينه مترجماً، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية وإصلاح ما ينقله غيره، وهكذا بدأ حنين يترجم للبلاط العباسي ولما يبلغ العشرين من عمره. كان بارعاً في ترجمته، وهو الذي أوضح معاني كتب أبقراط وجالينوس ولخصها أحسن تلخيص، وشرح ما صعب منها. و قد كان عهد المأمون من أفضل فترات النشاط العلمي في الدولة العباسية، فقد أبدى الخليفة اهتماماً كبيراً في جلب الكتب من مختلف أصناف المعرفة وترجمتها إلى العربية. كما وإن المذهب الرسمي الذي تبناه الخليفة كان مذهب المعتزلة وهو مذهب، رغم سلبياته المتمثلة بالمحنة، يؤمن بحرية الرأي والإرادة والنزعة العقلية. و يبدو أن هذا الجو الفكري شجع حنين على العمل الجدي المستمر سواءً كان ترجمة أو إنتاجاً، إلا أن عهد المأمون لم يدم طويلاً.

ترجم لجبرائيل بن بختيشوع كتاب جالينوس في التشريح، وعاد فلازم يوحنا بن ماسويه وتتلمذ على يده في الطب ونقل له كتباً كثيرة وخصوصاً من كتب جالينوس، بعضها إلى اللغة السريانية، والبعض الآخر إلى العربية. كان حنين أعلم أهل زمانه باللغات اليونانية والسريانية والفارسية بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية وتميزه فيها، وقد جعله المأمون قيماً على دار الحكمة، وطلب منه ترجمة كتب الفلاسفة اليونانيين إلى العربية، كما وضع بين يديه مترجمين، فكان حنين يراجع ما يترجمونه من كتب. وكان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مثلاً بمثل، لذلك كانت كتب حنين مكتوبة بحروف كبيرة وخط غليظ على أسطر متفرقة، وورق سميك يعادل ثلاث أو أربع ورقات بسماكته، وكان مقصده تعظيم حجم الكتاب وزيادة وزنه، لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم، وكان يستعمل ذلك الورق عمداً، وهذا ما حفظ هذه الكتب سنوات طويلة.

سافر حنين إلى بلاد كثيرة، منها فارس حيث تعلم الفارسية، ووصل إلى أقصى بلاد الروم لطلب الكتب التي قصد نقلها، كما أقام فيها ما يقرب من سنتين حيث تعلم اليونانية. وكان مهتماً بنقل الكتب الطبية وخصوصاً كتب جالينوس، حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس المترجمة إلا وهي بنقل حنين أو بإصلاحه ما نقله غيره. كما اهتم بالفلسفة أيضاً والتاريخ.

استمر حنين بن إسحاق في السنوات الأولى من عهد المتوكل على مرتبته السابقة التي كانت عند المأمون والمعتصم والواثق، مؤتمناً ومقرباً من البلاط العباسي وطبيباً للخليفة ورئيساً للمترجمين. وخدم حنين بالطب المتوكل وحظي في أيامه ويقول القفطي: «واختير للترجمة واؤتمن عليها وكان المتخير له المتوكل على اللّه، وعين له كتاباً محررين عالمين بالترجمة. كانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا».

ولكن الخليفة المتوكل لم يلبث أن غير وبدل من علاقته بحنين بعد أن اتهمه رجال الدين المسيحيين بالكفر فأمر الخليفة بضربه وسجنه وصادر أمواله وكتبه. وقد بقي حنين بن إسحاق في السجن حوالي ستة أشهر أطلق بعدها وأعيد إلى منصبه. إلا أنه، كما يبدو، تعلم تجربة مريرة من خلال محنته هذه فآثر العزلة والانصراف إلى بحوثه وترجماته الخاصة، إضافة إلى وضع البلاط وسيطرة الأتراك الذين لم يكونوا ليفهموا شيئاً من نشاطات حنين العلمية والأدبية مما دفعه إلى الابتعاد أكثر فأكثر عن حياة البلاط والحياة الرسمية.

ورغم كون حنين بن إسحاق طبيباً في البلاط ومترجماً مؤتمناً إلا أن الشكوك كانت تساور الخليفة تجاهه منذ البدء فاقامته في بلاد الروم، واشتغاله بالفلسفة والمنطق وآراؤه الفكرية في الفلسفة والدين، كل ذلك شكك الخليفة بحنين وزاد من ريبته. ولعل هذه الرواية تدل على ذلك بوضوح حيث تشير بان المتوكل كان: يسمع علمه (علم حنين) ولا يأخذ بقوله (دواءً) يصفه حتى يشاور غيره.

إن السبب الرئيسي وراء محنة حنين بن إسحاق في عهد المتوكل هو ما عرضه من آراء في الفلسفة والمنطق والدين. فقد منع هذا الخليفة الكلام في الفلسفة والمنطق ولذلك كان لابد أن يضيق على الفلاسفة وعلماء المنطق ومنهم حنين بن إسحاق الذي اعتبر خطراً على المجتمع، من وجهة نظر السلطة العباسية، بما يبثه من أفكار فلسفية تدعو إلى التشكيك في العقيدة.  إضافة إلى رسالته الجدلية (إدراك حقيقة الديانة) والتي ناقش فيها بطريقة ذكية بعض المسائل الإسلامية، ومن هنا يأتي اتهامه بالزندقة.

إن أغلب ما كتبه حنين قد ضاع أو اتلف أثناء تعرضه للاضطهاد في عهد المتوكل. حيث يشير ابن أبي اصيبعة بان الخليفة وجه فجيء بجميع ما كان له من رحل وأثاث وكتب وما شاكل ذلك. على أن هناك كتابين مهمين بقيا أولهما (كتاب نوار الفلاسفة) وثانيهما كتابه (إدراك حقيقة الديانة).

و قد مرض المتوكل مرضاً شديداً وكان الأطباء خلال ملازمتهم له يقولون: لو أراحنا مولانا أمير المؤمنين من ذلك الزنديق لأراح منه الدنيا، وانكشفت عن الدين محنة عظيمة. إلا أن الخليفة المتوكل عفا عنه وطلب منه علاجه فبرئ، فأغدق عليه النعم والعطايا، وقدمه على سائر الأطباء. وثمّة رواية تاريخية تشير إلى أنه ألف كتاباً للخليفة المعتمد العباسي (256هـ/870م ـ 279هـ/892م) وهو الخليفة الذي توفي حنين بن إسحاق في عهده سنة (260هـ/873م).

عاصر حنين تسعة من خلفاء بني العباس: المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، وقد عاش سبعين عاماً.

تعلم الرازي وابن سينا، أعظم الأطباء العرب، من كتب حنين المؤلفة والمترجمة. كما كان دور حنين كبيراً في حفظ أعمال جالينوس وإشهاره في العالم بما ترجمه ونقله عنه.

ـ مكانة حنين في الترجمة من الإغريقية والسريانية إلى العربية:

إن كل محاولة لربط إنجازات الإغريق بما قبلها لدى الأمم الأخرى تصطدم بمعارضة شديدة. وليس هناك من يرضى بتعديل صورة الإغريق التي اعتاد عليها، بالرغم من كل التحولات التي طرأت عليها منذ زمن winkelmann، وأبسطها التعرف على ألفين ومائة عام من التاريخ قبلهم. وبذا فقد بات الإغريق في المنتصف وليس في البداية.

يعرف حنين في تاريخ الفكر العربي كعالم غزير الإنتاج عديد الاهتمامات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كناقل كبير لمؤلفات إغريقية وسريانية إلى العربية.

ألف حنين كتباً كثيرة في الطب منها مقالتان شرح فيهما ما قاله جالينوس في الشريان، وكتاب العشر مقالات في العين، وكتاب في العين، كما كان أيضاً ماهراً في طب العين (صناعة الكحل). واختصار كتاب جالينوس في الأدوية المفردة بالسرياني نقل الجزء الأول منه فقط إلى العربي، وتفسير كتاب جالينوس في شرح فصول أبقراط وقد ألفه بالسرياني ونقل بعضاً منه إلى العربي. وتفسير كتاب جالينوس في تدبير الأمراض الحادة، وتفسير جالينوس لكتاب أبقراط في جراحة الرأس، وكتاب في النبض، وكتاب في الحميات، وكتاب في البول من كتاب أبقراط وجالينوس، وكتاب في امتحان الأطباء، وكتب في الفلسفة والفلك والمنطق والنحو، وجوامع تفسير القدماء اليونانيين لكتاب ارسطوطاليس في السماء والعالم، وشرح  كتاب الفراسة لـ«ارسطوطاليس». وكتاب في إدراك حقيقة الأديان، و كثير غيرها.

وإن الأبحاث الحالية حول موضوع كتبه الخاصة تدل على أنه من العلماء العرب، الذين شكل اشتغالهم بالعلوم الإغريقية مرحلة الانتقال من التلقي إلى الإبداع. أما حنين فقد أدى نصيبه الأكبر في هذا عن طريق عمله القيم بالترجمة، وهو الذي بَوَّءَه منزلة خاصة في تاريخ الفكر وأكسبه التقدير والاحترام. كما حظي حنين أثناء حياته باعتراف زملائه وتلاميذه المترجمين، وبتقدير الخلفاء ومشجعي العلوم، ولاحقيه من العلماء العرب أيضاً.

كان حنين أعظم المترجمين وأكثرهم إنتاجاً. كما كان مترجماً حاذقاً ودقيقاً من حيث المعاني والمصطلحات والأسلوب، وقد شهد له بذلك معاصروه من فحول الأطباء والمترجمين. و ساعدت ترجماته من اليونانية والسريانية إلى العربية على ابتداع اصطلاحات علمية عربية جديدة في ميادين الطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات واللاهوت، لذلك يعد من رواد حركة التعريب في التاريخ الحضاري العربي Arabic Scientific Terminology.

على أن من دواعي استغراب الباحث في سيرة حنين بن اسحق أن يلاحظ بان هذا الرجل قد اشتهر وعرف فقط في مجالي الطب والترجمة مع أن دراسته وترجماته في ميدان الفلسفة والمنطق لا تقل أهمية عن الميدانين السابقين. فقد ألف حنين في الدراسات الفلسفية والمنطقية والدراسات النحوية والتاريخية حيث ينسب إليه كتاب في تاريخ العالم من آدم إلى العصر الذي عاش فيه. لقد كان حنين فيلسوفاً ومنطقياً من الطراز الأول.

نقل حنين كتاباً في الفلسفة يسمى النواميس أو القوانين وهو أخر ما ألف أفلاطون. وترجم من اليونانية إلى العربية (كتاب الطبيعة وخلق الإنسان). وترجم كتباً في التاريخ وفي الكون وفي الفلسفة وفي الأخلاق. إن السبب الذي حدا بحنين السفر إلى بلاد الروم هو الحصول على كتب الفلسفة وإتقان اللغة الإغريقية.

  • إسحاق بن حنيــن Ishaq Ibn Hunayn 298هـ/911م:

هو إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي، أبو يعقوب، طبيب مترجم، كان بارعاً بالعربية واليونانية، أفاد العربية بما نقله إليها من كتب الحكمة وشروحها. اختاره الخليفة المتوكل للترجمة ووضع له كتّاباً عالمين بالترجمة فكان إسحاق يراجع ما يترجمون. خدم المتوكل وحظي عنده وانقطع إلى القاسم بن عبيد اللّه وزير المعتمد على اللّه واختص به.

لاسحاق بن حنين مصنفات منها: كتاب في صناعة المنطق وكتاب اختصار اقليدس، وآداب الفلاسفة ونوادرهم، وتاريخ الأطباء، وكتاب أرسطوطاليس، وكتاب في الأغذية، وكتاب في الأدوية المفردة، وغير ذلك.

  • ثــابت بن قــرّة الحــراني (211 ـ 288هـ/826 ـ 901م):

ولد أبو الحسن ثابت بن قرة في سنة إحدى عشرة ومائتين (221هـ) في حران. سرياني من الصابئة المقيمين فيها. ويقال أن الصابئين نسبتهم إلى صاب ـ وهو طاط ابن النبي إدريس عليه السلام. كان ثابت بن قرة صيرفياً بحران، وقد نشأ فيها ثم انتقل إلى بغداد ودرس الفلسفة والرياضيات وعاد إلى حران، فحدث بينه وبين الصابئة، أهل مذهبه، أشياء أنكروها عليه، وحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل، فعاد إلى بغداد واتصل بمحمد بن موسى بن شاكر الخوارزمي ودرس على يديه، فأعجب بذكائه، ووصله بالمعتضد، وهو أول من كان مقرباً من الخلفاء العباسيين من الصابئة. من أعلام الطب والفلسفة والرياضيات، ولم يكن في زمنه من يماثله. عرف بالترجمة فقد كان يحسن السريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية، ويعده (سارتون) من أعظم المترجمين وأعظم من عرف في مدرسة حران السريانية في العالم العربي. ترجم كتباً كثيرة من علوم اليونانيين في الرياضيات والمنطق والفلك والطب، واشتهر بمؤلفاته القيمة في الطب. حظي عند المعتضد بمكانة عظيمة وأغدق عليه نعماً كثيرة.

له مؤلفات كثيرة منها: كتاب في النبض، وكتاب وجع المفاصل والنقرس، وجوامع كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، وجوامع كتاب سوء المزاج المختلف لجالينوس، وجوامع الأمراض الحادة لجالينوس، وجوامع كتاب الكثرة لجالينوس، وجوامع كتاب تشريح الرحم لجالينوس وكتاب أصناف الأمراض، وجوامع كتاب الفصد لجالينوس، وكتاب جوامع تفسير جالينوس لكتاب ابقراط في الأهوية والمياه والبلدان، وكتاب في الحصى المتولد في الكلى والمثانة، وكتاب في تدبير الأمراض الحادة، ورسالة في الجدري والحصبة، وكتاب في حركة الأفلاك، ورسالة في خسف القمر وكسوف الشمس، وكتاب في الأنواء، وكتاب في الموسيقى.

توارث آل قرّة العلم عن ثابت. ونبغوا في الرياضيات والطب والفلك.

  • سـنان بن ثـابت بن قـرّة (331هـ/942م):

طبيب عالم أصله من حران ومنشؤه ببغداد. سرياني كان صابئاً. وصل إلى مرتبة أبيه في العلم والطب. عالج المقتدر باللّه و القاهر باللّه والراضي بالله من الخلفاء، وقد أسلم على يد الخليفة القاهر باللّه، ولم يسلم أحد من ولده ولا أهل بيته. كان رفيع المنزلة عند الخليفة المقتدر العباسي. و يرجع إلى سنان الفضل في إنشاء العيادات المتنقلة لعلاج سكان المناطق النائية وتقديم الأدوية لهم، وكذلك فقد خصص أطباء لعلاج السجناء وتقديم الأدوية لهم أيضاً. أشار على الخليفة المقتدر أن يبني بيمارستاناً ينسب إليه فاتخذ بباب الشام بيمارستان المقتدر، كما أشار على السيدة أم الخليفة ببناء بيمارستاناً لها، فبني على دجلة و عرف باسم بيمارستان السيدة.

وقد أمر المقتدر وزيره إبراهيم بن محمد بن بطحا بأن لا يؤذن لأحد منهم باحتراف الطب إلا بعد أن يمتحنه سنان، ما عدا الذين كانوا ذوي شهرة وتقدم في الطب، وكتب له سنان رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة (يجيز له ممارسة الطب) فصاروا إلى سنان، وكان رئيساً للأطباء، فامتحنهم سوى من استغني عن امتحانه لشهرته، ومن كان في خدمة السلطان، وحدد لكل من يمتحنه ما يصلح أن يتعاطاه في التطبيب. وقد بلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيفا وستين رجلاً. وسبب ذلك أنه بلغ الخليفة أن رجلاً من العامة توفي بخطأ طبيب وذلك سنة (319هـ/931م).

من مؤلفاته: رسالة في تاريخ ملوك السريانيين، وكتاب الناجي، ورسالة في شرح مذهب الصابئين، وغيرها من كتب التاريخ والفلك. كما ترجم إلى العربية نواميس هرمس، والسور، والصلوات الصابئية، وأصلح كتباً مترجمة في الهندسة والرياضيات.

  • عيـسى الرقــي:

المعروف بالتفليسي، سرياني من أقدم من عرف من الأطباء في حلب. كان طبيباً مشهوراً في أيامه عارفاً بالصناعة الطبية حق معرفتها، وله أعمال فاضلة ومعالجات بديعة، وكان في خدمة سيف الدولة الحمداني ومن جملة أطبائه، وقد حكم سيف الدولة بين (333 ـ 356هـ/944 ـ 967م). وكان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، وكان بينهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم، وكان من جملتهم عيسى الرقي الذي كان طبيباً جيداً وله كتب في المذهب وغيرها، وكان ينقل من السرياني إلى العربي ويأخذ أربعة أرزاق، رزقا بسبب الطب ورزقاً بسبب الترجمة، ورزقين بسبب علمين آخرين.

خــلاصــة

إن مؤلفات هؤلاء الأطباء هي مستقاة من الطب اليوناني بشكل رئيسي، أضف إلى ذلك ترجماتهم للكتب اليونانية التي كانت الأساس الذي قامت عليه العلوم الطبية العربية. وإذا كان الرازي وابن سينا وعلي بن عباس وابن زهر وابن رشد والزهراوي  قد عرفوا في الغرب بمؤلفاتهم التي ترجمت للاتينية وكانت مراجع رئيسية في الجامعات الأوروبية، فإنهم لم يكونوا على دراية باللغة اليونانية التي استقوا علومهم منها بما ترجمه الأطباء السريان.

كما يظهر دور الأطباء السريان في المراكز العلمية السريانية ودار الحكمة في بغداد، في ترجمة علوم اليونان إلى العربية. وقد كانت مؤلفاتهم  (وهي أولى المؤلفات العربية)، وكذلك  ترجماتهم، الذخيرة التي اعتمدها العلماء العرب.

وإذا كان للترجمة جوانبها الايجابية، فان لها جوانب سلبية أيضاً، فان  ترجمة الكتب الفلسفية قد أحدثت شقاقاً في الفكر الإسلامي الديني، وساعدت على نشوء فرق إسلامية لعبت دوراً في الاضطهاد الديني، كما حدث في عهد المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، واكتوى بنارها حنين بن إسحاق.

كان للأطباء السريان مجالس لتعليم الطب في بغداد كمجلس يوحنا بن ماسويه، فقد كانوا أساتذة في الطب. وكانوا أمهر الأطباء في عصرهم لذلك فقد اختصوا بعلاج الخلفاء والأمراء وعائلاتهم.

 

 

المـراجـع العـربيـة


1 ـ ابن أبي أصيبعة ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء. تحقيق نزار رضا. منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت.

2 ـ إغناطيوس أفرام الأول برصوم ـ 1996م. اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية. الطبعة السادسة.

3 ـ الترمانيني عبد السلام ـ 1999م. أحداث التاريخ الإسلامي بترتيب السنين.

4 ـ حافظ شادية توفيق ـ 1993م. السريان وتاريخ الطب. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

5 ـ الحاج قاسم محمود محمد ـ 1987م. الطب عند العرب والمسلمين (تاريخ ومساهمات). الدار السعودية للنشر والتوزيع.

6 ـ حداد سامي ابراهبم ـ 2003م. الطب العربي والمشافي الاسلامية. أريزونا.

7 ـ دبسي فيصل ـ 2004م. تاريخ الطب وآدابه وتشريعاته. منشورات جامعة حلب.

8 ـ الزر كلي خير الدين ـ 1989. الأعلام. دار العلم للملايين.

9 ـ الشطي أحمد شوكت ـ 1990م. تاريخ الطب وآدابه وأعلامه. منشورات جامعة حلب ـ كلية الطب.

10 ـ قطاية سلمان، مغاربة وحيد ـ 1988م. شخصيات الطب العربي في لوحات.

11 ـ الكيالي طه اسحاق ـ 1999م، تاريخ الطب والأطباء في حلب. الجزء الأول.

12 ـ مهرجان أفرام وحنين ـ 1974م. مطبوعات مجمع اللغة السريانية، بغداد.

 

المراجـع الأجنبيــة

1- Lyons & Petrucelli – 1987,  MEDICINE (An Illustrated History).

2-Roy Porter – 1998, THE CAMBRIDGE  ILLUSTRATED HISTORY OF  Medicine.