من بيدر المواعظ – 3

مقدمة المؤلف

بعد حمد الله تعالى، أقول:

شاء الرب يسوع فاختارني أنا الضعيف الضئيل، ودعاني لخدمته، فلبيت الدعوة، وأرسلني منذ شرخ شبابي لأعطي عبيده الطعام في حينه (مت 24: 45)، وأبسط أمامهم مائدة الكلمة الحيّة، وأرويهم من ماء الحياة. ومن جملة المسؤوليات الروحية التي وضعها الرب على عاتقي أن أعظ المؤمنين به.

ففي عام 1954 وهي السنة الأخيرة من مرحلة دراستي في مدرسة مار أفرام الإكليريكية في مدينة الموصل بالعراق مسقط رأسي، ابتدأت أعظ في كنيسة العذراء الداخلية التي كانت تدعى كنيسة (الطاهرة) أو كنيسة (القلعة) إحدى كنائسنا الخمس في مدينة الموصل يومئذ، وهي كنيسة آبائي التي كان بينها وبين دارنا قاب قوسين أو أدنى في محلة (حوش الخان) وقد نلتُ سر العماد المقدس فيها، وخدمت مذابحها المقدسة في صباي كشماس صغير، وقد ابتدأت فيها خدمة الوعظ بإيعاز من أستاذي الجليل مطرانها المثلث الرحمة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام الخطيب المصقع والواعظ المفوّه. وقد اشتهر شعبنا السرياني الموصلي بإيمانه وتقواه وشغفه بسماع المواعظ. وإنني لمدين لهذا الشعب المبارك بتشجيعه إياي على الوعظ وبذلك نمت موهبة الوعظ فيَّ في سن مبكرة، وابتدأت أعير اهتماماً كبيراً بتهيئة مواعظي احتراماً للسامعين، وتقديراً لهم، وسعياً للوصول بهم إلى الهدف الأسمى الذي نتوخاه من رسالة الوعظ وهو خلاص النفوس.

وقد تعودت على الصلاة إلى اللّه ليعضدني تعالى ويُمدني بقوة منه وحكمة، ولينير روحه القدوس ذهني لأبذل قصارى جهدي بدراسة موضوع الموعظة جيداً، وأقوم بتقسيمه إلى أجزاء وأختار الآيات المناسبة من الأسفار المقدسة، أستشهد بها لدعم الحقائق الإيمانية والعقائد السمحة، وأستعين بتعاليم آبائي السريان الميامين وشروحهم النفيسة للكتاب المقدس. ويشغل موضوع العظة ذهني بل يحيا معي فترةً كافية من الزمن وتسرع نبضات قلبي عندما أكون على أهبة إلقاء العظة على ظهر قلبي.

ولغتي في الوعظ سهلة سلسة وأتوخّى دائماً البساطة والوضوح، وأتجنّب التعقيد والألفاظ الغريبة غير المتداولة وغير المستساغة، محاولاً توصيل الحقائق الإيمانية والمبادئ الروحية إلى أذهان السامعين بسهولة قدر الإمكان.

وقد تعوّدت أن أسأل الله تعالى بصلاة حارة كي يضع في قلبي وعلى لساني الكلمات المناسبة المؤثّرة في النفوس لتدخل هذه الكلمات الروحية إلى القلوب فتتطهَّر وتتوب إليه تعالى، وبذلك أكون قد بلغت الغاية المنشودة من الوعظ، ألا وهي خلاص النفوس.

وفي هذا المضمار أسعى لخلاص نفسي أولاً لئلا ينطبق عليَّ القول: «أعلّم الناس ولا أتعلّم، وأعظ ولا أتعظ»، فكنت ولا أزال أعظ نفسي قبل أن أعظ الناس، وأطلب إلى الرب أن يملأ قلبي محبة للّه وللقريب وإيماناً به تعالى وثقة بالرب يسوع الذي وعد سائر خدامه الأمناء بأن يُرسل إليهم روحه القدوس ليذكرهم بتعاليمه ويصون أفكارهم وألسنتهم من الخطل والزلل، فكنت أطلب إليه أن ينعم عليَّ بإصلاح نفسي قبل أن أسعى إلى إصلاح نفوس السامعين.

وبما أن أسلوبي في الوعظ هو غالباً عدم كتابة نص الموعظة بكامله مسبقاً، والاكتفاء بكتابة عناوين أقسامها الرئيسة، لذلك فقد فقدتُ أغلبَ عظاتي في عهد رهبنتي ومطرنتي، ولم يبقَ منها سوى ما سجله بعض الهواة لأنفسهم، وبخاصة مواعظ الجمعة العظيمة وبعض الأعياد الكبيرة. أما بعد أن تبوأتُ الكرسي البطريركي الأنطاكي بالنعمة لا بالاستحقاق عام 1980 فقد كان بعض أبنائي الروحيين، يسجّلون مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) في المناسبات ثم يفرّغونها على الورق وهكذا نشرت قسماً منها على صفحات المجلة البطريركية الغراء وبخاصة تلك التي كانت تذاع عبر إذاعة دمشق، كما نشرتُ بعضها في كتاب بجزئين طبع الجزء الأول منهما عام 1984 والجزء الثاني عام 1988 تحت عنوان (حصاد المواعظ).

وبعدما أسستُ عام 1990 رهبانية العذارى باسم (راهبات مار يعقوب البرادعي) اهتمت بناتي الروحيات الراهبات الفاضلات بإشراف رئيستهن الأم الفاضلة حنينة هابيل بتسجيل أهم مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) أثناء إلقائي إياها على ظهر قلب، وتفريغها على الورق، فتجمّع لديَّ عدد وافر من العظات والخطب التي ألقيتها في عدة مناسبات رأيتُ أن أنشر نخبة منها في سلسلة تحت عنون «من بيدر المواعظ» في سلسلة أنوي إصدارها تباعاً، تتضمّن مقدمة لاهوتية ضافية بموضوع الأعياد المسيحية ومواعظ مختارة لمناسبات الأعياد المارانية (السيدية) أي أعياد الرب الكبيرة، ولبعض هذه الأعياد أكثر من موعظة، خاصة لعيدي الميلاد والقيامة، ومواعظ الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة، وأعياد السيدة العذراء مريم، والشهداء والقديسين، وآحاد الصوم الكبير وشتى المناسبات الروحية على مدار السنة الطقسية السريانية، وذلك لفائدة الإكليروس السرياني وخدام مراكز التربية الدينية والشعب المؤمن.

نسأل اللّه تعالى أن تؤول هذه المواعظ إلى خلاص النفوس وأن تكون سبب بركة للقارئ الكريم آمين.

إغناطيوس زكا الأول عيواص

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

 

هذا الكتاب

ـ هذا الكتاب ـ

ها إننا نضع بين يديك أيها القارئ الكريم جزءاً يسيراً من مجموعة كبيرة من المواعظ والخطابات التي ارتجلها وألقاها قداسة سيدنا البطريرك المعظم موران مور إغناطيوس زكا الأول عيواص الكلي الطوبى خلال إحتفاله بالقداس الإلهي أو زياراته الرسولية والرسمية ومناسبات أخرى…

بعون الله تعالى، وببركة قداسة سيدنا البطريرك وبمناسبة الذكرى الثلاثين لجلوس قداسته الميمون على الكرسي الرسولي الأنطاكي خليفة مار بطرس الرسول هامة الرسل الشرعي، أُعدت هذه السلسلة «من بيدر المواعظ»، لتكون في متناول أيدي الجميع، إكليروساً وعلمانيين.

وجلاءً للحقيقة نقول: تفادياً للتكرار والإطالة اخترنا بعضاً من هذه المواعظ والخطابات، ورتبناها في هذه المجلدات بحسب تاريخها الزمني، متوخين بذلك الفائدة الروحية والعلمية لكل من يقرأها، واحتفظنا بالبقية التي لم تنشر، وتحسّرنا على بعض المواعظ المهمّة والنادرة التي لم يحفظها لنا القرطاس أو آلة التسجيل.

وإذ نرفع أكفّ الدعاء للرب الإله ليطيل عمر قداسته ويرفله بثوب الصحة والعافية ليحتفل ونحتفل معه باليوبيل الذهبي لبطريركيته، نسأله له المجد أن يبارك هذا العمل وجميع من تعب واشترك في الإعداد له وكل من قدم لنا أو حفظ لنا جزءاً من هذه اللآلئ الثمينة، ليعوّض له الرب بنعمه ثلاثين وستين ومائة.

وليتمجد اسم الرب إلى الأبد.

         (فريق العمل)

تذكار السيدة العذراء لبركة السنابل

تذكار السيدة العذراء لبركة السنابل

تذكار السيدة العذراء لبركة السنابل (1)

 
  

أعمال الرسل (18: 22ـ 27)

2 كورنثوس (9: 1ـ 15)

لوقا (6: 1ـ 5)

تذكار السيدة العذراء لبركة السنابل

«قالت مريم تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أَمَته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني».

 (لوقا 1: 48)

امتلأت اليصابات زوجة زكريا الكاهن من الروح القدس حالما سلّمت عليها مريم العذراء في ابتداء زيارتها لها. فصرخت اليصابات بصوت عظيم وقالت لمريم: «مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرةُ بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟ فطوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب»، فقالت مريم: «تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أَمَته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني…» (لو1: 39 ـ 48).

هذه هي النبوة الصادقة التي أعلنتها السماء على لسان العذراء مريم، الفتاة الطاهرة التي اختارها اللّه لتكون أماً لابنه الوحيد يسوع، ووالدة له في الجسد. وهكذا رفع تعالى مقامها، فصارت أسمى البشر، وفي نبوتها تعترف العذراء مريم بنعمة اللّه التي أُسبغت عليها فتشكره تعالى، فهي الممتلئة نعمة، حيث استحقّت أن تحمل في أحشائها نار اللاهوت، وتلد بعدئذ الإله المتجسد.

كانت العذراء مريم تعرف من هي وما حازت من مكانة عند الرب الذي نظر إلى اتضاعها فأنعم عليها، وامتلأت نعمة، لذلك تنبأت عن نفسها قائلة: «هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأنَّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه»
(لو1: 50).

فإتماماً لنبوّتها طوّبتها الكنيسة، وخصَّصت لها أياماً تحتفل بها كأعياد تذكرها فيها بصلواتها، معلنةً قداسة سيرتها، ومتشفّعة بها.

وأقدم أعيادها هو عيدها لبركة الزرع، وعيدها لبركة السنابل ـ الذي نحتفل به اليوم ـ وعيدها في الخامس عشر من شهر آب لبركة الكرمة، الذي صار بعدئذٍ عيد انتقالها إلى السماء.

هذه الأعياد الثلاثة قد وضعها القديس يوحنا الرسول الذي أوكَل إليه الرب يسوع، وهو على الصليب، العناية بأمه مريم، فأخذها إلى عنده فصارت أماً له كما صار يوحنا ابناً، لها بحسب وصية الرب لهما (يو19: 26 و27).

فالرسول يوحنا وضع هذه الأعياد الثلاثة، كما يعلّمنا ملافنة الكنيسة المعروفون بـ «القواقيين» الذين عاشوا في القرن السادس للميلاد، وفي هذه الأعياد نسأل العذراء مريم لتبارك الزروع وتبارك السنابل، ومن الزروع والسنابل نأخذ الحنطة النقية لنطحنها ونعجنها ونخبزها ونقدّمها على مذبح الرب لتصير مادة لسر القربان المقدس مع الخمرة بنت الكرمة التي نسأل السيدة العذراء أن تباركها أيضاً، ونحن نحتفل بعيدها الثالث عيد بركتها للكرمة.

فالخبز والخمر اللذان خلقهما اللّه قوتاً لأجسادنا نحن البشر لتتغذى وتنمو بغية الاستمرار بالحياة الزائلة، يجعلهما الله بعد تقديسهما قوتاً لنا روحياً، لأجل النمو والثبات في المسيح ونيل الحياة الأبدية.

وقد رسم الرب يسوع سر القربان المقدس ليلة آلامه عندما تناول الخبز وباركه على مرأى من تلاميذه قائلاً: هذا هو جسدي، ثم كسّره ووزّعه عليهم. ثم أخذ الكأس (المملوءة خمراً) وشكر وأعطاهم قائلاً: «اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا»، وهكذا فرّق عليهم الجسد والدم فأكلوا جسده حقاً، وشربوا دمه صدقاً.

يقول مار ديونيسيوس ابن الصليبي (1171+) في تفسيره لقول الرب: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يو6: 51). قال ابن الصليبي: «من فوائد هذا السر السامية أنه يحوّلنا إليه عندما نأكله».

أجل، إن أسرار ابن اللّه تعلو عن الإدراك، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «يا لعمق غنى اللّه وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء» (رو11: 32) فأدلتنا نحن البشر مادية، وما لا نستمدّه من حواس البدن لا ندركه كما هو بذاته.

فعلينا أن نستند إلى الإيمان بما جاء في الكتاب المقدس من الوحي الإلهي وخاصة بالتسليم بما سلّمه إلينا الرب يسوع، مؤمنين لا مفتّشين.

لقد اعترض اليهود على خطاب الرب يسوع في كفرناحوم مستصعبين قوله: «لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه» (يو6: 55 و56) كما استصعب ذلك كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا وقالوا: «إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه» (يو6: 60). فقد صعب قول الرب هذا عليهم لتوهمهم أن جسد الرب يُذبح كالغنم، ويؤخذ لحمه ودمه للأكل كاللحم الحيواني.

أما المؤمنون فعليهم أن يسلّموا ويصدّقوا ويثقوا بما قاله الرب يسوع.

وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لأنني تسلّمت من الرب ما سلّمتكم أيضاً، إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فكسّر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري. وكذلك الكأس أيضاً بعدما تعشّوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء. إذاً أيّ من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرب» (1كو11: 23 ـ 29).

فالرب يسوع المسيح ابن اللّه الوحيد الذي فيه يقول قانون الإيمان النيقاوي إنه: «المولود من الآب قبل كل الدهور… الإله الحق من الإله الحق، نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء والدة الإله»، فقد أخذ الرب يسوع من أمه العذراء مريم جسداً كاملاً، فحقَّ لنا أن نقول عنه: «وصار إنساناً وصلب عوضاً عنا، تألّم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث… وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب» ويقول الرب عن جسده: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم… من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» (يو6: 51 ـ 56).

بهذا الجسد الذي أخذه الرب يسوع من العذراء مريم تحمّل الآلام، بل أيضاً الصلب والموت ليعدَّ جسده مأكلاً حقاً للمؤمنين به. وكما أن الحنطة الطاهرة، تطحن وتعجن وتخبز، كذلك المسيح تألّم كثيراً في حياته، والعذراء مريم شاركته الآلام منذ أن قدّمته إلى الهيكل، فحمله سمعان الشيخ على ذراعيه على شبه صليب وبارك اللّه وقال لأمه، وهي ترى طفلها وكأنه مصلوب على ذراعي سمعان: «وأنتِ أيضاً يجوز في نفسك سيفٌ» (لو2: 35). هذا السيف هو سيف الآلام، والأوجاع النفسية والجسدية، والصبر والتحمل. فقد كانت العذراء تتحمّل كل ذلك وأكثر من ذلك، وهي تعتني بتربية الطفل يسوع الذي اضطهده العالم منذ طفولته، لذلك اشتركت معه في آلامه وهو ينمو في القامة والنعمة أمام اللّه والناس، فطُحن وبعدئذٍ عُجن بدموعها بالذات، وخُبز على الصليب بآلامٍ محرقةٍ ليُقدَّم للعالم مأكلاً حقاً.

أما العيد الثالث من أعياد العذراء مريم، التي وضعها يوحنا الرسول فهو عيد الكرمة، الكرمة التي رمزت إلى الرب يسوع. فقد قال عن نفسه أنه هو الكرمة، وأرادنا أن نكون أغصاناً حيّة متحدين به اتحاد الأغصان بالكرمة.

إننا أيها الأحباء نأخذ من نتاج الخمرة التي تصير ـ بعد تقديسها من المسيح ذاته ـ دم المسيح، فعندما يحتفل كاهنٌ بالقداس الإلهي، مهما كانت رتبة هذا الكاهن، فهو يمثّل المسيح نفسه الذي يقول عنه الرسول بولس: «أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق» (عب7: 17) وقد جاء عن ملكيصادق هذا في سفر التكوين: أنه كان «ملك شاليم وأخرج خبزاً وخمراً وكان كاهناً للّه العلي» (تك14: 18)، فعندما يحتفل كاهن شرعي بالذبيحة الإلهية غير الدموية يستدعي الروح القدس ليحلّ على الخبز والخمر، ويقدسهما ليصيرا جسد المسيح ودمه الأقدسين، لذلك علينا أن نكون مستعدين نفساً وجسداً قبل أن نتقدَّم لتناول جسد المسيح ودمه، لنتناولهما باستحقاق، ونتَّحد بالمسيح كالأغصان بالكرمة، ونثبت فيه، وننمو في النعمة، ونستحقَّ الحياة الأبدية.

أجل! أيها الأحباء: إننا إذ نحتفل بأحد أعياد العذراء مريم إنما نحتفل بتمجيد المسيح يسوع ربنا وتسبيحه، وشكره على النعم العظيمة التي يسبغها علينا دائماً، فيسدّ حاجاتنا الجسدية ويمنحنا خبزنا الكافي يومياً، مستجيباً صلاتنا التي علّمنا إياها والتي فيها نطلب منه خبزنا أي طعامنا اليومي الكافي الوافي. ونشكره خاصةً على إنعامه علينا بالصحة العقلية والروحية والجسدية، ومنحه إيانا سر جسده ودمه الأقدسين لنتغذى بهما غذاءً روحياً ونتطهّر وننال الحياة فيه والثبات على الإيمان به في هذه الحياة الدنيا وبعدئذ ننال الحياة الأبدية. فإن كانت نعمة اللّه تفيض من غير حد من جسده المحيي فلا نهمل التقدم إلى مائدة الحياة وتناول القربان المقدس ولا نتغافل عن خلاصنا. فالمسيح ينادينا قائلاً: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد» (يو6: 51) فلا نتعلق بالفانيات، بل لنسعَ لنيل الصالحات الباقيات لنرضي الرب يسوع بإيماننا المتين وأعمالنا الصالحة.

أجل أيها الأحباء: إننا نطوّب العذراء مريم، ونعيّد لها من خلال ابنها الوحيد سيدنا يسوع المسيح. لذلك بحسب تقليدنا السرياني عندما نرسم صورتها، نرسمها حاملةً ابنها الطفل يسوع، لأننا من خلاله نكرمها، فهي والدته في الجسد وأمه الرؤوم، ومن خلاله صارت أماً لنا جميعاً، نحن الذين نلنا الفداء بدمه الكريم، وصرنا إخوة له وأولاداً بالنعمة لأبيه السماوي، وباعتبارنا أولاد مريم فلنلتجئ إليها ونتشفع بها، كما إننا نرسم صورة العذراء مريم حاملة طفلها الرب يسوع على يدها اليسرى لتكون هي عن يمينه، لأنها هي الملكة التي قال عنها النبي داود: «جُعلت الملكة عن يمينك» (مز45: 9). وعندما نعيّد لها إتماماً لنبوتها نتشفّع بها أيضاً لتصلّي لأجلنا وتتشفّع بنا لدى ابنها الوحيد ليصون غلاتنا وينجينا من التجارب ويبعد عنا مكايد إبليس لنحيا بسلام مع اللّه والقريب، ولا تتم الغاية القصوى من الاحتفال بأعياد العذراء مريم ما لم نقتدِ بها عفة وطهراً وإطاعة لشرائع اللّه وممارسةً لفروضه، وتحملاً للمشقات والتعييرات من أجل اسمه. ولا غرو من ذلك فقد جاء في الإنجيل المقدس بحسب البشير لوقا قوله عن الرب يسوع: «وفيما هو يتكلّم رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما، أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام اللّه ويحفظونه»(لو11: 27 و28). فإذا كنا كالعذراء مريم نسمع كلام اللّه ونحفظه ونعمل به (لو2: 51) فكما استحقّت هي الطوبى سنستحق الطوبى جميعاً في هذه الحياة الدنيا ونستحق معها أن نرث الحياة الأبدية، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى وبشفاعة سيدتنا العذراء مريم وجاهها آمين.

تذكار السيدة العذراء لبركة السنابل (2)

أيها الأحباء نحتفل في هذا اليوم بتذكار السيدة العذراء لبركة السنابل، التذكار الذي يقع في الخامس عشر من شهر أيار، وبهذا التذكار نحنُ نُطوّب العذراء مريم بناءً على نبوَّتها، وبناءً على طلبها إذ قالت: «تعظّمُ نفسي الرب وتبتهجُ روحي باللهِ مخلّصي…، فهوذا منذُ الآن تطوّبني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنعَ بي عظائم واسمهُ قدوس ورحمتهُ إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونهُ» (لو1: 46 ـ 48).

هذهِ نبوّة العذراء مريم عن نفسها، إذ بإلهام من الروح القدس تنبّأت العذراء عن تطويب الكنيسة لها، لأنّ القديرَ صنعَ بها عظائم.

كانَ هذا القول بعد سماع العذراء مريم ما قالتهُ اليصابات نسيبتها عندما قامت بزيارة اليصابات في بيتها، حيث قالت اليصابات للعذراء مريم بإلهام من الروح القدس: «مباركة أنتِ في النساء، من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربيِّ إليَّ، هوذا منذُ أن وقعَ صوتُ سلامكِ في أذنيَّ ارتكضَ الجنينُ في بطني، فطوبى للتي آمنَت أن يكونَ لها ذلك».

حينذاك امتلأت مَن هيَ ممتلئة بالروح القدس ـ العذراء مريم ـ وأذاعت هذا القول، قالت مريم: «تعظّمُ نفسي الربَّ، وتبتهجُ روحي بالله مخلّصي… هوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال».

مِن بدء المسيحيّة وإلى اليوم وإلى الأبد، الأجيال كلها تُطوِّب العذراء مريم، تباركها، تتشفّع بها، وتُعيِّدُ لها بناءً على قولِ القوّاقيين الفخَّاريين الذين ذكروا أنّ مار يوحنا اللاهوتي كاتب الإنجيل المقدس وكاتب سفر الرؤيا أيضاً، كان قد جاء بأسفار العذراء مريم وفيها يقول بأنَّ العذراء مريم تطوبها الأجيال وتعيّدُ لها، خاصةً أعياد ثلاثة، عيدها في بركة الزروع في كانون الثاني، وعيدها في بركة السنابل الذي نعيد لهُ هذا اليوم في أيار وعيدها لبركة الكرمة، هذا العيد نعيّد له في الخامس عشر من شهرِ آب في كلِّ سنة، وقد تحوّلَ عبر الدهور والأجيال إلى عيد انتقال السيدة العذراء مريم إلى السماء بالروح والجسد، كما سلمنا إياه التقليد الأبوي.

كل هذه الأعياد أحبائي، ترمزُ إلى أمرٍ إلهيّ وحيد، إلى تجسّدِ الله الكلمة، الله الذي ظهرَ بالجسد ـ بحسبِ تعبير الرسول بولس ـ المسيح يسوع الذي قدَّمَ ذاتهُ بإرادتهِ ذبيحةً كفاريّة عنا، وغفرَ لنا خطيئتنا الجدِّية أولاً ثم خطايانا الشخصيَّة.

 وقَبلَ أن يقدم هذهِ الذبيحة الكفارية، ليلة تقديمِهِ يقول الإنجيل المقدس: إنهُ اجتمعَ معَ تلاميذهِ وعملَ فصح اليهود لآخرِ مرة وختمَ تلك الشريعة والناموس الطقسي وبدأ بالسر الإلهي ـ سرّ جسدهِ ودمهِ الأقدسين ـ عندما أخذ خبزاً وشكر وبارك وأعطى تلاميذهُ قائلاً: «خذوا كلوا هذا هوَ جسدي»، وبعد العشاء أخذ الكأس وبارك الخمر الممزوجة بالماء وأعطى تلاميذه قائلاً: «اشربوا منها كلكم، لأنّ هذهِ بعدَ أن باركتها لم تبقَ خمراً إنما هذا هوَ دمي الذي يُهرقُ عن كثيرين للعهدِ الجديد». لماذا قال كلّكم، أحبائي؟ لأنهُ كان بين تلاميذه نساكٌ زهادٌ كانوا في السابق تلاميذ يوحنا المعمدان، الذين لم يذوقوا خمراً مسكراً أبداً، لذلك عندما قال: «اشربوا منها كلكم»، لأنَّ هذهِ قد أصبحت دمي الذي يُهرقُ عن كثيرين لمغفرةِ الخطايا، حتى ولو كانت تحتَ شكلِ الخمر ومذاق الخمر لكنها قد تحوّلت إلى دم المسيح بالذات، ولا تفسيرَ ولا اجتهادَ في هذا، قال: «هذا هو جسدي» (عن الخبز)، و«هذا هوَ دمي» (عن الخمر)، لذلك عندما نتناول القربان المقدس نتناول الخبز الذي هو جسد المسيح، والخمر التي هيَ دم المسيح.

بذلكَ أحبائي تحتفلُ الكنيسة بحسبِ تعاليم يوحنا اللاهوتي، ويوحنا كانَ لهُ نعمة عظيمة من الرب، أنَّ الرب وهوَ على الصليب ـ على كلّ مسيحي أن يتذكّر ـ سلَّمَ والدَتَهُ إلى يوحنا تلميذهِ قائلاً لها: أيتها المرأة هذا ابنكِِ، والتفتَ إلى يوحنا قائلاً: أيها التلميذ هذهِ أمُّك، ومنذُ ذلكَ الحين أخذها يوحنا إلى خاصتِهِ واعتنى بها، ولذلكَ عندما نقرأ ما قالهُ القوَّاقون الشعراء، أنَّ أرضَ إفسس برمَّتِها فرحت وابتهجت بل أيضاً أصبحَ فيها طَلّ ورذاذ ورطوبة تامَّة عندما أتى يوحنا بأسفار السيدة العذراء مريم التي دُوِّنَ فيها أن تحتفل الكنيسة بتذكارها.

هذا هو السرّ العظيم الزرع الذي ينمو، الحنطة الطاهرة النقيّة التي تُطحن وتُعجن وتُخبز لتكون جسد المسيح، والكرمة التي تُعطينا الخمرة الطاهرة النقيّة أي دم السيد المسيح، إذاً عندما أعطتنا العذراء مريم بحلول الروح القدس عليها وجَبَل من دمها جسداً كاملاً هو جسد المسيح يسوع، الإله المتجسّد، أعطتنا أيضاً سرَّ القربان المقدس أن تُباركَ الزروع وتباركَ السنابل وأيضاً تباركَ الكرمة ليكون ذلك جسد المسيح ودمهُ الأطهرَين، ونحنُ عندما نحتفلُ بتذكار بركة العذراء مريم للزرع وبركتها للسنابل نرى النعمة العظيمة التي حلَّت علينا، إذ منحنا الرب سرَّ القربان المقدس، لنأكلَ جسدهُ ونشربَ دمهُ ليثبتَ هو فينا ـ كما قال لنا ـ ونثبت نحنُ فيه، وإذا أكلنا أيَّ طعامٍ يتحوّل هذا الطعام إلى أجسادنا، ولكن عندما نتناول القربان المقدس نتحوَّل نحنُ إلى نعمةِ القربان بالذات، فنُصبح حقاً ثابتين بالمسيح، والمسيح ثابتاً فينا، وليسَ هذا فقط، فقد وَعَدنا الرب أن من أكلَ جسده وشرب دمه، لهُ الحياة الأبديَّة، ويقيمه في اليوم الأخير، أي ينال الحياة أيضاً بعدَ أن يكون قد رقدَ بالرب مُؤمناً بالرب.

هذهِ النعمة العظيمة أحبائي نذكرها دائماً، ونتقدَّم دائماً بعدَ أن نُطهِّر أنفسنا، نتقدَّم إلى هذا القربان المقدس لِنشعر أننا قد اتحدنا مع المسيح، ونكون مستعدين لذلك روحيَّاً وجسدياً، وهذا أمر أصبحَ معروفاً لدى المؤمنين كافةً، أن يكون الاستعداد الجسدي بنظافة الجسد، ثمَّ بالصيام القرباني الذي شفقةً على المؤمنين سمحت الكنيسة المقدسة لِمَن يتناول دواءً صباحاً أن يصوم فقط ثلاث ساعات، أما البقيَّة فمِن نصف الليل، هذا الاستعداد الجسدي.

أما الاستعداد الروحي فهو أن يُنقِّي الإنسان قلبَهُ من كل شائبة ويعترف الاعتراف التام، وبالاعتراف أيضاً تساهلت الكنيسة حيثُ أنها سمحت بإذنٍ من مطران الأبرشيَّة أن يكون الاعتراف عاماً، حيثُ تُتلى صلاة قبل الاعتراف وحيثُ يتأمَّل الإنسان بما اقترفهُ من ذنبٍ وخطيَّة، ومَن يعتقد أنهُ لم يُخطئ فيكون قد أخطأ حتى في هذا الأمر، ويندم على كل ما صدرَ منهُ ويُحتِّم أنَّهُ لا يعود إلى الخطيّة حتى أن يقبل الموت ولا يعود إلى الخطيَّة، حينئذٍ يأخذ الحَلَّة من الكاهن الشرعي ويتناول القربان المقدس على مسؤوليتِهِ التامة، وعندما يتناول المؤمن أو المؤمنة القربان المقدس يعني ذلك أنه يتناول جسد المسيح ودمهُ.

نسألُ الرب الإله في هذا العيد المبارك وفي كلِّ يوم أن يؤهلنا لنشترك في سر جسد المسيح ودمِهِ، لِنثبت في المسيح ويثبت المسيح فينا وليس هذا فقط بل أيضاً نستحق أن نكون في عِداد أولئك الذين سيُحييهم الرب في اليوم الأخير ويدخلون معهُ ملكوت السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمتِهِ تعالى آمين.             

الأحد التاسع بعد القيامة

الأحد التاسع بعد القيامة

الأحد التاسع بعد القيامة

أعمال الرسل (19: 1ـ 12)

1 كورنثوس (3: 1ـ 15)

لوقا (10: 24ـ 42)

الأحد التاسع بعد القيامة

«ليس التلميذ أفضل من المعلّم ولا العبد أفضل من سيّده، يكفي التلميذ أن يكون كمعلّمه والعبد كسيّده».

 (مت 10: 42-43)

رأينا العديد من الآباء القدماء كيف أنهم غلبوا إبليس بالتواضع، واستطاعوا أن يعطوا مثالاً صالحاً لكل الأجيال، بل استطاعوا أن يجعلوا هذا النصر المبين فخراً لآدم وحواء اللذين بكبريائهما إذ خدعهما إبليس سقطا من نعمة عظيمة إلى أرض الشقاء، ولذلك احتاجت البشرية إلى أن يأتي الفادي العظيم الرب يسوع المسيح جاء بتواضع ووداعة ضرب لنا أمثالاً، فهذا العشار المتواضع ولئن كان يعتبر خاطئاً استطاع أن يغلب إبليس، وعاد إلى بيته بعد أن كان يصلي أمام الله، ارحمني يا رب أنا الخاطئ، نال البر والمغفرة وعاد إلى بيته منتصراً على إبليس.

أما من تمسك بالكبرياء، كالفريسي الذي افتخر بنفسه أنه يصوم في الأسبوع مرتين، ويعشّر أمواله، وكم فريسي بيننا يفتخر بعمل بسيط يقوم به تجاه فقيرٍ أو محتاج أو معوز، فيحكم عليه بأنه بعيد عن الله.

المسيح بتواضعه أعطى دروساً قيّمة للرسل الذين كانوا قد ورثوا رذيلة الكبرياء عن آبائهم، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا منها، فالكبرياء أسقط إبليس بعد أن كان أحد رؤساء الملائكة، من السماء إلى الحضيض، وجعلته عدواً لله، وأسقطت الإنسان أيضاً ليكون غريباً عن الله، وبالتواضع استطاع المسيح يسوع أن يعيدنا إلى مجدنا الأول.

هذا الداء لازمَ التلاميذ أيضاً، فمرة أتى الرب بطفل احتضنه أمامهم، وقال لهم: إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال، لن ترثوا ملكوت الله، ولكن بقيت الكبرياء ملازمة أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم.

كم مرة كان يجادل بعضهم بعضاً من هو الأول بيننا؟ من سيرث الملكوت؟ ويكون في مركز مرموق في ذلك الملكوت؟ وكل ظنهم أن الملكوت هو مركز دنيوي صرف، ولكن الرب وبَّخهم حتى آخر أيام تدبيره الإلهي بالجسد، وقد أعلن لهم عن آلامه، لم يحزنوا، ولم يصدقوا، ربما ما قاله لهم بأنه سيتألم لأجلهم ولأجل البشرية، حتى أن بطرس بعد أن اعترف به أنه ابن الله الحي وابتدأ الرب يتكلم معهم مع رسله وفي المقدمة بطرس عما سيحدث له أنه يُسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة وأنهم يقتلونه ويصلبونه ولكن أيضاً قال لهم وفي اليوم الثالث يقوم، بطرس قال له: حاشا يا رب، حاشا أن يكون لك ذلك، ولكن الرب وبَّخه، عرف أن الشيطان تكلّم بفم بطرس، فقال له: ابعد عني يا شيطان، لأنك تفتكر فيما للناس لا فيما لله. وعندما جاؤوا إلى العشاء الأخير، جعلت الكبرياء أولئك الناس أن يتجنبوا غسل أرجل بعضهم بعضاً. كانت مهمة غسل الأرجل خاصة بالعبيد والخدام أو برئيس العائلة بالنسبة إلى العائلة الجسدية، والمسيح في العشاء الأخير اعترف بالعائلة الروحية إذ كان هو وتلاميذه قد ألف عائلة روحية، فاضطر أن يقوم هو عن العشاء ليعطيهم الدرس العملي في التواضع، الدرس الأخير ليعلمهم «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب»، ومن هذا الذي يقول ذلك، إنه بالحقيقة الله بالذات الله ظهر بالجسد، لا تنسوا هذه الآية التي قالها الرسول بولس في كل لحظة من لحظات حياتكم، وأن تتطلعوا إلى المسيح يسوع إن كان مصلوباً، أو كان قائماً من بين الأموات، أو كان طفلاً صغيراً مضجعاً في مذود، فهو الله الذي ظهر بالجسد.

هو هو نفسه، قام عن العشاء، وأخذ منديلاً وأتزر به، وصب ماء في مطهرة وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ، وقد كان بينهم يهوذا الذي خان الرب وسلمه، ولكن الرب غسل قدمي يهوذا.

عندما يتصف الإنسان بالتواضع ويحيا هذه الحياة الخفية ما بينه وبين الله، ستنطلق أفكار الإنسان وقلبه وعقله ويمتلئ عقله وقلبه بالمحبة يحب ليس فقط أحباءه الذين يحبونه بل أيضاً حتى أعداءه. تواضع المسيح جعله أن يحب أيضاً يهوذا، وهو يعلم أن يهوذا سيبيعه بثلاثين من الفضة، ومع هذا غسل قدميه هذا هو التواضع أيها الأحباء غسل أقدامهم وقال لهم: كما فعلت أنا افعلوا أنتم أيضاً بعضكم لبعض، أن تغسلوا أرجل بعضكم بعضاً، لأني قد أعطيتكم هذا الدرس الخالد.

آباء الكنيسة أحبائي، اقتدوا بالمسيح يسوع بدءاً من الرسل الأطهار الذين بعد أن حلّ عليهم الروح القدس وطهرهم ونقاهم، خدموا الكنيسة بتواضع ووداعة، أحبوا بعضهم بعضاً، وأحبوا أعداءهم الذين اضطهدوهم وأسلموهم إلى الموت.

ونذكر أيضاً البطريرك يحيا الذي جلس على الكرسي الأنطاكي سنة 1034 بعد أن أضطهد سلفه ابن عبدون واستشهد على يد مطران بيزنطي، اضطر آباء الكنيسة أن يختاروا يحيا، وأن يرسموه بطريركاً بدون معرفة مفريان المشرق وبعض المطارنة، فانشقَّت الكنيسة إثر هذا الحدث، فحمل البطريرك يحيا نفسه كراهب بسيط، وجاء إلى المشرق جاء إلى طورعبدين ثم الموصل ثم إلى تكريت مقر مفريانية المشرق آنذاك، وهناك خدم المفريان، والمفريان لا يعرفه إلا كراهب، وأحبه المفريان كثيراً ورآه تقياً يخاف الله، رآه في الوقت نفسه عالماً فطلب منه بعد شهر عندما احتاجت الأبرشيات في الشرق إلى مطران لأبرشية بعبداي طلب منه أن يرسمه مطراناً، الراهب يحيا وهو البطريرك تضرع إليه أن يتركه كما هو لأنه لا يستحق هذه الرتبة، ولكن المفريان استحلفه وهدده بالحرمان إن لم يخضع لهذا الأمر، فاضطر أن يعلن حقيقة نفسه أنه البطريرك يحيا، الذي رسمه المطارنة في الغرب بدون علم المفريان ورضاه، لأن الكنيسة كانت مضطهدة وأن البيزنطيين كانوا دائماً يفتشون عن مطران وخاصة البطريرك الجديد لكي يوقفوه. فالمفريان عندما تأكد من الخبر قدَّم الخضوع للبطريرك يحيا، ورافقه إلى ديار بكر مركز الكرسي، وهكذا انتهى الخصام في الكنيسة بالتواضع والوداعة، الفضيلتين اللتين اتصف بهما البطريرك القديس يحيا.

أحبائي إن المسيح أمرنا أن نقتدي به، أن نتعلَّم منه لنكون ودعاء ومتواضعين، بهذا نكون قد جمعنا كالأرض الواطئة، كل الخيرات والنعم، كل الفضائل. فإن كانت الكبرياء أخرجتنا من فردوس النعيم، فالتواضع والوداعة يدخلان كل واحد منا إذا ما اقتدى بالمسيح يسوع رب العالمين الإله المتجسد بتواضعه ووداعته.

ليبارككم الرب وليؤهلكم جميعاً لكي تقتدوا بالرب يسوع الذي كان وديعاً ومتواضع القلب، لتنالوا النعم العظيمة لتستحقوا أيضاً وإيانا أن نكون في عداد الذين سيرثون ملكوته السماوي. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد العاشر بعد القيامة

الأحد العاشر بعد القيامة

الأحد العاشر بعد القيامة (1)

أعمال الرسل (19: 13ـ 22)

1 كورنثوس (3: 16ـ 23)

مرقس (6: 4ـ 13)

الأحد العاشر بعد القيامة

«قال الرب يسوع: ليس لنبي كرامة في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»

(مرقس 6: 4)

هذه الحقيقة المريرة أعلنها الرب يسوع نتيجة معرفته الحقّة بالبشر وخبرته بأبناء جلدته أنه قد جاء من السماء، وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، لأجل فدائنا نحن البشر، وفيما كان ينشر بشارته الإنجيلية بين البشر، رأى أن الأمم الغريبة كانت تؤمن به، وتتعجب من الآيات التي كان يجترحها، أما بنو قومه ومن اعتبروا مواطنين له، فكان لا إيمان لهم به وبرسالته السماوية، بل اتبعوا تقاليد الأنبياء الكذبة الذين قال عنهم الرب: «أنا لم أرسلهم، هم جروا من أنفسهم» (أر 9:29)، دُعي الرب يسوع نبياً، فكل النبوات تمت فيه، موسى قال لبني إسرائيل «إنّ الرب يقيم لكم نبياً مثلي» لذلك عندما شعروا أو شعر بعضهم أنّ الزمان قد آن لمجيء مسيا المنتظر، ورأوا يوحنا المعمدان يبشر بملكوت الله والناس يتبعونه معترفين بخطاياهم تائبين ومعتمدين منه في نهر الأردن، جاء من سأله هل أنت النبي الآتي أم ننتظر آخر؟ كانوا ينتظرون هذا النبي والمسيح الذي أخذ جسدنا وبذلك أصبح واحداً منا بتواضعه ووداعته والذي أطاع الآب، أطاعه حتى الموت موت الصليب، شاء أيضاً أن يدعى نبياً بعد عماده، رأيناه يأتي ـ كما يقول الإنجيل المقدس ـ أنه جاء إلى وطنه (الناصرة) وتبعه تلاميذه، نعلم أنه ولد في بيت لحم، وأنه بولادته أتمّ النبوات خاصةً نبوة ميخا (أن من بيت لحم يخرج مخلص يرعى شعب إسرائيل)، ولكننا نعلم أيضاً أن الناصرة دُعيت وطناً له، فقد تربى في الناصرة، ونشأ فيها وكان يعمل نجاراً يساعد خطيب أمه يوسف، ثم عمل نجاراً بعد موت يوسف ليعيل نفسه وأمه وكان مستقيماً في عمله لطيفاً مع الناس وخاصةً مع البسطاء والفقراء وعندما جاء إلى الناصرة بعد عماده ودخل المجمع يوم السبت حيث كانوا يجتمعون ومن تدبير الرب أن المجامع كانت قد انتشرت في تلك البلاد بعد السبي البابلي وأنهم مالوا إلى قراءة أسفار النبوات، وهم ينتظرون مجيء مسيا وإن الحكم في تلك المجامع كان للعلمانيين لا للكهنة، والعلماني وكيل المجمع كان يهمه أن يجتمع أكبر عدد من الناس في المجمع، ليجمع دراهم أكثر، لذلك كان يهمّه أن يأتي معلم كالمسيح يسوع لكي يجتمع الناس، ويستمعوا إليه.

المسيح كان في مجمع الناصرة، هناك دُعي لقراءة النبوات، أعطاه الخادم الكتاب ففتحه، فكانت هناك نبوة أشعياء القائل: «روح الرب عليَّ مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر».

أغلق السفر وأعطاه للخادم وجلس، وعندما كان المعلّم يجلس يبدأ بالتعليم، هكذا كانت العادة لدى الشعب القديم، أن المعلم يجلس ثم يُعلّم وقال لهم: «اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم»، بذلك أعلن المسيح نفسه أنه هو المسيا المنتظر، أنه النبي الذي جاء لخلاص العالم، وفيه تمَّت النبوات، ومن جملتها، نبوة موسى «أن الله في آخر الأيام قال لبني إسرائيل يقيم لكم نبيّاً مثلي»، غضب الشعب الذي كان يطيع رعاته الضالين والمضلين، وأخذوا الرب يسوع إلى حافة الجبل العالي الذي كانت مدينتهم مبنية عليه، أرادوا أن يطرحوه من هناك، فاختفى عنهم. بعد سنة وربع والمسيح أعلن هذه الحقيقة المريرة أنه ليس لنبي كرامة في وطنه بين أقربائه وفي بيته، بعد سنة وربع من ذلك التاريخ بعد أن جال المسيح في أماكن عديدة وعرف بأنه يعلم تعاليم السماء ويعلم بسلطان ليس كالكتبة والفريسيين، وعرف بأنه أيضاً يصنع الآيات والمعجزات الباهرات بعد هذه المدة جاء ثانيةً إلى وطنه الناصرة، جاء ليُعلن نفسه أمام أهله وأقربائه أنه هو المسيا المنتظر، ولكن لم نره في هذه المدة مثلما رأيناه في القرى والدساكر وبعض المدن، أن الجماهير تجتمع حوله ولذلك انتظر إلى أن جاء يوم السبت حيث يجتمعون في المجمع دخل المجمع يوم السبت وبدأ يعلم، بعد أن كان قد صنع المعجزات وآخر معجزة صنعها قبل مجيئه إلى الناصرة هي إقامة ابنة يائيروس التي قال لها: طليثا قومي ܛܠܝܬܐ ܩܘܡܝ في لغتها ولغته الآرامية السريانية، أي «أيتها الصبية انهضي»، فقامت حية. بعد هذه الآية جاء إلى الناصرة لم يجد قلوباً واعية وآذاناً صاغية بل وجد أناساً قساة القلوب وغلاظ الرقاب، لذلك قال لهم: «ليس لنبي كرامة في وطنه وبين أقربائه وفي بيته».

علامات النبي ظهرت أمامهم، هذا ما ذكّرهم به بطرس بعد حلول الروح القدس عليه، المسيح يسوع البار الطاهر النقي قدوس القديسين وعلامة النبي أن يكون فاضلاً، ليس كل من يدعي النبوة فهو نبي، ولئن أتى برسالة السماء، تعاليمه كلها سامية سماوية ولكنه جاء بتواضع ووداعة لذلك احتقروه، أرادوه ظالماً قاسياً، سافك دمٍ، ليعيد لهم ملكاً أرضياً زائلاً، لم يجدوا ذلك في المسيح يسوع علامة النبي ظهرت فيه وتأيّدت تعاليمه بمعجزاته، فليس لهم عذرٌ بنكرانهم إياه، وعدم إيمانهم به.

المسيح يسوع سامح أولئك الناس، تركهم لأنهم لم يسمعوا إلى تعاليمه، ولكن ترك لنا هذه الحقيقة المريرة، أنه ليس لنبي كرامة في وطنه وبين أقربائه وفي بيته، فصارت مثلاً سائراً بين الناس، يُرددونه في أحاديثهم بعد هذه الحادثة.

وبعد هذا الكلام يذكر لنا الإنجيل المقدس كيف أنّ الرب أرسل تلاميذه اثنين اثنين إلى القرى والدساكر، ليعلّموا وينشروا بشارة الإنجيل المقدس، فلا بدّ أنهم استفادوا، فهذا درس لهم ولنا جميعاً، كثيراً ما نرى كيف أنَّ الناس يتبعون أناساً قد يكونون دجالين كذابين مدّعين بأنهم للمسيح والمسيح براء منهم، لأنهم غرباء لأنهم لا يُعرفون، أهكذا كان أولاد الناصرة، قالوا: «من هذا؟ أليس ابن يوسف النجار؟»، ومرة أيضاً: «أليس هذا ابن مريم، أليس إخوته أيضاً عندنا؟ فاستغربوا أن واحداً منهم يكون نبياً، وحقاً قيل أيضاً: «أمن الناصرة يخرج شيء صالح؟»، ولكن قد خرج الصلاح الذي هو من السماء، فالمسيح هو ابن الله، ولتواضعه ولد إنساناً وجال بيننا ليعطينا رسالة الله، رسالة الفداء والخلاص، حتى لو لم يكن منهم لأنكروه، كما أنكره بقية اليهود في أماكن عديدة، أنّ هذا لا نعرف من أين أتى، الذين لا يعرفون من أين أتى أنكروه، والذين يعرفون من أين أتى أنكروه.

في هذه الحادثة أيها الأحباء دروس عديدة نأخذها، قبل كل شيء الحلقة المفقودة في سلسلة تدبير الرب يسوع المسيح في الجسد منذ فُقد في أورشليم وحتى بدأ تبشيره وتدبيره العلني بالجسد ظهرت لنا بأن المسيح كان في الناصرة كان نجاراً، كما قال عنه هؤلاء كان يعيش بين الناس، لكن كان أفضل من الناس جميعاً باستقامته، كان له إخوة ليس من العذراء مريم، بل من أقاربه بنو عمومته وخولته، إذاً عاش بيننا ليعلن لنا كيف نعيش نحن بين الناس. والغريب العجيب جداً بقول البشير مرقس بأن الرب لم يقدر أن يصنع معجزة واحدة، المسيح لم يقدر أن يصنع معجزة، هنا نتعلم أن ما يصنع لنا وما نناله من نعم من فضل الله تعالى يجب أن نشترك نحن في تحصيله، حتى في الأمور المدنية إذا أعفي مجرم من رئيسه أو مليكه بعد أن يكون قد حكم عليه بالإعدام، لا ينال هذا الإعفاء قوته مالم يقبل المجرم بهذا الإعفاء. النعم التي تسبغ علينا من الله هي كثيرة جداً ولكننا لا نستحقها ونتمتع بها ونسعد، ما لم نقبلها ما لم نؤمن بالمسيح يسوع ربنا وفادينا، ما لم نقبله فادياً لنا ومخلصاً طهرنا بدمه الطاهر النقي حينذاك تحدث الأعجوبة فننال الخلاص وننال المغفرة أيضاً عندما نطلب منه أن يغفر لنا خطايانا.

ليس لنبي كرامة في وطنه، نحن في الكنيسة أحبائي لا نفتش عن كرامة من إخوتنا وأعزائنا والمؤمنين جميعاً، ولكن علينا أن نكرم بعضنا بعضاً باسم المسيح، كذلك علينا أن نؤمن بمن يُرسلون إلينا أحباراً ومعلمين وكهنة ليبلغونا رسالة السماء، ويحملوا صلواتنا بصلواتهم ليرفعوها إلى الله، ويجذبونا إلى الشريعة، فنكرمهم باسم المسيح، لأنه من كرم من أُرسل من المسيح، يكرم المسيح ذاته، وبهذا أيضاً أحبائي نكون قد هيَّأنا الطريق للرب أن يسكب علينا نعمه وبركاته، وأن يؤهلنا وقد قبلنا نعمة الفداء باسمه، أن نكون معه وله إذ أرسل إلينا ونحن رعيته، وبذلك نستحق نعمة السماء التي استحقها لنا بدمه الأقدس، فنرث معه ذلك الملكوت الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.

الأحد العاشر بعد القيامة (2)

«ليس نبيٌّ بلا كرامة إلاّ في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»

(مرقس 6: 4)

إن الرب يسوع الذي ولد بالجسد في بيت لحم أفراثة كما تنبّأ عنه النبي ميخا (مي5: 2)، ونما بالقامة والنعمة عند الله والناس (لو1: 80) قد تربّى في الناصرة فاعتُبرَت الناصرة وطناً له. وبعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان، وصام أربعين يوماً وأربعين ليلةً، وبعد أن جُرِّب نيابةً عنّا وانتصر على إبليس وأنعم علينا نحن المؤمنين والقابلين الفداء بدمه الكريم، منحنا النصر باسمه على إبليس وجنده حيث قد أمات الموت بموته على الصليب لأجل خلاصنا وقام في اليوم الثالث من بين الأموات وأقامنا معه.

فعندما ابتدأ تدبيره الإلهي العلني بالجسد، جاء إلى الناصرة وطنه ودخل المجمع، وكانت إرادة الله أن يؤسس اليهود مجامع أثناء السبي البابلي للصلاة فيها بدلاً من تقديم الصلاة والذبائح والتقدمات في الهيكل في أورشليم، وصارت هذه المجامع مدارس حيث كانت تقرأ أسفار التوراة والنبوات للشعب ليبقى اليهود بلا عذر عن عدم إيمانهم بمشيحا المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء وحددوا موعد مجيئه إلى العالم وزمن ولادته وسمو رسالته بل أيضاً آلامه وموته وقيامته. نحن نعلم أن شعب العهد القديم كانت لهم خيمة الاجتماع على عهد موسى ثم شُيّد لهم هيكل سليمان حيث كانت تُقدّم الصلوات والذبائح والقرابين، ولكن في فترة السبي البابلي ابتدأ نظام المجامع، وفي المجمع كانت تٌقرأ التوراة والنبوّات باللغة العبريّة وتترجم إلى الآرامية لغة البلاد التي سبي إليها اليهود بعد أن كانوا قد نسوا في السبي البابلي لغتهم الأصلية واستعملوا اللغة الآرامية لغة الشعب الذي سباهم، وهي اللغة التي تكلّم بها الرب يسوع عندما أتمّ تدبيره الإلهي العلني بالجسد. وعندما رجع اليهود من السبي البابلي استمرّوا على تشييد المجامع التي كان يرأسها ويديرها أناس علمانيّون كوكلاء يهمّهم فقط أن يجتمع أكبر عدد من الناس ويسمحون لمن يرون فيه رجلاً يرغب الناس في أن يشاهدوه ويسمعوه مثل الرب يسوع، وهذه نعمة عظيمة أن الرب يسوع كان يدخل المجمع ويعلم وينشر بشارته الإنجيلية كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين. فلو كانت المجامع تحت رعاية رؤساء الكهنة اليهود والكتبة والفريسيين لمنعوا الرب يسوع من الكلام في مجمع يهودي.

جاء الرب يسوع إلى الناصرة وطنه وقد بلغ الثلاثين من عمره، السن التي كان يحق فيها لليهودي أن يخاطب الناس جهراً. ودخل المجمع، وتقدّم ليقرأ فناوله الخادم الدرج (السفر من الكتاب المقدس وكان سفر إشعيا النبي). فتح يسوع السفر فكان الموضع الذي كتب فيه ما يأتي: «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة، ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين كانوا في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم، وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه» (لو4: 16ـ 22) قال الرب أيضاً: «لأكرز بسنة الرب المقبولة» وسنة الرب المقبولة هي سنة اليوبيل، ويقع مرة كل خمسين سنة وفي هذا اليوبيل كان الإنسان يُحرّر فيه. بعد أن أتمّ يسوع القراءة جلس، وكان الذي يقرأ ثم يجلس يعني ذلك أنه يريد أن يتكلم، فعندما جلس الرب يسوع بعد أن أكمل القراءة قال: «اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم» وبذلك أعلن نفسه جهراً أنه حقاً ماشيحا (مشيحا) المسيح الذي انتظرته الشعوب وتنبأ عنه الأنبياء لأنه قد مُسِح كاهناً ونبيّاً وملكاً، كل واحد من هؤلاء كان عندما ينتخب ويعين يسكب على هامته زيت، وكان هذا طقساً لتعيين كل واحد منهم ملكاً أو كاهناً أو نبياً، فالنبي إشعيا تنبأً على لسان الرب يسوع بقوله: روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر لأفتح عيون العميان، ثم بعد ذلك لأكرز بسنة الرب المقبولة. وهذا الكلام هو نبوة عن الرب يسوع. وقد أدرك ذلك أولئك الذين كانوا في المجمع ولعدم إيمانهم استشاطوا غضباً وأخذوه إلى حافّة الجبل المبنيّة عليه مدينتهم، أرادوا أن يطرحوه منه، لماذا؟ لأنه خيَّب ظنهم لأنهم كانوا بحسب تعليم آبائهم بأن المسيح الذي سيأتي كما تنبّأ عنه موسى النبي بقوله: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون» (تث18: 15)، كان اليهود بحسب تعليم آبائهم يريدون قائداً دنيويّاً محارباً لكي يحررهم من طغيان الرومان، لا أن يأتي كإنسان حليم وديع عرفوه باستقامته وبمحبّته للناس كيسوع يخلصهم من إبليس عدوهم وعدو البشرية كافة ويحررهم من الخطيئة. لا يريدون إنساناً كهذا ليكون نبيّهم لذلك قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى، وختم بذلك قوله الإلهي: «ليس لنبيّ كرامة في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»، ولذلك تركهم يسوع وذهب إلى قرى ودساكر وكان يبشّر، وعُرف بتعاليمه السّامية السماوية حتّى قيل عنه: «أنه كان يعلّمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفرّيسيين» (مت7: 29) واجترح معجزاته الباهرات. وبعد سنة وربع السنة وقد ذاع صيته بين الناس، عاد إلى مدينته الناصرة ثانيةً، طبعاً كان يعرف كل شيء قبل أن يحدث، ولكن كلّ ما نقوله عنه نقوله بحسب إدراكنا نحن البشر، كان لابدّ أن يعود إلى الناصرة لكي يُدان أولئك الناس الذين يرفضونه والذين رفضوه أيضاً في أماكن كثيرة لأنه كان معروفاً لديهم أنه نجار، بعدئذ ظنّوا ومن بينهم بعض أقربائه وحاولوا أن يأخذوه إليهم، فتمَّ ما قيل عنه: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو1: 11ـ 13).

في هذه المرّة الثانية أيضاً دخل المجمع يوم السبت، وطالبه المجتمعون باجتراح المعجزات، لأنه كان قد أُذيع عنه أنه اجترح معجزات باهرات في أماكن عديدة.

فقبل مجيئه ثانيةً إلى الناصرة كان قد أقام ابنة يائيروس من الموت بقوله: «طليثا قومي» (مر5: 41) قالها بلغتنا السريانية الآرامية التي كانت لغتهم وترجمة هذه العبارة «أيتها الصبيّة انهضي»، فرجعت روحها وسلمها لأبويها حيّةً. ولكن يسوع لم يصنع معجزة واحدة في الناصرة. مرقس الرسول يقول: «أنه لم يقدر أن يصنع معجزةً» (مر6: 5)، المسيح رب المجد، المسيح الإله المتجسّد، «الله ظهر بالجسد» يقال عنه: «إنه لم يقدر أن يصنع معجزةً»، هذا درس مهمّ لنا.

فالله يقدر على كل شيء، يعطينا المواهب والنّعَم الإلهيّة العظيمة، ولكننا لن نستحقّها ما لم نؤمن به، ونقتبل هذه العطية. حتّى في الفكر الدنيوي أو النظام الدولي، إذا ملك ما أو رئيس جمهورية ما أعلن براءة إنسان حُكِم عليه بالإعدام، لا يُنفَّذ العفو من الحكم عليه ما لم يقبل هذا الإنسان عفو رئيسه أو ملكه. نحن تُعطى لنا من الله نِعم عظيمة، ما لم نتجاوب مع هذه النّعمة، ما لم نقبلها نكون كأهل الناصرة الذين رفضوا الرب يسوع والذين لم يستحقّوا أن يلبي طلبهم بصنع معجزات في مدينتهم حسب طلبهم، ولكن مع هذا يقول الإنجيل المقدس: «أن مرضى قليلين قصدوه ونالوا الشفاء إذ وضع الرب يسوع يده عليهم» (مر6: 5)، وفي المرة الثانية هذه أيضاً ذكّروه أنه هو نجّار وهو ابن يوسف النجار، لأنه كان يساعد يوسف بحانوت النجارة. ليست حقارةً بالإنسان أن يمتهن مهنةً منذ صباه. فقد كانت العادة لدى اليهود في تلك الأيام لا أن يعلموا أولادهم في مدارس الناموس فقط، ولكن في الوقت نفسه كانوا يعلّمونه مهنة ما، مثال ذلك الرسول بولس الذي كان ينسج الخيام، وبولس الرسول عندما كان ينادي بالبشارة بالمسيح يسوع مخلّص العالم، في الوقت نفسه كان يعمل ويُقيت نفسه والذين معه. ولذلك الرب يسوع الإله المتجسّد امتهن النجارة ودعي نجّاراً، فعندما مات يوسف كان يسوع يقيت نفسه وأمه مريم وهو يعمل نجاراً وسُمِّي النجّار ابن مريم. لذلك ولأنهم عرفوه لم يعترفوا به أنه نبي. علينا نحن أن نحكم على الإنسان بفضائله، بأعماله الصّالحة، بإيمانه لا نحكم عليه لمهنة يمتهنها أو لبساطة في العيش، لا ننظر إلى الإنسان باحترام لغناه أو لمركزه الدنيوي المرموق، بل لنقائه وصفائه وقداسته. هذا ما يجب أن نحكم على الإنسان. لا نحكم عليه لأنه منّا وفينا، لأنه من بلدنا، لأنه من طائفتنا، لأنه يسير معنا بتواضع ووداعة نحكم عليه بهذه الخصال السّامية أنه حقّاً من أتباع الله، أنه حقّاً ابن الله بالنعمة والمسيح يسوع هو ابن الله بالطبيعة وهو المساوي للآب في الجّوهر. لم يفهم أولئك الناس هذا الأمر أبداً، حتّى الذين كانوا من اليهود بعيدين عن الناصرة وعن الرب يسوع أيضاً، حكموا عليه بأنه ليس النبي ـ وعندما نقول النبي يعني النبي الذي تنبّأ عنه موسى ـ وأنهم كانوا ينتظرونه وأنه هو ماشيحا مشتهى الدهور والأجيال، ليس هو النبي حسب ظنّهم، ولماذا؟

لأنهم لا يعرفون من أين أتى، لا نعرف أبويه، لا نعرف عنه شيئاً، فاعتبروا ذلك عذراً لهم بعدم الإيمان بالمسيح. أما أهل الناصرة فلأنهم عرفوه، لم يؤمنوا به.

ما يفيدنا جدّاً عندما نذكر ما ذكرناه عن وطن الرب يسوع أنه قيل عنه: «إنه نجار وابن النجّار، وإنّ أخواته عندهم في الناصرة».

هذا الشيء يُقام برهاناً ساطعاً، وحجّة دامغة ضدّ أولئك الذين يتساءلون عن المكان الذي قضى فيه المسيح يسوع السنين التي كانت بين زيارته للهيكل عندما كان عمره اثنتي عشرة سنة وبين ظهوره للناس في الثلاثين من عمره.

إذن المسيح لم يذهب إلى أي مكان خارج وطنه، إنما كان في الناصرة يعيش عيشةً بسيطةً كنجار بسيط، لم يذهب كما تدّعي الصهيونيّة اليوم إلى الهند أو إلى أماكن أخرى ليتعلّم السّحر ويأتي ثانيةً إلى بلده، وإنما عاش المسيح كإنسان بسيط، جاء ليعلّمنا كيف نحيا بالله،

كيف نكون أتقياء؟

كيف نكون مستقيمين؟

كيف نعيش مع الناس بلطف ومحبّة واستقامة؟

كيف نضحّي في سبيل الآخرين؟

لذلك عاش كإنسان بسيط يأكل خبزه بعرق جبينه في الناصرة حتّى ظهر للعالم يوم عماده، وبعد انتصاره على إبليس في التجارب التي دخلها في البرية أتى إلى الناصرة ثانيةً ـ كما قلنا ـ أعلن نفسه أنه ماشيحا ولكنهم لم يقبلوه. هذا درسٌ نفيس لنا نحن الذين نسعى أن نكون للمسيح حاملين رسالته السّامية، كان هو الرسالة وحمل هذه الرسالة إلى العالم ورُفِض خاصّةً من أقرب أقربائه. نحن نحمل رسالته السامية، رسالة السماء: «ليس عبدٌ أفضل من سيّده» (يو13: 16)، سوف لا نكون دائماً مقبولين من الناس وخاصةً من الذين هم قريبون إلينا جدّاً. نتذكّر أن المسيح قال: «ليس لنبيٍّ كرامة في وطنه وبين أقربائه وفي بيته»، حتّى الأنبياء الكذبة الذين قال عنهم الرب: «لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا» (إر23: 21)، حتّى أولئك لا يقولون هذا الكلام، هذه الآية المقدسة التي ذكرها الرب يسوع التي جرت مثلاً أيضاً، ولكن النبي الحقيقي، النبي الصادق عندما يقولها بإلهام ربّاني يعلم أنه قد أُرسل حقّاً من الله والعالم يعرفون أنه هو نبيّ. بطرس الرسول عندما وبّخ اليهود لأنهم لم يقبلوا المسيح ذكّرهم أن علامات النبي ظهرت في هذا الإنسان بتقواه بمحبّته السلام، بنكران الذات، بالتضحية حتّى أنه فدانا بدمه الكريم، علامات النبي ظهرت فيه ولكنهم لم يقبلوه لأنهم كانوا ضالّين ومضلّين.

ليعطنا الرب أن نسلك بموجب ناموسه الإلهي ونتبعه حاملين صليبه، وألاّ نهتمّ إن كان الناس يقبلون ما نقوم به أو يرفضون إن كنّا حقّاً متمسّكين بشريعته الإلهية حاملين رسالته السّماوية، لذلك نستحق أن نكون في عِداد أولئك الذين حملوا الرّسالة وجاهدوا واجتهدوا في نشر البشارة الإنجيليّة وكانوا من الظّافرين ليس فقط في هذا العالم، بل أيضاً في العالم الثاني، فنشكر الله تعالى لأننا وجدنا في عداد الذين آمنوا بالرب يسوع واعترفوا به مسيحاً ورب الأنبياء وملك الملوك الذي فيه تمت نبوات الأنبياء.

الأحد الثاني عشر بعد القيامة

الأحد الثاني عشر بعد القيامة

الأحد الثاني عشر بعد القيامة (1)

أعمال الرسل (26: 24ـ 32)

1 كورنثوس (5: 1ـ 11)

لوقا (9: 10ـ 17)

الأحد الثاني عشر بعد القيامة

أيها الأحباء، فصّل لنا متى الإنجيلي مراحل أعجوبة تكثير الخبزات الخمس والسمكتين، وإشباع خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال. هذه الأعجوبة الباهرة التي دونها كتبة الإنجيل الأربعة بالتفصيل، وقصدوا بذلك إعلان الحقيقة السامية عن الرب يسوع الذي قال عنه التقليد اليهودي بأنه (ماشيحا) المسيح الذي يأتي، الذي قيل عنه: «سيأتي مثل موسى في قيادة الشعب»، وليس هذا فقط بل أنه سيُطعم الشعب خبزاً كما فعل موسى في البرية، حيث أشبع بني إسرائيل بالمن وهو الخبز الذي نزل من السماء، ودعي خبز الملائكة، رحمةً من الرب فأشبع بني إسرائيل.

قال الرب يسوع عن نفسه: «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء»، ثم رسم لنا سر القربان المقدس، وكل من يشترك في هذا السر، يتَّحد بالمسيح، والمسيح يتحد فيه، وبدلاً من أن يتحول الطعام الذي يتناوله الإنسان إلى جسده، فإن من يتناول القربان المقدس هو يتحول إلى المسيح، نحن نتحول لنكون جزءاً من كنيسة الرب، بل جزءاً من جسد المسيح السري.

لقد اهتم الرب يسوع جداً ليجذبنا نحوه لننال الخلاص روحياً، ولكنه أيضاً لم يهمل أمور الجسد، لقد خلقنا وهو يعتني بنا ويرزقنا ويهتم أيضاً بأجسادنا، كما يهتم بأرواحنا، لذلك عندما علّمنا الصلاة الربيّة لم يعلمنا فقط أن نطلب الروحيات، بل أيضاً أوصانا أن نسأل الرب ليعطينا خبزنا كفاف يومنا، على أن نعتمد عليه في كل أمر من أمورنا الروحية والدنيوية.

ماذا ينفعنا الغنى الفاحش؟

ماذا ينفعنا الغذاء اللذيذ إن كنا قد فقدنا صحتنا ولا نستطيع أن نتناول ذلك؟

«لا تهتموا لحياتكم، بما تأكلون، وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، انظروا طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها… تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وكل ذلك يزاد لكم» (مت25:6ـ 33) لذلك أرادنا الرب يسوع أن نؤمن بأنه يعتني بنا، ويصوننا ويحرسنا، فلا نخاف أعداءنا وأعداءه حتى أنه ضرب لنا مثلاً عن عصافير السماء قائلاً: «أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم، وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم محصاة. فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة»(مت29:10ـ 32) أجل إن هذا الإنسان الذي خلقه الله على شبهه كمثاله يعتني تعالى به، وخاصة إذا كان الإنسان يسعى أن يكون مع الله.

في أعجوبة إشباع خمسة آلاف رجل من خمسة أرغفة وسمكتين نرى أنه كان هناك جمهور من الناس يتبعون الرب يسوع، مرة بعد أن كان الرب يسوع قد أرسل الرسل والتلاميذ اثنين اثنين أمامه إلى القرى ليبشروا، وعادوا إليه وقد تعبوا جداً، فأراد الرب أن يأخذهم إلى مكان خالٍ لوحدهم ليستريحوا، ويسمع إليهم خبرتهم. فركب السفينة وعبر بحيرة طبرية جاء إلى مكان يسمّى «بيت صيدا»، ليست هي صيدا، ولا صور، بل أن ذلك المكان يدعى بيت صيدا وهو هضبة بشبه تل، جلس هناك ولكنه رأى الجماهير قد سبقته ماشية على اليابسة ومكثت الجماهير معه ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا، فجاء التلاميذ إليه يذكرونه أن هؤلاء الناس معنا منذ ثلاثة أيام اصرفهم ليذهبوا إلى القرى لكي يحصلوا على طعام، فقال لهم الرب يسوع: أعطوهم أنتم ليأكلوا، فيلبس – يظهر أنه كان يعرف علم الرياضيات – فحسب ذلك وقال: إنه لا يكفي بمأتي دينار لنشتري خبزاً فقط لهذا الجمهور، ولكن الرب قال: «أعطوهم أنتم ليأكلوا»، أندراوس أخو بطرس قال: «يوجد هنا غلام عنده خمسة أرغفة شعير وسمكتان»، ولكن هذا لن يكفي لهذا الجمهور، فقال يسوع لتلاميذه: «أجلسوهم على العشب خمسين خمسين، ثم قال: «أعطوني الخبزات الخمس والسمكتين»، فأخذها وتطلع إلى السماء وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ.

هذا شيء جميل أن البركات من الله تعطى أيضاً بواسطة تلاميذه، أعطى التلاميذ وقال لهم: وزّعوا على الجموع، فتكاثر الخبز والسمكتان أيضاً، كيف جرى ذلك هل على يدي الرب يسوع إلا بعد أن أعطى هذه الخبزات إلى تلاميذه وتكاثرت بيد التلاميذ؟

وزع التلاميذ الخبز الذي تكاثر فأشبع خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال، طبعاً كان ما لا يقل عن خمسة آلاف امرأة أيضاً وكذلك الأطفال، أكلوا جميعهم وشبعوا بعد أن شبع ذلك الجمهور قال الرب للتلاميذ: «اجمعوا الكِسَر»، الرب يعلمنا أيضاً على الاقتصاد، هذه الكسر من الخبزات يجب أن لا نهملها، «اجمعوا الكِسَر»، فجمعوها فكانت نحو اثنتي عشرة سلة، يظهر أن كل رسول من الرسل الاثني عشر كانت بيده سلة من السّلات، وجمعوا اثنتي عشر قفة من الكسر الباقية.

هذه الأعجوبة جعلت اليهود يتذكرون تقليدهم أن النبي الذي سيخلصهم من أعدائهم سيكون كموسى، يشبعهم أيضاً خبزاً فأشبعهم خبزاً وسمكاً.

هذه الأعجوبة أيضاً تدل على أننا عندما نطلب ملكوت الله وبره، كل شيء يزاد لنا، وأنَّ الله يعتني بأجسادنا كما يعتني بأرواحنا، ولا يتركنا نخور في الطريق، كما قال الرسل عندما ذكروا الرب عن وجود هؤلاء الناس.

جمهور غفير بقي ثلاثة أيام مع الرب يسوع مهتمين بسماع تعاليمه الإلهية ويشاهدونَ معجزاته الباهرات ونيل بركته الإلهية، نحن أيضا أحبائي يُقيتنا الرب هو الذي يعتني بنا الرب هو الذي يريدنا أن نطلب أولاً ملكوت الله وبرّه وكل ذلك من طعام وشراب ولباس وكل حاجات الجسد يوفرها لنا، لكن علينا أن نعمل ونتعب وبعرق جبيننا نأكل خبزنا، لا نتكل ونتواكل ونعتقد أن الله سيقيتنا. ونحن كسالى ـ هذا أيضا أمر من الضروري أن نعرفه جيداً ـ فأولئك الناس لم يكونوا كسالى، سافروا مع الرب يسوع وهو راكب السفينة، وهم ساروا مسافة طويلة على البر، اهتموا جداً أن يكونوا معه وينصتوا إلى تعاليمه، لذلك لم يكونوا ليبالوا بالطعام والشراب ولكن الرب الذي أعطاهم الغذاء الروحي وفَّر لهم أيضا الغذاء الجسدي الطعام الذي كان ضرورياً لهم.

ليعطنا الرب ـ أيها الأحباء ـ أن نتمتَّع بالخيرات التي يمنحنا إياها، ليس فقط أن تعطى لنا، بل أيضاً أن نتمتّع بها بقوته بعد أن نطلب ملكوت الله وبره. ليمنحنا جميعاً الصحة والعافية حتى نتناول هذا الطعام، أن نهتم بالفقراء والمحتاجين والمساكين كما اهتم هو أيضاً بالجياع، وكما يهتم بنا ويعتني بنا في جميع الميادين.

لتكن بركته أحبائي حالة عليكم جميعاً فتنالوا النعم الجسدية والروحية في آن معاً، بنعمته آمين.

الأحد الثاني عشر بعد القيامة (2)

«ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم»

 (متى 6: 33)

في الوصية على الجبل في العظة الشهيرة أراد الرب يسوع أن يعلمنا جميعاً، ويُعلّم كل من يؤمن به بل العالم كافة، أن يتكلوا على الله.

الله هو خالقنا والله هو رازقنا، وبدونه لا نستطيع أن نعمل شيئاً بعد أن أوصى الناس في الموعظة على الجبل ألا يهتمّوا بما يأكلون وبما يشربون وبما يلبسون، وأعطاهم برهاناً على أن الله يعتني بنا، حتى بطيور السماء وأنتم أفضل من عصافير كثيرة.

والرب لا يريدنا أن نكون كسالى، ولكن لا يريدنا أيضاً في الوقت نفسه أن نعتقد أن ما نحصل عليه نحن حتى من القوت أو من اللباس هو بجهودنا وبأتعابنا، لكن علينا أن نؤمن بأن الرب يسوع هو الذي يعضدنا، هو الذي يهب لنا الصحة والقوة حتى نستطيع أن نعمل ونحصل على قوتنا اليومي، ويقول: اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره أولاً، وكل هذه تزاد لكم.

وبرهن الرب يسوع على صدق وعده لنا وللبشر كافةً على أنه يعتني بنا، وفي الفصل الذي تُلي على مسامعكم من الإنجيل المقدس في بدء القداس يذكر كتبة الأناجيل الأربعة أعجوبة اجترحها يسوع وهي تكثير الخبزات.

لنأتِ جميعاً أحبائي بأفكارنا كي نرى تلاميذ الرب بعد أن عادوا إلى التبشير بحسب أمره في القرى، قال لهم: لنعبر البحيرة – بحيرة طبرية – إلى مكان خال ليستريح هو وتلاميذه، ولكن الناس تبعوه أيضاً إلى ذلك المكان المسمى ببيت صيدا، هناك رأى الجمهور، الناس قد تبعوه من كل مكان. العديد منهم كانوا يريدون نيل الشفاء من أمراضهم، آخرون ليروا معجزات، وآخرون ليسمعوا عظاته الإلهية وتعاليمه السامية. شفاهم جميعاً كل من احتاج إلى شفاء من مرض.

ألقى عليهم العظات، رأى أن ذلك الشعب وهو يحبه كثيراً لا بد أن ينال الغذاء الروحي، كما ينال الغذاء الجسدي أيضاً، والرب لا يريدنا فقط أن نهتمَّ بالغذاء الروحي لكن أيضاً يريدنا أن نهتم بالجسد كما نهتم بالروح. ألم يعلمنا في الصلاة الربية قائلاً خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، لا يريدنا أن نقلق، لأن القلق دلالة على عدم الإيمان بعناية الله بنا ولكن يريدنا أن نسعى أيضاً للحصول عما يقيت جسدنا.

مال النهار إلى المغيب، التلاميذ أتوا إليه باقتراح، اصرف الجموع، قالوا له إلى القرى والحقول حتى يجدوا ما يأكلون، لأنه لهم معنا ثلاثة أيام، فقال لهم: أعطوهم أنتم ليأكلوا. فيلبّس حسب للحال كم يحتاجون إلى المال لشراء الخبز فقط لإطعام ذلك الجمهور، وقال له: لا يكفينا مائتي دينار ـ في تلك الأيام ـ حتى نأتي بخبز بسيط لقوت هذا الشعب. أندراوس أخو سمعان بطرس قال: يوجد هنا غلام له خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن هل هذا يكفي لهذا الجمهور؟

«أعطوهم أنتم ليأكلوا»، هذه العبارة جميلة جداً تعني أموراً كثيرة. نظر يسوع إليهم ـ يقول الإنجيل المقدس ـ ويسوع دائماً يتحنن على شعبه، لا يتركنا يتامى، لأنه أب للشعب، وهو قدوة خاصة للكهنة، ليشعروا بشعور الشعب في كل الأحوال أن يشعروا بأنهم آباء لهذا الشعب المبارك، فيتحننون عليهم.

وفي الوقت نفسه نرى ذلك الجمهور المؤمن يستحق أن يتحنن عليه الرب، لأنه تبع الرب ثلاثة أيام، نحن نعجز إذا بقينا ساعة في الكنيسة خاصةً إذا طالت العظة. هؤلاء الناس كانوا مؤمنين وكانوا يريدون القوت السماوي فيستمعون إلى الرب يسوع، فالرب تحنَّن عليهم، فقال للتلاميذ: أجلسوهم خمسين خمسين، فأجلسوهم على العشب خمسين خمسين، ثمّ قال: آتوني بالخبزات الخمس والسمكتين، بارك الرب وشكر مثلما بارك عندما أعطى القربان المقدس، وأعطى تلاميذه قائلاً: خذوا كلوا هذا هو جسدي هذا اعتبر رمزاً إلى إعطاء الرب القربان المقدس (الخبز والخمر) جسد المسيح ودمه ورمز إلى إعطائنا نحن ما يقدسه الرب ببساطتنا على المذبح المقدس، جسد الرب ودمه ويعطى للمؤمنين كافة وكل قطعة من هذا الجسد تمثل المسيح بالذات، لذلك بأعجوبة تكثير الخبزات والسمكتين نرى أن الرب يسوع يقيتنا جميعاً بمقدار زهيد يقيت جماهير غفيرة.

التلاميذ أجلسوا الشعب على العشب خمسين خمسين، والرب أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين بارك، كما قلنا وشكر وأعطى التلاميذ وبأمره وزعوا للجمهور. الخبز كان بيد التلاميذ الرب يعطي، وكان الخبز يتكاثر والشعب أكل وشبع خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال، حيث كان أيضاً عددهم لا يقل عن خمس آلاف امرأة وطفل أي عشرة آلاف نفس أطعمهم من خمس أرغفة وسمكتين.

ويتبين أنه عندما كانوا يوزعون والخبز يتكاثر بيدهم، كان كل واحد منهم يحمل شبه سلة ـ ندعوها أيضاً قفة ـ فبعد أن انتهوا من إشباع الجمهور بقي اثنا عشر قفة، كل تلميذ كان بيده قفة فبقي اثنا عشر قفة ملؤها كسر. قال الرب اجمعوا الكسر: لا يريدنا أن أناساً مبذرين، لا يريدنا أن نكون أناساً «بطرانين».

هذه الأعجوبة السّامية أحبائي تدلّنا على العناية الإلهيّة بنا خاصّةً، وقد برهن فيها الرب يسوع على أنه هو حقّاً المُرسَل من الآب السماوي لخلاص البشريّة، وموسى كان قد قال لبني إسرائيل: يقيم لكم الرب الإله نبيّاً منكم، وبنو إسرائيل تحدّوا الرب يسوع بأن موسى أعطانا المن في البريّة، فقال لهم يسوع: لم يعطكم موسى ذلك بل أبي الذي أشبعكم وأعطاكم المنّ في البريّة. وكانوا يتوقّعون من النبي الذي سيأتي، ماسيّا المنتظر، ماشيحا المنتظر، المخلِّص المنتظر يتوقّعون أنه يشبعهم خبزاً كما فعل موسى في البريّة. بعد أن أكلوا وشبعوا بعد اجتراح هذه المعجزة قالوا: حقّاً هذا هو النبي المرسَل من الله، فآمن به الجموع، وأرادوا أن يخطفوه ويقيموه ملكاً سياسياً ومنقذاً دنيوياً من الرّومان بحسب رأيهم، فاختفى من بينهم.

أحبائي: الرب يسوع فعل هذه المعجزة مرّتَين، هذه المرّة الأولى أشبع خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال بخمسة أرغفة وسمكتَين، والمرّة الثانية أشبع أربعة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال من سبعة أرغفة خبز وقليل من السّمك. وفي المرّتين يعطينا الرب الدّرس السّامي ألاّ نهتمّ بما نأكل ونشرب، بل كما قال في العِظة على الجبل: لكن اهتمّوا أوّلاً بملكوت الله وبرّه وكل هذا يُزاد لكم.

ليزِد الرب إيماننا أحبائي به، لأنه هو الذي خلقنا وهو يدبّرنا. هو يقيمنا، وهو يعتني بنا ويريدنا ألاّ نقلق أبداً بل أن نتمسّك به بإيمان متين، بل أن نطلب ملكوت الله وبرّه، نطلب أن نكون أنقياء أتقياء أبراراً تائبين عائدين إليه بالتوبة طاهرين أنقياء لذلك هو الذي يقيتنا ويعتني بنا.

أسأله تعالى أن يهبكم جميعاً هذا الإيمان المتين الثّخين، لنطلب معاً ملكوت الله وبرّه، لننال هذا الملكوت ليس فقط في ملكوته على الأرض، في الكنيسة المقدسة، بل أيضاً في السماء بعد أن نكون كذلك الشّعب الذي تبعه ثلاثة أيام دون أن يفكّر بأمور الجسد، فنال نعمة عظيمة أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

خميس الصعود

خميس الصعود

خميس الصعود (1)

أعمال الرسل (1: 1ـ 4)

أفسس (4: 1ـ 16)

لوقا (24: 36ـ 53)

خميس الصعود

«وأخرجهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء».

  (لوقا24: 50 و51 )

أكمل الرب يسوع عمل الفداء، فغلب إبليس وهدم أركان الهاوية وهيمن على الموت وأعطانا النصر. فدانا إذ برّرنا وقدّسنا ووهبنا نعمة التبني، أنهى التدبير الإلهي بالجسد، مات وقام وكان لابد أن يعود إلى مجده في السماء.

نوّه تلاميذه مرة مبيناً أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء. كان وما يزال حتى بعد تجسّده مشاركاً أباه عرشه، ولكنه بعد أن تجسّد وبعد أن تمجّد بآلامه وموته وقام من بين الأموات مبجّلاً، كان لابد أن يجلس على العرش الإلهي بالجسد الممجّد أيضاً.

كان لا بد أن يصعد إلى السماء وأن يجلسنا معه على عرش أبيه. لذلك وقد ظهر للتلاميذ مرات عديدة بعد قيامته، وآمنوا أنه حي وبعد أن وعدهم أيضاً أن يمكث معهم إلى انقضاء الدهر، وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه فهو يكون في وسطهم. بعد كل ذلك ظهر لهم للمرة الحادية عشرة وهم في العلية في المرات السابقة، وكان يظهر ليلاً لأنهم كانوا لا يزالون خائفين من اليهود، أما في هذه المرة فإذ كانوا مجتمعين في العلية نهاراً ظهر لهم الرب وأخرجهم خارجاً إلى جبل الزيتون، إلى بيت عنيا إلى نواحي تلك القرية، ويصف ذلك مرقس الإنجيلي: فإنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب. أما لوقا فيقول: إنَّ الرب رفع يديه وباركهم، وأثناء ذلك انفرد عنهم، وأُصعد إلى السماء وكانوا ينظرون إليه متعجبين طبعاً وإذا بسحابة تحجبه عن عيونهم ويصف ذلك لنا أيضاً لوقا ذاته في سفر أعمال الرسل: إنهم كانوا يتطلّعون إلى السماء، وإذا بملاكَين ظهرا كشابين بثياب بيضاء قائلين للرسل: ما بالكم أيها الرجال الجليليون، تتطلعون إلى السماء، إن يسوع هذا الذي ذهب عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه صاعداً إلى السماء، فرجعوا إلى أورشليم فرحين.

نستغرب جداً من هذه الكلمة، هل يفرحون بعد أن غادرهم المسيح. أجل عادوا إلى أورشليم فرحين، وبفرحهم ذهبوا إلى الهيكل وكانوا مواظبين على الصلاة لأنهم يعرفون أنه لابد للمؤمن أن يشكر ويبارك على النعم التي يسبغها الله عليه.

هكذا كان حال الرسل بعد صعود الرب، كانوا فرحين، فالرب لابدَّ أن يعود إلى السماء، وعاد بجسدنا الممجد مثلما قال الرسول بولس: «إنه قام من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وأصعدنا معه، إلى السماء».

لأول مرة جسدنا الترابي الذي قيل: «إنه تراب وإلى التراب يعود دون فساد يتمجّد»، يصعد إلى السماء، ويجلس عن يمين الله الآب، ألا نفرح لذلك أن الخلاص قد تمَّ.

أن النعم التي أسبغها الله علينا قد أصبحت واقعاً لنا، وأن المسيح الذي رأيناه يجول بين الناس يصنع خيراً، المسيح الذي علّمنا التواضع والوداعة وصنع السلام والمحبة، المسيح الذي تحمّل العار لأجلنا بل صلب ومات لأجل فدائنا، ذلك يسوع المسيح الناصري قام حقاً من بين الأموات، بل وصعد إلى السماء، ألا يحق لنا أن نفرح، ألا يجدر بالرسل أن يفرحوا ويشكروا ويباركوا الله لأنه بعد أن كان واحداً منهم قد أسلمه فاستحق الموت وشنق نفسه وهلك والثاني الذي قد أنكره وخرج خارجاً وبكى وتألّم والثالث الذي تشكك بقيامته وتحدّاه أيضاً نال المغفرة من الله كالمغفرة التي نالها بطرس الناكر التائب العائد. ألا يحق لبطرس وزمرته لأنهم وقد هربوا من أمام وجه أعدائه وتركوه وحده يتألم قد نال المغفرة منه ورفع يديه وباركهم عادوا إلى رتبة التلمذة والرسولية وليس هذا فقط، بل أن الرب أعاد ثقته الإلهية بهم فحمّلهم الرسالة وأرسلهم إلى أنحاء العالم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، ووضع قواعدَ للخلاص: من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدان، ألا يحق لهم أن يفرحوا ويبتهجوا ولئن فارقهم الرب بالجسد، وكان صديقاً لهم ومحباً وحامياً وراعياً، وهم من لحم ودم وأما الآب فبجسده الممجد الذي استحق ذلك الجسد أن يجلس عن يمين العظمة، أما الآن فهو لا يزال صديقهم ورفيقهم وربهم، ولكن ابتعد عنهم بالجسد ليكون قريباً منهم بالروح، بل ليرعاهم ويحميهم وهو عن يمين العظمة، وليشفع بهم أيضاً عند أبيهم السماوي. إذن يحق لهم أن يفرحوا.

لقد رآه اسطفانوس بعد ذلك جالساً عن يمين العظمة، لذلك حقَّ للكنيسة أن تفتخر أن مخلصها، إلهها قد أخذ جسد البشر وهو ابن الإنسان، وفي الوقت نفسه هو ابن الله بطبيعته الواحدة وأقنومه الواحد وإرادته الواحدة يجلس عن يمين الآب، والرسل يحملون الشهادة بقيامته حتى الاستشهاد، يعترفون بذلك بكل شجاعة، ويفرحون بذلك أن الرب قد جلس عن يمين العظمة كما تنبّأ داود في المزامير بقوله: «قال الرب لربي اجلس عن يميني»، لقد جلس عن يمين أبيه السماوي ليشفع فينا إلى الأبد.

عندما نحتفل بعيد الصعود فإننا نربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، فنرى الرسل وهم يتطلّعون إلى السماء يرون المسيح وقد أخفته سحابة عن عيونهم، ولكن في الوقت نفسه يستمعون إلى الملاكين يقولان لهم: إن يسوع هذا الذي غادركم إلى السماء، سيأتي هكذا سيأتي ثانيةً كما رأيتموه يصعد إلى السماء، فتنتقل عقولنا وقلوبنا إلى السماء. وما هي السماء؟ هل هي الموقع الذي يرتفع عن الأرض، هل هي حالة أو مكان جغرافي؟ هذا السؤال يظهر أمامنا دائماً ونكون في حيرة، ولكننا كمؤمنين نعرف أن السماء حيث عرش الله، السماء هي السكن مع إلهنا، باستطاعتنا أن نحوّل حالتنا التعيسة في هذه الأرض إلى حالة السماء، عندما نشعر أننا مع الله، وأن الله معنا، وقد وعدنا كما قلنا سابقاً، بأنه يمكث معنا إلى الأبد، وجلوسه عن يمين العظمة بالجسد الممجد، هذا الوجود هو قوة لنا لأن باستطاعته أن يشفع فينا، فهو يشفع فينا كإله متجسد أخذ جسدنا ومجّد هذا الجسد لنكون نحن مثله يوم مجيئه الثاني، لنتطلّع إلى السماء، لنراه آتياً على السحاب كما ذهب مع السحاب، وهذا ما يقوله لنا صاحب الرؤيا يوحنا: «هوذا يأتي مع السحاب وتنظره كل عين»، فرسالة الصعود هي رسالة المجيء الثاني، لتمجيد من يؤمن به كما تمجد هو بمجيئه الأول بعد انتصاره على إبليس والموت والخطية، في مجيئه الثاني كل من ينتظره بإيمان ويعمل الأعمال التي تليق بمن يؤمن بالمسيح المتألم والمائت والقائم من بين الأموات والذي صعد إلى السماء.

هذه هي رسالة الصعود أن ننتظر الرب يسوع في مجيئه الثاني، أن نكون في عِداد أولئك الذين غلبوا معه لينالوا الغاية التي جاء من أجلها إلى الأرض، التبرير والتقديس والتبني إذ صرنا أبناء لله بالنعمة لنكون ورثة في ملكوته السماوي فالابن أو الأبناء يرثون آباءهم.

فليكن يوم الصعود يوم تحريض لنا للإيمان بالرب والعمل من أجل نيل ملكوته السماوي، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.


صعود الرب إلى السماء (2)

«وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واصعد إلى السماء فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم».

  (لوقا 24: 50 و51)

منذ البدء جعل الله صورة واضحة لتدبيره الإلهي لخلاص الإنسان، فالنبوات العديدة أوضحت سريّ التجسد والفداء كما أن الرب يسوع نفسه كلم تلاميذه وأنبأهم عما يجري له قبل أن يحدث بمدة طويلة. ومن جملة هذه الحوادث المهمة صعود الرب إلى السماء فقد ألمع الرب عنه يوم حدّث التلاميذ واليهود عن سريّ جسده ودمه الأقدسين فلم يستطيعوا أن يتحمّلوا هذا الكلام السماوي ورجع العديد منهم إلى الوراء ومن جملتهم بعض تلاميذ الرب حينذاك قال لهم: أهذا يعثركم؟ فكيف إذا رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث ما كان؟.

كما إننا سمعناه مرة يقول لهم: «في بيت أبي منازل كثيرة» وإلا لقلت لكم إني ماض لأهيئ لكم مكاناً، ومتى ذهبت وهيأت لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إليّ، لأنه حيث أكون أنا تكونون أنتم، وفي الإصحاح الثالث من الإنجيل حسب يوحنا نسمع الرب في حديثه مع نيقوديموس، يعلن محبة الله للناس حتى إنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن بل تكون له الحياة الأبدية. ويتنبأ عن وجوب صلب المسيح مشيراً إلى الحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية، لتكون سبب خلاص لأولئك الذين تلسعهم الحيات المحرقة في البرية.

ومن جملة ما قاله الرب: «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء». ما أعظم هذا الكلام أجل نزل من السماء وصعد أيضاً ولكنه في نزوله وصعوده في كل الأحوال المسيح يسوع هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، هو في السماء وهو على الأرض وهو في كل مكان، ولكن حيث أنه قد أخذ جسدنا ليتم التدبير الإلهي بالموت على الصليب، وبالدفن في القبر الجديد، بل أيضاً بالقيامة من بين الأموات. في اليوم الثالث، كان لابد أن تنتهي هذه التدابير الإلهية على الأرض بصعود الرب إلى السماء. يحدثنا البشير مرقس قائلاً إن التلاميذ كانوا متكئين فظهر لهم الرب، للمرة الأخيرة وأعطاهم السلطان الإلهي لنشر بشارته الإنجيلية، ويقول لنا لوقا في الإنجيل المقدس أن الرب يسوع أخذ رسله الأطهار إلى الجبل إلى بيت عنيا هناك رفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واصعد إلى السماء. يحدثنا لوقا نفسه بعدئذ في سفر أعمال الرسل أن الرسل كانوا يتطلعون إلى السماء، وإن سحابة حجبت أنظارهم عنه وأن رجلين وقفا بهم بثياب بيضاء وقالا لهم: «ما بالكم أيها الرجال الجليليون تتطلعون إلى السماء إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي ثانيةً كما رأيتموه صاعداً إلى السماء». سيأتي ثانية هذا أمل كبير صعد إلى السماء هذا إيمان متين ورجاء لا يخيب لذلك يقول الكتاب: إن الرسل سجدوا للرب معلنين إيمانهم بالمسيح يسوع الإله المتجسد ورجعوا إلى أورشليم. كان قد حدثهم قبل صعوده إلى السماء أن يمكثوا في أورشليم المدينة حتى ينالوا قوة من العلاء، عندما يحل عليهم الروح القدس. فرجعوا إلى أورشليم وكانوا في كل حين في الهيكل يمجدون الله ويسبحونه عادوا إلى أورشليم يقول لوقا بفرح عظيم كيف يفرحون وقد غادرهم سيدهم ومعلمهم الإله المتجسد! إن مصدر فرحهم أيها الأحباء أن الرب قد غفر لهم خطاياهم.

ما أصعب أن يتركك صديق وقت الضيق أولئك الذين اجترح أمامهم المعجزات أولئك الذين استمعوا إلى كلمات الحياة من فمه المقدس، أولئك الذين أحبهم كثيراً تركوه وهو يتألم بيد أعدائه لكنه عندما قام من بين الأموات غفر لهم خطاياهم ظهر لهم مرات عديدة، في أماكن شتى وبأشكال مختلفة، وبعدئذ أمامهم اصعد إلى السماء لذلك فرحوا فرحاً عظيماً، عادوا إلى أورشليم فرحين كما أنهم تأكدوا من صحة رسالته السماوية وسمّوها وأن ما قاله وعمله إنما كان حقائق إلهية. وقد فرحوا أيضاً لأنهم قد نالوا سلطاناً منه في الأرض والسماء وإنهم قد حملوا رسالته كما أراد أن يحملوها ليذهبوا إلى العالم أجمع وينشروا بشارة الإنجيل في الخليقة كلها. وعادوا إلى أورشليم فرحين وهم ينتظرون القوة من العلاء عادوا فرحين وقلوبهم ممتلئة بهجة لأن الملاكين قد بشراهم بأن الذي صعد إلى السماء على السحاب سيأتي ثانية كما رأوه صاعداً إلى السماء، ولذلك فإن رجاءهم كان وطيداً ولا يخيب أبداً، وعيونهم تتطلع دائماً إلى السماء تنتظر مجيئه مع السحاب كما ذكر بعدئذ صاحب الرؤيا.

إننا نحتفل اليوم بعيد صعوده بإيمان متين ورجاء لا يخيب ونحن نقتدي به نرى إننا بحسب إيماننا ودستور الإيمان الذي نتلوه في بدء القداس نقول «وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب» كما يذكر ذلك أيضاً البشير مرقس في الإنجيل المقدس، ويذكرنا قانون الإيمان أن الرب يسوع سيأتي ثانية في مجد عظيم ليدين الأحياء والأموات. نقول ذلك بعد أن نعترف بأنه تألم ومات لأجلنا وإنه قام من بين الأموات، فإذاً نذكر آلامه ونعترف بقيامته وننتظر مجيئه الثاني نتوق أن نصعد معه في مجيئه الثاني يوم يأتي بمجد أبيه مع ملائكته القديسين، يوم ينفخ رئيس الملائكة بالبوق، يوم تتحد الأرواح بالأجساد ونحن الأحياء يقول الرسول بولس نختطف معه في الجو ننتظر ذلك اليوم العظيم أيها الأحباء ولكن من يستحق أن يصعد مع الرب إلى السماء؟ إن العهد القديم يذكر لنا أن الذي يصعد إلى جبل الرب هو النقي الكفين الطاهر القلب، وأن لا يكون في فمه غش، فالعديد من الناس يتظاهرون كأنهم مؤمنون وهم فريسيون دينونتهم عظيمة جداً، إنما من كان للرب بكفيه النقيين بكل ما يعمل يعني، وبقلبه الطاهر وبفمه الذي لا غش فيه وبالقلب النقي أيضاً الذي طلب داود من الرب أن يخلقه فيه عند توبته ذلك الإنسان يستحق أن يصعد إلى جبل الرب الذي هو كناية عن السماء، حيث صعد المسيح وجلس عن يمين العظمة.

أجل إننا جميعاً بشر خطاة ضعفاء ولا يمكن الإنسان وهو خاطئ أن يصعد إلى السماء، ولكن شكراً لله الذي نهج لنا سبيل التوبة والعودة إليه تعالى. ففي عيد صعوده إلى السماء لنهيئ قلوبنا ونفوسنا وعقولنا للتوبة النصوح، ولنحب الرب من كل قلبنا وإرادتنا، لنحب قريبنا أيضاً كنفسنا لنكون أنقياء نغسل بدموع التوبة هذه القلوب وهذه النفوس، لتتطهر حينذاك نصير في حالة البر أي في حالة القداسة فنستحق أن نصعد مع المسيح إلى السماء في مجيئه الثاني. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

خميس الصعود (3)

«وظهرَ لهم يسوع وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفعَ يديهِ وباركهم وانفردَ عنهم وأُصعدَ إلى السماء وجلسَ عن يمين الله الآب».  

 (لوقا 24: 50 و51)

الكنيسة المقدسة اليوم تحتفلُ بِعيدٍ سيِّديّ، عيد صعود الرب يسوع إلى السماء، وهو عيد لهُ قدسيَّتُه لأنَّهُ يُذكِّرنا بالتدبير الإلهي للتجسد والفداء في آنٍ واحد. يرسم أمامنا صورة الإله المتجسّد بعمل الفداء الذي قامَ بهِ لأجلِ المسكونة كلِّها لفداء البشر، عمل الانتصار على إبليس وعلى الموت وعلى الخطيئة، ثم عودة الرب إلى السماء بجسدهِ الممجَّد.

كانَ قد لمَّح إلى ذلكَ بتدبيرهِ الإلهي وتعاليمِهِ السامية، قالَ مرَّةً: «لا يصعد إلى السماء إلاَّ الذي نزلَ من السماء ابنُ الإنسان الذي هو في السماء».

ومرّة أخرى عندما تكلمَ عن سرّ جسدهِ ودمِهِ الأقدسين وأكَّدَ أنَّ مَن لا يأكل جسدَهُ ويشرب دمهُ ليس لهُ حياة فيه، وأنهُ هو الخبز النازل من السماء ومن أكل منهُ لا يجوعُ أبداً، شعرَ اليهود وحتى التلاميذ بعمقِ هذا الكلام بل رجعَ العديدُ منهم إلى الوراء تاركين المسيح، ماذا ظنُّوا… هل ظنّوا أنَّ المسيح كان يتكلم أموراً خيالية؟

لم يُدركوا تعاليمَهُ السامية، فقالَ لهم: إن كنتم لم تستطيعوا أن تفهموا هذا الكلام فكيفَ لو رأيتم ابنَ البشر صاعداً إلى أبيهِ إلى حيثُ كانَ أولاً.

لمَّح الرب يسوع عن صعودهِ ولكنَّهم لم يفهموا ذلك.

 بعدَ قيامتهِ من بين الأموات أيها الأحباء برهنَ على حقيقة القيامة، على ضرورة ذلكَ الحَدَث الإلهي لأنهُ لو لم يقم المسيح من بين الأموات لوئدت ديانتهُ معهُ في ذلك القبر الصغير، لو لم يقم المسيح من بين الأموات لاعتُبر أنَّ ذبيحتهُ الإلهية، تقديمهُ سرَّ جسدهِ ودمهِ الأقدسَين أولاً قبلَ أن سَلّم جسدهُ لليهود لِيُصلب لاعتُبِرَ ذلكَ باطلاً، ولاعتُبِرَ المسيح كواحد من الأنبياء قدَّم رسالةً واستشهدَ ولم يُذكر حينذاك من الجماهير الغفيرة عبرَ الدهور والأجيال، ولكنَّ المسيح قام، قام من بين الأموات وظهرَ لتلاميذهِ مرّاتٍ عديدة حتى أنهُ ظهرَ مرةً لخمسمائة شخص رأوه بأعيُنِهم سمعوهُ بآذانهم أكلوا وشربوا معهُ أيضاً، والرسول بولس ذكرَ ذلكَ برسالتهِ إلى أهلِ كورنثوس سنة سبعٍ وخمسين وعندما ذكرَ هذا الحدث كانَ عدد الذين قد شاهدوا الرب يسوع بعدَ قيامتهِ من بين الأموات حياً وسمعوهُ بل كما قلنا أكلوا وشربوا معهُ كانوا ما يزالون أحياءً وهم شهود لقيامة المسيح. خلال فترة الأربعين يوماً، من يوم القيامة وحتى صعودهِ إلى السماء ظهرَ لتلاميذهِ وظهرَ للعديد من الناس أفراداً وجماعات، وبذلكَ برهنَ على انهُ هو الذي تنبَّأ عن نفسهِ أيضاً ليس فقط الأنبياء تنبَّؤوا عنهُ أنهُ يموت وأنهُ يُدفن وأنهُ يُعلَّق على خشبة «كما رفعَ موسى الحيَّة في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابنُ الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن بهِ بل تكون لهُ الحياة الأبدية».

آخر مرة في ظهورات الرب يسوع ظهرَ لهم وهم متكئون يقول الكتاب المقدس ثم أخذهم إلى بيت عنيا، هناك رفعَ يدَيهِ وباركهم ثمَّ انفردَ عنهم وأُصعدَ إلى السماء، والإنجيل المقدس يقول أيضاً وجلسَ عن يمينِ الله الآب، وكرَّر هذهِ العبارة قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني معلناً أنَّ الله، الإله المتجسِّد صعدَ إلى السماء وجلسَ عن يمين العظمة، ويُكمِّلُ البشير لوقا في سفر أعمال الرسل هذا المشهد الذي نراهُ نحنُ بعين الإيمان كيفَ أنَّ المسيح أمام كلّ تلاميذهِ الأحد عشر- لأنَّ التلميذ الخائن كان قد شنقَ نفسهُ- أُصعِدَ إلى السماء ونقولُ أيضاً صعدَ إلى السماء، ولوقا في سِفر أعمال الرسل يُكمِّلُ وصفَ هذا الحَدَث ويُظهر أمامنا سحابةً بيضاء تُخفي المسيح عن عيونِ التلاميذ الذينَ كانوا يتطلَّعونَ إلى السماء، فجاءهم ملاك يسألهم ما بالكم أيها الرجال الجليليُّون ـ مِن لبسهم كانوا يُعرَفون أنهم جليليُّون ـ ما بالكم تتطلَّعونَ إلى السماء إنَّ يسوع هذا الذي صعدَ إلى السماء سيأتي ثانيةً، لذلك يقول سِفر أعمال الرسل أنهم سجدوا لهُ، سجدوا للرب معلنينَ أنَّ هذا هو الإله الحقيقي لأنهم كانوا جميعاً يهوداً ولا يُسمح لليهودي أن يسجد إلا لله وحدهُ ليهوه الذي هو الإله، فعندما سجدوا للرب يسوع هذا يعني أنهم اعترفوا بهِ أنه هو الله، سجدوا لهُ ورجعوا إلى أورشليمَ فرحين، لماذا هذا الفرح؟ هل عندما يُغادركَ صديق عزيز أو أخ أو قريب إلى الأبد تعودُ إلى بيتكَ فرِحاً؟ إنَّ الرسل كانوا فرحين قبل كل شيء لأنهم نالوا المغفرة من الرب على كل ما اقترفوهُ من ذنبٍ وخاصةً الخطية الكبيرة التي اقترفوها عندما رأوا المسيح وقد ألقِيَ القبضُ عليهِ فهربوا جميعاً خافوا على أنفسهم بعد أن كانَ بعضهم قد وعَد أن «نذهب ونموت معهُ»، فرحوا لأنَّ الرب غفرَ لهم ولأنهُ أعادَ الثقة بهم ولأنهُ أيضاً أعطاهم سلطاناً أن يذهبوا إلى العالم أجمع وينشروا بشارة الإنجيل للمسكونة كافةً وأكثر من هذا عندما بشَّرهم الملاك وهم يتطلَّعون إلى السماء قائلاً لهم ما بالكم تتطلَّعونَ إلى السماء إنَّ يسوع هذا الذي غادركم إلى السماء سيأتي ثانيةً، ويُكمِّل ذلك يوحنا في سفر الرؤيا فيقول سيأتي على السحاب وتراهُ كلُّ عين، وكما غابَ عن أعينهم في السحابة التي أخفَتهُ عنهم كذلكَ سيأتي ثانيةً على السحاب وتنظرُهُ كلُّ عين، والسحاب في الكتاب المقدس عندما يظهر يُعلنُ بذلك وجود العزَّة الإلهيَّة، في القديم ظهرَ الرب على السحاب أمام موسى وشعب موسى وعندها كانَ الجبل يلتهبُ بالنار، وكذلكَ عندما غابَ الرب عن أعينِ تلاميذهِ أخفتهُ سحابة عن أعيُنهم وسيأتي ثانيةً كما أعلنَ لهم الملاك وسيأتي أيضاً على سحاب كما يُعلنُ ذلكَ بوضوح سفرُ الرؤيا، فعندما نحتفلُ أيها الأحباء بعيد صعود الرب يسوع إلى السماء قبلَ كل شيء أن نؤمن أنَّ الرب بعدَ أن أكملَ عمل الفداء فدانا وخلَّصنا من أعدائنا الثلاثة الموت والشيطان والخطيئة وأنهى ذلكَ وصعدَ إلى أبيه السماوي، ويقول الإنجيل: وجلسَ عن يمين الآب ـ هذا لا يعني عن يمين أو شمال ـ فالله روح وليس لهُ يمين أو شمال، ولكن كلمة يمين تعني العَظَمة والمجد الأمر الذي هو الخير والبركة لذلك كلُّ من يذكر اليمين يذكر يوم الدينونة أيضاً عندما سيقف الصالحون عن يمين الرب ويناديهم تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملكوت المُعدّ لكم قبل إنشاء العالم، أما الذين عن اليسار فيعني ذلكَ الذين قد رُذِلوا منَ الرب في خطاياهم وآثامهم وعدم توبتهم.

الكتابُ يُعلِّمنا أيضاً أيها الأحباء وهو يسأل السؤال للبشريّة مَن يصعدُ إلى جبلِ الرب، والجبل كناية عن السماء، ليسَ المقصود هنا السماء التي تطير فيها الطيور ولا هذا الفضاء بل السماء السامية أي ملكوت الله التي لا ندركها ولا نفهمها ولا مثلما قال الرسول بولس تخطرُ على بال بشر، السماء التي نتوق أن نصعدَ مع الرب يسوع إليها لنتنعّّم معهُ إلى الأبد، تلكَ هيَ السماء التي نطمحُ إليها، التي صعدَ إليها الرب يسوع حيثُ عرش العَظَمة،حيثُ الله موجود، حيثُ سيراهُ أيضاً المؤمنون الصالحون ويتنعَّمون معهُ إلى الأبد، فنحنُ نتوقُ إلى هذهِ السماء، فالرسول بولس عندما أعلنَ هذهِ الحقيقة الإلهيَّة عن مجيء الرب ثانيةً قالَ لنا: إنَّ الرب سيأتي سريعاً، وظنَّ بولس الرسول أنَّ ذلك ربما سيتمّ وهو بعدُ في الحياة، يقول: «إننا نحنُ الأحياء سنختطف معهُ في الجو»، ففي القيامة هذا رجاؤنا أن ننال السعادة الأبدية، فعندما يُنفخُ بالبوق، عندما تظهر علامة الرب يسوع ـ الصليب المقدس ـ في السماء فيقوم الأموات عديمي فساد، وتنقلب الأجساد التي صارت رميماً إلى أجساد روحانية، حينذاك يستحق هذا الإنسان الصالح أن يرث ملكوت الله، ويطمح إلى أن يملك مع المسيح، والناس الصالحون أسرارهم عظيمة جداً إذ ينالون النعمة من الرب ليكونوا مع أولئكَ الذين سيكونوا عن يمين الرب أيضاً في مجيئهِ الثاني، هذا هو طموحنا عندما نُعيِّدُ عيد صعود الرب، الكتاب يقول مَن يصعدَ إلى جبل الرب، الجبل يعني السماء بالذات ـ هذهِ كُنيه ـ يكون طاهر اليدَين الذي يتَّقي الله، الذي سعى في حياتهِ الدنيا أن يعيش السماء على الأرض، هذا الذي يصعد إلى جبل الرب الذي هو السماء بالذات، فنحنُ في عيد الصعود علينا أن نتوق أن نكون مع الرب في مجيئهِ الثاني مع أولئكَ الصالحين جميعاً، أن تكون أيدينا طاهرة قلوبنا نقيَّة سيرتنا وسريرتنا تُرضي الرب يسوع حتى نستحق في يوم مجيئهِ الثاني أن نكون مع أولئكَ الصالحين الذينَ آمنوا بهِ وعملوا الصالحات الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمتِهِ تعالى آمين.

الأحد الوسيط بين الصعود والعنصرة

الأحد الوسيط بين الصعود والعنصرة

الأحد الوسيط بين العنصرة والصعود

أعمال الرسل (17: 14ـ 34)

عبرانيين (4: 1ـ 13)

يوحنا (6: 35ـ 46)

الخبز النازل من السماء

بالهام من الروح القدس أحبائي، نظَّم آباء الكنيسة القراءات التي تتلى من الإنجيل المقدس ومن أعمال الرسل ومن رسائل الرسول بولس في بدء القداس، واليوم وهو الأحد الذي يتوسط ما بين عيد الصعود وبين الفنطيقوسطي أي حلول الروح القدس. فلنذكر التدبير الإلهي بالجسد السري ثم العلني وإذ أنهى الرب يسوع مهمته، رسالته السماوية على الأرض بتجسده الإلهي وقد أعلن أنه جاء لتكون الحياة للبشرية، فبعد أن فدانا بصليبه المقدس، وبرهن على أن الآب قد قبل ذبيحته الكفارية بقيامته من بين الأموات، بتعاليمه الإلهية التي نعتبرها أسرار الكنيسة بالذات، فمدة أربعين يوماً التي كان يعلّم فيها تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات عقائده الإلهية التي يجب أن نتمسّك بها بعد كل ذلك صعد إلى السماء وهو يرفع يديه ويبارك التلاميذ ويسلّمهم ليذهبوا إلى العالم أجمع، ويكرزوا للخليقة كلها معلناً أنه من آمن خلص ومن لم يؤمن يدن.

بعد كل هذه نرى أن الرب يحقق ما كان قد أعلنه لتلاميذه أنه ليس أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن البشر الذي هو في السماء، هذه الحقائق الإلهية لا نستطيع أن ندركها بعيوننا البشرية القاصرة مهما كانت ذكية وإذا كان الإنسان وهو ينظر العالم الذي حوله ويرى الأمور العجيبة فيه إذا كان الإنسان مرتبكاً أو متحيراً ولا يستطيع أن يفهم خلقة العالم ولا خلقة الإنسان بل أيضاً لا يفهم من هو الله، فعلى هذا الإنسان إن كان مؤمناً أن يتمسّك بالوحي الإلهي وخاصة بما أعلنه لنا الرب يسوع بتجسده الإلهي من حقائق إيمانية، علينا أن نتمسّك بها وخاصةً عندما نرى أن هذه الحقائق أُعطيت لنا لتكون نوراً لسبيلنا ودوّنت في الإنجيل المقدس، فعلينا أن نقبله بكل حقائقه.

من جملة هذه الحقائق أن الرب يسوع يدعو نفسه الخبز الذي نزل من السماء. في جدال مع اليهود الذين كان لهم تقليداً أن مشيحا المسيح الذي يتوق لخلاص العالم، في هذا العالم يعطيهم خبزاً من السماء كما فعل موسى في البرية، وعندما رأوا تلك المعجزات الباهرات التي اجترحها الرب لم يؤمنوا، كان قد قال لهم في مثل لعازر والغني إنه حتى لو قام أحد من بين الأموات فهؤلاء الناس لا يؤمنون عندما أراد الغني من إبراهيم أن يرسل اليعازر وينبه إخوته وأقرباءه الحائدين عن الشريعة، المتمسكين بالمال، الظالمين الناس، أرسل اليعازر حتى ينبههم قال لهم الرب: حتى لو قام واحد من بين الأموات لا يؤمنون، قام من بين الأموات الرب يسوع ولكنهم لم يؤمنوا به وقبل ذلك عندما تحاوروا معه بموضوع الخبز النازل من السماء ظنوا أن الذي يأتي لخلاص العالم سيشبه موسى بإعطاء الخبز من السماء، قال لهم الرب يسوع ليس موسى بل أبي الذي يعطيكم الخبز من السماء، أنا هو الخبز النازل من السماء ما أعظم هذا الكلام، لو لم نؤمن بالوحي الإلهي وصدقه وأنه أعطي لنا لكي ننال الحياة الأبدية لما كنا نؤمن بحقيقة كهذه.

المسيح هو «الخبز الذي نزل من السماء»، حتى عندما أعلنها حقيقة إيمانية فإن بعض الرسل ابتعدوا عنه، كيف يعطينا جسده لنأكله، كيف يعطينا دمه لنشربه، كل حقيقة إيمانية ما لم نؤمن بالرب يسوع الذي أعطانا إياها، لا يمكن أن نتمسّك بها أمور تفوق عقولنا البشرية نحتاج إلى إيمان لنتمسك بها نحتاج إلى إيمان حتى ننال بها الحياة. أعطانا سر جسده ودمه الأقدسين بعد أن مهد لذلك بكلامه لأولئك الذين طلبوا منه آية من السماء وذكروه بالمن «أبي الذي أعطى المن في البرية وليس موسى» وليس موسى فقط كل نبي من أنبياء العهد القديم لم يستطيع أن يعطي شيئا لحياة البشر ولإيمانهم ما لم يعطه الآب السماوي، وكذلك في عهد الرسل وإلى اليوم الحقائق الإيمانية ما لم نستند للتمسك بها إلى الإنجيل المقدس إلى أقوال الرب لن نستطيع أن ندركها لذلك الرب يقول عن نفسه: أنا هو الخبز الذي نزل من السماء وعلمنا كما يعلمنا الإنجيل المقدس: إن الرب قبل أن سمح لليهود أن يعذبوه، أن يصلبوه، أن يميتوا جسده ـ طبعاً الرب مات بالجسد لكنه بلاهوته حي إلى الأبد ـ سلم لنا سر جسده ودمه الأقدسين، الخبز والخمر، قال للتلاميذ: خذوا كلوا هذا هو جسدي، اشربوا من الخمرة هذا هو دمي، اصنعوا هذا لذكري. أعطاهم سلطاناً أيضاً أن يقدسوا الخبز والخمر كما فعل لكي يصنعوا ذلك لذكره، فهو الذي نزل من السماء قوتاً للبشر، أنا هو الخبز الذي نزل من السماء ـ قال لليهود ـ الذي نزل من السماء أيضاً هو الذي صعد إلى السماء الذي هو في السماء، أقول لا نفهم هذه الأشياء أبداً لكن عندما يعلنها الوحي الإلهي علينا أن نتمسك بها عقيدة إيمانية، وما لم نتمسك بها لا ننال الحياة الأبدية الخبز والخمر القربان المقدس الذبيحة الإلهية التي يمثلها القداس الإلهي هي بقوة ذبيحة المسيح على الصليب لذلك علينا أن نكون مستعدين لتناول هذا القربان جسدياً وروحياً، بالتوبة التامة، بحياة البر وبنقاء الجسد أيضاً، ثم علينا أن نؤمن أننا نتناول جسد ابن الإنسان ودمه حقاً على شكلي الخبز والخمر ولذلك بإيماننا هذا أيها الأحباء وعدنا الرب أنه يثبت فينا ونحن فيه عندما نتناول الطعام أي طعام للجسد يتحول إلى قوة في جسدنا أو يتحول إلى جسدنا ولكن عندما نتناول القربان المقدس نتحول نحن إلى الاتحاد بالرب يسوع عن طريق القربان المقدس.

ما أعظم هذه النعمة «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء» ليس علينا إلا أن نؤمن بهذا الخبز ونحن نتناوله لأنه وعدنا أيضاً أن كل من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه وأنا أقيمه في اليوم الأخير، ليس فقط الثبات في المسيح على هذه الأرض بل المسيح يقيمنا في عداد أولئك الذين يملكون معه في ملكوته السماوي إلى الأبد، فعلينا أن نتمسّك بما وهبه الله لنا من نعم فقد جاء من السماء وأتم عمل الفداء وبررنا وقدسنا وأعطانا القربان المقدس، ليبقى لنا ذبيحة غير دموية تمثل بقوتها ذبيحة الصليب بالذات لنثبت في المسيح، ويثبت المسيح فينا.

فعلينا أن لا نبتعد عن حقائق الإيمان، وعلينا أيضاً أن نتوب وأن نستعد لنتناول القربان المقدس ونتقدم إلى مذبح الرب المقدس لكي ننال نعم الرب العظيمة فنثبت في المسيح ويثبت المسيح فينا، ونرث الحياة الأبدية الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.


الأول والآخر

«أنا هو الأوّل والآخر، الحيّ وكنتُ ميّتاً وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين آمين».                           

   (رؤيا 1: 17-18)

إنه الرب يسوع الإله المتجسّد الذي ظهر في الرؤيا لرسوله الحبيب يوحنا، وأعلن له السر العظيم، سر وجوده في السّماء عن يمين الله.

إنه الرب يسوع يصف في هذه العبارة سرَّي التجسّد والفداء، فهو الإله الأزلي السّرمدي الأوّل والآخر، الإله الذي لا بداية له ولا نهاية، ولكنّه قد تجسّد لأجل فداء البشريّة، ومات أيضاً لأن فيه فقط تتم شروط الفداء، فهو الإله التّام المساوي للآب في الجوهر، وهو الإنسان الكامل الذي بإمكانه أن ينوب عن الإنسان. وهو الإله والإنسان بطبيعته الواحدة وأقنومه الواحد يحق له أن تُنسَب إليه الإلهيات وتُنسَب إليه الصفات البشرية في آن واحد.

أنا الأوّل والآخر، الحي وكنتُ ميتاً.

أجل، لقد مات من أجل فدائنا، ورآه يوحنا وهو معلّق على العود، وسمعه وهو يستودع نفسه بيد أبيه السماوي، بل أيضاً رآه وقد حُنِّط ووضع في القبر الجديد، ورآه قائماً من بين الأموات. لقد كان ميتاً ولكنه حيٌّ، قام في اليوم الثالث منتصراً، وبرهان ذلك الحجر الكبير الذي دُحرِج عن باب القبر، لا بيد بشرية، والبراهين كثيرة. ظهور الرب الحي القائم من بين الأموات لتلاميذه وأكله وشربه معهم، ومكوثه وهو يظهر لهم أربعين يوماً، لقّنهم في تلك الفترة أسرار ملكوته السّماوي، ثم صعوده إلى السماء أمامهم ـ الذكرى التي احتفلنا بها يوم الخميس ـ ورأينا مع الرسل كيف أن الرب الذي أخرجهم إلى بيت عنيا رفع يديه وباركهم، وبينما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء وكانوا يتطلّعون إليه، وحجبته سحابة عن عيونهم ووقف بهم ملاكان يقولان لهم: «ما بالكم أيّها الرّجال الجليليّون تتطلّعون إلى السّماء، إن يسوع الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه صاعداً إلى السّماء».

حقاً إنه قام ن بين الأموات، وقيامته ستبقى برهاناً ساطعاً على صدق رسالته الإلهية، وعلى قبول كفّارته السّامية، وقيامته تمتاز عن كلّ قيامة وهو حيّ إلى أبد الآبدين.

نقرأ في أسفار العهد القديم عن إنسان تقيّ، كان يخاف الله، وهو أخنوخ، يقول الكتاب عنه: إنه سار مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه إلى عنده، إلى أين؟ لا نعلم.

ونقرأ عن إيليا أنه كان يسير مع تلميذه أليشع وإذا بمركبة ناريّة تخطف إيليا فيصعد إلى السّماء، إلى أين؟ إلى موضع عيّنه الله.

ولكنهما سيظهران ثانيةً عند مجيء المسيح الدجّال، حينذاك يُقتلان ويُتركان ثلاثة أيّام بدون دفن ثم يقومان. كل هذا نعرفه عن هذين النبيين اللذين ما يزالان حيين، ولكن قيامة المسيح تختلف اختلافاً تامّاً.

فالمسيح قام ليبقى حيّاً، وقام ليحيي الموتى، المسيح قام من بين الأموات وصعد أيضاً إلى السّماء، إلى الموضع الذي يدعوه الإنجيل المقدس: عرش الله، عن يمين العظمة، إلى الموضع الذي رآه فيه اسطيفانوس عند استشهاده، فقال: إنّي أرى السّماء مفتوحة ويسوع عن يمين العظمة. الله روح، لا تحدّه حدود، ليس لله يمين أو يسار، ولكن هذا المصطلح إنّما يعني أن المسيح يسوع، أن إلهنا الذي هو الألف والياء، البداية والنهاية، الحيّ الذي كان ميتاً وهو حي إلى الأبد، هو مساوٍ للآب في الجوهر، وهو مع الآب، وفي صعوده بجسده الممجّد أصعدنا أيضاً معه إلى الأبد فدخل أوّل إنسان إلى سماء السماوات، لا إلى الفردوس الذي طُرِد منه آدم، بل إلى عرش الله.

عندما قام من الأموات ظهر لتلاميذه في العلّية والأبواب مغلقة، لأن جسده روحاني لا تحجبه أي مادة كانت، بل هو يوجد في أماكن عديدة في آن واحد، وفي أقل من لحظة يقطع مسافات العالم كلّها، بل أيضاً الكواكب فهو الله، ووعدنا أن يكون معنا: «ها أنا معكم إلى انقضاء الدّهر». وعدنا أيضاً إن كنّا نعبده ونعترف به أنه هو الإله الحقيقي سيكون معنا، إن كنّا نذكره: إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، ـ قال لنا ـ أكون بينهم.

يوم قيامته، اثنان من التلاميذ كانا ذاهبين إلى قرية عمواس، قريتهما. كانا يتحدّثان عن يسوع فصار يسوع بينهم، شرح لهم الكتاب أن ماسيّا كان لابد أن يتألّم ثم يدخل مجده، فهو حيّ، كان ميتاً كان لابد أن يتألّم ودخل مجده فصار في العرش عند أبيه السماوي، العرش الذي لم يغادره المسيح لحظةً واحدة حتى أثناء تجسّده.

هذا سر عميق جدّاً لا تدركه عقولنا البشرية أيّها الأحباء، ولكننا نتقبّله من الوحي الإلهي، الوحي الذي برهن على مصداقيّته بإتمام النبوات التي قيلت عن المسيح بحذافيرها، ويوحنا الذي رآه في السماء ورأى المنارات ورأى ما رأى، بل رآه أيضاً حملاً مذبوحاً وقد استوى على العرش، فهو يعرفه حيّاً ويعرفه ميتاً في سبيل البشرية، ثم يعرفه حياً في السماء على عرشه السماوي ليشفع فينا.

يوم صعوده إلى السّماء ـ يقول الإنجيل المقدس ـ إنّ التلاميذ سجدوا له، اعترفوا به أنه الإله، وعادوا إلى أورشليم ليمكثوا في أورشليم المدينة، في الدير المرقسي، في العليّة التي سلّمهم فيها سر جسده ودمه الأقدسَين ليمكثوا هناك منتظرين الموهبة السماوية، الروح القدس، فقد انطلق إلى السماء ليرسل لهم الروح القدس، وقد وعدهم أنه لا يتركهم يتامى وأوضح لهم أنه خير لهم أن ينطلق، ما لم ينطلق سوف لا يأتيهم الروح المعزّي. المسيح في السماء صار باكورة الرّاقدين فهو عزاء لنا لأننا نرى الآن في القبور الكثيرة التي حولنا غرفاً مضيئة بنور المسيح للمؤمنين بالمسيح، بل نرى أيضاً المسيح الذي هو باكورة الراقدين أنه سيقيم المؤمنين به في اليوم الأخير قيامة حياة ليرثوا معه ملكوت السماوات، ونرى في المسيح أيضاً في السرّاء والضرّاء رفيقاً لنا في طريق الحياة وعندما نتطلّع إلى السماء ونصلي الصلاة الربانية إلى الآب السماوي نتشفع بالابن الذي هو عن يمينه ونتعزّى ونتقوّى بالروح القدس، فالمسيح والروح والآب الأقانيم الثلاثة المتساوية في الجوهر، الإله الواحد. هذا الإله أحبنا وفدانا وأقام لنا شفيعاً في السماء، هذا الإله علينا أن نعبده بالروح والحق لنستحق أن نرث ملكوته معه، الإله الأقنوم الثاني الذي فدانا، الألف والياء، الحيّ وكان ميتاً نقف أمامه في الصلاة كل يوم لنناجيه: قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي، قدوس أنت الحيّ غير المائت، ونطلب إليه: يا من صلبت عوضاً عنّا ارحمنا.

ليرحمنا الرب جميعاً أحبائي ليثبت إيمانه في قلوبنا ليؤهّلنا جميعاً أن نصعد معه في الجو، كما صعد إذا ما ثبتنا على الإيمان، إذا ما أطعنا نواميسه الإلهية لنحيا فيه ونرث معه ملكوته السماوي الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

أحد العنصرة

أحد العنصرة

أحد العنصرة (1)

أعمال الرسل (19: 1ـ 12)

أفسس (3: 13ـ 21)

يوحنا (15: 1ـ 14)

أحد العنصرة

«ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى».

       (يوئيل 2: 28)

إنه يوئيل، نبي التوبة والصوم والصلاة، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد ورأى الناس وقد تمرَّغوا في حمأة الآثام، فنادى عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، منذراً ومحذراً إياهم من الاستسلام للمعاصي والعاقبة الوخيمة التي يتوقعها لهم من جراء ذلك. إذ أن الخطية كانت قد خرجت سافرة، وأن الخطاة تمرَّغوا بالآثام بدون حياء، وكما يقول الرسول بولس عن مثل هؤلاء: «الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم» (في19:3)، وسمعنا يوئيل ينادي بالتوبة قائلاً: «ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنّوح مزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم… قدسوا صوما ونادوا باعتكاف» (يوئيل2: 12 ـ 13 ـ 15)، وقد استحقَّ النبي يوئيل أن يُعلن له الله ما سيكون في مستقبل الأيام، عندما يتم الصلح بين الله والإنسان بالمسيح المنتظر فادي البشرية، فقال على لسان الرب «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما ويرى شبابكم رؤى وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء اسكب روحي في تلك الأيام» (يوئيل 2: 28 و 29). هذا الروح ولئن ظهرت مفاعيله للناس في العهد القديم ولكنه ظهر جلياً في العهد الجديد بكل صفاته وخاصياته وانتشرت أعماله في الأرض كلها، إنه الروح القدس الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس الذي عندما نصفه بأنه مساو للآب والابن في الجوهر والذات والطبع والأزلية والقدرة والسلطان إنما نعني أن الروح القدس والآب والابن جوهر واحد، هذا ما تسلّمناه من آبائنا القديسين ورسل الرب يسوع الأطهار، وقد أعلن المجمع المسكوني الثاني المنعقد في القسطنطينية عام (381) عقيدة الكنيسة المسيحية منذ ابتداء وجودها بألوهية الروح القدس قائلاً: «ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي الكل، المنبثق من الآب ومع الآب والابن يسجد له ويمجد، الناطق في الأنبياء»، وضمَّ المجمع هذه العبارة إلى قانون الإيمان النيقاوي الذي نتلوه في القداس الإلهي وقبل ختام صلواتنا صباح مساء وفي كل آن.

أجل، لقد رأينا الروح القدس في العهد القديم يرفّ على وجه المياه، ورأيناه يُرشد الناس الذين يحلّ عليهم إلى طريق الحياة، بل أيضاً يعلن كلمة الله بين الناس عندما كان يحل على الأنبياء والمرسلين إذ هو معطي الحياة وهو المدبر والمعلم، وعلى عهد موسى عندما أراد الله أن يخفف أعباء مشقات الإدارة عن كاهل موسى فقال الرب له: اجمع إليّ سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب وأقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيقفوا معك فانزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك واضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمل أنت وحدك…، ففعل موسى هكذا فلما حلّ الروح عليهم تنبأوا ولكنهم لم يزيدوا، وبقي رجلان في المحلة اسم الواحد الداد، واسم الآخر ميداد، وحلّ عليهما الروح أيضاً، وكانا من المكتوبين لكنهما لم يخرجا إلى الخيمة في المحلة ولما أخبر أحد الغلمان موسى بذلك، قال له يشوع بن نون يا سيدي موسى اردعهما، فأجابه موسى: يا ليت شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم (عد11: 16 و17 و24 ـ29) ونعتبر ما قاله موسى نبوة على ما جرى في مثل هذا اليوم الذي حلّ فيه الروح القدس على رسل الرب وتلاميذه، وعلى سائر الرجال والنساء الذين كانوا مجتمعين معهم في العلية بنفس واحدة، بدون تمييز. إنها لنعمة عظيمة ينالها الإنسان الذي يحلّ عليه روح الله فإذا لم يكن الإنسان مملوءاً من روح الله، تعرّض ذلك الإنسان إلى خطر هيمنة روح إبليس النجس عليه، حيث يجد المكان «مكنوساً مزيناً» (لو11: 24).

لقد منح الله الإنسان الذي جبله من تراب الأرض روحاً حيّاً، عندما نفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار الإنسان نفساً حيّة، ولذلك نقول: إن الله خلق الإنسان على صورته كشبهه (تك1: 26 و5: 1) وهذه الروح تعتبر حلقة الوصل بين الله الذي هو روح محض وبين الإنسان الذي هو جسد وروح، لأن الله روح ولا يمكن أن يناجيه إلا الروح على حدّ تعبير الرب يسوع القائل: «الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا» (يو4: 24)، فإذا استمرَّت روح المؤمن منسجمة مع الله يحلّ الروح القدس على هذا الإنسان المؤمن، ولكن عندما يشك الإنسان بمصداقية أوامر الله ووصاياه ويسمع لإبليس عدو البشر وعدو الله، حينذاك يغادر الروح القدس ذلك الإنسان، الذي يهوي إلى درك المعصية، كما جرى لأبوينا الأولين آدم وحواء، والمؤمن يدرك ذلك جيداً، فعندما أخطأ داود مثلاً، ارتعب جداً، إذ صار يتوقع أن يغادره الروح القدس، فارتعب وهو يتذكر يوم كان فتى صغيراً يعزف على قيثارته ليهدّئ روع الملك شاول الذي كان يتعذّب من الروح النجس إذ أن روح الله كان قد غادر شاول الملك. وأن روح إبليس كان قد سيطر عليه وعذّبه، لذلك ارتعب داود عندما أخطأ لئلا يحدث له ما حدث لشاول وطلب إلى الله قائلاً: «وروحك القدوس لا تنزعه مني»(مز51: 11). فإذا غادر الروح القدس الإنسان المؤمن سيطرت عليه روح إبليس، لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى أن نكون دائماً في حال النعمة، أي في حال توبة نصوح، وكما يوصينا النبي يوئيل أن نمزق قلوبنا لا ثيابنا وأن نقدس صوماً، وننادي باعتكاف ليكون روح الله ثابتاً فيناً.

أمّا في العهد الجديد فقد ظهر الروح القدس بكل مفاعيله في سر التجسَّد، فهو الذي طهّر ونقّى العذراء مريم عندما حلّ عليها وقدّسها لتكون أهلاً ليحل نار اللاهوت في أحشائها، وهكذا تجسّد ابن الله الوحيد من الروح القدس ومن مريم العذراء، كما نصّ قانون الإيمان النيقاوي. كما أن الروح القدس ظهر بشبه حمامة استقرت على هامة الرب يسوع على أثر عماده في نهر الأردن من يوحنا المعمدان. وكان يوحنا هذا قد امتلأ من الروح القدس وهو جنين. فأهّله الروح أن يشعر بوجود الرب يسوع الإله المتجسّد وهو جنين في بطن أمه العذراء مريم، فارتكض يوحنا في بطن أمه كما قالت أمه اليصابات فرحاً باستقباله الرب يسوع. أجل إن الروح القدس هو روح الحق، فعندما يحلّ على الإنسان يرشده إلى الحق، وهو طاهر ونقي وقدوس ويحلّ في القديسين. لقد وعد الرب يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء، أن يرسل إليهم الروح القدس، معزياً وشفيعاً ومعلماً ومرشداً ومقدساً، وأمرهم الرب أن يمكثوا في أورشليم المدينة لينتظروا القوة من العلاء وهذه القوة هي الروح القدس، الأقنوم الثالث، من الثالوث الأقدس وهذه العقيدة السمحة تتضح من قول الرب يسوع لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»(مت 28: 19).

ويذكر لنا البشير لوقا في سفر أعمال الرسل كيف أن الرسل كانوا مجتمعين في البيت وكان اليهود في ذلك اليوم يحتفلون بأحد أعيادهم الكبرى، ويسمونه عيد العنصرة أي الاجتماع وعيد الباكورة، وعيد الخمسين لأنه يقع بعد خمسين يوماً من عيد الفصح، وكانوا يقدمون فيه للرب رغيفين من باكورة زروعهم شاكرين إياه تعالى على النعم التي يسبغها عليهم، وكانوا يعتقدون أن في ذلك اليوم خُلق آدم، وفيه أعطيت الشريعة لموسى، ولذلك كانوا يحتفلون فيه احتفالاً عظيماً ويأتون من أقاصي الأرض إلى المدينة المقدسة ليظهروا أمام الرب في هيكله، في ذلك اليوم بالذات كان التلاميذ مجتمعين في العلية بحسب أمر الرب، كانوا أنقياء قديسين وقد نالوا بركة الرب يسوع الذي كان قد سامحهم على كل ما اقترفوه من ذنوب ضده، فقد أنكره بعضهم، وشكّ آخرون أول وهلة في حقيقة قيامته، ولكنهم تابوا. فظهر لهم الرب يسوع مرات عديدة مدة أربعين يوماً، وأطاعوا أمره بمكوثهم في أورشليم المدينة لينالوا قوة من العلاء وفيما كانوا مواظبين على الصلاة، صار بغتة صوت عظيم كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين فظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. فلما صار هذا الصوت اجتمع جمع غفير من الناس إلى العلية حيث كان مصدر الصوت، ورأوا التلاميذ ومريم أم يسوع والنسوة وتعجبوا لان كل واحد منهم كان يسمعهم يتكلمون بلغته وكانوا قد جاءوا من كل أمة تحت السماء. ومما يلاحظ أن الألسنة النارية استقرت على كل واحد من رسل الرب وتلاميذه، وأتباعه من الرجال والنساء بدون تمييز أو تفضيل أحد على الآخر، فالروح القدس هو روح المساواة روح تلاشي التمييز العنصري فلا تمييز بين عبد وحرّ بين ذكر وأنثى كما يقول الرسول بولس «ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع»(غل3: 28). اجل هذا هو يوم العنصرة الذي استجاب فيه الله صلاة النبي موسى الذي قال يا ليت شعب الرب كانوا أنبياء (عد11: 29) وتنبأ الشعب كله يوم العنصرة، أما الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار الذين اختارهم الرب يسوع من بين الشعب وأنعم عليهم بموهبة الكهنوت ورئاسة الكهنوت، فلسموّ هذه الموهبة السماوية، كانوا قد تقدّموا على الآخرين. وعندما اجتمع الناس حول العلية وظنّوا أن أولئك الناس سكارى، وقف بطرس هامة الرسل مع الأحد عشر ورفع صوته وقال لهم: إن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون لأنها الساعة الثالثة من النهار، بل هذا ما قيل بيوئيل النبي: «يقول الله ويكون بعد ذلك أني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى»(أع 2: 17)  يكون بعد ذلك بعد أن تمَّ الخلاص بالمسيح يسوع ربنا، بعد أن نلنا الفداء بدمه الثمين، بعد أن قام المسيح من بين الأموات وصالحنا مع أبيه وبررنا وطهرنا وقدسنا يكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى فذكرهم الرسول بطرس بهذه النبوة، وبكّتهم الروح القدس فنخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: «ماذا نفعل أيها الرجال الإخوة؟»، فقال لهم بطرس: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس»(أع2: 28).

وفي تلك الحادثة ظهرت مفاعيل الروح القدس في التلاميذ كافة، فهامة الرسل بطرس مثلاً الذي لخوفه، أنكر المسيح أمام جارية حقيرة صار بطلاً شجاعاً لم يَهب أحداً فوبخ رؤساء اليهود على قتلهم المسيح.

وبطرس نفسه الذي كان رجلاً بسيطاً، صار بعد أن امتلأ من الروح القدس واعظاً ناجحاً لأن الروح القدس هو روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، (إش11: 2)، هكذا امتلأ بطرس ورفاقه من الحكمة والمعرفة وصاروا خطباء قديرين وشهوداً للمسيح مملوءين شجاعة.

ودعا بطرس اليهود بخطابه الشهير ليتوبوا قائلاً لهم «اخلصوا من هذا الجيل الملتوي» فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (أع 2: 40 و41)، لذلك عُدّ ذلك اليوم عيد ميلاد الكنيسة بوساطة الروح القدس، وصار ذلك اليوم أيضاً للمؤمنين بالمسيح يوم تجديدهم إذ صاروا خليقة جديدة، فقد ولدوا ثانيةً ولادة روحية من السماء. وإن الروح القدس الذي حلَّ على أتباع الرب في العلية، هو ذاته يحلّ على سائر المؤمنين به، والمعتمدين على اسمه على أثر خروجهم من جرن المعمودية ومسحهم بزيت الميرون المقدس. كما أن الشريعة التي أعطاها الرب لموسى في مثل ذلك اليوم قد تجددت أيضاً بشريعة المسيح الذي لم يعطها مكتوبة على لوحين من حجر بل كما قال الله على لسان النبي إرميا: «هذا هو العهد الذي اقطعه… أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً»(إر31: 33) وقد ظهرت مفاعيل الروح القدس في العهد القديم أيضاً بالأعجوبة التي شاهدها بالرؤيا حزقيال النبي الذي أمره الله أن يتنبأ على العظام الرميم، فتحوّلت إلى أجساد بدون حياة. ثم أمر الرب النبي ليتنبأ عن الروح فهبت الروح عليهم ومنحتهم حياة فقاموا أحياء.

وهذه الأعجوبة رمز لمفاعيل الروح القدس الذي بإمكانه أن يعطينا حياة في المسيح يسوع ربنا، كما أنه ثابت في الكنيسة المقدسة، يعتني بها ويختار رعاتها، ويرشدهم إلى الحق ويذكرهم بتعاليم الرب يسوع ويهديهم سواء السبيل ويعينهم على إدارة الكنيسة كما ورد في سفر أعمال الرسل أنه بينما كان التلاميذ يخدمون الرب ويصومون: «قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما»(أع13: 3) والرسول بولس يوصي قسوس الكنيسة في أفسس قائلاً: «احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28). ويخاطب الروح القدس رعاة الكنيسة بوسائل عديدة، كما يذكر تاريخ كنيستنا المقدسة، إما بأحلام إلهية أو رؤى، وإما يلهمهم بتأثيره فيخاطب أرواحهم ويؤثر في أفكارهم.

ففي هذا اليوم أحبائي ونحن نحتفل بهذا العيد المقدس، لنسأل الله تعالى أن يؤهلنا لنستدعي الروح القدس ليبكّت ضمائرنا ويوقظها
(أع 2: 37) وأن نتجاوب مع عمله في قلوبنا فنصحو ونستيقظ من سبات الخطية، ونتوب إليه توبة صادقة وأن نجعل أجسادنا هياكل نقية طاهرة للروح القدس الذي فينا (1كو 6: 19).

فلنطع الرب الإله، ولنقتد بالرسل الأطهار باجتماعهم في العلية، فلنجتمع نحن أيضاً في كنيسة الله بنفس واحدة مواظبين على الصلاة الحارة وليحلّ الروح القدس على كل واحد منا، لنثبت في المسيح ونحيا فيه، مكملين وصية الرسول بولس القائل: «اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد»(غل5: 16) فلنبتعد عن كل ما يغضب الروح القدس طالبين من الرب مع النبي داود قائلين وروحك القدوس لا تنزعه منا آمين.

عيد العنصرة (2)

«ويكون بعد ذلك أنّي أسكب روحي على كل بشرٍ فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤىً ويحلم شيوخكم أحلاماً».

      (يوئيل 2: 28)

النبي يوئيل، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، يُدعَى نبي الرّجاء ونبي الصلاة والتوبة. رأى الشعب في العهد القديم قد حاد عن وصايا الله، خطاياه فصلت بينه وبين إلهه، فنادى بالتوبة ليعود ذلك الشعب إلى ربّه، ليعود الله إليه أيضاً. فالله قد حكم أن روحي قال الرب لا تحلّ على بني بشر لأن الإنسان نجس، فما لم يتطهر الإنسان في ذلك الزمان بالتوبة الكاملة، بالدموع والنحيب. مزِّقوا قلوبكم قال يوئيل لا ثيابكم بالصلاة المستمرّة، فلا توبة بدون صلاة، ولا صلاة مقبولة عند الله بلا توبة، نادى يوئيل أيضاً برجاءٍ وضع أمام الإنسان في العهد القديم الوعود الإلهيّة، حيث يأتي الله ليخلّص العالم. سمّاهُ العهد القديم ماشيحا المنتظر، وانتظره ويرى يوئيل في هذا الرجاء الخلاص التّام. فبعد تلك الأيام، بعد أن يتم الخلاص بماشيحا المنتظر. حينذاك يقول الرب على لسان يوئيل: أسكب روحي على كل بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤىَ، ويحلم شيوخكم أحلاماً. جاء المسيح وفدانا بدمه الكريم، وقام من بين الأموات وأقامنا، بل أيضاً أعطانا أسراره الإلهيّة، وصعد أمامنا إلى السّماء. نحن رسل الرب وأتباعه رأيناه صعد إلى السماء، فعلِمنا بأنه قد أخبرنا بذلك قبل ذلك، وحينئذٍ عُدنا إلى أورشليم فَرحِين لأنه قد وضع ثقته بنا أن ننشر بشارته الإنجيليّة، عُدنا إلى أورشليم مطيعين إياه، فقد أمرنا ن نمكث في أورشليم المدينة حتى ننال قوّة من العَلاء.

    كان الرسل بعد صعود الرب ماكثين في العليّة، مع صلاة وصوم وتوبة نَصوح، حرارة في الإيمان. ففي اليوم الخمسين، في يوم العنصرة اشتعل الجو بقوّة حرارة الصلاة، وهبطت ألسنة نارية من السماء على هامة كل واحد من الرسل والتلاميذ والتلميذات أيضاً، والعذراء مريم المملوءة نعمة، بل المملوءة من الروح القدس. وظهرت مواهب الروح القدس، عاصفة قوية نشبت وصوت كرعد سُمِع، الناس في أورشليم في ذلك اليوم كانوا يعيدون عيد الخمسين، عيد العنصرة أي عيد الاجتماع، عيد الباكورة حيث كانوا يأتون برغيفَي خبز من باكورة حصادهم ليقدموا ذلك أمام الله شاكرين إياه على نعمه التي يسبغها عليهم وعلى العالم. كانوا يعتقدون انه في ذلك اليوم خُلِق آدم، وأنه في ذلك اليوم أُنزِلت الشريعة، لذلك كانوا يأتون من كل فجّ عميق، من كل مكان إذا قدروا ويشتركون في أورشليم. كان ذلك اليوم هُيِئ ليحلّ الروح القدس على التلاميذ، لتعلن توبة أولئك الناس وتُعلَن طاعتهم للرب يسوع حيث قد أمرهم أن يمكثوا في أورشليم المدينة، أن لا يغادروها حتى ينالوا قوّة من السماء، وعدهم بالفارقليط، المحامي هذا ما يعني. وعدهم أن يعطيهم قوة، لا يتركهم يتامي بل يرسل لهم الروح القدس، وهو يدبّرهم ويبكِّت ضمائرهم ويجلبهم إلى التوبة ويباركهم.

الروح القدس. من هو الروح القدس؟

إنه الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، ليس هو حالة وليس هو موهبة بل هو أقنوم من الثالوث الأقدس. وهذا ما أعلنه آباء الكنيسة في مجامعهم خاصةً في المجمع الثاني، المجمع القسطنطيني سنة 381م، فأضافوا إلى قانون الإيمان النيقاوي عبارة: «ونؤمن بالروح القدس، الرب المحيي الكل، المنبثق من الآب، الناطق بالأنبياء والرسل» هذا هو الروح القدس. نطق بالرسل بعدئذ، هذا هو الروح القدس الذي يبكّتنا ويبكت ضمائرنا ويجلبنا إلى التوبة، وبدون توبة نحن هالكون. هذا هو الروح القدس الذي حلّ على الرسل الأطهار بأقنومه وأعلن نتائج حلوله من مواهب سامية تكلّموا بألسنة عديدة. إذا كان الإنسان بكبريائه في القديم قد تبلبلت ألسنته في بابل، فإن تكلُّم الرسل بلغاتٍ عديدة كان رمزاً ليجمع هؤلاء الناس جميعاً إلى تقبّل المواعيد، إلى عبادة المسيح يسوع الذي فدانا وبرّرنا وقدّسنا وجعلنا أولاداً للسماء. الروح حلّ على الرسل وجعل منهم مملوءين بالشجاعة، بالنعمة، مملوءين بالحكمة والعلم والمعرفة. فوقف بطرس ذلك الجبان الذي أنكر المسيح أمام جارية حقيرة، يوم دِين المسيح باطلاً من رؤساء الكهنة. وقف بطرس بكل شجاعة يوبّخ أولئك اليهود ويعلن لهم أنهم قد قتلوا البار القدّوس، وأن الله قد أقامه من بين الأموات، وأنه ماسيّا المنتظر. بكّتهم وأعلن أيضاً في تلك الساعة عندما اجتمع الناس حول العلية وتطلّعوا إلى الرسل يتكلمون لغات عديدة، ظنوا أنهم سكارى. أعلن بطرس وبقية الرسل أنها الساعة الثالثة من النهار (التاسعة صباحاً) الذين يسكرون فبالليل يسكرون، هؤلاء لم يشربوا سلافة كما قالوا، إنما هذا هو ما تنبأ عنه النبي يوئيل: «ويكون بعد تلك الأيام يقول الرب، أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً». ودعاهم إلى التوبة عندما بكتهم الروح فطلبوا منه ومن الرسل: ماذا نصنع أيها الإخوة؟ دعاهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا باسم الرب يسوع ويعتمدوا باسمه أيضاً، لأن الموعد لهم ولأولادهم وهكذا كان في ذلك الأوان آمن بالرب يسوع ثلاثة آلاف نفس.

هذا هو الروح القدس أحبّائي. هذه مفاعيله، هذه ثماره ونحن إن أطعنا الرب مثلما أطاعه التلاميذ ومكثوا في العليّة، أن نمكث على الأقل بعض الدقائق، لا أكثر من ساعة أو ساعة ونصف في مثل هذا اليوم خاصةً. في العلية، في الكنيسة المقدسة وننتظر حلول الروح القدس ونحن نقوم بطقس تسلمناه من آبائنا منذ بدء المسيحية، ولكن لا يكفي هذا، هذا دلالة على أننا نمزق ثيابنا، ولكن يقول لنا يوئيل: مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم. فعلينا أن نعود إلى الله بالتوبة والمواظبة على الصلاة، نستطيع أن نجلب الروح القدس ليحلّ علينا ويطهرنا وينقّينا ويجعلنا حقاً بررة بالبر والقداسة، قدّيسين أيضاً. الرّوح لا يمكث معنا أيها الأحباء إن كنا قد حدنا عن طريق الرب المستقيمة. إذا ما تخلّى عنا الروح لا سمح الله، فروح إبليس تحل علينا والعياذ بالله. ألم نرَ شاول بعد أن تخلّى عنه روح الله كيف حلّ عليه روح إبليس فكان يتعذّب وأصبح بحالة جنونيّة، وكان داود يرنّم له لكي يعود إلى الله، لكي يعود الله عليه ويعود الروح القدس إليه. داود عندما أنشد وعلّم الأجيال المزمور الحادي والخمسين: ارحمني يا الله بعظيم رحمتك، عندما تاب داود عن خطيّته إذ زنى وقتل في آن واحد. يقول: وروحك القدّوس لا تنزعه مني. فلنصلّ دائماً إلى الله لكي لا ينزع روحه القدوس منا. لقد حلّ علينا يوم اعتمدنا، يوم نلنا مسحة الميرون المقدس وأصبحنا أولاداً لله بالنعمة، وعلينا أن نبقى كأولاد لله في حالة البر والتقوى، حالة التوبة المستمرّة، لكي نستحق أن نبقى متّحدين بروح الله، وإلاّ فإن روح الله يبتعد عنا. لسنا مع الله. فيحل روح إبليس ويعذّبنا ويجعلنا أعداء لله.

في هذه اللحظات أيها الأحبّاء أسأله تعالى أن يلهمنا فننصت جيّداً إلى وصية يوئيل، لأنه هو الذي يتنبّأ عن الروح القدس وحلوله، واستشهد بذلك الرسول بطرس. لنستمع إلى وصيّة يوئيل أن نمزق قلوبنا لا ثيابنا، أن نتوب إلى الله، أن نجعل هذا اليوم علامة عهد لنا، نجدد عهدنا مع الله. وإلاّ فإن الروح القدس يبتعد عنّا. لقد نسينا الروح القدس، نسينا تعليم المسيح البسيط وإن درسناه ونحن أطفال: أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس فهو الله، نسينا أننا إذ نقدم القربان الإلهي نحن الكهنة نطلب إلى الله أن يرسل روحه القدوس ليحل علينا وعلى الخبز والخمر ليحوّلهما إلى جسد الرب ودمه. وفي كل سر من أسرار الكنيسة للروح القدس عمَل، عمل جبّار جدّاً يظهر فيه أنه حقاً الله كما أن يسوع هو الله، والآب هو الله. الأقانيم ثلاثة لكن إله واحد.

ليعطنا الرب أحبّائي، بقوّة الروح القدس أن نعود إليه تائبين فيحل علينا روحه القدّوس، ويثبت فينا، ليس في هذه الحياة فحسب بل في الحياة الجديدة أيضاً. ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


عيد العنصرة (3)

«ويكونُ بعدَ ذلكَ أني أسكبُ روحي على كلِّ بشرٍ، فيتنبَّأ شبَّانكم ويحلمُ شيوخكم أحلاماً»، إنَّهُ يوئيل، نبيُّ التوبة الذي رأى أبناءَ جيلِهِ وقد حادوا عن الطريق المستقيمة، وتمرَّغوا في الخطايا والمعاصي، فنادى عليهم بالثبور، وأنذرهم بالهلاك، وقال كلمتهُ التي نردِّدها دائماً: «مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم»، ومنذُ ذلكَ الحين والله يُريدنا على لسان أنبيائهِ، وخاصةً يوئيل، أن تكون توبتنا صادقة، ليسَ فقط بعباراتٍ نلفظها، ولا بأمور تظهرُ كطقوسٍ، لكن ليس فيها روح، لأنَّ الحرفَ يقتل ـ كما يقول الرسول بولس ـ أما الروح فهيَ التي تُحيي.

يوئيل يُريدنا أن نتوب، وأرادَ أبناءَ جيلهِ في ذلك، وكأني بهِ بعينهِ النبوية رأى روح الله، كما نقرأ عنهُ في الكتاب المقدس كانَ يرفُّ على وجهِ المياه قبلَ أن يُخلق الإنسان، يرى روح الله الذي بعدَ أن خلقَ الإنسان جسداً من تراب الأرض، نفخَ في أنفهِ نسمة الحياة، وروح الله أعطى حياةً لهذا الإنسان، ولتكون تلك الروح الوسيلة الوحيدة التي فيها يستطيع الإنسان لا بجسدهِ فقط بل بروحهِ أن تكون لهُ علاقة بالله، لأنَّ الله ـ كما قال الرب يسوع ـ روحٌ هو، والساجدونَ لهُ بالروحِ والحق ينبغي أن يسجدوا.

بل رأى بعينِ النبوَّة كيفَ أن الروح القدس الذي كانَ قد سُكبَ على النبيِّ موسى، فأهَّلهُ أن يكونَ سيداً ومدبراً لبني إسرائيل، ومخلِّصاً إياهُ رامزاً بذلكَ إلى الرب يسوع، وأنقذَ ذلك الشعب من عبودية مصرَ، ليكون مثالاً لإنقاذ الرب لنا من إبليس والموت والخطيئة، رأى تلك الروح وقد فاضت على موسى، وعندما تذمَّرَ موسى لكثرة مشاغلهِ ومتاعبِهِ من ذلكَ الشعب وإدارته، أمرهُ الله أن يذهب إلى خيمة الاجتماع بعد أن يختار سبعين شيخاً من شيوخ بني إسرائيل وأن يذهبوا معهُ أيضاً ليأخذ الله من الروح التي كانت على موسى ويسكب على أولئكَ الشيوخ لكي يحملوا معهُ مسؤولية إدارة ذلك الشعب.

نحنُ نقرأ في الكتاب المقدس عن اثنين تخلَّفا عن المجيء إلى خيمة الاجتماع، إتماماً لوصيَّة الرب، أنه ينزل ويأخذ من الروح التي كانت على موسى ويضعها على الشيوخ السبعين لكي يستطيعوا هُم أيضاً أن يحملوا مسؤولية قيادة ذلك الشعب إلى النور والحق، إلى طريق البر والاستقامة، إلى عبادة الله عبادة حقَّة، وقد تخلَّفَ عن السبعين اثنان هما ألداد وميداد (عد26:11ـ 30)، وعندما حلَّ الروح القدس على السبعين شيخاً، حلَّ على أولئكَ أيضاً مع أنهم كانوا في المحلَّة بينَ الشعب ولم يأتوا إلى خيمة الاجتماع، فأتى غلامٌ وأخبرَ موسى إذ رأى ألداد وميداد يتنبَّآنِ في المحلَّة، ويبدأ يشوع بن نون الذي خلفَ موسى بعدئذٍ ليُقدِّم الراية لموسى قائلاً: «يا سيِّد امنعهما عن التنبُّؤ»، فموسى أطلقَ نبوَّةً بقوة الروح القدس قائلاً: «ليتَ الشعب كلَّهُ يكون أنبياء».

لقد تنبَّأ موسى عن مثلِ هذا اليوم أنَّ الشعب المؤمن، الشعب الذي قبل الخلاص بالمسيح يسوع بإمكانهِ أن يكونَ برتبة الأنبياء، لذلكَ تمنّى لو أن كلَّ الشعب يتنبَّأ، رأى يوئيل ذلك وقال: إنه بعدَ أن ينال الشعب الخلاص، بعدَ أن يتنقَّى يتطهَّر ويتقدَّس، ويستحقّ أن يحلَّ عليهِ الروح القدس، حينذاك يقول يوئيل: إن الشباب والإماء يتنبَّؤون، والشيوخ يرَونَ أحلاماً، ويرى ذلك الشعب قد امتلأ من الروح القدس، وكأني بهِ يرى ما حدثَ في مثلِ هذا اليوم عندما حلَّ الروح القدس على التلاميذ، بل على الشعب المؤمن ـ كانوا مئة وعشرينَ شخصاً ذكوراً وإناثاً ـ  كانوا قد أطاعوا وصيَّة الرب، أن لا يُغادروا مدينة أورشليم بل أن ينتظروا وعد الروح القدس من السماء، وكانَ قد أخبرهم أيضاً الرب يسوع أنهُ إن لم ينطلق لا يأتيهم الروح القدس، وقال أيضاً معطياً للروح القدس مقامهُ الذي يساوي الابن أيضاً مُعلناً الثالوث، الآب والابن والروح القدس المتساوي في الجوهر، لذلك قال لهم: «ألا يُغادروا أورشليم حتى ينالوا قوَّةً من العلاء».

 كانوا مجتمعين في العليَّة وكانَ ذلك اليوم يوماً حافلاً، كانَ ذكرى خلق الإنسان، الله خلق الإنسان في مثلِ ذلك اليوم، كانَ ذكرى إعطاء الشريعة لموسى، كانَ ذكرى هذهِ الأمور العجيبة، وبدء ميلاد الكنيسة المقدسة، كانَ لابدَّ أن يأتي الروح القدس، ليُقدس ذلك الشعب، فيستحق أن يولد ميلاداً ثانياً، وأن تبدأ الكنيسة المقدسة ملكوت الله على الأرض لتُهيِّئ هذا الشعب لملكوت الله في السماء، في ذلك اليوم الحافل، كانَ يُدعى «الفنطيقسطي» أي الخمسين، لأنه يقع بعدَ خمسين يوماً من قيامة الرب يسوع، ومِن عيد فصح اليهود يومذاك، كان لابدَّ لذلك الشعب في ذلك اليوم أن يُقدم رغيفَين من الخبزِ ثمار حصاد تلك السنة إلى الرب الإله، ليقدم الشكر لهُ لأنه أنعمَ على هذا الشعب بقوتِهِ الجسدي وقوتِهِ الروحي أيضاً، في ذلك اليوم كان يحتفل في أورشليم ويجتمع الشعب كلهُ لينال بركة الرب.

في ذلك اليوم حدثت زلزلة وصار صوتٌ عظيمٌ كصوت رياحٍ عاصفة، واهتزَّ المكان الذي كان الرسل مجتمعينَ فيهِ، وجاءَ صوتٌ من السماء، كأنَّ الروح القدس عندما حلَّ على الرسل أراد أن يُعلن هذه الحادثة المهمة أنَّ الروح القدس بدأ بعدَ صعود الرب يسوع المسيح بالجسد إلى السماء، بدأ رسالة التعزية، رسالة التشجيع للرسل حتى على تحمّل الاستشهاد في سبيل الرب يسوع.

اجتمعَ العديد من ذلك الجمهور في العلِّية التي كانَ التلاميذ مجتمعينَ فيها الرسل والتلاميذ وكانَ عددهم مئة وعشرين، ذكوراً وإناثاً والعذراء مريم في مقدِّمتهم فسمعوا كلَّ واحدٍ يتكلَّم بلسانهِ، جاؤوا من أماكن عديدة في العالم، ورأوا أولئك الرسل والتلاميذ يتكلمونَ بألسنة عديدة، حلَّ عليهم الروح القدس بشبهِ ألسنة نارية وأعطاهم تلك المواهب السامية من مفاعيلِ الروح القدس.

عندما حادَ الإنسان بكبريائهِ عن الله تعالى في بابل فتعدَّدت الألسنة وأصبحَ الإنسان لا يفهم على زميلهِ الإنسان، لأنَّ لغتهُ أصبحت مختلفة، جاءَ يوم الفنطيقسطي يوم حلول الروح القدس ليُوحِّدَ أفكار الناس وألسنتهم ويفهم الواحد الآخر، حتى ولَو كانوا من أماكن عديدة ولغاتٍ مختلفة، عندما سمعوهم ظنُّوا أنهم كانوا سكارى، واستهزؤوا بهم لأنهم كانوا يتكلمونَ بألسنة عديدة، ظنوا أنهم لا يفهمونَ ما ينطقونَ بهِ، فالرسول بطرس ذلكَ الذي كان جباناً أمام جارية حقيرة يوم أُلقيَ القبض على الرب يسوع وأنكرهُ، عندما حلَّ الروح القدس عليهِ أصبحَ بطلا ًشجاعاً، ونادى موبِّخاً اليهود الذينَ صلبوا الرب يسوع، معلناً أنَّ يسوع هو مخلِّص العالم.

بطرس الرسول، الرجل الذي كنا نظنه رجلاً بسيطاً، وصيادَ سمكٍ، ولكن عندما حلَّ عليهِ الروح القدس معَ سائر التلاميذ وقفوا جميعاً، وأعلنَ بطرس عن لسانهم أنَّ هؤلاء الناس ليسوا سكارى، لأنها كانت الساعة الثالثة من النهار، الذين يسكرون ففي الليلِ يسكرون، لكن هذا ما تنبَّأ عنهَ النبي يوئيل قائلاً: «ويكون بعدَ ذلك، أي بعدَ نَيل الخلاص أني أسكبُ روحي على كل بشرٍ فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً».

نبَّههم إلى هذهِ النبوة التي قالها يوئيل على لسان الرب في القرن الرابع قبل الميلاد، وتمَّت في تلكَ الأيام، لذلك أحبائي عندما قام مَن قال في القرن الرابع بعد الميلاد وأنكر قوة الروح القدس وألوهيته، وأنَّ الروح القدس ليس أقنوماً ثابتاً وليس مساوياً للآب والابن في الجوهر، قامَ المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية وحارب كل مَن لا يُؤمن أن الروح القدس هو الله، وهو مساوٍ للآب والابن في الجوهر، وأضاف الآباء القديسون هذهِ العبارة إلى قانون الإيمان النيقاوي ليكون قانون إيمانٍ نيقاوي قسطنطيني «ونؤمن بالروح القدس، الرب المحيي الكل، المنبثق من الآب، ومع الآب والابن يُسجد لهُ ويًمجَّد»، هذا هو الروح القدس الذي عندما وعد الرب يسوع رسلَهُ أن يُرسلهُ إليهم لأنهُ هو سيغيب عنهم بالجسد، دائماً الرب يسوع موجود بيننا لأنه «إذا اجتمعَ اثنان أو ثلاثة باسمهِ فيكون بينهم»، لكنهُ عندما كانَ في الجسد كانَ لا يُرى بالروح إلاَّ عندما يشاء ذلك ولا يغيب إلاَّ عندما يشاء، أما بعدَ أن غابَ عنا بالجسد فهو لا يحضر بيننا إلاَّ عندما نطلبهُ وعندما يشاءُ أن يُرى، لأنهُ أصبح بحسب وعدهِ.

هذا هو الروح القدس المساوي للآب والابن في الجوهر، ونحنُ عندما نطلب منهُ أي نطلب من الله بالذات، وعلينا أيضاً أن نطلب منهُ لأنه هو المعزّي والمشجِّع، هو الذي جعلَ الرسل الجبناء أبطالاً معترفين بلاهوت الرب يسوع، ومُعلنينَ أنه قد صُلِبَ لأجلنا وأنَّ اليهود قد صلبوهُ وأنهم قد نالوا الدينونة من الرب لذلك. فعلينا أن نشعر بوجودهِ معنا، طالما نحنُ في حالة البِرّ، ونحنُ بشر عندما نُخطئ ما لم نتُب ـ كما قالَ لنا يوئيل أن نُمزِّق قلوبنا لا ثيابنا ـ إن لم نتب فالروح يبتعد عنا، نذكر بذلك مثلاً النبي داود عندما أخطأ فغاب عنهُ الروح القدس، داود في مزمورهِ الخمسين يطلب من الرب: «وروحكَ القدوس لا تنزعهُ مني»، فنحنُ إن لم نتُب أحبائي، إن لم نطلب من الرب أن يجعل روحهُ القدوس ثابتاً فينا، تبقى قلوبنا فارغة من الروح القدس، ويُهيمن عليها روح إبليس، وما أشقى الإنسان إذا كانَ إبليس قد هيمَنَ على قلبهِ، رأينا ذلك في شاول الذي عندما غابَ عنهُ الروح القدس أصبحَ في حالة جنونٍ، وكانَ داود وهو يذكر ذلكَ جيداً عندما كانَ غلاماً وكان يعزف على القيثارة ليُهدِّئ روعَ داود ويبتعد عنهُ الروح الشرير.

علينا أحبائي ونحنُ نحتفل بحلول الروح القدس في مثلِ هذا اليوم على التلاميذ، على الرجال والنساء، على المؤمنين بالرب يسوع وقد حَلَّ علينا ونحنُ أطفال عندما خرجنا من جرنِ المعمودية وأخذنا الميرون المقدس حَلَّ علينا الروح، فنطلب ألاَّ ينزع روحهُ القدوس عنا، لأنهُ إذا نزعهُ لا سمحَ الله يكون إبليس قد هيمنَ علينا وعذَّبنا في حياتنا الشقية على الأرض، ولكن إن كنا متمسكينَ بالروح القدس طالبينَ منهُ أن يُنقِّينا ويُطهرنا وأن يُبعدنا عن الشيطان وعن التجارب كافةً حينذاك يكون الروح فينا، ويكون قد حلَّ في قلوبنا، ونكون نحنُ عبيداً للهِ صالحين، الأمر الذي أطلبهُ لي ولكم ولكلِّ المؤمنين بالرب يسوع إتماماً لنبوَّة يوئيل، ويكون بعدَ ذلك أي بعد أن نكون قد نلنا الخلاص بدم المسيح يسوع، أنَّ الرب يسكب روحهُ علينا.

فنُصلي للرب بالروح والحق، ونُطيعُ أوامرهُ، ونتعزّى بالروح القدس، وننال الشجاعة التي نالها الرسل الأطهار والتلاميذ الأبرار، لكي يكون الروح معنا ونكون نحنُ معهُ بنعمتهِ تعالى آمين.

ا بعد العنصرة 

ما بعد العنصرة

ما بعد العنصرة (1)

أعمال الرسل (5: 12ـ 28)

رومية (6: 1ـ 14)

لوقا (8: 4ـ 15)

الأحد الذي يلي العنصرة

«خرج الزارع ليزرع زرعه»

  (لوقا8: 5)

يعلمنا الرسول لوقا أيها الأحباء، أنّ الرب يسوع كان في بيت بكفر ناحوم، وخرج إلى الساحل، وكانت هناك سفينة فركبها، وكان جمهور على الساحل، ولأول مرة ابتدأ يسوع يكلم الجمهور بأمثال منذ بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، كان بكل وضوح يضع أمامهم حقائق عن ملكوت الله ولكن بعد مرور عشرين شهراً، لعلَّ الرب وجد أن أولئك الناس لم يدركوا بعمق فحوى تلك التعاليم السماوية، فابتدأ يكلمهم بأمثال، تلك الأمثال كانت من واقع الحياة اليومية. لم تكن كالأمثال التي كان الحكماء سابقاً يضربونها لشعبهم ولأتباعهم ويأتون بها على لسان حيوان أو نبات. ولكن الرب يسوع كان يضرب الأمثال من واقع الحياة اليومية للمجتمع آنذاك. ولعله في تلك الساعة في كفر ناحوم، فهو جالس على سطح السفينة يعلّم اليهود، والرب يسوع مع ذلك كان يجلس ويعلم، نادى وهو يرى زارعاً من بُعد، لعله أشار إليه وهو يبذر زرعه.

وواقع الحياة أنه عندما يزرع الزارع زرعه يسقط بعضه هنا وبعضه هناك، قال: «سقط البعض على الطريق» ليست الطريق التي وجدت في الطريق بل الطريق التي بين الحقول، لابدّ أن يسقط بعض البذور على تلك الطريق، فديست من الناس أو الحيوانات، ثم جاءت طيور السماء والتقطت تلك البذور، الرب شرح المثل بناء على طلب تلاميذه تلك فقال: الطيور تمثل إبليس، ومنه نفهم أيضاً أن البذور التي تسقط على مكان كهذا لم يكن لها المجال لكي تعطي ثمراً لأن تلك البقعة ديست من الناس، هكذا قلب الإنسان، عندما يسمع الإنسان عظة أو نصيحة أو يقرأ في الإنجيل المقدس «كلام الله»، وكلمة الله هو المسيح بالذات، عند ذلك إذا لم يكن عمق أرض، إذا لم تكن تلك البقعة صالحة، هنا لابد أن نقول إن المثل يسمى مثل الزارع، وبالحقيقة هو مثل البقاع الأربع، لأن في الزرع لم يكن شيء خطأ ولا الزارع كان قد أخطأ في بدء زرعه، إنما هناك بقعة الأرض التي تقبل هذا الزرع، فهذه البقعة كانت مداسة من الناس، مشيئات الجسد، لذلك لا يمكن أن تأتي البذرة وتغرس في قلب الإنسان، لا تتعدى الأذن أبداً، يأتي إبليس ويأخذ هذه البذرة فكان هذا الإنسان لا يسمع كلام الله.

وقال الرب عن البقعة الثانية، إن البذور سقطت على أرض حجرية محجرة، وإذا سقطت على تلك الأرض التي كانت كالصخر، ولئن كان هناك قليل من التراب يجعل تلك البذرة تنمو سريعاً، ولكن ليس لها عمق أرض لكي تثبت، يقول الرب: إن الشمس تشرق فتحرق تلك البذرة، لأن حتى الغرسة أو النبتة ليس لها عمق أرض، هؤلاء هم العاطفيون الذين يصفقون لكل شيء جديد، ولكل تعليم جديد ويعجبون به، والذين يقبلون المسيح بسرعة، ولكنهم باضطهاد ما، في ضيقة ما، حالاً ينكرون من آمنوا به، وهؤلاء كثيرون جداً في جيلنا هذا، وخاصة في الكنائس، يصفّق لكل جديد، ولا يفهم، ولا يسبر هذا التعليم الجديد الذي يعطى لنا كلمة الله، حتى كلمة الله التي نأخذها بسرعة بدون تفكير نخسرها بسرعة أيضاً. فأي قلق، أي ضيق، يجعلنا ننكر الله بالذات.

وأما البقعة الثالثة فكانت مليئة بالأشواك، سقطت البذرة بين الشوك نمت ونما الشوك معها أيضاً، عموماً يشبه الإنسان الذي يحاول أن يحيا حياته يقبل المسيح ويقبل العالم، يقبل أن يكون في نفسه مخافة الله وفي نفس الوقت أيضاً هناك خطايا محسوبة عليه لا يستطيع ولا يرغب في أن يتركها، يطلب من الله أن يسامحه على هذه الخطيئة المحبوبة لديه، وأنه مستعد أن يكمّل كل الشريعة لكن من أخطأ في واحدة أخطأ في الكل.

لا يمكن أن نكون للمسيح ولإبليس في آن واحد لا يمكن أن تكون بذرة في بقعة فيها أشواك كثيرة، الفلاح الكسلان ـ كما يقول مار أفرام السرياني ـ تنمو في حقله أشواك عديدة، وهذه الأشواك وهذه النباتات غير الصالحة أيضاً تسلب البذرة غذاءها وماءها وفي الوقت نفسه تلك الأشواك بدون أن يشعر الإنسان تجعل السنبلة فارغة، حتى إذا أتى الزارع ليحصد، يجد السنابل فارغة. هكذا يخدعنا إبليس، نقول: نستطيع أن نعيش عيشتين، أن نكون للمسيح ونكون لإبليس، لكن في النهاية نجد أننا لإبليس، المسيح ليس له شيء فينا لأن المسيح يقول: من أحب أباً أو أماً لا يستحقني، قال ذلك عن الأب والأم، فكم بالحري إذا كنا نحب الخطيئة.

فالأشواك هي هموم الجسد، هموم الفقر، وهموم الغنى، الفقير يهتم بكثير، كيف يعيش وكيف يصير غنياً وبالتالي يخسر حياته، والغني يهتم في كيف يزيد على الغنى غنى غيره أيضاً، وفي الوقت نفسه يهتم بأمور الدنيا وشهواتها وينهمك فيها ويخسر كل شيء.

أما البقعة الرابعة التي هي الأرض الجيدة فيسقط البذار فيها وبالصبر ينمو ويعطي ثماراً، ثماراً جيدة أضعافاً مئة ضعف وستين وثلاثين.

هذه هي الحياة مع الرب، ربما نيأس ولكن في هذا المثل ليس المهم الكميّة بل النوعية، ليس هناك يأس أبداً لأننا نستطيع حتى في البقاع الثلاثة أن نعود إلى المسيح، نستطيع أن نسمع الكلمة عندما يقدم لنا المسيح بالذات الزارع الذي مازال يزرع.

أي إنسان يحمل الإيمان في قلبه ويثمر يعطي هذا الإيمان لغيره، الذي يتقبل الكلمة يزرع بذرة أيضاً، بذرة الكلمة، كلمة الحياة والكلمة هو المسيح بالذات نلناه جميعاً، الأرض التي كانت قد ديست كطريق بين الحقول ممكن أن تحرث وممكن أن يحفر الإنسان هذا القلب الذي قد ديس بمشيئات الجسد، يحرثه بتوبة وبدموع لكي يصير أهلاً ليتقبل بذرة الإنجيل، لتقبل المسيح بالذات وتنمو هذه البذرة في بقعة مختلفة عما كانت عليه سابقاً أرض مليئة بالحجر التي عندما يسقط البذر على الحجر ينمو سريعاً كما علمنا المثل. هذه الأرض أيضاً إذا كان الفلاح مجتهداً ينقّي أرضه من هذه الحجارة والظلم، الإنسان الصالح ينقي قلبه من كل ما هو قاسٍ إن كان من ناحية الرحمة والمحبة وإن كان من القسوة التي تجعلنا لا نؤمن حتى بما نعطى من نعمة إلهية ولا نستقبل هذه البذرة بعمق إنما نقبلها كما نقبل أي شيء عابر وإذا نمت فنحن عاطفيون نتقلب على الزمن وإذا طرأ علينا أية شدة نترك حتى الإيمان في سبيل وقاية أجسادنا وأمورنا الدنيوية العابرة والزائلة أما الحياة ما بين الخطايا ما بين الهموم الكثيرة، هموم الفقر وهموم الغنى، أما المحاولة أن نعيش حياتين، حياة للمسيح وحياة لإبليس في آن واحد، ومن منا يقول إنه سيتوب في اللحظة الأخيرة كما تاب اللص الذي كان على الجانب الأيمن، ومن قال إننا سنحصل على فرصة حصل عليها ذلك اللص في آخر حياته، فنحن نرى الموت المفاجئ فنرى كيف أن الإنسان يفقد حتى إدراكه فترة طويلة ليس بإمكانه أن يتوب لذلك يجب أن يأتي ما كان عليه أن يؤتي به من أعمال صالحة بكل ما فيها تجاه الآخرين، لذلك إن كنا نعيش حياتين، إن كنا لا ننقي الأشواك من قلوبنا لا نتمسك بالمسيح يسوع وحده، معناه أننا قد هلكنا لأن هذه خدعة إبليس أنك بإمكانك أن تعيش في وسط أجواء خاطئة جداً في وسط الشكوك في وسط الموبقات وأنت تظن أنك تهزم إبليس، فلنحرث أحبائي قلوبنا بدموع التوبة ولنتمسك بإلهنا لنهيئ تلك القلوب، قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، روحاً مستقيماً جدد في داخلي، لنهيئ تلك القلوب وتلك النفوس لكي تنمو فيها بذار الإيمان بذور الكلمة المسيح بالذات لنكون من الوارثين لملكوته السماوي… آمين.

الأحد الذي يلي العنصرة (2)

«وكلمهم بأمثال قائلاً: خرج الزارع ليزرع»

    (متى13: 3ـ23)

كان قد مضى عشرون شهراً على ابتداء الرب يسوع تدبيره الإلهي العلني بالجسد، وهو يجول بين الناس، يصنع خيراً، ويجترح المعجزات، وينادي بالتوبة، وينشر تعاليمه الإلهيّة في الجليل واليهوديّة وحتّى السّامرة. ولأوّل مرّة ابتدأ يضرب أمثالاً بأسلوب جديد، ليُعلن فيه إرادته السّماويّة لأولئك السّامعين.

يقول كتبة الإنجيل المقدس (مت13: 1ـ 9)، و(مر4: 3 ـ9)، و(لو8: 5 ـ8)، وهم يدوّنون نصّ المثل الذي ضربه الرب يسوع، ويسردون مجريات الحدث الذي رافق ذلك.

فقد غادر الرب يسوع كفرناحوم إلى الساحل، وكانت الجماهير الغفيرة قد اجتمعت على السّاحل. ابتدأ يكلّمهم بأمثال، لعله نظر فرأى من بعيد زارعاً يزرع زرعه، فأشار إليه وقال للسامعين: خرج الزارع ليزرع، إن الأمثال التي ضربها الرب يسوع تتميَّز عن أمثال غيره من الناس، فهو لم يأت بأمثال على لسان البهائم، ولا إلى رموز غامضة إنما يأتي بتعليمه من صلب الحياة اليومية للإنسان ليقرب السماء وتعاليم السماء إلى أذهان البشر، فعندما رأى الزارع يزرع أشار إليه قائلاً: خرج الزارع ليزرع، فسقط البعض على الطريق فديس من الناس والبهائم، وجاءت طيور السماء والتقطته، وسقط البعض الآخر على الصخر، وإذ لم يكن له عمق أرض نبت، وعندما أشرقت الشمس أحرقته، وسقط البعض الآخر بين الشوك فنما الشوك وخنقه، ثم سقط البعض الآخر في الأرض الجيدة، فنما وأعطى ثمراً بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين، وختم الرب مثله قائلاً: «من له أذنان للسمع فليسمع».

استغرب تلاميذه فسألوه عن ذلك فأجابهم: «قد أعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماء، أما أولئك فأكلِّمهم بأمثال».

 وشرح الرب هذا المثل، استجاب تلاميذه وتفسيره المفتاح الذي يساعدنا على فهم جميع أمثاله، وتعلمنا من ذلك أن الزرع هو كلمة الله التي زرعها الزارع الذي هو نفسه الذي نزل من السماء لخلاصنا، لبذر بذور الحياة، أي «كلمة الحياة» في قلوبنا ونفوسنا، لتنمو إن كانت تلك القلوب مهيأة لتقبّل خلاصه الإلهي، والإيمان به فادياً للبشرية، إن كانت تلك القلوب نقية طاهرة صالحة وجيدة لنمو بذور الإيمان.

إن الله تعالى منذ أن خلق العالمين بكلمته ـ كما يقول الكتاب ـ فقد أعطانا الكلمة بوساطة الرسل والأنبياء عن طريق الوحي والإلهام أوصلها الله إلى البشر زرعها فكان من تقبلها، وكان من رفضها، وكانت البقاع الأربعة التي قال عنها الرب يسوع تماماً كما صارت في عهد تجسده وكما هي اليوم وستبقى وإلى الأبد، كلمة الله المسيح يسوع نفسه الذي هو الكلمة، وجاء وبذر كلمة الحياة، وسلم الأطهار وتلاميذه الأبرار ومن تبعهم وخلفهم ويخلفهم إلى الأبد سلطاناً أن يبذروا بذار كلمة الله لخلاص البشرية، ولكن المثل يريد أن يظهر  أولئك الناس لتقبل كلمة الله، فهناك أناس يشبهون الطريق، ولم يقصد الرب بالطريق هذه الطريق الرسمية التي إنما شقت ليسلكها الناس والبهائم، ولكنه قصد الطرقات التي تشقّ عادة بين الحقول قد يسقط عليها البذرة فتأتي طيور السماء وتلتقطها بعد أن يكون قد داسها بعض الناس.

عندما يسمع أحدنا «كلمة الله» فهو يأتي إلى الكنيسة لواجب ما، قد يأتي لفضول، قد يأتي ليستمع وينتقد، قد يأتي لغرض ما ويسمع الكلمة، ولكن قلب هذا الإنسان يكون مطروقاً من أغراض شتى، ومن أمور بعيدة عن طريق الله، ومن التمسك بأناس عديدين، والتمرغ بالشهوات الجسدية، لذلك فلم يكن هناك مكان لكلمة الله لتغرس في ذلك القلب، فيأتي إبليس حالاً لئلاً تنمو في تلك القلوب فالعيب ليس في الزارع الذي هو الله وكلمة الله ومن يرسله المسيح ليزرع هذه البذور، وليس في البذرة، والبذرة هي كلمة الله الحية بالذات، ولكن العيب هو في تلك البقعة من الأرض التي ديست بمشيئات الجسد، فلم تقبل كلمة الله. أما البذور التي سقطت على الأرض المحجرة أو الحجرية فهي التي نمت سريعاً لأنه لم يكن هناك تراب كافٍ، ولكن كان قليلاً جداً ولا عمق أرض يكفي لتستمد تلك البذرة رطوبة من الأرض، فنمت بسرعة. أولئك العاطفيون الذين يتقبلون الكلمة بسرعة، هذه الكلمة يطبقها على حياته الأدبية الروحية وهو يفتر بأن يعطي الثمار لكي يبقى في حظيرة المسيح في عداد أولئك الذين نالوا الخلاص بالكلمة بالمسيح يسوع ربنا، إن الزارع عليه مسؤولية كبيرة بأن يختار الكلمة أن تكون بذرة إلهية، كلمة حية هي كلمة الإنجيل المقدس، وأن يسمع الناس، فكيف يؤمنون إن لم يسمعوا، كما يعلمنا الرسول بولس، لكي تكون مسؤولية الخلاص على أولئك الذين سمعوا، فإن لم يتفاعلوا مع الكلمة يكونون في عداد أولئك الذين لهم آذان ولا يسمعون، ولهم عيون ولا يبصرون.

فماذا يفعلون إذا أرادوا أن يتوبوا ويخلصوا ويأتوا إلى المسيح ربنا، الأرض بإمكانها أن تتقبل الكلمة ولكن على أن تحزن بدموع التوبة والعودة إلى الله، الطريق ممكن أن تتقبل الكلمة، ولكن على أن تحزن بدموع ساخنة فتحرث وتهيّأ لتقبل الكلمة، الأرض المحجرة ممكن أن تنقى من حجارتها لتنمو فيها كلمة الله وكذلك الأرض التي قد وجد فيها الشوك ممكن أن تنقى من الشوك لتكون مهيأة لنمو كلمة الله كل ذلك أحبائي بالتوبة.

فلنفحص قلوبنا ونفوسنا وأفكارنا إن كنا مهيئين لتقبل كلمة الله ومتفاعلين مع هذه الكلمة لتعطي ثمارها كل ذلك بعودتنا إلى الله.

أسأله تعالى أن تكون آذاننا صاغية فرحة لسماع كلمة الله وأن تكون قلوبنا مهيأة لنمو كلمة الله فيها، لنعطي ثمار الروح، لنتاجر بالوزنات ونكون من الرابحين، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

عيد مار بطرس ومار بولس 

عيد مار بطرس ومار بولس

عيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس (1)

رسالة يعقوب (2: 14ـ 26)

فيلبي (1: 12ـ 30)

يوحنا (21: 15 ـ 19)

عيد مار بطرس ومار بولس

«فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك».

    (متى 5: 23 و24)

الفصل الذي تُلِي على مسامعكم في بدء القداس، كان الفصل الحادي والعشرين من الإنجيل المقدس بحسب الرسول يوحنا، رأينا فيه الرب يسوع بعد قيامته، يظهر للمرّة الثالثة على بحيرة طبرية. وكان بعض التلاميذ، بطرس وتوما ونثنائيل وابنَي زبدى وغيرهم يصطادون ولم يتمكنوا أن يصطادوا سمكة واحدة طيلة الليل. وإذا بالرب يسوع يقف على الشاطئ، يقول لهم: يا غلمان: ألعلَّ عندكم أداماً؟ أجابوه لا، فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا، فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس هو الرب فلما سمع سمعان بطرس أن الرب اتزر بثوبه لأنه كان عرياناً، وأما التلاميذ الآخرون فجاؤوا بالسفينة لأنهم لم يكونوا بعيدين عن الأرض إلا نحو مائتي ذراع وهم يجرون شبكة السمك. فيقولون له: إنهم قد سهروا اللّيل كله ولم يصطادوا شيئاً. ويرشدهم إلى جهة اليمين ليصطادوا، فاصطادوا مائة وثلاث خمسين سمكة، وكادت الشبكة أن تتمزق، وناداهم إلى العبر وأطعمهم مما كان عنده. أظهر الرب نفسه مرّات عديدة وهو حي، ولكن في هذه المرة كانت له غاية سامية، هي تعليم تلاميذه كيف يتفكّرون في أمور الكنيسة، ثم ليجعل من هؤلاء التلاميذ مثالاً للمؤمنين بالمحبة، وخاصة المغفرة وقد غفر لبطرس وأعلن له غفرانه، وقبوله له والعودة إلى ما كان قد وهبه إيّاه عندما أوحت إليه السماء فنطق باسمها معلناً الإيمان بالمسيح يسوع ابن الله الحي. بعد أن تعشّوا التفت الرب يسوع إلى بطرس ليقول له باسمه القديم سمعان بن يونا، لا باسم الرتبة واللّقب الجديد الذي أعطاه إيّاه (بطرس) قال الرب: يا سمعان بن يونا، أتحبّني أكثر من هؤلاء، قال له: نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك. في السابق كان سمعان وهو بطرس، عندما ذكر الرّب عن آلامه وعن خيانة التلاميذ له وتركِهم إياه بتجبّر، بتكبّر، بعجرفة. قال له: إذا تركك الجميع لا أتركك، وقال له الرب إنه سينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الدّيك. وهكذا كان. الآن ثلاث مرات الرب يسوع يكرِّر على بطرس ويسمّيه سمعان، اسمه الأصلي: أتحبّني؟ وبتواضع المحبة لا تكون محبة ما لم تقترن بالتواضع، وإلاّ أصبحت عجرفةً وكبرياء وبعداً عن المسيح بالذات الوديع والمتواضع القلب. يقول له: أتحبني؟ سمعان طبعاً لأنه كرّر عليه السؤال ثلاث مرّات تألّم جداً قال له: أنت تعرف يا رب أنني أحبك، أنت تعرف كلّ شيء حينذاك استحق بطرس أن ينال الرّتبة السامية، رتبة الرّعاية. إرعَ خرافـي، إرعَ نعاجي، إرعَ كباشي. وليس هذا فقط بل: اتبعني، لأنه من يرعى يجب أن يتبع المسيح ويتمثّل بالمسيح. فمحبّتنا لله أيها الأحبّاء قدوةً بالرسول بطرس تعلمنا أن نخدم المسيح بطهر ونقاء، ولا نفضّل أنفسنا على غيرنا، ولا نبتعد من الذين قد أُعطوا أن يخدموا المسيح إخلاصاً للمسيح، لاكما ابتعد سمعان بطرس لأننا ضعفاء. هذا المسكين عندما جرّبه الشيطان أنكر المسيح، فثلاث مرّات كرّر عليه المسيح أما التلاميذ السؤال: أتحبني؟ وثلاث مرّات أثبت من كل نفسه وقلبه وبتواضع ووداعة أنه يحب المسيح. حينذاك استحق أن يرعى الخراف والنعاج والكِباش أيضاً، وبعدئذ يقول له اتبعني، أي تمثّل بي وكُنْ مثلي.

بطرس كان أول التلاميذ، أول من دُعي مع أخيه أندراوس ليكونا صيادَي الناس. بطرس كان الأول أيضاً بالنسبة إلى تأسيس الكنيسة. فاعترف بالمسيح يسوع واستحق أن ينال الطوبى، لأن المبدأ الذي أعلنه ومن السماء بأن المسيح هو ابن الله الحي صار أساس كنيسة المسيح المقدّسة. بطرس أحبائي: جاهد جهاداً حسناً، قاد الكنيسة. اعتُبِر مؤسِّساً للكرسي الأنطاكي، وبالحقيقة عندما نعيّد للرسول بطرس ولبولس أيضاً مؤسّسَي الكرسي الأنطاكي وخادمَيه، إنما نُعيّد لتأسيس هذا الكرسي المجيد. أهدافه روحية سامية، لأنه يمثّل الكنيسة الأولى في أنطاكية. فبطرس سعى في أورشليم لخدمة الرب. يوم الخمسين رأيناه شجاعاً بعد أن حلّ عليه الروح القدس وعلى التلاميذ وعلى كل الموجودين في العليّة رجالاً ونساءً وأطفالاً. خرج بطرس وبكل شجاعة إلى أولئك الذين جاءوا من أطراف الأرض وسمعوا الصّوت الذي حدث يوم حلّ الرّوح على التلاميذ، وجاءوا ليستفسروا ووجدوا التلاميذ كلٌّ يتكلم بلغته فظنّوا أنهم قد شربوا سلافة. ولكن بطرس وقف يقول لهم: إن هذا اليوم الذي قال عنه يوئيل: بعد ذلك يحلّ رّوحي على كلّ بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبّابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً. هذا هو يوم ميلاد الكنيسة. بطرس بعد أن حلّ عليه الرّوح القدس وبّخ اليهود وأعلن العقيدة السامية عن آلام الفادي الذي يجب أن يموت أيضاً ليفدي البشرية، كما أعلن إيمانه بقيامته. بطرس هذا في ذلك اليوم جذب بشبكته الإنجيلية ثلاثة آلاف نفس آمنوا بالمسيح، وُبِّخوا من بطرس، طلبوا من التلاميذ: ماذا نفعل أيها الأخوة؟ توبوا. واليوم علينا أن نعترف ونتوب، لنعرف النعمة العظيمة التي أُعطيَت لنا، نتجاهلها بكبريائنا، بانهماكنا في أمور الدنيا أصبحنا غريبين عن المسيح، لأن محبة المسيح وفداءه لنا قد تجاهلناهما تماماً، ونحن إن لم نحب المسيح ليس هناك خلاص، يجب أن نبادله هذه المحبة.

أجل أيها الأحباء! في ذلك اليوم وُلِدَت الكنيسة. وبطرس مع التلاميذ سميوا كنيسة المسيح، رأينا مثلاً بعد اضطهاد التلاميذ في أورشليم، وذهاب بطرس إلى أنطاكية وكان بولس قد سبقه. نرى هذه الكنيسة بسيطة جدّاً، الفقراء والأغنياء معاً يكسرون الخبز ويشكرون على كل شيء، خاصةً وأنهم قد نالوا الفداء بالمسيح يسوع ربنا. هذه الكنيسة في أنطاكية ظهرت، وأمجاد أنطاكية جعلتها أن تنتشر في أنحاء العالم.

رأينا شخصاً آخر معادلاً لبطرس، واعتبر أحد هامتَي الرسل، وهو بولس. هذا بولس أيها الأحباء: كان عدوّاً لدوداً للكنيسة وللمسيح، اضطهد أتباع المسيح وقتلهم، ساقهم إلى السّجون، عذّبهم، لأنه كان يظن أن من كان خارجاً عن نطاق تعاليم موسى وتعاليم الآباء، اليهود والفرّيسيّ يعتبر هذا الإنسان هالكاً، ولذلك أرادهم أن يتركوا المسيح. بولس يُقال عنه وهو شاول اسمه الأصلي، أنه كان فرّيسيّاً، درس منذ نعومة أظفاره التوراة وتقاليد اليهود – التلمود هذا ما يسمونه- عند قدمَي غملائيل المعلم المشهور يومذاك للناموس الموسوي. شاول هذا اعتبر فرّيسيّاً وهذه رتبة سامية ينالها الإنسان في تلك الأيام خاصةً، ويعتبر عالماً للناموس ويحترمه الناس. والفريسيّة لا تعني أن الإنسان خارج فيها عن نطاق موسى والأنبياء، بل ككل رتبة وككل ناموس وكل شريعة مدنيّة أو دينيّة، عندما ينال أحد رتبة سامية لا يستحقها يحيد عنها. الفريسيّون العديد منهم حادوا عن شريعة موسى، كانوا فقط متظاهرين. وهكذا علينا عندما نحب الرب أن نحبه من كل قلبنا، من كل نفسنا وإرادتنا. نحبه في كل حين، لا نحبه فقط عندما نأتي إلى الكنيسة لنصلي، ونظهر محبتنا للرب. لا نحبّه فقط أيها الأحباء عندما نشعر بضيق أو اضطهاد أو تجربة أو مرض، فنطلب منه الإعانة والمساعدة. إن أحببناه يجب أن نكون على علاقة تامّة معه دائماً، وإلاّ أصبحنا مرائين كالفرّيسيين، هذه المراءاة ظهرت في كل الفريسيين والرب وبّخهم مرات عديدة لأنهم لم يكونوا في كل إرادتهم، في كل نفسهم لم يكونوا مع الرب في محبة صافية، صادقة في كلّ شيء.

في الحقيقة شاول الطرسوسي كان محباً للرب، ولكن ضالاًّ بتعاليم آبائه، ولابد أنه سمع بالمسيح يسوع لكنه لم يرَه بالجسد. لابد أنه سمع أن هذا كما قالوا عنه ضد ناموس موسى، والمسيح قال: لم آتِ لأنقض الناموس بل لأكمّله. لابد أيضاً أنه سمع أنه صُلِب ومات ففرح لأن اليهود قد تخلصوا من عدو لهم بحسب ظنّه. ولكن الرب يرانا جميعاً ويرى كل واحد منّا، ويعرف ما في قلوبنا ونيّاتنا وأفكارنا إلى جانب أعمالنا. لذلك رأى في شاول ما سمّاهُ الرب إناءً مختاراً، يحمل اسمه أمام الملوك والرؤساء وبَني إسرائيل أيضاً، في كل مكان. لذلك ظهر له بالقرب من مدينة دمشق، اصطاده بشبكته الإنجيليّة الإلهية. كان شاول لم يكتفِ باضطهاد المسيحيين في أورشليم، بل أخذ رسائل من رؤساء الكهنة وكان في طريقه إلى دمشق لكي يضطهد أتباع المسيح فيها. قبل أن يصل إلى دمشق، ظهر له المخلّص، نورٌ باهر فخاف الناس الذين كانوا مع شاول، انبهروا شاول وعيناه مفتوحتان لم يبصر بعد أن أشرق ذلك النور. صوت جاءه من السماء: شاول شاول لماذا تضطهدني؟ من أنت يا رب لأضطهدك؟ أنا يسوع الناصري الذي تضطهده. صعب عليك أن ترفس مناخس. ماذا أفعل؟ أمره أن يدخل إلى المدينة ليُقال له ماذا يفعل، والذين معه سمعوا الصّوت، رأوا النور ولم يعرفوا ماذا كان ذاك. شاول وقد أصيب بالعمى، بالعمى الجسدي. ولكن بصيرته استنارت. بدأ يوبّخ نفسه. إذن فمن يضطهد أتباع المسيح يضطهد المسيح بالذات، فقال شاول في قلبه: «أنا لم أضطهد يسوع المسيح شخصيّاً، اضطهدتُ أتباعه». إذن فيسوع الذي علمتُ أنه قد مات على الصليب ودُفِن هو حي. حقيقة ما قالوا عنه أنه قد قام من بين الأموات، كان بارّاً. سألته: ماذا أفعل؟ لأدخل المدينة وأرى. في المدينة كان تلميذ اسمه حنانيا أحد السبعين. حنانيا أُعلِن له من الرب أن يذهب إلى الطريق الذي يُدعَى المستقيم وهناك يجد شاول. حنانيا ارتعب عندما سمع اسم شاول، ولكن الرب أمره أن يذهب، لأن هذا قد اختير ليكون إناءً مختاراً للرب. ذهب ووقف أمامه. شاول أخي قال له، الرب أرسلني إليك لتبصر، صلّى عليه. سقطت قشور من عينيه، قشور التعصب، قشور النِفاق، قشور المراءاة الفرّيسيّة … لذلك عندما نقول عن إنسان ما أنه فرّيسي، نعني أنه إنسان منافق يدّعي أنه يحب الله، ولكنه لا يحب الناس. سقطت قشور التعصُّب من عينَيه، رأى. رأى أن المسيح هو حقاً مخلص العالم، وآمن واعتمد حالاً على يد حنانيا وصار إناءً مختاراً، وأعلن أن المسيح حقّاً هو ابن الله كما كان قد أعلن بطرس. شاول دُعي إلى أنطاكية لأن أورشليم كانت المكان الذي لم يتمكّن المؤمنون أن يُعلنوا فيه ذلك الإيمان بالمسيح يسوع. في أنطاكية رأى شاول أن هذه الكنيسة على بساطتها، كانت كنيسة المسيح حقاً، كانت هيكل المسيح النقي الطاهر. وكان يرى أن كل شخص فيها كان حقّاً مسيحاً صغيراً، يقتدي بالمسيح، هيكلاً للروح القدس كما ذكر الرسول بعدئذ، على أننا يجب أن نكون هياكلَ طاهرةً للروح القدس (1كو6: 19). شاول رأى كلّ ذلك. ومن هناك انطلق إلى العالم ليبشّر، ولكن في دمشق عندما دُعي من الرب صار كله للرب بضميره، بإرادته، بجسده، بروحه صار للرب. واحتاج إلى تأمّل، فيقول الإنجيل المقدس في سفر أعمال الرسل أنه ذهب إلى العربية. كم يحتاج الإنسان وخاصة من كان سيرعى كنيسة الله أن يكون في الخلاء، الخَلاء للامتلاء بالروح القدس، وبعدئذ شاول الذي كان قد تثقّف ثقافة دنيويّة، وتجنّس بالجنسيّة الرومانيّة، أي من الأشراف الذين يعيشون في المملكة في أنحاء سورية. هذا شاول لم يرَ التلاميذ كافة، بل يقول أنه ذهب إلى أورشليم وبقي أسبوعَين، وعندما التقى بطرس، بطرس هذا الشيخ الذي كان صيّاداً للسمك، وكانوا يظنون أنه لا يعرف شيئاً. بل أيضاً قيل عنه وعن الرسل إنهم كانوا أميين.

لم يكونوا أُميين، بل كانوا فاهمين الكتاب المقدس، بطرس كان من الغيارى الذين كانوا يدرسون النبوّات وينتظرون مجيء المسيح. وبطرس البسيط في الأمور الدنيويّة والتي تُعَد جهالة بالنسبة للروح. بطرس هذا كان للمسيح بكليته فجاء بولس العالِم الكبير، ليجثو أمامه ليحدثه عن المسيح يسوع الذي رآه بعينَيه، سمعه بأذنه، الذي عرفه معرفة تامّة وأحبه حتى الموت، موت الصليب لأنه في سبيل الإيمان بالمسيح حُكِم على بطرس أن يُصلَب، وطلب ألاّ يُصلَب إلاّ مُنَكَّس الرأس، ليس كربّه وإلهه يسوع المسيح وهكذا كان.

كم نتعلم عندما نتوقّف في محطّات سريعة قصيرة في سيرة هذين الرسولَين العظيمَين.

فبولس أيضاً في كل جهاده بتواضع، بأتعاب، بمشقات، نشر البشارة الإنجيلية بعد أن كان عدوّاً للمسيح، أصبح جنديّاً صغيراً في أمرة المسيح، بعد أن يعتبر تلك الطريق، طريق المسيح. المسيح هو الطريق والحق والحياة (يو14: 6). اعتبر أنها الطريق الوحيدة التي توصل الإنسان إلى ملكوت السماوات. وأخيراً حُكِم عليه بالموت من نيرون الطاغية في اليوم نفسه الذي استشهد فيه بطرس الرسول. قُطِعت رأس بولس أيضاً بحدّ السَّيف، وأُعلِنا عمودَين للكنيسة المقدّسة وهامتَين للرسل وتتشفّع بهما الكنيسة المسيحية في كل مكان دائماً وخاصةً في مثل هذا اليوم في التاسع والعشرين من حزيران.

أسأل الرب الإله أن يؤهّلنا جميعاً أن نقتدي بهما جميعاً، بالجهاد، بنشر البشارة،. كنيستنا السريانية، كنيسة سوريا الأولى، التي تحمل هذا التراب. تفتخر وتعتزّ بأولئك لا للأمجاد التي نالوها في الدنيا، بل لأنهم كانوا أتباع المسيح الصالحين، الحقيقيين، غير المرائين، غير الدجّالين. أحبوا المسيح محبّة تامّة وأحبوا بعضهم بعضاً في المسيح يسوع ربنا. فإذا وُجِّه إلينا السؤال نفسه الذي وجهه الرب لسمعان بطرس: أتحبني؟ أتحبني أكثر من هؤلاء؟ العديد سيجاوبون: نعم أحبك، لكن أين الصّدق؟ أين الاستقامة؟ لا يمكن أن يتجزّأ مبدأ المحبة. إن أحببنا الله، إن أحببنا المسيح يسوع يجب أن نسير بموجب شريعته الإلهية، يجب أن نكون له وحده، وفي كل أمورنا نشهد له في أعمالنا الخاصّة والعامّة، الرسميّة والشعبيّة، في عائلتنا، في كنيستنا، أن نكون شهوداً صادقين للمسيح يسوع ربنا لكي نستحق مع الرّسولَين أن ننال المجد.

بطرس صُلِب منكَّس الرأس، لأنه قال له بعد أن أعلن محبّته: اتبعني. فتبعه حتى الموت. بولس الذي استشهد في سبيل المسيح يسوع. كان قد قال وهو يعرف أنه قريباً سينتقل إلى الخدور العليا: جاهدت الجهاد الحسن، أكملتُ السعي، حفظتُ الإيمان وأخيراً قد وُضِع لي إكليل البِر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديّان العادل (2تي 4: 7-8). فلنقتدِ أحبائي بالرسولَين لننال هذا الإكليل العظيم. وكل عام وأنتم بخير.

عيد مار بطرس ومار بولس (2)

أيها الأحباء. بعد الانتهاء من قراءة الإنجيل المقدس، رتل الآباء الرهبان والكهنة والشمامسة ترتيلة لأحد ملافنتنا العظام وهي: ليتمجَّد ابن الله الذي سلطانه يشمل البحر واليابسة فقد اختار من على شاطئ البحر بطرس رسولاً له وكاروزاً ومن على مفرق الطرق بولس ليكون كارزاً للأمم ليتمجد اسم الله. بدعاء هؤلاء ننال البركة.

أحبائي نعيّد عيد مار بطرس ومار بولس ونتأمّل بمحطات نتوقف عندها بسيرة هذين الجهبذين القديسين العظيمين اللذين دُعيا بهامتَي الرسل.

بطرس أول الرسل بعد أندراوس أخيه، نقول كان بسيطاً نقول كان صياداً ولكن علينا أن نفهم أن كل إنسان من شعب العهد القديم كان منذ السادسة من عمره يدرس الكتاب، ويتعمّق أيضاً في النبوءات وينتظر مجيء ماسيا وكان لابد أن يمتهن مهنة ليعيش عيشة كرامةٍ في كل الظروف التي تطرأ على البلاد. كان تلميذاً ليوحنا المعمدان، في عِداد أولئك الغيارى الذين كانوا ينتظرون مجيء ماسيّا بفارغ الصبر. لابد أنه سمع شهادة يوحنا عن مجيء المسيح وعظمة المسيح ولابد أنه أيضاً تبع المسيح واستمع إليه، وشاهده يجترح المعجزات، والرب يعرف كل إنسان، يقرأ ما في فكر الإنسان وقلبه، وعرف سمعان وهذا اسمه عرفه معرفة جيدة. مرةً أراد الرب أن يعظ الجمهور، فدخل سفينة سمعان. كان لسمعان سفينة وكان وضعه المادي جيداً، ولئن كانت الدار التي يسكنها دار حماته التي شفاها الرب من الحمَّى أيضاً، لكنه كان ميسوراً، دخل المسيح سفينته، ومَنْ كان يملك سفينة للصيد كانت حالته جيدة جداً، وأرشده أن يلقي الشباك في الجهة اليمنى، فامتلأت سمكاً كبيراً وصغيراً، فسجد له سمعان وترجّاه أن يغادر السفينة قائلاً: أنا رجل خاطئ، اعترف بقوة المسيح الإلهية.

وفي يوم من الأيام كان المسيح سائراً على شاطئ بحيرة طبرية ورأى سمعان، فدعاه: هلم ورائي، حالاً لبّى سمعان الدعوة، فالدعوة لم تكن مفاجئة، كان سمعان قد تعرّف على المسيح، وكان المسيح قد عرف سمعان جيداً، ولكن أراده أن يضحي بكل شيء، أن يتبعه كليّاً فترك سمعان شباكه وسفينته وتبع المسيح ليصير صيّاداً للناس، لا صياد سمك.

رأينا سمعان وهو يتبع المسيح، يحبّه محبة عظيمة، ويعترف به أنه ابن الله، رأينا سمعان الذي لبّى نداء المسيح فتبعه، لبى أيضاً نداء السماء فاعترف بأن المسيح حقاً هو ابن الله الوحيد، لذلك طوّبه المسيح: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك بل أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك أنت بطرس (ܟܐܦܐ) بالسريانية، الحجرة وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان بأن المسيح هو ابن الله (بترا) باليونانية (ܫܘܥܐ) بالسريانية. أنت بطرس وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان بأنَّ المسيح هو ابن الله أبني كنيستي على هذا المبدأ الإلهي،  وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح السماء، ملكوت الله، ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء (مت16: 16 ـ19)، هذه سلطة هامة الرسل بطرس، أعطاها المسيح لبطرس وحده، بعدئذ أعطاها لسائر الرسل، سلطان ربط الخطايا وحلها. نال هذه الطوبى سمعان وسار مع المسيح. ولكن أحياناً عديدة نرى أن العِظام، أبطال الروح يسقطون، فتأتي التوبة. سمعان افتخر بنفسه مرةً بذاته، وهذه خطيئة البر الذاتي تحدث دائماً، يقول الآباء: «كم من أبطال الروح فاز بهم العالم وانتصر عليهم». هكذا سمعان يوم أنكر الرب، والرب يتألم أمام أولئك الطغاة رؤساء الكهنة والكتبة وغيرهم، في تلك الليلة المظلمة، أنكر بطرس المسيح أمام جارية حقيرة، ولكنه عندما تذكّر وهو يفتخر بنفسه بأنه سيكون مع المسيح دائماً إلى الموت، يتذكر نبوءة المسيح عنه فيندم، إذ صاح الديك مرتين وقد أنكر المسيح ثلاث مرات.

بكى فخرج، وإذا بنهار أمامه، هذه هي التوبة التي علمنا إياها سمعان، حتى إذا سقط الإنسان بنكران المسيح بالذات، إذا ما تاب وبكى وندم وعاد إلى الله، يرحمه الله، ويعيده إلى رتبته.

كان بين الأوائل الذين اعترفوا بقيامة المسيح، كُلِّف أن يجمع رفاقه فجمعهم، كان قد نال نعمة عظيمة عندما ظهر له المسيح وللتلاميذ، وثلاث مرات يسأله: أتحبني أكثر من هؤلاء؟ وبتواضع يجيب: أنت تعلم أني أحبك، ولم يفتخر فيقول أكثر من هؤلاء، (يو21: 15ـ 18) ثم يعيد إليه رتبته السامية ليبقى هامة الرسل.

فيوم حلَّ الروح القدس على التلاميذ، على الجميع، على بطرس هامة الرسل، على النسوة وفي مقدمتهن أم يسوع مريم، أصبح بطرس في المقدمة ليوبّخ اليهود لأنهم قتلوا المسيح، وليدعوهم للتوبة ليعودوا إلى المسيح وينالوا الخلاص بالاعتماد باسمه، سمعان بشر في أماكن عديدة ولكن قد أسّس خاصة كرسينا الرسولي الأنطاكي، لذلك عندما نعيّد لسمعان بطرس، إنما نعيد للكرسي الرسولي الأنطاكي الذي جلس عليه بعد بطرس أيضاً بطاركة عظام، وكانوا مثل سمعان قد حملوا مشعل الإنجيل المقدس إلى العالم كله، وأناروه بنور المسيح.

سمعان هذا الذي تاب وعاد إلى الله، بل أصبح مثالاً لكل من يتوب، سمعان هذا كلّفه نكرانه للمسيح غالياً، فعندما بشّر حُكِم عليه بالموت صلباً في روما التي لم يذهب إليها إلا لكي يموت، طلب أن يُصلَب منكَّس الرأس، لا كالمسيح يسوع وهكذا كان. وأصبح شفيع البيعة وهو مؤسس الكرسي الأنطاكي، وهو الذي كان مع هامة الرسل بولس يسعيان في نشر البشارة الإنجيلية. فإذا عُين بطرس أولاً للختان، عُين بولس للغُرْلة، أي للأمم.

وبولس أحبائي. لا بد أن نتوقف ولو في محطات صغيرة في سيرته السامية، وهو يبشِّر بالمسيح. كان مُضطَهِداً للمسيح ولأتباع المسيح، وكان حارساً لثياب راجمِي استفانوس، عندما رُجِم في سبيل إيمانه بالمسيح يسوع، راضياً بقتله، ولكن وقد أخذ رسائل كما يعلمنا سفر أعمال الرسل، أخذ رسائل من رؤساء الكهنة في أورشليم ليأتي إلى دمشق ويضطهد أولئك الذين كانوا أتباعاً للمسيح يسوع، حينذاك ظهر له المسيح في طريق دمشق، شاول شاول قال له، لماذا تضطهدني؟ ربما لم يرَ شاول، وهذا اسم بولس سابقاً. ربما لم يرَ المسيح بعينَيه بالجسد، لكنه قد سمع عنه، رآه عندما ظهر له في طريقه إلى دمشق، من أنت لأضطهدك يا سيد؟ أنا يسوع الناصري.

نحن نعلم أن شاول اضطهد أتباع المسيح، ونعلم من هنا أن أتباع يسوع الحقيقيين الصالحين لن يتخلّى عنهم يسوع أبداً، فإذا اضطُهِدوا يعتبر نفسه أنه الذي اضطهد هو بالذات.

شاول لماذا تضطهدني؟ صعب عليك أن ترفس مناخس. من أنت؟ أنا يسوع الناصري الذي تضطهده. يطلب منه: ماذا أفعل؟ يرشده ليدخل إلى المدينة وهناك يُقال له ماذا يجب أن يفعل. أصبح أعمى، الذين معه سمعوا الصوت لكنهم لم يروا شيئاً. أُخِذ إلى دمشق كما أرشده الرب إلى حنانيا، ذلك التلميذ الذي كان قد أرسل إلى دمشق مبشِّراً بالمسيح وكان أحد السبعين، حنانيا علمه ما هو الدين المسيحي، ما هي مبادئ الإيمان. وصلى عليه وعمّده وسقطت عن عيني شاول أشياء كأنها قشور، حينذاك رأى شاول، رأى جيداً، سقط التعصب الفريسي، سقطت البغضة، الحقد على أناس آمنوا بالمخلص الذي تنبأت عنه النبوءات، ورأى جيداً وبشَّر باسم المسيح.

اضُطهد أكثر من جميع الرسل، اعتبر رسولاً، بل أيضاً شارك الرسول بطرس ليكونا معاً هامتَي الرسل، بشر في أماكن عديدة، كتب رسائل، واضطهد وأخيراً أيضا استشهد في اليوم نفسه الذي استشهد فيه الرسول بطرس في التاسع والعشرين من حزيران سنة 67م بأمر نيرون الطاغية وفي روما بالذات، وقطع رأسه بحد السيف، صلب بطرس وقطع رأس بولس وكانا شهيدين، وكانا ممن نادوا بالمسيح يسوع مخلصاً.

ليؤهِّلنا الرب أن نلبي دعوته كما لبى تلك الدعوة الرسولان بطرس وبولس. أن نتحمل إذا اقتضى الأمر في سبيل الإيمان به، كما تحملا المشقات بل أيضاً أن نبذل حتى الدم في سبيل المسيح يسوع والإيمان به الذي سُفِك دمه من أجلنا على الصليب لنقوم معه قيامة الحياة ونعمته تشملكم دائماً أبداً. وكل عام وأنتم بخير.


عيد مار بطرس ومار بولس (3)

محبة المؤمن للرب يسوع أساس التلمذة الحقيقية له

«فبعد ما تغدَّوا قال يسوع لسمعان بطرس:

يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء»

 (يو21: 15)

 

كان الرب يسوع يظهر لتلاميذه بعد قيامته من بين الأموات بأشكالٍ شتى، وفي أوقاتٍ متباينة ليلاً ونهاراً، وأماكن مختلفة، وكان ظهوره على شاطئ بحيرة طبرية يُعدّ السابع بعد قيامته، والثالث بالنسبة إلى ظهوره لمجموعة من تلاميذه. كان الرب واقفاً على شاطئ بحيرة طبرية، وكان سمعان بطرس وتوما ونثنائيل وابنا زبدي وتلميذان آخران في سفينة، كانوا قد تعبوا الليل كله ولم يصطادوا شيئاً وفي الصباح الباكر رأوا إنساناً على الشاطئ وسمعوه يناديهم قائلاً: يا غلمان، أعندكم أدامٌ؟ أجابوه لا، فقال لهم: ألقوا الشبكة من جانب السفينة الأيمن فتجدوا، فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك، فقال يوحنا لبطرس: هو الرب، فلما سمع سمعان بطرس أنه الرب اتزر بثوبه لأنه كان عرياناً وألقى نفسه في البحر، أما التلاميذ الآخرون فجاءوا بالسفينة إلى الساحل لأنهم لم يكونوا بعيدين عن الأرض إلا نحو مائتي ذراع وهم يجرون شبكة السمك (يو21: 5ـ 8) فلما خرجوا إلى الأرض جذبوا السفينة، وبعدئذ أحصوا السمك الكبير فكان عدده مائة وثلاث وخمسين سمكة ما عدا السمك الصغير، ووجدوا أمام الرب ناراً وسمكاً مشوياً وخبزاً فقال لهم: قدموا مما عندكم، ثم قال لهم يسوع: هلموا تغدوا، فبعدما تغدوا قال يسوع لسمعان بطرس: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء، قال له نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك، قال له: إرع خرافي. قال له أيضاً ثانيةً: يا سمعان بن يونا أتحبني، قال له: يا رب أنت تعلم أني أحبك، قال له: إرع غنمي، قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا أتحبني، فحزن بطرس لأنه قال له ثالثةً أتحبني، فقال له: يا رب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك، قال له يسوع: إرع غنمي.

تألم سمعان بطرس لأن الربّ يسوع سأله ثلاث مرات أتحبني، وقد كرر الرب هذا السؤال ثلاث مرات؟ ليذكّر سمعان بنكرانه الرب يسوع ثلاث مرات، فيعلن الآن ندامته وتوبته ويؤكد محبته للرب.

كان ظهور الرب يسوع في هذه المرة على شاطئ بحيرة طبرية، وإذا عدنا إلى الوراء نحو ثلاث سنوات، نجدُ يسوع ماشياً على ذلك الشاطئ ذاته، ونرى سمعان وأندراوس أخاه، ثم بعدئذ نرى أيضاً يعقوب ويوحنا ابني زبدي، ونسمع الرب يدعو سمعان كما دعا رفاقه أيضاً ليتبعوه.

ونرى سمعان بطرس مدة السنوات الثلاث وهو يتبع الرب، كان أحياناً يصيب في كلامه وهو يسبق الجميع في الكلام، وأحياناً عديدة يخطئ، ولكن أهمَّ حادث حدث له كان في ضواحي قيصرية فيلبس عندما اعترف بالمسيح يسوع أنه ابن الله الحي، والطوبى التي أعطاها الرب له قائلاً: «إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت (كيفا ܟܐܦܐ) بطرس وعلى هذه الصخرة (شوعو ܫܘܥܐ) أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 18)، ولكن بطرس أخطأ على أثر إعلان الرب يسوع لتلاميذه عن آلامه وموته وقيامته حيث قال بطرس للرب: «حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا، فقال له الرب: إذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس» (مت16: 22 و23).

وكان لسمعان بطرس مكانة خاصة لدى الرب يسوع فقد اختاره الرب مع ابني زبدي يعقوب ويوحنا، فشاهدوه يتمجّد على جبل التجلي ورأوه يقيم ابنة يائيروس بعد أن ماتت وشاهدوه أيضاً في البستان يتألم، وسمعوه يقول للآب السماوي: «لتكن إرادتك لا إرادتي» (لو22: 42)، وهكذا سلّم إرادته، بيد الآب السماوي، ونرى خطأ سمعان الذريع عندما كان يسوع يحاكم أمام رئيس الكهنة وكان سمعان بطرس خارجاً يصطلي على النار مع بعض الواقفين هناك ومن جملتهم جارية قالت عن سمعان: «وهذا كان معه أي مع الرب يسوع فأنكره سمعان قائلاً لست أعرفه يا امرأة» (لو22: 56 و57) فقد أنكر سمعان الرب يسوع ثلاث مرات، ثم ندم بطرس وأخذ يبكي وينتحب تائباً إلى الله لأنه قد أخطأ خطيئة عظيمة (لو22: 56)، لعله تذكر حينذاك ما كان قد قاله الرب لتلاميذه: «من أنكرني قدام الناس يُنكر قدام ملائكة الله» (لو12: 9)، هل تذكر ما قاله الرب له: «إنه سينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين» (لو22: 34).

هل تذكَّر كل ذلك؟

لابدّ أنه قد تذكر ولذلك ندم وبكي وتاب إنه ثلاث مرات أنكر الرب أمام جارية بسيطة، ولذلك لكي يبرهن له الرب أنه قد قبل توبته وأعاد إليه امتيازات الرسولية التي منحه إياها على شاطئ بحيرة طبرية، يوم دعاه ليكون صياداً للناس أي مبشراً يصطاد أولئك الهالكين ليكونوا في عداد المؤمنين بالرب يسوع.

أمام جمر النار كان بطرس قد أنكر المسيح، وعلى شاطئ بحيرة طبرية بالذات وجمر النار كان موجوداً يؤكد سمعان بطرس محبته للمسيح، فيُعيد له المسيح يسوع امتيازات رتبته الرسولية بعد أن أكّد سمعان للرب يسوع محبته له التي تُعد أساساً للتلمذة للمسيح، ثلاث مرات يسأله: أتحبني؟ لكي يكفر بطرس عن خطيئته عندما أنكر المسيح ثلاث مرات وندم على ذلك، وليؤكد للمسيح أنه يحبه، ولم يفقد هذه العلاقة السامية، علاقة المحبة. ودعاه يا سمعان بن يونا، كان قد دعاه بطرس الحجر (كافا) ودعا أيضاً المبدأ الذي أعلنه بطرس صخرة، فصار المبدأ العقيدي صخرةٌ بنى عليها الرب كنيسته بقول لبطرٍس: «أنت كيفا، أنت الحجر، وعلى هذه الصخرة (شووعا) (بترا) أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 18). أما الآن فبعد أن فقد هذه الصفة بنكرانه المسيح قال له: يا سمعان بن يونا ـ دعاه باسمه الأصلي ـ والرسول بطرس عندما أعيدت إليه الرسولية على بحيرة طبرية يعود ليتذكر ويندم وليُعلن محبته للمسيح يسوع. فالمحبة هي الأساس الذي عليه تُبنى كل رابطةٍ حقيقية بالمسيح يسوع ربنا.

كانت المرة الثالثة التي يظهر فيها المسيح لمجموعة من تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات، وكانت المرة المهمة جداً للرسول بطرس لأنه ولئن رأى المسيح بعدما قام المسيح من بين الأموات، ورآه خاصةً في العلية مع التلاميذ مرتين، وأيضاً عُدَّ مع أولئك الذين نفخ المسيح في وجوههم وأعطاهم سلطان حل الخطايا وربطها، وكان على أثر اعتراف بطرس بالرب يسوع أنه ابن الله الحي قد أعطاه سلطان حل الخطايا وربطها منفرداً، ولكن ضميره كان يؤنّبه لأنه قد أنكر المسيح، ويشعر بأنه قد فقد امتيازات هذه الرتبة الرسولية، ولذلك عندما قال له يوحنا على أثر سماع التلاميذ صوت الرب يناديهم وهو على الشاطئ وهم في السفينة أنه الرب، أتزر بطرس إذ كان عرياناً ونزل إلى الماء وجاء إلى الشاطئ، لأنه كان يشتاق أن يرى الرب، ويراه في أي مكان كان، وليس فقط في العلية، يشتاق لكي يُعلن توبته للمسيح وأعلنها بقوله: «أنت تعلم أني أحبك».

عندما تنبأ المسيح عن نكران تلاميذه له تصرف بطرس بكل جسارة وثقة بالنفس وافتخر بأنّ إيمانه بالرب يسوع لا يتزعزع ومحبته للمسيح أعظم من إيمان سائر إخوته ومحبتهم له بقوله: وإن شكَّ بك الجميع فأنا لا أشك (مر14: 29)، وعدم الاتكال على الله أعلن بطرس أنه إن أنكر التلاميذ جميعاً المسيح فهو لا ينكره وهو مستعد أن يموت معه، ولكنه سقط إذ تكبر فتم القول: «قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح» (أم16: 18) كما يقول الكتاب، ولكن الآن عندما قال له الرب أتحبني أكثر من هؤلاء، تواضع ولم يذكر أنه يحبه أكثر من سائر الرسل، بل أكَّد للمسيح أنه يحبه، وأكَّد أن الرب يعلم أنه يحبه، أظهر بهذا القول المحبة والتواضع لأنه صرَّح بمحبته إياه دون أن يدّعى زيادتها على محبة سائر أخوته له، فكأنه قال: «نعم»، إن ما بدر مني من نكران يدل على إني لا أحبك، لكنّك أنت تعلم ما في قلبي من المحبة لك، وأظهر تواضعه أيضاً بنوع المحبة التي صرَّح بها، وسأله الرب عن محبته له أمام الستة ليكونوا شهوداً بإقرار بطرس وبمغفرة المسيح له، ولم يسأل الرب بطرس عن إيمانه، إنّما سأله عن محبته لأن المحبة هي الشرط الضروري والأهم للتتلمذ المسيح، وذلك لأن المحبة تتضمن سائر الفضائل، بهذه المحبة أحبنا المسيح أولاً (1يو4: 19)، لأنه «هكذا أحب الله العالم ـ يقول الكتاب ـ حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16).

وإذا كنّا نُعلن ونعترف أننا نحبه علينا أن نُكمل وصاياه، من أحبني عمل بوصاياي سمع كلامي هذا ما تعلمناه من الرب يسوع، ونرى بعدئذ أن الرب يدعو بطرس عندما قال له: اتبعني، فيتبعه بطرس، ويرى بطرس يوحنا يتبع الرب أيضاً فيقول للرب: ما لهذا؟ الرب يسوع يقول له ما لك؟ إن كنت أقول بأنه يثبت حتى آتي ثانية فما لك أنت؟ (يو21: 22) هنا نرى أيضاً علاقة المحبة ليست فقط بين المسيح وأي تلميذ للمسيح كان رسولاً أو تلميذاً أو مؤمناً بل أيضاً نرى العلاقة ما بين تلميذ وتلميذ ومؤمن ومؤمن، قال الرب لبطرس: إرع خرافي، إن كنتَ تتبع المسيح فيجب عليك أن تُشجّع غيرك أيضاً لكي يتبع المسيح، أن لا تكون أنانياً لتكون أنت وحدك تابعاً للمسيح، من أحبَّ المسيح يحب الناس كافةً ويريدهم أن يخلصوا في المسيح يسوع الذي قام من بين الأموات وأثبت حقيقة هذه القيامة بشهادة التلاميذ، فيوحنا الذي يكتب في إنجيله المقدس مدوناً هذه الحادثة يُعلن أنه كان شاهداً لما جرى وأنه كتلميذ يشهد بالحق، «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو ابن الله ولكي يكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه (يو20: 31).

إننا نرى في هذه الحادثة خاصةً كيف أن المسيح بعد أن قَبل توبة الرسول بطرس، رفع رتبته من مُبشّر، من صياد للناس، إلى راعٍ، والراعي الروحاني في المسيحية له صفة سامية لأنه يرعى خراف المسيح أما المبشر فيأتي بالناس إلى المسيح.

وبعد أن أكد بطرس توبته وعمق محبته للرب يسوع استحق صفة الرعاية، فكلَّفه الرب يسوع برعاية خرافه الناطقة، والراعي الصالح هو المعتني بخراف المسيح، في مراع خضر يربضها إلى مياه الراحة يوردها ويحرسها، هو الراعي الذي يقتدي بالمسيح الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف كما يقول المسيح يسوع (يو10: 11)، ولذلك عليه إن يتبع المسيح، أي يقتدي به، أن يحبه محبةً عميقة، وعندما يقول الرب لسمعان: أتحبني أكثر من هؤلاء؟ لا يقصد فقط الأشخاص، بل أيضاً الأشياء وهذه الأشياء أي السفينة والبحر والصيد وكل شيء، فإذا كان التلميذ متعلقاً بالمال، متعلقاً بأمور الدنيا يعني هذا أنه يحب هذه الأشياء ويحب الناس أكثر من الرب يسوع وربنا غيور جداً، ويوصينا بقوله: «من أحب أباً أو أماً أكثر مني لا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنةً أكثر من لا يستحقني، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقني (مت10: 37 و38).

فالرعاية هي البذل والعطاء، هي حمل الصليب بسرور، وليس الرعاة فقط أولئك الذين ينالون الرتب الكهنوتية السامية، بل أيضاً كل أب وكل أم وكل إنسان يكون مسؤولاً عن الآخرين في ميادين شتى هو راع لهم، عليه أن كان مؤمناً بالمسيح أن يحب المسيح وأن يحب أولئك الذين أوكل إليه المسيح رعايتهم، والرعاية كما قلنا هي الحراسة، هي الصيانة، هي إعطاء الغذاء الروحي في وقته، فالآباء والأمهات رسالتهم الرعوية أن يرعوا أولادهم أن يصونوهم من الشر والشرير والأشرار أن يحفظوهم ضمن حظيرة المسيح يسوع، وضمن وصايا الرب يسوع، أن يحبّوا الرب يسوع ليجعلوا أولادهم أيضاً محبين للرب يسوع. لأن محبة الرب يسوع هي أساس التلمذة الحقيقية له المجد.

عيد مار توما

عيد مار توما

عيد مار توما الرسول

رسالة بطرس1 (1: 13 ـ 25)

أفسس (4: 17ـ 24)

يوحنا (20: 19ـ 29)

عيد مار توما

نعيّد في هذا اليوم أيها الأحباء عيد مار توما الرسول، الذي يقع في الثالث من شهر تموز في كل عام، والكنيسة المقدّسة عندما تعيّد للشهداء وسائر الآباء والصدِّيقين، إنّما تفعل هذا لتجعل من هؤلاء قدوةً ومثالاً للمؤمنين، وهي لا تدعو إنساناً قديساً أو بارّاً أو شهيداً ما لم ترَ في كل أعماله أنه محب للمسيح، ومتمسّك بالإيمان به، فهي تحكم عليه من خلال الإيمان بربنا يسوع المسيح، كما تفعل ذلك أيضاً بكل ما قد تسلّمته، فهي ترى مثلاً في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، في كل صفحة من صفحاته من ألفه إلى يائه وحتّى ما بين سطوره ترى المسيح يسوع، ومن خلال المسيح تحكم على هؤلاء الأشخاص ضمن الكنيسة المقدسة، فهي تؤمن بالرب، تؤمن به مخلّصاً وفادياً وتؤمن به معتنياً بالمؤمنين ومثبّتاً إياهم على الإيمان القويم، تؤمن بالمسيح يسوع والكل يشهد بأنه ابن الله وأنه مخلص العالم، من خلال ذلك ندرس سيرة القديسين والآباء.

عندما نذكر الرسول توما يتبادر إلى ذهننا الشكوك التي ساورته بقيامة الرب، لأنه لم يكن في عِداد التلاميذ عندما ظهر لهم يوم قيامته، ظهر لهم في العلية. ولكن علينا في الوقت نفسه أن نعلم أن توما قد آمن بالرب، علينا أن نراه بعين الروح كيف أنه عندما رأى الرب في الأحد الذي تلا أحد القيامة، سجد أمامه وصرخ قائلا: ربي وإلهي، فنرى شكوكه نعمة عظيمة بعد أن آمن بالرب، لأنها لا تعرضنا أبداً إلى الشكوك بموت الرب وقيامته من بين الأموات والفداء الذي عمله، ونرى فيه ـ ولئن كان يُرى كإنسان ـ أنه الرب، فنجثو مع توما قائلين: ربي وإلهي.

توما هذا كان أيضاً محباً للرب، لا نستطيع أن نقول إنه كان محباً له أكثر من سائر التلاميذ، ولكننا عندما ندرس سيرته من خلال الإنجيل المقدس ثم التقليد الكنسي نرى أنه كيف كان يحب الرب يسوع كثيراً. مرّةً أراد الرب أن يذهب إلى أورشليم، ليقيم لعازر بعد موته، والتلاميذ حاولوا منعه لأن اليهود ورؤساءهم كانوا يريدون قتله، أما توما فقال للتلاميذ وهو يرى المسيح مصرّاً على الذهاب: لنذهب نحن أيضاً ونموت معه، فمحبة توما للمسيح محبة عميقة، حتى الموت، كان مستعداً أن يموت مع المسيح، وتوما أيضاً له فضلٌ عظيم بتصريح أعلنه الرب يسوع بطلب من توما: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

كل ذلك لأنّ توما سأل الرب أن يريهم الطريق له ولبقيّة التلاميذ. هذا هو الرسول العظيم الذي نعتبره رسول الهند، لأنه بحسب تقليد كنيستنا السريانية أن توما ذهب إلى الهند، والقصة التي يذكرها التقليد قصة جميلة جداً حتى نرى فيها أن المسيح يظهر لتوما لأنه عندما اقتسم الرسل العالم المعروف يومذاك بينهم ليذهب كل منهم إلى منطقة غير منطقة رفيقه، كان على توما أن يذهب إلى الهند وتوما رفض ذلك، ولكن المسيح ظهر له بحسب ما تقوله القصة، ثم بيع توما بيد المسيح إلى تاجر هندي ليذهب ويشيّد قصراً لأحد ملوك الهند في تلك الأيام، ذهب عبداً ليحرر عبيد الرب من عبوديتهم لإبليس من عبادة الأصنام، ثم هناك استطاع أن ينشر البشارة الإنجيلية بين تلك الأقوام، استطاع أن يُخضع الناس للمسيح، وأتمّ شهادته للمسيح الذي مات لأجلنا الذي قام وأقامنا معه، الذي رآه توما بأم عينيه بعد قيامته، الذي لمس محل المسامير ومحل الحربة وجثا أمام الرب ليقول له: ربي وإلهي.

توما استشهد في سبيل إعلان هذا الإيمان، إذ طعنه كهّان الوثنية برمح في جنبه الأيمن، في منطقة تدعى ملابور بقرب مدراس. والسريان حملوا البشارة إلى الهند في القرن الرابع ليثبت أولئك الذين كانوا قد آمنوا بالمسيح على يد مار توما ولكنهم كانوا يحتاجون إلى من يدلّهم إلى حقائق الدين المسيحي، أولئك القوم بعد أن ثبّتوا المؤمنين هناك نقلوا ضريح مار توما، رفاته إلى مدينة الرها سنة /394/ في الثالث من تموز وبذلك عيّن عيد مار توما في الثالث من تموز ليكون عيد استشهاده وظفره ونيله إكليل المجد وليكون في الوقت نفسه ذكرى جهاد آبائنا السريان بإنارة العالم بالإنجيل المقدس، وذكرى حصولهم على رفات القديس توما ذخيرة ثمينة جداً ليكون خير شفيع ليس لسرياننا في الهند فقط بل للسريان في كل مكان.

أسأله تعالى بشفاعة هذا القديس أن يثبتنا على إيماننا لكي لا تساورنا الشكوك بلاهوت المسيح يسوع، لنجثو أمام الرب دائماً قائلين مع توما: ربنا وإلهنا لننال الطوبى التي أعطاها الرب لأولئك الذين آمنوا ولم يروا، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

عيد مار إيليا النبي

عيد مار إيليا النبي

عيد مار إيليا النبي (1)

عيد النبي إيليا

قال النبي إيليا لشعب العهد القديم في القرن العاشر قبل الميلاد:

«حـتّى متى تعرّجون بين الفرقتين، إن كان الرب هو الله فاتبعوه وإن كان البعل فاتبعوه»

       (1مل18: 21)

تحتفل الكنيسة المقدسة طقسيّاً وروحيّاً بعيد النبي العظيم إيليا، فما الذي يميِّز إيليا عن غيره من الأنبياء العِظام؟ كإشعياء مثلاً الذي تنبّأ عن الرب، حتّى أن نبوّة إشعياء اعتُبرَت وكأنها إنجيل العهد القديم! وعن بقيّة الأنبياء الذين أوحي إليهم بالنبوّات والرّموز والإشارات عن الرب يسوع، فدوّنوها وأعلنوها وأثبتت تلك النبوّات أن يسوع الناصري هو حقّاً المسيح المنتظر، مُشتهى الأجيال والدّهور، المخلِّص والمنقذ.

ولكن، يمتاز النبي إيليا عن هؤلاء جميعاً، بأنه لم يكتب كتاباً، كان نبيّاً غيوراً جدّاً، وامتاز خاصّةً ليس فقط بمهمّة النبي التي هي تقبُّل الوحي من الله، وإعلان ذلك للبشر، وإعطاء الشريعة الإلهيّة للبشر. فكان للنبي إيليا بالإضافة إلى هذه وظيفة الكاهن الذي يأتي بالبشر إلى الله، ويجلب الناس إلى عبادة الله، وإلى إتمام الشريعة الإلهيّة.

هذا النبي إيليا اضطُهد لأنه كان يُعلن عبادته لله، كان ذلك في القرن العاشر قبل الميلاد، كان إيليا حينذاك يحيا حياة ناسك زاهد، حتّى وصف في العهد الجديد أنه كان يلبس كيوحنا، وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقوَيه. يوحنا الذي قال عنه الملاك عندما بُشِّر بميلاده، قال لأبيه زكريا: أنه يأتي بروح إيليا، يوحنا الذي حقّاً بحسب النبوّات أن إيليا يظهر قبل ظهور المسيح أي قبل التجسّد الإلهي، والرب يسوع أعلن أن إيليا جاء وفعلوا به ما شاءوا، وعنى بذلك ـ كما يقول الإنجيل المقدس ـ عن مجيء يوحنا المعمدان.

إيليا أيضاً نراه في الإنجيل بحسب البشير لوقا في حادثة تجلّي الرب يسوع على الجّبل، وظهور موسى وإيليا، موسى شاء الله أن يُظهره بعد أن مات موسى، لكن الرّوح لا تموت ـ هذا أمر واضحٌ بالنسبة إلى عقائدنا المسيحيّة ـ وشاء الله وقت التجلّي أن تلك الرّوح تأخذ جسداً أثيريّاً لتظهر أمام التلاميذ الثلاثة عندما تجلّى الرب.

أما إيليا فلم يمُت، فهو حيٌّ لأنه كان قد أُصعِد إلى السماء بمركبةٍ ناريّة، وبقي حيّاً وسيأتي ثانيةً عند المجيء الثاني للرب ليُعلن وهو أحد الشّاهدَين كما يقول الكتاب، أن يسوع الناصري هو المسيح ابن الله، أنه قد خلّص البشر وأنه سيأتي بمجد عظيم مع ملائكته القدّيسين ليدين الأحياء والأموات.

إيليا إذن ذُكِر هنا أيضاً، ولذلك الكنيسة تكرّمه. وعندما نذكر إيليا نذكر تحدّيات العالم لله ولمن يتبع الله، نذكر سنة 906 قبل الميلاد في جبل الكرمل عندما وقف إيليا ليتحدّى آخاب وزوجته إيزابيل التي استأجرت كهّاناً للبعل، كانوا نحو 450 كاهناً، لينسى بنو إسرائيل إلههم الواحد الأحد (يهوه). وكان إيليا قد تخيّل بأنه كان وحده يعبد الله ووحده ينشر عبادة الله أمام الناس، وحده يقف يقاوم آخاب وإيزابيل ويُعلن قدرة الإله القدير. أعلن أوّلاً ـ كما يذكر الإنجيل المقدّس عن إيليا وعظمته والرّسائل أيضاً للرسل الأطهار ـ أن إيليا بقوّة الصّلاة هو مثال لإنسان مؤمن، بقوّة صلاته استطاع أن يمنع السّماء لتعطي مطراً ثلاث سنوات وستّة أشهر، إلى أن قال هو، فهطل المطر.

في ترجمة حياة إيليا نرى قوّة إيمان النبي إيليا، وعناية الله بخائفيه، كان غراب يأتيه يوميّاً برغيف خبز، بقطعة لحم كما اعتنى الرب بالأرملة. كان قبل ذلك قحط وجوع عمّ البلد. هرب إيليا، إيليا كنبي عليه أن يعطي إعلاناً هو إرادة الله ومشيئته، لأن الله كان قد غضب على ذلك الشعب، وغضب على آخاب وزوجته، لأنهم تركوا عبادة الله وأتوا بكهّان لكي يبثّوا عبادة الأوثان بين ذلك الشعب الذي كان يعبد الله.

أعلن إيليا هذه الحقيقة وهرب من أمام وجه أعدائه المتسلّطين على الشعب يومذاك. كان الغراب يأتي إلى إيليا كل يوم برغيف خبز وقطعة لحم وكان أمام النهر يشرب الماء، ويعبد الله وينتظر، بعدئذ نشف النّهر فذهب إلى صرفة صيدا، هناك سخَّر الله أرملة لتلتقي به، فمكث عندها حتّى شاء الله أن يرحم ذلك الشّعب بعد أن يُعلن حقيقة عبادته الحقيقيّة، وكان للأرملة كور زيت وطحين، وإيليا بذلك الجوع قات أرملة صرفة صيدا كما ذكر المسيح بالذات تلك الحادثة، ومات ابنها فأحياه وحينذاك عندما آن الأوان ليُعلن الله رحمته على ذلك الشّعب، جاء إيليا إلى آخاب بكل شجاعة، وبّخه وأعلن له أن قد ضلّل الشّعب، لأنه هو أيضاً قد حادَ عن عبادة الله الواحد الأحد، ووضع أمامه مباراة تحدٍّ، دائماً هذا التحدّي موجود لدى رجال الله ضد أولئك الذين قد ابتعدوا عن عبادة الله، قال له: ليأتِ كهّانك ـ كهّان البعل والسّرايا ـ ليأتوا إلى جبل الكرمل، ويحاولوا أن يقدّموا ذبيحة، ليكن لهم ثور ولي ثور، ولينصبوا مذبحاً، وأنا أيضاً أنصب مذبحاً فالذي تعلن السّماء بنارٍ ترسلها إلى الذبيحة، ذاك إلهه هو الله، الإله الحقيقي.

وهكذا كان، كان هناك ألوف مؤلّفة من الناس لا يعرفون ماذا يفعلون، عبادة الأصنام موجودة، البعل يدّعي أتباعه أنه (الإله الحقيقي)، وهم أيضاً قد تسلّموا من آبائهم عبادة الله الواحد الأحد، وذكر لهم آباؤهم المعجزات التي صنعها الله معهم منذ أن أخرجهم من مصر بيد قويّة وذراع ممدودة، منذ أن أطعمهم المنّ والسّلوى في البريّة، منذ أن فجّر الصّخر ماءً ليرتووا جميعاً. وأيضاً لابدّ أن ذكر ذلك الشعب لأبنائه وأحفاده العقوبات الصّارمة التي جعل الله بها تأديباً بها لفرعون، ثم تأديباً لشعب موسى في البريّة، فلسعتهم الحيّات المحرقة ومات ألوف مؤلّفة منهم، وتأديباً للمتمرّدين على موسى كممثِّل لله، فانشقّت الأرض وابتلعت العديد منهم. لابدّ أنهم ذكروا كل هذا الشيء، لابدّ أنهم ذكّروهم بيشوع بن نون الذي ورث موسى بقيادة الشعب: كيف أنه جمع الشعب جميعاً عندما وجدهم يعبدون أصناماً صغيرة يضعونها في جيوبهم لتحرسهم أو بيوتهم يعبدونها عبادات منزليّة، وحينذاك قال لهم أن يختاروا ماذا يعبدون، أمّا هو فقال: أما أنا وبيتي فنعبد الرب.

وحينذاك تاب الشعب وقال: نحن أيضاً نعبد الرب. لابدّ أن أولئك الناس تذكّروا ما ذكره لهم آباؤهم وأجدادهم عمّا صنعه الرب من عجائب، ولكنهم كانوا بحِيرة يعرِّجون على الجانبين، يعبدون البعل ويؤمنون بهذه الأصنام كلها، ولكنهم في الوقت نفسه يرغبون أن يعبدوا الرب، ولم يكن لهم من يدلّهم على ذلك، النبي إيليا الذي ظنّ أنه هو وحده فقط عندما ناجى الرب قال له: الناس تعبد البعل، وأنا وحدي فقط أعبد الرب، فقال له الرب: هناك سبعة آلاف شخص لم تسجد ركبهم للبعل.

تعزّى إيليا بذلك وعمل هذا التحدّي، رأى ذلك الشعب وقد تحيَّر، هذه مسؤولية كبيرة للكهنة، ولنا نحن وللأنبياء ولكل من يحمل رسالة إعلان حقائق السماء للناس، أن نشجّع أولئك الذين بين رغبتهم بأن يعبدوا الله وبين انجذابهم إلى شهوات الجّسد يعبدون البعل بشخص هذه الشهوات أو شخص أناس فضّلوا عباداتهم ومحبّتهم على الله، يعبدون الخطايا التي اعتُبرَت محبوبة لديهم فإيليا ظهر كنبيٍّ عظيم لينبّه هؤلاء لينالوا شجاعة وليعلنوا عبادتهم لله.

كان هذا التحدّي على جبل الكرمل، إيليا قال لتكن الأوّلية لهؤلاء لأنهم كثرة وأنا واحد. وضعوا مذبحاً وخشباً، ذبحوا ثوراً ووضعوه على المذبح ومن الصّباح حتّى المساء يضربون أنفسهم، دماؤهم تسيل منهم لعلّ البعل يُشفق ويرسل ناراً فتلتهم تلك الذبيحة وإيليا يقول لهم: لترتفع أصواتكم لأن البعل يظهر أنه نائم، ولكنهم فشلوا.

فتقدّم إيليا وصلّى إلى الله بعد أن وضع الذبيحة على المذبح وقال لهم: ليسكبوا ماءً وعلى ما يحيط بها أيضاً من قناة ثم صلّى واستجاب الله صلاته، وهبطت نار من السماء التهمت الذبيحة والمذبح ونشّفت الماء، فأعلن الشعب: الرب هو الله، الرب هو الله.

فقال لهم إيليا: أمسكوا كهّان البعل وشدّوهم وخذوهم أمام النّهر فذبحهم إيليا، ربّما نستغرب والعديد منّا نحن الذين وُلدنا في المسيحية بعطف ومحبّة وغفران، نستغرب كيف أن نبيّاً يذبح هؤلاء.

رسالة الرسول بطرس التي نتلوها اليوم تُعلن لنا كيف أن الله عندما غضب على الناس أغرقهم جميعاً في الطوفان إلاّ نوح، كيف أنه عندما غضب على سدوم وعمورة أحرقهما بنار وكبريت، هذه دينونة الله. لم يُجرم إيليا بذبح أولئك الذين صاروا سببَ شكٍّ للناس، للابتعاد عن عبادة الله الحقيقي، أن يعبدوا الأصنام.

لذلك أيها الأحباء تكرّم الكنيسة المقدسة النبي إيليا، وذكره الرب يسوع مرّات عديدة، ونؤمن بأنه حيّ وأنه سيظهر ثانيةً بعد أن ظهر أيضاً بالتجلّي للتلاميذ، نكرمه، نتشفّع به ونذكر دائماً تحدّياته لأولئك الذين ابتعدوا عن عبادة الله ونتمثّل به أيضاً لنعبد الإله الحق ونترك الخرافات وما يظنّه الناس أنه إله أو أنه يُعبَد من العديد من الناس، فلماذا لا نعبده نحن؟

أحبائي، هل تظنون أن البعل لم تكن له أعاجيب؟ على العكس لقد كانت له أعاجيب كثيرة، فالشيطان له قوّة أن يصنع معجزات لكي يضلّل الناس. هذه حقيقة لذلك يجب أن نعرف أن عبادة الأوثان هي ضدّ عبادة الله، وقد أعطانا الله وصيّة بذلك، فهو يريدنا أن نبتعد عن عبادة الأوثان، وعن كل من نجعله وثناً إن كان إنساناً، إن كان مادّة، إن كان من كان.

ألم يقل لنا الرب: لا تستطيعون أن تعبدوا ربين، الله والمال، أن نجعل من المال إلهاً لنا، إن كنّا نحبّه ونعبده، إن كنّا نحبّه ونتّكل عليه دون اتّكالنا على الله تعالى، وإن أحببنا أي شخص أكثر من الله حتّى الأب والأم مثلما علّمنا الرب يسوع نكون قد عبدنا هذا الإنسان واعتبرناه إلهاً دون الله.

فلنعبد أحبائي الله، ولا نُعرِّج على الجانبين، وليكن الله مهيمناً على أفكارنا وقلوبنا وأعمالنا، ليكن الله تعالى معنا دائماً أبداً أحبائي وليبارككم بنعمته آمين.

عيد النبي إيليا (2)

اختــاروا لأنفســكم من تعبــدون..

«حـتّى متى تعرّجون بين الفرقتين، إن كان الرب هو الله فاتبعوه وإن كان البعل فاتبعوه»

       (1مل18: 21)

من الحوادث المثيرة في الكتاب المقدس، ما جرى على جبل الكرمل عام 906 ق.م بين إيليا([1]) نبي الله، وبين أنبياء البعل الوثنيين الذي استأجرتهم إيزابيل زوجة الملك آخاب ليكهنوا للأصنام وينشروا ضلالتهم في القوم الذين كانوا يعبدون الله الإله الحق.

وكان النبي إيليا رجلاً باراً، نحيل الجسم قويّه كما نتصوّره، حنطيّ اللون، قد أرسل شعر رأسه الغزير على كتفَيه، واختلط بعضه بلحيته، وقد اتّشح بالمسوح المنسوجة من شعر الماعز أو وبر الإبل، وتمنطق بمنطقة من جلد على حقويه (2مل 1: 8) إنه رجل البرية والعراء (1مل 17: 5 وص19) الذي لا يعرف الدّجل، ولم يتدرّب على فن المجاملة والمداهنة والمراوغة والكذب والخداع، إذا نظر أرهب وأرعب فنظراته حادّة قاسية، وإذا تكلّم فصوته كالرعد المدوّي، أو كهدير بحر هائج وهو يسلّط كلامه كسوط صارم يلهب فيه ظهر الظالمين المتعدين شريعة الرب، والمغتصبين حقّ أخيهم الإنسان.

كان إيليا نبيّاً عاملاً لا كاتباً([2]) اجترح المعجزات واستحق أن يصعد حيّاً إلى السماء بمركبة ناريّة (2مل 2: 1-18). وقد اشتهر بأمور كثيرة جعلته كنبي فريد بين أنبياء العهد القديم، غيور على ناموس الرب، وقد جذب الشعب إلى الناموس، وحارب عبادة الأوثان. وفي حادثة الكرمل تظهر قوّة إيمانه بالرب الإله وشجاعته في مقارعة إبليس وجنده، فقد عرض على أنبياء البعل امتحاناً مصيرياً صارماً، وضع فيه معبودهم (البعل) على المحك، وانتهى بالفشل الذريع من جانب (البعل) وكهّانه أو أنبيائه الذين انتهوا اجتماعياً وروحيّاً وجسديّاً.

كانت عبادة (البعل) قد انتشرت بين اليهود، لأن الملك آخاب انساق وراء زوجته ايزابل الصيدونية الوثنية التي سعت إلى نشر عبادة (البعل) بين قوم زوجها، فنسي الشعب إلهه الحق، نسي الشعب أيضاً تاريخه الديني والمعجزات الباهرات التي رافقت ذلك التاريخ. فلم يعد ذكر الله الإله الحق، الذي أخرج آباءه من العبودية إلى الحرية، من الظلمة إلى النور بذراع ممدودة. لم يذكر عمود السحاب الذي سار أمامه نهاراً وليلاً. ونسي الضربات القاسية التي أنزلها الله بالمتمردين.

حقّاً أن هؤلاء الأحفاد كأسلافهم الذين كانوا تحت سفح جبل سيناء المدخن بالنار قد تعهّدوا بأن يفعلوا كل ما تكلّم به الرب، وبعد ستّة أسابيع عبدوا (العجل الذهبي) ورقصوا حوله رقصاً خليعاً.

نسيَ الشعب وما أسرع نسيانه! نسي نِعَم الله وأفضاله وهباته، نسي أوامره ونواهيه… فقد انزل الله على آبائهم وصاياه العشر، وحذّرهم على لسان موسى كليمه قائلاً: »انظر! أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة. البركة إذا سمعتم وصايا الرب إلهكم… واللعنة إذا زغتم عن الطريق التي أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها» (تث 11: 26 و30: 15 واش 1: 19) من هنا نعلم أن للإنسان سلطة ذاتيّة، فقد خُلق حرّاً، فهو حرّ فيما يفعله، وهو مُخيَّر لا مُسيَّر، فإذا عمل بأوامر الله، وتمّم وصاياه، وتجنّب نواهيه، نال الحياة، وإلاّ فهو هالك بإرادته الحرّة، لا محالة. لأن الرب قد قال: »إني لا أُسرّ بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا» (حز 33: 11-20) وهلاك الشعب ليس من مسرّة الرب ولكن بإرادة الشعب الحرّة حيث عصوا أمر الله وعبدوا (البعل) وتعدّوا وصايا الله إلههم وتعاليم أنبيائه، وغدا تاريخ آبائهم لديهم موضوع فخر باطل، ومصدر كبرياء وعجرفة، لا ينبوع عِبَر ودروس روحية وأدبية واجتماعية. فقد انقلبت أعياد الرب إلى احتفالات دنيوية خليعة ومناسبات أثيمة، في الوقت الذي أراد الرب بفرضها تذكيرهم بما صنعه تعالى مع آبائهم من عجائب ومعجزات وما منحهم من عطايا وهبات وأسبغ عليهم من نِعَم وبركات فيبقى عهده أبديا مع أبنائهم وأحفادهم ويكون لهم إلهاً ويكونون له شعباً. ولكنهم أهملوا القيم الروحيّة وتبعوا غوايات أنبياء »البعل» الذين جاروا الطبيعة، وانهمكوا بالملذّات الجسدية، والشهوات الدنيئة باسم الطبيعة. وفي بيئة فاسدة كهذه وُجد أيضاً أناس لم يتمكّنوا أن يتّخذوا قراراً نهائيّاً لاختيار الإله الذي يعبدونه فهم كريشة في مهبّ الريح لا يستقرّون على رأي، يحبون عبادة البعل الخليعة، ويريدون الله أيضاً، و »كرجل ذي رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يع 1: 8) غدوا بأمسّ الحاجة إلى من يهديهم سواء السبيل، ويقودهم إلى الحق، ليقرروا مصيرهم الأدبي والروحي، فهم يريدون أن يكونوا مع فرقة الله، ولكنهم ينساقون وراء فرقة عبادة (البعل). وكأني بهم يحاولون المستحيل بالجمع بين النور والظلام.

جرى ذلك أيضاً في عهد يشوع بن نون. كان يشوع قد خلف موسى بقيادة الشعب روحياً وإدارياً وعسكرياً فخدم شعبه بتفانٍ، وقاده إلى معرفة الحق. ولما شاخ رأى أن الشعب قد نسوا الله وأعماله العظيمة، ونعمه الكثيرة عليه، وحادوا عن عبادته تعالى ومالوا إلى الأصنام الصغيرة التي كانت قد ملأت منازلهم واتّكلوا عليها وقدّموا لها العبادة المنزليّة اليومية. لقد حلّت الأوثان في قلبهم مكان الله الحق، وفقدوا سيطرتهم على نفوسهم الأمّارة بالسوء. لذلك جمعهم يشوع ليعظهم ولينزعوا الآلهة الغريبة من وسطهم…

كان الاجتماع رهيباً… لخّص فيه يشوع ما أسبغ الله من نِعَم على ذلك الشعب. ووضع أمامهم حقيقة لابدّ أن يواجهوها قائلاً:

»اعبدوا الرب. وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب، فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون… وأمّا أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 24: 14 و15).

فأجاب الشعب: »فنحن أيضاً نعبد الرب لأنه هو إلهنا» قال لهم: »أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه»، فصرخ الشعب: »نحن شهود. فالآن انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم إلى الرب…» (يش 24: 16-25).

كانت مهمّة يشوع بن نون أسهل من مهمّة النبي إيليا، لأن وقائع التاريخ العجيب كانت قريبة من شعب يشوع، وكانت عجائب الرب لا تزال على ألسنة الشعب، أمّا شعب إيليا فقد كان أغلبه قد نسي الله وأعمال الله وانهمك بعبادة (البعل) واحتاج إلى من يسير أمامه كعمود سحاب منير ينقذه من ظلمة التمرّغ بعبادة الجسد، عبادة البعل. لذلك أرسل الله النبي إيليا ليعلن لآخاب الملك قرار عقاب الرب »بأنه لا يكون باطلٌ ولا مطر» (1مل 17: 1) حتّى يتكلّم إيليا، فكان قحط في الأرض.

وهرب إيليا من أمام وجه آخاب وزوجته إزابل بعد إعلان هذه النبوّة، واختبأ عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن حيث عالته الغربان بحسب أمر الرب فكانت تأتيه بخبز ولحم صباحاً ومساءً وكان يشرب من النهر، وعندما جفّ ماء النهر أرسله الرب إلى أرملة في صرفة صيدا حيث كانت يد الرب معه فلم يفرغ من بيت الأرملة كوّار الطحين ولم ينقص كوز الزيت. وهناك أقام ابن الأرملة من الموت.

ولما انقضت مدّة القحط والقيظ على ما تنبّأ عنها إيليا التقى آخاب الملك ووبّخه على عبادته الأصنام وبيّن له أنها ليست آلهة ولكي يبرهن إيليا على صحة قوله طلب من آخاب أن يجمع الشعب إلى جبل الكرمل وأن يحضر معه أنبياء البعل الأربعمائة والخمسين وأنبياء السواري الأربعمائة. فلبّى آخاب الطلب. وهكذا رأينا على جبل الكرمل جمهوراً غفيراً من الناس ممّن كانوا يعبدون البعل ولكن عبادة الله لم تكن قد زالت بعد من قلوبهم. وبعبارة أخرى كانوا يعرّجون على الجانبين، وبين الفرقتين. ورأينا كهّان البعل الوثنيين الذين كانت مهمّتهم نشر عبادته، كما رأينا معهم الملك آخاب فهؤلاء جميعاً ألّفوا الفرقة الأولى بالمباراة المصيرية التي جرت على جبل الكرمل. أما الفرقة الثانية فقد مثّلها رجل واحد فقط، هو إيليا النبي الشجاع، الذي وقف يتحدّى (البعل) وكهّانه وأنبياءه وعبّاده. ويعلن أن الله هو الإله الحق.

ويظن إيليا أنه لم يبقَ سواه ممن يعبد الله ولا يشرك به سواه، ولكنه علم بعدئذ من الرب أنه كان هناك سبعة آلاف شخص لم تجثُ ركبهم للبعل (1مل 19: 18) ولكن هل كان هؤلاء موجودين ضمن الشعب على جبل الكرمل في تلك الساعة! لسنا ندري، ولكن لابدّ أن إيليا رأى بعينه النبوية تقلّب ذلك الشعب ورغبتهم بالجمع ما بين الله والبعل.

وفي الامتحان الذي عرضه على أعدائه ليظهر الفرق الجوهري بين ديانة الله، وديانة البعل، والشروط التي أملاها لإعلان الإله الحق. كان إيليا يعلم علم اليقين بأن الله كان معه. وأن النصر سيكون حليفه لا محالة لذلك نسمعه ينادي بصوت جهوري امتزجت فيه نغمة الحزن والكآبة على جهل ذلك الشعب وضلالته بنغمة القسوة والصرامة لإبادة الشر وعبادة الأوثان. فيقول للشعب:

»حتى متى تعرّجون بين الفرقتين،

إن كان الرب هو الله فاتبعوه،

وإن كان البعل فاتبعوه» (1مل 18: 21)

فلم يجبه الشعب بكلمة. إنه شعب بليد، أغلبه مغلوب على أمره، يخاف سطوة آخاب وظلم إيزابيل. وقد تبع هواه فهوى في الخطيّة ونسي مخافة الله.

ثم تابع إيليا كلامه وهو يقدّم شروط الامتحان وبنوده في معرض اكتشاف الإله الحق قائـلاً:

»أنا بقيتُ نبياً للرب وحدي وأنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلاً.

فليعطونا ثورين،

فيختاروا لأنفسهم ثوراً واحداً،

ويقطّعوه ويضعوه على الحطب،

ولكن لا يضعوا ناراً،

وأنا أقرِّب الثور الآخر وأجعله على الحطب

ولكن لا أضع ناراً

ثم تدعون باسم آلهتكم

وأنا أدعو باسم الرب

والإله الذي يجيب بنار فهو الله» (1مل 18: 22-24)

فأجاب الشعب وقالوا: الكلام حسن.

وسمح إيليا أن يكون لأنبياء البعل الأولوية فهم الأكثر، وهو واحد. لذلك فباختياره يفسح لهم المجال ليقوموا بتقديم ذبيحتهم أوّلاً والشمس قد أشرقت والجوّ مناسب لإشعال النار، فأخذ أنبياء البعل أحد الثورين وقرّبوه، ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر ومن الظهر إلى المساء قائلين: يا بعل أجبنا فلم يكن صوت ولا مجيب.

ما أرهب ذلك الموقف!.

سمعنا إيليا يستهزئ بهم وهو يقول: ادعوا بصوت عال لأنه إله. لعلّه مستغرق في خلوة أو في سفر أو لعلّه نائم فينتبه! فكانوا يقرعون الطبول بقوّة، ويهزّون الدفوف بشدّة، ويرقصون بعنف. وضرب الكهان أجسادهم بسيوف ورماح بحسب عادتهم بعبادتهم، وسالت دماؤهم على الأرض ليستميلوا (البعل) برؤية الدم فيستجيب لهم… ولكنهم باؤوا بالفشل الذريع، وخسروا المعركة، وانكشف البعل معبوداً باطلاً وإلهاً كذّاباً. وظهرت حقيقتهم كأنبياء كذبة بل كضالين ومضلّين.

ولما غابت الشمس جاء دور إيليا. فتقدّم بثقة وإيمان ودعا الشعب، فتقدّموا إليه وبنى مذبحاً وحفر قناة حول المذبح، ورتّب الحطب وقطّع الثور، ووضعه على الحطب، وقال صبّوا على المحرقة ماءً، وعلى الحطب أيضا فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة أيضاً مـاءً…

وصلّى إيليا إلى الرب الإله وقال:

أيها الرب إله إبراهيم واسحق ويعقوب

ليُعلم اليوم أنك أنت الله

وأني أنا أعبـدك

وبأمرك قد فعلتُ كل هذه الأمور

استجبني يا رب استجبني     (1مل 18: 37 – 40)

فسقطت نار الرب والتهمت المحرقة([3]) والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة.

فلمّا رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا:

الرب هو الله، الرب هو الله.

فقال لهم إيليا، أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجلٌ فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك (1مل 18: 40) ولعل ذلك كان من ضمن شروط الامتحان أو المباراة.

وصلّى إيليا إلى الرب فاسودّت السماء من كثرة الغيوم وهطل مطر غزير، ويصف الرسول يعقوب (5: 17-20) النبي إيليا كرجل صلاة وكمثال لمن يهدي الضالّين بقوله: »كان إيليا إنساناً تحت الآلام مثلنا وصلّى صلاةً ألاّ تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنوات وستّة أشهر، ثم صلّى أيضاً فأعطت السماء مطراً وأخرجت الأرض ثمرها. أيها الإخوة إن ضلَّ أحدٌ بينكم عن الحق فردّه احدٌ، ليعلم أن من ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه يخلّص نفساً من الموت ويستر كثرة من الخطايا» حقّاً لقد خلّص إيليا نفوساً كثيرة من الموت… وستر كثرة خطايا شعبه… وجذب جمهوراً من الناس إلى عبادة الإله الحق… فنادوا: الرب هو الله. الرب هو الله.

ونحن اليوم وبعد ثلاثة آلاف سنة من حادثة جبل الكرمل، نجتاز امتحاناً متشابهاً وندخل بتجربة مماثلة، ويطرح علينا السؤال ويقدم لنا عرض المباراة التاريخية: »إن كان الرب هو الله فاتبعوه. وإن كان البعل فاتبعوه».

إن الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. الخالق والمدبِّر، رمز القدرة والمحبة…

أمّا (البعل) فهو رمز دائم لكل عبادة وثنيّة، وهو يمثّل كل ما هو ضدّ الله، وكل بعد عن الله وعن شريعة الله، بل كل خروج على طاعته وعصيان وصاياه تعالى. فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون لأنه لابدّ أن يدين الإنسان لإله. فهل أنتم تدينون للإله الحق أم قد صنعتم لكم آلهة غريبة؟.

إن إلهنا غيور جدّاً، يريدنا له وحده، وقد نبّهنا قائلاً: »لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (مت 6: 24)، الله والإدمان على الكحول الهدّامة. الله والتمرّغ بشهوات الجسد… وإلخ. هوذا الرسول يعقوب يصرّح قائلاً: »أيها الزّناة والزّواني أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله. فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله» (يع 4:4).

لا مجال لنا لنعرّج بين الفرقتين:

إمّا الله، أو الخطيّة مهما صغرت هذه الخطية، ومهما كانت محبوية لدينا، علينا أن نستغني عنها، أن نرفضها، لأنها تمثّل عبادة (البعل) ولأنها تجعلنا مع فرقة عبّاد (البعل) »لأن من أخطأ في واحدة فقد أخطأ في الكل». وخطيّة واحدة أبعدت أبوينا الأوّلين عن الشركة مع الله..

فلكم الخيار أيها المؤمنون.

عليكم أن تختاروا واحداً من اثنين: الله أم البعل، الروح أم الجسد، النور أم الظلام، المسيح أم باراباس؟!

»فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون. أما أنا وبيتي فنعبد الرب» هل سيكون جوابكم »نحن أيضاً نعبد الرب الرب هو الله. الرب هو الله»!؟ إذن ما أسعدكم إذا آمنتم به بلسانكم، وقلبكم، وأحببتموه من كل إرادتكم وفكركم، وكنتم أعضاء أحياء في جسده المعنوي الذي هو الكنيسة ليعترف بكم أمام ملائكة السماء (بحسب وعده الإلهي) القائل: »كل من اعترف بي قدّام الناس يعترف به ابن الإنسان قدّام ملائكة الله» (لو 12: 9).

فليكن إيماننا بلا رياء، بإله الأرض والسماء، ولنعلن قولاً وفعلاً: أن الرب هو الإله، ولنعبده. بالروح والحق لأنه روح، ليكون إلهنا وراعينا ونكون شعبه وغنم رعيّته.

عيد مار يعقوب البرادعي

عيد مار يعقوب البرادعي

عيد مار يعقوب البرادعي

عيد مار يعقوب البرادعي

إنها لمناسبة طيبة أحبائي، أن نحتفل بعيد مجاهد رسولي، وفخر الكنيسة عبر الدهور والأجيال، إنه البدر الذي ظهر في سماء الكنيسة في ليلةٍ ليلاء، وعصر مظلم، عمَّه الظلم والفساد، القديس مار يعقوب البرادعي، الذي نحتاج للاقتداء به في كل حين وخاصة في جيلنا الملتوي.

يعقوب البرادعي بكل ما فيه من جهاد وتمسك بالإيمان، وحرص على الحفاظ على تراث الكنيسة المقدسة وتقاليدها، في كل ذلك نرى أننا لا بدّ أن نعيّد له دائماً، ليس فقط مرة في السنة، وإننا لافتخارنا بهذا القديس عندما أسسنا رهبنة العذارى جعلنا القديس مار يعقوب شفيعاً لهن. فمار يعقوب البرادعي هو المجاهد، وهو المثال، وهو الرمز بالنسبة إلى كنيستنا عبر الدهور والأجيال، وعندما تُدعى رهبنة باسم مار يعقوب البرادعي إنما نعني بذلك أن نقتدي بجهاده، بنسكه وتقشفه ونكران الذات، وبتضحيته التامة، وفي الوقت نفسه بتمسّكه بالإيمان، وتثبيته المؤمنين على صخرة الإيمان التي تأسس عليها كل إنسان آمن بالمسيح يسوع ابن الله الوحيد، كما اعترف بذلك الرسول بطرس بقوله للرب: أنت المسيح ابن الله الحّي، فاستحقَّ أن يقول له الرب يسوع له المجد: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، فإن لحماً ودماً لم يعلن لك ذلك، بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». فقد بنى الرب كنيسته على إيمان الرسول بطرس وعانت الكنيسة وجاهدت وتعبت واستشهد ألوف من آبائها وأبنائها وبناتها في سبيل الثبات على الإيمان والسيرة الفاضلة، وبقيت وستبقى إلى الأبد، ثابتة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، مثال ذلك ما جرى وطرأ عليها في القرن السادس من تشرد آباؤها، واضطهد سويريوس الكبير وهرب إلى مصر لأن الطاغية البيزنطي حكم بأن يقطع لسانه، ذلك أن اللسان الفصيح الذي أعلن جهراً الإيمان بالمسيح يسوع، وكذلك فيلكسينوس مطران منبج وغيرهما، يتشردون هنا وهناك. ثم تمر السنون ونأتي إلى سنة 544 م  لنرى هناك راهباً تقياً فاضلاً إنه يعقوب، يرسم مطراناً عاماً ويعطى الصلاحية الروحية الرسولية هي صلاحية الأول في الكنيسة، فيما كان آباء الكنيسة في السجون والملاجئ هنا وهناك، يذوقون صنوف العذاب من أعداء الإيمان. يعقوب البرادعي كان رجلاً عجيباً يسير ويسعى يومياً وهو يجاهد لتثبيت المؤمنين، يسير على قدميه بسرعة فائقة، حُكم عليه بالموت ولكن بيزنطة الظالمة لم تستطع أن تنال منه شيئاً، لأن الله كان معه، فجاهدَ ورسم المطارنة هنا وهناك، وثبَّت الكنائس: السريانية والقبطية والأرمنية، الكنائس المشتركة في الإيمان الواحد، ثبّت الكنيسة بجهاده، بأتعابه الكثيرة، لذلك فالكنيسة تعيّد له في الثلاثين من تموز يوم انتقلت روحه الطاهرة الذكية إلى الخدور العلوية لتتنعم مع أرواح القديسين.

ففي الثلاثين من شهر تموز نعيّد له، لنقتدي به، لنفتخر بجهاده، لنتشفَّع به، إقتداؤنا به في هذه الأيام خاصةً أن نثبت على إيماننا، أن نشعر بأنَّ الله مع كنيسته، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، أن نقتدي بالتمسِّك بلغتنا السريانية، بمحبتنا لتقاليدنا التي ورثناها عن آبائنا القديسين، بهذا أيها الأحباء نكون حقاً أعضاء حية في هذه الكنيسة التي سطع مار يعقوب نجماً مضيئاً منيراً الطريق أمام كل من يريد أن يقتدي به، مؤمناً بأنَّ المسيح هو الطريق والحق والحياة.

لتكن شفاعته مع راهباتنا بناتنا الروحيات دائماً، وأننا نهنئهن بعيد شفيعهن، ونهنئ بشكل خاص رئيستهنّ الأم الفاضلة الراهبة حنينة هابيل، ولتكن شفاعته معكم أيها المؤمنون ويؤهلنا الرب على العمر الطويل لنكون جميعاً مع مار يعقوب البرادعي في الخدور العلوية متنعمين بنعمته تعالى آمين.

عيد التجلي ومار كبرئيل

عيد التجلي ومار كبرئيل

عيـــد التجلــــــي ومار كبرئيـــــل (1)

رسالة بطرس2 (1: 12 ـ 21)

2 كورنثوس (3: 4ـ 18)

لوقا (9: 28ـ 36)

عيد التجلي

«والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً

كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»

(يوحنا1: 14)

«الكلمة صار جسداً»، هذه العبارة أساس إيماننا المسيحي أيها الأحباء، أن كلمة الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس قد تجسد، والغاية من تجسده أن يفدي البشرية كافة بموته وقيامته، ويعطي التبرير والتقديس ونعمة التبني لكل المؤمنين به.

الكلمة صار جسداً، الكلمة الإله الذي لا يُرى ولا يُدرك، تجسّد لكي نراه ونسمعه ونؤمن به، أنه قد تجسد لفدائنا.

أما يوحنا الذي كتب هذه العبارة ملخِّصاً إيماننا المسيحي فيقول: «ورأينا مجده»، «من يقدر أن يرى الله ويحيا» يقول الكتاب، كيف رأيت مجده يا يوحنا؟ يوحنا وقد كان معه بطرس ويعقوب، كانوا قد رأوا جزءاً فقط من مجد الله، كان ذلك على الجبل عندما تجلى الرب، الحدث الإلهي الذي نعيّد له في هذا اليوم أيها الأحباء، عيد تجلي الرب على الجبل.

كان ذلك بعد أن اعترف الرسول بطرس بالمسيح يسوع بأنه ابن الله الحي بأسبوع تقريباً، هذا الاعتراف كان في ضواحي قيصرية فيلبس كما يذكر الإنجيل المقدس يوم سأل الرب تلاميذه: من يقول الناس عني أنا ابن الإنسان؟ أجابوا قوم يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء، أنتم ـ يقول لهم ـ من تقولون؟ بطرس يقول له: أنت المسيح ابن الله الحي. فيقول له يسوع «طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن دماً ولحماً لم يعلن لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة، أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»، هذه الكنيسة ثابتة إلى الأبد وإبليس وكل قوى الجحيم لن تستطيع أن تزعزع الكنائس أبداً، بطرس نال الطوبى وليس هذا فقط بل بطرس واحد من الثلاثة الذين رأوا جزءاً من مجد الرب، فبعد أن اعترف بالرب يسوع أنه ابن الله بعد ذلك بأسبوع تقريباً.

يقال: إن هذه الحادثة كانت على جبل تابور، ولكننا من قرائن الحدث نرى أنه جبل حرمون أي جبل الشيخ لأن الرب كان في ضواحي قيصرية فيلبي التي هي مدينة بانياس في الجولان السوري، وجبل الشيخ من ضمن تلك المنطقة، فالرب إذن صعد إلى الجبل لم يكن ذلك الجبل جبل تابور، حسب ظننا لأن جبل تابور كان مقراً عسكرياً للرومان، ونحن نقرأ في الإنجيل المقدس أن الرب وتلاميذه بطرس ويعقوب ويوحنا صعدوا إلى الجبل، صعدوا صباحاً ووصلوا مساءً منهكين متعبين حتى أن النعاس قد غلب الرسل من التعب، وجدوا الرب يسوع وقد انفرد ليصلي، الرب دائماً كان ينفرد عن تلاميذه ليصلي، ما كان موضوع صلاته، ما هي الطلبة من الآب في تلك الصلاة، وصلاة المسيح عادة وبحسب عقيدتنا هي مناجاة الذات للذات فهو الله بالذات، انفرد يصلي وعندما انفرد يصلي كان التلاميذ من التعب قد ناموا وعندما استيقظوا رأوا وجهه قد صار يلمع أكثر من الشمس، ورأوا ثيابه وقد صارت بيضاء كالثلج، ورأوا شخصين معه قالوا عنهما إنهما موسى وإيليا، موسى الذي كان قد قاد بني إسرائيل من مصر إلى البرية، والذي جلب الشريعة، لوحَيْ الناموس من السماء، وكان قد مات ودفنته الملائكة ولم ير قبره، موسى كان قبل ألف وخمسمائة سنة من تلك الحادثة، وإيليا هو الذي جذب الشعب إلى الشريعة، كان قد اختطف إلى السماء بمركبة نارية وصعد حياً إلى السماء، موسى وإيليا كيف عرفهما التلاميذ الثلاثة، ربما من الصور التي كانت متداولة في تلك الأيام، والتي مثلت موسى وإيليا، وربما من الكلام الذي تداول بينهما وبين الرب يسوع وقد تكلما معه عن خروجه والخروج في الكتاب المقدس يعني الفداء، يعني الخلاص كخروج بني إسرائيل من مصر، وتكلما معه عن الفداء.

استيقظ بطرس وفرح بذلك المشهد وقال للرب: يا رب جيد جداً أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال، واحدة لك وواحدة لموسى والأخرى لإيليا.

إن الرب يسوع ليس كنبي من الأنبياء فحسب، بل هو رب الأنبياء. لا يمكن أن نساوي الرب يسوع بموسى وإيليا، لنصنع ثلاث مظال في عيد المظال ذلك اليوم كان عيد المظال لدى بني إسرائيل، ذكرى خلقة العالم، ذكرى إعطاء الناموس، هذه الذكرى كان يصنعها بنو إسرائيل إذ يصنعون مظالاً، خيم من القش أو من الخشب خارج المحلّة ويسكنون فيها سبعة أيام بصوم وصلوات شكر لله على خلقة الإنسان بعقل ثاقب وضمير طاهر، وعلى خلاص الإنسان من العبودية الأرضية، وعلى إعطاء الشريعة. لقد كانت تلك الأيام مقدسة لدى بني إسرائيل، وتذكَّر بطرس ذلك، لعلَّه فكر وهو في أعلى الجبل، أنه من الأجدر أن يصنعوا خياماً هناك، واحدة لموسى وواحدة لإيليا وواحدة للرب، وبطرس أيضاً سيصنع له مع يعقوب ويوحنا ليعيدوا عيد المظال.

أما الرب فله مظال خاصة، لذلك فاجأهم الرب بأن خيَّمت غيمة بيضاء عليهم، وجاء صوت من السحاب جواباً لبطرس أنه لا يمكن أن يكون المسيح مساوياً لموسى وإيليا، الجواب جاء من السماء يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت له اسمعوا»، سمعتم سابقاً إلى موسى وإيليا وإلى الأنبياء، اليوم ومنذ اليوم له تسمعون فقط، فهو الشريعة وهو الناموس وهو المخلص، وهو الذي يسمع طلبات الناس ويستجيب صلواتهم.

ثم حالاً غاب موسى وغاب إيليا ووجد المسيح وحده.

«ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»، لم ير أحد مجد الرب الحقيقي، لأن الغيم حَجب عن أنظار الناس وأفكارهم اللاهوت الذي لا يمكن أن يراه أحد ويحيا، ولكن أعطى الله نعمة عظيمة لأولئك التلاميذ يوحنا وبطرس ويعقوب أنه رفع الحجاب عن اللاهوت فاستحقوا أن يروا جزءاً بسيطاً من مجد الله، «رأينا مجده» نعمة عظيمة نالوا من الرب أن يروا جزءاً من مجده.

عندما صعد موسى إلى الجبل وأخذ لوحي الوصايا وأتى بها إلى شعب إسرائيل أضاء وجهه أيضاً، نور الله انعكس عليه حتى لم يستطع هارون والبقية أن يتطلّعوا إلى وجه موسى، فكانوا يستعملون برقعاً حتى عندما يصلّون لأنهم أمام المجد الإلهي، ثم الرب يسوع الذي هو النور بالذات نشبّه ذلك بالشمس إذا كان موسى كالقمر أخذ نوراً من الشمس، ولم يستطع بنو إسرائيل أن يتطلّعوا إلى وجهه، فكم بالحري الشمس بالذات، شمس البر المسيح نفسه، عندما ظهر جزء بسيط من مجده، ورآه أولئك التلاميذ. قد رُفع عنا الستار واستحق كل واحد منا بتجسد المسيح وبعمل الفداء أن يتطلَّع إلى المسيح، لا يحتاج إلى برقع كما يحتاجه بنو إسرائيل لكي يقفوا أمام الله لكي يروا مجده.

يقول يوحنا في آية موضوعنا: «الكلمة صار جسداً وحلّ فينا ـ ليس فقط كما هو مكتوب في الترجمة العربية بيننا، بل (حلَّ فينا) توردها نصوص الترجمة السريانية: ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً.

فليُعد الله عليكم هذا العيد بالخير والبركة، لنرى مجد الله ونحن نرفع قلوبنا بالصلاة إلى السماء، وأرواحنا لتكون مع روح الله الأزلي الأبدي، لنمجِّد الله في عقولنا وقلوبنا.

أحبائي، عيّد بعضنا منذ بدء المسيحية هذا العيد واعتبر عيداً سيدياً، وسبب نعمة وبركة لنا، وقد كان آباؤنا عندما يعيدون هذا العيد ليلة العيد يسهرون بالتراتيل والصلوات والتأملات خاصة في الأديرة وفي طورعبدين كانوا يسهرون في دير مار كبرئيل الدير الذي أسس في القرن السابع للميلاد، ومنذئذ كان الشعب يقدسون الدير ويتقدسون منه، وخاصة في عيد تجلي الرب على الجبل لأن الدير أيضاً كان على مرتفع من الأرض وبذلك بصلواتهم كانوا يتشفعون أيضاً بمار كبرئيل، ومنذئذ عيَّدت الكنيسة في عيد التجلي للقديس مار كبرئيل، ومَنْ اسمه كبرئيل ليكن هذا العيد مباركاً عليه، وعلى أبناء شعبنا جميعاً، ولنقتد بآبائنا أيها الأحباء، أولئك الذين كانوا يعبدون الله بالروح والحق وكانوا يسهرون لا للسهر والبطر، ولا لأمور دنيوية بل لعبادة الله، ليؤهلنا الرب أن نكون كآبائنا متمسكين بشريعته المقدسة، معيدين أعياده بالروح والحق، بنعمته تعالى آمين.

 
  

عيد التجلي ومار كبرئيل (2)

«والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده. مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً».

        (يوحنا1: 14)

«الكلمة» الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الله الذي لم يره أحد. الإله العظيم في تجسده، الكلمة صار جسداً باتحاد لاهوته بناسوته، بطبيعته الواحدة وأقنومه الواحد، الله ظهر للناس، وحل فينا ـ ليس فقط بيننا ـ وأصبح مثلنا ولكن كانت نعمة عظيمة لكاتب الإنجيل المقدس يوحنا إذ قال: «ورأينا مجده». كانت نعمة عظيمة له ولاثنين من التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا أن يروا جزءًا من مجد الإله المتجسّد، يسوع المسيح عندما تجلى على الجبل.

قرائن ذلك الحدث من الأحداث المهمة جداً في سيرة الرب يسوع وتدبيره العلني بالجسد، تلك القرائن تدلّنا على أن الرب يسوع شاء أن يُظهر جزءًا من مجده لثلاثة من تلاميذه، كان قد اختصّهم قبل ذلك الحدث بمشاهدته وهو يُقيم ابنة يايروس من الموت، كما اختصَّهم بعدئذ وهو يتألم في البستان ويُصلّي لأبيه، ويُعلن إرادته له، خصَّهم أيضاً بمشاهدة ذلك الموقف الرهيب.

بعد أن أعلنت السماء على لسان بطرس الرسول حقيقة يسوع الناصري بأنه «ابن الله الحي». بعد ذلك بأسبوع تقريباً، أخذ الرب يسوع هؤلاء الثلاثة (بطرس ويعقوب ويوحنا) إلى الجبل، وآباؤنا يقولون: إن ذلك الجبل هو جبل تابور (ويلفظ أحياناً طابور)، مع أن جبل تابور كان قطعة عسكرية رومانية، ولم يكن بالإمكان أن يصعد الرب إلى هناك ويختلي ويصلي.

وبعضهم يقولون: إنه جبل حرمون، أي جبل الشيخ وقد يكون ذلك لأن حادثة إعلان السماء على لسان بطرس الرسول أن المسيح ابن الله الحي، جرت قريباً من ذلك الجبل، في ضواحي قيصرية فيلبس. ولكن الرسول بطرس ـ ليكن هذا الجبل أو ذاك ـ يدعوه الجبل المقدس، لقد صار الجبل مقدساً لأن تجلّي الرب حدث فيه.

صعد الرب مع تلاميذه الجبل، وصلوا هناك نحو المساء منهكين متعبين، أثقلهم النعاس ولنقُل النوم أيضاً. هناك انفرد الرب يسوع كما اعتاد أن ينفرد بالصلاة. موضوع صلاته عادةً لا نعرفه إلا في خاتمة الصلاة أو الحدث الذي يجيء بعد ذلك. يظهر أنه كان يصلي لله الآب ليظهر مجده.

رأوه وهو منفرد، وإذا بوجهه يلمع كالشمس، وثيابه بيضاء كالثلج، الشمس هو شمس البر ليس اللمعان طارئاً، إنما شيء طبيعي في المسيح قد أخفاه الجسد عن أعيننا كي نستطيع أن نتطلع إليه.

عندما نزل موسى من الجبل حاملاً لوحَي الوصايا، وجد هرون وغيره أنّ وجه موسى يلمع لأنه رأى جزءًا من مجد الله في الجبل. فلم يقدروا أن يتطلعوا إلى وجه موسى فوضعوا براقع على وجوههم، وإلى الآن بولس الرسول في الرسالة التي تليت على مسامعكم يُعلن وبطرس أن البرقع لا يزال موجوداً لأنهم لم يستطيعوا أن يتطلعوا إلى مجد الله. جزء من المجد الطارئ، شيء خارجي طرأ على موسى. أما المسيح الذي رآه بطرس ويعقوب ويوحنا هذا شيء جوهري في الرب يسوع لأنه هو شمس البر، ولئن كان الجسد كبرقع حجب عن أعيننا ذلك المجد لنستطيع أن نتطلع إلى الرب يسوع ونحادثه، ولنستطيع أن ننال نعمة عظيمة بالاستماع إليه ورؤية معجزاته ونيل البركة العظمى منه.

في ذلك الوقت رأى التلاميذ أيضاً رجلين، عرفوا أنهما موسى وإيليا، هل عرفا ذلك من الصور التي كانت متداولة بين القوم عن موسى وإيليا؟ أم عرفا ذلك من الحديث الذي جرى بين الرب يسوع وبين هذين النبيين العظيمين؟ موسى كان قبل ألف وخمسمائة سنة من مجيء الرب يسوع. موسى أعطى الشريعة للشعب. وإيليا قبل ألف سنة جلب الشعب للشريعة. ظهرا أمام الرب يسوع وكانا يتكلمان عن خروجه. والخروج يعني الخلاص الذي سيجريه الرب، كانا يتكلمان عن التضحية العظمى التي سيقدّمها كفارة عن البشرية، وهو الإله المتجسد.

لابد أن بطرس ويعقوب ويوحنا قد تذكروا كيف أنه عندما أعلن بطرس أن المسيح هو ابن الله الحي، ونال الطوبى من الرب وأعلن الرب أن ما قاله بطرس هو وحي من السماء ومن الآب السماوي كما قال، ثم بعدئذ أخذ الرب يكلمهم عن آلامه. يُعلن أنه هو الإله، ثم يُعلن أنه هو الذي سيُضحّي بنفسه على الصليب كفارة عن البشرية. وهذا ليس بسيطاً، ولا نقدر كبشر أن نتحمّل ذلك، لذلك بطرس على لساننا كلنا قال له: حاشا لك يا رب، لا يمكن أن يكون لك ذلك. الذي يقيم الموتى سيموت.

نحن نلوم بطرس، ولكنه لم يقل إلا الحق، لأننا كبشر لا ندرك ذلك، من جهة أنه ابن الله، ومن جهة ثانية أنه سيموت. فهل يمكن أن يموت الذي أقام الموتى بكلمة من فيه؟

انتهره الرب وأعلن أن ذلك هو تجربة من إبليس بالذات، لأن إبليس لا يريد أن يموت المسيح، وبموته يكفِّر عن ذنوب آدم، ويحق له بذلك أن يدخل الفردوس ثانيةً بل إلى ملكوت الله. فقال له الرب: اذهب عني يا شيطان، اعتبر أن الشيطان قد لبس بطرس، كما تلبَّس الحية في الفردوس.

وفي التجلي نرى بطرس عندما يرى الرب يسوع في جزء من مجده العظيم، يقول للرب: جيدٌ يا رب أن نمكث ههنا. سحابة غطتهم لأن بطرس طلب أن يصنعوا ثلاث مظال وكانت المناسبة عيد المظال. وعيد المظال عند اليهود كان عيداً من أعيادهم الكبرى. كانوا يصنعون مظالاً من القش والخشب خارج المحلة، ولمدة سبعة أيام يحيون هناك ويمجدون الله قبل كل شيء لأن في ذلك اليوم أعطيت الشريعة بواسطة موسى، لذلك كانوا يشكرون الله في ختام نتاج الثمار لديهم، هذه النعمة العظيمة كانت تجعلهم سنوياً يقفون في الهيكل أمام الله فيشكرونه لأنه خلقهم بشراً، لأنه أيضاً أخرجهم من مصر، لأنه أعطاهم الشريعة بواسطة موسى، يشكرونه على كل ذلك.

فقال بطرس: جيد يا رب أن نكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال. واحدة لك ولموسى ولإيليا، حينذاك أعلن له الرب أن له مظالاً أخرى، كان المسيح معهم فظلّلتهم خيمة عظيمة، سحابة بيضاء، والسحابة في العهدين القديم والجديد تدل على الوجود الإلهي، لأن الرب جعل عرشه على السحاب كما يقول الأنبياء، ولأنه أيضاً سيأتي كما صعد على السحابة في مجيئه الثاني، ومن السّحابة جاء صوت: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا.

تقول يا بطرس ثلاث مظال، ليس لنا إلا إله واحد هو الإله المتجسد. نعم، إن موسى أتى بالشريعة ليس من عنده بل من الله، وإن إيليا جلب الشعب إلى الله. ولكن الرب يسوع وحده هو رب الشريعة ورب الناموس ورب الأنبياء. لذلك له اسمعوا.

أنت من الآن فصاعداً طالما أن المسيح إلهكم المتجسد قد فداكم أيضاً بجسده ودمه الأقدسَين ليس لكم إله غيره، هو وحده، لا الأنبياء، ولا الناموس ولا الوصايا. نتبع المسيح لأنه هو مثالنا، تجسد لكي يعلمنا كيف نسلك في هذه الحياة، كيف نكون متحدين مع الآب السماوي، حينذاك غاب موسى وإيليا وظهر المسيح وحده لبطرس ويعقوب ويوحنا، عندما نزلوا من الجبل أوصاهم المسيح أن لا يقولوا لأحد حتى يقوم ابن الإنسان من بين الأموات وهكذا كان.

أيها الأحباء:

الكنيسة تحتفل بهذا العيد، واحتفلت عبر الدهور والأجيال فيه. في أديرتنا كنا نحتفل بهذا العيد، وكان آباؤنا القديسون، نأخذ مثلاً في طورعبدين يجتمعون طيلة الليل في دير مار كبرئيل، وحول تلك المنطقة في الصلوات، في السهر الروحي بعبادة الله بالتأمل بهذه الحادثة التي تعتبر من الحوادث المهمة جداً في تدبير الرب يسوع بالجسد.

منذ القرن السابع لنا دير هو دير مار كبرئيل، وهذا الدير كان مليئاًً بالرهبان الأتقياء، وأيضاً كان كلية لاهوتية وعندما كانوا يسهرون في كل سنة، كانوا يمجدون الله وأيضاً يمدحون القديسين وخاصة مار كبرئيل، ورأت الكنيسة بعدئذ أن تعيّد للقديس كبرئيل الذي كان راهباُ، زاهداً، ناسكاً ثم مطراناً للدير. الدير أُسِّس قبل مطرنته ولأنه اشتهر فيه، عيَّدت له الكنيسة، ورأت أن تعيد في نفس النهار الذي تعيّد فيه لتجلي الرب ولظهور مجده الإلهي. ونحن نعيد للقديس كبرئيل لأنه كان خير من يعبد الرب يسوع، وخير من يتأمل بسيرته الإلهية وخير من أقام نفسه مثالاً. نعيّد كل من يحمل اسم كبرئيل، وكل من يعيد عيد التجلي للرب كما كان يفعل القديس كبرئيل. ولتكن نعمة الرب عليكم جميعاً ونستحق بقوة الله وشفاعة القديس كبرئيل، أنه في اليوم الأخير عندما يظهر المسيح ويأخذنا إلى عنده ونذهب نحن أيضاً ونختطف في الجو إن كنا أحياء، أو تتّحد أرواحنا وأجسادنا معاً لكي نرث الملكوت السماوي لكي نرث ملكوته السماوي، في ذلك اليوم العظيم سنظهر بأجسادنا الممجدة كما ظهر المسيح بمجده، تكون أجسادنا شفّافة روحية ممجدة على شبه قامة المسيح، كما قال الرسول بولس (1تس 4: 13)، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

انتقال السيدة العذراء إلى السماء

انتقال السيدة العذراء إلى السماء

عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء (1)

 
  

رسالة بطرس2 (1: 12 ـ 21)

2 كورنثوس (3: 4ـ 18)

لوقا (9: 28ـ 36)

عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء

أيها الأحباء ببهجة روحية نحتفل بالقداس الإلهي في هذا اليوم المبارك تحتفل الكنيسة المقدسة، كنيسة السيدة العذراء مريم للذين في صيدنايا مدينة العذراء، لهذا الشعب المبارك الذي يسرنا جداً أن نراه وهو يسكب روحه أمام الله ويعبد الله بالروح والحق وخاصة في هذا اليوم الذي نحتفل به بعيد انتقال العذراء مريم بالجسد إلى السماء.

أيها الأحباء:

أمنا العذراء مريم والدة الله، هذه التي ولدت الإله بالجسد، فاستحقت أن نكمّل ما تحدثت به عن نفسها يوم زارت نسيبتها اليصابات، ويوم أعلنت اليصابات بوحي من السماء قائلة: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟» فكانت اليصابات في مقدمة من أعلن أن العذراء مريم هي أم الله كما أقرَّت الكنيسة بناءً على العقيدة السامية أن العذراء هي والدة الله لأنها ولدت الإله بالجسد فعندما تمت إرادة الله إذ جاء ملء الزمان لينزل الكلمة من السماء ويتجسد.

وسمعنا الملاك يبشرها وهي دائمة البتولية بأنها ستحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل هذا الابن هو نسل المرأة الذي أعلن عنه الله الآب في بدء الخليقة عندما سقط الإنسان في الخطية وأعطى الله للإنسان الرجاء بالخلاص قائلاً: «أن نسل المرأة يسحق رأس الحية»، هذه الحية التي هي إبليس بالذات وهذا النسل ليس هو أنسال كما يقول الرسول بولس بل نسل المرأة الذي حُبِلَ به بغير زرع بشر، وفي القرن الثامن قبل الميلاد وضح لنا إشعياء النبي هذه الأعجوبة العظيمة بقوله: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل» وجاء الرسول متى وهو يكتب الإنجيل المقدس مستشهداً بهذه الآية ومفسراً هذه الكلمة، كلمة «عمانوئيل» السريانية قائلاً: «الذي تفسيره الله معنا».

فهو الله الذي تجسد، هو الكلمة الذي اخذ الجسد البشري الكامل من الروح القدس والعذراء مريم، فنالت العذراء النعمة العظيمة من الله، إن الله عندما أراد أن يختار له أماً، اختار فتاة يتيمة، لطيمة، مسكينة، فقيرة جداً، ومن نسل الملوك والأنبياء ولكنها في الوقت نفسه بتواضعها، بِدِعَتها استطاعت أن ترضي الله ليختارها أماً له بتجسده فحل فيها الروح القدس عندما رضيت بما بشرها الملاك الذي قال لها: إن المولود منها قدوس وابن العلي يدعى وانه يأخذ كرسي داؤد أبيه.

ذكرها بالنبوات إن المسيح يأتي من نسل داؤد ويكون ملكه إلى الأبد، العذراء عندما قالت ها أنا امة للرب ليكن لي كقولك حينئذ حل عليها الروح القدس أولاً وطهرها وأهَّلها لتكون أماً لله فحل في أحشائها اللاهوت، لم يحرقها وهو نار بل أنارها وجبل من دمائها جسداً كاملاً ناسوتاً كاملاً ذا نفس حية كاملة أيضاً واتحد اللاهوت بالناسوت في أحشاء العذراء ولذلك حق لنا أن نعلن أن العذراء والدة الله لأنها ولدت الإله المتجسد، كما تلد النسوة الناس وهم ليسوا جسداً فقط بل روح كذلك ولدت العذراء مريم المسيح يسوع وهو جسد ولاهوت في آن واحد وفي اتحاد اللاهوت بالناسوت باقنوم واحد وطبيعة واحدة حق لنا أن ندعو العذراء مريم «والدة الله»، كما دعاها الآباء القديسون في المجمع الثالث المسكوني في أفسس.

أجل، استحقت العذراء هذه النعمة العظيمة، ونحن عندما نذكرها لابد أن نذكر الفتاة القديسة التي سمت عن البشر بتواضعها، عندما زارت اليصابات نسيبتها، واليصابات بوحي من الله قالت: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ، هوذا عندما وقع صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يكون لها ذلك من قبل الرب».

فقالت مريم: «تعظم نفسي الربَّ، وتبتهج روحي بالله مخلصي، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأنَّ القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه».

هوذا آباء الكنيسة بل أيضا المؤمنون كافة منذ فجر المسيحية طوَّبوا العذراء مريم بناءً على نبوتها شُيدت الكاتدرائيات العظيمة على اسمها في العالم أجمع، تشفع فيها القديسون والأنبياء بل أيضا المؤمنون الأتقياء لأنها صارت والدة الإله وعيدت لها الكنيسة منذ فجرها كما أعلن لنا الآباء القديسون الشمامسة الذين كانوا يعملون بصنع الفخار (القوقويه) منذ القرن السادس وأعلنوا لنا أنّ يوحنا الرسول منذ بدء المسيحية أتى بكتب إلى أفسس ووضح فيها أنه على المؤمنين أن يعيِّدوا للعذراء في كانون الثاني عيد الزروع لتبارك العذراء زروعنا، وفي أيار عيد السنابل لتبارك العذراء السنابل وتحرسها من الآفات، وفي الخامس عشر من آب ـ في مثل هذا اليوم ـ يعيدون لها عيد الكرمة، لأنّ السيد المسيح هو الكرمة ونحن الأغصان، ومن الكرمة يؤخذ الخمر الذي يقدَّس بهذا نرى سر المسيح بالذات، سر جسده ودمه فالسنابل والكرمة عنصرا الخبز والخمر معاً.

والكنيسة المقدسة أيضاً جعلت عيد الكرمة عيد انتقال العذراء إلى السماء الذي نعيِّد له في هذا اليوم ذلك لأنها آمنت بحسب التقليد المبارك الصادق أن العذراء قد انتقلت إلى السماء ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضا كما يُثبت التاريخ وبحسب تقليدنا نحن السريان، أن الرسل يوم انتقلت العذراء مريم من هذه الحياة اجتمعوا تلاميذ الرب إلى أورشليم وشيَّعوا جثمانها ووضعوها في قبر جديد وان الرسول توما الذي كان في الهند عندما جاء ووصل أورشليم بعد سبعة أيام وهو في طريقه من الهند رأى موكب العذراء يصعد إلى السماء هذا تقليد ثابت ذكره الآباء القديسون وأثبتوه بعلامات فحياّها وطلب منها إشارة وبرهاناً ليخبر إخوته الرسل بأنه قد رأى موكبها صاعداً إلى السماء ورآها بجسدها الممجد لتستحق أن تدخل السماء بالجسد الذي لا يمكن أن يبلى وقد ولد منها المسيح يسوع بالجسد ونحن لا نستغرب من ذلك ابداً وهذه عقيدة الكتاب المقدس.

ألم يتحدث الكتاب عن أخنوخ أنه سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه، لأنه كان يخاف الله.

ألم يذكر الكتاب المقدس عن إيليا النبي الذي بمركبة نارية صعد إلى السماء، وقد تغير طبعاً جسده إلى جسد روحاني واستحق أن يدخل السماء بهذا الجسد الروحاني، وأن يظهر يوم التجلي مع الرب يسوع.

وموسى النبي أيضاً جاء بروحه بجسد أثيري ورآه الرسل الثلاثة يعقوب ويوحنا وبطرس هامة الرسل بمجد عظيم مع الرب يسوع يوم تجلى بمجد عظيم جداً.

إذن، هل نستغرب أن يحفظ الله الآب والابن والروح القدس جسد البتول العذراء مريم التي ولدت الإله المتجسد، أن يحفظ جسدها بدون فناء ويغير هذا الجسد إلى جسد روحاني.

ويرى موكب صعودها إلى السماء الرسول توما، ويخبر ذلك إخوته الرسل ويفتحون قبرها فلم يجدوا الجسد، لذلك يرتل أبناء الكنيسة ما نظمه القديس مار يعقوب السروجي في القرن السادس «إن كان جسدك بعيداً عنا لأنه لم يبقَ لنا كذخيرة لبقية رفات القديسين، فإن صلاتك معنا دائماً».

فنحن نطوِّب العذراء كما قالت «جميع الأجيال تطوبني»، ونمدحها ونتشفع بها، ولكننا لا نعبدها، لأن العذراء إنسان وليست إله، لذلك من عبدها كفر، نطوبها ونتشفع بها لكي تتشفع بنا لدى ابنها الرب يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا لكي يرحمنا.

ونعيد لها فقط عيد ميلادها وعيد ميلاد مار يوحنا المعمدان من سائر القديسين والأبرار لا نعيد لهم إلا عيد نهاية أيامهم على هذه الأرض وانتقالهم إلى الخدور العلوية، ولكن العذراء نعيد عيد ولادتها الذي يصادف الثامن من أيلول.

فنعطيها الطوبى إذ استحقت وهي بالجسد التام وهي أيضا بشر مثلنا وولدت تحت الخطية، فهي ليست امرأة خالية من الخطية ولكن عندما بشرها الملاك واستحقت أن تكون والدة الإله حينئذ طهرها الروح القدس ونقّاها، وحلَّ فيها اللاهوت، وجبل من دمها جسداً كاملاً، لاهوتاً وناسوتاً.

هذه هي العذراء التي نعيد لها اليوم عيد انتقالها إلى السماء، ونطلب شفاعتها لينشر الله أمنه وسلامه في العالم أجمع، ويبارك أبناء الكنيسة لكي يكونوا متمسكين دائماً بالإيمان القويم الرأي، ويمجدوا اسم الآب والابن والروح القدس، الآن وكل آن آمين.


انتقال السيدة العذراء إلى السماء (2)

«قالت مريم تُعظم نفسي الرب، وتبتهجُ روحي بالله مخلصي لأنهُ نظرَ إلى تواضع أمَتهِ، فهوذا منذُ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأنَّ القدير صنعَ بي عظائم واسمه قدوس ورحمتهُ إلى جيل الأجيال للذينَ يتَّقونهُ…».                               

 (لوقا 1: 46ـ 51)

تُعيِّدُ الكنيسة في هذا اليوم أيها الأحباء عيدَ انتقالِ السيدة العذراء مريم إلى السماء، ونحنُ منذُ بدءِ المسيحية نعلمُ أنَّ الكنيسة احتفلت بأعيادِ السيدة العذراء، يذكر ذلكَ الآباء القديسون ومن بينهم القوَّاقون بصلاةٍ نتلوها دائماً أسبوعياً والتي نقولُ فيها كما قيلت أيضاً ورُتِّلت من الشمامسة في بدءِ القداس أنَّ أرضَ إفسس ابتهجت لأنَّ مار يوحنا الإنجيلي قد أتى بكتب السيدة العذراء وليُبرهن القوَّاقونَ الذينَ ذكروا هذا الشيء في ألحانهم أنَّ ما ذكرهُ يوحنا إنما كانَ تقليداً شريفاً في الكنيسة المقدسة منذ بدئها، وكانَ القديس يوحنا في كتب العذراء مريم يؤكدُ أن الكنيسة كانت تحتفلُ بعيد العذراء لبركة الزرع ثم السنابل ثم لبركة الكرمة الذي نحتفلُ بهِ في هذا اليوم، وبذلكَ نرى أنَّ العذراء مريم التي وُلدَ منها السيد المسيح بالجسد وكما يصفهُ ودائماً بذكر هذهِ الآية باعتزاز الرسول بولس الله ظهرَ بالجسد، فالسيد المسيح أعطانا جسدهُ المقدس ودمهُ الطاهر وذلك من العذراء مريم، ولذلك فالعذراء مريم تُبارك زروعنا وسنابلنا وفي الوقتِ نفسهِ تُبارك الكرمة لتُعطينا الجسد الذي نراهُ في القربان المقدس، الحنطة النقية الطاهرة في الزروع والسنابل ثم الكرمة تعطينا الخمرة الطاهرة النقية، خمرة الروح التي هي دم المسيح بالذات. ونحنُ إذ نُعيِّدُ هذا اليوم عيد الكرمة نعلمُ أنهُ عبر الدهور والأجيال قد تحوَّلَ هذا العيد إلى عيدِ انتقال السيدة العذراء إلى السماء،إذ قَرُبَ تاريخهُ من عيد انتقال السيدة العذراء فوُحِّدَ، فهو عيدُ الكرمة وعيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء، عندما نقول هذا الشيء بحسب التقاليد ولئن يُذكر هذا الأمر بحسب المجامع المسكونية إنما أصبح عقيدة تقليدية أخذتها الكنيسة منذُ القديم وخاصةً ذُكرت لدينا نحنُ السريان أيها الأحباء عندما ذُكرَ الرسول توما وعندما أنعمَ الله عليهِ وهو في طريقهِ من الهند، خُطفَ ليأتي ويحضر جنازة السيدة العذراء مريم بعد انتقالها إلى السماء ويراها وهي صاعدة إلى السماء وبحسبِ تقليدنا أنهُ أخذَ منها برهاناً على هذهِ الحقيقة، الزنار المقدس الذي تحتفظُ بهِ كنيستنا في مدينة حمص منذُ القديم، ونحنُ عندما نُعيِّدُ للسيدة العذراء عيدَ انتقالها إلى السماء نرى في هذا الانتقال أولاً الانتقال نفساً هذا أمرٌ طبيعيّ عندما الآباء القديسون والأتقياء والتقيات يُغادرون هذهِ الحياة، أنفسهم تُغادرُ أجسادهم وتذهب إلى الفردوس حيثُ المسيح وتنتظر يوم القيامة بسرورٍ وفرحٍ وابتهاج لتتَّحدَ بأجسادها يومذاك ولئن تكونُ هذهِ الأجسادُ قد صارت رميماً، لكن في حال العذراء مريم عندما نقول أنها انتقلت إلى السماء كما يقول التقليد المقدس أنها انتقلت جسداً وروحاً ولذلكَ عندما جاءَ الرسول توما بحسب التقليد إلى أورشليم طلبَ من الرُسل أن يفتحوا ضريح العذراء مريم ليَرَوا جسدها فلم يروهُ، حينئذٍ أعلنَ لهم ما رآهُ في طريقهِ من الهند إلى أورشليم لحضورِ جنازِ العذراء أنها قد صعدت إلى السماء بالنفسِ والجسد معاً وهذا ليسَ غريباً عن روح الكتاب المقدس، أَلَم نرَ إيليا والعذراء لم يوجد مثلها في الكون ولم يَنَل أحد نعمةً كما نالتها فهيَ الممتلئة نعمةً، الفتاة النقية القديسة الطاهرة العفيفة التي اختارها الرب من دون جميع النساء والفتياتِ في العالم وجَبلَ من دمائها جسداً طاهراً نقياً، هذهِ العذراء استحقَّت أن تُدعى الممتلئة نعمةً، فهل نستغرب أنَّ الرب شاءَ ألاّ يفسد جسدها بل أن تتغيَّر إلى جسد روحانيّ عندَ انتقالها من هذهِ الحياة أن تصعد بهذا الجسد وروحها إلى السماء مُمجدةً، نحنُ الذين نقرأ عن إيليا أنهُ اختُطِفَ إلى السماء بمركبةٍ نارية هل نستغرب أنَّ العذراء نُقلت أيضاً إلى ابنها وهي والدة الإله التي ولدتهُ بالجسد، هذا هو إيماننا أيها الأحباء ولذلك نحن نتشفع بالعذراء ونرى أنها حيَّة وهي معنا دائماً نطلبها ونطلب منها الشفاعة وهي لها مكانتها السامية لدى ابنها الرب يسوع، عندما نقرأُ الإنجيل المقدس نرى أنَّ العذراء كُرِّمت من الرب ليسَ فقط وقد اختارها أماً لهُ بل أيضاً أرادنا أن نعتبرها مثالاً وقدوةً لنا.

 تُليَ على مسامعكم آياتٌ من الإنجيل المقدس، من إنجيل لوقا ثمَّ يوحنا كيف أنَّ امرأة خرجت من الجَمع ونادت للرب يسوع طوبى للبطن الذي ولَدَك والثديَين اللذين رضعتهما، الرب يسوع قال بل طوبى للذين يسمعونَ كلام الله ويحفظونهُ، هذهِ طوبى للعذراء مريم التي قالت منذُ الآن تُطوبني جميع الأجيال وذكرَ عنها الإنجيل المقدس أنها كانت تحفظ كلَّ الكلام وكل ما حدث منذُ الحَبَل بالرب يسوع وحتى انتقاله أيضاً وقيامته، ليسَ فقط أن تحفظ بل كانت تحفظ الكلام وتُفكِّر بهِ بقلبها، فنحنُ إن كنا نرغبُ في أن ننالَ هذهِ الطوبى علينا أن نقتدي بالسيدة العذراء ونحنُ نُعيِّدُ لها أن نقرأ كلمة الله، أن نتأمل بهذهِ الكلمة أن نحفظها بل أن نعمل بها لأنَّ الرب قال طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملونَ بها.

 أهَّلنا الرب الإله بشفاعة السيدة العذراء أيها الأحباء أن ننال هذهِ الطوبى ونعمتهُ تشملكم وكل عام وأنتم بخير.

الأحد السادس عشر بعد القيامة

الأحد السادس عشر بعد القيامة

الأحد السادس عشر بعد القيامة

أعمال الرسل (28: 11ـ22)

1 كورنثوس (1: 21ـ 29)

لوقا (14: 18ـ 28)

الأحد السادس عشر بعد القيامة

المائدة الإلهية

«قال له الأول: إني اشتريت حقلاً وأنا مضطر أن أخرج وأنظره. أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماضٍ لأمتحنها. أسألك أن تعفيني. وقال آخر: إني تزوجت بامرأة فلذلك لا أقدر أن أجيء. فأتى ذلك العبد وأخبر سيّدهُ بذلك. حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقّتها وأدخِل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي. فقال العبد: يا سيّد قد صار كما أمرتَ ويوجد أيضاً مكان. فقال السيد للعبد: اخرج إلى الطرق والسياجات وألزِمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي. لأني أقول لكم إنه ليس واحدٌ من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي» 

        (لوقا: 14: 18ـ 24)

هذه الآيات المقدسة من إنجيل لوقا، سمعنا فيها الرب يسوع يضرب مثلاًً عن العشاء الكبير، عن الوليمة الإلهية. كلنا نقرأ ذلك وندعو ذلك المثل بـ(الأعذار)، لأن الرب دعا الناس إلى عشائه هذا، إلى وليمته السماوية، والعديد من الذين كان يجب أن يكونوا الأولين في تلبية هذه الدعوة والتنعم بهذه المائدة، قد اعتذروا.

نقرأ ذلك ونظن أنه مجرّد مَثَل ولكن في الحقيقة، ما ضربه الرب يسوع كمثل إنما أعلن فيه حقيقة إلهية تنبّأ عنها إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد في مجيء ماسيا، عندما قال: الرب سيهيئ لذلك الشعب، للشعب والشعوب، لشعب العهد القديم الذي كان قد ائتمن على حفظ الناموس والأنبياء، وللشعوب كافة وليمة يقول فيها: أن الرب يهيئ مسمناته وخموره (إش 55: 6). هذه الوليمة هي القربان المقدس، هي الذبيحة الإلهية، هي ذبيحة المسيح أولاً الذي أعطانا جسده المقدس ودمه الأقدس، صُلِب عنا، سَفَك ذلك الدم لكي يبررنا ويقدسنا ويجعلنا أن نولد ميلاداً ثانياً من السماء لنصير أولاد الله بالنعمة. لذلك دعانا لوليمته هذه. المثل يقول: إن إنساناً قد صنع عشاءً كبيراً ودعا إليه الناس، كان الرب قد نبّه وهو جالس على العشاء عندما ضرب هذا المثل عند رجل فريسي في إحدى القرى، كان قد نبّه أنه إذا إنسان أراد أن ينال من الرب مكافأة وجزاء ورضى من الرب، إذا صنع عشاء فليدعُ الجدع والعميان والمحتاجين والمعوزين، لا يدعو الأغنياء والأصدقاء الذين بإمكانهم أن يردوا إليه الدعوة في هذا العالم. عندما ندعو المحتاجين كأنما ندعو الرب يسوع بالذات، ننال نعمة عظيمة، وأجرنا يكون في السماء، لأن مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يكافئونا عما عملناه لهم.

وفي المثل نرى أن هذا الرجل الكبير، قد دعا إلى العشاء أصدقاءه وجيرانه وأرادهم أن يأتوا. وفي ساعة العشاء، وهذه عادة قديمة موجودة عندنا نحن الشرقيين وإن نسيناها، أننا لا نكتفي أن ندعو الشخص مرةً، ونقول: أنه في اليوم الفلاني أنت مدعو على العشاء. وأقول العشاء، لأن أهم وجبة عندهم هي العشاء، يكون قد انتهى من أعماله وعاد إلى بيته واستراح، بل كان أيضاً في ساعة العشاء يبعث من يدعوه ثانية. وفي المثل يقول: أنه بعث عبده ليدعو هؤلاء، فبدؤوا يعتذرون. الواحد قال: أنا اشتريت حقلاً ولابد أن أذهب وأنظره فأرجو أن تعفيني، الثاني قال: اشتريتُ خمسة أزواج بقرٍ وأنا أريد أن أجرِّبها وأرجو أن تعفيني، والثالث قال: قد تزوج امرأة ولم يعتذر عن المجيء ولذلك لا يأتي. طبعاً غضب هذا الإنسان، وأي واحد منّا إن عمل عشاءً وهيَّأ، وعند ساعة العشاء يعتذر الناس طبعاً سيغضب، لأنهم أخجلوه، رجع العبد وقال له: قد استعفى أولئك الناس، قال: اذهب إلى الطرق والسياجات، ادعُ كل الناس إلى العشاء، قال له: فعلنا ذلك ومازال هناك مكان، فقال له: ألزِمهم للدخول ويأتوا إلى العشاء لأن أولئك لا يستحقون أن يأكلوا من ذلك العشاء. هذا مثل رمزيّ طبعاً. الرب في وليمته الإلهية التي تنبّأ عنها إشعياء كما قلتُ، عندما يأتي (ماشيحا) المسيح المنتظر. في هذه الوليمة الإلهيّة كان المفروض وقد دعا منذ أن اختار لهم أن يحافظوا على الناموس والأنبياء، كان المفروض أن يأتوا هم، لكن الرب قال: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يو1: 11). 

هؤلاء اليهود، غلاظ الرقاب، قساة القلوب، الذين انهمكوا في أمور الدنيا وفكّروا في الأمور الزّمنية تركوا الناموس، تركوا النبوات، وحاول الكتبة والفريسيون أن يصطادوا الرب ولو بكلمة، أو بأي شيء يعتبرونه خطأً أو خطيئة، هؤلاء دعاهم الرب إلى وليمته ولكنهم استعفوا، لأنهم لا يستحقون ذلك، لذلك أيضاً قال: يأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون في أحضان إبراهيم واسحق ويعقوب، أما بنو الملكوت فيطرحون خارجاً (مت 8: 11).

هذه الوليمة تعلّمنا أنه علينا قبل كل شيء، أن نطيع الرب إلهنا في كل وصاياه، علينا أن نفتكر بخلاصنا، أن نشترك بالمائدة الروحية الإلهية. أولاً: أن نؤمن بالخلاص الذي نلناه بصلب المسيح، فغُفِرت خطيئة آدم الخطيئة الَجدِّية، وغُفِرت هذه الخطيئة أيضاً لنا جميعا، وحتى خطايانا الشخصية في المسيح يسوع. ويعطينا مائدةً روحية سر القربان المقدس، هذه المائدة تمثل الصليب بالذات باستحقاقاته، تمثل الجلجلة بما للناس مغفرة من خطاياهم، والمائدة موجودة دائماً، وعبيد الله يرسلهم دائماً كما أرسل ذلك الإنسان عبده ليدعوهم، كل شيء قد أُعِدَّ قال ذلك الإنسان، هذا رقيم الدعوة، هلموا، تعالوا، كل شيء قد أُعِدَّ، يقول: مسمَّناتي قد ذبحتها. وإشعياء يذكر أن ليس المسمنات فقط يذكرها، بل الخمور. وبذلك نرى أن الخمر والخبز يتحولان إلى جسد المسيح ودمه، هذه الذبيحة الإلهية مجاناً مقدَّمة لنا، عبيد الله الكهنة، ومَنْ هم وكلاء المسيح بالذات يدعون أولئك الذين نالوا الخلاص، ونعمة الغفران، وكذا أيضا نعمة التبني أصبحوا أيضاً أبناءه بالنعمة، يدعوهم لكي يتنعموا بالمائدة مع المسيح يسوع ربنا، بل بأكل جسد المسيح ودمه، فهل نلبي أيها الأحباء؟ أم نستعفي كأولئك المنهمكين، بدلاً من أن يأتوا إلى الصلاة ويُصلّوا ويستغفروا، منهمكين في أمور الدنيا. الذي يقول قد اشترى حقلاً هل من المعقول اشترى حقلاً ولم يره من قبل، حتى قال أنني ذاهب لأراه، هل معقول أن الذي اشترى خمسة أزواج ثيران لم يجربها من قبل، والذي تزوج نعم يقول أنه تزوج ولكن عليه أن يأتي بزوجته أيضاً، أو حتى إذا كانت الزوجة هي السيدة في البيت أن تأتي هي به إلى الكنيسة لكي ينالا نعمة الرب، ويشتركا في القربان المقدس.

ليؤهِّلنا الرّب أيها الأحباء أن نلبي دعوته دائماً، أن نشعر بمسؤوليتنا بالمشاركة بمائدة الرب العظيمة، وأن ننال الحياة الأبدية والملكوت السماوي، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد الثامن عشر بعد القيامة

الأحد الثامن عشر بعد القيامة

الأحد الثامن عشر بعد القيامة

أعمال الرسل (19: 13ـ 22)

عبرانيين (13: 9ـ 18)

مرقس (10: 28ـ 34)

الأحد الثامن عشر بعد القيامة

الاتكال على المال

«فأجاب يسوع وقال لهم: يا بَنيَّ ما أعسر دخول المتّكلين على المال إلى ملكوت الله»

     (مرقس 10: 24)

شاب غنيّ طموح بلغ مأربه ووصل إلى هدفه وأتم رغبته فربح أموالاً طائلة وتبوأ مركزاً مرموقاً ولكنّه لم يكن سعيداً، جاء مجرداً نفسه من هيبة ذوي الأموال والمراكز والمراتب، جاء يقول الإنجيل المقدس راكضاً، لقد سعى راكضاً في حياته بياض نهاره وسواد ليله ليحصل على المال، ولكنه الآن يركض لتفكيره بما وراء القبر يريد أن يحصل أيضاً على السعادة الأبدية الخالدة.

في الصباح تكلمنا عن إنسان من نوع آخر، عن ناموسي قام يجرب الرب ويسأله السؤال نفسه، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ذلك الناموسي جاء بنيّة سيئة أما هذا الشاب الغني فجاء بنيّة سليمة صالحة، فهو حقاً يطمح لنيل الحياة الأبدية، ذاك جاء يجرب الرب، أما هذا جاء ليغترف ماء الحياة من ينبوع الحياة، من المسيح يسوع ويرى فيه معلماً صالحاً، ويدعوه أيها المعلّم الصالح، المسيح يريد أن يصحح ما يفكر به هذا الإنسان عن الصلاح وعن ذاته أيضاً، إن كان يفتكر هذا الإنسان بأن المسيح هو مجرّد معلم صالح فقط أخطأ الهدف لذلك يقول: له تدعوني صالحاً ليس صالح إلا واحد وهو الله، فهو الإله بالذات، الله ظهر بالجسد وصلاحه ليس كصلاح الناس، هو بالذات، وفي الوقت نفسه يوجه هذا الإنسان الشاب إلى الوصايا، أنت تعرف الوصايا يقول له الرب: لا تزن،لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك، يجيب ذلك الشاب قد حفظت ذلك من صباي، إذاً يعوزك واحدة، شيء واحد يعوزك، بعْ كل مالك ووزعه على المساكين يكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب.

أمر صعب جداً، يذهب ذلك الشاب كئيباًُ لأنه يقول الإنجيل كان ذا أموال طائلة كثيرة، أما الأول الناموسي فبمماحكته أنتج لنا أن يذكر المسيح يسوع لنا وللعالم مثله السامي جداً مثل السامري الصالح، عرفنا منه أننا كمسيحيين كأتباع المسيح علينا أن نرى الناس أخوة لنا، كل من يحتاج إلى مساعدتنا نقدمها له المساعدة باسم المسيح، ونعلم أن أجرنا لا يضيع أبداًَ.

هذا الشاب المسكين الذي جاء بنية طيبة فقد نعمة عظيمة لأنه كان هناك حجر عثرة أمامه المال، ذهب كئيباً لا نفهم بهذا أن الرب أبغض ذلك الإنسان يقول الإنجيل أنه أحبه لأنه حفظ الوصايا ومن ذلك نتعلم أنه لابد أن نحفظ الوصايا وأن الإيمان بدون أعمال ميت، ليس أن نؤمن بالرب وحسب بل أن نعمل بوصايا الرب إن كنا قد أحببناه، وعندما ذهب ذلك الإنسان ترك المسيح التفت المسيح إلى تلاميذه والحاضرين، يا بنيَّ قد قال لهم: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، وقال أجاب ثانية قائلاً: ما أعسر دخول المتكلين على المال إلى ملكوت الله، فمن اتكل على المال يعني أنه عبد المال، والمسيح أوصانا أننا لا نستطيع أن نعبد ربين، أن نخدم سيدين الله والمال، إذا عبدنا الله يعني ذلك أننا قد اتكلنا على الله، وإذا اتكلنا عل المال يعني ذلك أننا نعبد المال دون الله، لأن الذي يتكل على شخص أو على أمر ما أو على شيء ما يعني ذلك أنه يؤمن بقوة وقدرة ذلك الشخص أو ذلك الشيء، هل نستطيع أن نؤمن بقدرة المال، الغني الجاهل الذي ذكره الرب في الإنجيل المقدس كانت كورته قد أخصبت، لم يفتكر بأن يساعد أولئك الذين بعرق جبينهم استطاعوا أن يحرثوا ثم يحصدوا ويقدموا له هذا النتاج، لم يفتكر بمساعدة الفقير والمحتاج والمعوز، افتكر أن يوسع مستودعاته، افتكر بأن المال يخلصه حتى من الموت فناجى نفسه كلي واشربي وتنعمي لك يا نفسي أموال كثيرة لسنين عديدة، فجاءه الصوت الليلة يا غبي تؤخذ نفسك منك فهذا الذي أعددته لمن يكون.

اتكل على المال ولم يستطع المال أن يخلّصه من الموت ليس هذا فقط بل ما بعد الموت في الحياة الأبدية يتعذب مع ذلك الغني الذي طلب من إبراهيم أن يرسل لعازر الذي كان فقيراً ومعذباً في الأرض ولم يساعده ذلك الغني أن يرسله ليبل طرف إصبعه لأنه يأتي لكي يساعد ذلك الغني في النار لعله يرتاح قليلاً، ولكنه سمع الجواب إنك قد تنعمّت في حياتك ولعازر تعذّب في تلك الحياة، والآن هو يتنعم وأنت تتعذب، بهذا المعنى سمع ذلك الغني الذي لم يرحم الفقير في حياته ويسمع كل إنسان منا غنياً كان أو غير غني لم يساعد الآخرين الذين يحتاجون إليه كما ساعد السامري الصالح للساقط بين اللصوص يتعذب ذلك الإنسان الأناني في النار أما الإنسان الذي نال العذاب في هذه الحياة بإيمان باتكال على الله لا اتكال على الإنسان، ملعون كل من اتكل على الإنسان. يقول الكتاب المقدس لا بالاتكال على الأموال لا بالاتكال على ما يناله الإنسان أيضاً في مجتمعه من مركز مرموق وسلطة دنيوية. يا بني يقول السيد المسيح: ما أعسر دخول المتّكلين على الأموال إلى ملكوت الله صعب جداً أن نسمع هذا الكلام وقد صعب أيضاً على الرسل والتلاميذ ولكن الرب يجيبهم ما هو غير ممكن لدى الإنسان ممكن لدى الله. بهذا المعنى نتعلم من الرب أنه ولئن كان عسيراً جداً على المتكل على الأموال أن يدخل ملكوت الله، ولكن ليس على الأغنياء كلهم فهناك أغنياء يدخلون الملكوت قد جعلوا المال سلَّماً يصعدون عليه إلى السماء، كنزوا لهم الكنوز في السماء هناك في الكتاب المقدس أمثلة عديدة من هؤلاء الناس الذين استطاعوا أن يربحوا السماء بواسطة الأموال التي أنعم الله عليهم، بها إبراهيم استضاف الملائكة ولئن قيل عن إبراهيم مرة أنه جاءه إنسان محتاج جائع، فهيأ له الطعام، وعندما جلسا ليأكلا أخرج ذلك الإنسان بعض الأصنام من جيبه ووضعها أمامه، ويقال أيضاً أشعل النار وسجد للنار وللأصنام، فغضب إبراهيم ولم يطعمه بل طرده من خيمته، فجاءه صوت الله لماذا فعلت هذا؟ قال: يا ربي إنه لا يعبدك، قال له: إنني تحملته هذه السنين الطويلة أنت لم تستطيع أن تتحمله دقائق، اذهب وراءه وائتِ به ليأكل، فذهب إبراهيم وأتى به وأطعمه حينذاك علم أنه يجب عليه فعل الخير مع كل إنسان مهما كان، حتى لو أن ذلك الإنسان يخالفه في الدين والمذهب.

نحن نرى أن إبراهيم استضاف ملائكة لأنه كان كريماً سخياً يساعد المحتاجين وعابري الطريق، ونرى أيضاً أيّوب الذي تحمّل كثيراً، نال شهادةً عظيمة من الله أنه لا يوجد في الأرض كلّها إنسان كأيّوب بكماله، بعبادته ربّه، بصدقه، بصلاته. وجُرِّب أيّوب ولكنه نجا وانتصر على إبليس لأنه لم يكن يعبد المال. نرى أيضاً في العهد الجديد الكثيرين ممّن كانوا أغنياء، زكّا العشَّار عندما دخل المسيح إلى بيته وباركه، وقف وقال للرب: أنه يعطي نصف أمواله للمساكين وإن كان قد ظلم أحداً، سلبه –العشّارون كانوا يسلبون الناس- يدفع ويرجع لذلك الإنسان أربعة أضعاف ممّا سلبه به. نرى نيقوديموس ويوسف الرّامي الغنيّين اللذين استحقّا لصلاحهما، لعدم اتّكالهما على المال أن ينالا نعمةً عظيمة بتكفين جسد المسيح ودفنه. ونرى كذلك برنابا الذي باع ضيعةً وأتى بثمنها ووضع ذلك الثّمن عند أقدام التلاميذ ليُصرَف على المحتاجين، على خدمة الإنجيل المقدّس. أمّا من كان متّكلاً على ماله، الجشع، الطمّاع نراه غريباً عن الله يفقد كل ما عمله في حياته. ممّن نظنه صالحاً هناك نبيٌّ أممي هو بلعام ابن بعور، أخذ رشوةً والرشوة هي أصل محبّة المال ومحبة المال أصلٌ لكل الشّرور كما يقول الرسول بولس، فأراد أن يلعن شعباً باركه الله. كلّمته الأتان، وبّخته وملاك الرب ظهر أمامه ليمنعه من لعن من باركه الله. ونرى أيضاً جيحزي الذي كان تلميذاً للنبي أليشع، كيف أنه لطمعه ومحبته المال خدع معلّمه بحسب ظنّه وذهب وطلب مالاً وثياباً من نعمان السّرياني الذي كان أليشع قد أبرأه من برصه، فلعنه النبي وقال له: إن برص نعمان يتلبّسك ونسلك إلى الأبد. هكذا أيُّها الأحبّاء إن كنّا نتّكل على المال بجشع، بمحبة للشر برفض عبادة الله والتمسّك بعبادة المال والاتّكال عليه وعلى قوّته سنصير غرباء عن الله. ما أعسر أن يدخل مثل هؤلاء إلى ملكوت الله، أن يرثوا الحياة الأبديّة، بل بعكس ذلك سوف ينالون جزاءهم، العقاب في جهنّم مع ذلك الغنيّ الغبي الذي حدّثنا عنه الرب يسوع. مار أفرام يقول لنا في الصّلوات التي قدّمناها هذا المساء: «ܠܐ ܬܩܢܐ ܕܗܒܐ ܘܣܐܡܐ܆ ܣܡܐ ܕܡܘܬܐ ܒܗܘܢ ܣܺܝܡܐ. ܩܢܺܝ ܠܟ ܝܘܠܦܢܐ ܚܠܝܡܐ ܕܬܗܘܐ ܥܠ ܡܪܝܐ ܪܚܺܝܡܐ». يقول لنا مار أفرام ما معناه، مرشداً إيّانا ألاّ نسعى بتكالب لاقتناء الذهب والفضّة، المال، وينبّهنا أن سم الموت قد دُسَّ بالمال، بالذهب والفضة. ويرشدنا وينصحنا أن نقتني العلم الروحاني السليم، علم الحكمة ومخافة الله، التي أيضاً يرشدنا إلى اقتنائها سفر الأمثال في العهد القديم، لكي إذا ما فعلنا هذا نكون محبوبين لدى الله.

فلنقتنِ مخافة الله أيها الأحبّاء، ولنطلب ملكوت الله وبرّه وكل ما نعتازه من جسدٍ سيُزاد لنا، لأن الرب يعتني بنا إذا ما اتّكلنا عليه فسوف لا يعوزنا شيء في هذه الحياة، إذا ما اتّخذناه راعياً لنا فلا نخاف شرّاً بل يبسط أمامنا مائدةً كما قال صاحب المزامير: يشبعنا من خيراته ويهيّئ لنا أن نرث الحياة الأبديّة الحالة التي أتمنّاها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.


عبادة الله بالروح والحق

«لا يقدر خادم أن يخدم سيدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال»

       (لوقا 16: 13)

الذين كانوا منكم أيها الأحباء في بدء القداس الإلهي استمعوا إلى تلاوة الإنجيل المقدس التي منها نفهم ما معنى أن نعبد الله بالروح والحق وما معنى أن نكرس أنفسنا لله، ما معنى أن نرذل المال لكي نعيش للسماء، الرب يسوع يقرع الفريسيين على تركهم عبادة الله بالروح والحق واتكالهم على المال.

والفريسيون الجسديون الدنيويون عندما يسمعون كلام الرب يستهزئون به لأنهم كانوا محبين للمال، يقول البشير لوقا: لا يقدر إنسان أن يعبد الله والمال، كم من الناس يظنون أن بإمكانهم أن يجمعوا بين الضدين وأن يوفقوا بين النقيضين هكذا الفريسيون يفعلون ولكنهم كانوا فاشلين، كانوا يتراءون أمام الناس وكأنهم يعبدون الله، كانوا يطيلون صلواتهم وهم يأكلون بيوت الأرامل والأيتام بعلة تطويل صلواتهم، الرب أعلن على الملأ، هؤلاء بعيدون عن الله لأنه لا يمكن وقد جعلوا من المال إلهاً أن يعبدوا الله والمال في آن واحد.

العبادة أيها الأحباء هي الإيمان بالمعبود، وعندما نعبد الله نؤمن بأنه قدير هو خالقنا ومدبرنا وراعينا والمعتني بنا لذلك نتكل عليه ولكن عندما نحب المال أكثر من الله ونتكل على المال ونظن أنه بإمكاننا أن نحيا حياتنا كلها سعداء في هذه الحياة على الأقل نكون قد عبدنا المال، أقمنا منه صنماً كما يقول أحد الأنبياء: جعلوا فضتهم وذهبهم صنماً فعبدوه ولكن الرب يدحض هذه الفكرة الباطلة عندما يضرب لنا مثلاً عن ذلك الغني الذي أخصبت كورته ولم يفكر بالفقراء والذين كانوا سبباً في غناه بل ظلمهم ولم يدفع لهم أجرتهم بعدالة، ذلك الإنسان افتكر بنفسه فقط وظنّ أن إلهه المال سيجعله خالداً في هذه الحياة ناجى نفسه كلي واشربي وتنعمي لكِ خيرات كثيرة لسنين عديدة، والرب عندما ضرب هذا المثل يعطينا درساً خالداً بأن ما نملكه حتى النفس ليس لنا بل لله يقول عن ذلك الإنسان جاءه الصوت، جاءه النداء من السماء يا غبي هذه الليلة تؤخذ نفسك منك فهذا الذي أعددته لمن يكون؟

إذن هذا إله فاشل، هذا إله غير قدير، هذا العمل باطل بل ضلالة، ذهب وراءها الغني فباء بالفشل الذريع ذلك الغني لم يؤمن بالله لو آمن بالله والأبدية والحياة السعيدة في السماء لكنز له كنوزاً في العلاء بذلك المال الذي جمعه، يا غبي هذه الليلة تؤخذ نفسك منك فهذا الذي أعددته لمن يكون؟

في الحياة أناس كثيرون كانوا معنا وذهبوا عندما نتأمل بسيرتهم كم كانوا جشعين، كم كانوا بخلاء، كم كانوا متكلين على المال وأخذت نفسهم وهي ليست لهم بل لله أخذت نفسهم منهم فزالوا وأصبحوا في عداد المجهولين وليس ذلك فقط فالرب يسوع يضرب لنا مثلاً عن إنسان غني لم يرحم الفقير الذي كان على بابه يشقى ويتألم وهو وبائس في هذه الحياة وتنتقل نفس الفقير وينتقل ذلك الغني الشقي أيضاً إلى العذاب في جهنم والفقير المسكين كان في أحضان إبراهيم يصور لنا الرب يسوع في هذا المثل ما يحدث في السماء بصورة رمزية فقط نحن عندما ننتقل من هذه الحياة ننتظر يوم السعادة أما النفوس الشقية الخاطئة فتشعر بآلامها وتتوقع يوم القيامة في كل لحظة وهي في العذاب وتنتظر عذاباً أقسى.

الغني كان في جهنم تطلع فرأى المسكين الذي كان على بابه يتنعم في أحضان إبراهيم يسأل إبراهيم أن يرسل هذا المسكين وكان اسمه العازر أن يبل إصبعه في فم ذلك الغني لأنه يتعذب في جهنم يوبخه إبراهيم أنت أخذت هناءك غب الحياة أو ما تظنه أنه هناء، وهذا انتهى شقاؤه وبدأ هناؤه وسعادته في هذا العالم الأبدي، يريد منه أن يرسل أحداً إلى أخوته ينبههم، لهم موسى والأنبياء ـ لن يسمعوا منهم ـ أيضاً لو قام واحد من بين الأموات ـ يقول إبراهيم ـ لما سمعوا له.

المسيح نفسه مات وخلصنا وقام من بين الأموات ونحن لا نسمع له ولا نؤمن في الأبدية ونريد أن نتمسك بالنقيضين أن نعبد الله والمال ما أشقى هؤلاء الناس الذين لا يفكرون في أبديتهم، تطلعوا إلى أولئك الذين هلكوا لأنهم تمسكوا بالمال، والرسول بولس يقول: محبة المال أصل كل الشرور، فما نتج من محبة المال أن الإنسان رغبة في محبة المال يسرق ويفعل كل الخطايا والجرائم في سبيل الحصول على المال ولكن أخيراً يفقد أيضاً الأمل لأنه أصبح بعيداً عن الله، في الكتاب المقدس نقرأ عن خادم للنبي أليشع كيف أنه عندما جاء قائد جيش آرام نعمان السرياني إلى أليشع وشفاه أليشع وطهره من برصه وطلب نعمان من أليشع أن يكرمه نعمان ويدفع له ما يشاء فقال له: اذهب بسلام أما جحزى خادم أليشع فلم يرق له ذلك، محبة المال جعلته أن يتبع هذا الإنسان ويطلب منه فضة وألبسة ويعود إلى سيده فيسأله أين كنت محبة الفضة جعلته أيضاً أن يكذب وينافق فدعا عليه النبي قائلاً: إن برص نعمان السرياني يتلبسك أنت ونسلك إلى الأبد وهكذا كان.

هذه محبة الفضة يكفي لنا مثلاً يهوذا الاسخريوطي محبةً بالفضة باع المسيح لم يستطع أن يعبد ربين المسيح والفضة فباع المسيح محبة بالفضة فما أشقى الإنسان الذي لا يعرف كيف يتصرف بالمال الذي يتكل على المال هناك أغنياء كثيرون يعبدون الله بالروح والحق ألم نقرأ عن إبراهيم الغني الذي لكرمه استضاف الملائكة؟ ألم نقرأ عن زكا العشار الذي عندما دخل المسيح إلى بيته وقف قائلاً: له إنه إن ظلم أحداً يدفع له خمسة أضعاف وإنه يدفع نصف أمواله للمساكين فنال نعمة عظيمة إذ قال الرب عنه: اليوم حصل خلاص لهذا البيت، لأن هذا هو أيضاً ابن إبراهيم ما أعظم النعمة التي ينالها الإنسان عندما يدخل المسيح إلى قلبه ويقول أنه قد حصل الخلاص لهذا البيت لهذا الإنسان لأنه فضل عبادة الله على عبادة المال وبالاتكال على الله على الاتكال على المال.

ألم نقرأ عن أغنياء كثرين أيضاً في العهد الجديد يكفي أن نقول عن يوسف الرامي ونيقوديموس الغنيين اللذين استحقا أن يحنطا الرب يسوع بالطيوب الغالية جداً وأحدهما أن يقدم للرب قبره الجديد.

أحبائي نرى أيضاً في عهد الرسل برنابا الذي باع ضيعة وجلب ثمنها عند أقدام الرسل لتصرف على التبشير بالإنجيل لخدمة الرب فالذين يؤمنون بالمسيح وقد أنعم الرب عليهم بالمال الكثير يستطيعون أن يحولوا ذلك المال إلى سلم يصعدوا عليها إلى السماء بتوزيعه على الفقراء والمساكين. النعمة الإلهية التي تنسكب على أولئك البشر والتي لم ينلها ذلك الشاب الغني الذي عندما جثا على قدميه عند الرب يسوع وظهر كأنه قد أكمل الوصايا وعندما طلب الحياة والكمال في الحياة قال له الرب: يعوزك واحدة اذهب وبع كل أموالك ووزعه على المساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. هذا الكلام للرهبان للراهبات للنساك للزهاد الذين يتركون الدنيا كلها أما بقية الناس فعليهم أن يقتدوا بأولئك الذين عبر تاريخنا المجيد ساعدوا الكنيسة ومشاريعها عضدوا الفقراء والمساكين فكنزوا لهم كنوزاً في السماء لأنه علموا أن الرب غيور هو إلهنا ولا يريدنا أن نشرك به إلهاً آخر وأن نجعل المال عبداً لنا ونستخدمه بما فيه تمجيد اسم الله القدوس.

ليعطِ الرب أجراً عظيماً لكل أولئك الذين يعبدون الله بالروح والحق، الذين يرفضون أن يكونوا في عداد عباد الأصنام عباد المال، ليعطِ الرب راحة في السماء لكل أبنائنا الذين عبدوا الله وعلمونا أن نعبد الله وأن نرفض المال بنعمة الله تعالى آمين.

الأحد العشرون بعد القيامة

الأحد العشرون بعد القيامة

الأحد العشرون بعد القيامة (1)

رسالة بطرس2 (3: 1ـ 13)

رومية (15: 1ـ 10)

مرقس (10: 35ـ 45)

الأحد العشرون بعد القيامة

«فقال لهما يسوع: أما الكأس التي أشربها فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها تصطبغان وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعِد لهم»

   (مر10: 35ـ40)

كان الرب يسوع قد اقترب من المدينة المقدسة وهو يتقدم تلاميذه زاد شبح الصليب وضوحاً في مخيلته وزاد شعوره بخطايا العالم، وأنبأهم ثالثة بآلامه وموته بأكثر تفصيل من قبل، فأوضح لهم بأنه يُسلَّم أولاً إلى رؤساء الكهنة ـ ومع هذا الإيضاح ـ ذهب كلامه ضياعاً إذ لم يفهموا ما قال لأنه تقدم إليه تلميذان يطلبان المجد، وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي قائلين يا معلم نُريد أن تفعل لنا كل ما طلبنا فقال لهما يسوع: ماذا تريدان أن أفعل لكما؟، فقالا أن نجلس الواحد عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا. فقالا له: نستطيع، فقال لهما يسوع: أما الكأس التي أشربها فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها تصطبغان وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعِد لهم (مر10: 35ـ40).

أيها الأحباء هذه الآيات الكريمة المقدسة التي تُليت على مسامع بعضكم في بدء القداس تكشف لنا أُموراً كثيرة وحقائق إلهية علينا أن نتأملها جيداً وأن نسلك بموجب ما يوصينا ربنا. تلاميذ الرب الذين اختارهم خاصة الاثني عشر رسولاً هؤلاء كانوا يتدربون ويتعلمون في مدرسته الإلهية حقائق عقيدية وسلوكية وشريعة إلهية على الإنسان أن يتبعها ولكنهم كانوا بشراً ضعفاء في حادثة تقدم هذين التلميذين وتفكيرهما بأمور سامية دنيوية طبعاً وطموحهما غير الديني في هذه الحادثة نرى أن مرقس الذي يذكرها أكثر وضوحاً من متى فمتى مثلاً يذكر أن سالومي والدة يعقوب ويوحنا جاءت وجثت، سجدت أمام الرب يسوع تطلب منه شيئاً وكان هذا طلبها أن يجلس واحد من ابنيها عن يمين الرب والآخر عن يساره في مجده أما مرقس فيوضحها يوضح هذه الحقيقة ويعلنها جهراً أن التلاميذ كانوا قد اختيروا ليكونوا رسلاً للرب يسوع وخاصة يعقوب ويوحنا كانا مع الرسول بطرس قد مُيِّز عن سائر التلاميذ في أمور عديدة ففي إقامة ابنة يائيروس أخذهم الرب يسوع وحدهم معه وفي التجلي كذلك وبعدئذ سنراهم في البستان عندما يتألم الرب قبل أن يُسلَّم جسده ليد أعدائنا هذا الامتياز العظيم لهذين التلميذين إلى جانب هذا سالومي تمت بصلة القرابة للعذراء مريم وكانت تخدم الرب وتلاميذه من مالها الخاص فلها أيضاً أتعاب كثيرة في خدمة الإنجيل ورب الإنجيل يسوع لذلك يحق لها أن تطلب ما تطلب من الرب ولكن على أن لا يُساء فهم الصلاة السؤال للرب وصية الرب أن نسأله أن نقرع بابه وإننا سنُستجاب، لا نُستجاب على كل شيء ولا يكمل الرب كل رغبة نرغبها هو يعرف ما هو صالح لنا.

مرقس يُظهر أن التلميذين هما اللذان جاءا مع أمهما أيضاً وطلبا أن يكونا مميزين عن سائر التلاميذ هذا طموح دنيوي يصيب الناس هذه التجارب، التجارب التي يقول عنها الكتاب إنها شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة فهذا هو تعظم المعيشة أن نطلب من الرب ليميزنا دنيوياً عن سائر الناس ننال مراكز عالية مرموقة في مجد لم يفهما بل لم يفهم أغلب التلاميذ ما هو مجد الله مجد الرب كان أولاً أن يتألم أن يموت أن يشرب الكأس المريرة ولذلك الكتاب عندما يذكر عن آلامه أمراً يقول قبل أن يتمجد يسوع أو بعد أن يتمجد فهذا هو المجد لذلك يقول لهما الرب لا تعلمان لا تعرفان لا تفهمان ماذا تطلبان اتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أحياناً عديدة نرى رمز الكأس إلى الحياة بالذات كما قال صاحب المزامير كأسي ريا أي أنني في حياة رفاهية وهذه تأتي من الرب أيضاً نعمة عظيمة منه ولكن نرى الرب في صلاته في البستان يتكلم عن الكأس إذا أمكن ـ يقول لأبيه ـ أن تعبر عني هذه الكأس تلك هي الكأس المريرة كأس الموت كأس الآلام كأس تحمل الضيقات، فالرب يقول لهما أتستطيعان أن تشربا هذه الكأس يعني أنه لا نستطيع أن ننال المجد أي مجد أي مجد ملكوت الله لا نستطيع أن ننالها بدون أن نتحمل مشقات في سبيل المسيح يسوع بالذات لذلك لا يمكن أن نجلس عن يمينه وعن يساره دون أن ندفع الثمن مقدماً، بطرس قد دفع ثمناً عظيماً عندما أنكر الرب ولكنه تاب، دخل التجربة ولكنه نهض أيضاً أما التلميذان في تجربتهما هذه في روح الكبرياء والطموح إلى أمجاد دنيوية فقد وبِّخا من الرب قالا: نستطيع أن نشرب الكأس والصبغة هي المعمودية بالذات، أن يدخل الإنسان إلى أعمق أعماق الآلام أن يتلاشى لذلك عندما نعمد الطفل يتلاشى الطفل في الماء أن يصطبغ كله بآلامه وضيقاته الجسدية والتلميذان كانا مستعدين أن يتحملا ذلك أيضاً الرب يجيب أما الكأس فتشربانها وقد شربها يعقوب خاصة عندما استشهد في سبيل الرب وشربها بعدئذ يوحنا ولئن عاش مدة طويلة لكن كانت في ضيقات واضطهادات وآلام خاصة في آخر أيامه، الكأس شرباها.

ونحن إذ أردنا أن نقتدي بهما بأمجاد روحية لا جسدية كما كانا يظنان، علينا أن نشرب الكأس التي لا بدَّ أن تكون مريرة جداً، ولكنها تنقلب إلى حلاوة وعسل صاف عندما تكون في سبيل المسيح إنجيله، لأنَّ المسيح في ذلك الوقت كان يتقدم تلاميذه يتقدمنا في آلامنا التي نتحملها في سبيل بشارته الإنجيلية كان قد أعلن لتلاميذه عن آلامه للمرة الثالثة والتلاميذ كانوا ما يزالون بحسب عقيدة آبائهم يظنون أن مجد الرب يكون مجداً دنيوياً وبكبريائهم كان قد علمهم كيف يجب أن يكونوا كالأطفال لكي يدخلوا ملكوت الله، يجب أن يَخدموا لا أن يُخدموا لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدُم وليبذل نفسه عن كثيرين.

علمهم دروساً في التواضع ولكن روح الكبرياء كانت قد هيمنت على عقولهم قبل آلامه قبل صلبه قبل قيامته قبل صعوده إلى السماء قبل أن يحل عليهم الروح القدس، فصاروا تلاميذ حقيقيين يعرفون ما هو ملكوت الله وما هي الطريق المؤدية إلى ملكوت الله فإن كنا نطلب ملكوت الله ولكن بكبرياء سوف لا ننال امتيازاً في ذلك الملكوت بل سنخسر ذلك الامتياز، بل أيضاً سنعرض أنفسنا لنخسر أيضاً ملكوت الله بالذات بالوداعة والتواضع حينذاك نكون بين المختارين الذين قال عنهم الرب أنه لا يستطيع أن يعطي هذا الامتياز لهذا وذاك إلا للذين أُعدَّ لهم، فقد أعدَّ الله الامتياز السامي وتلك المراكز السامقة الروحية في ملكوته السماوي لمن اختارهم من الإكليروس والعلمانيين من المؤمنين البسطاء الذي قد نظن أنهم بعيدون عن ملكوت الله فالرب لا ينظر إلى المراكز، لا ينظر إلى الجاه، لا ينظر إلى أناس يطمحون لنيل تلك المراتب ـ روحية كانت أم جسدية ـ بل إلى المتواضعين، إلى الودعاء، إلى الذين يقتدون به. أسأله تعالى أن يؤهلنا جميعاً أيها الأحباء لنقتدي بالرب في الوداعة وتواضع القلب وأن يؤهلكم جميعاً بعد العمر الطويل لتنالوا نعمة المشاركة بملكوت الله مع الأبرار والقديسين ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


الأحد العشرون بعد القيامة (2)

كان الرب يسوع يتقدم موكب رسله الأطهار متجهاً نحو أورشليم، نراه يحث السير بشجاعة فائقة لأنه كان يريد أن يعلن للمرة الثالثة لتلاميذه أنه جاء إلى العالم ليتألم ويموت وفي اليوم الثالث يقوم، فعل هذا وهو في طريقه إلى أورشليم وقد ظهرت أمامه الساعات الرهيبة لآلامه وموته ولكن بشجاعة فائقة وهو يعلم لماذا جاء إلى العالم ليتألم، والإنجيل المقدس عندما يذكر الآلام إنما يذكرها كمجد للرب. فإذا كان اليهود قد ورثوا عن بعض آمال آبائهم أن مشيحا الذي يأتي للفداء سيؤسس مملكة دنيوية لأولئك الناس الذين لا يعرفون عن الروح شيئاً ولذلك تسربت هذه الخرافات إلى التلاميذ أيضاً، كان بين التلاميذ يوحنا الرسول ويعقوب اخو يوحنا ابنا زبدي، كانت أمهما سالومي في مقدمة النسوة اللواتي خدمن الرب يسوع وتلاميذه بل أيضا كانت تبذل المال في سبيل البشارة الإنجيلية وعلى رأس ذلك الرب يسوع بالفكر الدنيوي الذي كان عليه الرسل أيضا جاءت سالومي أمام الرب وسجدت وقال لها: ماذا تطلبين؟ أنها طلبت أن يكون ابناها يوحنا ويعقوب الواحد عن يمين الرب والآخر عن يساره في مجده وهي تظن كسائر اليهود يوم ذاك أن مجده دنيوي وسيعيد الملك إلى إسرائيل الملك الدنيوي ولذلك الرب جاوب يعقوب ويوحنا ومرقس البشير يوضح ذلك أن اللذين طلبا هذا الطلب هما يعقوب ويوحنا ولئن كانت أمهما قد أعلنت ذلك، فقال لهما: «ألا تعلمان ماذا تطلبان، أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا؟ فقالا له نستطيع، فقال لهما يسوع أما الكأس التي أشربها أنا فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان، أما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدَّ لهم».

عندما يُجرب الإنسان كما يقول الكتاب يُجرب بتجارب عديدة خاصة بشهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة، عندما يطمح الإنسان لتعظم المعيشة والرتب السامية الدنيوية خاصة وحتى الروحية حينذاك يكون قد جُرب من إبليس. تلاميذ الرب كانوا كسائر أترابهم في تلك الفترة الزمنية يوم كان التدبير الإلهي بالجسد يجري على الأرض، ظنوا أن مجد الرب يكون دنيوياً وظنوا أيضاً انه بإمكانهم أن يروا مجداً بكل كبرياء وعجرفة، مجداً دنيوياً ولكن الرب يبرهن على أن المجد لا يأتي إلا بالآلام إلا بتحمل الإنسان ما يجري له في العالم إلا أن يتألم الإنسان كما تألم المسيح فلا إكليل من الله، إكليل البر، إكليل المجد مالم يضع على هامته إكليل الشوك، ولا يستطيع الإنسان أن يجلس على كرسي المجد في السماء ما لم يكن قد تألم كما تألم المسيح لذلك حتى لو وضع للناس أحيانا أن يتألموا لكن المجد في السماء لا يكون إلا للذين اعد لهم من الآب السماوي. الرب رأى هذا الداء قد أصاب تلاميذه فتكلم معهم عن التواضع «إن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» إنه يريدنا أن نخدم وأن نبذل النفس، لأن الله أحب هذا العالم محبة عظيمة «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، إذاً البذل بذل النفس، خاصة في سبيل خلاص العالم، بهذا يكون لنا الرب قدوة أن نأتي لنخدُم لا لنُخدم وأن نبذل أنفسنا لخلاص الآخرين حينذاك يستحق الإنسان إن كان في عداد الإكليروس أو كان في عداد العلمانيين المؤمنين، إن كان امرأة أو رجلاً يحق للإنسان أن يجلس عن يمين الرب وعن يساره في مجده بعد أن يكون قد تألم معه، مع المسيح ليقوم معه من بين الأموات وليتمجد معه أيضا. الرب يقول ليوحنا وكذلك ليعقوب: «أتستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا»، كان الجواب نعم نستطيع.

واستطاعا أيضاً أن يشربا الكأس، والكأس هنا الحياة بالذات، كما يقول صاحب المزامير عن رفاهية الحياة شاكراً الله على ذلك قائلاً: «كأسي ريّا»، أي إنني لسعيد جداً في هذه الحياة.

فالحياة التي نراها حياة شقاء وبلاء وتجارب قاسية وتحمل الآلام هذه الحياة التي عاشها الرب يسوع بالجسد هي قدوة لنا أن نصبر على الآلام والأحزان والضيقات والاضطهادات والرسول يوحنا والرسول يعقوب كذلك كانت حياتهما حياة شقاء. يعقوب الرسول كان يبشر اليهود وكان له تأثير عظيم عليهم لذلك حثوا هيرودس فقطع رأسه بحد السيف هكذا استشهد، هكذا نال عذاباً أليما ثم صعدت روحه إلى السماء إلى الخدور العلوية بانتصار ومجد عظيم والرسول يوحنا ولئن عاش طويلاً لكن تحمل الآلام الكثيرة حتى مرة وضع في إناء كبير من زيت مغلي ولكن الله أنقذه وبعدئذ كان قد نال نعمة عظيمة يوم كان أمام الصليب فقال له الرب يسوع: «هذه أمك»، وقال للعذراء مريم: «يا امرأة هوذا ابنك» وأخذها يوحنا إلى عنده وعاشت العذراء مريم معه فنال يوحنا نعمة عظيمة من الرب بل بركة عظيمة بوجود العذراء معه هذا هو يوحنا الذي نُفي أيضا إلى جزيرة بطمس حيث كتب سفر الرؤيا ثم عاد إلى أفسس ليكتب الإنجيل المقدس بعد أن اطلع على الإنجيل بحسب مرقس ولوقا ومتى وبذلك أظهر لنا عظمة لاهوت السيد المسيح الذي دعاه الكلمة «والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله»، وضح لنا هذه العقيدة السامية هذا هو يوحنا الرسول الذي انتهت حياته بمجد بل براحة لكن بعد الآم كثيرة، فحقاً كما قال هو ويعقوب أخوه أنهما قد شربا الكأس، كأس الآلام. واصطبغا أي اعتمدا بالمعمودية التامة. عندما يصطبغ الإنسان في أعمق أعماق الآلام كأنه يموت مع المسيح فلذلك نحن نسمي الصبغة العماد بالذات ونعمد الأطفال فعندما يصطبغون يُخفَون في الماء إذ يموتون مع المسيح لكي يقوموا مع المسيح. هكذا شرب هذان التلميذان الكأس التي شربها المسيح واصطبغا بالصبغة التي اصطبغها بالآلام ثم الموت وأخيراً بالمجد. الدرس الخالد الذي نتعلمه من هذه الحادثة أيها الأحباء هو أننا علينا أن نقتدي بالرب يسوع بالوداعة والتواضع لكي ننال المجد مع المسيح كما نتعلم أن هذا المجد أُعدّ للذين أعد لهم الله الآب لهذا المجد إن كانوا من الإكليروس أو كانوا من العلمانيين من الناس البسطاء الطيبين الذين بإيمانهم المتين الثخين يحصلون على أن يجلسوا في مجد الرب ليس في هذه الدنيا بل في الحياة الأبدية عن يمينه وعن يساره ليتمجدوا معه لأنه قد قال من يتألم معه أيضا يتمجد معه الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.

الأحد الحادي والعشرون بعد القيامة

الأحد الحادي والعشرون بعد القيامة

الأحد الحادي والعشرون بعد القيامة

رسالة يوحنا1 (2: 7 ـ 20)

1 كورنثوس (9: 1ـ 12)

لوقا (11: 9ـ 20)

الأحد الحادي والعشرون بعد القيامة

«اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم»

  (لوقا11: 9)

إنه الرب يسوع القادر على كل شيء الصادق بوعوده يحثنا نحن الذين قد آمنا به ونلنا الفداء بدمه الكريم يحثنا لنقف أمام أبيه السماوي ونصلي ليسأل فنُعطى، لنطلب فنَجد، لنقرع بابه فيفتح لنا، فما أعظم النعمة التي أُعطيت لنا أيها الأحباء، أن نقرع باب السماء لأننا قد نلنا نعمة التبرير والتقديس والتبني، فبدالة البنين نناجي الآب السماوي وهو يجيبنا بالصلاة، إنه يحثنا لكي يرفع نفوسنا وعقولنا وقلوبنا إلى العلاء في آن واحد، لأن النفس التي خُلقت على شبه الله كمثاله، وهي روحانية نسبياً بالنسبة إلى الله الذي هو روح محض هذه النفس استحقت خاصة بعد أن نالت الغذاء الروحي الكامل، أن تتحد بالعناية الإلهية وأن ترتفع إلى السماء بطلباتها الروحية والجسدية في آن واحد.

الصلاة فطرية في الإنسان، والإنسان خُلق وفي ضميره ميل إلى ممارسة الصلاة، إذ يؤمن بوجود إله، فيصلي بإيمان متين لذلك الإله، فقد قيل: «لا دين بدون صلاة»، ونقول: «لا صلاة بدون دين»، فإذا كنا نصلي فيعني ذلك إننا نعترف بوجود الله تعالى ونصلي إليه ونشكره على أنه أوجدنا بمجده ولأنه يعتني بنا، ونسأله طلبات جسدية وروحية في آن واحد، وهو قدير فيستجيب لنا الصلاة، التي يوصينا الرب أن نقدمها إلى الله مضامينها شتى ولكن علينا أن نقدمها بإيمان كل ما تسألونه بإيمان تُستجابون، أن نقدمها بتواضع وانسحاق قلب كما فعل العشار الذي وقف أمام الله ليطلب إليه مغفرة خطاياه: إرحمني أنا الخاطئ، قال له فنزل إلى داره مبرأ، نطلبها بلجاجة كما فعلت المرأة الأرملة، إننا نطلب من الآب باسمه فهو يستجيب لنا، ولكن ما هي مواضيع هذه الصلاة يا ترى؟ وكيف يكون حالنا عندما نطلبها؟ إن الله لا يبغض الخاطئ إنما يبغض الخطيئة ولذلك لا يمكن أن يستجيب إنساناً خاطئاً إلا في حالة واحدة عندما يطلب هذا الخاطئ المغفرة ويعد بأنه يعود حالاً إلى الله تائباً، إذاً ولئن قال لنا اسألوا تُعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم، ولكن سوف لا نعطى ولا تُفتح أبواب السماء لنا رحمة ما لم نكن على اتفاق مع السماء، وصلح مع الله، وسلام معه تعالى، ما لم نكن قد حصلنا على دالة البنين، لا يستجيب الله خاطئاً إلا عندما يطلب الخاطئ أن يغفر الله له وأن يقبل توبته النصوح الصادقة، فإذا ما صلينا ولم نستجب علينا أن لا نشك لأن الرب يسوع خالف وعده ونكث بعهده ووعوده لأنه لم يستجِب لنا، علينا أن ندرس وضعنا ونفحص ضميرنا لعلنا نطلب شيئاً ضد إرادة الله للانتقام من أعدائنا مثلاً بطلبات دنيوية لا تنفع خلاصنا بل تأتي بنا إلى سبل التهلكة، لذلك لا يستجيب الله على هذه الطلبات، ثم علينا أن نعرف إن كنا نسأله تعالى بإيمان وباتضاع، قد نكون كفريسيين نقف مفتخرين بأننا نصوم بالأسبوع مرتين وكثير منا يفتخرون بذلك أو بأننا نعشر أموالنا، والعديد إذا ما دفع خمسة قروش يطلب دعاية بليرة، فهل يسجيبنا الله؟، ولكن إن وقفنا باتضاع أمامه وبتوبة وندامة صادقة وانسحاق قلب، نؤمن حقاً أننا إذا سألنا نُعطى وإذا طلبنا نجد، وإذا ما قرعنا باب السماء تنفتح أبوابها أمامنا.

العديد منا أيها الأحباء يهملون الصلاة، إن كانت الصلاة جمهورية خاصة بحضور القداس الإلهي ونيل بركة الرب، وعلى الأخص إن كنا ممن يرغب في أن يشارك ويشترك بتناول القربان المقدس لنحيا في المسيح وليحيا المسيح فينا، وقد وعد المؤمن أن يقيمه في اليوم الأخير وأنه يجعله مع الذين سيرثون ملكوته السماوي، هذه نعمة عظيمة إن كنا نواظب على حضور القداس الإلهي ونشارك به في الآحاد والأعياد وإن كنا نصلي الصلاة العائلية في البيت، فصلاة خير درس للأولاد للإيمان بالله أولاً، لأننا إن كنا كما قلنا لا نؤمن بالله لا نسجد أمامه ولا ندعوه ولا نصلي إليه ولا نؤمن بقوته ولا نشكره على أنه خلقنا ولا نطلب منه الخيرات الدنيوية والسماوية خاصة، فالصلاة العائلية التي كان يمارسها الآباء القديسون في دورهم في السابق، هذه الصلاة هي التي أقامت من المسيحيين أبطالاً روحيين أعلنوا وأشهروا إيمانهم وأخضعوا مملكة الإمبراطورية الرومانية لتخضع لصليب المسيح ربنا في الصلاة، الصلاة الفردية التي فيها يسكب الإنسان نفسه أمام الله، يُغلق بابه كما أوصى الرب عن الصلاة الفردية ويصلي إلى أبيه السماوي، وأبوه الذي يرى في الخفية يُجازيه علانية.

أيها الأحباء: إننا دائماً نحتاج إلى عون الله ورحمته، علينا أن نصلي إليه لا في وقت الشدة فقط بل بكل آن، أن تستمر العلاقة بيننا وبين الله أن تثبت دالة البنين لدينا، الله لا يستجيبنا إن كنا فقط نطلب إليه أن ينجينا من التجارب من الشرير، وإن لم نكن على علاقة سليمة وصحيحة وقوية ومتينة معه تعالى.

طلباتنا كثيرة جسدية وروحية، ولكننا علينا أن نتعلم ماذا نطلب وماذا نصلي فنمجده أولاً كما علمنا في الصلاة الربانية نطلب مجيء ملكوته السماوي نطلب أن تكون عامة على الأرض بالبر والتقوى ومخافة الله كما حال السماويين الملائكة والقديسين، ونطلب أيضاً خبزنا الذي هو ضروري لجسدنا ليبقى الجسد نامياً وقوياً لتتمكن الروح وهي مستمرة فيه وهي تمجد الله معه، ونطلب أن يخلصنا من الشرير ينجينا من إبليس يخلصنا من التجارب التي تطرأ علينا وكذلك نرى علاقتنا مع القريب فنطلب المغفرة، نغفر لأخينا لكي يغفر الله لنا، وأخيراً ضمن صلواتنا التي تلخصها الصلاة الربية نؤمن ونعلن أن الله هو مليكنا يملك على قلوبنا وعقولنا وأننا بصلاتنا أيها الأحباء نعترف بوجوده ونعترف بقدرته ونعترف أيضاً بما منَّ علينا من نِعَم ونشكره على كل ذلك في صلواتنا، حينذاك إذا ما سألنا ربنا بالسراء والضراء يستجيبنا وإذا ما قرعنا يفتح لنا بنعمته تعالى آمين.

الأحد الثاني والعشرون بعد القيامة

الأحد الثاني والعشرون بعد القيامة

الأحد الثاني والعشرون بعد القيامة

أعمال الرسل (4: 1ـ 13)

1 كورنثوس (7: 25ـ 34)

متى (17: 22ـ 27)

الأحد الثاني والعشرون بعد القيامة

«لا يقدر خادم أن يخدم سيدين أما أن يحب الواحد ويبغض الآخر أو يخدم الواحد ويرفض الآخر، لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال»

(لوقا16: 13)

«لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال».

بهذه العبارة يبكّت الرب يسوع الكتبة والفريسيين ومن لف لفهم ونسج على منوالهم في التظاهر بالتقوى وهم يعبدون المال، تاركين كل القيم الروحية في سبيل الحصول عليه.

يقول لوقا: إن الرب عندما نطق بهذه الآية المقدسة استهزأ به الفريسيون لأنهم كانوا محبين للمال.

إننا أيها الأحباء عندما نتأمل بتعاليم ربنا يسوع المسيح نرى أنه يريدنا أن نتجرّد من محبة هذا العالم ومقتنياته، ضرب لنا مثلاً عن إنسان غني أخصبت كورته، فبدلاً من أن يشكر الله على هذه النعم التي أسبغها عليه ساورته الكبرياء وابتدأ يفكر في مستقبله ويناجي نفسه، «كلي وأشربي وتنعمي يا نفسي لك خيرات كثيرة لسنين عديدة».

عندما تساورنا أفكار العجرفة لا نفكر بوجود الله، ولا بعنايته ولا نشكره على نعمه، إنما نقيم من أنفسنا آلهة نعبد هذه النفس الأمارة بالسوء، ولكن الرب يعلمنا بذلك المثل أن الإنسان لا يستطيع أن يملك نفسه، بل هو ملك لله، ولهذا عندما جاء الملاك إلى ذلك الإنسان المتعجرف قائلاً له بحسب تصورنا: «يا غبي اليوم تؤخذ نفسك منك»، لنقول قول الرب: «هذه الليلة تؤخذ نفسك منك فهذا الذي أعددته لمن يكون».

الطمع شرٌ يجعل الإنسان يظلم غيره، صاحب أموال طائلة هو جاهل غبي، وصاحب المزامير يقول: «قال الجاهل في قلبه ليس إله» (مز14)، يظن أنه يملك نفسه وما تملك يداه، ولكن إرادة الله تتم في كل إنسان، وفي إنسان كهذا ليموت شر ميتة وبعدئذ يترك كل شيء في الوقت الذي كان يفكر أن يوسع مستودعات أمواله وذخائره، ويتأنى في هذه الحياة وقد ظلم الآخرين الذين تعبوا جداً وسعوا لتحصيل المال لسيدهم فيموت هذا الإنسان وليته يموت إلى الأبد، لأنه يكون قد تخلص من العذاب الأبدي.

في مثل آخر يضربه الرب يسوع عن الغني و لعازر، الغني الذي لا يرحم أخاه الفقير المحتاج المعوز، والذي يعبد المال، كيف أنه مات، ومات لعازر أيضاً، وبحسب تعليم الرب، ذهب لعازر إلى أحضان إبراهيم ليتنعم، أما الغني فإلى جهنم وبئس المصير ليتعذب، ويرفع رأسه وعينيه من العذاب ليرى إبراهيم ولعازر في أحضانه، يسأل إبراهيم أن يبل لعازر طرف إصبعه ويأتي إليه لكي يخفف قليلاً من اللهيب الذي كان فيه لسانه، وكان جواب إبراهيم «أنت تنعمت في الدنيا وأما لعازر فتعذب، فهو في سعادة الآن أما أنت ففي عذاب أليم».

وهذا حق أنه لم يشفق على لعازر هكذا الإنسان الذي يتكل على الأموال.

ما أعسر دخول المتكل على الأموال إلى ملكوت الله ـ يقول لنا الرب ـ، فعندما جاءه ذلك الشاب الغني والرئيس ـ في الوقت نفسه ـ كان رئيساً لأحد مجامع اليهود وربما كان عضواً في مجلس السنهدريم، جاء وجثا أمام الرب يسوع، ليسأل كيف يستطيع الإنسان أن ينال الحياة الأبدية، وجهه الرب إلى الوصايا وذكر له هذه الوصايا ولكن ذلك الإنسان كان شارداً وعلم الرب أن قلبه كان وراء الأموال حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم، فلا يهمه إن تكلم الرب يسوع وذكر الوصايا التي قال إنه قد حفظها منذ صغره وحفظ الوصايا وقوانين الكنيسة والآباء، لا يكفي للإنسان ما لم يترجم ذلك بأعماله.

إننا أحياناً عديدة أيها الأحباء نسنّ لأنفسنا نواميس وشرائع بحسب ما توحيه إلينا نفسنا ونظن أنه يحق لنا أن نجمع المال مثلاً دون أن نصرف قرشاً واحداً في سبيل الخير والإحسان، في إعانة الفقير والأرملة نظن أن ذلك من حقنا إن كنا قد حصلنا على المال بطرق الحلال، ولكن هناك واجب علينا أن نقوم به، لأن الرب يريد رحمةً لا ذبيحة، لا تنفع كل الأعمال التي نظنها بحسب شريعة الله ما لم نضحِّ.

الرب قال لذلك الشاب إن شيئاً واحداً يعوزه، وهو يعوز كل واحد منا، أن يوزع أمواله، أن يفكر بإتباع الرب يسوع، هناك نكران الذات وهناك تضحية، أما نكران الذات فتظهر هذه الفضيلة في الإنسان الذي يشعر أن للآخرين عليه حقاً، إن كنت صاحب أموال وأخي بحاجة إلى المال فأخي له حق علي أن أعطيه، أن أجعله يشاركني في هذا المال ولكن هناك شيئاً آخر أيضاً إن كنت أطلب الكمال وهذا الشاب إن طلب الكمال عرف ما في قلبه، إنه يعبد المال ولا يمكن أن يعبد الإنسان ربين كما قال لنا الرب يسوع، لا يقدر أن يجمع بين الضدين، بين الله والاتكال على المال.

ما هي العبادة؟

هي أن يثق الإنسان بقوة خارقة في الطبيعة، ويتكل على هذه القوة، ليس هذا فقط بل أن يحب هذه القوة أكثر من كل شيء في العالم، وهذه القوة هي الله بالنسبة لنا نحن الذين نؤمن بالرب يسوع وبأبيه وبروحه القدوس.

أما بالنسبة إلى الإنسان المادي فهذه القوة هي (الاتكال على المال)، محبة المال أكثر من أي شيء، أو أي إنسان في الحياة، بل أكثر من الله، لذلك لا يقدر الإنسان أن يعبد ربين.

ما أجمل ما قال الرب: «لا يقدر خادم أن يخدم سيدين، إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يرفض الواحد ويخدم الآخر، لا نقدر أن نعبد الله والمال».

ذلك الشاب لأنه كان يعبد المال ذهب حزيناً والرب وضع أمامه أمراً آخر لنيل الكمال وهو التضحية وعلامة التضحية هي حمل الصليب وإتباع المسيح يسوع فالخطوة الأولى هي نكران الذات وإعلان حق الآخرين على هذا الإنسان والخطوة الثانية التضحية التامة إعلان نكران هذا الإنسان ذاته كلياً وتضحيته حتى بالحلال من الأمور الدنيوية وإتباع المسيح يسوع.

هذا الشاب ذهب حزيناً ـ يقول الإنجيل ـ لأنه كان ذا أموال كثيرة، فالمال أصبح عثرة له، نما هذا المال الذي هو عثرة كما نمت البذرة بين الشوك فخنق الشوك البذرة وزال الإيمان من قلب هذا الإنسان ولكن يا ترى هل كان يملك أموالاً طائلة أو قليلة يهلك ولا يستطيع أن يدخل ملكوت الله، المتكلون على المال قال عنهم: ما أعسر دخول المتكلين على المال ملكوت الله، الاتكال فقط هو الخطية لا وجود للمال.

المال ليس شراً، محبة المال هي أصل كل الشرور ـ كما يعلمنا الرسول بولس ـ ولكن من كان يملك أموالاً ويستغلها لتمجيد اسم الرب القدوس، فقد جعل المال سلماً يصعد به إلى السماء.

هذا إبراهيم لكرمه استضاف الملائكة،

هذا أيوب بأعمال الرحمة وبأمواله الطائلة استطاع أن يحصل على شهادة الله أنه لا يوجد في الأرض كلها كعبدي أيوب، لأنه يعبد الله لأنه يصنع الصلاح،

هذا أيضاً في العهد الجديد برنابا الذي باع قرية وطرح المال أمام أقدام الرسل لخدمة نشر بشارة الإنجيل المقدس،

في العهد القديم والعهد الجديد من استغل المال في تمجيد اسم الله، جعل المال خادماً له وعبد الله دون المال، ولكن من عبد المال دون الله كجحزي مثلاً الذي كان خادماً لأليشع وكذب على سيده كما كذب على نعمان السرياني الذي شفاه وطهره أليشع بقوة الله من برصه ونال منه ثياباً وفضة، لعنه أليشع النبي فتلّبس البرص جحزي ونسله كما قال أليشع إلى الأبد، وكان يهوذا الاسخريوطي الذي محبة بالمال باع سيده بثلاثين من الفضة. فإذا كنت أيها المؤمن وأنتِ أيتها المؤمنة ذوي أموال طائلة في حياة يعيشها الإنسان في يسر وهناء وسعادة دنيوية يأتي الملاك ليقول لنا اليوم تؤخذ نفسك منك فهل ستكون مع الذين كنزوا كنوزاً في السماء بأعمال الرحمة والمحبة و تمجيد الله بوساطة توزيع المال في خدمة الإنجيل المقدس، أم ستكون مع الغني الجاهل الذي لم يرحم لعازر في حياته على الأرض فتنعم لعازر في السماء أما هو فسيكون مصيره جهنم وبئس المصير.

لنفتكر بذلك أحبائي لأننا لا نستطيع أن نجمع بين عبادة الله وعبادة المال، وأن نعبد الله ونحبه أكثر من كل شيء، وكل إنسان في هذه الحياة لنكون في عداد من سيتمتعون في السماء مع الرب يسوع بالسعادة الأبدية.

أبعدنا الله عن ذلك جميعاً أيها الأحباء، نصلي لأجلكم جميعاً ليغفر الله لنا ولكم الخطايا، آمين.

أيوفي معلمكم الدرهمين (1)

كان الرب يتردد في الجليل ويحدث تلاميذه عن آلامه وموته وعندما عاد إلى كفر ناحوم البلدة التي اعتبرت وطناً له يقول متى: «هناك تقدم الذين يجبون الدرهمين إلى بطرس قائلين أيوفي معلمكم الدرهمين؟ قال بلى وعندما دخل بطرس إلى الدار سأله الرب يسوع ممن يأخذ ملوك الأرض يا سمعان ممن يأخذ الجباية والجزية أمِن بنيهم أم من الغرباء؟ أجاب سمعان: من الغرباء. قال إذن البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وارم السنارة والسمكة الأولى التي تصطاد افتح فاها فتجد استاراً خذه وادفع عني وعنك».

يا للعجب المسيح الإله المتجسد مغني المعوزين الذي خلق العالم ويدبره يكتب عنه الإنجيل المقدس إنه مدين، أناس يأتون ليقولوا: أيوفي الدرهمين؟

هذا الذي هو غني، ولكن افتقر لأجلنا، عاش فقيراً بين الناس ليعلمنا كيف نكون ناكرين ذواتنا مضحين بكل شيء في سبيل تمجيد اسم الله القدوس.

كانت هناك ضريبة هي جزية خاصة للهيكل كان لابد لكل يهودي أن يدفعها سنوياً، هذا ناموس موسى ليس من ضمن تعاليم آباء اليهود ذُكرت هذه الضريبة في التوراة ولذلك كان لابد للمسيح يسوع أن يؤديها لأنه قد ولد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس وأكمل الناموس، ولم يكن ليعرف لدى الناس من هو، أنه ابن الله.

أكمل الناموس وهو طفل عندما قدم في الهيكل، دفع ما كان عليه بوساطة أمه العذراء مريم وخطيبها يوسف فهل يدفع أيضاً الدرهمين هذه الضريبة التي وجدت في الناموس ولكن أيضاً خُفضت بعدئذ عندما عمَ الفقر أولئك الناس الذين كان عليهم أن يؤدوها، كانت شاقلاً فصارت نصف شاقل بحسب عملتهم القديمة وكان ذلك يساوي أجرة عامل ليومين، فعندما تقدم أولئك ليفرضوا هذه الجزية من الرب يسوع بعبارتهم أظهروا وكأن الرب مَدين لأولئك الناس.

يقول آباؤنا إن هناك فخاً كان قد نُصب لاصطياد الرب يسوع، لم يكن يعفى من هذه الضريبة إلا من كان نبياً أو من كان في سلك كهنوت عالٍ لكي يعتبر محرراً من تلك الضريبة، لأنها كانت ضريبة دينية سُنت لأجل إدارة الهيكل، من أين يشترون الذبائح البخور والزيت والخمر وغير ذلك من المواد التي كانت تستخدم للعبادة.

فكان عليهم بحسب ناموس موسى أن يجمعوا هذه الضريبة التي دعيت بضريبة الدرهمين عندما صار بنو إسرائيل تحت حكم الرومان بحسب عملة اليونان.

المسيح عندما جاء بطرس وقد وعد أولئك الناس أن الرب يفي الدرهمين، يسأل ممن يأخذ ملوك الأرض الجزية أو الجباية، أمن بنيهم أم من الغرباء؟ بطرس الذي تسرّع وقال لأولئك إن الرب سيدفع الدرهمين، يقول من الغرباء. يجيبه الرب إذن البنون أحرار.

هنا يُذكّر المسيح تلميذه بطرس أنه حر، لأنه ابن الله الوحيد عندما ضاع بحسب ظن مريم ويوسف في الهيكل ووجدوه وعاتبته مريم أمه قال لهما «ينبغي أن أكون فيما لأبي»، فالهيكل هيكل أبيه وهو ابن الله ولا ضريبة عليه، ولكن يقول للرسول بطرس «لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وارم السنارة والسمكة الأولى التي تصطاد افتح فاها فتجد أستاراً خذه وأد عني وعنك».

يا للعجب المسيح لم يستغل قوته الإلهية السامية القديرة لأجل طعام أو شراب أو لأمر خاص به، كان هناك صندوق، ويهوذا مسؤولاً عنه وكان الرب يجمع الصدقات ليسد حاجته وحاجات تلاميذه ولكنه لم يطلب شيئاً من الصندوق لأداء هذه الجباية، إنما في هذه المرة ـ بعكس ما كان سابقاً ـ يوم جرب من إبليس وكان جائعاً وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً ولكن المسيح لم يفعل هذا، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ـ قال المسيح لإبليس ـ، أما في هذه المرة فنرى أنه يستغل قوته الإلهية فيقول لبطرس «اذهب وارم السنارة»، لا بد وأن بطرس ذهب وأطاع الرب ولا بد أنه وجد تلك السمكة، من بعث السمكة إلى صنارة بطرس؟ من وضع الإستار هذه العملة التي كانت تعادل أربعة دراهم ليدفع بطرس فيها ضريبة الدرهمين عنه وعن الرب هذا الأمر العجيب نراه عجيباً غريباً ولكن عندما نتأمل بسيرة الرب نرى هذا الأمر سهلاً جداً.

هكذا فعل بطرس وأدى الضريبة وهكذا نتعلم نحن مما قاله الرب لبطرس ولئن كان الرب حراً وهو ابن الله ولا ضريبة عليه للهيكل وغير الهيكل ولكن يقول لبطرس لئلا نعثرهم.

كثيراً ما نضحّي بامتيازاتنا بحقوقنا في سبيل أن لا نعثر الناس، هذا واجب المسيحي الذي عليه أن يقتدي بالرب يسوع.

كانت تلك الضريبة أيها الأحباء للهيكل ولكن بعدئذ أصبحت لهيكل وثني بواسطة الاستعمار الروماني ومع هذا فالرسول متى وحده بين كتبة الإنجيل الأربعة يذكر هذه الحادثة وعلينا أن نعلم أنه قد كتب إنجيله ما بين سنتي 70- 80م وذلك يدل على أنه أراد أن يعطي المؤمنين درساً خالداً في التضحية ونكران الذات في عدم طلب الامتيازات لأن هذه الضريبة التي كانت للهيكل حولت إلى هيكل وثني وأصبحت الشكوك تساور المؤمنين من اليهود والمسيحيين يوم ذاك أن ندفع الضريبة أم لا، فالرسول متى عندما يذكر هذه الحادثة ويؤكد عليها لا يذكرها فقط لأنه كان عشاراً ويعرف هذه القوانين ولكنه يذكرها ليؤكد لنا ولهم خاصة في تلك الأيام أن المسيح لا يريد أن يعثر الناس، وأنه علينا أن نخضع للولاة الذين يقامون بوساطة الله لإدارة شؤون الناس لا المدنيين وحسب بل أيضاً الروحانيين.

الرب لم يعثر أحداً ودفع الجزية ليعلمنا أيها الأحباء أولاً أن نقوم بواجبنا تجاه المؤسسة الروحية التي كانت للهيكل سابقاً لدى اليهود واليوم هي للكنيسة المقدسة وأن ذلك دَين علينا، أيوفي قالوا لبطرس أيوفي معلمكم الدرهمين فهذا الوفاء أن يفي الإنسان دينه الروحي واجب ولازم على المؤمن أن يقوم به إننا في هذه الأيام ونحن نشعر أيها الأحباء بأن الإيمان قلَّ في قلوب الناس، فإذا كان الناس يُجذبون بسنارة أو شبكة بوساطة أولئك الذين أعطاهم الرب أن يكونوا صيادي الناس وأعطاهم بعدئذ أن يكونوا رعاةً ليرعوا شعب الله إنما ذلك يجذب هؤلاء الناس ليكونوا أعضاء أحياء في جسم الكنيسة المقدسة، فيتغذون منها روحياً ويغذونها مادياً ليبرهنوا على أنهم حقاً أعضاء أحياء يشعرون بمسؤوليتهم تجاه هذه المؤسسة الروحية ويشعرون بأنهم بوساطة قيامهم بأمور مادية بسيطة تجاه المؤسسة يبرهنون على أنهم يحبون الله ويشكرونه على نعمه التي يسبغها عليهم وأنهم يتمسكون بشريعته الإلهية لينالوا المكافأة منه.

أسأله تعالى ألا نصير سبب عثرة للناس، وأن نقوم بواجباتنا تجاه كنيستنا ليكافئنا الرب في العالم الثاني بأن نرث مع الذين ورثوا معه في كنيسة الأبرار والأبكار في السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته آمين.


دفع الجزية (2)

«ولما جاء إلى كفرناحوم تقدم إلى بطرس الذين يأخذون الدرهمين قائلين له: هل يؤدي معلمكم الدرهمين، قال: بلى»                                                                                (متى 17: 24)

ينفرد القديس متى بذكر حادثة مهمة في الإنجيل المقدس الذي دوَّنه هي حادثة ضريبة الهيكل.

فمنذ أيام موسى فرضت ضريبة على كل ذكر يبلغ العشرين من عمره، فيدفع نصف شاقل للهيكل، بعدئذ في أيام الرومان تحولت هذه العملة إلى دراهم. فكان لابد أن يدفع درهمين للهيكل، وهذه القيمة تساوي أجرة عامل ليومين.

الهيكل كان بحاجة ماسة إلى المال، هناك ذبائح صباح مساء تُقدَّم لله ومحرقات، هناك بخور يُعطَّر، هناك خمر أيضاً، هناك خبز التقدمة، أمور كثيرة يحتاج إليها الهيكل. ولذلك فرضت هذه الضريبة على كل ذكر بلغ العشرين من عمره فما فوق، كان يُعفَى الكهنة من هذه الضريبة، وكذلك الأنبياء. ولكن الرب يسوع يظهر أنه كان يدفعها، لذلك عندما جاء إلى البيت في كفرناحوم، اعتبرت كفرناحوم وطناً للمسيح يسوع، وبيت حماة بطرس بيتاً له. قبل ذلك كان في قيصرية فيلبس يوم اعترف به الرسول بطرس أنه: ابن الله الحي، ثم بالتجلي وعلى جبل التجلي وعلى الأغلب ذلك الجبل كان جبل الشيخ القريب من قيصرية فيلبس (بانياس)، اليوم تدعى بانياس في أراضينا السورية، ولئن كان بعض آبائنا يقولون أنه جبل طابور، جبل طابور في تلك الأيام كان مركزاً لقوة عسكرية رومانية. ولم يكن من السهل لأحد أن يصعد هناك.

    على كل حال. بعد أن انتهى من هذه الأمور جاء إلى كفرناحوم وخارج البيت تكلم هؤلاء الناس مع بطرس. هل يوفـي؟ كأنه دين. هل يوفـي معلمكم الدرهمين؟ قال بلى. طبعاً بطرس عندما أجاب بالإيجاب: بلى، يعرف أن الرب يسوع في الماضي كان يدفع الدرهمين، ولم يعترض أبداً، لم يقُلْ أن الدرهمين للهيكل يحق لي ألا أدفعها لأنني ابن صاحب الهيكل كما قال للعذراء مريم ويوسف عندما كان عمره اثنتي عشرة سنة: ينبغي أن أكون فيما هو لأبي، في الهيكل (لو 2: 49)، بل أيضاً الرب يسوع سأل بطرس عندما دخل البيت وهو يعرف أفكار الناس: ماذا تقول يا بطرس؟ ملوك الأرض يأخذون الضريبة أو الجباية من أولادهم، أبنائهم أو الغرباء؟ قال له: من الغرباء، قال له: إذن الأبناء أحرار، مع هذا لكي لا نعثرهم اذهب والقِ صنارة في البحر وأول سمكة تصطادها افتحها فتجد إستاراً فادفعه عني وعنك. ثمن الإستار كان أربعة دراهم درهمين عن الرب يسوع، ودرهمين عن بطرس. وهكذا كان.

نحن نعلم أن الرب يسوع هو الإله المتجسد، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس وهكذا نؤمن ونعلم أنه ولد تحت الناموس وأتم الناموس بحذافيره، في اليوم الثامن اختتن، وفي اليوم الأربعين قُدِّم إلى الهيكل، عندما كان عمره اثنتي عشرة سنة جاء إلى الهيكل كسائر اليهود. خاصة وأنهم كانوا قريبين من أورشليم نحو عشرين كيلو متراً فلا بد أن يزوروا الهيكل سنوياً طالما بلغ الثانية عشرة. نعلم كل هذا. ولكن نعلم في هذه الحالة أيضاً إن الضريبة ولئن كانت للهيكل، ولكنها تعتبر ضريبة مدنية واجتماعية أيضاً. وسنعلم ذلك بعدئذ. فالرب يعلمنا إذن كيف نخضع حتى للسلطة المدنية. فهذه الضريبة حوُّلَت إلى أمر مدني، فكانت السلطة المدنية تهيئ من شهر آذار إعلاناً بأنه قد آن أوان الضريبة وإلى شهر أيار يبدؤون بجمع الضريبة. والرب يسوع يقول لبطرس: لئلا نعثرهم. أحياناً عديدة نتنازل عن حقنا، فكثيراً ما يحدث للإنسان الذي يخاف الله، أن يتنازل عن حقه الشرعي ويعلم أن هذا ظلم، ولكن تنازله هو ليكمل شريعة الرب أن من طلب منك رداءك فأعطه ثوبك أيضاً ومن طلب منك أن تمشي معه ميلاً فامشِ معه اثنين (مت 5: 40-41). هذا هو التنازل: من ضربك على خدك الأيمن فحول له الآخر (مت 5: 39). هذه المسيحية، لا نقدر أن نقول شيئاً آخر. لذلك لئلا نعثرهم، في سبيل أن لا نشكك الناس، ومن شكّك بالناس أفضل له أن يوضع حجر الرحى في عنقه ويُطرَح في البحر من أن يشكك أحد هؤلاء الصّغار كما قال الرب يسوع (مت 18: 6). نتنازل عن حقنا وهذا ليس ذلاً، هذا مخافة لله، هذا تواضع ووداعة يجب أن يتصف بهما كل مسيحي، فالرب يسوع يحق له ألا يدفع الضريبة لأنه ابن الله. إذا كان الأنبياء والكهنة يعفون، فكم بالحري ابن الله!! وبطرس يعرف بأنه ابن الله الحي وقد اعترف به أمام سائر التلاميذ، لكن لئلا نعثرهم اذهب والقِ السنارة، أي سنارة كانت تجد سمكة أول سمكة تجدها تفتح فاها، تجد استاراً ادفعه عني وعنك وهكذا كان.

يعلمنا الرب يسوع أحبائي أن نطيع السلطة المدنية، يوم كتب متى الرسول وهو عشار ويعرف هذه الأمور جيداً، كتب هذه الحادثة في الإنجيل الذي دونه ما بين سنة 70 و80م، كان الهيكل قد زال، سنة 70م دمر الهيكل كلياً فالضريبة لمن؟ الضريبة حولتها السلطة المدنية إلى هيكل جوبيتير في روما، الهيكل الوثني. مع هذا لئلا نعثرهم لئلا يحدث أي اعتراض، ليس فقط من المسيحيين، بل أيضاً من اليهود الذين كانوا في تلك الأيام يثورون ضد السلطة لأنهم لا يريدون أن يدفعوا هذه الضريبة، لأنها بعد أن كانت لهيكل سليمان أصبحت لهيكل جوبيتير الإله الوثني البعيد عنهم كثيراً. متّى ذكر هذه الحادثة خصيصاًً لكي يعلمهم، أننا يجب أن نقتدي بالرب يسوع لئلا نعثر الناس، نخضع للسلطة وما تأمر به السلطة وندفع هذه الضريبة.

الدرس الذي يجب أن نتعلَّمه من هذه الحادثة. أنه كما كان يفكر اليهودي بهيكله وينفق المال في سبيل إتمام الطقوس الدينية، يجب أن نفكر نحن أيضاً في كنائسنا، إذاً كانت العشور تُعطَى من أيام بني إسرائيل، نحن نعلم أنه خاصة شعبنا السرياني النبيل يدفع أكثر من العشور بسخائه وكرمه، عندما يجد أن ما يدفعه ينفق في سبيل مجد الله تعالى وتقدُّم كنيسته، وعلينا أن ندفع بسخاء لأن للهيكل مصاريف عديدة كما كانت في هيكل سليمان. وأيضاً كما نخضع لشريعة الرب نخضع لشريعة السلطة في البلدان التي نسكنها أينما كان. ثم عندما ندفع هذه الحقوق، هذه التي سميت جزية وسميت ضريبة وسموها أيضاً الدرهمين، وكانت منظمة، لا تساورنا الشكوك أين يذهب هذا المال؟ أنا أدفع وأكمل واجبي وأنال من الرب مكافأة عن ذلك. أما الذي يكون وكيلاً عن ذلك إذ لم يكن أميناً كالاسخريوطي فليشترِ له حبلاً ويشنق نفسه، كالاسخريوطي تماماً. لأن هذا المال هو مال الله لذلك لا يمكن لإنسان أن يتعدى على مال الله والله يتركه هكذا حرّاً طليقاً. أما أنت الذي من أعماق قلبك تصنع الرحمة وخاصةً إذا صنعتها بسخاء كما أوصاك الرب يسوع، عندما تصنع الصدقة فأجرك يكون عظيماً عند الرب.

أسأل الرب الإله أن يلهمنا جميعاً أن نفتكر بما هو له، أن نفتكر بأن لا نعثر الآخرين، أن نفتكر بكل تصرفاتنا ولو هُضِم حقنا. وهذا ليس بمذلةٍ إنما هو تواضع ووداعة وقد علمنا الرب يسوع: تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحةً لنفوسكم. ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

الأحد الثالث والعشرون بعد القيامة

الأحد الثالث والعشرون بعد القيامة

الأحد الثالث والعشرون بعد القيامة

أعمال الرسل (28: 1ـ 10)

2 كورنثوس (11: 16ـ 33)

لوقا (11: 33ـ 44)

الأحد الثالث والعشرون بعد القيامة

حديثنا في هذا الصباح عن موضوع مهمٍ جداً فالفصل الثاني عشر من الإنجيل المقدس بحسب البشير مرقس يُظهر لنا أعداء الرب وأعداء كل الحقائق الإيمانية السمحة التي أُوحي بها من الله، والتي أعلنها الرب يسوع، لكي نكون حذرين جداً ممن يُعلّمون ضدها ولكي نكون مستعدين لتطبيقها.

في هذا الفصل سمعنا بفرقة تُسمى بالصدوقيين، هؤلاء كانوا يُنكرون قيامة الأموات، قد تجددت هذه الفرق ولئن والت في القرن الثاني للميلاد كفرقة مؤسسة منذ أيام موسى، ولكن لا تزال هذه الأفكار السوداء القاتلة الإلحادية الملحدة لدى بعض الناس إلى اليوم.

أولئك الذين قال عنهم الرسول بولس: إنهم يقولون في أنفسهم لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت، وهم يعتقدون أن الإنسان إذا ما مات، مات إلى الأبد.

قبل كل شيء نحن نعلم أن الإنسان قد خُلِق من تراب الأرض ونعلم أيضاً من الكتاب المقدس أن الرب نفخ في أنفه نسمة الحياة فصار حياً، ونعلم أنه قد خُلق ليكون خالداً بلا موت، ولكن كما يقول لنا الكتاب أن بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت. عندما نعود إلي القصة القديمة وهي قصة حقيقية نسمع بكل بساطة قول الرب للإنسان وهو في الفردوس أنه يحق له أن يأكل من كل ثمار أشجار الجنة إلا ثمرة شجرة معرفة الخير والشر، ثم نتأمل بعدو البشرية عدو الإنسان وعدو الله: إبليس، كيف خدع الإنسان بتحريفه قول الله عندما خاطب المرأة وقال لها وهو يسألها: ماذا قال لكم الله؟، قالت العبارة: أنه من جميع أشجار الجنة نأكل ما عدا شجرة معرفة الخير والشر. كذّب إبليس الله وحرّف الكلام وقال لها: لا يُريد أن تأكلا من هذه الشجرة فتحيوا إلى الأبد، لتعرفا الخير والشر، لأنكما تصيران آلهة. المسكينة خدعت زوجها أيضا ًوأكلا من الثمر. نرى أن القصة بسيطة جداً ولكنها تخفي تعدياً على الشريعة وتعدياً أيضاً على كلام الله وتزوير هذا الكلام وتحريفه.

إلى اليوم الناس يأخذون كلام الله في الإنجيل المقدس وحتى في تعاليم موسى ويحرِّفون هذا الكلام لصالحهم، وطبعاً هذه خطية عظيمة إذا كان إبليس قد ظهر علناً في الفردوس فهو بالخفية يسيطر على أفكار الناس ويبلبلها. أيام التدبير الإلهي العلني بالجسد حاول إبليس أن يخدع الإنسان ثانية حاول أيضاً أن يحارب المسيح بشخص أتباع المسيح منذ أن وقف الملاك أمام العذراء مريم وبشرها بالحبل الإلهي، شكّك إبليس يوسف خطيب العذراء بالعذراء بالذات ولكن في كل حين الله معنا إن كنا معه فالعذراء أنقذها الرب إذ أرسل ملاكه إلى يوسف البار ووضح له أن الذي حُبِل بها هو من الروح القدس أوضح له أن هذا الذي حُبِل بها في العذراء مريم يعني هو ابن الله ومخلص البشر. ذلك إبليس يحاول أن يشكك الناس بالأبرار والأتقياء والصالحين ولكن الله يكشف حيل إبليس هؤلاء بهذه الوسيلة ينقذهم الرب من أعداء الإنسان الأبالسة جميعاً ليس فقط واحد بل كل الأبالسة كل الشياطين، كل أعداء الله وأعداء الإنسان.

في عصر التجسد كان هناك فرقتان لدى اليهود: فرقة الفريسيين وفرقة الصدوقيين.

الفريسيون نعتهم الرب يسوع بالمرائيين، لماذا؟ لأنهم اظهروا أنهم كانوا يعبدون الله يصومون ويصلون ويسجدون أيضاً، بهذه العبارة صلواتهم بحجة تطويل صلاتهم يأكلون بيوت الأرامل والأيتام. هؤلاء هم الفريسيون يُظهرون أنفسهم أنهم أبرار وهذا ما نسميه بالبر الذاتي البر الذي يعتقد فيه أصحابه أنهم قد نالوا هذه الموهبة من ذاتهم. نحن لا نستطيع أن نكون أبراراً ما لم نتكل على الله، ما لم نستند بكل أعمالنا وأقوالنا إلى الوحي الإلهي.

إذن الفريسيون رُفضوا من الرب، وفي الإصحاح السادس عشر من الإنجيل المقدس بحسب متى الرسول نسمع الرب يقول لرسله أن يكونوا حذرين من خميرة الفريسيين والصدوقيين في آنٍ معاً، وبعدئذٍ فهمهم أنه لا يتكلم عن الخميرة العادية أي الخميرة التي تخمر العجين لأنهم قد نسوا أن يأخذوا معهم خبزاً، ووبخهم ونبههم كيف أنه بخمسة أرغفة أشبع خمسة آلاف وكم قفة فضلت وبسبعة أرغفة أيضاً أشبع أربعة آلاف وكم سلة من الخبز رفعوا أيضاً. ذكّرهم ووبخهم لأنهم فكروا بالخبز المادي والخميرة المادية وأفهمهم أنه عنى بذلك تعاليم الكتبة والفريسيين والصدوقيين، الكتبة مع الفريسيين هذه التعاليم مثل الخميرة الفاسدة رغم أنها تكون صغيرة تقدر أن تخمر عجيناً كبيراً، وتخمره وتفسده كله كذلك هذه التعاليم التي لدى الكتبة والفريسيين ولدى الصدوقيين تفسد العالم كله إذا سيطرت هي على هذا العجين على الناس جميعاً على أفكارهم وعلى عقائدهم لذلك حذرنا الرب منها قلنا المُرآة الموجودة لدى الفريسيين تراهم يكملون الناموس نراهم أيضاً يكملون تعاليم آبائهم، وهذه التعاليم أصبحت سخيفة يعني مثلاً كانوا قد انتقدوا تلاميذ الرب لأنهم لم يغسلوا أيديهم قبل الطعام، أيديهم كانت نظيفة لكن هذا الطقس رغم أنه أيديهم نظيفة يأخذون ماءً قدام الناس ويغسلون أيديهم، يمكن أن يوسخوها أكثر مما ينظفونها. هذه الأشياء يعتبرها الرب سخيفة جداً ويرفضها لأنه فقط تُظهر مرآتهم إنهم يكملون الناموس. مات الروح، لهم صورة التقوى ولكن يفتقدون إلى قوتها.

أما الصدوقيون وكان منهم رؤساء الكهنة وكان منهم هيرودس وكان منهم ناس كثيرين هؤلاء ينكرون قيامة الأموات يعتقدون أن الإنسان إذا مات جسداً وروحاً ولذلك لنأكل ونشرب يقولون، وقال ذلك الرسول بولس على لسانهم فغداً نموت أي لنفعل ما نفعل في هذه الحياة فغداً نموت نحن وخطايانا ولا دينونة ولا قيامة ولا حياة ثانية. هؤلاء فرقة منهم جاءت إلي الرب يسوع أعطوه مثل كان هناك تقليد عند اليهود ويهمهم جداً انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها أنه الغاية من الزواج هي أن يكون للإنسان نسل وكان سبعة أخوة مثلما قال الإنجيل المقدس تزوجوا امرأة الأول ثم الثاني والثالث ولم يكن لهم نسل. وهؤلاء الصدوقيون ظنوا أنهم سوف يُمسكون الرب بحجة أنهم على حق أن يرفضوا القيامة قالوا له في القيامة لمن تكون تلك المرأة فالسبعة أخذوها زوجةً الرب طبعاً وبخهم لأنهم لا يعرفون الحقائق الإلهية وأراد أن يعلمهم ويقول لهم في القيامة لا يُزوِّجون بالقيامة يكون الإنسان كالملائكة ولا يُزوَّجون ولئن يكونوا بأجساد، أجساد لطيفة أجساد مثل جسد المسيح بعد قيامته ولكنهم لا يتزوجون ولا يزوِّجون، بل يكونون كملائكة الله هذه الحقيقة الإلهية، بعدئذٍ سُئل الرب يسوع عمّا يكون عليه الإنسان إذا مات، الرب يسوع أراد أن يعودوا إلى التوراة، إلى إبراهيم واسحق ويعقوب الذين ماتوا لكنهم أحياء لأن الله الذي هو إله إبراهيم واسحق ويعقوب قال ليس الله الرب اله أموات بل اله أحياء، يعني ذلك أن الحقيقة الإلهية للإنسان عندما يموت بالجسد أما نفسه فتبقى حية خالدة لا تموت، وأنه في يوم القيامة عندما يسمع ـ يقول الرب يسوع ـ الأموات صوت ابن الله من يستطيع أن يسمع الميت يقدر أن يسمع؟ لكن روح هذا الإنسان هي التي تسمع ويقوم الأبرار قيامة الحياة ويقوم الأشرار قيامة الدينونة هنا نعلم أننا كما خُلقنا من جسد ونفس جُبلنا من الأرض يقول لنا في سفر الجامعة أن الموت هو عودة الجسد إلى التراب وعودة الروح إلى الله باريها، فيوم القيامة ترجع الروح إلي ذلك الجسد مهما كان ليصير جسداً ممجداً شبه جسد المسيح يسوع بعد قيامته من بين الأموات، حينذاك الأبرار يقومون قيامة الأبرار قيامة الحياة أما الأشرار فقيامة الدينونة نحن وإن كنا نرفض عقيدة الصدوقيين ونرفض كل عقيدة تعلم الناس كخميرة فاسدة التعاليم الفاسدة التعاليم المرفوضة من الله إن كنا نرفض هذه التعاليم ونؤمن أننا قد وُجدنا خُلقنا لنكون خالدين دخلت الخطية وبالخطية الموت بإنسان واحد هو آدم ولكننا استطعنا بالمسيح يسوع آدم الثاني أن ننال نعمة عند الله أن نهيمن على الموت الروحي وأننا سنهيمن على الموت الجسدي أيضاَ في يوم القيامة لنكون خالدين بالأجساد التي ستكون بشبه جسد المسيح يوم القيامة اللطيفة الأجساد الروحية، حينذاك نرث ملكوته السماوي لذلك إذا كان الأمر كذلك حقيقة كذلك حسب عقيدتنا الإلهية علينا أن نكون مستعدين لنكون في عِداد الأبرار والصالحين أن نؤمن بقيامة الموتى أن نؤمن بالأبدية أن نؤمن أن الإنسان بعد أن يموت مرة يُدان أيضاً عمَّا عمله في هذه الحياة وأن نحاول أن نكون تائبين إن كنا لم نتمكن في هذا الجسد أن نكون أبراراً ألا نخطئ، لكن لنكون التائبين لنعود إلى الله بالتوبة لكي يقبلنا في عداد أولئك الذين سيسمعون صوته في اليوم الأخير ويقومون قيامة الأحياء ويرثون ملكوته إلى الأبد، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

عيد ميلاد السيدة العذراء

عيد ميلاد السيدة العذراء

عيد ميلاد السيدة العذراء (1)

أعمال الرسل (7: 44ـ 54)

عبرانيين (9: 1ـ 10)

لوقا (10: 38ـ 45)

عيد ميلاد السيدة العذراء

«قالت مريم: تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي… فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال»                     

          (لوقا 1: 46ـ  48)

يصادف عيد ميلاد السيدة العذراء غداً الاثنين الثامن من أيلول، ونحتفل به الآن ونحن نذكر العذراء القديسة التي تنبّأت عن نفسها أن الأجيال تطوّبها، وقد طوّبتها أجيال الكنيسة المقدسة عبر الدّهور، ونطوّبها نحن أيضاً لأنها استحقّت أن يولد منها الإله المتجسّد فهي والدة الله وهي أمّه، ولأنها لطهرها وقداستها وعفّتها فاقت البشر فضيلةً. تقول: » هوذا منذ الآن تطوّبني الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم «. وفي تواضعها استحقّت أن تجري هذه العظائم بها وبواسطتها.

اعتادت الكنيسة أن تعيِّد للقديسين والقدّيسات أعياد انتهاء جهادهم على الأرض، ولكنّها تعيِّد للعذراء مريم حتّى عيد ميلادها، أيضاً تُعيِّد الكنيسة ليوحنّا المعمدان عيد ميلاده ولا تعيِّد للآخرين لكل القديسين والقديسات عيد ميلادهم ذلك أن يوم الموت لجميع الناس خيرٌ من يوم الولادة وخاصّةً القديسين الذين يجاهدون جهاداً روحيّاً في هذه الحياة، وعندما تنتهي أيامهم يغادرونها إلى السماء لنَيل الإكليل، إكليل المجد، إكليل البر. لذلك تُعيِّد لهم الكنيسة فرحةً في ذلك اليوم لأنهم أنهوا جهادهم، ولكن جهاد العذراء الرّوحي بدأ في ميلادها. هي وحدها التي تنبّأ عنها الأنبياء، الأنبياء تنبّأوا عن مجيء المسيح وفصّلوا تماماً في إسهاب سيرته على الأرض، ولكنه في الوقت نفسه من خلال المسيح جاءت النبوّات عن والدته. كما تنبّأ الأنبياء أيضاً عن يوحنا المعمدان الذي كان «صوت صارخٍ في البريّة» كما قال عنه النبي: أعدّوا طريق الرب، لإعداد طريق الرب جاءت النبوّة عن يوحنا أما العذراء فهي المرأة التي قال عنها الله منذ البدء أنها تسحق رأس الحيّة. العذراء هذه المرأة جاء إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد ليعلنها أنها عذراء: «هوذا العذراء تحبل ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل». هذه العذراء مثّلها الآباء بالرّموز التي حدثت لأجلها في العهد القديم نرى خاصّةً بالنسبة إلى حملها الرب يسوع العوسجة التي ظهرت للنبي موسى ملتهبة بالنار غير محترقة. عندما كان الإنسان يرى الله كان يرتعد لأنه يعلم أنه سيموت، لا يرى الإله إنسانٌ ويحيا. أمّا العذراء مريم فكالعوسجة حلّ فيها نار اللاّهوت ولكنها لم تحترق، تجسّد منها أخذ جسداً كاملاً من العذراء بواسطة الروح القدس الذي حلّ فيها. ألا تستحق الطوبى هذه الفتاة التي ندعوها امرأة؟ ألا تستحق الطوبى وقد استحقّت أن يحلّ في أحشائها نار اللاّهوت؟ كان ذلك لطهرها ونقائها. كانت كسائر البشر تحت حكم الخطيئة الأصليّة، وصَمَتها الخطيئة الأبويّة كما وصمت جميع الناس: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله»، الخطية دخلت بواسطة الإنسان، الإنسان الأوّل وعمّت البشر، هذا أساس عقيدة المسيحية، بل أساس عقائدها كافّةً، إن لم نؤمن بذلك فلسنا نحن من أتباع المسيح. إن آمنّا بخلاف ذلك نكون قد هدمنا العقائد المسيحية وخاصةً عقيدة التجسد والفداء.فالعذراء ولدت كما ولد سائر البشر، أبوها يوياقيم وأمّها حنّة العاقران، كانا يصليان ليزول عنهما العار، كان العقر في تلك الأيام يُعَدّ عاراً ولعنةً من الله حتّى أن يوياقيم تقدّم مرّة إلى الكاهن ليأخذ منه الكاهن تقدمة لله، فرفض الكاهن أن يفعل ذلك لأنه اعتبر يوياقيم ملعوناً إذ كان عاقراً. عاد إلى بيته يبكي وينتحب، شاركته امرأته العاقر بذلك فاستجاب الله لهما. وُلدَت مريم من يوياقيم وحنّة كما نولد جميعاً من والدَين، كما وُلد يوحنا أيضاً بعدئذ من والدَين عاقرَين. كما وُلد صموئيل في الماضي، كما يولد دائماً البشر طبيعيّاً وولدت تحت حكم الخطيّة، لو كانت معصومة من الخطأ، لو كان الحبل بحنّة دون خطيئة لما احتاج العالم إلى المسيح ليأتي. المسيح وحده ولد بريئاً من الخطيئة، يقول الكتاب أخذ كل شيء منّا بالسجد، أخذ جسدنا كاملاً جسداً ونفساً ما عدا الخطيئة، ولكن استحقّت أن تطوَّب هذه العذراء. لماذا؟

لعفّتها، لطهرها، لنقائها. كانت يتيمة أخذها الكهنة فعاشت في الهيكل مع النسوة القديسات، مع عجائز. كانت تصلي ليل نهار. كانت كسائر فتيات اليهود في تلك الأيّام تتمنّى كل واحدة منهنّ أن يولد المسيح منها، لذلك لم يكن هناك نظام لرهبانيّة أو لبتوليّة. كانت جميع الفتيات يتمنّين أن تكون كلّ واحدة منهنّ أمّاً لماسيّا المنتظر. العذراء انتخبها الرب لتكون أمّاً له، ولو خُيِّر أحدنا ليختار أمّه يختار الأميرات والغنيّات وذوات الجّاه والغنيّ، ولكن المسيح اختار له أمّاً نظراً إلى طهرها. هذا مقياس السّماء وعفّتها وقداستها وإيمانها، وخاصةً إلى تواضعها، قالت: نظر إلى تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال. تحمّلت كثيراً واصطبرت كثيراً ونالت نعمةً عظيمةً حتّى أن الملاك عندما بشّرها بالحبل بالرب يسوع قال لها: أيّتها الممتلئة نعمة. أنعم الله عليها فامتلأت نعمةً وحلّ عليها الرّوح القدس فطهّرها، حينذاك تهيّأت ليحلّ في أحشائها نار اللاّهوت. قالت أليصابات: طوبى للتي آمنت أن يكون لها هذا. وقالت إحدى النسوة للرب يسوع: طوبى للبطن الذي حملك والثديَين اللذين رضعتهما. أمّا الرب فيعرف أن الطوبى قد أُعطيَت لأمّه، لكن يريد أيضاً من كلٍّ منّا أن ينال تلك الطوبى فقال: طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها. فعندما نعيّد للعذراء أحد الأعياد يجب أن نذكر قول الرب: «طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها»، إن كنّا نرغب في أن ننال تلك الطوبى الرّوحيّة السّامية، أن نكون مع العذراء على الأرض وفي السماء.

فلنحفظ أحبّائي كلمة الله ونعمل بها ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


عيد ميلاد السيدة العذراء (2)

أيّها الأحبّاء:

نحن نعلم أن الكنيسة منذ بدئها كانت تعيّد للقديسين عيد انتهاء جهادهم الروحي في هذه الحياة، بعد أن تتأكّد أنّهم كانوا متمسّكين بالإيمان القويم غير حائدين عنه قيد شعرة وتتأكد من سيرتهم الطاهرة النقيّة، المسيحيّة. حينذاك تعيّد لهم لكي يقتدي المؤمنون بسيرتهم، أن ينظروا إلى نهاية سيرتهم، ويتمثّلوا بهم على حد تعبير بولس الرسول. (عبرانيين 13: 7) ولكن يستثنى من هذه القاعدة بعض القديسين. يوحنا المعمدان الذي تنبأ عنه الأنبياء فعيّدت له الكنيسة عيد ميلاده. والعذراء مريم التي فاقت في إيمانها، في عفافها، في فضائلها السامية ومزاياها الصالحة. ولذلك عيّدت لها الكنيسة المقدّسة عيد ميلادها. وهي في عيد ميلادها نعلم أنها كانت بشراً، ولئن سمت عن البشر. إذ اختارها الله لتكون، ليس فقط أمّاً، بل والدة لابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي تجسَّد منها بقوّة الروح القدس، ونحن نطوّبها لأنها قالت عن نفسها: هوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدّوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه (لو1: 46 – 50). ولكننا لا نعبدها لأنها بشر وكسائر البشر، ومَنْ عبَدها كفر. فبعض من كان بنيّة صالحة حسبما نقول، يصلّي للعذراء مريم كما نصلي نحن أيضاً، تطرّفوا كثيراً، وعندما بحثوا عقيدة التجسد الإلهي وعقيدة الخطيئة الجَدِّية التي كانت سبباً للتجسّد الإلهي، رأوا أن هذه الخطيئة التي ورثها بنو البشر كافة لأن آدم عندما أخطأ  ـ طبعاً حواء هي التي أخطأته ـ عندما أخطأ كان يمثّل البشر في معرض الربح والخسارة، فلو ربح لربح كل البشر من نسله، ولكنه خسر فخسر البشر كافة. لذلك رأى بعض الناس وبالذات سنة 1854م فرقة الفرنسيسكان من رهبان الكنيسة الرومانية، اعتقدوا أنّه لا يمكن أن تولد العذراء مريم كسائر البشر تحت حكم الخطيئة الأصليّة وأنها بلا دنس. هذه الكلمة نلفظها ولا نفهم معناها، إنها بعيدة عن المسيحية. لا. ليست العذراء بلا دنس، العذراء ولدت من يوياقيم وحنّة مثل سائر البشر، كما ولد اسحق ابن العاقر، كما ولد أيضاً صموئيل في العهد القديم، وكما ولد خاصة يوحنا المعمدان من العاقرَين. لكن هذا لا يعني أن هؤلاء جميعهم قد ولدوا بلا دنس، لأنهم قد ولدوا من رجل وامرأة وورثوا الخطيئة الجَديّة كما ورثنا نحن وكل العالم، ولولا ذلك لما جاء المسيح وخلّصنا. الوحيد في الجسد ولد بدون دنس هو المسيح يسوع، الوحيد الذي لم يرث هذه الخطيئة الجَديّة، والعذراء مريم ورثت هذه الخطيئة واستحقّت أن يختارها الله لتكون والدة لابنه بالجسد. العذراء مريم حلّ عليها الروح القدس كما يقول الإنجيل المقدس، طهّرها ونقّاها، دخيذ ومرقذ كن آجن بذ كما يقول آباؤنا: طهّرها ونقّاها ثم حلّ في أحشائها بوساطة الروح القدس، الذي جبَل من دمها جسداً بشرياً ذا نفس بشريّة أيضاً. حلّ فيها وبلاهوته حلّ في هذا الجسد لتلد العذراء مريم الإله المتجسّد وتستحق أن تدعى والدة الله، لأنها ولدت الإله المتجسّد.

من هنا نرى أن عقيدتنا بأن المسيح ذو طبيعة واحدة وأقنوم واحد وجوهر واحد، قد اتّحد كلاهوت بالجسد الذي جبله الروح القدس في أحشاء العذراء وأصبح واحداً ووَلدَت واحداً. الابن الوحيد الواحد الذي هو من طبيعتين وأقنومَين، الطبيعة الإلهية والطبيعة الجسدية المتحدتان معاً. لذلك نقول أن المسيح هو واحد، واستحقّت العذراء هذه النعمة العظيمة أن تدعى والدة الإله.

البعض قالوا: إن العذراء وُلِدَت بلا دنس، أي أنها وُلدت من والديها، لا أنها وَلَدَت المسيح بلا دنس، طبعاً المسيح لم يرث الخطيئة الجَديّة لأنه لم يولد من رجل، من اتّحاد رجل وامرأة. وُلِد فقط من امرأة وهذه المرأة هي عذراء، إتماماً لما وعد به الله الإنسان في بدء الخليقة، أن نسل المرأة سيسحق رأس الحيّة(تك3: 15).  لم يقل نسل الرجل، نسل المرأة. وهذه المرأة وضّحها لنا إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد بقوله: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.

أيها الأحباء يجب أن نلاحظ أن أساس العقائد المسيحية هي عقيدة وراثة الخطيئة الجديّة، لو لم نرث الخطيئة الجديّة لما جاء المسيح وفدانا، وكانت الخطيئة الجدية كما نقول في علم اللاهوت موجهة إلى الله اللاّمتناهي، وكان لابد من كفّارة غير متناهية كي تبررنا من هذه الخطيئة، فكلّ المحرقات وكل الذبائح في العهد القديم أشارت إليها ولكنها لم تستطع، حتى الأنبياء لم يستطع أحد منهم قبل مجيء السيد المسيح أن يطهّر الإنسان من الخطيئة الجَديّة. إلى أن جاء من يعادل الله الذي وجهت إليه الخطيئة الجَديّة، بل الله بالذات، الله ظهر بالجسد وفدانا بدمه الكريم وبذلك غُفِرَت لنا الخطيّة. نحن جميعاً نولد فيها أيضاً، ولكننا عندما نعتمد باسم الرب بالثالوث الأقدس نتطهّر ونتنقّى ونصبح أولاداً لله وتُغفَر لنا هذه الخطيّة إذ نتبرّر منها كما نتقدّس.

نعيّد للعذراء مريم عيد ميلادها ونرى فيها أنها اختيرت من الله. لو اختار أحدنا والدته لاختار واحدةً من الأميرات، إحدى الغنيات، إحدى اللّواتي يدّعين أنّهن يسمَين عن البشر. ولكن المسيح اختار العذراء الفتاة النقيّة، الطاهرة، العفيفة، القديسة التي كان والداها قد نذراها للهيكل. وهنا نقطة حسّاسة في إيماننا: لم يكن في العهد القديم نذور الرهبانيّة. رأينا إيليا كان نذيراً، وبعض الذين نذروا أنفسهم كانوا أقليّة قليلة جدّاً، لكن خاصة الفتيات، كل فتاة في العهد القديم كانت تتمنى أن يولد منها المسيح وتنتظر يوم زفافها. ولكن والدَي العذراء نذراها لمدة محدودة إلى أن تصبح أهلاً للزواج، فيختار الكهنة أحد أقربائها ليتزوجها. العذراء مريم نُذِرَت للهيكل عندما كان عمرها ثلاث سنوات، وأثناء وجودها في الهيكل تربَّت مع القديسات الطاهرات، التقيّات اللواتي كنَّ يتعبّدن في الهيكل، أرملات خاصة. ثم عندما آن الأوان لتُخطَب إلى رجل، خُطِبَت إلى يوسف البار. مثلما قُلنا لم تُنذَر لتبقى بتولاً إلى الأبد، ولكن عندما اختارها الله ليولد الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس منها بالجسد، حينذاك بقيت بتولاً. عندما ولدته كانت بتولاً وقبل الولادة وبعدها. ولذلك نسمّيها دائمة البتوليّة. هذه العذراء التي هي بشر مثلنا، استحقّت أن تكون أسمى من البشر كافة، لأنها والدة المسيح يسوع. هذه العذراء نتشفّع بها ونطلب أن تصلي هي أيضاً من أجلنا لابنها الحبيب ربنا يسوع المسيح. في عيد ميلادها، في جميع أعيادها، في هذا اليوم أن نصبح مثلها كما قال الرب يسوع للجموع الذين قالوا له: أن أمّك وإخوتك خارجاً يطلبونك، تطلّع إلى الجموع وأشار إليهم وقال: أمي وإخوتي الذين يسمعون كلام الله ويعملون به (لو8: 21). فنحن إن سمعنا كلام الله مثل العذراء التي كانت تسمع كلام الله، تحفظه لأنه كلام الله، وتبشر به أيضاً التلاميذ بكل الحوادث التي حدثت معها ومن أجلها. إن كنا نحفظ كلام الله ونعمل به، نصبح بمستوى العذراء مريم بالنعمة، بالرحمة، بنَيل ملكوت الله.

أسأله تعالى بشفاعتها أن يؤهّلنا لكي نسمع كلمة الله، وكلمة سمع شمع بالسريانية لغتنا المقدسة تعني سمع وأطاع. وأن نطيع هذه الكلمة، وصايا الله لكي نستحق أن نكون مع العذراء مريم التي صلاتها دائماً معنا، ودائماً نعطيها السلام في ختام صلواتنا صباح مساء كما أعطاها جبرائيل الملاك السلام. ليكن سلام الله معنا وسلامنا أيضاً نقدمه للعذراء مريم لتصلّي لأجلنا. ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

الأحد الأول بعد عيد الصليب

الأحد الأول بعد عيد الصليب

الأحد الأول بعد عيد الصليب (1)

أعمال الرسل (13: 26ـ 41)

2 تيموثاوس (2: 20ـ 26)

متى (24: 36ـ 51)

الأحد الأول بعد عيد الصليب

علامة الصليب المقدس ومجيء الرب يسوع

«حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء وحينئذٍ تنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً بقوّة ومجد عظيمَين»

        (متى 24: 30)

احتفلت الكنيسة المقدّسة أوّل أمس أيّها الأحباء بعيد اكتشاف الصليب المقدس، وهذا العيد مهم جدّاً في المسيحية، ذلك أن الصليب هو الثّقل المعادل للإنجيل المقدّس، وإن اكتشاف خشبة الصّليب التي عُلِّق عليها الرب تُعتَبَر حَدَثاً مهمّاً جدّاً لأن في تلك الخشبة قوّة إلهيّة، حيث أن المسيح قد عُلِّق عليها وسُفِك دمه عليها ولامست جسده المقدَّس، فإذا كانت الثياب التي كانت توضَع على المرضى فينالون الشّفاء، فكم بالحري القوّة التي نالتها تلك الخشبة حيث أنها لامست جسد الرب وخاصةً أن الصّليب قد صار علامةً واضحةً مقدّسة للمسيحيّة. وبآية موضوعنا نرى أن تلك العلامة ستظهر قبل مجيء الرب تظهر في السّماء بعد أن تكون الشّمس قد أظلمت والقمر لا يعطي ضوءه، وبعد أن تكون قوّات السّماء قد تزعزعت والنّجوم قد تساقطت، تظهر علامة ابن الإنسان أي الصّليب المقدّس، لتعلن هذه العلامة بظهورها أن المسيح آتٍ، فيأتي على سحاب السّماء بقوّة ومجد كثير كما قال لنا الرب ودُوِّن ذلك في الإنجيل المقدّس الذي كتبه الرسول متّى. والصّليب أيّها الأحبّاء قد نال قوّة إلهية من الرب لأنه قبل أن يُعلّق عليه الرب يسوع أعلنت السّماء هويّته أنه هو ابن الله، كان ذلك على لسان بطرس الذي نال الطوبى من الرب. عندما أعلن الرب أن رسالته الإلهية في هذه الدّنيا هي أنه قد جاء وتجسّد ليموت مصلوباً وليفدينا بصليبه وجعل الصليب علامةً واضحةً للتلمذة الحقيقية فمن لا ينكر ذاته ولا يحمل صليب الرب ويتبعه، لا يستحقّ أن يكون تلميذاً للرب على حدّ قول الرب بالذات. ولذلك فإن الكنيسة اتّخذت الصليب علامة الخلاص، فعندما نرسم علامة الصّليب على أنفسنا نبدأ بالجبهة، هذه التي قد خُتمَت بالميرون المقدّس وتمثِّل السّماء، ثم نضع إصبعنا، الإصبع الواحدة التي تدلّ على أن المسيح هو واحد، هذه الإصبع ننقلها إلى صدرنا إلى موضع البطن لنعلن أننا نؤمن من كل قلبنا بأن ابن الله نزل من السّماء وحلّ في أحشاء القدّيسة مريم العذراء ووُلد بالجسد من الروح القدس ومن القديسة مريم العذراء، ونحن نولد به ميلاداً ثانياً بواسطة الرّوح القدس الذي قد نقلنا من اليسار التي تعتبر جهة الشرّ والهلاك، إلى اليمين أي جهة الخير والخلاص. بل أيضاً عندما نرسم الصليب على جباهنا نعترف بالثالوث الأقدَس: الآب والابن والرّوح القدس ونعترف ونقرّ بسر التجسّد، فالابن قد نزل من السماء، من عند الآب وحلّ في أحشاء العذراء وتجسّد آخذاً جسداً كاملاً ونقلنا بعمل الفداء، أي بموته على الصّليب من الهلاك –الذي تمثّله جهة اليسار- إلى اليمين التي تدل على الخلاص والسّعادة. والصّليب الذي هو الثّقل المعادل لإيماننا ولإنجيلنا، لا يتم سرّ من الأسرار المقدَّسة إلاّ برسمه به. فكل الأسرار السّبعة التي هي نِعَم إلهيّة ننالها بمادة وصورة ظاهرتين ويقوم بإتمامها خادم هو الكاهن الشرعي لا تتم إلاّ برسم الصليب المقدّس. بل إن تكريس الكنائس والمذابح وكلّ عمل روحيّ طقسي في كنيستنا المقدّسة وكلّ الكنائس المسيحية الرسوليّة لا تنال هذه النِعَم إلاّ برسم الصليب المقدس. فهذه الاستحقاقات الإلهيّة التي نلناها عن طريق موت المسيح الإله المتجسِّد على الصليب. هذه صارت كنوزاً روحيّة نفيسة، بل لا تُثّمَّن لأننا بقوّة الصليب قد غلبنا إبليس، فطفل صغير إذا رسم الصّليب على نفسه، تهرب من أمامه الأبالسة وتندحر قوّة العدو الروحي. بل أيضاً عندما نتطلّع إلى الصّليب بإيمان نشابه شعب العهد القديم عندما كانوا يتطلّعون إلى الحيّة النحاسيّة فيشفون من لدغات الحيّات المحرقة، ونحن ننال الشّفاء من لدغات إبليس اللّعين الذي يحاول إسقاطنا في الخطيّة.

هذه قوّة الصّليب أيّها الأحبّاء، التي اعتُبرَت قوّة إلهية نلناها مجّاناً باستحقاق عمل الفداء، فالمسيح قد جاء إلى العالم وفدانا بموته على الصّليب وقام في اليوم الثالث وأقامنا معه وأتمّ عمل الفداء وصعد إلى السماء، وفي وقت صعوده يقول الإنجيل المقدّس أنه رفع يديه وبارك التلاميذ، وبحسب تفسير آبائنا القدّيسين أنه منح رسله موهبة الحبريّة فجعلهم أساقفة ورؤساء أساقفة وأرسلهم إلى العالم ليبشّروا وينشروا الإنجيل المقدّس ويمنحوا العالم ما منحه الرب للعالم وأوكلهم على منحه للعالم المؤمن، نِعَم الخلاص والتبرير والتقديس بل أيضاً التبنّي، ولكن المسيح الذي صعد إلى السّماء وَعَد تلاميذه أنّه يأتي ثانيةً، ونحن عندما نقرأ الإنجيل المقدس وفي آية موضوعنا بالذات نسمع الرّسول متّى مثلاً يقول: إن علامة المسيح ستظهر بالسماء، حينئذ بعد أن تكون النّجوم قد تساقطت والقمر لا يعطي ضوءه والشمس قد أظلمت تظهر علامة ابن الإنسان وتنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السّماء بقوّة ومجد كثير. هذه العقيدة الإلهيّة تسلّمناها من الرّسل القديسين الذين تسلّموها من الرب بالذات، فإذا كان الأنبياء قد تنبّؤوا عن مجيء الرب، فالمسيح بالذات أعلن لنا حقيقة مجيئه الثاني أنه سيأتي قريباً وأظهر لنا أن هناك علامات عديدة من حروبٍ وأوبئة وزلازل ومصائب ومتاعب تحدث في الدّنيا، ولكن اليوم الذي يأتي به لا نعرفه، والساعة التي يأتي بها نجهلها، لذلك أوصانا الرب قائلاً: اسهروا لأنكم لا تعلمون متى يأتي الرب، واعلموا هذا أنه لو عرف ربّ البيت في أيّة ساعة يأتي السّارق لسهر ولم يدَعْ بيته يُنقَب. فعلينا أن ننتظر بإيمان مجيئه الثاني، هذه العقيدة السّامية تسلّمها الآباء ونحن نكرّر ذكرها دائماً في القدّاس الإلهي عندما نعلن اعترافنا بمجيئه الأوّل ونعلن إيماننا بقيامته ورجاءنا وانتظارنا لمجيئه الثّاني، جاء أوّلاً وفدانا وسيأتي ثانيةً لدينونة العالمين. شبّه الرب أولئك النّاس الذين لا يهمّهم أمر الأبديّة الذين يأكلون ويشربون وهم يقولون: لنأكل ونشرب وغداً نموت، فهم لا يؤمنون بالحياة الأبديّة. أولئك شبّههم الإنجيل المقدّس بجيل نوح، فنوح عندما كان يصنع الفُلك كان يوميّاً ينادي الناس ليعودوا إلى الله، ولكنهم لم ينصاعوا إلى إنذاره وتحذيره، فجاء الطّوفان وأخذ الجّميع. فالطوفان آتٍ لا محالة، كان يقول لهم ولكنهم لم يؤمنوا، فجاء الطوفان وأخذ الجميع. وشبّههم بجيل لوط الأشرار الذين كان يعِظهم لوط ليعودوا إلى الله، ولكنه كما يقول الكتاب كان كمازحٍ في عين أصهاره أيضاً، ليس فقط في أعين الناس الغرباء عنه، ولكن ذلك لم يمنع من أن تمطر السّماء ناراً وكبريتاً، فبادت سدوم وعمورة وباد ذلك الشّعب الخاطئ، أما لوط فخلص هو وابنتاه.

إن المسيح آت لا محالة، يقول في سفر الرؤيا: «أنا آتٍ».

فلنكن كيوحنا مؤمنين بمجيئه، منتظرين هذا المجيء وكلّما رسمنا علامة الصّليب على جباهنا لنذكر أن هذه العلامة المقدّسة ستظهر في السّماء عند مجيئه ثانيةً.

فهل نحن مؤمنون بأن المسيح سيأتي ويجازي كلّ واحد بحسب أعماله إذا كان إيماناً متيناً ثخيناً. فلنكمّل وصاياه ونرجع إليه بالتوبة، ننتظره بإيمان ورجاء متين لكي إذا كنّا في عِداد الأحياء عندما يأتي، نختطف معه في الجوّ كما يقول الرسول بولس وإلاّ أولئك الموتى سينادي الرب فتّتحد أرواحهم بأجسادهم وينالون أيضاً المجازاة بحسب إيمانهم وأعمالهم.

أهّلنا الرب الإله أيّها الأحبّاء بقوّة الصّليب المقدّس أن نكون مؤمنين بربّنا، فادينا ومخلّصنا وأن نعمل بحسب أوامره لكي ننال النّعمة العظيمة يوم مجيئه ثانيةً فنكون في عِداد أولئك الذين سيدعوهم إلى ملكوته ليتنعّموا معه، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.


الأحد الأول بعد عيد الصليب (2)

«حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض وينظرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السّماء بمجد وجلال عظيمَين»

   (عبرانيين 24: 30)

حقيقتان إلهيتان تظهران بهذه الآية المقدسة، هناك حقيقة مجيء ابن الإنسان ثانيةً لدينونة العالمين، وحقيقة ظهور علامته الإلهية في السماء. فالمسيح آتٍ لدينونة العالمين ورايته الإلهية وصليبه المقدس، الصليب المقدس علامة ابن الإنسان سيظهر في السماء ليعلن عن مجيء ملك الملوك وإله الآلهة ورب السّماء والأرض، كما تتقدم راية أيّة أمّة رئيسها عند زيارته المملكة.

الكنيسة المقدسة التي جعلت الصليب رايتها واعتبرته شجرة الحياة وهو حقّاً، احتفلت بعيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس في عام 326م على يد الملكة القديسة هيلانة، وترى الكنيسة المقدسة في الصليب قوة إلهية لا تغلبها الأبالسة، وترى فيه سر اللاهوت فعندما نرسم علامة الصليب على جباهنا نعترف بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ويظهر فيه أيضاً سر التجسّد والفداء، فعندما نرسم علامة الصليب نرى الإله المتجسّد الذي مات ليفدينا، مات على الصليب ليمنحنا الحياة فصار الصليب الذي كان علامة لعنة لدى اليهود سبب بركة للمسيحيين وهو الإيمان والرجاء والمحبة هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة.

وصارت كلمة الصليب التي هي عند الهالكين جهالة، صارت لدينا سبب حياة لأننا نرى أن المسيح الذي فدانا وقد سُكب دمه على خشبة الصليب نراه مصلوباً أمامه، بل أيضاً نراه قائماً من بين الأموات منتصراً على أعداء البشرية ليمنحنا قوّة عندما نرسم علامة الصليب على جباهنا فتهرب الأبالسة رعباً وخوفاً منّا، لأننا في عِداد الذين نالوا الخلاص بصليب المسيح، فسرّ قوّة الصليب تظهر أيضاً في تقديس الكنائس والمذابح، كما تظهر أيضاً في النِعَم العظيمة الإلهية الروحية غير المرئية التي ننالها بوساطة الأسرار المقدسة في مادّتها التي نراها لأن ذلك لا يتم أبداً ما لم يُرَسم الصليب على كل من ينال أو يرغب أن ينال هذه الأسرار المقدسة.

فما أعظم قوّة الصليب!

ولذلك لا نتعجب ونحن نسمع الرب يسوع وهو يحدّثنا عن مجيئه كيف أن علامته الإلهية وختمه السماوي، الصليب المقدس سيظهر في الجوّ معلناً نصرته وقيامته، وبدء عهد الدينونة لأن المسيح الذي جاء أوّلاً ليخلّص البشرية سيأتي في مجيئه الثاني لدينونة العالمين، حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وتنوح جميع قبائل الأرض وينظرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بجلال ومجد عظيمين. ويقول الرب كما استمعتم في بدء القداس الإنجيل المقدس بحسب مرقس: اسهروا لأنكم لا تعرفون متى يأتي الرب. إنها عقيدة مسيحية سامية وإنها حقيقة إلهية لابدّ أن تتمّ وكما تنبّأ الأنبياء قبل مجيء المسيح وتمّت نبواتهم في مجيء الرب الذي كما جاء أولاً لخلاصنا وفدانا بدمه الكريم وقام من الموت وأقامنا من الموت، وأصعدنا معه إلى السماء، كذلك ستتم نبوّته بالذات.

فما أعلنه لنا من حقائق إلهية أنه آتٍ ثانية يأتي على سحاب، يقول لنا يوحنا الرّائي وتنظره كل عين، فمجيئه حقيقة ثابتة. في المجيء الأول والمجيء الثاني وما علينا إلاّ أن نسهر. وعلامات المجيء الثاني قد أعلنها لنا ولكنه نبّهنا أننا لا نعرف اليوم ولا الساعة لأن ذلك من اختصاص الآب السماوي قائلاً: إنكم لا تعلمون اليوم متى يأتي ربّكم.

علامات المجيء: حروب، آلام، زلازل.

علامة المجيء أوجاع كثيرة، قلّة الإيمان، انهماك الإنسان في شؤون هذا العالم، عدم مبالاته بالسماء والروحانيّات.

علامة الظّهور واضحة كظهور الشمس في رابعة النهار، ولكننا غافلون.

العديد من الناس يشبهون ذلك الجاهل الذي قال في قلبه «ليس إله»، يشبهون جيل نوح كما شبّه الرب الجيل الذي سيأتي في زمانه، فنوح كان أُوحي له من الله عن الطوفان الذي سيغمر الأرض وكان يبشّر وهو يصنع الفُلك يدعو الناس إلى الإيمان بالله ولكنهم كانوا غير مؤمنين، غير مبالين بل انهمكوا في أمور الدّنيا وموبقاتها فجاء الطوفان يقول الرب يسوع وأخذ الجميع ولم ينجُ إلاّ نوح وعائلته. وكذلك نبّه جيل نوح لوط، ولوط كان ينبّه أصهاره وأولاده إن الله سينزل على المدينة ناراً وكبريتاً ولكن يقول الكتاب المقدس: كان لوط كمازح في عين أصهاره وخلص لوط مع ابنتَيه. امرأته لأنها التفتت إلى الوراء مشتهية حياة الخطيّة فصارت عمود ملح وتلك المدينة احترقت بنار وكبريت.

مجيء المسيح على الأبواب أيها الأحباء، فلنحذر من أن نكون كجيل نوح أو كجيل لوط، بل نؤمن بما قاله الرب وننتهزها فرصةً في هذه الحياة القصيرة الزّائلة الشقيّة لنربح الحياة الثانية، السعادة الأبدية. لنسهر كما أوصانا الرب، والسّهر يقصد به ربنا الجلوس إلى الإنجيل المقدس والتأمّل بحياة ربّنا وسيرته الإلهية على الأرض، الاستماع إلى وصاياه السماوية، العمل بكل ما قام به لنكون مستعدين لمجيء ربنا ثانية أو بجهادنا إلى ربنا، وساعة الموت لا تُعرَف لدينا وساعة مجيء الرب أيضاً ليست معروفة لدى أي إنسان، وهذه نعمة من الله للإنسان ليكون الإنسان في حالة النعمة والتوبة في كل حين لكي إذا ما أتى الرب يستقبله مع الأبرار والصالحين كما يقول الرسول بولس: أما نحن الأحياء سنخطف معه في الجوّ، في تلك اللحظات التي بها تعود الأرواح إلى أجسادها مهما كانت هذه الأجساد بعيدة، مهما كانت تظهر لنا أن حالتها يستحيل أن تتحوّل إلى جسد، ولكن قدرة الله الذي خلق الإنسان وجبل له أنظمة، فقدرة الله قادرة أن تعيد الرّميم إلى أجساد وأن تعيد الأرواح إلى تلك الأجساد كما أعطانا الله مثالاً في العهد القديم يوم أخذ حزقيال إلى بقعة مليئة بالعظام وأمره أن يتنبأ عن تلك العظام وأن يتنبأ عن الروح فعادت أرواحها إليها، فكما أن تلك الأجساد التي كانت رميماً وتحوّلت إلى جيش عرمرم، كذلك ستعود أرواح الموتى إلى أجسادها عندما تسمع صوت البوق وصوت النداء، تسمعه ذلك يعني أنها حيّة لأن الروح حيّة أيها الأحباء ولا تموت أبداً وعندما تسمع صوت بوق رئيس الملائكة معلناً عن مجيء الرب ثانيةً تتّحد بأجسادها. تلك الأرواح الصالحة لترث ملكوت الله بعد الدينونة مع المسيح يسوع، أما الأرواح الشريرة فستكون في جهنم وبئس المصير.

فلنسهر أيها الأحباء لاستقبالنا الله في مجيئه ولنسهر أيضاً لأننا لا نعرف متى سنغادر هذه البسيطة لنستحق أن نرث ملكوت السماوات مع الأبرار والقديسين الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد الرابع بعد عيد الصليب

الأحد الرابع بعد عيد الصليب

الأحد الرابع بعد عيد الصليب (1)

أعمال الرسل (21: 17ـ 37)

1 كورنثوس (4: 17ـ 21)

لوقا (9: 37ـ 56)

الأحد الرابع بعد عيد الصليب

«فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روحٍ أنتما

لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلّصها»

    (لوقا9: 55 و56) 

ينفرد البشير لوقا بذكر حادثة مهمّة تُليَت على مسامعكم في بدء القداس، والتأمّل بها يعلّمنا دروساً نفيسة في روح المسيح والمسيحيّة، روح التسامح ونكران الذّات، الروح التي بثّها الرب يسوع في تلاميذه، بل أيضاً لخّصها في عِظته على الجبل. يقول لوقا عن الرب يسوع: «وحين تمّت الأيّام لارتفاعه» ويقصد بالارتفاع ما تحدّث به الرب يسوع وموسى وإيليا على الجبل، ودُعي حينذاك بالخروج وهو حدث الآلام والموت بل أيضاً القيامة، ويسمّيه لوقا الارتفاع، لأنّه ارتفاع حقّاً عن كلّ ما في العالم وارتفاع لإرادة الرب لأن تقدّمه إلى الصلب والآلام، والموت بالذات سامٍ جدّاً ويعتبر ارتفاعاً خاصةً وقد انتهى في ارتفاعه إلى السّماء عندما صعد أمام تلاميذه.

كان الوقت قد آن لارتفاعه، وبكل تواضع مقرون بشجاعة ونكران الذات والتضحية: «ثبّت وجهه منطلقاً إلى أورشليم»، ليعلّم التلاميذ وليعلّمنا جميعاً أننا عندما نقوم بواجبنا الروحي تجاه الرب يسوع، ولئن كنّا نعرف حقّ المعرفة بأننا سوف نلقى آلاماً واضطهادات نثبّت وجهنا نحو القيام بالواجب، غير مبالين بما سيصادفنا من آلام، وهكذا فعل الرب فأراد أن يسلك الطريق المختصرة التي كانت تمرّ بمدن السّامريين.

ويحدّثنا لوقا أن الرب أرسل رسلاً إلى قرية السّامريين ليعدّوا له، ليهيّئوا الطعام ومكان الرّاحة له ولتلاميذه ومن كان يتبعه، فرفضه أهل تلك القرية.

وعندما عاد الرّسل وأخبروه تقدّم يوحنا ويعقوب وقالا للرب: يا رب أتريد أن نقول فتنزل نار من السّماء وتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً، فالتفت الرب وانتهرهما قائلاً: لستما تعلمان من أي روحٍ أنتما، لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس النّاس بل ليخلّص، وسار هو وموكبه إلى قرية أخرى.

هذه هي روح التسامح التي يعلّمنا إياها المسيح يسوع، علّمنا أن نحب أعداءنا، ليس فقط أن نسامحهم بل أيضاً أن نحبّهم وعلاوةً على ذلك أن نبارك لاعنينا. هذه هي روح المسيح. مدّة طويلة نافت على ثلاث سنوات عاشر بها التّلاميذ الرب يسوع وحتى ذلك الأوان لم يتعلّموا الروح التي يريدنا المسيح يسوع أن نمتلكها في الحياة الدّنيا، التي يجب أن نسلك طريقها بالتسامح، بالمحبّة، بالتواضع، بالوداعة. افتكر يعقوب ويوحنّا بإيليا، لم ينتبها إلى تعاليم الرب يسوع، الرب الذي مرّة عقد مقارنة بين ناموسه وناموس العهد القديم قال «لا تقتل»، أما المسيح فمنعنا حتّى من الغضب على قريبنا واعتبر ذلك قتلاً.

فالرب يريد أن نقلع جذور الخطيّة من قلوبنا وأفكارنا، أن لا نفتكر بذلك، ليس فقط ألاّ نقوم بعمل ضد شريعته، بل أيضاً أن لا نفتكر به، ولذلك انتهر التلميذَين، لقد انتهز الفرصة، ويوحنّا كان في عِداد من كان في التجلّي ورأى إيليا وهو يتجلّى، وتصوّر أمامه ذلك النبي في العهد القديم عندما أرسل إليه آخاب الملك خمسين جنديّاً لمرتين يستدعونه لينزل ويقابل الملك ولكنه دعا، قالوا له: يا رجل الله انزل، قال لهم: إن كنتُ أنا رجل الله لتنزل نار وتحرقكم، وكان كذلك لمرّتَين. فافتكر يعقوب ويوحنّا حفظاً لكرامة سيّدهم، الرب يسوع كيف أنه يُرفَض من قرية، حتى أن لوقا لم يذكر اسمها احتقاراً لها، لذلك طلبا من الرب يسوع أن يقولا لكي يقولا هما بسلطان، ظنّا أنهما قد نالا هذا السلطان من الرب، أن تنزل نار، لا فقط أن تحرقهم بل أن تفنيهم. أما الرب يسوع فانتهرهما: لستما تعلمان من أي روحٍ أنتما.

جاء المسيح رحمةً للبشريّة، جاء ليغفر الخطايا بدءاً من الخطيّة الأبويّة الجدِّية، جاء ليفتّش عن الخروف الضّال ليحمله على منكبَيه ويأتي به إلى حظيرة الخراف. جاء، لا لكي يدعو أبراراً في أعين أنفسهم بل خطاةً إلى التوبة. جاء لخلاص الناس لا لإهلاك نفوس أولئك الناس، هذه هي روح المسيح وروح المسيحية، روح الغفران والتسامح. ولكن الإنسان وقد قسا قلبه وغلظت رقبته أصبح بعيداً عن شريعة الله.

ليس من الهيِّن أن يسامح أعداءه، فالمسيح يريدنا كما أراد لأولئك التلاميذ جميعاً بانتهاره التلميذَين يعقوب ويوحنا، ويريدنا أن نميِّز بين روح المسيح وروح العالم، بين روح النقمة التي كان لابد منها في العهد القديم في شريعة العين بالعين والسن بالسن، ولكن روح المسيح شريعة العهد الجديد، شريعة المغفرة، شريعة المحبة، شريعة الطوبى التي أُعطيَت لصانعي السّلام. أيضاً هذه الشريعة هي روح التواضع والوداعة والمسامحة وغفران الخطايا للآخرين، الروح التي يجب أن نشعر فيها كلّما نقف أمام الله ونصلّي الصلاة الربانيّة طالبين منه أن يغفر خطايانا واضعين أيضاً أمامه أننا قد أكملنا شريعته قائلين: كما نحن أيضاً نغفر للمذنبين إلينا.

أسأله تعالى في هذه اللّحظات أحبائي أن ينقي أفكارنا وقلوبنا من الحقد والبغضة وروح الانتقام وأن يملأها بروح المسيح والمتواضع القلب، والذي يغفر حتّى للذين يصلبونه إذا ما عادوا إليه بالتوبة، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


الأحد الرابع بعد عيد الصليب (2)

«وحين تمّت الأيام لارتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم، وأرسل أمام وجهه رسلاً فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدّوا له، فلم يقبلوا لأن وجهه كان متّجهاً نحو أورشليم، فلمّا رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا: يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً. فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك الناس بل ليخلّص. فمضوا إلى قرية أخرى».

  (لوقا9: 51ـ 56) 

ما تُلي على مسامع بعضكم في بدء القدّاس أيّها الأحبّاء، يدل على ما تمتاز به روح المسيح وأتباع المسيح من سمو وتسامح ومحبة عميقة جدّاً. يقول البشير لوقا: إن الرب قد ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم، إنه قد صمّم وعزم بكل شجاعة أن يذهب إلى أورشليم ليرتفع، والارتفاع في لغة الإنجيل يدل على ارتفاع الرب على الصليب، الارتفاع بقيامته المجيدة وصعوده إلى السماء. كان قد عزم وصمّم أنه لهذا جاء ليرتفع على الصليب ليفدي البشريّة لهذا جاء أيضاً لينهي رسالته الإلهية وتدبيره الإلهي بالجسد وليعود إلى الآب السماوي صاعداً إلى السماء. يقول البشير لوقا: أنه كان لابد أن يمرّ في مدينة السامريين، فالإنجيلي يكتب ذلك بوضوح لكي يفسّر شيئاً قد يكون بعضنا لا يفهمه.

الرب يرسل رسلاً إلى تلك المدينة ليعلن لهم أنه سيمر بها. نحن نفهم ونعرف جيّداً العداوة المكينة المتينة الثابتة من أجيال بين اليهود والسامريين (721 قبل الميلاد). ونقرأ في التاريخ أن العديد من اليهود إذا ما كانوا يمرّون في تلك المدن يُلقى عليهم القبض وقد يُقتلون أيضاً من السامريين، فكم بالحري إذا مرّ الرب يسوع، وعندما نقول مر الرب يسوع، لا يعني ذلك أنه وحده أو أنه هو وتلاميذه، فهناك جمهور غفير يتبع الرب. وكانت تلك المناسبة أيام عيد الفصح ليذهب إلى أورشليم والسامريون يبغضون اليهود كما أن اليهود يبغضون السامريين. والسامريون يدّعون أن العبادة الصحيحة المقبولة تُقام في جبل جزّين، جبلهم. واليهود يدّعون أن العبادة المقبولة من الرب يجب أن تُقام في أورشليم فقط، لأن الله لا يوجد في مكان آخر والرب كان قد قال للسامريين أن الله روحٌ، والذين يسجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. ونعني بأن الله روح أنه موجود في كل مكان ويعبد في كل مكان. هذا الجدل بين اليهود والسّامريين والعداء المتين يترفّع عنه الرب يسوع ويريدنا أن نتعلّم منه التسامح التام، الترفّع عن هذه العداوة التي يرثها البشر من آبائهم ولذلك اتّخذ خطوة حكيمة، أرسل أناساً إليهم لأنه سيمر بمدينتهم، سيمر مع أناس، مع جمهور غفير ولكن ليسوا هم أعداءً إنما هم أصدقاء ومسالمون. رفض السامريون ذلك. هاج غضب يوحنا ويعقوب، كيف يرفضون طلب الرب يسوع. أتريد ـ يقولان للرب ـ أن نطلب لتنزل نار وتأكلهم مثلما فعل إيليا. تذكّرا إيليا لأنهما كانا في جبل التجلّي، وإيليا النبي الغيور كما نقرأ عنه في سفر الملوك الثاني، أن ملك السّامرة عندما سقط بقوّته وتحطّم أرسل رسلاً ليسألوا كهّان بعلزبول أيحيا أم لا. فاستقبلهم إيليا وقال لهم: عودوا إلى ملككم وقولوا له: أليس في إسرائيل أنبياء، أليس هناك إله حتى تبحث وتستشير أولئك الوثنيين، هذا السرير الذي رقد عليه لن يقوم منه أبداً. أرسل خمسين جنديّاً مع قائدهم إلى إيليا ليأتي إلى الملك وخاطب إيليا حينذاك ورئيس الجند يخاطبهم يا رجل الله، قال له: إذا كنتُ أنا رجل الله لتأتِ نار وتلتهمكم فنزلت والتهمت الخمسين مع قائدهم، ومرّة ثانية أرسل خمسين أيضاً وفي المرة الثالثة كان قائدهم حكيماً فجاء ساجداً على ركبتَيه طالباً بتواضع من النبي أن ينزل ويقابل الملك فكان كذلك. هذه روح إيليا، روح العهد القديم. ولكن الرب إذ رأى أن تلميذَيه يريدان أن يقتديا بتلك الروح قال لهما منتهراً: لستما تعلمان من أي روح أنتما، فروح المسيحية تختلف جدّاً عن روح العهد القديم وأنبياء العهد القديم. هذه هي روح التسامح، روح المحبة، الروح التي نقول فيها إن الرب هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. هذه روح محبة الله لنا جميعاً، روح البذل، روح التضحية ونكران الذات، روح الصليب الذي عُلِّق عليه المسيح يسوع ابن الله لأنه هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، فروح جبل الكرمل عندما قدّم إيليا ذبيحة وقُبلَت من الله وأخذ كهّان البعل وكهّان السرايا جميعاً وذبحهم، تلك روح الانتقام ليست في المسيحية روح جبل الكرمل، ليست هي روح جبل الموعظة الإلهية على الجبل التي تعطي الطوبى للمساكين، التي تعطي الطوبى للودعاء، لصانعي السلام، للذين يُضطَهدون لأجل البر، الذين يقول عنهم الأشرار كل كلمة شريرة من أجل المسيح كاذبين، الذين لهم ملكوت الله. روح جبل الكرمل ليست بروح جبل الموعظة الإلهية على الجبل وليست روح الجلجلة، فجبل الجلجلة يختلف كثيراً عن جبل الكرمل. في الجلجلة رأينا الإله المتجسِّد يُصلَب عنّا، يرتفع لكي يرفعنا معه إلى السماء بعد أن قام من بين الأموات وصعد إلى أبيه وجلس عن يمين الآب كما نقول دائماً في قانون الإيمان الذي يُتلى دائماً في بدء القداس، وفي ختام صلواتنا. هذه روح التسامح الرّوح التي تجعل الإنسان يسمو عن كل بغضة، عن كل حقد، عن كل نقمة. يبقى الرب يقول: «لي النقمة أنا أجازي»، أليست هذه الروح بالذات صنعت أعجوبة عظيمة حتّى أن يوحنا الذي طلب مع أخيه يعقوب أن تنزل نار وتفني السامريين. يوحنا هذا صار رسول المحبة فكتب عن المحبة، كتب عن التضحية، علّمنا حقّاً كيف يجب أن نحب أعداءنا. كما أمرنا الرب، هذه روح المسيح: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم والرب نفسه برهن عملياً ليفهم محبته لأعدائه عندما طلب السّماح للذين سيؤمنون به أنه الماسيّا، طلب ذلك وهو على الصليب: اغفر لهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. ويُكمل الرسول بولس ذلك: لو عرفوا لما صلبوا رب المجد. هذه الروح المسيحية أيها الأحباء التي امتلأ بها واقتناها وطبّقها الشماس اسطفانوس بكر الشهداء، أيضاً عندما كان اليهود يرجمونه انفتحت السّماء أمامه فرأى الرب يسوع عن يمين العظمة، فطلب منه أن يغفر لهم لأنهم أيضاً لا يعرفون ماذا يفعلون. أهل العالم بحسب مقاييسهم يظنون أن ذلك ضعف، أليس من الضعف ألاّ تنتقم من عدوّك وخاصةً إذا تمكّنت منه، قيل مرّةً لأحد رؤساء الدول وقد ظفر بأعدائه: لماذا لا تقتل الأسرى جميعاً؟ قال لهم: لقد قتلتُ العداوة في قلوبهم، أليس النصر أن تحوِّل عدوّك إلى صديق لك، هذه هي المسيحية بالتسامح، بالمحبة، بالمغفرة، بمحبة الأعداء، تحول العدو صديقاً. لذلك هنا يكمن سر القوّة بالرب، ليس بالاتكال على ذراعين متينتين في هذه الأرض لأنه ملعون من اتّكل على إنسان يقول الكتاب، إنما التغلّب على الغضب، على الحقد، على البغضة وذلك بالتسامح ومحبة الأعداء والصلاة لأجلهم ليتحوّلوا أحباء للرب، لأن الرب يحبنا جميعاً حتّى إن كنّا خُطاة ولكنه يبغض العداوةـ، يبغض الخطيئة ويريد أن يحوّل قلوبنا من قلوب حاقدة مبغضة إلى قلوب محبة مقتدية بقلبه الإلهي.

أهّلنا الرب الإله جميعاً أيها الأحباء لتكون لنا روح التسامح، روح المسيح لنعرف من أي روح نحن. لسنا من روح الانتقام من روح البغضاء، لسنا من روح القتل بل من روح الحياة لأن الرب يكمّل كلامه للرسولَين وللرسل جميعاً أن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص. إن يوحنا ابن زبدي أحد الأخوَين اللذين طلبا هلاك قرية السامريين تعلّم درساً خالداً من الرب يسوع بالمحبة، محبة الله والقريب فأدرج في الإنجيل الذي دوّنه قول الرب: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16)، ونادى يوحنا بالمحبة وعندما أراد أن يصفها لم يجد أفضل من أن يقول: الله محبّة. هذه روح المسيح لتملأ قلوبنا جميعاً وتشملكم نعمة الرب دائماً أبداً آمين.

الأحد الخامس بعد عيد الصليب

الأحد الخامس بعد عيد الصليب

الأحد الخامس بعد عيد الصليب (1)

أعمال الرسل (26: 1ـ 17)

1 تيموثاوس (2: 1ـ 15)

متى (23: 1ـ 12)

الأحد الخامس بعد عيد الصليب (2)

«على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيّون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون»                                  

     (متى 23: 1ـ 3)

على كرسي موسى النبي العظيم الذي على يديه أنزل الله الشريعة على شعب العهد القديم. موسى أعطى هذه السلطة بإذن الله وقوّته إلى تلميذه يشوع بن نون ومنه إلى الشيوخ فالأنبياء ثم مجمع اليهود الأعظم.

سلطة منح الشريعة وتفسيرها تُعطى بتسلسل نسبي من السّلف إلى الخَلَف لكي تبقى الشريعة مكرّمة ولكي يبقى الشّعب ملتزماً بها، ولكن الشعب شعر بأن الذي أُعطيَت بأيديهم تلك السّلطة السماوية قد حادوا عنها ووضعوا أحمالاً ثقيلة على الناس ولم يكلّفوا أنفسهم إزاحتها بإصبعهم كما قال الرب، لذلك وبّخهم الرب يسوع وقد رآهم قد أتعبوا الناس بما سنّوه من شرائع فرعيّة ابتعدت عن ينبوع الناموس.

أولئك هم الكتبة والفريسيون، ومن هم يا ترى الكتبة والفرّيسيوّن الذين اصطدم المسيح يسوع بهم واصطدموا هم أيضاً به إذ شعروا أنه يهدم كلّ خرافاتهم وأباطيلهم ويعلن الحقيقة السماويّة متجرّدة منهم.

هؤلاء الكتبة والفرّيسيّون عندما نتأمّل بتاريخ الشّعب القديم وبأنواع النواميس التي أُعطيَت من السماء: الناموس الأدبي بالوصايا العشر والناموس القضائي النّاموس الطّقسي. نرى أنهم كانوا متمسّكين بطقوسهم أوّلاً، فالذبائح كانت تُقدَّم في الهيكل وكان الناس يشعرون بأنهم ينالون الغفران بتقديم تلك الذبائح، ولكن عندما هُدم الهيكل وسُبي الشعب إلى بابل، عندما لم يبقَ لذلك الشعب أي طموح سياسي أو اجتماعي أو طقسي، مال إلى الناموس والشريعة وأسّس في الغربة مجامع عديدة يجتمع فيها الشعب يوم السبت ليتأمّل بالناموس والأنبياء، ولأنه كان تحت شدّة قاسية ووطأة ظلم ليس بعده ظلم كان يتأمّل بالنبوّات ويترجّى مجيء ماشيحا، ماسيّا المنتظر ويصلي إلى الله ليقرب الزمان فينال الحرّية والفرج. ولكن عندما عاد الشّعب في القرن الخامس قبل الميلاد إلى المدينة فأعاد بناءها وأعاد بناء هيكله كانت ما تزال أفكار التمسّك بالشريعة الأدبية تراوده بين الحين والآخر، بل رأى أيضاً أن طريقه إلى الخلاص لا يكون إلاّ بالتمسّك بهذه الشريعة، وأعلن عزرا الكاتب مع نحميا تلك الشريعة أمام الشّعب، وكما كان في عهد يشوع بن نون عندما أعلن الشريعة وساوم الشّعب بقوله إن كانوا يعبدون الرب، أما أنا قال لهم يشوع وبيتي فنعبد الرب، خيَّرهم ليختاروا ما يشاءون فاختاروا عبادة الرب.

كذلك أيضاً عزرا عندما أعلن الشريعة أعلن للشعب كلّه أنه يتمسّك بها وكرّر كلمة آمين، آمين أي حقّاً وصدقاً ووعداً أن يتمسّكوا بتلك الشريعة. من هنا ظهر احترام الشريعة واضحاً واحترام الذين يدرسون الشّريعة أيضاً بدا عظيماً، هنا تأسّست فرقة الكتبة الذين لا يكتبون الناموس فقط، بل يحصون كل حرف فيه والذين صارت لهم صلاحية وسلطة وقوّة وسلطان أن يفسِّروا الشريعة وأن يسنّوا القوانين المبنيّة على أسس الشريعة التي أنزلها موسى من عند الله، ومرّت الدّهور وزاد هؤلاء الكتبة قوانينهم ونظمهم وأثقلوا على كاهل الشعب بوصاياهم ومرّت الدّهور، وفي القرن الثاني قبل الميلاد عندما جاء أنطيوخوس الذي كان والياً على سوريا وأراد أن يبيد الدّين اليهودي ويفرض عليهم الدّيانة اليونانيّة مع اللغة اليونانيّة والحضارة اليونانيّة قاومه الشّعب، ومن جملة أولئك الذين استشهدوا وكانوا ألوفاً مؤلّفة، من جملة هؤلاء القديسة شموني وأولادها السّبعة الذين تعيِّد لهم الكنيسة في الخامس من تشرين الأوّل في كل سنة.

فعندما أمرهم الوالي أن يخالفوا شريعتهم وكان لهم معلّمٌ هو اليعازر الكاهن الشيخ الجليل فأمره الوالي أن يأكل لحم الخنزير الذي كان محرّماً على شعب العهد القديم، قالوا لذلك الشّيخ: سنأتي بلحم الضأن أو البقر ونقول إنه لحم الخنزير فتأكل، أمّا ذلك الشيخ فقال: أليس هذا الأمر عيباً وخطيّةً وأنا شيخ أن أكون مرائياً ماذا سيقول عنّي الشباب، أني خفتُ الموت في سبيل الله والتمسّك بشريعة الله فاستشهد اليعازر أمّا شموني فعذّبوا أولادها وقتلوهم أمام عينيها وهي تحثّهم على التمسّك بشريعة الرب ثم استشهدت هي أيضاً. وفي ذلك الزّمان انبثق من الكتبة فرقة حتّمت على نفسها أن تتمسّك بالناموس، بل أيضاً أن تمارس الوصايا، وصايا الآباء إلى جانب الشريعة هؤلاء سمّوا الفريسيين المنفردين المميَّزين، وكانوا في زمن المسيح نحو ستّة آلاف فقط.

هؤلاء بدؤوا حسناً ولكنهم انتهوا إلى المراءاة لأجل تثبيت الشّعب على الشريعة فكانوا يتظاهرون بالتقوى، ليس كلّهم ربما كان البعض منهم أتقياء وقد دخلوا المسيحيّة بعد ذلك، ولكن بعضهم ولَّد الشكوك لأنهم كانوا مرائين، لذلك قال الرب عنهم وعلى الكتبة عامّةً: على كرسي موسى جلس الكتبة والفرّيسيّون فمهما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه واعملوا به أمّا كأعمالهم فلا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون.

أولئك القوم قرّعهم الرب وصبّ عليهم الويلات وأظهر عيوبهم ومراءاتهم، كما أنهم في التطويبات على الجبل أظهر الطّرق التي فيها ينال الإنسان نعمة الدخول إلى السماء. كذلك في الويلات التي صبّها جامات غضب على رؤوس أولئك الكتبة والفرّيسيين وضّح لنا الرب ما هي الأسباب التي تجعل الإنسان أن يكون مرفوضاً من الله وأن يهلك هلاكاً أبديّاً. إنها عبرة لنا أيها الأحبّاء، بل درسٌ خالد أن نتمسّك بشريعة إلهنا حتّى الموت لنسعى للحصول على الحياة الأبديّة. درسٌ لنا خالد أننا وإن ورثنا الإيمان وإن اعترفنا باسم المسيح إن لم نفعل ما يأمرنا به المسيح متمسّكين بمحبّتنا له وهو شريعتنا مقتدين به مقتفين أثره إن لم نفعل ذلك نكون لا سمح الله من المرفوضين نكون مرائين كالكتبة والفرّيسيين، نظهر كمؤمنين، كمسيحيين ولكننا بعيدون عن أصول الناموس لنا صورة التّقوى كما يقول الرسول بولس ولكننا لا نعرف قوّتها بل أيضاً لنا إيمان ولكن لم نزيّن إيماننا بالأعمال الصّالحة والإيمان بدون أعمال ميت كما يقول الرسول يعقوب.

فليقوَ إيماننا بالمسيح، فلنظهر إيماننا ونترجمه بتمسّكنا بشريعة إلهنا ليرى العالم أعمالنا الحسنة ويمجّدوا الآب السّماوي آمين.


الأحد الخامس بعد عيد الصليب (3)

«لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. للأنه إما أن يبغض الواد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال».                                

       (لوقا 16: 13)

إن الإنسان أيها الأحباء، منذ أن حُكِم عليه أن يشقى في هذه الأرض البسيطة التي تنبت له شوكاً وحسكاً، وبعرق جبينه يأكل خبزاً. منذ ذلك الحين وأغلب الناس يميلون إلى الأرض، إن كانوا يدرون أو لا يدرون أنهم قد أُخذوا من الأرض ولكنهم ينسون أن حياتهم هي من السماء، فميلهم إلى الأرض ليملكوا الأرض يجعلهم بعيدين عن السماء. في عهد تجسد الرب يسوع، قبل ذلك وبعده وإلى اليوم، أغلب الناس يميلون إلى الدنيويات، يريدون أن يملكوا العالم. كان هناك في بدء تاريخ الإنسان على الأرض أخوان، قايين وهابيل. إذ أعمى الطمع قلب قايين قتل أخاه هابيل. فالطمع إذن أصل كل الشرور كما قال الرسول بولس عن محبة المال. هذا هو الطمع. الطمّاعون لا يدخلون ملكوت السماوات، والطمّاع مهما كان له من قوت ولباس وحرية وهناء في هذه الحياة لا يرتاح أبداً، أنه يريد أن يسلب غيره هذه الأمور والأشياء، ولذلك يحذرنا الرب يسوع من المال بالنسبة إلى كل شيء هو ضد الإيمان. لا يستطيع الخادم أن يخدم سيدين، إما أن يحب الواحد ويبغض الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال. كلمة عَبَد وخَدَم وفلح، هذه الكلمة بالسريانية كما نطق بها المسيح يسوع بالسريانية هي فلح وكلها تعني شيئاً واحداً أن الإنسان يترك الله ويعبد والمال. والعبادة هي كما نعرف أن يحترم الإنسان معبوده ظنّاً منه بأنه قدير جداً. عندما اخترنا الله سبحانه تعالى، نعلم جيداً أنه تعالى هو الذي خلقنا وهو الذي يعتني بنا وهو الذي بإمكانه أن يزيل عنّا شرّ الأشرار وإبليس، وهو الذي يمنحنا أيضاً نعمة السماء فنعبده دون غيره. أما إذا عبدنا المادة فيعني ذلك أننا أنكرنا الله، لا نستطيع أن نوحِّد بين النقيضين، السماء والأرض، الله وإبليس، أن نشرب كأس الشياطين وكأس الرب كما يقول الرسول بولس. يجب أن نفتكر بأننا إن عبدنا المادة خدمنا المادة، كنّا لأجل المادة، يعني ذلك أننا قد ابتعدنا عن الله الروح المحيي الذي منحنا أيضاً الروح لكي نفتكر بسمائه.

    لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال ولنقل أيضاً أن تخدموا، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نعتبر أن المسيح يسوع شرح لنا ذلك بوضوح أننا مهما سعينا للحصول على هذه الدنيا وما فيها سنكون غريبين عنه. ويأتي يوم كما قال عن الغني الغبي الذي جمع أموالاً كثيرة وأكل حقوق الفقراء، قال له: يا غبي، في هذه الليلة تُطلَب نفسك منك، فهذا الذي أعددته لمن يكون؟. فالإنسان المتمسِّك بالأرضيات لا يفتكر حتى بالموت، والموت حق وعدل، عندما يأتي الموت ويحين الوقت لمغادرة النفس للجسد. حينذاك يترك الإنسان كل شيء كما تعلمنا من أنطونيوس أبي الرهبان الذي رأى أباه جشعاً طماعاً يأكل في بيوت الفقراء والأرامل، فهو مرابي وككل مرابي في هذه الحياة، تطلع إليه بعد موته وقال: رغماً عنك تركت كل ما جمعته وأنا أغادر العالم بحريتي لأكون حراً طليقاً عابداً لله. وهكذا نرى أن الإنسان عندما يختار عبادة الله ليخدم الله، لا يحلم بالمادة، نراه يتحرر من الدنيا. هذا شأننا أيها الأحباء كأناس كرّسنا أنفسنا لخدمة الله، كرهبان تركنا العالم كله وسمعنا إلى الرب يسوع وهو يقول لذلك الشاب الغني، الذي كان رئيساً في مجلس السنهدريم أو أحد دور العبادة في عهده. هذا الإنسان جاء إلى يسوع وجثا أمامه وقال له: ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية، فوجهه الرب إلى الوصايا، وقال ذلك الشاب أنه قد حفظ الوصايا منذ نعومة أظفاره، قال يعوزك شيء واحد، اذهب وبِع أملاكك ووزع للفقراء وتعال اتبعني حاملاً الصليب. يقول الإنجيل المقدس: إذ كان ذلك الشاب غنياً حَزِن، انصرف وهو حزين مكتئب، لأن هذا كان سدّاً مانعاً من اتباع المسيح. لم يستطع أن يجمع بين النقيضين، بين السماء والأرض، بين المسيح وعبادة المال. لذلك ذهب حزيناً، وربما لو ضحّى بالمال وتبع المسيح وحمل صليبه لكان أحد الرسل الأطهار الذين تبعوا المسيح تاركين كل شيء والذين وعدهم الرب، لا أن يرثوا ملكوت الله فقط، بل أن يدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر. خسر المسيح لأنه أحب المال.

    في العهد القديم رأينا أيضا أناساً هلكوا بمحبتهم للمال. لا بد أن نذكر بلعام بن بعور الذي أراد أن يلعن من باركهم الله محبةً للمال. لا بد أن نذكر (جيحزي) تلميذ أليشع النبي الذي طمع بالمال وكذب أيضاً، فلعنه معلمه فأصيب هو ونسله بالبرص إلى الأبد. نذكر الذين أيضاً ولئن كانوا ذوي أموال طائلة، أغنياء ولكن في الوقت نفسه كانوا يستخدمون المال في خدمة الإنسان، وبذلك يكونون قد أكملوا وصية الرب بتوزيع أموالهم على الفقراء. هذا إبراهيم الخليل الذي كان غنياً جداً ولكنه كان خليلاً لله، مرضياً لديه تعالى، لكرمه استضاف ملائكة (تكوين 18: 2). لا ننسى أيوب الذي ولئِن طرأت عليه تجارب عديدة ولكن لمحبته الله لا العالم كان غنياً جداً، غِناه أصبح سلماً صعد به إلى السماء، وإذ لم يكن عابداً للمال بل لله وحده، نال نعمة عظيمة ونال شهادة من الله بأنه لا يوجد في الأرض كلها كأيوب يخاف الله (أي 1: 8). هكذا أحبائي وُجِد من كان ذا أموال طائلة ولكنه في الوقت نفسه كان يحب الله.

في العهد الجديد أيضاً نرى يوسف ونيقوديموس كانا ذوي أموال كثيرة. زكا العشار الذي دخل الرب بيته وقال إنه سيوزع نصف أملاكه للمساكين، وإن كان قد ظلم إنساناً يرد له أربعة أضعاف (لو 19: 8). 

هؤلاء ينالون ملكوت الله. برنابا كان أحد المبشرين السبعين باع حقلاً ووضع الدراهم عند أقدام الرسل لتستخدم في نشر البشارة الإنجيلية (أع4: 37). فليس كل غنيٍّ بعيداً عن الله. الغني الغبي ينال لعنة من الله، كذلك الذي كان لعازر الفقير أمام داره فلم يرحمه. ويذكر لنا الرب يسوع في هذا المثل وهو مثل وليس واقعياً، يذكر أنه في السماء وبعد انتقال لعازر والغني بالموت، أن لعازر في حضن إبراهيم والغني يتعذب في جهنم. وطلب الغني من إبراهيم أن يرسل لعازر فيبلَّ إصبعه ويضعه على لسانه لئلاّ يتعذب بالنار، فقال إبراهيم: إنه بيننا وبينكم هوة سحيقة. قال له: عندي إخوة أيضاً لو يرشدهم أحد الأموات وينصحهم لئلاّ يأتوا معي في هذا العذاب. إبراهيم قال: عندهم موسى والأنبياء، إن لم يسمعوا من أولئك لن يسمعوا من الذي يقوم من الأموات (لو 16: 19-31). وهوذا المسيح يسوع الذي فدانا بدمه وقام من بين الأموات هل نسمع إلى تعاليمه، هل فكرنا نحن الذين ولدنا مسيحيين أن نجلس عند الرب يسوع ونقرأ في الليل والنهار الإنجيل المقدس لنتعلم منه كيف يجب أن نتمسك به ونعبده دون المادة؟ أفكرنا كيف نحمل صليبه ونتبعه بعد أن نكون قد وزعنا أموالنا على الفقراء؟ هل فكرنا بالسماء في الأبدية حتى ننال الملكوت السماوي مع المسيح يسوع؟

أحبائي:

لا يمكن أن نجمع النقيضين، عندنا خطايا عديدة، وخطايا أخرى ليست المال فقط. عبادة أي صنم وهذا الصنم أو التمثال أو الشخص، حتى الشخص، لا يمكننا أن نحب أي شخص أكثر من محبتنا لله تعالى. أكثر من تمسّكنا بالمسيح يسوع وتعاليمه، لا نستطيع أن نجمع بين النقيضين فعلينا أن نتمسك بالله. هذه رسالتنا وصادف في هذا اليوم أن الإنجيل المقدس الذي تليت آياته على مسامعنا والذي نظم من قبل آبائنا القديسين، وهذا خير ما نفتتح به كلامنا ونجعله موضوعاً لكلامنا في هذا اليوم. فنحن نعيد عيد القديسة شموني استشهادها وأولادها السبعة على يد أنطيوخوس ملك سورية في ذلك الحين، لأنها لم ترضَ أن تجمع ما بين العالم والله تعالى. كان ذلك قبل قرنين من ميلاد الرب يسوع بالجسد. تمسكت بالشريعة فلم تأكل لحم الخنزير الذي مُنِع على الشعب اليهودي في تلك الأيام. استشهدت بعد أن قُتِل واستشهد أولادها السبعة أمام عينيها بعد أن عُذِّبوا العذاب المرير وعُذِّبت هي أيضاً واستشهدت لأنها لم تُرِد أن تشرك بالله، عبدت الله وحده وتمسكت بشريعته، لذلك لم تخدم سيدين بل خدمت وعبدت سيداً واحداً هو الله تعالى. لذلك حتى اليوم بعد ميلاد السيد المسيح بالجسد نحن نطوّبها ونعيّد لها دائماً في الخامس عشر من شهر تشرين الأول. واليوم نعيّد لها متشفعين بها وبمعلمها الكاهن لعازر وأبنائها السبعة الذين بشجاعة أعلنوا إيمانهم بالله، وأعلنوا أنهم لا يعبدون غيره ولا يتمسكون بشريعة أخرى غير شريعته.

كل هؤلاء مثال لنا وقدوة أيها الأحباء. وخاصةً لنا نحن الرهبان والكهنة الذين يخدمون مذبح الرب، يجب ألا يحيد واحدنا عن عبادة الله. كل العالم زائل ولن يبقى إلا الحكمة ومجد الله تعالى، لذلك علينا أن نكون حكماء والحكمة هي أن نترجم شريعة الله بالعمل لكي نستحق أن نرث ملكوت السماوات مع الأبرار والقديسين والأبرار الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد السادس بعد عيد الصليب (1)

أعمال الرسل (18: 1ـ 11)

1 تسالونيكي (4: 1ـ 12)

لوقا (18: 18ـ 30)

الأحد السادس بعد عيد الصليب

ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟

«فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدم قربانك»                            

    (متى 5: 23 و24)

الرغبة الأولى والأخيرة لدى الإنسان هي أن يرث الحياة الأبدية، هذا يأتي ليسأل لأنه لا يعرف الطريق أن يتعلم ليكمل شريعة الله ليرث الحياة الأبدية. المؤمن العادي إذا ما سأل هذا السؤال لا نستغربه منه، أما أن يأتي رئيس، يذكره كتبة الإنجيل الثلاثة الأولون إنه ناموسي أي معلم الناموس، إنه كاتب أيضاً ممن يدرس الناموس ويدرسه، وإنه شاب ورئيس لعله كان عضواً في مجلس السنهدريم الذي كان له صلاحية أن يشرع، أن يسن القوانين وصلاحية تنفيذها أيضاً.

أن يأتي إنسان كهذا إلى الرب يسوع ليسأل عن الطريق للوصول إلى الحياة الأبدية فهذا أمر جيد جداً، لأننا نرى حاجة الإنسان في ذلك الزمان خاصة وفي كل آن مهما سما ذلك الإنسان في العلم والمعرفة الدينية نراه يحتاج إلى المسيح، لأنه هو الطريق والحق والحياة يقول: أيها المعلم الصالح، لقد أخطأ هذا الإنسان عندما نظر إلى المسيح كمعلم وحسب، أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية، يجيبه الرب: لماذا تدعوني صالحاً، ليس صالح إلا  واحد وهو الله.

إذا كنا ننظر إلى المسيح كأحد المعلمين الصالحين فنحن قد أخطأنا كثيراً ليس الصلاح ثوباً يتوشح به الإنسان، ليس الصلاح رتبة ينالها الإنسان دينية كانت أو مدنية، ولكن الصلاح حياة يحياها الإنسان ونار تتأجج في قلبه غيرة على التمسك بناموس الله.

الصلاح نور ينبثق من هذا الإنسان ليشع ويظهر للناس فيروا أعماله الصالحة ويمجدوا أباه الذي في السماوات، والمسيح صالح ولكن المسيح وهو صالح، ليس صالحاً لأنه معلمنا بل لأنه هو الله هو الصلاح بالذات لذلك يقول لذلك الناموسي لذلك الرئيس لذلك الشاب ليس صالح إلا واحد وهو الله. فإذا ما أطلقنا هذه الصفة على كل معلم فنحن قد أخطأنا كثيراً، وإذا ما نظرنا إلى المسيح بأنه صالح لأنه يعلم الصلاح أيضاً لا نكون قد أصبنا الهدف، ولكن عندما ننظر إلى المسيح أنه هو الإله المتجسد حينذاك نعلم أنه ليس صالحاً وحسب بل هو الصلاح بالذات.

يحيل الرب ذلك الإنسان إلى الوصايا، وإذا كان كاتباً أو ناموسياً كما ندعوه أو كان رئيساً لمجمع من مجامع اليهود أو في عداد السبعين في مجلس السنهدريم لا بدّ أنه يعرف الوصايا. يقول له الرب: أنت تعرف الوصايا، ويعدد الرب وصايا اللوح الثاني، يقول ذلك الكاتب: هذه حفظتها منذ صباتي، يقول له الرب: افعل هذا فتحيا ولكن يعوزك واحدة بع كل ما هو لك ووزعه على المساكين وتعال اتبعني. إن التمسك بوصايا الرب أمر ضروري هو مبادئ ومقدمة وتمهيد للسلوك بحياة نحياها ونهج ننهجه وطريق نطرقه لنتوصل إلى الحياة الأبدية ولكن إن كنا نرغب بالكمال علينا بالتضحية التامة ونكران الذات كل ما هو لنا أن نتجرد عن كل ما في العالم وإن نتبع المسيح، هذا شرط ضروري لبلوغ الكمال، أما الإنسان العادي الذي ولئن تبع المسيح فعليه أن يكمل الوصايا وحينذاك يستحق أن ينظر إلى المسيح المخلص، إنه قد أنقذه من الخطيئة وإنه يقويه دائماً ليكمل وصايا الرب محارباً إبليس منتصراً عليه هذا الشرط بنكران الذات والتضحية وإتمام وصايا الرب ضروري جداً للوصول إلى ملكوت الله، ولكننا عندما نقرأ أيها الأحباء الحوار الذي جرى ما بين الرب يسوع وبين ذلك الناموسي ونعلم أنه لا بد أن ننكر ذاتنا ونضحي في سبيل الحصول على المسيح بكل ما هو لنا.

نرى قبل ذلك حادثة مهمة جداً هي جلب الأطفال إلى الرب يسوع وقد اتفق الإنجيليون الثلاثة بسرد هذه الحادثة مباركة الأطفال قبل حادثة الحديث مع ذلك الناموسي، فقد جلبوا الأطفال إلى الرب يسوع فأنتهرهم التلاميذ أما الرب فقال لهم: دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعونهم لأن لهؤلاء ملكوت السماوات. فالرب يسوع يضع أمامنا ههنا الشرط الأول لدخول ملكوت السماوات التي يدعوها ذلك الناموسي بالحياة الأبدية ملكوت الله التي قال عنها الكتاب إنها في داخلنا وقد اقترب منا ملكوت الله، إن كان مذكراً أو مؤنثاً فالملكوت هو واحد ومعناه الحياة الأبدية، والحياة الأبدية هي أن نكون مع المسيح في السماء الغاية القصوى من كل ما جاء من حوادث الكتاب المقدس بل الغاية القصوى من تجسد الرب يسوع وصلبه وموته لأجلنا لكي يعيدنا إلى ملكوته السماوي. فالشرط الأول يضعه الرب عندما قال: دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعونهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات، إذن لا يرث الإنسان ملكوت السماوات إن لم يرجع ويصير كالأطفال حسب قول الرب يسوع، أي الشرط الأول أن يكون وديعاً مؤمناً متواضعاً مسامحاً كالطفل تماماً، الطفل يؤمن بما يقوله والداه، يصدق كل شيء، الطفل يتكل ويعتمد على والديه، الطفل يقلد والديه أيضاً، وهو وديع وحليم لا يحقد على إنسان إذا أسيء إليه، ينسى حالاً، إن لم نرجع ونصير كالأطفال بوداعتنا بتواضعنا بمحبتنا للناس بتسامحنا، إن لم نرجع ونصير كالأطفال بإيماننا بالرب يسوع باتكالنا عليه وثقتنا بقوته وقدرته الإلهية، هذا الشرط الأول لدخولنا ملكوت الله إن لم نرجع ونصير كالأطفال لا نستطيع أن ندخل ملكوت الله. والشرط الثاني أن نتجرد عن كل ما في العالم من أجل محبة المسيح يسوع ربنا، حينذاك نستحق أن نحب المسيح أكثر من كل شيء في العالم أن نضحي بكل شيء في سبيل محبتنا للمسيح إن كنا نتوق أن نرث ملكوته السماوي لنتنعم معه إلى الأبد الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد السادس بعد عيد الصليب (2)

«اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم»

    (متى7: 7)

بهذه الآية المقدسة من الإنجيل المقدس بحسب الرسول متى، يحثّنا الرب يسوع أيها الأحباء على الصلاة، ويحدد العلاقة ما بيننا وبين الله، أبينا السماوي، بل نشعر بأننا قد أعطينا منه تعالى وعداً إلهياً نفيساً لا يعادله وعد في هذه الحياة، هو الدالة التي نلناها منه، فقد جعلنا أبناء لأبيه السماوي، وأعطانا دالة البنين لنقف أمامه وندعوه: «أبانا الذي في السموات».

وشبّه ما يعطيه الآب السماوي لنا بعد أن نسأله، بعطايا الأب الأرضي لأبنائه، فلو كنّا نحن الأشرار كما دعانا الرب، نعطي عطايا صالحة لأبنائنا، فكم بالحري أبونا السماوي يعطينا العطايا الصالحة وهو الصالح، فيقول: «أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجراً، وإن سأله سمكة يعطيه حيّة، فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه» (مت7: 9ـ11).

«اسألوا تعطوا»، هكذا يحثّنا الرب يسوع على الصلاة، والصلاة أمر طبيعي فطري لدى البشر كافةً. منذ أن بدأت البشرية كان الإنسان يصلّي لأنه قد وضع في ضميره أنه هناك إله عظيم خالق الكون ومدبره، وطالما هنالك إله فإن الإنسان بحاجة ماسة أن يلتجئ إليه.

وقد مثّل الآباء القديسون الإنسان بقارب صغير يمخر عباب يمِّ هذه الحياة الدنيا بصعوبة، أمواج عاتية تريد أن تُغرق مركبة حياته وعواصف رعدية تريد أن تهلكه وتبيده، ولا حول ولا قوة له.

لذلك عليه أن يلتجئ إلى القوة التي لا تفوقها قوة في الكون، والتي عرفناها بوساطة الوحي الإلهي، إلى الله خالق الكون ومبدعه ومدبره.

إذن إذا كان هناك دينٌ، فهناك صلاة.

إذا كان هناك إيمان بوجود الله، فهناك من يسأل هذا الإله أن يعضده ويساعده ليتمكن من أن يسير في حياته رغم صعوبات الحياة وآلامها.

هل رأيتم الإنسان كيف يعبد الله بطقوسه العديدة؟

هذه أساليب الصلاة عند الإنسان البدائي، ولكنها تطوّرت بوساطة الوحي والإلهام إلى فروض وطقوس وذبائح تقدّم إلى الله، لإرضائه تعالى، لأن الإنسان الذي يشعر بأن هناك إلهاً يرافقه أيضاً عليه أن يخاف هذا الإله، الذي يريده أن يسلك بحسب المشيئة الإلهية الموجودة في ضميره السامي أولاً، هذا الناموس الذي أعطي للإنسان منذ أن خلقه الله، ومنحه عقلاً راجحاً وضميراً يقظاً وقلباً يغدق شعوراً بالآلام والأفراح، طالما الإنسان يؤمن بإله، فعليه أن يرضي الله أيضاً بصَلاته، ولا يرضي الله ولا تستجاب صلاة إنسان ما لم يكن هذا الإنسان على وفاق مع الله، بسلام معه تعالى.

أجل وعدنا الله أن يستجيب صلواتنا بقوله: «اسألوا تعطوا»، ولكن حتى عدم استجابة الصلاة التي نسأله أن يستجيبها، هي استجابة بحد ذاتها، بالنسبة إليه تعالى الذي هو يعرف ما هو صالحنا الروحي.

والله لا يستجيب الخاطئ أبداً، إلا في حالة واحدة، هي عندما يطلب هذا الخاطئ المغفرة من الله، في حالة توبته وعودته إليه تعالى. «اطلبوا تجدوا»، إن كنت باراً أو حتى خاطئاً، إن طلب منك ابنك سمكة تعطيه سمكة لا حية، وإذا طلب بيضةً تعطيه بيضةً لا عقرباً، فإذا كنتم وأنتم أشرار تعطون أولادكم عطايا صالحة وجيدة فكم بالحري الآب السماوي الرحوم والغفور الذي يمطر على الصالحين والطالحين معاً، ويشرق شمسه على الأبرار والأشرار. ويطلب من هؤلاء جميعاً أن يكونوا على سلام معه، فيقفون بدالة البنين ويصلّوا إليه قائلين: «أبانا الذي في السماوات»، هذه الدالة هي نعمة من الله، وهذا الوعد الإلهي القائل: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم.

لا أستطيع أن أقرع باب إنسان لا أعرفه، وأسأله شيئاً، ولكنني إن كنت أعرف الله وكنت أناجي الله دائماً، وإن كنت أصلي بلا ملل كما يوصينا الكتاب وبلجاجة كما أوصانا الرب يسوع بمثل قاضي الظلم، كما أيضاً إن كنت أصلي بلا فتور حينذاك تكون علاقتي بالله علاقة ودٍ ومحبة، وخاصةً قد أُعطينا نعمة البنوة بالنعمة لله فأستطيع إذاً أن أقرع بابه لأنني أقرع باب بيت أبي السماوي.

منذ أن أعلن الوحي الإلهي للإنسان في العهد القديم، ومارسها الرب يسوع في العهد الجديد في حياته، منذ طفولته وإلى أن صعد إلى السماء، مارس له المجد الفروض التي فرضت على بني إسرائيل، لأنه أراد أن يعلّمنا أن نحفظ الفروض والشريعة والناموس.

أمرٌ واحدٌ لم يمارسه الرب هو الذبائح، لم يقدّم المسيح ذبيحةً لأنه هو حمل الله الرافع خطايا العالم (يو1: 29)، لأنه هو ذاته صار ذبيحةً لأجلنا، وهو الذي يمنحنا الغفران، وأعطانا الذبيحة غير الدموية، القربان المقدس الذي يمنحنا نعمة المشاركة مع بعضنا البعض بمحبته، وفي الإيمان به بل الشركة أيضاً معه ومع الآباء القديسين.

فالفروض إذاً وجدت لكي نمارسها، وبممارستنا نكون قد قدمنا الصلوات لله بدالة البنين، أنواع صلواتنا كثيرة، طلباتنا لا تحصى لحاجات الجسد والروح في آن واحد، وأوصانا أن نطلب ملكوت الله وبره أولاً «أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم» (مت6: 33)، لأنه يعتني بنا، علمنا أن نصلّي الصلاة الربية وفيها نرى كيف يحق لنا أن ندعو أباه السماوي أباً لنا، وأن نطلب أن يتمجّد هذا الآب السماوي، إذا تمجّد اسمه تمجّد هو بالذات، وأن ينشر ملكوته في هذه الأرض لينال الإنسان، وكل البشر أيضاً الخلاص من الله، وفي الوقت نفسه نطلب أيضاً حاجاتنا الجسدية لأنه هو المسؤول عن ذلك، كما نطلب أن يغفر خطايانا لأننا طالما نحن بالجسد معرضون للخطيئة.

وعلينا أيها الأحباء، أن نشعر بأننا مستعدون في كل لحظة أن نغادر هذه الحياة ونحن في حالة النعمة، ولا نهاب إبليس ولذلك نطلب من الرب أن ينجينا من الشرير ويخلصنا من التجارب. وفي الختام نعترف بأنه هو ملكنا فله الملك في الأرض والسماء، وله المجد وله السلطان والقوة وبهذا نكون قد أتممنا وصيته، «اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم».

ليستجيب الرب الإله صلواتكم أيها الأحباء، وليلهمكم لتواظبوا على الصلاة، الصلاة الجمهورية التي هي أفضل صلاة، وصلاة المخدع الفردية الخاصة، والصلاة العائلية لتكونوا على صلة وديّة طيبة مع الآب السماوي ففي وقت الضيق إذا ما سألتموه يستجيب لكم أيضاً لأنّكم قد حزتم على دالة البنين. ليستجيب الله صلواتنا جميعاً لما فيه خلاص نفوسنا بنعمته تعالى آمين.

الأحد السادس بعد عيد الصليب (3)

«اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم»

 (لوقا11: 9)

إنه الرب يسوع القادر على كل شيء، الصادق بوعوده يحثنا نحن الذين قد آمنّا ونلنا الفداء بدمه الكريم، يحثنا لنقف أمام أبيه السماوي، لنسأل فنُعطى، لنطلب فنجد، لنقرع بابه فيفتح لنا، فما أعظم النعمة التي أعطيت لنا.

أيها الأحباء: أن نقرع باب السماء، لأننا قد نلنا نعمة التبرير والتقديس والتبنّي، فبدالة البنين نناجي الآب السماوي وهو يجيبنا الصلاة، إنه يحثنا لكي نرفع نفوسنا وعقولنا وقلوبنا إلى العلاء في آنٍ واحد، لأن النفس التي خُلقت على شبه الله كمثاله وهي روحانية نسبياً بالنسبة إلى الله الذي هو روحي محض، هذه النفس استحقّت خاصةً بعد أن نالت الفداء أن تتحد بالعناية الإلهية، وأن ترتفع إلى السماء بطلباتها الروحية والجسدية في آنٍ واحد.

الصلاة فطرية في الإنسان، فالإنسان خلق وفي ضميره ميل إلى ممارسة الصلاة، إذن يؤمن بوجود إله فيصلّي لذلك الإله فقد قيل: «دين بدون صلاة»، ونقول: «لا صلاة بدون دين»، فإذا كنّا نصلّي فيعني ذلك أننا نعترف بوجود الله تعالى، ونصلّي إليه، ونشكره على أنه أوجدنا، نمجّده لأنه يعتني بنا، ونسأله طلبات جسدية وروحية في آنٍ واحد. وهو قد يستجيب لنا الصلاة التي يوصينا الرب أن نقدمها إلى الله.

مضامينها شتى، ولكن علينا أن نقدمها بإيمان، «كل ما تسألونه بإيمان تستجابون»، أن نقدمها بتواضع وانسحاق قلب كما فعل العشّار الذي وقف أمام الله ليطلب إليه مغفرة خطاياه: «ارحمني أنا الخاطئ»، قال عنه الرب: فنزل إلى داره مبرراً. نطلبها بلجاجة كما فعلت المرأة الأرملة مع قاضي الظلم فأنصفها، نطلبها باسم الرب يسوع لأنه قد أوصانا أننا ما نطلب من الآب باسمه فهو يستجيب لنا.

ولكن ما هي مواضيع هذه الصلاة يا ترى؟

وكيف تكون حالتنا عندما نطلبها من الرب يسوع، عندما نسكب النفس أمام الآب السماوي؟

إن الله لا يبغض الخاطئ إنما يبغض الخطيئة، ولذلك لا يمكن أن يستجيب إنساناً خاطئاً إلا في حالة واحدة عندما يطلب هذا الخاطئ المغفرة، وَيَعد بأنه يعود حالاً إلى الله تائباً، إذاً ولئن قال لنا: «اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم»، ولكن سوف لا تعطى ولا تفتح أبواب السماء لنا رحمة ما لم نكن على اتفاق مع السماء، وصلح مع الله، وسلام معه تعالى.

فما لم نكن قد حصلنا على دالة البنين لا يستجيب الله للخاطئ إلا عندما يطلب الخاطئ أن يغفر الله له وأن يقبل توبته النصوح الصادقة فإذ ما صلّينا ولم نستجب علينا أن لا نشكّ لأن الرب يسوع خالف وعده، ونكث بعهده ووعوده لأنه لم يستجيب لنا، علينا أن ندرس وضعنا ونتفحّص ضميرنا لعلنا نطلب شيئاً ضد إرادة الله، للانتقام من أعدائنا مثلاً بطلبات دنيوية لا تنفع لخلاصنا، بل تأتي بنا إلى سبيل التهلكة، لذلك لا يستجيب الله على هذه الطلبات.

ثم علينا أن نعرف إن كنّا نسأله تعالى بإيمان باتضاع قد نكون كالفريسيين نقف مفتخرين بأننا نصوم بالأسبوع مرتين، وكثير منّا يفتخرون بذلك، أو بأننا نُعشّر أموالنا والعديد إذا ما دفع خمسة قروش يطلب دعاية بليرة فهل يستجيبنا الله.

ولكن إن وقفنا باتضاع أمامه وبتوبة وندامة صادقة وانسحاق قلب، نؤمن حقاً أننا إذا سألنا نُعطى، وإذا طلبنا نجد وإذا ما قرعنا باب السماء تنفتح أبوابها أمامنا.

العديد منا أيها الأحباء يهملون الصلاة إن كانت الصلاة جمهوريّة خاصة بحضور القداس الإلهي ونيل بركة الرب وعلى الأخص إن كنّا ممن يرغب أن يشارك ويشترك بتناول القربان المقدّس ليحيا في المسيح، وليحيا المسيح فيه وقد وعد أنّه يقيمه في اليوم الأخير، وأن يجعله مع الذين سيرثون ملكوته السماوي، ونشارك به في الآحاد والأعياد وإن كنّا نصلّي الصلاة العائلية في البيت فالصلاة خير درس للأولاد للإيمان بالله، لأننا إن كنّا كما قلنا لا نؤمن بالله لا نسجد أمامه، ولا ندعوه ولا نصلّي إليه ولا نؤمن بقوته ولا نشكره على أنّه خلقنا ولا نطلب منه الخيرات الدنيوية والسماوية خاصة، فالصلاة العائلية التي كان يمارسها الآباء القديسون في دورهم في السابق هذه الصلاة هي التي أقامت من المسيحيين أبطالاً روحيين أعلنوا وأشهروا إيمانهم وأخضعوا مملكة الإمبراطورية الرومانيّة لتخضع لصليب المسيح ربنا. في الصلاة الفرديّة التي فيها يسكب الإنسان نفسه أمام الله، يغلق بابه كما أوصى الرب عن الصلاة الفرديّة ويصلّي إلى أبيه السماوي وأبوه الذي يرى في الخفية يجازيه علانيّة.

أيها الأحباء:

إننا دائماً نحتاج إلى عون الله ورحمته، فعلينا أن نُصلّي إليه، لا في وقت الشدة فقط بل بكل آنٍ، أن تستمر العلاقة بيننا وبين الله، أن تثبت دالة البنين لدينا، الله لا يستجيب لنا إن كنا فقط نطلب إليه أن ينجينا من التجارب من الشرير، إن لم نكن على علاقة سليمة وصحيحة وقوية متينة معه تعالى.

طلباتنا كثيرة جسدية وروحيّة ولكننا نتعلّم فيه ماذا نطلب وماذا نصلّي، نمجّده أولاً كما علمنا في الصلاة الربية، طلب مجيء ملكوته السماوي نطلب أن تكون عامة على الأرض بالبر والتقوى ومخافة الله، كنا حال السماويين الملائكة والقديسين، نطلب أيضاً خبزنا الذي هو ضروري لنا، لجسدنا ليبقى الجسد نامياً وقوياً، لتتمكّن الروح وهي مستمّرة فيه وهي تمجّد الله معه، ونطلب أن يخلّصنا من الشرير، ينجينا من إبليس، يخلّصنا من التجارب التي تطرأ علينا، وكذلك نرى علاقتنا مع القريب فنطلب المغفرة، نغفر لأخينا لكي يغفر الله لنا، وأخيراً ضمن صلواتنا التي تلخصها الصلاة الربيّة نؤمن ونعلن أن الله هو ملكنا، يملك على قلوبنا وعقولنا، وأننا بصلاتنا أيها الأحباء نعترف بوجوده ونعترف بقدرته ونعترف أيضاً بما منَّ علينا بالنعم ونشكره على كل ذلك في صلواتنا، حينذاك إذا ما سألنا ربنا بالسراء والضراء يستجيبنا وإذا ما قرعنا يفتح لنا بنعمته تعالى آمين.


الأحد السادس بعد عيد الصليب (4)

«السبت جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»

        (مرقس2: 27)

يُظهر لنا البشير مرقس الرب يسوع مع تلاميذهِ يسيرونَ بين السنابل التي كانت قد ابيضَّت وكان الجوع قد غلبهم، فأخذوا يقطفونَ السنابل ويفركونها ويأكلون، كان هناك الفريسيون يتربَّصون الرب يسوع وتلاميذهُ ليَأخذوا عليهِم حجَّةً وينتقدونهُم، دائماً هذا الأمر موجود في الكنيسة كما كان في أيام السيد المسيح، أن ينتقدوا الكنيسة والمسؤولين عنها كما كانوا ينتقدون الرب يسوع، قد جاؤوا إلى الرب يسوع بالذات ليشتكوا على تلاميذهِ قائلين لهُ: لماذا يفعل تلاميذكَ ما لا يحلُّ في السبت، الرب يسوع برهنَ لهم على أنَّ السبت إنما جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت.

نحنُ نعرف أنَّ الله سبحانهُ وتعالى كتبَ على بني إسرائيل أن يحفظوا السبت سُبع أوقاتهم، وكان ذلك ذكرى خلاصهم من عبودية مصر لكن اليهود بشخص الكَتَبة والفريسيين ورؤساء الكهنة جعلوا هذهِ الوصية الأدبية وصيةً طقسية أكثرَ منها أدبية وغلَّفوها بوصايا بشرية عديدة جعلوا منها عِبئاً ثقيلاً على الناس لذلك كان مَن يكسر السبت بحسب ظنِّهم ـ كما فعلوا مرةً ـ كان يُعدم، بل أيضاً نرى أنَّ هؤلاء جعلوا أنَّ الإنسان وُجِدَ للسبت لا السبت لأجل الإنسان، فصحَّحَ الرب رأيهم وقال لهم: إنما السبتُ جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت.

السبت جُعل لأجل الإنسان ليستريح الإنسان من عناء الأسبوع وليعبد الله ويحمدهُ في ذلك اليوم متذكِّراً أنَّ الله قد خلَّصهُ من عبودية مصر وأنقذهُ ومتذكراً أيضاً كيف أنَّ الله سبحانهُ وتعالى بعلامةٍ وأعجوبةٍ برهن لهم عن قُدسية هذا السبت عندما أطعمهم خبز الملائكة كان قد أمرهم أنَّ المَن ينزل عليهم ويجب أن يجمعوهُ، وكانوا يطحنوهُ كالحنطة ويأكلونهُ وكانَ لذيذاً جداً وكان إذا أحدهم أخذوا أكثر مما يلزمهُ من المَن ذلك اليوم، هذا المَن يأكلهُ الدود ولا يمكن أن يأكلهُ إنسان بعدئذٍ، أما في اليوم السادس من الأسبوع فكانوا يجمعون لليوم السابع أيضاً وكان المَن يبقى سليماً لليوم السابع لكي لا يعملوا في اليوم السابع حتى في جمع المَن بل يأكلونهُ صحيحاً سليماً.

هذا برهانٌ على أن الله كان قد أمرهم أن يُقدِّسوا ذلك اليوم بالشكر والصلاة وحَمد الله تعالى وبالنِعَم التي أسبغها عليهم، أما هم فقد جعلوا من هذا السبت ليسَ يوماً مقدساً فقط بل إلهاً يعبدونه فكانوا يعبدونه، وكل شيء ممكن أن يكون إلا أن يعملوا شيئاً يوم السبت، والذي يعرف اليهود إلى اليوم يرى أن المتديِّنين بينهم لا يزالون يتمسَّكونَ بحرفيَّة هذه الوصية حتى أنهم لا يستطيعون أن يعلقوا حتى الكهرباء بل يدعون أحَد جيرانهم حتى يفعل ذلك.

الرب لم يردنا أن نعمل الأمور باعتبار السبت مقدَّس.

برهن لهم الرب على قصة الأكل كيف أن التلاميذ عندما جاعوا قطفوا السنابل وفركوها وأكلوها، برهن لهم عن داوود عندما كان هارباً من أهلِ بيتهِ، من أقربائهِ، هارباً من أولئكَ الذين كان المفروض أن يكونوا معهُ فصاروا أعداءهُ، كيف أنهُ هو والذين معهُ كانوا قد جاعوا أيام أبياثار رئيس الكهنة ودخلوا إلى خيمة الاجتماع وأكلوا خبز التَقدِمة الذي لا يحلُّ أن يأكلهُ إلا الكهنة وكانوا يُغيِّرون أسبوعياً هذا الخبز والكهنة كانوا يأكلون الخبز القديم ويأتون بالجديد، فإذا كان داوود قد فعل ذلك وبحسب تقويمنا كان يوم سبت أيضاً فكم بالأحرى إذا كان التلاميذ قد جاعوا وأخذوا يقطفون السنابل ويفركونها ويأكلونها، هل معنى هذا أنهم كسروا السبت؟

وحتى إذا كسروه لهذهِ الأمور فالسبت وُجدَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، وهذا الخبز الذي كان مقدَّساً وكان على المائدة الذهبية هذا الخبز ينال قدسيةً أكثر إذا استُعملَ لإشباع الجائع.

إذاً السبت جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، هذهِ الآية تنطبق على أمور كثيرة حتى في الشريعة والكنيسة التي أعطاها الرب سلطاناً بشخص رؤسائها سلطان الحلّ والربط هي تعرف ماذا ينفع الإنسان وماذا يضرُّهُ، ما هو حلالٌ لهُ وما هو حرام وتتكيَّف الوصايا بحسب الظروف وهذا ليس معناهُ أنهم كسروا الوصايا القديمة لأنهُ حتى الوصايا وُجدت لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل الوصايا، هذهِ الفلسفة التي يجب أن نتَّبعها كمسيحيين نؤمن بالرب يسوع ونرى أنَّ المسيح فقط هو الذي نقدِّسهُ ونعظِّمهُ ونصلِّي إليه ونمجِّدُهُ أما بقيَّة الأمور إن كانت لمجد المسيح فنفعلها ونتمسَّك بها وإلا فهي أمور زائلة.

الكنيسة عندما رأت أنَّ السبت أصبحَ سبب عثرة للإنسان بكلِّ الوصايا التي هي غريبة عنهُ وغلَّفت السبت وأصبحت الوصية الأدبية وصية طقسية صرفة نرى أنها فضَّلت يوم الأحد الذي هو يوم قيامة الرب من بين الأموات، اليوم الذي قدَّستهُ الكنيسة في بدء تاريخها لأنَّ الرب قامَ فيه من بين الأموات ولم يظهر إلا في ذلك اليوم حيثُ ظهرَ فيهِ خمس مرات ثم انتظر إلى الأحد الذي يلي ذلك الأحد وظهرَ للتلاميذ ولتوما خاصةً وحسب رأي بعض آباء الكنيسة أنَّ المسيح قد وُلدَ يوم الأحد ومعنى ذلك أنهُ قد اختُتنَ يوم الأحد.

هذا رأيٌ جميل ونعتقد أنَّ يوم الأحد يوم مقدَّس والكنيسة تُصلِّي دائماً في أيام الأحد، فما أعظم يوم الأحد الذي قام فيهِ الرب من بين الأموات وتتمسَّك بهِ لكن لا تمسُّك اليهود بالسبت بعدَ أن غلَّفوا السبت هذهِ الوصية الأدبية بأمور طقسية بالية، تتمسَّك بيوم الأحد لتُقدِّسهُ لتحتفل بالقداس الإلهي وتأمر المؤمنين أن يشتركوا بهذا القداس كما أنها تهتمُّ جداً في التمسُّك بتقديس الرب في ذلك اليوم وإذا ترك الأعمال غير الضرورية تكون قد استغلَّت ذلك بالصلاة، بالعبادة، بالتأمُّل بما فعلهُ الرب يسوع لنا إذ كان قد أمر بني إسرائيل لأنهُ خلَّصهم من عبودية مصر أن يحفظوا يوم السبت، ونحنُ قد خلَّصنا من عبودية الشيطان والخطيئة والموت، لذلك علينا أن نُقدِّس يوم الأحد ونهتمَّ أن نتمسَّك بهذهِ الشريعة لخلاص نفوسنا واستغلال هذا الوقت كما كان بنو إسرائيل يهتمُّونَ بسُبع الوقت من أيامهم في راحة أنفسهم وأجسادهم وراحة مَن يعمَل معهم حتى البهائم، كذلك نحنُ أيضاً يجب أن نتمسَّك بهذا الشيء لكن أن نستغلّ هذا الوقت في عبادة الله وخاصةً بحضور القداس الإلهي.

نسأل الرب الإله أن يوفِّقنا جميعاً لنُكمِّل وصاياه كما يليق ويجب ونعمتهُ تشملكم دائماً أبداً آمين.

الأحد السادس بعد عيد الصليب (5)

«السبت جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»

        (مرقس2: 27)

هذا ما قاله الرب يسوع ودوّنه البشير مرقس وتُلِي على مسامعكم في بدء القداس. يذكر البشير مرقس أن التلاميذ كانوا سائرين بين الزروع في يوم السبت، وكانوا قد جاعوا وقطفوا السنابل، طبعاً فركوها وأكلوا. دائماً بين الجمهور الذي كان يتبع الرب يسوع، وإلى الآن الذين يتبعون الكنيسة وغيرها من المؤسسات التي تخدم وتمجد الرب يسوع، دائماً هناك فريسيون، الذين يتربصون الرب يسوع وتعاليم يسوع وكنيسة يسوع لينتقدوا فقط، والانتقاد هذا هدّام. لذلك نرى في هذه الحادثة أيضاً أن الفريسيين وقد رأوا تلاميذ الرب يفركون السنابل، يقطفونها أولاً ثم يفركونها. التفتوا إلى الرب يسوع وقالوا له: انظر. بكبرياء، بعجرفة. دائماً حتى أن بعض اكليروسنا في هذه الأيام عندما يعطي تعليمات للناس كأنه قد أنزل هو من السماء وليست التعليمات فقط ولا ما أوصى به الرب يسوع، إنما ما أوصى به هو بنفسه. أنظر ماذا يفعل تلاميذك مما لا يحلّ في السبت، الرب يسوع أجابهم بهدوء، بتواضعه ووداعته: أما قرأتم عن داود الذي في أيام أبيثار رئيس الكهنة، كيف أنه عندما جاع هو والذين معه دخلوا بيت الرب أي خيمة الاجتماع وأكلوا خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة (مت 12: 4). ونحن نعلم أن خبز التقدمة كان أمام قدس الأقداس في خيمة الاجتماع على إناء من ذهب، وعندما كان يُجدَّد في كل أسبوع كان الكهنة فقط يأكلون من ذلك الخبز، لكن عندما جاع داود وكان هارباً أمام عدوٍّ هو وأتباعه، دخل إلى خيمة الاجتماع وأكل هذا الخبز. هنا يعلمنا الرب درساً خالداً: كيف نفهم الأمور الدينية، حتى جوهر الدين بالذات، لأن الرب يعلن قائلاً: السبت إنما جُعِل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت. حتى خبز التقدمة لا ينال قدسيةً، ولا يكون مباركاً إذا كان الإنسان جائعاً ولا يأكل منه. الكنيسة بالذات، بكل ما فيها، ما لم تكن لأجل هذا الإنسان الجائع والمحتاج لا تكون كنيسة المسيح، لأن الدين المسيحي الحقيقي كما يعلمنا آباؤنا أيضاً بناءً على تعاليم الرب يسوع هو الإيمان العامل بالمحبة، فما لم يعمل الإنسان بالمحبة، والمحبة هي محبة السامري الصالح، الذي أنقذ ذلك الإنسان الساقط بين اللصوص وهو لا يعرفه، لا يعرف دينه ولا مذهبه، ولا يعرف أيضاً من أين أتى ولا أين يذهب، ولكنه أنقذه من بين اللصوص، ضمد جراحاته وأخذه إلى الفندق ودفع عنه (لو 10: 30-35). هذه المحبة التي يريدنا المسيح أن نمارسها، لا ينفعنا الإيمان شيئاً ما لم تكن هذه المحبة مبرهنةً ومترجمةً لهذا الإيمان والشريعة، الوصايا الإلهية النظم الكنسية كلها لا تنفعنا شيئاً ما لم نضع أمام أعيننا المحبة بالذات بكل ممارساتنا لهذه الشرائع. فالسبت مثلاً إنما جُعِل لأجل الإنسان يقول الرب لا الإنسان لأجل السبت. الإنسان خُلِق ليكون سيداً على هذه الأكوان التي خلقها الله، خُلِق الإنسان بعقل راجح وضمير طاهر نقي، أفسد الضمير وبلبل العقل تعدي الإنسان على وصية الرب، ولكن عندما أعطاه الرب الشرائع والنواميس إنما أعطاها لإسعاده لكي يأتي به إليه تعالى. إذن فمن جملة الشرائع: السبت.

كيف أعطيت وصية السبت؟

وصية السبت أعطيت لغايةٍ، لليهود خاصةً لأن الله أنقذهم من عبودية مصر، وأمرهم أن يذكروا ذلك وبعد ذلك أمرهم أن يذكروا يوم السبت لأنه علامة لإنقاذهم من مصر، وأعلن يوم راحة، وحتى معنى السبت هو (الراحة) بالنسبة إلى اللغة العبرانية، أعلن يوم راحة عندما أنعم الله على شعب بني إسرائيل فأطعمهم خبز الملائكة. كان المن ينزل من السماء فيأخذونه ويطحنونه ويخبزونه كالخبز ويأكلونه، وكان كخبز بعسل وطعمه لذيذ جداً. في اليوم السادس قال لهم الرب: غداً سبت الرب وأمرهم أن لا يجمعوا أي شيء في اليوم السابع، في اليوم السادس كانوا يجمعون ليومين، إذا جمعوا ليومين في غير ذلك اليوم يفسد المن، لكن عندما يجمعونه وهذه أوامر السماء في اليوم السادس ليومين لكي لا يعملوا في اليوم السابع، كان المن يبقى سليماً، فيأكلونه يوم السابع (خروج 16: 22-24). الغاية من ذلك أن الله جعل السبت لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت، لكي يستريح الإنسان في اليوم السابع ويمجد الله في ذلك اليوم، ليخصصه لعمل الخير. أما الفريسيون فقد جمعوا واخترعوا وابتدعوا شرائع عديدة أحاطوها بشريعة حفظ السبت، بل عبدوه واعتبروه هو الناموس والشريعة وهو كل شيء في الدين. ولذلك وبخهم الرب يسوع قائلاً: السبت إنما جُعِل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت. والسبت جعل لأجل الإنسان اليهودي لأن فيه حرّر الله شعب إسرائيل من عبودية مصر وفيه أراد الرب أن يخصص بنو إسرائيل سبع وقتهم في الحياة لأجل عبادة الله وعمل الخير، ولكنهم أساءوا الفهم مثلما قلنا وضيعوا الوصية في وصايا بشرية.

السبت الذي جُعِل لبني إسرائيل أيها الأحباء، قد زال في المسيحية. يعترضون علينا: كيف أن وصية أعطانا إياها الله يأتي إنسان ويغيرها. نحن نعلم أن السلطان الإلهي الذي أعطي للرسل الأطهار غيّروا بواسطته أشياء كثيرة نأخذ منها: يقولون السبت هو عهد أبدي، ألم يكن الختان عهدا أبديا، ألم يكن علامة أبدية بين الله والإنسان منذ عهد إبراهيم الخليل، وكُرّر هذا العهد على يد موسى ولكن الرسل غيروه. الختان زال، لئن اختتنتم يقول الرسول بولس فالمسيح لا ينفعكم شيئاً (غلاطية 2: 5)، جاءت المعمودية، الولادة من فوق من السماء هذه هي عهد جديد لنا. أمور كثيرة نراها قد زالت بزوال عهد بني إسرائيل مع الله، الذي كان الأنبياء قد تنبؤوا بأنه سيقيم عهداً جديداً، لا كالعهد الذي أعطاه لآبائهم. العهد الذي أعطاه لنا بالخلاص بدم المسيح يسوع، لا بكلماتٍ وضعت حتى لو نُحتَتْ بيد الله على صخرة.

نحن نعلم أن تعاليم الرب يسوع التي أعطانا إياها، هي تعاليم الرسالة بالذات لأنه هو الرسالة. الأنبياء قد تنبؤوا عنه أما هو فقد جاء ليعلن أنه هو الله، وهو ابن الله وهو الشريعة وهو المثال لنا. ونحن بحاجة إلى مثال لنا بالجسد فجاء المسيح لنتطلع إليه، ونعمل كل ما فعله بالجسد بالنسبة إلى الطاعة لله. لذلك الرسل الأطهار ألغوا السبت، لم يستبدلوه بالأحد. ألغوا السبت كما ألغوا الختان، وأمور أخرى لا تمت إلينا كمؤمنين بالمسيح المخلص الفادي، ورأوا أن الرب قد قدّس يوم الأحد، والحكمة والغاية واحدة أن نخصص سبع وقتنا لعبادة الله، والرسل الأطهار لم يكونوا كالكتبة والفريسيين وكهّان اليهود ليعبدوا يوماً من الأيام، أو طقساً من الطقوس، أو وصيةً من الوصايا، ولكنهم يعرفون كيف يقدسون يوم الأحد، الأحد الذي قام فيه المسيح من بين الأموات فخلصنا من عبودية الشيطان والموت والخطيئة، لا كالسبت الذي نال فيه بنو إسرائيل خلاصاً جسدياً من عبودية مصر، بل خلاصاً أبدياً روحياً، خلاصاً هو الغاية من تجسد الإله الكلمة. لذلك صار للأحد قدسية خاصة لدينا. لدى الرسل أولاً، ثم كل من تبع المسيح ولذلك كان ظهور الرب أيضاً يوم قيامته وإعلانه هذا الخلاص، إعلانه نفسه مخلصاً للعالم، نراه بعدئذ طيلة الأسبوع لم يظهر لأحد، ولكن إلى الأحد التالي للقيامة، ونراه أيضا عندما حلّ الروح القدس على التلاميذ أيضاً في يوم الأحد، وإذا كان ما قاله بعض آبائنا أن الرب ولد أيضاً يوم الأحد يكون ختانه أيضاً يوم الأحد. على كل حال لكل هذه الحوادث أعلن التلاميذ يوم الأحد يوماً مقدساً للرب، وكانوا يجتمعون فيه لكسر الخبز ولإعلان كلمة الله وأصبح هذا اليوم يوم الرب كما ذكره يوحنا في سفر الرؤيا، ففي يوم الرب، يوم الأحد الذي علينا أن نقدسه، لا نقتدي باليهود الذين كانوا يظنون أن يوم السبت يُعبَد عبادة ولا يمارس الإنسان فيه أي شيء ولا يعمل خيراً، الرب عمل خيراً في أيام الآحاد، شفى مرضى عديدين. يوم السبت يعني يوم الراحة، شفى مرضى عديدين ليعلمنا أيضاً أننا يوم الأحد بإمكاننا، بل يجب علينا أن نشكره، أن نعبده، أن نحضر القداس الإلهي، أن نشترك مع المؤمنين الأحياء، ومع المؤمنين الذين رقدوا بالرب وهم في فردوس النعيم ويحضرون القداس معنا ويشكرون الله معنا، وكذلك أن نعمل الخير متأملين بكتاب الله العزيز، لأن ذلك يعد فرصة لنا أن سبع وقتنا نقضيه في تأمل ما فعله الرب مع شعبه وما يفعله دائماً.

هكذا نقدس يوم الأحد، ونعتبر أن كل ممارساتنا الدينية، أن يوم الرب يوم السبت والمسيح هو رب السبت، مثلما قال عن نفسه: ابن البشر هو رب السبت أيضاً. هذا اليوم الذي هو يوم الراحة جُعِل لأجل الإنسان، لا الإنسان جُعِل لأجل هذا اليوم، فلنتمسك أحبائي بوصيته في كل ما نفعله بالنسبة إلى شريعة الرب لنرى أن الإنسان أهم مخلوق في الكون. وأن الله سبحانه وتعالى عندما أعطاه النواميس والشرائع وحتى الطقوس إنما أعطاه إياها لخلاصه، وليجعله أيضا شاكراً الرب على هذه النعمة التي يسبغها عليه، لا ليكون عبداً لهذه الوصايا.

نسأله تعالى ونحن نقرأ أعمال الرب وتدبيره الإلهي بالجسد أن يؤهلنا لنفهم أن ديننا المسيحي وإيماننا السرياني الأرثوذكسي، هو الإيمان العامل بالمحبة. فلنمارس أعمال المحبة للإنسان، والشكر لله على كل ما يسبغه علينا من نعم ولنحفظ شرائعه بروح المحبة، كي ننال المكافأة في السماء مع الذين سمعوا وصاياه وترجموها بالمحبة بخدمة الإنسان، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الأحد السادس بعد عيد الصليب (6)

«السبت جُعلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»

        (مرقس2: 27)

الآيات المقدسة التي تُليَت على مسامع بعضكم في بدء القداس الإلهي أيّها الأحبّاء، دوّن خلالها وفيها البشير مرقس حدثاً مهماً في حياة الرب وحديثاً نفيساً جرى بين الرب والفرّيسيين.

يقول مرقس أن الرب مع تلاميذه كانوا سائرين في الحقول وأن التلاميذ جاعوا فقلعوا السّنابل وطبعاً فركوها وأكلوا القمح. وكان ذلك اليوم يوم سبتٍ، فغضب الفرّيسيون وكلّموا الرب بخشونتهم المعروفة وكبريائهم وعجرفتهم طالبين إليه أن ينظر ماذا يفعل تلاميذه، الرب أجابهم أما قرأتم ما فعله داود عندما جاع هو والرجال الذين معه، كيف دخل خيمة الاجتماع وأكل خبز التقدمة الذي لا يحلّ أكله إلاّ للكهنة، ثم يضع الرب قاعدةً للدين المسيحي المبين وكيفيّة ممارسته وفهم الأسرار المقدسة وفهم الوصايا والنواهي، قال لهم: السبت إنّما جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت وإن ابن البشر هو رب السبت. الحادثة مهمّة جداً. كان هناك خبز تقدمةٍ يُبدَّل في كل أسبوع ويوضع على مائدة من ذهب أمام قدس الأقداس وكان الكهنة يبدّلونه أسبوعيّاً ويأكلون هذا الخبز الذي رفعوه وقد مكث أسبوعاً أمام قدس الأقداس ولا يحق لأحد غيرهم أن يأكله، ولكن عندما جاع داود هو والرجال الذين كانوا معه في أيّام أبيثار رئيس الكهنة دخلوا الهيكل وأخذوا خبز الكهنة الذي هو من حصّة الكهنة وأكلوه ليشبعوا. فالمسيح يريد أن يعلّمنا أن هذه الأمور التي وُضعَت كشريعة، كوصايا، كنواهٍ إنما وُضعَت لخدمة الإنسان، والخبز الذي كان قُدِّم للرب ما لم يسدّ حاجة الإنسان الجائع لا يكون مقدّساً، لذلك فالدين المسيحي يريدنا أن نفهم أنه هو الإيمان العامل بالمحبة، لا تنتفع الشريعة ولا الناموس ولا ينفع الإيمان بالذات ما لم يترجم الإنسان ذلك عمليّاً فديننا هو دين السّامري الصالح ودين الإنسان الذي يخدم الإنسان باسم الله، دين الإنسان الذي يضحّي في سبيل خلاص أخيه الإنسان. هذا الدين لا يتمسّك بالشكليّات فيرى السبت قد جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت. المسيح يصلح أفكار الفريسيين ويريد أن يأتي بالشعب إلى ينابيع الحق ولذلك عندما رآهم وهم بظنّهم يطبّقون وصيّة السّبت قد ابتعدوا جدّاً عن روح الوصيّة وأصبحت الوصيّة لديهم عبارةً عن نواهٍ وأوامر وتعاليم تُعَد بالآلاف تسلّموها من آبائهم وليس من الرب الإله. تركوا عبادة الله وعبدوا السّبت، كل شيءٍ هو للسبت. كان لا يحق للإنسان لديهم أن يمشي سوى خطوات معدودة يوم السبت وإلاّ فقد أخطأ خطيئة مميتة. ونحن أيّها الأحبّاء عندما نتأمّل في ذلك نرى من السّخافة أن يتصرّف الشّعب كما تصرّف خاصةً في عهد الرب في تطبيق وصيّة السّبت، ولكن لديهم كانت أدنى مخالفة لوصايا آبائهم تمس ضميرهم وتقضّ عليهم مضجعهم، ويظنون أنهم قد أخطؤوا خطيئة مميتة جدّاً، ولذلك سيهلكون في جهنّم وبئس المصير لأنهم خالفوا إحدى وصايا الآباء التي تخصّ يوم السبت. الرب الذي جاء ليعلّمنا كيف يكون الإيمان العامل بالمحبة، الرب قال لهم: أن السبت إنما قد جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، يعني هذا وقد وضعت هذه الوصيّة خاصةً لبني إسرائيل لتذكّرهم بأن الله رحيم، وتذكرنا أن الله كما يقول الكتاب المقدس يريد رحمةً لا ذبيحة، فاليوم الذي خُصِّص ليستريح فيه الإنسان هو سُبع وقت الإنسان، هو رحمةٌ من الله لهذا الإنسان ليرتاح جسده كما يأتي الليل لننام، ليرتاح الجسد من أتعاب النهار، كذلك يحتاج الإنسان إلى سبع وقته ليرتاح هو وليضع حدّاً لطمعه وجشعه وطموحه لكسب المال واستغلاله. خادمه أو عبده أو حتّى الحيوان الذي يخدم هذا الإنسان فأمر أن يرتاح الإنسان وأن يرتاح خادمه وان ترتاح بهيمته. أيضاً لنتأمّل بعجائب الله ورحمته للإنسان، فالسبت وُضِع لأولئك الناس لكي يتذكّروا أيضاً أنهم كانوا عبيداً في مصر والرب أخرجهم منها بيد قويّة وذراعٍ ممدودة، ونحن كمسيحيين رأينا السبت الخاص باليهود ولذلك أُلغي السبت في المسيحية وقال الرسول بولس أن لا يأمر أحد عليكم بحفظ سبت أو عيد أو رأس هلال، أُلغي هذا الشيء ولا نقول استبدل بالأحد لأن الأحد وُضِع في المسيحية ليتذكر المسيحي رحمة الله، الرحمة العظيمة إذ أن المسيح تألّم لأجلنا والمسيح قام في يوم الأحد من بين الأموات، قام منتصراً وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماوات، لذلك قدَّس الرسل يوم الأحد وقدّسته الكنيسة، ولكن لا لتعبد الأحد ولا لكي يُجعَل الأحد عبئاً ثقيلاً على كاهل المؤمنين المسيحيين، بل لكي نرتاح يوم الأحد ولذلك يخصّص المؤمن هذا اليوم للتأمّل برحمة الله للبشريّة ولكي يحضر المؤمن القدّاس الإلهي مشتركاً به في هذا اليوم فينال نِعَم الله، ولكن أيضاً يتدرّب المؤمن على التأمّل بكتاب الله القدير يوم الأحد خاصةً وعلى الأخص لكي يترجم المؤمن إيمانه بالأعمال الصالحة، بأعمال الرّحمة، لذلك فالمسيح الذي جاء ليكمّل الناموس رأيناه يوم السبت يصنع المعجزات، وعندما اعتُرِض عليه قال لهم: إن كان أحدكم يوم السّبت قد وقع حماره وإلى آخره: ألا ينهضه. هكذا أيها الأحبّاء مفهوم ديننا المسيحي المبين، لا أن نكون عبيداً للشريعة بل أن نجعل الشريعة وسيلة لنا للخلاص، لا أن نتمسّك بالقشور بل أن نأخذ اللّباب. أن نأتي إلى ينبوع الإنجيل لنغترف ماءً قدّمه إلينا مسيحنا، فما أعظم مسيحنا فهو الإله المتجسِّد وهو المعلّم وهو المنقذ وهو المخلِّص وهو الذي أزاح عن كاهل البشرية عبء الناموس وأعطانا الحياة.

فلننصت إلى تعاليمه أيها الأحبّاء ولنعمل وأن نرى أن السبت إنّما جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت وما أُعطينا من شرائع ونواهٍ إنّما أعطانا إيّاها الله لكي يسعدنا في هذه الحياة فنعيش بطمأنينة وراحة ضمير، وبعلاقة وثقى مع ربنا ولكي في الآخرة ننال السعادة الأبديّة الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

القديسة شموني وأولادها السبعة

القديسة شموني وأولادها السبعة

القديسة شموني وأولادها السبعة

إن هؤلاء ولئن كانوا من أبرار العهد القديم ولكن الكنيسة المقدسة التي هي أم رؤوم ومعلّمة صالحة تريدنا دائماً أن نكون أبراراً أتقياء نخاف الله أن نحارب إبليس والخطيّة، أن نكون دائماً مستعدين كجنود صالحين أقوياء بالرب يسوع متمسّكين بشريعته في ميدان جهادنا في هذه الحياة. لذلك هي أم ولدتنا من جرن المعمودية وأهّلتنا لنكون إخوة للرب يسوع المسيح وتعلمنا شريعته الإلهية، وتريدنا في ميدان الحياة أن نكون منتصرين على إبليس، لذلك تقيم لنا وأمامنا خلال حياتنا أمثلة صالحة من أناس جاهدوا ضد إبليس وحاربوه بقوة الرب وانتصروا، حتى أنها اختارت من العهد القديم بعض القديسين لتعيّد لهم وتبرهن بذلك على أن السماء قد قبلتهم لأنهم وإن لم ينالوا الخلاص التام بالرب يسوع، ولكنهم كما يقول الرسول بولس عن بعضهم: أنهم نظروا المواعيد من بعيد وآمنوا أنهم كانوا غرباء على هذه الأرض لذلك كانوا في عِداد الذين خلصوا بالمسيح يسوع.

والقديسة شموني وأولادها السبعة لهم مكانة سامقة في كنيستنا السريانية منذ عصور سابقة سحيقة في القِدَم، فقد تأسست كنائس عديدة هنا وهناك في أماكن عديدة من العالم على اسم القديسة شموني وأولادها السبعة. والكنيسة تتشفّع بهم وترى فيهم شهداء حقاً شهداء في سبيل الشريعة ولئن سبقوا عهد الفداء والخلاص بالمسيح يسوع ربنا.

حتى اليوم إحدى كنائسنا التابعة لأبرشية الموصل كنيسة قديمة في قرية قرقوش تحتفل سنوياً في مثل هذا اليوم بعيد القديسة مارت شموني، وقد شيّدت منذ أجيال سحيقة على اسم مارت شموني وأولادها السبعة – حتى اليوم عندما نصلي صلاة الرمش صلاة المساء ليلة العيد وقبل أن نعطي البركة للمؤمنين لنصرفهم باسم الرب يسوع يظهر طيف مارت شموني وأطياف أولادها على حائط قرب المذبح وكأنهم صورة ملوّنة تظهر في التلفزيون كما نراه نحن اليوم بدأ ذلك قبل قرن تقريباً قبل مائة سنة ويكرّر سنويا وتبقى الأطياف أربعاً وعشرين ساعةً من ليلة العيد إلى يوم العيد مساءً والناس تنظرها وهي تذهب وتجيء بهدوء وتتطلّع إلى الناس. هذه العلامات إنما هي حقائق إلهية يظهرها الرب ليعلن لنا رضاه على أولئك الناس الذين قدّموا نفوسهم ذبائح حيّة على مذبح عبادته الإلهية والتمسّك بشريعته السامية، ولذلك تكرّمهم الكنيسة وتتشفّع بهم وتتأمّل في هذا اليوم خاصةً بسيرتهم الفاضلة.

فهلم أحبائي لنفتح الكتاب المقدس في سفر المكابيين الثاني ونقرأ معاً متأملين بهذه الحادثة التاريخية الحقيقية الثابتة، حادثة استشهاد الأولاد السبعة وموت أمهم مارت شموني وحادثة استشهاد شيخ جليل اسمه العازر كان من الكتبة، أي من الذين يدرسون الناموس ويدوّنونه ويعلنون الشريعة، كان قد بلغ التسعين من عمره وأُجبر على أكل الخنزير الذي كان في تلك الأيام محرّماً على الشعب الذي يعبد الله ولكنه رفض ذلك، بعض أصدقائه أرادوه أن يكون مرائياً يتظاهر بأنه يأكل لحم الخنزير ولكنه يأكل طعاماً آخر، ولكنه رفض ذلك معلناً لهم أنه عليه أن يكون واضحاً، ماذا سيقول عني الشبّان قال لهم عندما يظنون أني قد حدتُ عن شريعة الرب، إنني أفضّل الموت من أن أحيا حياة سيّئة شريرة. تقدم إلى الموت وتحمّل العذاب وهو شيخ طاعن في السن، وأعلن أمام الناس أنه بإرادته لتمسّكه بشريعة الرب، يقدم جسده للموت وأن الله سيقيمه وأعلن أيضاً عن خلود نفسه وصار بذلك قدوة للشبّان وأُعلن من آباء الكنيسة شهيداً ما قبل المسيح.

ما أجمل أن نقتدي كآباء وأمهات بالعازر الذي أقام نفسه مثالاً وقدوة للناس بالتمسّك بالشريعة وعدم المراءاة!

لا ينفعنا شيء إن كنّا نتظاهر بأننا نصلي ونصوم ونتمسّك بشريعة الله، فالله يعرف ما في القلوب ويقرأ ما في القلوب ويحاسبنا على النيّات لا على ما يظهر من أفعال نفعلها أمام الناس لذلك أيضاً أوصانا أن نعمل كل شيء بالخفاء ووعد أن الآب السماوي يرى ذلك ويكافئنا علانية. العازر مثال لنا وقدوة للآباء بذلك وشموني، مارت شموني أي السيّدة شموني مثال للأمهات بتربية أولادها على جداول مياه الناموس والشريعة ومخافة الله. مارت شموني استُدعيَت ممن كان يضطهد الناس يومذاك واسمه انطيوخوس وكان حاكماً على تلك البلاد، كانت مستَعمَرةً له وكان ذلك نحو سنة 170م قبل المسيح، لم يكتفِ باضطهاد الرجال بل طال اضطهاده النساء والأطفال.

استُدعيَت مارت شموني وطُلِب منها أن تأكل لحم الخنزير، ليست العبرة في أن تأكل لحم الخنزير أو لا تأكل، ولكن العبرة في أن تخالف الشريعة، فطالما الناموس القديم كان قد منع الذين يعبدون الله ويتمسّكون بشريعة موسى من أن يأكلوا لحم الخنزير، إذا ما أكلوا يعني ذلك أنهم قد خالفوا ناموس الرب، تعدّوا على الشريعة وبذلك يكونون من الهالكين. نحن اليوم أحرار يحق لنا أن نأكل كل شيء، لم يُحرَّم علينا أي شيء، أي نوع من الطعام والمآكل، ولكن أن نأكل بشكر وأن نأكل بإيمان لأننا نتمسّك بالروح أكثر من الجسد، ولكن وُضِع أيضاً لنا ناموس الصوم، إذا تعدّينا الصوم نكون قد تعدّينا شريعة المسيح ولئن كان الصوم قد وُضِع ونُظِّم كنسيّاً وطقسياً ولكن كل ذلك بإرادة الله وإلهام الروح القدس، لذلك هو في عِداد الوصايا والشرائع التي إنما يلهم الله آباء الكنيسة بفرضها على أبناء الكنيسة وبناتها لأجل فائدتهم الروحية.

رفضت مارت شموني أن تأكل لحم الخنزير، جاءوا بأولادها الواحد بعد الآخر وهم يرفضون التعدّي على شريعة الرب ويعلنون بكلمات هي من إلهام الروح القدس أنهم بشجاعة يتقدمون إلى الموت، قُطِع لسان الأوّل لأنه تكلم بالنيابة عن إخوته أنهم متمسكون بالشريعة ومستعدون أن يموتوا في سبيل ذلك وعُذِّبوا عذاباً أليماً، ولكنهم في كل أقوالهم أعلنوا أنهم يؤمنون في أبدية، وهذه المرة الأولى التي تتوضّح فيها هذه العقيدة. كان دانيال النبي قد تنبّأ عن ذلك اليوم، عن ملك الشمال الذي يستعمرهم ويعذّبهم وقد عذّبهم أنطيوخوس كثيراً وأقام تمثالاً في الهيكل ليعبد من أولئك الذين ضلّوا وتركوا الدين خوفاً من العذاب الأليم وأمر أن تُحرَق كتب الشريعة أينما وجدَت، ولكن الذين تمسّكوا بالرب، كانوا يؤمنون بالخلود بالأبدية وأعلن ذلك أولاد مارت شموني أمام الطاغية وأتباعه أنه لن يستطيع إلا أن يقتل أجسادهم وأن الله سيقيمهم وأن أرواحهم حيّة.

أيها الأحباء: إن كانت عقيدة الخلود والأبدية غامضة في تلك الأيام، ومع هذا فالمؤمنون، المؤمنون كانوا على استعداد تام أن يستشهدوا في سبيل التمسّك بالشريعة، فكم بالحري نحن الذين نؤمن بالمسيح يسوع وقد جاءنا ابن السماء ليعلن لنا شريعة السماء وليوضّح لنا عقيدة السماء ووعدنا أنه في اليوم الأخير سينادي فيقوم الأموات الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيّئات إلى قيامة الدينونة.

عندما نقرأ في سفر دانيال وسفر أيوب ونبوءة إشعياء عن هذا الموضوع بالإضافة إلى سفر المكابيين الثاني في حادثة استشهاد أولاد مارت شموني السبعة وموت أمهم، عندما نقرأ ذلك نرى أن حقيقة الخلود واضحة ولكننا نرى أن الذين سينالون الخلود ربما الأبرار فقط، أما في عقيدتنا المسيحية كما أعطانا إياها الرب يسوع الذي هو الإله المتجسّد، فليس فقط الأبرار يقومون بل أيضاً الأشرار ولكن يقوم الأبرار في حياة أبدية سعيدة يتنعّمون فيها مع المسيح إلى الأبد أما الأشرار فللعذاب الأبدي. ما أرهب ذلك أيها الأحباء، أليس جديراً بنا أن نقتدي بمارت شموني، بالعازر الشيخ، بأولاد مارت شموني السبعة بالتمسّك  بناموس الرب وشريعته وفرائضه الإلهية لكي نستحق الحياة الأبدية. أسأله تعالى أن يلهمنا جميعاً أن نكون مؤمنين صالحين نترجم إيماننا بأعمالنا الصالحة وتمسّكنا ناموس إلهنا بنعمته تعالى آمين.

خ والسير مع الله

أخنوخ والسير مع الله

أخنوخ والسير مع الله

ما أسعد الصديقين الأبرار الذين يسيرون بموجب شرائع الله فنقول عنهم إنهم قد ساروا مع الله، ما أشقى أولئك الذين يتمرغون في درك الخطيئة فيبتعدون عن الله والله أيضاً يبتعد عنهم، وكما يقول النبي: آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، بل نرى عملياً أن أبانا الأول أدم لما كانت روحه تتناغم مع روح الله كان في سعادة فائقة ولكنه عندما أطاع إبليس وشك بصدق قول الله له نزل إلى درك الخطيئة وأصبح بعيداً عن الله، لا يخاف الله ولا يريد أن يعود إليه تعالى فخرج من فردوسه، سعادته لأنه قد تمرّد على ربه.

 في أرض الشقاء ظهر الآباء والأنبياء أولئك الذين استطاعوا بتواضع ووداعة وصلاة مستمرة أن تدمغ أرواحهم مع الله تعالى أولئك الذين ثبتوا المواعيد كما يعلمنا الرسول بولس بعد أن سجل لنا جدولاً بأسمائهم وقال عنهم إنهم لم يروا المواعيد بالإيمان مات هؤلاء ولم يروا المواعيد ولكنهم نظروها من بعيد وأيقنوا أنهم كانوا غرباء على هذه الأرض، كان كل واحد منهم يدعو اسمه غريباً لأن هذا الغريب كانت روحه منسجمة مع السماء وكان يؤمن أنه ممثل السماء على الأرض فكراً وقولاً وعملاً ولذلك يحق لنا أن نصفه بأنه كان يسير مع الله.

أحد هؤلاء كان أخنوخ، أيام حياته على الأرض كانت أقل بكثير من أيام حياة معاصريه والذين سبقوه والذين تبعوه وعاقبوه ولكن تلك الحياة كان الإنسان فيها ينسجم مع السماء ليكون كما يصفه ويصف أمثاله الكتاب المقدس أبناء لله أولاد الله يقول عنهم السفر المقدس لأنهم أصبحوا مكملين شريعة الله أما أبناء البشر الذين تمرغوا في الخطايا الذين لم يطيعوا شريعة الله التي وضعها الله في الإنسان، قايين الذي قتل أخاه هابيل، أولئك كانوا يضطربون خوفاً ورعدةً من أمام وجه الله لأنهم كانوا أعداءً لله فدعوا بأبناء البشر أبناء الله كانوا ينتظرون الموعد لم ينالوا ذلك الموعد ولكنهم حتى عندما ماتوا، ماتوا على رجاء مجيء المسيح يسوع مخلص العالم وبإيمان لأن المخلص يعيدهم إلى حياة البر إلى فردوس النعيم ليكونوا سائرين مع الله حقاً مسبحين إياه ليل نهار.

أخنوخ كانت حياته على الأرض قصيرة والحياة إن طالت أو كانت قصيرة هي شقية جداً ومليئة أتعاباً كما يقول الكتاب ولكنها ثمينة كثيراً أيضاً لأنها الفترة التي تقرر مصير الإنسان، فالذي يكون سائراً مع الله يؤمن بالأبدية ويؤمن بما أنه إذا غادر هذه الحياة وهو متلاحم مع روح ربه سيكون في فردوس النعيم يتنعم هناك كما تنعّم أولاً الإنسان الأول.

أيُّها الأحبّاء: قيل عن يوسف أيضاً إنه كان مع الله، هذا لا يعني أنّك إذا كنت مع الله ستحيا على الأرض بهناء دنيوي. كلاّ، خاصةً نحن الذين نلنا الخلاص بربنا يسوع المسيح الذي فدانا بدمه، كان لنا مثالاً في الحياة، كم تحمّل من التعييرات والانتقادات، حتّى الشتائم. كم تحمّل من الإنسان الظّالم. ولكنه وهو مثالنا أخذ كل ما لنا ما عدا الخطيئة، جُرِّب كسائر البشر وتحمّل ذلك ليكون لنا مثالاً في الآلام والعذاب حتّى الصليب، أطاع حتّى الموت موت الصليب. هذا يعني وهو مثالنا للحياة كمؤمنين به، أننا في هذه الحياة لا نرى هناءً وراحةً إنّما ننتظر السّعادة الأبديّة وحياتنا الثمينة على الأرض تقرّر تلك السّعادة. نحن سعداء لأننا نحيا بالمسيح ولئن كنّا قد خُلقنا معه كما يقول الرسول بولس: لنحيا لا نحن، بل المسيح يحيا فينا. حينذاك إذا كانت حياتنا للمسيح والمسيح يحيا فينا يعني أننا نسير مع الله. ما أسعدنا أيها الأحبّاء أننا لا نسير فقط مع الله، بل أن الله يسير معنا، يقودنا، كما موسى الحكيم طلب من الرب وهو يقود الشّعب إلى الخلاص من عبوديّة مصر، يطلب منه أن يسير وجه الله أمامه لكي يخرج من أرض العبوديّة، وإلاّ فيضلّ الطريق ولا يستطيع أن ينال الخلاص هو وشعبه، ونحن أيضاً لا نستطيع الخلاص بدون أن يسير الله أمامنا، بدون أن نجعل الله في فكرنا وأقوالنا وأفعالنا منسجماً معنا وسائراً معنا. ما أسعدنا أيّها الأحبّاء لأن مخلّصنا يُدعَى عمانوئيل، هذه الكلمة بلغة مسيحنا السريانيّة تعني الله معنا. إذ سار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأنه عاش السّماء على الأرض واستحق أن لا يموت ويبقى حيّاً بإرادة الله وأن يصعد إلى السماء، وإذا كان يعقوب قد تاه في أرض الغربة وأعاده الله بنجاح ونصر مُبين وإذا كان يوسف وقد أذاقته العذاب فرقة إخوته، آخرون أيضاً يقولون عنه أنه الله أنجح طريقه لأنه سلك بموجب شريعة الله. فما أسعدنا نحن إن كنّا مؤمنين حقّاً بالرب يسوع، إن كُنَّا واثقين أن لنا صديقاً صدوقاً هو المسيح ربنا الذي دُعي عمانوئيل الله معنا. نعم، هذا لا يعني أننا لا نتعرّض بالتجارب العديدة والصّعبة جدّاً والضيقات، المصائب والشدائد، ففصل الإنجيل الذي تُلي على مسامعكم في بدء القداس رأينا فيه المسيح يسوع ربنا في السفينة مع تلاميذه قد نام في مؤخّرة السفينة وشعرنا بالأمواج العالية في البحر الصّافـي تتلاطم أمواجه تمتد تقريباً للسفينة الماء والرّيح قد عصفت بشدّة فائقة والسّفينة كادت أن تتمزّق والتلاميذ قلقون، لم يفكر أولئك التلاميذ أن المسيح معهم وهل يُعقَل أن تغرق السّفينة والمسيح فيها وذلك لقلّة إيمانهم أيقظوه حالاً: يا رب ألا تُبالي إننا نغرق. وجاءهم الجواب: يا قليلي الإيمان. نحن في سفينة هذه الحياة، وسفينة حياة كلٍّ منّا تتقاذفها أمواج المصائب والآلام والشّدائد والأحزان ونظن أننا هالكون وأن سفينة حياتنا ستتمزّق، ولكن علينا أن نكمل الكنيسة المقدّسة وهي سفينة الرب. أحياناً عديدة نراها تتعذّب كثيراً في خضمّ بحر هذا العالم، المسيح في وسطها. لماذا نكون قليلي الإيمان، المسيح في وسطها فلن تتزعزع أبداً. نعم، علينا أن نوقظه وهو يقظان دائماً لا ينام، ولكن نحن الذين لقلَّة إيماننا وقلّة ثقتنا بقدرة إلهنا نرتعد ونخاف. لا تخافوا يا قليلي الإيمان يقول لنا الرب، مهما اشتدَّت العاصفة ومهما كان البحر عاتياً فالمسيح ينقذنا بكلمة، يقول للبحر: اسكت، ابكم. العاصفة تهدأ حالاً وننسجم مع الرب، إن كنَّا منسجمين معه روحاً وقلباً وعقلاً. إن كنّا نسير بموجب شرائعه الإلهية، ولكن إن كنا تائهين عنه بأرض الغربة ننافس الخنازير في أكل الخرنوب علينا أن نعود إليه، سوف لا يسمعنا إلاّ في حالة واحدة، عندما نعزم أن نرجع إليه ونعود حالاَ لكي تهدأ العاصفة ولكي تهدأ نفوسنا حتّى أثناء العاصفة، لأننا نكون قد سِرنا مع الله. أحبائي. السير مع الله ليس هيّناً، السّير مع الله يتطلّب منّا صوماً وصلاةً وتوزيع صدقات. السير مع الله يتطلّب منّا أن نؤمن بشريعة الله وأن ننسجم مع تلك الشَّرائع والشروط ليحقّ لنا أن نقول: إننا نسير مع الله كما سار أخنوخ وسائر الآباء القديسين.

نسأله تعالى في أيام هذا الصوم الأربعيني المقدَّس أن نكرِّس أيامنا بالصّلاة الحارّة، أن نرجع إلى الله تائبين، أن تنسجم أرواحنا وأن نتناغم مع روح الله بالمواظبة على الصلاة، حينذاك نكون كأخنوخ وسائر الآباء القدِّيسين أولاداً لله ولدوا من فوق كمسيحيين من السّماء ويستحقّون أن يكونوا ممّن سيملكون ملكوته السّماوي، الحالة التي أتمنّاها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

الصلاة مع الصوم

الصلاة مع الصوم

«صالحة الصلاة مع الصوم والصدقة خير من ادّخار كنوز الذهب لأن الصدقة تنجي من الموت وتؤهِّل الإنسان لنوال الحياة والحياة الأبدية».                             

   (طوبيا12: 8ـ 9)

نادراً ما يسمع المؤمنون قصة طوبيا البار وهي مذكورة في الكتاب المقدس في سفر طوبيا أحد أسفار العهد القديم، وهو رواية شعبية كما يقول علماء الكتاب المقدس. فيها نرى كيف أن الإنسان البار ولو عاش غريباً عن بلاده مسبياً مضطهداً مرذولاً ولكنه بإمكانه أن يكون مع الله راضياً بما أراده الله له. نحن في سنة 733 ق.م وبنو إسرائيل قد حادوا عن عبادة الله وأشركوا في عبادته أصناماً عديدة، فسلّط الله عليهم شلمنصّر ملك آشور وحاصر شمال مملكة إسرائيل مدّة ثلاث سنوات واستولى عليها، ثم سبا سكانها إلى بلاده. وكان بين أولئك المسبيين إنسان بار تقي اسمه طوبيا سُبي مع الأشرار، تعذّب معهم ولكنه كان تقياً يخاف الله فنال حظوة لدى الملك، سمح له أن يتجوّل في المدن والقرى والدساكر وأن يتفقّد بني جلدته، قومه، شعبه مرشداً إياهم إلى تعاليم الكتاب المقدس ووصايا الله، يدعوهم إلى التوبة كي ينالوا الرحمة من ربنا في الوقت نفسه يصنع الخير، وإذ كان غنياً كان يوزّع الصدقات على الفقراء، بعد تلك الفترة الزمنية مات شلمنصر فقام سنحاريب وكان قاسي القلب شريراً يقتل المسبيين ولم يسمح أن تُرفَع جثثهم من الشوارع فكان طوبيا يخطف الجثث خفية ويضعها في داره ليدفنها ليلاً. كان إنساناً باراً سمح الله أن يدخل في تجارب، كما دخل أيوب الصدِّيق مثلاً في التجارب، هكذا جرى لطوبيّا، فَقَد بصره ولكنه كان دائماً متّكلاً على الله، افتقر، ساعدته امرأته فكانت تذهب للعمل لتحصل على القوت لها وله ولابنهما الذي كان اسمه أيضاً طوبيا. أعلم طوبيا الأب ابنه أن له ديناً على إنسان صديق يسكن في إحدى مدن الماديين فأعطى الصك لابنه ليستوفي هذا الدين. وخرج الابن يفتش عن رفيق الطريق فوجد شاباً قد شمّر عن ساعديه وهو متأهب للسفر، سأله أين وجهتك فعلم أنه في نفس الطريق التي يريد طوبيا أن يسلكها فقال له تعال إلى أبي لنسأل رضاه ووده ونغادر وهكذا كان، باركهما طوبيا وقال لهما ليكن ملاك الرب معكما. ذهبا وفي الطريق أراد أن يغسل قدميه في نهر دجلة فهجم عليه حوت، صرخ واستنجد قال له رفيقه: لا تخف اجلب الحوت إلى الساحل ففعل ما قاله له، أخرج من جوفه القلب والمرارة والكبد سينفعك وذلك لدواء تحتاجه بعدئذ وتقول الحادثة وهي حادثة تاريخية صحيحة وصادقة أن ذلك الإنسان ساعد طوبيّا كثيراً واسترجع الدين بعد أن كان رفيقه قد أرشده إلى مكان كان فيه إنسان يمت إلى طوبيا الأب بصلة. تزوج طوبيا الابن ابنته، ابنة ذلك الإنسان وعادوا جميعاً بمال كثير ثم استقبل طوبيا الأب ابنه بفرح وبإرشاد الرفيق استعمل الدواء الذي أخذه من الحوت القلب والمرارة لعلاج عمى طوبيا الأب فأبصر. وبعد أن أخبر الابن أباه بما فعله ذلك الرفيق الصادق الصديق الصدوق عرض الأب على الرفيق نصف المال، فقال له هذه العبارة: الصلاة الصالحة مع الصوم خير من ادخار كنوز الذهب قال له أنا الملاك روفائيل أرسلني الله إليك لأنقذك وليكافئك عمّا كنتَ تصنعه من صدقات وأعمال الرحمة، أنا الملاك الذي يقف أمام الله، أنا أحد الملائكة السبعة الواقفين أمام العزّة الإلهية كنتُ أرفع صلواتك النقية أمام العرش الإلهي كان لا بد أن تُجرّب لتنقى كالذهب لذلك أستودعك الآن وابنك استودعكما الله وغاب عنهما فجأة.

قول روفائيل الملاك يبقى دائماً عبرة، ليس فقط لشعب العهد القديم بل لنا أيضاً لأنه فيه يحدد أركان الديانة الثلاثة الصلاة والصوم والصدقة، كنا قد تكلّمنا سابقاً عن الصوم والصلاة ونحن دائماً في صلواتنا ما قاله مار أفرام وسائر آبائنا (أوم أوما دآبعين يوميًن وؤب لحمخ لاينا دكفين وألا بيوما شبع زبنيًن آيخ ديلفة من بر آيشي) صُم الصوم الأربعيني ووزع خبزك للجائع لمن هو جوعان للفقير للمسكين أعطِ الصدقات ليس فقط الصوم وصلِّ سبع مرات كما تعلّمت من ابن يسّى أي من داود النبي، فهذه هي أركان الديانة الثلاثة. لا يكفي الصوم بدون صلاة، لا تنفع الصلاة مع الصوم ما لم نقرن ذلك بالصدقة، وفي العهد القديم كان الله قد قال: أريد رحمة لا ذبيحة فالذبيحة التي كانت تقدم في الهيكل كان إنما تقدم على رجاء مجيء ذبيحة المسيح أي موته لأجل فداء البشرية وتستمد قوتها من تلك الذبيحة لأنها ترمز إليها، وبتقديمها كانت الخطايا تُمحى ولئن لم تكن لها قوة لمحو الخطية الأبوية ولكنها كانت تمحو الخطايا الشخصية التي يقترفها الإنسان، ولكننا نرى قول الملاك روفائيل وما جاء بأقوال الأنبياء أن الصدقة تمحو الخطايا وتنجي من الموت وتعطي الإنسان رحمة بل أيضاً الحياة الأبدية فهي إذن تعادل تلك الذبائح التي كانت تقدم في العهد القديم. قال الرب يريد رحمة لا ذبيحة أما في العهد الجديد والعهد الجديد عهد الرحمة، عهد الحنان عهد افتخار الرحمة على العدل لدى الله بالذات فالمسيح أُرسل من أبيه رحمة بنا نحن البشر والمسيح هو الذي أوصانا بالرحمة وهو الذي أعاد الكلام مؤكداً ما قاله في العهد القديم أريد رحمة لا ذبيحة طوبى للرحماء قال لنا لأنهم يُرحَمون، بل أيضاً عاش فقيراً على الأرض، كان يجمع الصدقات لكي يسد حاجته وحاجات رسله وتلاميذه والذين معه، ليس هذا فقط بل مما كان يجمعه من الصدقات يقدم صدقات للفقراء والمسيح علّمنا كيف تكون الصدقة ليست كل صدقة مقبولة لدى الله. الإنسان فطر على حب الذات، على الأنانية وسقط لكبريائه وتبقى خطية الكبرياء تراود ذهنه بين حين وآخر من حيث يدري أو لا يدري لذلك حتى عندما يقدم الصدقات تقف الكبرياء حاجزاً بين البر والخطية يريد أن يصنه براً لكن الكبرياء تجعله أن لا ينال أجراً لبره إذ ينقلب إلى خطيئة. هذا ما كان يفعله الكتبة والفريسيون وبعض أغنياء اليهود الذين كانوا يطبّلون ويزمّرون ويهتفون بالبوق عندما كانوا يقدمون صدقة إما في الهيكل أو لبعض الناس، فالمسيح دعاهم مرائين وعلّمنا أننا إذا ما قدمنا صدقة علينا أن لا نُعلم شمالنا ما فعلته يميننا أن نفعل ذلك في الخفاء وأبونا الذي يرى في الخفاء هو الذي يجازي علانية كما أن الرب يعتبر الصدقات وأعمال الرحمة دستوراً وقانوناً لمحاكمتنا في الدينونة، فيوم الدين سوف لا يسألنا الرب عمّا فعلناه من أعمال جبّارة ونشر بشارته الإنجيلية باجتراح المعجزات، سوف لا يسألنا عمّا قمنا به من تشييد كنائس ومؤسسات، إنما سيسألنا فقط إن كنّا قد عملنا أعمال الرحمة: كنتُ جوعاناً سيقول لنا فأطعمتموني، كنتُ عطشاناً فسقيتموني، كنتُ غريباً فآويتموني، كنتُ مريضاً فزرتموني، مسجوناً فأتيتم إلي، عرياناً فكسوتموني. متى رأيناك كذلك وفعلنا معك ذلك يقول لأنكم فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه. كل ما نفعله من خير لأولئك الفقراء نكون قد فعلناه مع المسيح، ألم يقل من سقى أحد هؤلاء الأطفال كأس ماء بارد باسمي فأجره عظيم، نأخذ أجراً عظيماً حتى كأس ماء إذا الصدقة التي نقدمها لا نقدمها لنفتخر بها، لا نقدمها لكي نظهر أمام الناس لا نقدمها ليمتدحنا الناس،لا نرضى بأن يرضى علينا الناس بأعمال الرحمة التي نفعلها يكون قد أنكرنا الله إن كنّا نرغب بإرضاء الناس في كل أعمالنا وخاصةً بالصدقات نكون قد أنكرنا الله وعبدنا البشر ورغبنا برضاهم ولكن إن أرضينا الله بكل أعمالنا وعملنا ما عملنا من أعمال الرحمة وتوزيع الصدقات باسم المسيح يسوع ربنا ولوجهه الكريم حينذاك تقبل هذه الصدقات وتكنز لنا كنوز في السماء وتشيد لنا المنازل في العلاء في يوم الدين لنرى أن الصلاة مع الصدقة أولاً مع الصوم ثم مع الصدقة. هذه الفضائل الثلاث، هذه الفروض الثلاثة التي هي أركان الدين لنرى أنها تثمر ثمراً عظيماً فتهب لنا الحياة بل ملكوت السموات مع المسيح يسوع ربنا الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته آمين.

تأمل عاقبتك أيها الإنسان

تأمل عاقبتك أيها الإنسان

قال الحكيم ابن سيراخ:

«تأمل عاقبتك أيها الإنسان فلا تخطئ»

 

في غمرة الحياة في الفترة الزمنية الواقعة بين مهد الإنسان ولحده، خواطر طارئة تطرأ على نفسه وروحه وعقله، أسئلة عويصة وصعبة جداً تجابهه، فإذا أجاب عنها من عندياته خبط عشواء وهبط في وهدة الكبرياء بل أيضاً سقط في الكفر والإلحاد وحاد عن جادة الحق، أما إذا التجأ إلى الوحي الإلهي المدون في أسفار الكتاب المقدس وتعاليم الآباء القديسين فإنه يجد ضالته المنشودة وينال الخلاص، إذ أنه يرى في تلك الأسئلة سبيلاً إلى المعرفة الإلهية، توحيها السماء للإنسان ليتأمل في عواقبه فيخلص ولا يهلك. الإنسان يرى في كل يوم مواقف الموت تسير تطرأ، موكب يعقب موكب وموكب يسبق الآخر، ويتأمل الإنسان هذا كان صديقاً لي والآخر من أقاربي والثالث كان أبي أو أمي، كيف خطفهم الموت واستولت عليهم المنايا…؟ الجواب لهذا السؤال الصعب يكون بلجوء المؤمن إلى الكتاب المقدس فيرى أن السماء قد أوحت إلينا أنه قد وضع للإنسان أن يموت مرة وبعد ذلك الدينونة وما هو الموت يا ترى؟ هل هو نهاية حياة الإنسان؟ الحكيم سليمان يوضح في سفر الجامعة شارحاً الموت معرفاً إياه موضحاً أن جسد الإنسان يعود إلى التراب كما كان أما الروح فترجع إلى الله خالقها، إذن الإنسان جسد وروح لئن مات الإنسان بالجسد فروحه خالدة والمسيح شجعنا أن نعلن الإيمان به ولا نخاف ممن بإمكانه أن يقتل الجسد ولكنه لا يستطيع أن يقتل الروح، إذن نرى هذه المواكب تسير، في كل يوم إنسان يحمل إنسان ليواريه التراب، لا ترعبنا أبداً ونعلم أن نهاية ذلك الإنسان هي نهاية الجسد فقط لا الروح، لذلك إذا كان ذلك الإنسان قد أنتبه بحياته أن يهيئ لعاقبته عاقبة نهاية الإنسان حينذاك نقول أنه حي بروحه وأن روحه في السماء إن كان مؤمناً بالمسيح حي مع المسيح ربنا في فردوس النعيم مع اللص اليميني الذي وعده الرب عندما رأى إيمانه وتوبته وعودته إلى إلهه وطلبه أن يكون في ملكوت الرب أن يذكر الله وعده ليكون معه في الفردوس فيقول له اليوم تكون معي في الفردوس. إذن عاقبة الموت لا ترعبنا أبداً نحن الذين نؤمن بالمسيح يسوع ولكن الذي يرعبنا هو الدينونة، وضع للناس أن يموتوا أولاً يقول الرسول بولس وبعد ذلك الدينونة ولا دينونة على المؤمنين بالمسيح الذين يسلكون بحسب شريعته وناموسه، الذين يحملون صليبه ويتبعونه في طريق الجلجلة، لا دينونة على هؤلاء. انظر وتأمل عواقبك أيها الإنسان قبل أن تأتي الدينونة لقد وعدنا المخلص الذي جاء من السماء الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس وتجسد وأتمّ تدبيره الإلهي بالجسد وخلصنا وبررنا وقدسنا وأهلنا لنولد من السماء ميلاداً ثانياً لنكون أولاداً لله بالنعمة وغادرنا إلى السماء ليهيئ لنا منازل وفي بيت أبيه منازل كثيرة كما قال لنا عندما صعد إلى السماء بعد موته وقيامته، وإعلان الحقائق الإلهية لتلاميذه عندما رفع يديه في جبل الزيتون وباركهم وانفرد عنهم وصعد إلى السماء، كانوا ناظرين إليه، سحابة أخذته وغيّبته عن عيونهم واستمروا ناظرين إليه إذا برجال بثياب بيضاء، ملاك أو ملاكين وقد يكونون أكثر يبشرون أيضاً أولئك الرسل الأطهار الذين قد لبسوا ثياب الجليليين لأنهم كانوا جليليين. ما بالكم أيها الرجال الجليليون تتطلعون إلى السماء قالوا لهم، إن يسوع هذا الذي صعد إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه صاعداً إلى السماء، سجد الرسل للرب الإله، الإله المتجسد الذي أتم الفداء والملاكان يتأملان بهم، وعادَ الملاكان إلى موضعهما وعاد الرسل إلى أورشليم فرحين لأن الرب قد وعدهم وبُشروا من السماء أن الرب سيعود ثانية، بتعاليمه لهم نبههم أن ينتبهوا ويستيقظوا وأن يسهروا لأنهم لا يعلمون متى يأتي الرب، وعندما طلبوا إليه أن يخبرهم عن زمن مجيئه الثاني ومنتهى الدهر أعلن لهم حسب مفهومهم أنه لا يعرف أحد الساعة ولا اليوم، الابن يعرف كل شيء ولكن معرفته لهذا الأمر هي معرفة كتمان لا إعلان، يقول لا أحد يعرف إلا الآب وعندما سألوا عن مجيئه ومنتهى الدهر، يعني ذلك عندما سيأتي سينتهي الدهر ستلتهب الأرض كما بنار نجوم، السماء تتساقط وحتى قوات السماء تسقط، يعلن صوت الرب فيقوم الموتى الذين في القبور وتتحد أرواحهم بأجسادهم ويخطفون معه إن كانوا أبراراً، إن كانوا صالحين يقومون قيامة الصالحين، قيامة الحياة، وطبعاً الأشرار يقومون قيامة الموت، ومعنى ذلك ليس الموت الجسدي إنما هو الموت الأدبي الذي سيكون نتيجة وعاقبة له الموت الأبدي.

هذا ما يعلمنا إياه الكتاب المقدس أيها الأحباء إن المسيح سيأتي والرسول بولس والكنيسة بإكليروسها وشعبها كانت تقف على أصابع أقدام الانتظار تتطلع إلى السماء متى يأتي الرب، بولس كان يظن أن الرب سيأتي وبولس في الحياة، لذلك يقول أما نحن الأحياء فنخطف معه في الجو. الكنيسة منذ بدئها، عندما كان كهنتها يحتفلون بالقداس الإلهي، ونحن نفعل ذلك اليوم وإلى الأبد، يذكرون وعد الرب ويعترف الشماس هو يعلن أننا نذكر موتك يا رب ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك الثاني فارحمنا. في مجيء الرب ثانية تصير الدينونة، النفوس الطاهرة التي تكون معه في الفردوس ستتحد مع أجسادها أيضاً وتستحق أن تخطف معه في الجو لتتبع موكبه الإلهي موكب النصر والظفر والغلبة في الموكب سوف لا يستقبل في أورشليم الأرضية كما استقبل يوم الشعانين واحتفلنا بذلك بنعمة الله صباح هذا اليوم ولا يهتف له الأطفال والرضع أوشعنا، لأنه قد خلَّص، أوشعنا يا رب خلِّص، فقد خلَّص وانتصر وثيابه صارت حمراء كالدم لأنه خاض معارك روحية فاستحق أن يدخل السماء إلى أورشليم السماوية المدينة الإلهية المهيأة له ليستوي على عرشه الإلهي وحوله الملائكة وأرواح القديسين، بل أيضاً القديسون الذين ستتحد أرواحهم بأجسادهم الروحية على شبه قيامة المسيح وجسده الإلهي بعد قيامته وقد ظهر أيضاً في التجلي أمام تلاميذه، اذكر عاقبتك أيها الإنسان هذه العاقبة السعيدة هذه النهاية التي لكل مؤمن ولكن لا تأتي بسهولة ولا عبثاً، تحتاج إلى جهاد مرير إلى تمسك بالإيمان إلى السعي للتحلي بالفضائل السامية ليستحق الإنسان أن يكون مع المسيح ليتأمل الرسول بولس وهو يقول لنا جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان، ويقول أنه قد حُفظ له إكليل البر الذي يهبه الرب الديّان العادل ليس لبولس فقط، بولس يقول لكل من ينتظر ويذوق ويشتاق إلى مجيء المسيح.

إن صاحب الرؤيا يقول لنا عن المسيح الرب: يسوع المسيح سيأتي مع السحاب وتنظره كل عين. وقبل أن يختم رؤياه يناجي الرب: تعالى أيها الرب يسوع. يريده أن يأتي لأنه لا يزال ساهراً وينتظر مجيء الرب ليكافئه. الإنجيل المقدس الذي تُلي على مسامعكم هو الفصل الذي عينه آباؤنا القديسون لهذه المناسبة المقدسة التي نذكر فيها المجيء الثاني، الفصل الذي يذكر العذارى الخمس الحكيمات والخمس الجاهلات ولا عبرة بالعدد ولكنهن يمثلن الأبرار والأشرار في آن واحد، ليس من خارج الكنيسة بل من داخلها من الذين آمنوا بالرب يسوع وانتظروا مجيئه ولكن هذا الإيمان الصوري لم يقترن بالحكمة التي هي ترجمة الشريعة عملياً في الأفعال الصالحة فالإيمان بدون أعمال ميت. أولئك العذارى سرنا في هذه الحياة الدنيا وضحينا كثيراً ولكن الحكيمات ونتمنى أن تكون الحكيمات وهن يمثلن الأبرار والصالحين من أبناء الكنيسة المؤمنين بالمسيح يسوع، أن يكون ترتيبهم للأغلبية الساحقة من المؤمنين، والجاهلات يمثلن الأقلية الضئيلة جداً من هؤلاء الذين لم يكن لهم نصيب اكتساب الحكمة الإلهية بأعمال الرحمة والمحبة والتسامح والغفران بالتضحية بكل ما هو غريب عن المسيح لكي تستحق تلك العذارى وكل الذين يتمثلون بالعذارى الحكيمات، أن يدخلوا ملكوت السموات.

في الدورة التي سنقوم بها بعد الانتهاء من كلامنا ستطفأ الأضواء والشموع بأيدينا تدل على تمسكنا بنور المسيح الذي يهدينا إلى الطريق المستقيم الذي يؤهلنا أن نكون مع العذارى الحكيمات وفي طلبنا في الصلاة إلى الرب أن يرحمنا ويغفر لنا ويؤهلنا لنكون مع الأبرار والصالحين في ملكوت السموات، كل هذا يدل على أننا نرغب أن نكون ساهرين مع المسيح لا بالسكر والبطر وأعمال الجسد والتمرغ في الشهوات ولكن في الصلاة والصوم وتوزيع الصدقات ليستحق كل واحد منا أن يطلب إلى الرب في الصلاة الربية قائلين ليأت ملكوتك، ننتظر هذا الملكوت السماوي وننتظر مجيئه إلينا وإذا أبطأ مجيئه على الأقل نستعد نحن للقائه فكل واحد من البشر معرض للموت ونهاية الموت معروفة إما أن نكون مع الأبرار والصالحين أو لا سمح الله مع الأشرار الظالمين، فلنتب أحبائي ونستحق للقاء ربنا في كل الأوضاع لأن الرب آتٍ ولنتأمل بالتحية التي كان آباؤنا القديسون يحيون بعضهم بعضاً بها قائلين (مارات آثا) بلغتنا السريانية المقدسة الرب آتٍ. أهلنا الرب جميعاً أحبائي أن نكون معه ومع البتولات الحكيمات عند مجيئه الثاني لنرث الملكوت السماوي بنعمته… آمين.

المجيء الثاني للرب

المجيء الثاني للرب

المجيء الثاني للرب يسوع

«الحق أقول لكم أنهم سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت الله أما بنو الملكوت فيُطرَدون إلى الظلمة الخارجيّة».                                  

   (متى8: 11ـ 12)

ما أرهب هذا الكلام، ما أصعب أن يقع على آذان ذلك الشّعب المغرور الذي كان يظن بأنه قد اختير من الله على حساب رفض الأمم كافةً، وأنه باعتباره من أبناء إبراهيم فهو من أبناء ملكوت الله. الرب يراهم أنهم قد تركوا أعمال إبراهيم وبّخهم بأنهم من أب هو إبليس وأعمال أبيهم وإرادة أبيهم يكمِّلون، لأن أعمالهم كانت شريرة لذلك سيُرفَضون من الملكوت، الذين لا يؤمنون بأنه قد أتى لخلاصهم، الذين لا يؤمنون بنبوّات أنبيائهم التي تمّت فيه بحذافيرها. الذين لم يقبلوا ملكوته على الأرض يُرفَضون من ملكوته في السماء، وعقيدة الملكوت التي نادى بها المسيح يسوع هي محور الدائرة في عقائد المسيحية كافةً، وقد علّمنا الرب شارحاً معنى ملكوته فملكوته ليس له موقع جغرافـي، إنما هو حالة نراها عند أناس أصبحوا أعضاء حيّة في هذا الملكوت. لذلك سمعنا الرب يقول لنا: قد اقترب منكم ملكوت الله بعد أن يحثّنا على التوبة: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، ونسمع الكتاب يقول لنا: ملكوت الله في داخلكم، والرسول بولس يبشّرنا قائلاً: لقد دعاكم إلى ملكوته، فقد دعانا المسيح إلى ملكوته إلى هذه الحالة الروحيّة إلى أن نصير أبناءً لله بالنعمة، إلى أن نعيّن مختارين من السّماء لنكون سفراء للسماء على الأرض. هذه حالة الملكوت التي مثّلها الرب بحبّة الخردل التي هي أصغر كل الحبوب، ولكنها إذا نَمَتْ أصبحت كشجرة تأتي طيور السّماء وتستظل تحت أغصانها بل ملكوت الله كشبكة تُطرَح في البحر فتصطاد أسماكاً عديدة مختلفة ومتنوّعة كبيرة وصغيرة، جيّدة ورديئة. هذا هو ملكوت الله الذي تمثله الكنيسة المقدسة، فالمسيح أسّس كنيسته على الأرض ملكوتاً له يمثّل الملكوت في السّماوات وزرع به الزّرع الجيّد، ولكن أتى عدوّ وزرع إلى جانب الحنطة الجيدة زؤاناً فنمت الحنطة الجيّدة وإلى جانبها الزؤان، وكلاء الرب قالوا له: أتريدنا أن ننقّي الحنطة، قال لهم: دعوهما ينموان معاً إلى يوم الحصاد ففي كنيسة الله هناك الصالحون من أبناء الملكوت وهناك بعض الذين دُعي اسمهم مسيحيين ولكنهم بعيدون عن روح المسيحية الحقّة كما كان بنو إسرائيل، قال لأولئك: سيؤخَذ ملكوت الله منكم ويُعطى لمن يعطون أثمارهم. نحن في ملكوت الله على الأرض في الكنيسة المقدّسة دُعينا، ولكننا وقد لبّينا لأن آباءنا قد ولدوا في هذه الكنيسة وصادف أن وُلدنا نحن أيضاً فيها.

 لماذا أقول صادف؟.

شاء الله أن نولد نحن فيها، أُعطينا هذه النّعمة، هذه الفرصة الذهبيّة لنكون من أبناء الملكوت، سُمِّينا مسيحيين والاسم جيّد جدّاً باسم المسيح يسوع، بل لاسمه تجثوا كلّ ركبة ما في السّماء وما على الأرض وما تحت الأرض، باسمه صنع الرسل المعجزات، حتّى الذين كانوا غرباء عنهم اجترحوا آيات باسمه، وقال الرب: لا تمنعوهم. عندما عاد الرسل من رحلة تبشيريّة وكانوا فرحين، قالوا للرب: حتّى الشياطين خضعت لنا باسمك، الرب يقول لهم: لا تفرحوا بهذا بل افرحوا بالحري لأن أسماءكم مكتوبة في السّماء. اسمه قد وُضِع علينا، إن كنّا نجثو لاسمه كالصالحين سنرى أن أسماءنا تُكتَب في السّماء، ولكن هل يكفي الاسم أيها الأحباء. اسم الرب عظيم لكن لا يكفي أن ندعى مسيحيين باسم ربّنا. يوم دُعي أجدادنا في أنطاكية مسيحيين كما يذكر سفر أعمال الرسل إنّما استحقّوا هذا الاسم لأنهم كانوا مسحاء صغاراً، كل واحد وكل واحدة كانوا يمثّلون المسيح بسيرتهم، اختلفوا عن الناس بصدقهم، باستقامتهم لا في الكنيسة فقط، بصلواتهم بل أيضاً في أعمالهم ودورهم مثّلوا المسيح بكل أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم بذلك سمّوا مسيحيين. كذلك إن كنّا نؤمن ونحن نؤمن بالمسيح ضمن الكنيسة المقدسة ونؤمن أن المسيح قد جاء لخلاصنا وهذا ضروري للخلاص، يجب أن نؤمن وإلاّ فنحن غرباء عن المسيح، ولكن حتّى الإيمان لا ينقذنا من الابتعاد عن ينبوع المسيح بالذات، من نزع الملكوت منّا إن كان إيماننا بدون أعمال، لأن الإيمان بدون أعمال ميت يقول الرسول يعقوب، بل أيضاً إن الأبالسة تؤمن وتقشعرّ، لا تؤمن فقط بل أيضاً ترتعب من اسم الرب لأنها تؤمن بإلهنا وتعرف أكثر منّا قوّة هذا الإله العظيم. فالإيمان إذن بدون أعمال ميت، فإن كنّا نريد أن نكون سنابل تحمل حنطةً جيّدة في حقل إلهنا لا زؤاناً فعلينا أن نقرن إيماننا بأعمال صالحة ليرى الناس هذه الأعمال ويمجّدوا أبانا الذي في السماوات. عندما دُعينا إلى ملكوته بعضنا لبّى الدعوة حالاً، وبعضنا اتّكل على الاسم واتّكل على الانتساب إلى الكنيسة واتّكل على ما يقوم به من فروض، هذه الفروض التي هي ضروريّة جدّاً لخلاصنا أيضاً، ولكن على أن تُقتَرن بالأعمال الصّالحة أيضاً. عندما دُعينا بعضنا لم يلبّ الدعوة. الرب ضرب لنا مثل الأعذار اعتبر أن إنساناً ملكاً قد أولم وليمةً لابنه ودعا الناس إلى هذه الوليمة، وفي ساعة الوليمة أرسل من يكرّر عليهم الدّعوة ويؤكّدها، فاعتذر أحدهم بأنه قد اشترى حقلاً ولابدّ أن يخرج لينظره، والآخر بأنه قد اشترى خمسة فدادين بقر ولابدّ أن يجرّبها، والآخر بأنه قد تزوّج امرأة. هذه الأعذار دائماً موجودة لدينا، كل وحد له عذر لا يستطيع أن يأتي إلى وليمة الحمل السّماوي المسيح يسوع، إلى وليمة القداس الإلهي ليتنعّم مع إخوته ومع هذا الرجل الذي دُعي ملكاً، مع الآب السّماوي وهو يقدّم ابنه الحبيب وليمة إلهية لغذائنا الروحي. نعتذر بأمور مادّية والأعذار واهية، فالذي اشترى حقلاً لابدّ أنه خرج ونظره قبل أن يشتريه ونحن أذكياء جدّاً في التجارة لأننا نميل إلى الأرضيّات كثيراً، والذي اشترى فدادين البقر لابدّ أنه قد جرّبها قبل أن يشتريها وماذا ينفعه أن يجرّبها بعد أن دفع الثّمن، والذي تزوّج بامرأة عليه ألاّ يسعى لخلاص نفسه فقط، بل لخلاص امرأته، لا أن يكون زواجه بامرأة سبب هلاك له ولها معاً وسبب خسارة كبيرة لملكوت ربّنا. أعذارنا كثيرة أيّها الأحبّاء بابتعادنا عمّا نحتاجه من نِعَم سماوية لا ننالها إلاّ إذا كنّا نلبّي دعوة الرب، فعلى الأرض نحن بحاجة ماسّة أن نكون في عِداد أبناء ملكوت الله الذي هو الكنيسة المقدّسة على هذه الأرض، لكي هذا الملكوت يهيّئنا ويعد لنا جواز سفر للملكوت السّماوي. يعدّنا كالبتولات لنكون بانتظار مجيء ربّنا ثانيةً، فالرب قد جاء أوّلاً لخلاصنا وأتمّ تدبير الخلاص بالجسد وصعد إلى السماء، ونحن مع الرسل ما نزال نتطلّع إلى السّماء ونسمع صوت الملاكَين يقولان لهم ولنا: إن يسوع هذا الذي غادركم إلى السماء سيأتي هكذا. ونقرأ الكتاب المقدس لنرى في سفر الرؤيا كيف أن الرسول يوحنا يقول لنا: سيأتي على السّحاب وتنظره كل عين. صباحاً في ذكرى دخوله إلى أورشليم رأيناه وديعاً متواضعاً عادلاً منصوراً راكباً على جحش ابن أتان، دخل إلى مدينته المقدّسة وبكى عليها أيضاً، والآن ونحن ننتظر مجيئه الثاني سنراه آتياً على سحاب السّماء، على السّحاب الإلهي، سنرى علامته الصليب المقدّس في السماء، حينذاك نشعر بأن مجده مجدٌ إلهي

لا يزول ولا يحول وأنه سيأتي بمجد عظيم. في مجيئه الأوّل جاء متواضعاً وقدّم نفسه عنّا وفدانا بدمه الكريم، أما في مجيئه الثاني فسيأتي للدينونة، لدينونة العالمين. نحن في الكنيسة قد دُعينا لنكون أعضاء حيّة في ملكوت الله على الأرض، ولكن في الوقت نفسه ننتظر مجيئه الثاني.

نرى أيضاً فئتَين من الناس: الكلّ يؤمن، الكل دُعي باسم المسيح، الكل يسهر وينتظر. بتولاتٌ عشر، خمس حكيمات وخمس جاهلات كلهنّ ينتظرن المسيح يسوع، ولكن الحكيمات امتازت عن الجاهلات لأنهن أخذن زيتاً في آنيتهن إلى جانب سروجهن. جاء العريس، جاء فجأةً وسيأتي فجأةً، قال لنا أنه عندما سيأتي، سيأتي كالبرق الذي يأتي من الشرق ويظهر في الغرب، سيأتي في ساعة لا نعلمها، العديد من الناس حتّى في هذه الأيام يحدّدون وقتاً لمجيئه ولكنهم قد ضلّوا ويضلّون الآخرين، المسيح يسوع سيأتي ويوصينا: اسهروا لأنكم لا تعلمون متى يأتي الرب لأنه لو عرف ربّ البيت في أيّة ساعة يأتي السّارق لسهر ولم يدع بيته يُنقَب فكونوا أنتم مستعدّين. النبي عاموس يقول لكل واحد منّا استعدّ للقاء إلهك، نُعدّ الآنية مليئة بزيت الأعمال إلى جانب السُّرج المملوءة زيتاً والمضاءة. نُعدّ ذلك أيها الأحبّاء لكي إذا ما جاء المسيح لا نحتاج أن نسأل الآخرين: أعطنا زيتاً لأن سرجنا تنطفئ، لا نستطيع أن نبتاع زيتاً، لا نستطيع أن نهيّئ استحقاقات كما ندعوها فاستحقاقاتنا تظهر على هذه الأرض طالما في أنفنا نسمة حياة.

فلنستعدّ كالعذارى الحكيمات لكي وقد دُعينا إلى ملكوته في الأرض أن نستحق أن نرث ملكوته في السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

لقاء روحي

لقاء روحي

لقاء روحي مع الشباب

رسالتي إليكم في هذه الأمسية أيها الأحباء هي أن تشعروا بأننا عائلة واحدة، ننتمي إلى كنيسة مقدسة عريقة في المجد، ونحن جميعاً أولاد القديسين والشهداء، وعلينا إن كنّا نرغب في أن نكرّم كنيستنا أن نكرّم بقيّة الكنائس، وعلينا وقد احتضنتنا سويسرا بمحبة الأم الرؤوم أن نخلص لهذه البلاد وأن نكون مواطنين صادقين في أفكارنا وفي أقوالنا وأعمالنا، وكما نهتم برباط العائلة السريانية الأرثوذكسية لكنيستنا المقدسة بمحبة تامة وطاعة للرؤساء الروحيين ومحبة للمؤمنين كافة كذلك علينا أن نمارس هذه المحبة ضمن كل عائلة من عائلاتنا، إن رباط الزواج المسيحي مقدس جداً والاحترام متبادل بين المرأة والرجل ضروري لحفظ هذا الرباط نقيّاً صالحاً، ومحبة الأولاد والاعتناء بهم لينشؤوا نشأة مسيحية أيضاً ضروري للعائلة المباركة المسيحية. عندما يفقد الإنسان مسيحيته أول شرّ يفعله هو الخيانة، يخون امرأته، والمرأة تخون زوجها، لذلك المسيحية الحقيقية تريدنا أن نكون مخلصين بعضنا لبعض بأمانة تامة، إن رباط الزواج مقدس وتقوم بعقده الكنيسة المسيحية باسم المسيح ويباركه المسيح الذي بارك عرس قانا الجليل، المسيح الذي كرر الوصيّة الإلهية بقوله: «الذي جمعه اللّه لا يفرقه إنسان» (مت 19: 6) هذا الرباط لا تقوم به الكنيسة كشاهد بل كممثلة للمسيح بالذات، لذلك على المرأة أن تطيع زوجها وعلى الرجل أن يحب زوجته وعلى الزوجين أن يحبّا أولادهما. قد تختلف الطبائع والأخلاق وقد يحدث سوء تفاهم بين الزوجين في بدء الزواج خاصة، لكن المحبة تغفر، المحبة تصطبر أيضاً، لذلك نحتاج إلى المحبة والمحبة هي اللّه، إذا غادر المسيح قلب الإنسان سيطر عليه إبليس، وتأتي التجارب من إبليس لكي ينقسم البيت على ذاته والبيت المنقسم على ذاته يخرب كما علّمنا الرب يسوع. لتملك المحبة قلوبكم أيها الأحباء، لتثبت الألفة بين المرأة والرجل وبينهما وبين أولادهما، ليكن نكران الذات والتضحية في سبيل تربية الأولاد شاهداً على صدق مسيحيتنا، بذلك فقط تكون عائلاتنا مقدسة وتتمثل بالعائلة المقدسة بالعفة والطهر والنقاء مقتديةً بيوسف البار بالعذراء مريم بربنا يسوع المسيح منذ ولادته بالجسد وحتى مغادرته هذا العالم بالجسد ليمكث أيضاً ليس في السماء بل على الأرض ومع جميعنا.

إن محبتنا لأولادنا تدفعنا لنرشدهم إلى سبيل التقوى ومخافة اللّه، بمحبة يطيعنا أولادنا لأنهم يعرفون أن هذه المحبة هي من اللّه، بمحبة أيها الأحباء يثبت رباط الزواج بين المرأة والرجل، إن الرب قد أوصى أبوينا الأولين قائلاً: «انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها» (تك ا: 28) نحن السريان دائماً كنّا أمينين بحفظ وصايا الرب، فيجب أن نحافظ على أولادنا منذ ساعة تكوينهم في بطون أمهاتهم، بعضكم مع غاية الأسف يتعدون هذه الوصية ويقتلون الجنين في بطن أمه هذا ما نسميه الإجهاض، والإجهاض خطيئة كبيرة لأن من واجب الوالدين أن يصونوا أطفالهم منذ ساعة تكوين الطفل في بطن أمه، بعضكم يعتبر أن الحياة صعبة ولا يمكن تربية الأولاد، هذه قلّة إيمان، لأن الذي يدبّر الأمهات والآباء هو اللّه وحده وهو يدبر الأولاد أيضاً، ونحن بحاجة ماسة إلى أولاد يعبدون اللّه بالروح والحق، وإلى الوالدين الذين يؤمنون بأن اللّه هو الذي يخلق وهو الذي يدبّر ويرعى.

بارك اللّه بالآباء والأمهات الذين يؤمنون أن المسيح يسوع هو مع كنيسته العائلة الواحدة الكبيرة ومع كل عائلة مؤمنة في كنيسته، ويرزقكم الرب الإله أولاداً صالحين، ليكونوا خير شهود للرب بإيمانهم وأعمالهم، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

هل تعرف يسوع المصلوب؟

هل تعرف يسوع المصلوب؟

هل تعرف يسوع المصلوب؟

«لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً».                                  

  (1كو2: 2)

يحدد الرسول بولس في هذه الآية المقدسة علاقته بالرب يسوع المسيح المصلوب ومعرفته إياه معرفة مميزة، كما يلخص لنا أيضاً ضمناً عقيدة الفداء الإلهي الذي أتمه الرب يسوع على الصليب، فيختار من بين الصفات التي أطلقت على الرب ووظائفه التي قام بها في تدبيره الإلهي بالجسد، صفة (المصلوب). ويعرض الرسول بولس ذلك بأسلوبه البديع بل السهل الممتنع، ليوصل هذه الرسالة السامية إلى قلوب الناس وأذهانهم كي يستوعبوها ويفهموها جيداً ويتقبلوها بإيمانٍ فتنمو وتعطي الثمار اليانعة. وبهذا الصدد يخاطب الكورنثيين برسالته التي أرسلها إليهم قائلاً: «وأنا لما أتيت أيها الأخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة منادياً لكم بل ببرهان الروح والقوة. لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله» (1 كو 1:2 و4 و5). كما يعتبر «حكمة هذا العالم جهالة عند الله» (1 كو 19:3). فالإنسان لا يقوى على أن يدرك الحقائق الإيمانية، ولا يقدر أن يعرف الرب يسوع الإله المتجسد، الذي فدانا بصليبه المقدس، ما لم يعطَ له من السماء. كما يقول الرسول بولس: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع ربٌ إلا بالروح القدس» (1 كو 3:12).

كما إنه بقوة الروح يسلم بما توحيه السماء ويقبل عقيدتي التجسد والفداء اللتين يلخصهما الإنجيل المقدس بقوله: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3). أما طريقة البذل، فقد عينها الله أن تكون على الصليب، والبذل هو تضحية ونكران ذات بل هو موت، موت يسوع المسيح الذي قال عنه الرسول بولس: «إنه أطاع حتى الموت موت الصليب» (في 8:2). وبموته على الصليب منحنا الحياة وكفّر عن خطايانا وجددنا إذ برَّرنا وقدسنا وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليُبطل جسد الخطيئة كي لا نعود نستعبد بعد للخطية» (رو 6:6). وبذلك يكون إنساننا العتيق الذي شوَّهت الخطيئة صورته، قد مات، وعادت إلينا الصورة الإلهية فنعيش كأناس جدد يحيا فيهم المسيح ويحيون في المسيح، هذا ما عنى به الرسول بقوله: «مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 20:2). وقوله أيضاً «احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطيئة ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا» (رو 11:6).

هذه هي إرادة الرب يسوع أن يكرر حياته على الأرض في كل مؤمن ومؤمنة، إذ يحيا في الإنسان. والرسول بولس خير مثال لهؤلاء المؤمنين، فبعد أن سبر غور معنى الصليب، وعرف سر فلسفته الروحية، تلاشت في ذهنه عثرة الصليب التي كانت عقبة كأداء حالت دون تفهُّمه عقيدة الفداء، فكتب إلى أهل غلاطية قائلاً: «المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة» (غل 13:3). فبعد أن كانت علامة الصليب علامة عار، صارت راية المسيحية المقدسة، وموضع الاعتزاز والافتخار، مما دعا الرسول بولس ليقول: «أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم» (غل 14:6).

هكذا عرف الرسول بولس المسيح يسوع على حقيقته فبعد أن كان عدواً له ولأتباعه، يوم كان قد أساء فهمه، وجهل هويته، فقتل العديد من أتباعه وهو يظن إنه بذلك «يقدم خدمة لله» (يو 2:16)، ولكن عندما ظهر له الرب يسوع في طريق دمشق (اع 1:9 ـ 20). آمن بالمسيح واعتمد، وصار أحد رسله البارزين، وتمَّ فيه ما قاله الرب يسوع عنه «لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل» (اع 15:9). هكذا حمل بولس بشارة الإنجيل، إنجيل الخلاص: المرادف في معناه ومغزاه لمفهوم الصليب، هذه البشارة، حملها مار بولس إلى الأمم والملوك وبني إسرائيل، ونادى بالمسيح مصلوباً، بل قدَّم مُهجتَه على مذبح محبة المسيح فاستشهد وهو يشهد للحق. ولو عاش حتى اليوم لما حاد قيد أنملة عن المناداة برسالة الصليب، ولسمعناه نحن كما سمعه الملايين يقول لنا ما قاله لأهل كورنثوس: «لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً» (1 كو 2:2). فبئس ما يفعله العديد منا بتحويلهم إنجيل المسيح أي رسالة الصليب إلى مجرَّد تعاليم اجتماعية، حائدين بذلك عن جادة الحق ومبتعدين عن ينبوع الخلاص الذي تمَّ بصلب المسيح، ناسين أو متناسين ما قاله الرسول بولس: «ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن اناثيما» (غل 8:1). ما أسعدنا أن نعرف يسوع المسيح المصلوب من أجل خلاصنا، معرفة حقيقية سليمة خالية من كل شائبة. وليس هذا فقط بل طوبى لنا لأننا قد آمنّا به دون أن نراه بالعين المجردة، وإنما قد رأيناه بعين الإيمان، فآمنَّا إنه عمانوئيل: الله معنا، وإنه يحضر بيننا وفي وسطنا كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة منا باسمه (مت 20:18)، ليرشدنا إلى الحق لأنه هو الطريق والحق (يو 6:14)، وليهبنا الحياة به لأنه هو القيامة والحياة وواهب الحياة الأبدية (يو 25:11).

لقد عرفنا المسيح معلماً صالحاً وجلسنا إلى إنجيله المقدس نتأمل بعظته على الجبل التي صحح فيها مفاهيم أهل العالم ومقاييسهم الخاطئة في الحياة الروحية، فبعد أن كانوا يعتبرون التواضع ذلاً والوداعة ضعفاً تعلموا منه إنهما فضيلتان سماويتان اتصف بهما العظماء الروحيون كموسى، بل إن الرب يسوع لما أراد أن يترك لتلاميذه وصية أخيرة أوصاهم أن يحبوا بعضهم بعضاً وأن يقتدوا به ويتعلموا منه: لأنه وديع ومتواضع القلب فيجدوا راحة لنفوسهم (مت 29:11). وإذ دعا إلى المحبة الصادقة والود الصافي، أرادنا أن نحب الله من كل قلبنا وكل فكرنا وكل إرادتنا وأن نحب قريبنا كنفسنا. وأرادنا أن نقتدي بالله تعالى الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين (مت 45:5). أي أن نحب أعداءنا أيضاً وألا نفرق بين لغة ولغة، ومذهب ومذهب، وذكر وأنثى. كما أرسى القاعدة الذهبية في كيفية معاملة الإنسان لأخيه الإنسان قائلاً: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم» (مت 12:7).

وعرفنا يسوع الناصري القدوس مشرّعاً، وضع أساس شريعة الكمال الإنجيلي التي هي ناموس الرحمة فهو يريد رحمة لا ذبيحة وهو يرحم الخاطئ والعائد إليه تائباً ويستقبله فرحاً كما استقبل الأب ابنه الضال (لو 20:15). ويعلمنا أنه يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب (لو 10:15). ومن باب فضيلة الرحمة، يعلمنا التضحية ونكران الذات في سبيل عضد الآخرين، وهذا مثل السامري الصالح (لو 30:10 ـ 37) الذي ضربه فحطم به أصنام العنصرية والأنانية والتمسك بالحرف دون معرفة قوة الشريعة ورسم لنا صورة الكاهن واللاويّ اللذين ظنا في قرارة نفسيهما أنهما قد تبررا بممارسة طقوس لم تكن لها قوة، فلم يعيرا آذانهما لاستغاثة الساقط بين اللصوص ولم يسعفاه وقد نسيا أو تناسيا قول الرب: «أريد رحمة لا ذبيحة» (هو 6:6 ومت 13:9). وبمثله هذا يظهر لنا الرب أيضاً السامري الصالح الغريب الجنس والمذهب والذي كان يعد عدواً للساقط بين اللصوص يظهره لنا إنساناً مثالياً محباً شجاعاً، تخطى كل عقبة، غير آبه بما قد يصادفه من خطر، وأسعف الساقط بين اللصوص وحمله على دابته وأخذه إلى فندق واعتنى به، وبذلك أنكر ذاته وصار عنوان التضحية. وبدراسة هذا المثل، نرى أن ما قام به السامري الصالح جعله رمزاً إلى الرب يسوع السامري الصالح، الذي جاء من السماء، وأنقذ جنسنا البشري من إبليس اللعين عدو الإنسان، وعرفنا يسوع المسيح كما يعرفه كل منصف عادل عاقل، ولو كان غريباً عن الكنيسة المسيحية، عرفناه جميعنا معصوماً من الخطأ. وأن المعجزات الباهرات التي اجترحها، برهنت على صدق رسالته السماوية، ومن أهم هذه المعجزات، إقامة الموتى، ولاسيَّما إقامته نفسه من بين الأموات بسلطته الإلهية الذاتية، بعد ثلاثة أيام من موته على الصليب ودفن جسده الطاهر في القبر الجديد. كما أن معجزاته هذه برهنت على صدق مطاليبه الإلهية بأنه ابن الله، وهو والآب واحد، ومن رآه فقد رأى الآب، وأنه مخلص العالم وبإرادته قدّم نفسه فدية عن البشرية. كما أن قيامته من بين الأموات أكدت على أن الله الآب قد قبل ذبيحته الإلهية بتقديم نفسه فدية عن البشرية، وأنه هو هو ابنه الوحيد الحبيب، الذي به سرّ، وعلينا أن نسمع له ونطيعه كما ظهر ذلك من شهادة الآب أمام الجمهور بعد عماد الرب يسوع في الأردن على يد يوحنا (لو 22:3). ومن شهادته تعالى في الجبل عندما تجلّى الرب يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه وظهر معه موسى وإيليا (لو 28:9 ـ 36). عرفنا كل هذا عن الرب يسوع وعرفنا أموراً أخرى سماوية سامية ولكن الرسول بولس يعلمنا أن أهم ما يجب أن نعرفه عن المسيح يسوع هو صلبه وموته لافتداء البشرية، فالرسول بولس يُنبّر على رسالة الخلاص التي إنما تجسد ابن الله ليؤديها كما صرَّح له المجد بأنه لهذا قد أتى إلى العالم أي ليموت على الخشبة وليهبنا نعمة المصالحة مع أبيه السماوي فنلنا بذلك الانعتاق من سلطان الخطيئة، والتخلص من نيرها الثقيل فتبررنا وتقدسنا وصرنا أبناء الله بالنعمة.

لم يكن أداء رسالة الفداء عملاً هيناً. وكانت الطريق التي اختارها الله الآب ليسلكها ابنه الوحيد، صعبة جداً، ولكن الابن سلم إرادته بيد أبيه وتحمل صنوف العذاب بحمله صليب العار، لأنه قبل بإرادته أن ينوب عن البشرية الخاطئة وتحمل الأوجاع التي لا تطاق عندما سمّر جسده على الخشبة، ورفع الصليب فوق الجلجلة مع ضجيج أعدائه وسخريتهم. كان المشهد أكثر هولاً مما تتصوره البشرية، بل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم ولن يكون له شبيه أبداً لأن المعلق على الصليب هو قدوس القديسين وابن العلي ـ كما دعاه الملاك وهو يبشر العذراء مريم بالحبَل به ـ ولذلك سلّم نفسه لأعدائه بإرادته كما كان قد تنبأ عن ذلك، وكمَّل رسالته على الأرض برفع خطايا البشرية كلها مسمّراً إيَّاها على عود الصليب، واستودع نفسه بيد أبيه السماوي ومات، وأمات الموت بموته، وانتصر على إبليس، وغلب الخطية، ولم يفارق لاهوته لا نفسه ولا جسده لحظة واحدة، ودفن جسده الطاهر في القبر الجديد، ونزل إلى الهاوية وهدم بذلك أركانها، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث حياً ظافراً منتصراً. فتمَّ بذلك ما قاله الوحي الإلهي: «ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية» (1 كو 54:15 ـ 55 وهو 14:13).

«يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء» (رو 33:11) فإن يسوع المسيح المصلوب الذي حكم عليه بالموت اليهود والرومان، حوَّل قلوب الرومان واليهود فآمنوا به إذ عرفوه معرفة حقيقية على أنه الإله المتجسد الذي فدى البشرية بموته على الصليب وبقيامته من بين الأموات. وهكذا حملوا بشارة الخلاص هذه إلى أنحاء العالم قائلين مع الرسول بولس: «أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً شكاً لليهود وجهالة للأمم أما للمدعوين من اليهود واليونانيين، فالمسيح قوة الله وحكمة الله» (1 كو 23:1 ـ 24) هللويا! آمين.

أعياد ومناسبات خاصة بقداسته

أعياد ومناسبات خاصة بقداسته

مواعظ وخطابات ألقيت في

أعياد ومناسبات خاصة بقداسته

خطاب التنصيب التاريخي

أصحاب الغبطة والنيافة والمعالي والسيادة، أيا عباد الله

قال السيد المسيح لرسله الأطهار:«كما أرسلني الأب أرسلكم أنا».

محبة بالبشرية أرسل الإله الآب ابنه الحبيب إلى العالم ليخلص العالم، وتميزت رسالته الإلهية بالتضحية ونكران الذات فجال بين الناس يصنع خيراً. وقال عن نفسه:«أن ابن الإنسان لم يأتٍ ليُخدَمَ بل ليخدُمَ وليبذلَ نفسه فديةً عن كثيرين» (مت20: 28). وفي ميدان الخدمة والتضحية ونكران الذات أطاع أباه حتى الموت موت الصليب فاستحق أن يقوم ممجداً من القبر في اليوم الثالث بل أن يجلس عن يمين العظمة كان قد اختار له من يحمل رسالته الإلهية إلى العالم وأرسلهم إلى القرى والدساكر فعادوا إليه فرحين قائلين حتى الشياطين تخضع لنا باسمك، أجابهم قائلاً:«افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات» (لو20:10)، فالأرض ميدان جهادهم وتعبهم وآلامهم أمّا مكافأتهم ففي السماء، وبعد قيامته أعلن لهم يسوع وللعالم قائلاً:«دُفع إليَّ كُلّ سلطان ما في السماء وعلى الأرض»(مت 28: 18)، «فاذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها»(مر16: 15)، هنا أعطاهم سلطان التعليم والتبرير والتقديس، وجلببهم بعدئذ بقوة الروح القدس ليكون الروح لهم معلماً ومرشداً ومعزياً في آن واحد، فدخلوا من الباب الضيق، وسلكوا الطريق الصعبة، وحملوا صليبه إتماماً لوصيته، بل صلبوا ذواتهم معه وقالوا قول الرسول بولس:«مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيحُ يحيا فيَّ» (غل 2: 20).

بهذه الروح روح نكران الذات أنار الرسل الأطهار دياجير العالم بنور المسيح ولا غرو فنكران الذات روح تجعل الإنسان أن يفرح في خدمة أخيه الإنسان تماماً كما فعل المسيح يسوع يوم انحنى وغسل أقدام تلاميذه وقال لهم:«وأكبركم يكون خادماً لكم فمن يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع» (مت 23: 12)، ولا غرو إذ رأينا الرسل الأطهار يتمثلون بسيدهم فحسب التلميذ أن يكون كمعلمه والرسول كمرسله، ولا غرو إذ رأينا التلاميذ يخضعون العالم بتعاليم المسيح فيجعلون من التواضع صفة سامية بعد أن كانت مرذولة من الناس ولا غرو إن رأينا الرسل يؤسسون الكنيسة على أساس الإيمان بالمسيح يسوع معلمهم وإلههم وربهم، بحسب عقيدتنا المسيحية السمحة لأن أساس الكنيسة رأس الزاوية فيها هو المسيح ولذلك حيث أن المسيح وعد الرسل أن تبقى الكنيسة إلى الأبد وهو باق إلى الأبد فهو الكاهن الأعظم الذي جاء على رتبة ملكي صادق وهو الذي وعد أن يكون مع رسله إلى انقضاء الدهر ففي كل جيل يختار الرب من يرى فيه تلميذاً صالحاً ليقوم بخدمة مذبحه المقدس.

وفي كل جيل نرى الرسالة الإلهية يحملها أناس كرسوا نفوسهم لله وهذه الرسالة إنما يأخذونها من السماء مباشرة فيوم كان الرسل في أنطاكية سمعوا صوت الرب يقول لهم: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي اخترتهما له فصاموا وصلوا ووضعوا عليهم الأيدي (أع 13: 2)، وكذلك في كل جيل ينادي الروح أن يُفرز أُناسٌ لخدمة الرب لأن هذه الوظيفة لا يأخذها الإنسان من نفسه إنما يأخذها من السماء بوساطة أناس لهم سلطان شرعي من السماء ليضعوا الأيدي ويمنحوا هذه الرسامة.

ولذلك أيها السامعون الكرام نقرأ في كتاب الله العزيز قول الرسول بولس:«لأن كل رئس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما لله لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا… ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضاً» (عب 5: 1و4).

ويوم وجد النظام الإلهي لتدبير الكنيسة اتضحت مكانة ذوي الدرجات الكهنوتية الثلاث: الأسقفية والقسوسية والشماسية، وأعلن أسقف المدينة الرئيسة كرئيس لأخوته ودعي بالمتروبوليت وعن طريق المجامع الإقليمية والمسكونية حددت سلطة الكراسي الرسولية الكبرى، وأعطي لها السلطان بحدود حددتها المجامع ودعي أسقفها بأواسط القرن الخامس للميلاد بالبطريرك أي أب الآباء أو رئيس الآباء وكانت أنطاكية عاصمة سورية القديمة والعاصمة الثالثة في الإمبراطورية الرومانية ذات أهمية كبرى وكان الكرسي الأنطاكي قد أسسه الرسول بطرس كما يذكر ذلك المؤرخون الثقات، ولذلك كانت مكانته سامية، وكان البطريرك الأنطاكي ذا سلطان روحي على بلاد الشام وفلسطين وما بين النهرين العليا والسفلى وبلاد فارس وحتى الهند بعدئذ.

والبطريرك الأنطاكي كان أباً للمسيحيين في تلك المنطقة يطيعونه في الأمور الروحية ويذكرون أسمه في الصلوات صباح مساء، وهو رئيس المجمع المقدس أيضاً. والبطريرك الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي اليوم هو رئيس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في جميع أنحاء العالم وهو أبو السريان حيثما وجد السريان في المسكونة، وقد اختارني الرب منذ نعومة أظفاري لخدمته تعالى ودعاني فلبيت الدعوة فترهبنت لخلاص نفسي، وتمطرنت لخدمة أبرشيتي، وفي خدمتي في أبرشيتي كان همي كل همي الإنسان وخلاص الإنسان، فكنت أفضّل تعليم المؤمنين الصغار الصلاة الربانية على كتابة مجلّد في الفلسفة أو اللاهوت، لأن المهمة الأولى للراعي أن يرعى الخراف كما أوصى الرب بطرس قائلاً:«ارع خرافي، ارع نعاجي، ارع كباشي، اتبعني» (يو21: 17). أي اقتدِ بي.

وكما أوصى الرسول بولس كهنة أفسس قائلاً:«احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه»(أع 20: 28).

وقبل أكثر من شهرين اختارني الله ودعاني لأكون بطريركاً على أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، فانتخبني آباء المجمع المقدّس بالإجماع، فلهم مني جزيل الشكر ولهم مني المحبة العميقة وفي مقدمتهم شيخ المطارنة وعميدهم نيافة الحبر الجليل مار اسطاثيوس قرياقس مطران الجزيرة والفرات والقائم مقام البطريركي الذي اشتهر بحكمته السامية وبتدبيره وحسن إدارته وصالح سيرته ونقاء سريرته، وقد دبّر الكرسي الرسولي في أثناء شغوره للمرة الثانية بحكمة سامية أطال الله بقاءه ووفّقه في خدمة خراف الرب.

وإنني وبموقفي هذا يجدر بي أيها الأحباء بعد أن أعلنت صورة إيماني بالسريانية أن أعلن ذلك أمامكم بلغة الضاد معاهداً الله ومعاهداً آباء الكنيسة الأجلاء على أن أتمسّك بالإيمان المستقيم الرأي ولا أحيد عنه قيد شعرة وأن أحافظ على قوانين الرسل والمجامع المسكونية الثلاثة مجمع نيقية وقسطنطينية وأفسس والمجامع الإقليمية والعامة التي تعترف بها كنيستي المقدّسة وأن أحافظ على السيرة الصالحة التي تليق برئيس الكنيسة الأعلى.

أجل لقد اختارني الله لهذه الرتبة السامية بدون استحقاق، وانتخبني آباء المجمع المقدّس، وبايعني الشعب السرياني المبارك في جميع أنحاء العالم مظهراً بهجته وارتياحه بهذا الانتخاب ولا غرو من ذلك فأنا أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني وشاءت العناية الربانية أن أزور هذا الشعب المبارك في الوطن والمهجر. لقد زرت السريان في جميع أنحاء العالم وعرفتهم جيداً وعرفت فيهم شعباً أصيلاً نبيلاً محباً لله محباً للقريب، يخلص الود لوطنه، مجتهداً، دؤوباً. رأيت فيه شعباً يتمسّك بكنيسته ورجالات كنيسته، ويعمل في سبيل ازدهارها وتقدّمها. فما أسعدني أيها الأحباء أن أكون أباً روحياً عاماً للشعب السرياني المبارك، وهذا الشعب أيها الأحباء قد سن آباؤه قوانين عبر الدهور والأجيال وأعطوه مكانته في الكنيسة فمنه المجالس الملية واللجان الاستشارية والجمعيات الخيرية والثقافية، وغير ذلك من المؤسسات الكنسية الاجتماعية والروحية، والمرأة كالرجل في كنيسة الله لذلك فالرسول بولس يوصينا قائلاً: ليس ذكر ولا أنثى الجميع واحد في المسيح.

ويروق لي وأنا بموقفي هذا أن أناشد الشعب السرياني ليتعاون معي، ومع أحبار الكنيسة الأجلاء. فالكنيسة السريانية كنيسة مجمعية والبطريرك هو عضو في المجمع ولئن كان رئيساً للمجمع. والمجمع المقدس هو المسؤول بالدرجة الأولى عن إدارة الكنيسة ولذلك عندما أناشد الشعب ليتعاون معي إنّما أناشده ليتعاون مع كهنته ومطارنته أولاً، ثم يتعاون عن طريقهم مع بطريرك الكنيسة. وإنني أعاهد آباء المجمع أن أعيد إلى المجمع ديموقراطيته، فنحن كنيسة ذات سمة تقليدية سامية، والتقليد يربط كنيستنا بالإنجيل والرسل ولذلك بحسب التقليد المجمع هو رئيس الكنيسة ورئيس الكنيسة والمجمع هو البطريرك ولكنه ليس فوق المجمع بل في المجمع ومع أعضاء المجمع.

إنني أناشد شباب الكنيسة أيضاً ليتعاونوا معنا ويكرّسوا أنفسهم لخدمة هياكل الرب لأن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده. إننا بحاجة ماسة إلى رهبان مثقّفين فالأديرة التي كانت في الماضي السحيق مهبط العلم والمعرفة ومأوى النساك والرهبان والراهبات الفاضلات هي اليوم بأمس الحاجة إلى شباب الكنيسة.

ومعهد مار أفرام الكهنوتي اللاهوتي الذي هو قلب الأمة النابض تكاد دقّاته تصمت وهو بحاجة إلى شباب يكرّسون أنفسهم ليفرزوا لخدمة الله رهباناً وكهنة ليتسلّموا القيادة في الكنيسة.

أيها الأحباء:

إننا كنيسة تقليدية كما قلت، ولا يرهب الشباب من ذلك فنحن بحاجة إلى تجديد، ولا يعني بالتجديد أن تبتعد الكنيسة عن رسالتها في التوبة إنما التجديد ينصبّ على الوسائل التي نقدّم فيها المسيح يسوع كما تسلّمناه بالتقليد الصحيح إلى الإنسان، إنسان اليوم. وهذا لا يقدر أن يفعله إلا الشباب لذلك نحن بحاجة ماسّة إليهم، وإننا أيضاً ككنيسة تقليدية نرى في لغتنا السريانية المقدّسة علامة وحدة الكنيسة الجامعة في جميع أنحاء العالم، فملايين السريان يرفعون صلواتهم صباح مساء باللغة السريانية المقدسة ومئات الآلاف منهم السريانية لغتهم الأم، ولذلك علينا أن نهتم بتراثنا الثمين ونشر هذا التراث الذي يعلن لنا تاريخنا الحقيقي ويثبت صحة عقيدتنا السمحة وإنني أيضاً بموقفي هذا أيها السامعون الكرام لابد أن أعلن بأن الكنيسة قد هيأتني لا لخدمتها فقط بل هيأتني لأخدم كل إنسان يحتاج إلى خدمة، لأن قريب المسيحي هو كل من يحتاج إلى خدمة المسيحي بحسب تعليم الرب والمحبة هي التي تدفعنا إلى الخدمة، المحبة هي التي تجعلنا أن نرى في الإنسان أخاً لنا مهما كان غريباً عنا، والكنيسة التي تجمعنا كسريان تجعلني أنا كأب للسريان لا أميز بين قومية وقومية أو لغة ولغة، أو بين بلد وبلد بل أرى فيهم أولاداً للكنيسة المقدسة.

وإنني لابد أن أذكر أيها السامعون الكرام أن القرن العشرين في المصطلح الكنسي اليوم هو قرن المسكونية وأعني ذلك أن الكنيسة المسيحية شعرت بنفسها بالخطية التي اقترفها بعض الآباء ونقترفها كلنا في هذه الأيام خطية الانقسام، فالوحدة المسيحية هي التي طلبها الرب من أبيه السماوي أن يكون الجميع واحداً، فشكراً لله وشكراً للكنيسة التي هيأتني فكراً وعملاً لأنشد الوحدة المسيحية، فكنت يوماً مراقباً رسمياً في مجمع الفاتيكان الثاني واشتركت في مؤتمرات لاهوتية مسكونية عديدة بين الفرق الأرثوذكسية وبين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية وحتى يوم انتخابي بطريركاً كنت عضواً في اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي، وإنني متفائل جداً بالتقارب الأرثوذكسي أولاً حيث أننا اكتشفنا أن لا فرق بيننا أبداً وأن عقيدتنا الإيمانية هي عقيدة واحدة مستقيمة الرأي، كما أنني متفائل بالنسبة إلى الوحدة والتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية وسائر الكنائس عن طريق مجلس الكنائس العالمي.

نحن في وطننا العربي الكبير مسيحيين كنا أو مسلمين أبناء وطن واحد فالدين لله والوطن للجميع، ومنذ الفتح العربي يوم حرر العرب أرضهم من الأجنبي سفك الدم المسيحي والدم المسلم في وقت واحد، وامتزج الدمّان فسجل الدم النقي الزكي الأبدي عهداً أبدياً، عهد المحبة والتعاون بين المسيحيين والمسلمين، وأن دماءنا اليوم مستعدة أن تسفك في سبيل تحرير فلسطيننا المقدسة واستعادة قدسنا العربية الحبيبة محط آمال المسيحيين والمسلمين في آن واحد.

وأنني من هذا المنبر المقدس أحيي الجنود البواسل الرابضين على الحدود يذودون عن حياض الوطن، وأسأل الله أن يسجل بواسطتهم لنا النصر المبين في الوقت القريب.

ويطيب لي أيها السامعون الكرام أن أحيي السيد الرئيس حافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية بشخص ممثله سيادة الوزير الدكتور عبد الكريم علي مقدماً له واجب الشكر والامتنان والإكرام على التفاتته الكريمة، سائلاً الله أن يحفظه ومعاونيه الكرام وأن يفيض على سورية العزيزة أرضاً وشعباً بركات سماوية.

وأن أحيي فخامة الرئيس إلياس سركيس رئيس الجمهورية اللبنانية بشخص ممثله معالي الوزير ميشيل المر، متمنياً للبنان الجريح النازف دماً منذ بضع سنوات أن يندمل جرحه وأن يعيد الله إليه عافيته وأن يجعل صفوفه موحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

ونحيي سيادة رئيس مجلس الوزراء في الجمهورية العربية السورية الدكتور عبد الرؤوف الكسم بشخص ممثله سيادة الوزير أنور حمادي.

ويطيب لي أيها السامعون الكرام أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى أصحاب الغبطة البطاركة الأجلاء الذين باركونا في هذا اليوم بتمنياتهم الصادقة وصلواتهم المستجابة أدامهم الرب.

كما أشكر أصحاب القداسة والغبطة بأشخاص ممثليهم أصحاب النيافة والسيادة أيضاً رؤساء الطوائف المسيحية، وأشكر أصحاب المعالي والسيادة الوزراء المحترمين ورؤساء البعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية، ورؤساء المؤسسات الرسمية والشعبية، وكل من شرفنا في هذا اليوم مشتركاً معنا في هذه الحفلة المباركة ليباركه الرب ويحفظه.

وقبل الختام أهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى أبناء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وبناتها في العالم أجمع ولا سيما أولئك الذين تجشموا عناء السفر وجاؤوا إلى دمشق الفيحاء من الأقطار العربية وتركية وأوربا والأمريكتين والهند وأستراليا ومن كل مكان في العالم ليباركهم الرب والنعمة تشملكم دائماً أبداً آمين.


حفلـة تسلّمـه شهـادة الدكتـوراه

مـن المعهــد الكهنــوتي العــام في نيويــورك

أصحـاب النيافــة والسيـادة:

أيها الحفل الكريــم:

أودّ في مستهل كلمتي أن أحيي كل من سعى لحصولي على المنحة الدراسية لإتمام دراساتي العليا في هذا المعهد اللاّهوتي الزاهر بين سنتي 1960 ـ 1962. لقد كنتُ أول طالب من كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية من الشرق الأوسط، يتخرّج في هذا المعهد. والحق يُقال إنني لم أشعر أبداً طوال المدة التي قضيتها هنا بأن هنالك أي عامل غير ملائم ليؤثّر عليّ عقائدياً، لذلك، لا أتردد الآن أبداً، في إرسال طلاّب لإكمال دراساتهم الدينية العليا في هذا المعهد إذا اقتضت الحاجة.

أيها الحفل الكريم:

تعود بي الذاكرة وأنا بموقفي هذا، إلى أيام الدراسة في هذا المعهد، وتبرز أمامي أمور ثلاثة:

أولاً: تقييم أساتذتي ومرشديّ، وفي مقدّمتهم عميد المعهد السابق الأب روز، فقد كانوا جميعاً على مستوى المسؤولية الروحية والعلمية. وذكّروني بملافنة السريان الأفذاذ بأخلاقهم السامية وعلمهم الغزير.

ثانيـاً: الوقت الثمين الذي قضيته في كنيسة المعهد حيث كنتُ أختلي بربي كل يوم، في جوّ هادئ صافٍ وأشعر بأن الله الذي اختارني من بطن أمي وأفرزني منذ نعومة أظفاري لخدمته تعالى، يحوطني بعنايته، ويرمقني بعين رعايته، وكان وعده المدوّن في سفر أشعيا (49: 15ـ16) هو وعد إلهي لضعفي، فالرب يقول لي: «هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها، حتّى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك هوذا على كفي نقشتك». حقاً لقد نقشني الله على كفه كالوشم، وذلّل ما اعترض سبيلي من العقبات، بل حوّلها إلى مراقٍ رفعني عليها إلى أسنى المراتب الروحية، بدون استحقاق.

ثالثـاً: الوقت الطيب الذي كنتُ أقضيه مع زملائي الأعزّاء في الصف وفي حرم المعهد، فاكتسبتُ خبرة روحية، وتعلّمتُ من أغلبهم أموراً عديدة. لا غرو فإن القرار الشخصي الذي يتّخذه المسيحي بالدخول من الباب الضيّق والسلوك في الطريق الصعبة هو أمر مهم حاسم، يضعه في عهد مع الله يسعى لحفظه بينه وبين ربه. ولكنه حالما يتّخذ هذا القرار ويحمل صليب الرب يسوع ويتبعه، لا يمكنه أن يحيا وحده، بل عليه أن يكون متفاعلاً مع مجتمعه مشاركاً حاملي صليب الرب خبرتهم الروحية وخدمتهم للإنسان، وهذه الشركة ضرورية جداً للخلاص إذ لا يمكن أن يصعد المسيحي إلى السماء بطائرة ذات مقعد واحد. فإذا كنت مفرزاً من الله يجب أن تكون لك شركة بالإيمان مع المفرزين من الله أيضاً. لقد كانت لي هذه الشركة مع زملائي الطلبة في هذا المعهد.

أيهـا الحفـل الكـريم:

لابدّ لي في هذه المناسبة السعيدة أن أستعرض باختصار ما للكنيسة السريانية الأرثوذكسية التي أتشرّف بأن أكون في موقع القيادة بين خدّامها، ما لها من أفضال على العالم المسيحي في ميادين الثقافة والدراسات اللاّهوتية والفلسفية وغيرها. فقد طارت لمدارسها اللاّهوتية شهرة واسعة عبر الأجيال، وخاصة في القرون الرابع وحتّى التاسع للميلاد والثاني عشر والثالث عشر، وقد ظهر للسريان في هذه الفترات الزمنية علماء أفذاذ عنوا بالعلوم والآداب والفلسفة واللاّهوت، ولم يكتفوا بنتاج قرائحهم بل انفتحوا على العالم الذي يحيط بهم ونقلوا إلى السريانية ما طاب لهم من ثمار المعرفة لدى اليونان وغيرهم، وخلفوا آثاراً علمية وأدبية ولاهوتية وفلسفية تُعَد مفخرة التاريخ. ومن المدارس السريانية اللاّهوتية الشهيرة في تلك الحقب، مدرسة الرها التي أسسها ملوك الرها الأباجرة السريان منذ القرن الثاني للميلاد، وأدخلت على مناهجها في القرن الخامس تعليم اللغة اليونانية والفلسفة المشائية. ومدرسة نصيبين التي أسسها سنة 325م أسقفها مار يعقوب. وعلّم فيها القديس مار أفرام السرياني. ومدرسة قنشرين التي أسسها يوحنا بن أفتونيا (ت 538) على ضفة الفرات اليسرى تجاه جرابلس وغيرها من المدارس التي تخرّج فيها علماء أفذاذ بالإضافة إلى المدارس العديدة التي أسسها السريان في القرى والمدن والأديرة وقد بلغ عددها في القرن الخامس في ما بين النهرين فقط نحو خمسين مدرسة تدرس فيها العلوم بالسريانية واليونانية، وكانت تتبع هذه المدارس مكتبات مهمة غنية. ولكن الدهر قسا على الكنيسة السريانية كثيراً حتّى قيل إن وجودها إلى اليوم يُعَد أعجوبة لكثرة ما عانت من ضيق عبر الأجيال. ولكنها اليوم، والحمد للّه، تتقدّم وتزدهر في سائر الميادين الروحية والعلمية والاجتماعية، ناسجة على منوال السلف الصالح، ولها ثلاث مدارس كهنوتية في لبنان وتركيا والهند يتخرّج فيها اكليروسها. وهي مهتمة بتراث آبائها الثمين، محافظة على التقليد الشريف، ساعيةً نحو التجديد، أي تقديم العقيدة السمحة الثابتة غير المتزعزعة وغير المتغيّرة بلغة العصر لإنسان العصر بواسائله الحديثة، مجتهدة لإيصال هذا التراث النفيس إلى الأجيال القادمة. ومما يجدر ذكره أن تقليدنا السرياني يمتاز عن التقليدين اليوناني واللاّتيني بقربه من الإنجيل المقدس، فقد نما في التربة ذاتها التي نما فيها الإنجيل المقدس وقد توافرت له الأجواء الروحية ذاتها، فهو غني جداً لاهوتيّاً وطقسيّاً وروحيّاً.

والطقس السرياني يجسّد قدسية العقيدة الدينية كما يفهمها السريان. وتتجلّى فيه رهبة الخالق جلّ جلاله. حيث يتملّك قلب الإنسان الشعور الذي استحوذ قلب إشعيا النبي لما رأى مجد الله تعالى فقال: «ويل لي إني هلكتُ لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود» (أش 6: 5) هكذا يساعد الطقس السرياني الإنسان على كشف ذاته ومعرفتها ومقارنة ضعفه البشري بعظمة الخالق، ثم يحضّه الطقس على التوبة لنيل المغفرة بل ليتقدس ويتنقى كما جرى للنبي أشعيا الجمرة التي التقطها الملاك من على المذبح ولمس بها شفتي النبي أشعيا وقال له قد طهرت.

والكنيسة السريانية في طلبها شفاعة أحد القديسين، إنما تفعل ذلك من باب تقديسها الإله الذي اختار هذا الإنسان ورضي عنه، فهي مثلاً تتشفع بالعذراء مريم وتطوبها، وتكرّمها، من خلال تقديسها للرب يسوع المسيح الإله المتجسد الذي ولدته العذراء مريم، وللدور الذي قامت به العذراء في سر التجسد. وتدعو العذراء والدة الإله مؤكّدة ألوهة السيد المسيح الذي ولد منها بالجسد فالطفل الذي ولدته مريم هو إله حقيقي، وهذا ما يوضّح الظاهرة الخاصة لدينا نحن السريان بتصوير السيدة العذراء مع طفلها. فقلّما تجد صورة لها وحدها بدون طفلها الإلهي في تراثنا السرياني.

هذه لمحات سريعة خاطفة من الدراسات اللاّهوتية التي تسلمناها من آبائنا الميامين أولئك الذين أغنوا المكتبة المسيحية في هذا الميدان نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، مار أفرام السرياني (373+) ومار يعقوب السروجي (521+) ومار آحو دامه البلدي (575+) ومار فيلكسينوس المنبجي (523+) ومار سويريوس الأنطاكي (538+) ومار يعقوب الرهاوي (708+) ومار غريغوريوس ابن العبري (1276+) وغيرهم..

ويحق لنا أن نفخر بكوننا الورثة الشرعيين لأولئك الآباء الميامين والمؤتمنين على الحفاظ على التراث الأنطاكي السرياني الأصيل، هذا التراث الذي نعتبره كنزاً لا يثمّن ولئن احتوته اليوم آنية خزفية بسيطة، فإن ذلك لا يقلل من نفاسته ولا ينقص شيئاً من مجده، وإن هذا التراث الثمين لم يحفظ لدينا كما تحفظ القطع القديمة في قاعات العرض في المتاحف العالمية، ولكنه ينمو باستمرار، فهو حي ويبعث في نفوسنا النشاط ويدفعنا إلى أمام. وهو الشاهد الصادق على ما لآبائنا من أفضال على العالم المسيحي في مضمار العلوم اللاّهوتية والروحية والفلسفية وغيرها.

إن العودة إلى التراث مهمة جداً وإن التمسّك بالتقاليد الرسولية والأبوية يعيد إلى الكنيسة التوازن الوظيفي وحالة الاستقرار الروحي ويخلّصها من الفوضى والاضطراب والخلل، الأمور التي أحدثها الدهر في جسمها السري المقدس. فقد امتاز عصرنا هذا من الناحية الدينية بحالة اللاّتوازن في الدراسات اللاّهوتية وانسلّ خلسة إلى العقائد المسيحية السامية، تعاليم غريبة عنها وخرج لنا بعضهم ببدعة لاهوت القرن العشرين بل القرن الحادي والعشرين. وبنزعة بل بنزوة نقد نصوص الكتاب المقدس باسم البحث العلمي، والواقع هو التمسّك بالحرف، والحرف يقتل، وأخذ جانب الشكليّات دون فهم الروح، الأمر الذي أبعد الإنسان عن ينابيع الحقائق الإلهية الصافية ومصادر الوحي الإلهي فأخذ يتخبط خبط عشواء في بيداء النكران وفقد قيمته الروحية. ولذلك فإن بعض المعاهد الدينية التي لا تستند بتعاليمها إلى التقليدين الرسولي والأبوي تشكّل خطراً على العقيدة السمحة. وإن الوسيلة الناجعة لمعالجة هذا الداء الوبيل هي اتّخاذ الإيمان طريقاً لنا وإعطاؤه الأولويّة في أبحاثنا، فالإيمان هو الحصن الحصين الذي يقينا من العثرات ويحفظنا في دائرة الروحيات، ويكشف أمامنا الغوامض في كتابات الآباء وتفاسيرهم.

إنه من السهل جداً أن نمعن الدرس في الذات الإلهية فنعرف كل شيء عن الله تعالى، ولكننا نبقى بعيدين عن الله ما لم نسلّم قلوبنا وذواتنا وإرادتنا لله تعالى فنكون له ويكون لنا، فعلينا أن نسعى لقرن الدراسة النظرية بالعمل، فلا يكفي أن نتعلّم كيف نثبت وجود الله بالبراهين المنطقية الفلسفية وشهادة الكتاب المقدس بل علينا أن نشعر بوجوده تعالى بأعمالنا الصالحة التي تقيم الحجة على أننا نؤمن بالله حقاً.

إن ما يتلقّنه الطالب في المعاهد الكهنوتية ذو أهمية كبرى ليس للذين هم ضمن حرم المعهد فحسب بل لكل من ستكون له علاقة بهؤلاء في المستقبل، فإن الذين يتخرّجون في المعاهد الكهنوتية سيكون لحياتهم تأثير علني، وخفي، في نفوس من سيؤتمنون على رعايتهم وخلاص نفوسهم، ولذلك فنحن مسؤولون أمام الله لجعل معاهدنا اللاّهوتية مصنعاً للرجال الأتقياء والعلماء الأفذاذ والرعاة الصالحين يخدمون الكنيسة بتفانٍ ونكران الذات. وليكن هذا المعهد ينبوعاً للحياة تجري منه جداول مياه الخلاص.

إن عالمنا اليوم بأمس الحاجة إلى الروحيات، وإنه لغريب جداً أن يقف الإنسان مكتوف اليدين حاسر الرأس، لا حول له ولا قوّة، إزاء التكنولوجيا الجبّارة، وقد بلغ الضعف بهذا الإنسان إلى درجة كبيرة بحيث أنه اختار «العقل الالكتروني» رجل العام. ربما فعل ذلك منطلقاً من إعجابه بالتقدم العلمي والتكنولوجي، ناسياً أن هذا التقدم هو من صنع الإنسان الذي خلقه الله على صورته كمثاله ومنحه عقلاً جباراً مبدعاً.

كان الإنسان في الماضي أكثر شمولية برؤيته للحياة على الرغم من قلة حصيلته من العلم والمعرفة بالمقارنة مع ما هو عليه اليوم من التقدم العلمي، فإن العلماء اليوم أضحوا غير قادرين على استيعاب الأمور بكليتها لتضييق مجال التخصص إلى حد بعيد فضاقت لديهم رؤية الأشياء وفقاً لعلاقاتها الصحيحة أو أهميتها النسبية. ففي الوقت الذي نرى فيه العالم وقد أضحى وكأنه أصغر بكثير مما كان عليه في الماضي بسرعة التنقل بوسائل السفر الحديثة حتّى أصبح من المؤمل أن تبدأ في أواخر القرن رحلات سياحية إلى الكواكب في الفضاء الخارجي، نشعر أيضاً بحالة اللاّتوازن التي أصابت الفرد والمجتمع وأغلب الشعوب والأمم: وغدا ما ورثناه كأمم عن آبائنا من حضارة سامقة كصرح يتصدّع ويكاد يتقوّض وينهار. فهل يا ترى فقدنا روح الإبداع الخلاّقة، والثقة بأنفسنا، والثقة في مستقبل أفضل لعالمنا؟! فإذا كان الجواب إيجابياً، فعلينا أن نجلس إلى أنفسنا ونتساءل فيما إذا كانت هذه الحال نتيجة لتقدم العلم والتكنولوجيا تقدماً منحرفاً قادنا إلى الدروب المعوجة وأدّى بنا إلى الانصياع للشر والشرير. أرجو ألاّ تتسرّعوا بالحكم عليّ كأنني ضدّ التقدم العلمي والتكنولوجي، كلا وألف كلاّ، فالعلم والتكنولوجيا حسب رأيي قد وُجدا لخير الإنسان وسعادته، وحل مشاكله، ولكننا لا يمكننا أن نتجاهل بأنهما قد استغلا اليوم واستخدما لشقاء الإنسان وعذابه، وأن ذوي النيّات الصالحة خائفون جداً لئلاّ تؤدّي هذه الحال في النهاية إلى تدمير الحضارة البشرية برمّتها.

لنعد إلى صلب موضوعنا فنقول، إنه لمن السهل جداً أن ندرس علم اللاّهوت بفروعه كافة ونقرن ذلك بدراسة الفلسفة دون أن نؤمن بالله ونحبه ونتّكل عليه، إذا نسينا أو تناسينا بأن دراستنا علم اللاّهوت هي وسيلة لا غاية، هي السبيل الذي يؤدي بنا إلى محبة الله والشعور بوجوده تعالى معنا وبيننا، وتأثيره بحياتنا وعنايته بنا، فإذا لم يكن ذلك كذلك فلا فائدة تجتنى من هذه الدراسات كلها.

وإن دراسة اللاّهوت أمر مهم وضروري جداً للكنيسة، لتثقيف الإكليروس وتدريبهم على الخدمة الرسولية الفضلى، وإرشاد الإنسان إلى طريق الحياة. ومما تجدر معرفته أنه لا يوجد في العالم كله معهد كهنوتي بإمكانه أن يلقّن الطالب سائر صنوف العلم والمعرفة، فالدراسات اللاّهوتية لا تبدأ في المعهد الكهنوتي ولا تنتهي فيه، فهي لا تبدأ هناك لأن من يلتحق بمعهد كهنوتي ما يكون قد بلغ شأواً بعيداً في هذا الميدان، وأحرز قسطاً وافياً من المعرفة عن الله تعالى وأسراره الإلهية، وسائر الموضوعات اللاّهوتية، كما أن هذه المعرفة لا تنتهي في المعهد، لأنه من المفترض بطالب العلوم اللاّهوتية أن يواصل دراسته طوال أيام حياته، فهذا العلم ينبوع لا ينضب. أمّا ما يفعله المعهد فهو رسم الطريقة المثلى للبحث ومواصلة الدراسة، وتدريب الطالب على التحلّي بالمزايا الصالحة، وخدمة الإنسان. والتمسك بالعقيدة السمحة بعروة وثقى.

وفي المعاهد الكهنوتية اليوم وضمن الدراسات اللاّهوتية نجد الدراسات المسكونية. وممّا يجب ألاّ يغيب عن بالنا أن الروح المسكونية الحقة هي روح المحبة، محبة الإنسان لربه ولقريبه، ونكران الإنسان ذاته في خدمة الإنسان وتلاشيه أمام ربه وتمجيده تعالى بوحدة المؤمنين به. وحذار من الاستسلام في هذا الميدان إلى الشكليات، وتحويل الممارسة المسكونية الحقة إلى قوى دنيوية ومنظّمات دولية هي جسد بلا روح. فإن الذين يتوهّمون بأن الحركة المسكونية هي سلعة للتجارة الدولية الدنيوية يمجّد فيه القوي، وينبذ الضعيف، وتتحكّم فيها الأكثرية بالأقلية، قد ضلّوا إذ نسوا أن الذي لا يحب أخاه الذي يراه لا يحق له الادّعاء بأنه يحب الله الذي لا يراه. فالحركة المسكونية الشكلية التي لا تتصف بالمحبة لا تسير بقيادة الروح القدس وإرشاده بل هي وسيلة لتفريق الناس لا لوحدتهم.

إننا أيضاً معرّضون لخطر فقد الإحساس الروحي بالحاجة إلى الله والاتّكال عليه تعالى، وفقد الشعور بأن الإنسان بكل ما يملك من قوى روحية وطاقات جسدية ومواهب سامية سماوية ودنيوية إنّما هو مدين بها إلى الله، لئلاّ تضحي هذه الدروس كلمات نلفظها ولا نعيها، ولنتيقظ لئلاّ نفقد الإحساس بوجود الله تعالى، ففي فقده نفقد الروح ونصبح في حالة ممات أدبي. لأن الحياة في الله وحده.

أيها الحفـل الكـريـم: قبل أن أختم كلمتي هذه أودّ أن أسجل تقديري للقائمين على إدارة هذا المعهد المبارك على المحبة الخالصة التي تظهر جلياً بأقوالهم وأعمالهم، فقد جعلوا من هذا المكان بيتاً لله مقدساً، وداراً للعلم والمعرفة.

وإنني أشكر الله تعالى الذي أعانني، وأهّلني لنيل شهادة الدكتوراه باللاّهوت من هذا المعهد المبارك. وأشكر السادة أعضاء الهيئات الأسقفية والكهنوتية والعلمانية والموظفين والإداريين والأساتذة الأفاضل كافة، وأخصّ بالشكر سيادة الأب جيمس فينهاكن عميد المعهد ورئيسه، ويسرّني بصفتي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق ورئيس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع، أن أقلّد سيادته وسام مار اغناطيوس النوراني، للخدمات الجليلة التي قدّمها للمسيحية بإدارة هذا المعهد العامر، حيث تخرّج على يد سيادته العديد ممن حملوا مشعل الإنجيل المقدس وأناروا مناطق شتّى في العالم، وقدموا للإنسانية نتاج قرائحهم وثمار أعمالهم المبرورة. وكان سيادة الأب جيمس ولا يزال وسيبقى المثال الصالح لأساتذة المعهد وطلاّبه جميعاً بما اتّصف به من الفضائل السامية والعلم الغزير والروح المسكونية المشبعة بالمحبة. باركه الرب. وبارك هذا المعهد وكل من يهتمّ بتقدّمه وازدهاره.

الاحتفال بذكرى تنصيب قداسته عام 1993(*)

«قال الرب يسوع: أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».                              

     (يوحنا 10: 11)

ما أروع صفة الرعاية التي يطلقها الرب يسوع على ذاته وما أسعدنا أن يكون المسيح يسوع راعينا وأن نكون نحن غنم رعيته. عندما شعر النبي داود الذي خَبرَ مهمة الرعاية وعرف ما ينال الراعي من متاعب في سبيل الحفاظ على غنمه، عندما شعر داود برعاية الرب له تغنّى بالمزمور الثالث والعشرين الذي علينا أن نترنم به إذا ما كنا نشعر برعاية المسيح، الراعي الصالح لنا جميعاً الرب راعيّ قال داود: فلا يعوزني شيء، ويذكر أن الرب يورده إلى مياه الحياة إلى الجداول الصافية النقية وأن الرب يحرسه ويرعاه حتى إذا ما سرت في ظلال وادي الموت لا أخاف شراً يقول داود للرب لأنك أنت معي.

فما أسمى صفة الرعاية التي يطلقها الرب يسوع على ذاته، وليس هذا فقط بل أننا نتوقف في رهبة أمام عبارته المقدسة وهو يقول: والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، ما أعظم نكران الذات في هذه الآية، ما أسمى التضحية أن المسيح قد ضحّى بذاته في سبيل غنم رعيته، في سبيل الخروف الضال الذي جاء ليفتش عنه وعندما وجده حمله على منكبيه وأتى به إلى حظيرة الخراف وقد جاء لأجل الخراف الضالة من بني إسرائيل بل أيضاً ليؤسس كنيسته أعلن أن له خرافاً ليست من تلك الرعية، قال: ينبغي أن يأتي بتلك لتكون الرعية واحدة لراع واحد، الراعي الواحد الصالح الرب يسوع المسيح وكوّن من تلك الرعية كنيسة، والكنيسة تشعر بأن المسيح راعيها لكي يعتني بها أقام لها رعاة من بني البشر هم الذين يذكر عنهم الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين أن الله يختارهم من بين الناس لكي يتقدموا الناس بتقديم القرابين عن خطاياهم وخطايا المؤمنين أولئك الذين ينتخبهم الله لكي يرعوا شعبه رعاية صالحة ليقتدوا بالمسيح يسوع ليحملوا الصليب معه فقد بذل نفسه عن هذا الشعب سفك دمه على خشبة الصليب لأن الراعي الصالح قال لنا الرب: يبذل نفسه عن الخراف، هذا البذل منحنا نعمة التبرير والتقديس والتبني ورفعنا إلى نعمة البنوة لله، هذا البذل أعطانا الصليب المقدس ليكون علامة خلاص لنا جميعاً لنتذكر الحية النحاسية في البرية فنتطلّع إلى الصليب الذي كانت الحية رمزاً إليه، قال الرب: كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.

فغنم رعيته عليهم أن يؤمنوا بما بذله المسيح في سبيل خلاصهم بذل ذاته على الصليب وأعطانا الصليب علامة الخلاص لكي إذا ما نظرنا إلى الصليب نرى المسيح وقد علق عليه، نرى الخلاص نرى الفداء نرى محو صك الخطيئة بل نرى التبرير والتقديس ونبتهج لأننا أصبحنا أولاداً لله بالنعمة لذلك كرمت الكنيسة المقدسة الصليب المقدس ولذلك فتشت هيلانة الملكة في القرن الرابع عن خشبة الصليب ووجدتها وتبارك الشعب بها بل جرت علامات وآيات ومعجزات بوساطة تلك الخشبة التي لامست جسد الرب يسوع ونالت قوة عظيمة إذ أن دمه الطاهر سفك عليها.

ولذلك عيدت الكنيسة عيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس العيد الذي نحتفل به في هذا اليوم وهي ترى بالخشبة وبعلامة الصليب التي هي راية المسيح التي ستظهر أيضاً عندما يأتي المسيح ثانية يظهر في السماء كما ذكر الرب يسوع هذه العلامة، هذه الراية المقدسة هي التي تجعلنا أن ننال جميع أسرار الكنيسة لأنه لابد أن يرسم الصليب عندما ننال المعمودية والميرون المقدس وسائر أسرار الكنيسة لنتقدس بعمل الفداء الذي قام به الرب يسوع الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف الراعي الصالح الذي أقام له أيضاً من المؤمنين به ممن انتخبهم إذ عرفهم ممن الذين هيأهم ليخدموا رعيته المقدسة الذين أمرهم أن يحلوا صليبه ويتبعوه في طريق الجلجلة أولئك الآباء الميامين الذين أخذوا رئاسة الكهنوت وتسلسلوا شرعياً في الكنيسة المقدسة البطاركة والمطارنة حتى الكهنة الذين ينالون هذه الموهبة السامية يعتبرون خداماً للمسيح يسوع وللمؤمنين بالمسيح لأجل المسيح لتهيئة الخلاص لهؤلاء جميعاً.

بمثل هذا اليوم تمّ تنصيبنا بطريركاً على أنطاكية خلفاً للرسول بطرس بالنعمة لا بالاستحقاق واليوم نبدأ السنة الرابعة عشر لهذا الحدث التاريخي بالنسبة إلينا الذي فيه عيننا الرب راعياً في كنيسته لنقتفي أثره لننسج على منوال آبائنا القديسين البطاركة العظام بدءاً من الرسول بطرس ومروراً بإغناطيوس النوارني الشهيد وبسويريوس الكبير الذي ثبت أركان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية على سريانيتها وأرثوذكسيتها وحتى البطاركة الذين عاشوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بل الذين خدموا الكنيسة كأسلاف لنا القريبين منهم والبعيدين لنقتدي بجهادهم هكذا نفعل أيها الأحباء في خدمتنا كنيسة الله نرى أن هذه النعمة العظيمة التي أعطيت لنا والموهبة السامية التي لا نستحقها هي الصليب الذي علينا أن نحمله في خدمة شعب الله لم تكن الطريق سهلة لم تكن مفروشة بورود بل مليئة بأشواك الضيقات والآلام من الداخل والخارج كل ذلك تحملناه ونتحمله في المشوار الجديد أيضاً في سبيل المسيح يسوع ربنا وإلهنا.

 وبهذا اليوم نشكر آباء الكنيسة الذين وضعوا ثقتهم بنا ونشكر الآباء الأجلاء الأخوة الأحبار مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان الهمام والحبرين الجليلين مار إياونيس بولس النائب البطريركي في هذه الأبرشية البطريركية دمشق، ومار اقليميس أوكين المعاون البطريركي نشكر سائر الكهنة الأعزاء خاصة الذين أتوا من أماكن بعيدة يشاركون في هذه الذكرى المقدسة المباركة من الرب، نشكر أبناءنا وبناتنا المسؤولين في مراكز التربية الدينية في سوريا ولبنان الذين شاءوا أن يشاركوا في هذه الذكرى فجاءوا إلى دمشق متجشمين التعب الكثير ليعطهم الرب نعمة عظيمة وليبارككم جميعاً بقوة صليبه المقدس وليؤهلنا الرب لكي نرعى كنيسته رعاية صالحة لنفسح المجال للمسيح يسوع أن يبارك شعبه فيرعاهم ويجعل منا واسطة لخدمة هذه الكنيسة وتقدمها وازدهارها روحياً.

ليؤهلنا الرب أن نكمل المشوار الذي يشاء بإرادته أن يكون طويلاً أو قصيراً وأن يهيّئ رحمة منه لا باستحقاقنا أن نكون في عداد أولئك الذين كانوا وكلاء صالحين أمناء تاجروا بوزناتهم الدينية وكانوا من الرابحين. وكل عام وأنتم بخير أيها الأحباء.


ذكرى تنصيب قداسته عام 1994

ما أسمى صفة الرعاية التي يطلقها الرب يسوع على نفسه بقوله: » أنا هو الرّاعي الصّالح «. فهو راعينا ونحن غنم رعيّته. لقد تنبّأ إشعياء قبل ظهوره بالجسد بثمانية قرون ليظهر كيف أنه يشفق علينا كرعيّته بإطلاقه عليه صفة الرّاعي يقول عنه: »هوّذا السيّد الرب بقوّة يأتي وذراعه تحكم له. هوذا أجرته له وعملته قُدّامه. كراعٍ يرعى قطيعه. بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها « (إشعياء 40: 10-11). هذه ثمرة المحبّة العميقة التي نلناها من الرب يسوع الرّاعي الصّالح الذي جاء إلى أرضنا ليداوي جروحنا كما فعل السّامري ولينقذنا ويخلّصنا من ذئاب الخطيئة، من الشيطان والموت والخطيّة. وبذل نفسه لأجل خلاصنا، مات ومتنا معه وقام من بين الأموات وقمنا معه وهكذا أحيانا، وسيبقى إلى الأبد راعينا حسب وعده لنا بقوله: «ها أنا معكم حتّى انقضاء الدّهر».

صفة الرّعاية هذه نجدها أيضاً في أسفار العهد القديم والآباء الأوّلون إبراهيم واسحق ويعقوب عندما أرادوا أن يطلقوا على الله صفة تُجسِّد رعايته لنا وعنايته بنا بعد أن خلقنا على صورته كمثاله، اقتبسوها من طبيعة عملهم كرعاة أطلقوا على الله تعالى صفة الرّعاية الصّالحة، فهذا داود في المزمور الثالث والعشرين تغنّى بصفة الرعاية وهو يمجِّد الله قائلاً: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني وإلى مياه الرّاحة يوردني. يردّ نفسي ويهديني إلى سبل البرّ من أجل اسمه. أيضاً إذا سرتُ في وادي ظلّ الموت لا أخاف شرّاً لأنك أنت معي » (مز 23: 1ـ4). هذا إلهنا، راعينا يغذّينا بغذاء الرّوح ويروينا بماء الحياة ويعتني بنا وينجّينا حتّى إذا ما سرنا في وادي التّهلكة فهو يخلّصنا.

هذا الإله يحبّ رعيّـته، عندما تجسّد رأى فيهم كما يقول الإنجيل المقدّس: «غنماً لا راعي لها». فهو الراعي وناداهم قائلاً: «لا تخف أيّها القطيع الصّغير لأن أباكم شاء أن يمنحكم الملكوت»، راعينا هو المسيح أسّس كنيسته على صخرة الإيمان به وجعلها حظيرة لخرافه. وكان لابدّ أن يقيم لها رعاة وكلاء أمناء، فدعاهم أوّلاً ليكونوا صيّاديّ الناس وخرّجهم في مدرسته الإلهيّة. وبعد أن أتمّ الفداء بسفك دمه الثّمين على الصّليب وقام من بين الأموات منحهم سلطة الرّعاية المبنيّة على محبّته لهم ومحبّتهم له بقوله لهامة الرّسل بطرس: أتحبّني أكثر من هؤلاء. وكان بطرس حينذاك في حال التّوبة لا الغرور الذي تلبّسه سابقاً فأسقطه بالخطيّة لم يُجب الرب يسوع بأني أحبّك أكثر من الآخرين، ولكن أنت تعلم أنّي أحبّك فقال له: «ارعَ خرافـي» وكرّر له ذلك ثلاث مرّات: ارعَ خرافـي، ارعَ نعاجي، ارعَ كباشي، اتبعني. هذه الصّفة أُعطيَت للرّسل الأطهار أن يكونوا رعاةً لأغنام الرّب حينما يتبعونه، حينما ينسجون على منواله ويطبعون على غراره ويحملون الصّليب المقدّس ويسيرون معه في طريق الجلجلة، طريق الآلام والضّيقات والاضطهادات لكي ينتصروا على إبليس وأتباعه ولكي يخلّصوا رعية الله من الذئاب الشّرسة ويأتوا بها إلى حظيرة المسيح حيث الطمأنينة والسّلام. رعيّة المسيح أوكل على رعايتها أولئك الرّعاة، والرّسول بولس يحذِّر بعضهم وهو في إفسس كما ذكر سفر الأعمال يقول لهم أن يحذروا لنفوسهم وللرعيّة التي أقامهم عليها الرّوح القدس رعاةً، فالروح القدس مرشد الكنيسة ومعزّيها والماكث معها وقائدها هو الذي ينتخب هؤلاء الرّعاة. الرب عندما كان في تدبيره الإلهي العلني بالجسد انتخبهم ودعاهم وأعطاهم هذه الصّفة السّامية أن يكونوا رعاةً، وبعدئذ الرّوح القدس أخذ هذه المهمّة. فسفر أعمال الرّسل يذكر لنا عن شاول وبرنابا أن الرّسل والتّلاميذ كانوا يصلّون ويصومون فقال الرّوح القدس لهم: «افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي اخترته لهما فصاموا وصلّوا ووضعوا عليهما الأيدي وأطلقوهما».

الرّوح القدس هو يدعو هؤلاء بعد أن يرى في قلوبهم الرّغبة في خدمة رعيّة الرب، التحمّل متشبّهين بالرب الإله، فالروح هو الذي يدعو المختارين ليحملوا هذه الرّسالة. دعاني الرّوح القدس أن أكون راعياً لهذه الكنيسة، وأنا لا أستحقّ لضعفي أن أتبوّأ مركزاً سامقاً في الكنيسة كهذا، ولكن هذه طريقة الرب في اختيار تلاميذه ورسله اختار الضّعفاء والبسطاء، الصيّأدين لكي تظهر قوّته في الضّعف. فقبل خمسة عشر سنة شاء الله ودعاني لخدمته وأحنيتُ هامتي أمام الإرادة الربّانيّة التي جاءت بإلهام الرّوح القدس بصوت الأحبار الأجلاّء، رحم الله من انتقل منهم إلى الخدور العلويّة، وأنعم تعالى على الباقين بعمر طويل وصحّة وعافية. إنّني عبد لله والرّسول بولس يقول لنفسه: »بولس عبد رب يسوع المسيح« لستُ أجيراً فهذه الصّفة مرذولة عندنا. الأجير لا يشفق على الخراف لأنه أجير، ولكن العبد وهو جزء من البيت، العبد ليس له إرادة، فأنا عبد للمسيح يسوع ربنا، يسوع قد امتلكني لأنني أنكرتُ ذاتي وضحّيتُ بكل ما في العالم وصرتُ للمسيح يسوع وحده، وهو الرّاعي الباقي إلى الأبد، وأشعر بأن الرب كما قال يعقوب أبو الأسباط: كان يرعاني منذ وجودي وإلى الآن، فالرب يهيّئ من يخدم كنيسته منذ نعومة أظفاره، بل يختاره من بطن أمّه ليكون خادماً وراعياً لخراف الرب. الرب علّمني وهو الذي يرعاني ويرعى كل مؤمن وكلّ حبر وكاهن، خاصّةً أولئك الذين يقدّمون أنفسهم بنكران الذات كلّياً للرب. الرب دعاني لأرعى كنيسته، علّمني كيف أننا نمسك عصا للرعاية لا للسّلطة، لا للقوّة الدنيويّة إنّما ليهشّ بها على غنمه. إن واجبنا هو أن نأتي بالغنم، خاصّة الضّالة منها إلى حظيرة الخراف. أرأيتم أي راعٍ يراقب غنمه وهي تدخل الحظيرة مساءً، كيف أنه يمرّر عصاه على كلّ واحد وواحدة منها ليفحصها لئلاّ يكون قد علق فيها حشرةٌ أو شوكةٌ أو حسكة لينقيها ويطهّرها ويدخلها إلى حظيرة الخراف، ويراقب الذّئاب لئلاّ تأتي بثياب الحملان وتنضمّ إلى تلك الأغنام الطّاهرة الوديعة لتفترسها. هذه مهمّة الرّاعي يحرس أغنامه حراسةً قويّة، يداوي جروحها، يفتّش عن الضّال منها، يترك التسع والتسعين على الجّبل ويفتّش عن الخروف الضّال فيحمله على منكبيه ويأتي به إلى حظيرة الخراف. هذا العمل شاقّ جدّاً. يعقوب أيضاً أبو الأسباط قال مرّةً: «كان الحرّ يأكلني في النّهار والجّليد في اللّيل وطار النوم عن جفنيّ». هذه مهمّة الراعي الذي يسمع لوصيّة الرّسول بولس ليسهر ويحذر على الرّعية التي اقتناها المسيح بدمه.

أيُّها الأحبّاء:

لا يستطيع الراعي أن يرعى خراف المسيح لوحده ما لم تتعاون الخراف معه، ومن كان قد أنعم عليه الله أن يأخذ راية المسيح، الصّليب المقدس الذي نعيّد له في هذا اليوم عيد اكتشافه على يد الملكة السريانية هيلانة ابنة كاهن سريانيّ، وهي أم قسطنطين الإمبراطور الرّوماني التي نذرت للرب الإله أنه إذا تنصّر ابنها تذهب إلى المدينة المقدسة وتفتّش عن خشبة الصّليب وهكذا كان، وذهبت إلى أورشليم سنة 326م وفتّشت عن خشبة الصّليب ووجدتها بأعجوبة، إذ وجدت ثلاثة صلبان وبأعجوبة عُرِف صليب المسيح فيها وبارك أسقف المدينة الشعب المسيحي بخشبة الصّليب. هذا الصّليب شعارنا وشعار كنيستنا، هذا الصّليب فخرنا. هذا الصليب ظهر لقسطنطين في السّماء كعلامة وقيل له: إنّك بهذه العلامة تنتصر وقد انتصر، وبهذه العلامة ننتصر على إبليس ونستطيع أن نتخلّص من التّجارب ومن الخطيّة. هذا الصّليب، هذه الرّاية المقدسة يحملها من يتقدّم بين أحبار الكنيسة ليتقدّم صفوفها وتوجّه إلى صدره السِّهام. تحضرني الآن قصّة عن قائد في حرب كان في وسط المعركة عندما سمع أحد جنوده يقول: إننا قد تعبنا جدّاً ونحن نسير على الأقدام، ما بال قائدنا؟ ما بال هذا القائد قائدنا لا يهمّه شيء وقد امتطى صهوة جواده؟. فنزل القائد من على جواده وترجّل ودعا ذلك الجنديّ ليمتطي صهوة الجّواد، وحالما فعل ذلك صُوِّبَت رصاصة إلى صدره فصرعته. التفت القائد إلى جنده ليقول لهم: هذه رسالة القائد، ولئن كنتم ترونه وكأنّه مرتاح ولكن السِّهام كلّها تصوَّب إلى صدره لأنه قائد. من يحمل الرّاية ويسير في مقدمة موكب الكنيسة خاصةً في عصرنا هذا مسؤوليّته كبيرة تجاه الرب، عليه أن يُنذر الخطاة ليعودوا إلى التوبة وإلاّ فيتحمّل مسؤوليّة موتهم الأدبي والأبدي. إذا كان الرّاعي قاسياً أحياناً عديدة في وعظه فإنّما يفعل ذلك غيرةً على خلاص النفوس، وكذلك يفعل ذلك ليتعاون معه أحبار الكنيسة فيما يؤول إلى خلاص أبناء الكنيسة وبناتها عن طريق التوبة، رسالة الكنيسة ورسالة المسيح السّامية.

في هذا اليوم التّاريخي أحبّائي يروق لي أن أجدّد عهدي لله أن أكون دائماً متمسّكاً بإيمان كنيستنا السريانية الأرثوذكسية القويم وتقاليدها الشريفة ولغتها السريانية المقدسة. ألاّ أحيد قيد أنملة عن كل ما سلّمنا إيّاه آباؤنا القديسون، أن أعِظ الشّعب بكل وضوح وصراحة وأرعاهم بقوّة المسيح الذي هو راعينا جميعاً، رعايةً صالحة. أن نتعاون مع أحبار الكنيسة وكما وعدتُ يوم تنصيبي أن تكون الرّوح الديمقراطيّة عامّة في المجمع المقدّس، لكل حبر من أحبارنا الحرّية التّامّة ليُبدي رأيه ويعلن اقتراحاته فيما يؤول إلى خير الكنيسة وتقدّمها وازدهارها. وإنني أدعو الله في هذه اللّحظات ليبارككم جميعاً، وأن يؤيّد رئاسة الأحبار الأجلاّء الأخوة المطارنة جميعاً وخاصةً نيافة الأخ الحبر الجليل مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان، الذي لمحبّته العميقة كعادته تجشّم عناء السّفر ليشاركنا فرحة هذه المناسبة السّعيدة، ولا غرو من ذلك فهو الباكورة في رساماتنا الأسقفيّة، وإذا كانت الباكورة مثله جيّدة جدّاً والحمد لله فالحصاد كلّه جيّد وما قمنا به من رسامات لأحبار الكنيسة إنّما كان بإلهام ربّاني وفيها يؤول لرعاية الكنيسة رعاية صالحة. أدام الله حياته ليواصل العمل في أبرشيّته بجدّ ونشاط كما يعرفه الجميع بجدّه ونشاطه وهمّته العالية. كذلك لابدّ أن أُثني جزيل الثّناء على الأخ الحبر الجليل مار إياونيس بولس السّوقي النّائب البطريركي في أبرشية دمشق بالنيابة البطريركية على الأتعاب الجمّة التي يتحمّلها في خدمته لهذا الشعب المبارك ورعايته، ليس في دمشق فقط بل أيضاً متاعب بعض الأبرشيّات التي تأتينا ليشاركنا هو أيضاً فيها. وإنني أشكر بشخصه المجلس الملّي الذي يرأسه وجمعيّات وهيئة السيّدات الخيرية وجمعيّة الشبّان السريانية وجوقة الترتيل العزيزة والكشّاف ومركز التربية الدينية الذي نضع فيه كل ثقتنا بأن يهتمّ بتربية أبنائنا وبناتنا التربية المسيحيّة الصّالحة برعاية وإرشاد الأخ الجليل مار إيوانيس بولس السّوقي النائب البطريركي.

وفي هذه المناسبة لابدّ أن أشكر أولادي الرّهبان الأعزّاء والكهنة الأفاضل وتلاميذ كليّة مار أفرام الكهنوتيّة والرّاهبات الفاضلات وكل من شاء أن يشاركنا فرحتنا في هذه المناسبة الطيّبة. ليحفظهم الرب ويحفظكم وليطيل عمركم ويمتّعكم بالصحّة التّامّة والتوفيق الجليل بنعمته تعالى وكل عام وأنتم بخير.

أحبّائي:

إن أنسى، لا أنسى اللّقاء الذي يجري في دمشق في هذه الأيام للمسؤولين عن مراكز التربية الدينية في سوريا، هؤلاء الشبّان من الجنسَين يسعون لكي يخلصوا نفوسهم ونفوس الآخرين، وفي لقاءاتهم نرى روح الرب التي ترشدهم،الروح القدس بالذات هو المرشد والمعزّي ونشعر بأنهم يجتمعون باسم المسيح فالمسيح بينهم. نرحّب بهم ونتمنّى للقائهم النّجاح والتّوفيق بنعمته تعالى.


علامة الصليب المقدس

ومجيء الرب يسوع ثانيــــــةً(*)

احتفلت الكنيسة المقدّسة أوّل أمس أيّها الأحباء بعيد اكتشاف الصليب المقدس، وهذا العيد مهم جدّاً في المسيحية، ذلك أن الصليب هو الثّقل المعادل للإنجيل المقدّس، وإن اكتشاف خشبة الصّليب التي عُلِّق عليها الرب تُعتَبَر حَدَثاً مهمّاً جدّاً لأن في تلك الخشبة قوّة إلهيّة، حيث أن المسيح قد عُلِّق عليها وسُفِك دمه عليها ولامست جسده المقدَّس، فإذا كانت الثياب التي كانت توضَع على المرضى فينالون الشّفاء، فكم بالحري القوّة التي نالتها تلك الخشبة حيث أنها لامست جسد الرب وخاصةً أن الصّليب قد صار علامةً واضحةً مقدّسة للمسيحيّة. وبآية موضوعنا نرى أن تلك العلامة ستظهر قبل مجيء الرب تظهر في السّماء بعد أن تكون الشّمس قد أظلمت والقمر لا يعطي ضوءه، وبعد أن تكون قوّات السّماء قد تزعزعت والنّجوم قد تساقطت، تظهر علامة ابن الإنسان أي الصّليب المقدّس، لتعلن هذه العلامة بظهورها أن المسيح آتٍ، فيأتي على سحاب السّماء بقوّة ومجد كثير كما قال لنا الرب ودُوِّن ذلك في الإنجيل المقدّس الذي كتبه الرسول متّى. والصّليب أيّها الأحبّاء قد نال قوّة إلهية من الرب لأنه قبل أن يُعلّق عليه الرب يسوع أعلنت السّماء هويّته أنه هو ابن الله، كان ذلك على لسان بطرس الذي نال الطوبى من الرب. عندما أعلن الرب أن رسالته الإلهية في هذه الدّنيا هي أنه قد جاء وتجسّد ليموت مصلوباً وليفدينا بصليبه وجعل الصليب علامةً واضحةً للتلمذة الحقيقية فمن لا ينكر ذاته ولا يحمل صليب الرب ويتبعه، لا يستحقّ أن يكون تلميذاً للرب على حدّ قول الرب بالذات. ولذلك فإن الكنيسة اتّخذت الصليب علامة الخلاص، فعندما نرسم علامة الصّليب على أنفسنا نبدأ بالجبهة، هذه التي قد خُتمَت بالميرون المقدّس وتمثِّل السّماء، ثم نضع إصبعنا، الإصبع الواحدة التي تدلّ على أن المسيح هو واحد، هذه الإصبع ننقلها إلى صدرنا إلى موضع البطن لنعلن أننا نؤمن من كل قلبنا بأن ابن الله نزل من السّماء وحلّ في أحشاء القدّيسة مريم العذراء ووُلد بالجسد من الروح القدس ومن القديسة مريم العذراء، ونحن نولد به ميلاداً ثانياً بواسطة الرّوح القدس الذي قد نقلنا من اليسار التي تعتبر جهة الشرّ والهلاك، إلى اليمين أي جهة الخير والخلاص. بل أيضاً عندما نرسم الصليب على جباهنا نعترف بالثالوث الأقدَس: الآب والابن والرّوح القدس ونعترف ونقرّ بسر التجسّد، فالابن قد نزل من السماء، من عند الآب وحلّ في أحشاء العذراء وتجسّد آخذاً جسداً كاملاً ونقلنا بعمل الفداء، أي بموته على الصّليب من الهلاك ـ الذي تمثّله جهة اليسار ـ إلى اليمين التي تدل على الخلاص والسّعادة. والصّليب الذي هو الثّقل المعادل لإيماننا ولإنجيلنا، لا يتم سرّ من الأسرار المقدَّسة إلاّ برسمه به. فكل الأسرار السّبعة التي هي نِعَم إلهيّة ننالها بمادة وصورة ظاهرَين ويقوم بإتمامها خادم هو الكاهن الشرعي لا تتم إلاّ برسم الصليب المقدّس. بل إن تكريس الكنائس والمذابح وكلّ عمل روحيّ طقسي في كنيستنا المقدّسة وكلّ الكنائس المسيحية الرسوليّة لا تنال هذه النِعَم إلاّ برسم الصليب المقدس. فهذه الاستحقاقات الإلهيّة التي نلناها عن طريق موت المسيح الإله المتجسِّد على الصليب. هذه صارت كنوزاً روحيّة نفيسة، بل لا تُثّمَّن لأننا بقوّة الصليب قد غلبنا إبليس، فطفل صغير إذا رسم الصّليب على نفسه، تهرب من أمامه الأبالسة وتندحر قوّة العدو الروحي. بل أيضاً عندما نتطلّع إلى الصّليب بإيمان نشابه شعب العهد القديم عندما كانوا يتطلّعون إلى الحيّة النحاسيّة فيشفون من لدغات الحيّات المحرقة، ونحن ننال الشّفاء من لدغات إبليس اللّعين الذي يحاول إسقاطنا في الخطيّة.

هذه قوّة الصّليب أيّها الأحبّاء، التي اعتُبرَت قوّة إلهية نلناها مجّاناً باستحقاق عمل الفداء، فالمسيح قد جاء إلى العالم وفدانا بموته على الصّليب وقام في اليوم الثالث وأقامنا معه وأتمّ عمل الفداء وصعد إلى السماء، وفي وقت صعوده يقول الإنجيل المقدّس أنه رفع يديه وبارك التلاميذ، وبحسب تفسير آبائنا القدّيسين أنه منح رسله موهبة الحبريّة فجعلهم أساقفة ورؤساء أساقفة وأرسلهم إلى العالم ليبشّروا وينشروا الإنجيل المقدّس ويمنحوا العالم ما منحه الرب للعالم وأوكلهم على منحه للعالم المؤمن، نِعَم الخلاص والتبرير والتقديس بل أيضاً التبنّي، ولكن المسيح الذي صعد إلى السّماء وَعَد تلاميذه أنّه يأتي ثانيةً، ونحن عندما نقرأ الإنجيل المقدس وفي آية موضوعنا بالذات نسمع الرّسول متّى مثلاً يقول: أن علامة المسيح ستظهر بالسماء، حينئذ بعد أن تكون النّجوم قد تساقطت والقمر لا يعطي ضوءه والشمس قد أظلمت تظهر علامة ابن الإنسان وتنوح جميع قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتياً على سحاب السّماء بقوّة ومجد كثير. هذه العقيدة الإلهيّة تسلّمناها من الرّسل القديسين الذين تسلّموها من الرب بالذات، فإذا كان الأنبياء قد تنبّؤوا عن مجيء الرب، فالمسيح بالذات أعلن لنا حقيقة مجيئه الثاني أنه سيأتي قريباً وأظهر لنا أن هناك علامات عديدة من حروبٍ وأوبئة وزلازل ومصائب ومتاعب تحدث في الدّنيا، ولكن اليوم الذي يأتي به لا نعرفه، والساعة التي يأتي بها نجهلها، لذلك أوصانا الرب قائلاً: اسهروا لأنكم لا تعلمون متى يأتي الرب، واعلموا هذا أنه لو عرف ربّ البيت في أيّة ساعة يأتي السّارق لسهر ولم يدَعْ بيته يُنقَب. فعلينا أن ننتظر بإيمان مجيئه الثاني، هذه العقيدة السّامية تسلّمها الآباء ونحن نكرّر ذكرها دائماً في القدّاس الإلهي عندما نعلن اعترافنا بمجيئه الأوّل ونعلن إيماننا بقيامته ورجاءنا وانتظارنا لمجيئه الثّاني، جاء أوّلاً وفدانا وسيأتي ثانيةً لدينونة العالمين. شبّه الرب أولئك النّاس الذين لا يهمّهم أمر الأبديّة الذين يأكلون ويشربون وهم يقولون: لنأكل ونشرب وغداً نموت، فهم لا يؤمنون بالحياة الأبديّة. أولئك شبّههم الإنجيل المقدّس بجيل نوح، فنوح عندما كان يصنع الفُلك كان يوميّاً ينادي الناس ليعودوا إلى الله، ولكنهم لم ينصاعوا إلى إنذاره وتحذيره، فجاء الطّوفان وأخذ الجّميع. فالطوفان آتٍ لا محالة، كان يقول لهم ولكنهم لم يؤمنوا، فجاء الطوفان وأخذ الجميع. وشبّههم بجيل لوط الأشرار الذين كان يعِظهم لوط ليعودوا إلى الله، ولكنه كما يقول الكتاب كان كمازحٍ في عين أصهاره أيضاً، ليس فقط في أعين الناس الغرباء عنه، ولكن ذلك لم يمنع من أن تمطر السّماء ناراً وكبريتاً، فبادت سدوم وعمورة وباد ذلك الشّعب الخاطئ، أما لوط فخلص هو وابنتاه.

إن المسيح آت لا محالة، يقول في سفر الرؤيا: «أنا آتٍ». فلنكن كيوحنا مؤمنين بمجيئه، منتظرين هذا المجيء وكلّما رسمنا علامة الصّليب على جباهنا لنذكر أن هذه العلامة المقدّسة ستظهر في السّماء عند مجيه ثانيةً. فهل نحن مؤمنون بأن المسيح سيأتي ويجازي كلّ واحد بحسب أعماله إذا كان إيماناً متيناً ثخيناً. فلنكمّل وصاياه ونرجع إليه بالتوبة، ننتظره بإيمان ورجاء متين لكي إذا كنّا في عِداد الأحياء عندما يأتي، نختطف معه في الجوّ كما يقول الرسول بولس وإلاّ أولئك الموتى سينادي الرب فتّتحد أرواحهم بأجسادهم وينالوا أيضاً المجازاة بحسب إيمانهم وأعمالهم.

أهّلنا الرب الإله أيّها الأحبّاء بقوّة الصّليب المقدّس أن نكون مؤمنين بربّنا، فادينا ومخلّصنا وأن نعمل بحسب أوامره لكي ننال النّعمة العظيمة يوم مجيئه ثانيةً فنكون في عِداد أولئك الذين سيدعوهم إلى ملكوته ليتنعّموا معه، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

ذكرى تنصيب قداسته عام1997

السادة الأحبار الأجلاّء.

سعادة الوزير الدكتور دنحو داؤد.

أيها الأحباء الشخصيات البارزة، أبناء الكنيسة المقدسة.

أبنائي الكهنة، بناتي الراهبات.

أشكر الله شكراً جزيلاً على عطيّته التي لا يُعبَّر عنها كما يقول الكتاب. أشكره تعالى لأنه اختارني أنا الضعيف الضئيل أن أكون خادم خدّام هذه الكنيسة المقدسة، كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية العريقة في المجد والسّؤدد. لم أكن يوماً أحلم بمركز روحي كهذا، لكن الله يختار الأضعف ليظهر قوّته الإلهية لأنه يقول: قوّتي في الضعف تكمل، كما اختار الرسل والتلاميذ عبر الدهور والأجيال الذين مجّدوا الله في ضعفهم.

أشكر أخي صاحب السيادة مار إيوانيس بولس السّوقي النائب البطريركي في دمشق على الكلمات الطيّبة التي فاه بها والصادرة من قلب محب، على هذه المأدبة الفاخرة التي أقامها متعاوناً مع أبنائي الروحيين الأعزّاء جداً، المجلس الملي للنيابة البطريركية في دمشق. إن هذا يعزّينا نحن الذين حملنا صليب الرب، بطريركاً، مطارنةً، كهنةً وتبعنا الرب يسوع في طريق الجلجلة، أقول الجلجلة حقاًً. بل أيضاً واحدنا إذا كان مؤمناً برسالته السّامية السماوية يقول مع الرسول بولس: مع المسيح صُلبتُ لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فـيَّ. وما نقوم به نراه صليباً ولكنه ليس صليباً بسيطاً إنما هو صليب المسيح، بالذات عندما نُكَرَّم من اخوتنا الأحبار ومن أبنائنا الكهنة، من السِّلك الإكليريكي والراهبات نشعر بأننا نعرف بعضنا بعضاً وإننا نعرف المتاعب التي نتحمّلها والمشاق التي نعانيها في خدمة الرب يسوع. عندما نُكرَّم من أبنائنا العلمانيين والكنيسة هي كنيستهم ونحن نؤخذ منهم فالرب يختارنا من الشعب ليجعلنا أن نتقدّم الشعب، ولأجل الشّعب نقدم القرابين. قلتها صباحاً في القداس عن أنفسنا، عن خطايانا نحن الإكليروس وعن خطايا الشعب. عندما نُكَّرم نشعر بعزاء لأننا نخدم هذا الشعب ونخدمه بإخلاص، نسعى لخلاص نفوسنا ولخلاص نفوسهم لذلك نتبادل الشعور الطيّب ما بين الإكليروس والشعب لأننا جميعاً نؤلّف الكنيسة المقدسة الواحدة الجامعة الرسولية لذلك ألف شكر وشكر لك يا أخي سيادة الأسقف بولس ولأعضاء المجلس الملي الموقّر ولجميع الشخصيّات البارزة العزيزة ممثّلي الطائفتَين العزيزتَين جدّاً على قلبي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك. الآباء الكهنة: أشكركم جميعاً أيضاً كل واحد باسمه الكريم وبرتبته السامية إذ أتيتم تشاركون اخوةً لكم وأخوات في هذه المأدبة الفاخرة. أشكر الله الذي أهّلني لأجتمع بكم في هذه الأمسية الجميلة، أشكره لأنه أبقاني حيّاً أحتفل بالذكرى السابعة عشرة لجلوسي بالنعمة لا بالاستحقاق على الكرسي الرسولي الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي. أشكره تعالى لأنه سمح لي أن أضع قدمي على العتبة الأولى للسنة الثامنة عشرة لبطريركيّتي. بما أنني أيها الأحباء في هذه الذكرى، أتوقف قليلاً لأذكر الماضي وآخذ العِبر. لا أريد أن أذكر من الماضي ما ذكره أخي سيادة الأسقف بولس من إنجازات أقامها لله بهمّة الإكليروس والشعب وسخاء هذا الشعب الكريم الشعب السرياني في كل مكان، فهذه عنايته الإلهية وهذه إرادته أن ننهض بكنيستنا روحياً وثقافياً واقتصادياً ناسجين على منوال أسلافنا العِظام البطاركة السريان. من منهم لم يتعب، من منهم ما عانى كثيراً وتعذّب. كل ذلك في سبيل خدمة الكنيسة. هذه الإنجازات الذي ذكرها أخي سيادة الأسقف بولس كانت حلماً راودني في اليوم الأوّل الذي جلستُ فيه على الكرسي. الخطاب الذي ذكره وأضطر أن أعلق لأنه ذكره كان مخططاً وضعه الله في رأسي فتكلّمت. أنا لستُ كالنوّاب الذين يعدون الشّعب بوعود ليجلسوا في كرسي النيابة ولا نعلم ما ستكون النتيجة. أنا لم أعِد أحداً قبل أن تبطركتُ، قبل أن جلستُ على الكرسي، بل بالعكس. عندما رقد بالرب سلفي الطيّب الذكر والخالد الأثر البطريرك يعقوب الثالث، فاتحني إخوتي المطارنة بأن أتسلّم القيادة، أن أحمل راية المسيح وأسير في المقدمة، ارتعبتُ بل بالحقيقة عوّمت فراشي بدموع مدّة عشرة أيام منذ وفاة المثلث الرحمة البطريرك يعقوب الثالث وحتّى يوم الانتخاب الذي جرى في الحادي عشر من تموز وكنتُ أطلب من ربي أن تعبر عنّي هذه الرسالة، بل هذا الكأس المرير لأنني كنتُ مرتاحاً جداً في أبرشيّتي ويوم الانتخاب، لا أنسى يوم الانتخاب أبداً. دخلنا إلى الكنيسة، كأحبار للكنيسة وصلّينا وكانت صلاتي ألاّ أُحرَج من إخوتي، عندما أعلن القائم مقام البطريركي يوم ذاك النائب عنه لأنه المثلث الرّحمة المطران قرياقس الذي هو القائم مقام كان طريح الفراش بنوبة قلبية، وناب عنه نيافة المطران برنابا أطال الله حياته، وبوجود المفريان، جاثليق المشرق الذي يلي البطريرك في الهند أعلن قائلاً لي: إن الأحبار انتخبوك بالإجماع لتكون بطريركاً هل تقبل بذلك؟ بالحقيقة ارتجّ علي: أقول نعم أم لا؟ إن قلتُ لا فهذا يعني أنني رفضتُ رسالة أُعطيَت لي من الرب وشابهتُ عيسو الذي احتقر بكوريّته فرُذِل من الرب. وإن قلتُ نعم وفي قولي نعم يعني ذلك أنني قبلتُ على نفسي كل المسؤوليّات التي توضَع على عاتق البطريرك أبي الآباء ورئيس الرؤساء الذي يتحمّل مع الأحبار مسؤوليّات جسيمة. فقلتُ نَعَمْ ليكن لي كقولك أنا العبد المتواضع، وتذكّرتُ العذراء مريم التي قالت: نظر إلى تواضع أمته وهكذا طلبوا منّي الكلام فذكرت العذراء مريم واتّكلتُ على الله، ويوم التنصيب استعرضت حالة الكنيسة في كل مكان بعد أن علمتُ أن السريان في كل مكان وكنتُ قد زرتهم جميعاً والفضل لسلفي الطيّب الذّكر الذي خدمته كسكرتير وزرتُ معه السريان في كل مكان وأعرف السريان هذا الشعب لنبيل الطيِّب المؤمن المتمسِّك بعقيدة الكنيسة المقدسة والإيمان المستقيم الرأي والتقاليد المقدسة الشريفة واللغة السريانية المقدسة. هذا الشعب الطاهر النقي رأيته وشعرتُ شعوره ولذلك عرفتُ أيضاً أن انتخابي كان سبب فرحةٍ كبيرة له. فزدتُ ثقة بالرب الذي أرادني أن أحمل هذه الرسالة وزدتُ ثقة بهذا الشعب المؤمن ووعدتُ الشّعب بعد أن جدّدتُ عهدي للرب أن أكون محباً للرب وخادماً أميناً لهذا الشّعب المبارك. وعدتُ الشّعب أنني أسعى لجعل هذه الرسالة رسالة خدمة. قلتُ عن الديمقراطية في المجمع لا في الشعب لأن رئاسة الكهنوت والكهنوت، الكهنوت من الله لا يمكن أن نقول للكهنوت ديمقراطي، ولكن الديمقراطيّة في المجمع هي الحريّة التامّة لآباء المجمع ليعبّروا عمّا يشعر به الشّعب الذي يمثّلونه وعمّا يريده في كل الأبرشيّات، وهكذا فعلتُ وسيذكر التاريخ كيف أنني جعلتُ المطارنة في مقامهم الذي يجب أن يكونوا فيه، كل واحدٍ له مكانته في أبرشيّته وفي مجمعه المقدّس وهكذا كان. حتّى النيابات البطريركيّة، اعتبرتُ النائب البطريركي هو مطران وفي الوقت نفسه هو نائب للبطريرك في أبرشيّته وحتّى في المجمع المقدس الإنجازات التي صارت كما ذكر أخي سيادة الأسقف بولس كلّها بتعاون المطارنة، وخاصةً المطران النائب البطريركي في دمشق، كلّها بتعاون الإكليروس، كلّها بتعاون هذا الشّعب. هذا الصّرح كان لنا لجنة استشاريّة وجهاء لهم اختصاصاتهم، كانوا يجتمعون معي كل يوم ثلاثاء لسنين عديدة، فقام هذا الصّرح بفلسَي الأرملة، ليس فقط بالأموال الطائلة التي تبرّع بها بعض المؤمنين الأثرياء. هؤلاء الطلاّب الإكليريكيون الذين ذكرهم سيادته هم موضع فخري واعتزازي أينما كانوا، المدرسة الإكليريكية صارت بمستوى كليّة والطلاّب بذكائهم والتزامهم بقوانين كنيستهم، بمحبّتهم لهذه الكنيسة ينشرون تاريخ الكنيسة في كلّ مكان ويعلنون حقّها عبر الدّهور والأجيال. الراهبات العزيزات: يتركن وظائفهن مراكزهنّ، كانت بعض الراهبات حاملات دكتوراه وماجستير وبكالوريوس في علوم كثيرة، يضحين بكل شيء وبالمراكز، يقدمن أنفسهنّ للكنيسة المقدسة في مجال التربية الدينية السريانية. الصّرح هذا مخططه في أول سنة من جلوسي على الكرسي أن يكون أول شيء نعمله، أما ما يليه فهو مركز التربية الدينيّة المسيحي السرياني العالمي وقد بدأنا فيه، وإن شاء الله في السنة القادمة نكون قد أنجزناه، وبعد ذلك يأتينا أضرحة البطاركة حتى ننقل ضريح أو رفات سلفنا الطيّب الذكر إلى هنا لنعيد أمجاد دير الزّعفران الذي كان مقرّ الكرسي الرسولي لمدة سبعمائة سنة وأشياء أخرى إن شاء الله تُنجَز بهمّة الشّعب المبارك.

لا أريد أن أطيل عليكم الكلام وقد أطلته. أسأل الرب أن يلهمنا جميعاً للتعاون معاً إكليروساً وشعباً في خدمة هذه الكنيسة وفي خدمة الوحدة المسيحية والتعاون مع اخوتنا المسيحيين في كل مكان، لنكون كنيسة واحدةً كما صلّى الرب يسوع وطلب من أبيه. وأن نتعاون ما نفعل الآن مع اخوتنا المسلمين الذين جاهدوا معنا عبر الدّهور والأجيال في تحرير بلادنا هذه وأن نحب أرضنا وبلادنا وأرجو أن أقول أيضاً لكي أكون مرتاحاً أن ما أُنجِز في سوريا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على الفترة السّعيدة والعهد الطيّب الذي نحياه برئاسة رئيسنا المبجَّل حافظ الأسد. أدامكم الله وجزاكم خيراً على مشاركتكم سيّدنا بولس والمجلس الملّي وهؤلاء الأعزّاء في تكريم ضعفي، هذا التكريم الذي ينعكس إلى الكنيسة المقدّسة وجعل أيّامكم كلّها أفراحاً ومسرَّات وشكراً.


عيد اكتشاف الصليب المقدس

ما أسعدنا أيها الأحباء أن يكون إلهنا ومخلّصنا وفادينا يسوع المسيح راعياً لنا، وأن نكون نحن غنم رعيّته كما يقول الكتاب. ما أسعدنا لأن راعينا يحبّنا ويعتني بنا، يهيّئ لنا الطّعام والشّراب، بل أيضاً الطمأنينة والرّاحة والسلام. يحرسنا حراسةً قويّة ويحمينا من أعدائنا الروحيين والجسديين لأنه يحبّنا. ما أسمى ما قاله الرب عن المحبة، محبة الله لنا: «هكذا أحب الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، «الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».

الله الآب بذل ابنه الوحيد في سبيل فدائنا لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، المسيح بذل نفسه كراعٍ صالح في سبيلنا أطاع يقول الرسول بولس: «أطاع حتّى الموت موت الصليب»، وعندما يقول موت الصّليب بقصد الموت المرير الذي كان يعتبر موت لعنة وفدانا بالصليب، ولذلك اعتُبر الصليب شعاره وشعاراً لنا نحن الذين نتبعه. لا يتمّ سرّ من الأسرار إلاّ برسم علامة الصليب، شعارنا هو شعار نصرتنا أيضاً، الأبالسة برمّتها تهرب إذا ما طفل صغير رسم علامة الصليب على جبهته لأنها تتذكّر الحرب التي نزلت إليها في معركة دامية فانتصر وغلب المسيح بصليبه على عدوّ البشريّة إبليس. ولذلك يرتعد إبليس عندما يشعر بإنسان يؤمن بالصليب ويرسم علامة الصليب عندما يرى شعار الرب الذي نفتخر به لأنه يستمدّ قوّته من استمراريّة استحقاقات الخلاص التي قام بها المسيح يسوع على الصليب، من هنا جاءت قوّة الصليب.

الصليب هو خشبة عُلِّق عليها المسيح، من هو المسيح؟

لم يكن المسيح مجرّد إنسان، بل هو الإله المتجسّد، وفخرنا كما يقول آباؤنا إن إلهنا مات بالجسد على الصليب وفدانا، من هنا أيضاً جاء تقديسنا لخشبة الصّليب فإذا كان المؤمنون يأخذون الثياب من على جسد الرّسول بولس ويضعونها على أي مريض فيُشفى، فكم بالحري قوّة الخشبة التي عُلِّق عليها المسيح يسوع، وقطرات الدم التي سُفكَت على تلك الخشبة. لذلك أحبّائي منذ بدء المسيحية كرّمت المسيحية علامة الصليب وقدّست خشبة الصّليب، ألم يقُل الرب: «كما رفع موسى الحيّة في البرية هكذا ينبغي أن يُرفَع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»، وبذلك نعود بذهننا إلى البرية، نعود بذهننا إلى العقاب الصّارم الذي أوقعه الله على بني إسرائيل، فكانت الحيّات المحرقة تلدغهم وتميتهم حالاً، وعندما تابوا قال الله لموسى: أمره أن يرفع حيّة نحاسيّة ومن نظر إلى الحيّة مهما كانت لدغته قاسيةً ينال الحياة، يُشفى. المسيح يسوع أعطانا صليبه، بل هو صُلب ليكون علامة خلاص لنا. مهما كانت قوّة إبليس الحيّة الدّهرية تتلاشى وتزول عندما ننظر إلى صليب المسيح. نتصوّره، نتخيّله كيف كان مصلوباً على الصليب، ولكنه مات على الصليب ودُفِن وقام وأُعلنَت نصرته على إبليس والموت والخطيّة. بإيمان كان بنو إسرائيل ينظرون إلى الحيّة، وهذا الإيمان يدلّ على الطّاعة لقول الرب: من أهمل النّظر إلى الحيّة غير مؤمن بها وبقوّة الله التي أعطاها في تلك الحيّة يُلدَغ من الحيّات المحرقة ويموت حالاً. الصليب علامة الخلاص، رُفِع في الكنيسة المقدسة منذ أن بشّر الرّسل بإنجيل المسيح. ذكر ذلك الرسول بولس إلى أهل غلاطية يقول لهم: إنكم أنتم الذين رفع المسيح في وسطكم. علامة المسيح كانت مرفوعةً في كنائسنا في كل مكان، وعندما نتطلّع إلى الصليب نتذكّر الخلاص الذي عمله الرّاعي الصّالح الذي بذل نفسه عن الخراف، لذلك اهتمّت هيلانة الملكة القدّيسة الطّاهرة التي نذرت إذ كانت سريانية ابنة قسيس بجوار الرّها وابنها قسطنطين الملك. نذرت إلى الله أن الرب إذا ألهم قسطنطين ليصير مسيحياً، تذهب إلى أورشليم وتفتّش عن خشبة الصليب. نحن نحتفل بهذه الذّكرى التي جرت سنة 326م، هكذا فعلت وكانت قد اتّفقت مع ابنها أن تخبره حالاً ببريد سريع بإيقاد النار على الجبال ووصل الخبر إليه، لذلك نوقد ناراً في عيد الصّليب متذكّرين هذا الحدث المهم. اكتشفت خشبة الصّليب وجرت معجزات باهرات من جملتها أن لا مس الصّليب جثّة شاب كان يُشيَّع في تلك اللّحظات، عندما اكتُشفَت الخشبة فقام حالاً وعادت إليه الحياة. هذا هو صليب ربنا المحيي، نحتفل به متشفّعين أيضاً بالقديسة هيلانة، والصليب الذي هو علامة المسيح وشعاره ورايته، والذي سيظهر قبل مجيء المسيح، يظهر في السماء لأنه راية الملك السّماوي، هذا الصليب اعتبره الرب يسوع علامة أيضاً للتلميذ الذي يتبع المسيح: «من لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستحقّني»، لا يستحقّ أن يكون تلميذاً لي، لذلك فحمل الصليب علامة قبولنا للمسيح يسوع وتخصيص حياتنا له وخدمتنا إيّاه، علامة الرّعاة الذين يتبعون المسيح لينسجوا على منواله، علامة أولئك الذين انتخبهم الرب وعيّنهم ليكونوا رعاةً لخرافه بعد أن تظهر محبّتهم العميقة للمسيح يسوع ربّنا. لقد أحبّنا، أحبّنا حتّى النهاية. أطاع أباهُ محبّةً بنا أيضاً حتّى الموت، موت الصّليب. أحبّنا وأعطانا الصليب للخلاص، أحبّنا وعيّننا أيضاً رعاةً. عندما سأل الرب يسوع بطرس أتحبني وأجابه ثلاث مرّات نعم جواباً للأسئلة الثلاثة: أنت تعرف أنّي أحبّك حينذاك قال له: «إرعَ خرافـي، إرعَ نعاجي، إرعَ كباشي، اتبعني». لكل زمن، لكل عصر عبر الدّهور والأجيال يختار الله رعاةً له، رعاةً يريدهم أن يتشبّهوا به، أن يكونوا صالحين، أن يبذلوا أنفسهم عن الخراف. هؤلاء الرّعاة أيها الأحبّاء هم الذين ينتخبهم كما يقول الرّسول بولس في رسالته إلى العبرانيّين، ينتخبهم من الشّعب ليتقدّموا الشّعب، يقدّموا القرابين عن خطاياهم وعن خطايا الشعب. هؤلاء الرعاة الشرط الوحيد أن يحبّوا الرب، إذا أحبّوا الرب أحبّوا الرّعية وحينذاك يخدمون الرّعية محبةً بالرب يسوع.

قد اختارني الرب أن أكون خادماً له وللكنيسة وللشعب المبارك، أن أحمل رايته الصليب المقدس وأتقدّم رُعاة الكنيسة في جهادٍ مستميت في سبيل رفع راية المسيح وتمجيد اسمه القدّوس لخلاص نفسي وخلاص نفوس المؤمنين الذين يشكّلون ويؤلفون الكنيسة السريانية المقدّسة. منذ سبعة عشر عاماً نحن نصلي للرب لنكون خادم خدّام هذه الكنيسة المقدسة، ونشكره تعالى في هذا اليوم لأنّه أهّلني لأكون في عِداد الأحياء وأضع قدمي على أوّل عتبة من عتبات السنة الثامنة عشرة لجلوسي على كرسي أنطاكية بالنّعمة لا بالاستحقاق. أشكره تعالى لأنه في هذه السنين السبع عشرة ألهم الشّعب وأحبار الكنيسة وإكليروسها للتعاون معي في خدمة هذه الكنيسة المقدسة، فكانت إنجازات كثيرة روحيّة وعمرانيّة واجتماعيّة. كانت هناك إنجازات لتهيئة جيل صاعد مثقّف مؤمن بكنيسته، مؤمن بعقائدها، مؤمن بلغتها السريانية، مؤمن بوطنه العزيز أيضاً. هذا الجيل من الإكليروس المثقّف، فانطلق إلى العالم بعد أن امتلأ علماً ومعرفة في الكليّة الإكليريكيّة. انطلق إلى العالم ليبشّر الناس لأن الله مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية المقدسة، وهي ثابتة إذ قد أسّسها على صخرة الإيمان وستبقى ثابتة إلى الأبد. هذا الجّيل هيّأنا له بسخاء الشعب السرياني في أنحاء العالم هذا الدّير المقدس، ونحن مستمرّون في مشاريعنا لأننا أيضاً نشعر بمسؤوليّتنا تجاه أبنائنا وبناتنا الشّباب ومراكز التربية الدينية، فقد ابتدأنا بتشييد مركز التربية الدينية السرياني العالمي على هذه الأرض أيضاً لكي نجمع شبابنا فيوجدون معنا في وطننا، وطن كنيستنا سورية الحبيبة. كما إننا مستمرّون بمشاريعنا وسنقوم أيضاً إن شاء الله بالقريب العاجل ببناء برج الأجراس وكنيسة صغيرة أيضاً يكون فيها مدافن للبطاركة لننقل ضريح سلفنا المثلّث الرّحمة البطريرك يعقوب الثالث إلى هنا أيضاً كما هو في دير الزعفران الذي كان لمئات السنين كرسيّ أنطاكية ومقرّ الجالس على الكرسي الأنطاكي. إننا بكل ذلك نشكر أبناء الشعب في كل مكان. نشكر أوّلاً أحبار الكنيسة الذين وضعوا ثقتهم بنا وانتخبوني لأكون خادم خدّام المسيح وخادم خدّام الكنيسة السريانية الأرثوذكسية المقدسة بالنعمة لا بالاستحقاق، أشكرهم جميعاً.

وفي هذا اليوم أشكر أخي صاحب السّيادة مار إيوانيس بولس السوقي النائب البطريركي في دمشق المتعاون معنا كلّياً في كل ما نقوم به في البطريركية. أشكر أحبائي أبنائي الروحيين الرهبان الأعزّاء الذين يدرّسون في الكليّة والذين يدرسون ويدرِّسون خارجاً لنشر السريانية. أشكر الراهبات العزيزات اللّواتي يتعاونّ في مجالات عديدة وخاصة في ميدان التربية المسيحية السريانية المقدسة.

أحبّائي:

في هذا اليوم أشكركم جميعاً لمشاركتكم إيّانا هذه الذكرى الحبيبة على قلبنا عيد الصليب المقدس، ذكرى افتتاح دير مار أفرام الكهنوتي  هذا وذكرى جلوسنا على الكرسي الرّسولي الأنطاكي. أشكر أبرشيّة دمشق النيابة البطريركية بمجلسها الملّي الموقّر، بهيئة السيدات الخيرية التي برهنت في مدّة قصيرة على نشاطها وهمّتها. الكورال بقيادة الأب ابننا الروحي الربان جان قوّاق. الكشّاف العزيز الذين أيضاً فرحوا بهذه المناسبة وجمعيّة الشبان السريانية وجميع الذين يهتمّون في ميدان خدمة الكنيسة والشّعب السرياني في كل المجالات، لتكن مناسباتهم ومناسباتكم أيضاً كلّها أفراحاً ومسرّات.

أيّها الأحبّاء:

ما أحتاجه في هذه اللّحظات وفيما تبقّى من عمر يمنحه الله، إن كان ساعةً أو لحظات ومن يدري أو كان سنين، هذه النِّعَم من ربنا، ما أحتاجه هو الصلاة، الصّلاة لأجلي ليقوّيني الرب والتعاون معاً الإكليروس والشّعب إلى ما فيه تمجيد اسم ربّنا القدّوس وكل عام وأنتم بخير.


الاحتفال باليوبيل الألفي لميلاد الرب

نشكر اللّه تعالى أيها الأحباء الذي أهلنا لنحتفل في هذا اليوم المبارك بمناسبات ثلاث.

فنحن نعيِّد عيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس على يد الملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع. وهيلانة كانت ابنة قسيس سرياني في الرها. وعندما نعيّد لاكتشاف خشبة الصليب المقدس نتذكر الرمز إلى خشبة الصليب والى المصلوب بالذات، الحية النحاسية التي كان بنو إسرائيل عندما كانت الحيات المحرقة في البرية تلدغهم يتطلعون إليها فينالون الشفاء ونحن نتطلع إلى الصليب المقدس ونتذكر أن الرب يسوع قد صلب عليه وسفك دمه لأجل خلاصنا، ونتخلص من إبليس الحية الدهرية وننال الشفاء الروحي والجسدي في آن واحد.

ونحتفل أيضاً بالألف الثاني لميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد ولذلك نرى أصحاب النيافة الاحبار الأجلاء الأعزاء قد اجتمعوا تحت سقف هذه الكنيسة لنشترك معاً في تمجيد اللّه تعالى الآب الذي أحب البشرية فأرسل ابنه الحبيب لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. وعشرون قرناً مرت وانقضت منذ ولد الرب يسوع بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم وخلال تلك القرون وتلك الأيام التي مضت سريعة وهب كنيسته النعم السامية وأعطى رسله الأطهار سر الكهنوت المقدس بل رئاسة الكهنوت كي يبرروا ويقدسوا الناس ويؤهلوهم ليولدوا ميلاداً ثانياُ من السماء. المسيح كلمة اللّه الذي كان في البدء الذي ولد من الآب قبل كل الدهور على حد قول دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني. إن الرب يسوع المسيح أخذ جسدنا وقد تجسد في سبيل فدائنا وفدانا بدمه الأقدس. ولد ليكون ابن الإنسان وهو ابن اللّه الأزلي لنصير نحن فيه أولاد اللّه بالنعمة. ولد على الأرض ميلاداً زمنياً لنولد نحن في السماء ونستحق به أن نكون ورثة لملكوته السماوي. ونحمد اللّه تعالى الذي أحيانا إلى اليوم وأهلنا لنكون على مشارف القرن الحادي والعشرين ولا نعلم ما يخبئه لنا المستقبل ولكننا نعلم أن المستقبل بيد اللّه تعالى ونعلم أن المسيح صادق بوعوده إنه باقٍ في كنيسته إلى الأبد ولذلك لن تتزعزع. كم عانت من اضطهادات من اليهود والوثنيين ثم من المملكة البيزنطية الظالمة. لكنها بقيت ثابتة وستبقى ثابتة إلى الأبد لأن المسيح في وسطها فلن تتزعزع أبداً.

أيها الأحباء: ونحتفل أيضاً في هذا اليوم بذكرى جلوسنا بالنعمة لا بالاستحقاق على الكرسي الرسولي الإنطاكي قبل عشرين عاماً ونشكر اللّه الذي أهلنا خلال تلك الأعوام أن نخدم الكنيسة بمخافة اللّه بتواضع ووداعة، كم عانينا من الشدائد، كم قسا الدهر علينا ولكننا عندما كنا نتطلع إلى يسوع المصلوب ونسمع كلمته: تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال. وأنا أريحكم، وقوله أيضاً: أحملوا نيري عليكم ونيره هو الصليب. وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. نتعزى ونتشجع ونواصل السير على درب صليبه تابعين إياه بإيمان ورجاء ومحبة. أنني في هذه اللحظات قد ذكرت على مذبح الرب الآباء المطارنة الذين بإلهام رباني انتخبوني بالإجماع لهذه الرتبة السامية التي لا أستحقها. ذكرت الذين رقدوا بالرب وانتقلوا إلى الخدور العلوية ليعطهم الرب راحة في السماء. ذكرت الذين بنعمة اللّه لا يزالون أحياء، ليمد اللّه بعمرهم ويمنحهم الصحة والعافية ليواصلوا خدمتهم لكنيسة اللّه بعون اللّه تعالى. وإني أشكر إخوتي الأحباء الأجلاء جميعاً لحضورهم في يوم تنصيبي في مثل هذا اليوم قبل عشرين عاماً وأجدد عهدي للّه أن أكون خادماً أميناً له وأن أخدم الكنيسة المقدسة كنيستي السريانية الأرثوذكسية التي أفتخر بها وأشكر اللّه أنني ولدت ونشأت في أحضانها ولي الشرف أن أكون أحد خدام المسيح فيها. فهي أمي الرؤوم والتي ولدتني من جرن المعمودية وسقتني مياه التعاليم الدينية النقية وعلمتني كيف يجب أن أتحلى بالفضائل المسيحية وأهلتني بعون اللّه لأكون خادم خدامها الأمناء، وفي هذه المناسبة أكرر اليوم ما كنت قد أعلنته أمام اللّه قبل عشرين عاماً معاهداً إياه تعالى ومعاهداً أحبار الكنيسة والكهنة والشعب المبارك أن أكون دائماً متمسكاً بالإيمان القويم الرأي الإيمان الأرثوذكسي. الذي تسلمته من آبائي وأن أقتدي بالآباء الميامين الذي تحلوّا بالسيرة الكهنوتية السامية النقية. سائلاً اللّه أن يبارككم جميعاً أيها الأحباء:

أيها السامعون الكرام:

عشرون قرناً مضت وانقضت على ميلاد السيد المسيح بالجسد من الروح القدس ومن القديسة مريم العذراء. ونحتفل اليوم بالاستعداد لتوديع الألف الثاني واستقبال الألف الثالث لميلاده العجيب بالجسد، وإذا كان العالم كله قد احتفل ويحتفل بهذه المناسبة المجيدة، جدير بنا نحن في سورية أن نفعل ذلك بافتخار لأن السيد المسيح كلمة الله الأزلي الذي ولد من الآب قبل كل الدهور ولد بالجسد قبل عشرين قرناً في سورية. فهو سوري لغة وحضارة فنحن إليه ننتمي وبه نعتز، وهو ينتمي إلينا بالجسد ولن ينجح أعداؤه في سرقته منا أو في أسره عندهم ولا في تشويه طبيعته ورسالته، خاصة إذا كنا حريصين على التمسك بتعاليمه الإلهية وتابعين أثره ومتطلعين إلى ملكوته السماوي.

لقد ولد السيد المسيح في بيت لحم، ونشأ في الناصرة (مت 13: 54 ومر 6: 1) وأمضى في كفر ناحوم أغلب وقته حيث تمثل على أديمها معظم أحداث تدبيره الإلهي العلني على الأرض، ويقول لوقا البشير في الإنجيل المقدس عند التحدث عن ولادة السيد المسيح بالجسد: أن أوغسطس قيصر قد أصدر أمراً بأن تكتتب كلّ المسكونة ويعني بذلك البلاد التي كانت خاضعة للاستعمار الروماني ويردف لوقا قائلاً: «وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية» (لو 1: 2) وهو بذلك يعني أن فلسطين كانت جزءاً لا يتجزأ من سورية. وإذا صحّ أن ننسب إلى السيد المسيح قومية أو وطناً أثناء تدبيره الإلهي بالجسد فهو سوريٌ آراميٌ لا غير، قومية ونسباً ولغة وحضارة. فقد تكلم الآرامية السريانية لغة سورية القديمة وولد وعاش بالجسد في فلسطين التي كانت جزءاً لا يتجزأ من سورية. وهو من نسل إبراهيم أبي الآباء الذي يدعوه كتاب العهد القديم آرامياً فقد جاء في سفر التثنية أن الله تعالى قال لموسى: «ثم تصرخ وتقول أمام الرب إلهك: آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرب هناك…» (تث 26: 5).

وكان الله قد وعد إبراهيم قائلاً: بنسلك تتبارك جميع الشعوب. والرسول بولس يقول: «أما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول في الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح» (غل 3: 16) فالمسيح ابن السماء وإذا صحّ أن ينسب أثناء تجسده الإلهي إلى وطن فلا يصحّ أن ينتسب إلاّ إلى سورية فهو سوري ينتمي إلينا وننتمي إليه ولا نسمح أن يغتصب منا لأسباب سياسية لا تمت إلى الدين ولا إلى حقائق التاريخ بصلة.

هذا ما أعلناه من قبل للعالم أجمع عبر إذاعة دمشق والتلفاز العربي السوري، وتناولته وسائل الإعلام العالمية المقروءة والمكتوبة والمرئية، ونعلنه اليوم ثانية ونحن نحتفل بالاستعداد لتوديع الألف الثاني واستقبال الألف الثالث لميلاد السيد المسيح بالجسد. وفي أيامنا هذه تحاول إسرائيل أيضاً اغتصاب مدينة القدس من العرب أهلها الشرعيين والاستيلاء على مقدساتها المسيحية والإسلامية. ومدينة القدس مهبط الوحي والإلهام ومحط أنظار المسيحيين والمسلمين وآمالهم. وقد بناها أجدادنا القدماء وأطلقوا عليها الاسم الآرامي الكنعاني أورشليم أي دار السلام حيث لم يكن وقتئذ عبرانيون ولا لغة عبرية والتوراة هي شاهدنا على ذلك حيث تذكر أن إبراهيم الخليل أبا اسحق وإسماعيل جاء من مدينة أور الكلدانيين، وأنه قابل مرة ملكيصادق ملك شاليم أي أورشليم وملكيصادق هذا يوصف بأنه كاهن الله العلي الذي كان رمزاً للسيد المسيح إذ كان يقدم الخبز والخمر قرباناً للّه ولم يقدم ذبائح حيوانية. ودفع له إبراهيم العشر من كل ما يملك.

إن التوراة نفسها تقول إن العبرانيين جاؤوا أورشليم غزاة محتلين وقتلة مدمرين لا بناة لحضارات أو دعاة لدين وأخلاق وتسامح.

فأورشليم القدس ستبقى لنا، نحن أوجدناها ونحن سمّيناها ونحن بقينا فيها وسنظل نقيم فيها إلى الأبد.

إن الذريعة التي يطرحها الصهيونيون بأنهم كانوا هناك من قبل، وأنهم يعودون اليوم إلى أرضهم يُرد عليها بأن الأرض لنا وليست لهم، نحن كنا منذ البداية وبقينا مستمرين ونحن موجودون وسنظل موجودين. ويطالب الإسرائيليون الغزاة بحق السيادة على القدس، بدعوى وجود أماكنهم المقدسة فيها… ولكن القدس لا تضمّ أماكنهم المقدسة فقط بل تضمّ كذلك مقدسات المسيحيين والمسلمين. فيها أغلى وأسمى الأماكن المسيحية المقدسة التي لا يحصى لها عدد، وفيها قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى وغيرها من الأماكن المقدسة الإسلامية.

ويبلغ عدد المسيحيين والمسلمين في العالم أكثر من ملياري نسمة بينما لا يزيد عدد اليهود في العالم أجمع عن خمسة عشر مليون نسمة. فكيف… وبأي حق يريد اليهود وضع اليد على مقدسات المسلمين والمسيحيين وإخضاع مجيء هؤلاء إليها لإرادتهم وموافقتهم وإشرافهم؟

والضمانات التي يعرضها المحتلون الصهيونيون العنصريون لحرية العبادة وحماية المقدسات لا يُركن إليها أبداً، والذين لم يرعوا للشرعية الدولية حرمة ولم يتركوا قراراً يتعلق بالأرض والإنسان في الأرض المقدسة إلاّ وخرقوه، لا يمكن الركون إلى وعودهم وضماناتهم. فأمنيتنا في القرن الحادي والعشرين أن ترجع إلى العرب أراضيهم التي سلبتها إسرائيل ولتكن لهم أي للعرب القدس إلى الأبد.

أيها السامعون الكرام:

حيث أننا نودع القرن العشرين، لا بد أن نذكر القائد البطل المغفور له الرئيس حافظ الأسد الذي رحل عنا قبل ثلاثة أشهر إلى الخدور العلوية. نذكر أفضاله الكثيرة على سورية والوطن العربي والإنسانية جمعاء، فهو حقاً قد وضع أساس دولة سورية الدولة المتقدمة المتطورة التي تكفل العيش الكريم للمواطنين وتملك القدرة على الدفاع عن النفس وتعتمد المقاييس العلمية وتقيم العدل بين المواطنين وترسي قواعد المساواة وتكافؤ الفرص بينهم وتفتح الآفاق لتطور الثقافة التي تربط الحاضر بالماضي المجيد وتوصل آمال المستقبل بحوافز حضاراتنا الغابرة المجيدة، كما قد جعل من سورية مثلاً يقتدى بين الدول المتطلعة إلى التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية. فقد وحّد الشعب في صفوف وقفت خلف قيادته في وحدة وطنية لا تقوى عليها قوة عدو، ولا تغلبها مؤامرة وأنار أمام الشعب الطريق في غابة مظلمة سوداء يسمونها النظام العالمي الجديد الذي اختلت فيه الأمور وضاع التوازن وشعرت معه الشعوب بالضياع ولكن القائد المظفر المغفور له الرئيس حافظ بعث الأمل ورفع الراية التي لا تنكّس واستنهض الهمم وأكّد من جديد أنه لم ولن يتنازل عن حق الأمة أو يساوم على ذرة من تراب الوطن العزيز.

إن الله تعالى الذي اختاره قائداً وقدوة في زمن ندر فيه الرجال العظام وعزت القدوة في كثير من الأقوام، نقله إلى جواره ليستريح من أتعابه وينال مكافأته، واختار الله تعالى شبل الأسد الفريق الدكتور بشار حافظ الأسد ليكون خير خلف لخير سلف فبايعه الشعب الأبي لينسج على منوال والده المغفور له الرئيس حافظ الأسد ونحن على يقين أنه مثل والده يؤمن بالله تعالى الذي اصطفاه وأنعم عليه بالحكمة والذكاء والألمعية والشجاعة، ويؤمن بأن من يكون مع الله يكون تعالى إلى جانبه دائماً. إن أبناء الأمة في كل مكان يتطلعون وسط التغيرات الدولية والأطماع الهائلة إلى هذا القائد الشاب البطل وكلهم ولاءٌ له وأمل وثقة ورجاء بمستقبل أفضل للبلاد بقيادته الرشيدة. فليُزدْه الله قوة وحكمة وشجاعة ويجعل النصر والتحرير على يديه. آمين.

ذكرى تنصيب قداسته عام 2001

«ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوةً وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض. وأرسلهم ليكرزوا بملكوت اللّه ويشفوا المرضى».

      (لو9: 1)

هكذا دعا الرب يسوع رسله الأطهار وتلاميذه الأبرار فلبوا دعوته وتبعوه وجلببهم بقوة وسلطان على جميع الشياطين وأرسلهم إلى العالم لينيروا دياجيره بنوره الإلهي ثم بعد صعوده إلى السماء أرسل إليهم روحه القدوس الذي حل عليهم بشبه ألسنة نارية في العلية وملأهم حكمة وشجاعة، وهو يقود الكنيسة التي أسسها المسيح يسوع في طريق الحياة لتكون شاهدة للمسيح الفادي الذي هو الطريق وهو النور وهو الحق وهو الحياة، ويختار الروح القدس رعاة يرعون أغنام المسيح الناطقة  رعاية صالحة ومثلما منح الرب يسوع رسله القوة والسلطان، ما يزال يمنح هذه القوة وهذا السلطان لخلفائهم، ويذكر تاريخ الكنيسة أن هامة الرسل بطرس أسس الكرسي الرسولي الأنطاكي وهو أول أساقفتها، أي بطاركتها الشرعيين في سلسلة شرعية غير منقطعة وقد ورثته بنعمة اللّه لا بالاستحقاق وضمَّ اسمي إلى سلسلة أسماء أسلافي البطاركة العظام قبل إحدى وعشرين سنة خلفاً لسلفي الطيب الذكر البطريرك مار إغناطيوس يعقوب الثالث.

حيث أجمع أحبار الكنيسة الأجلاء بإلهام الروح القدس على انتخابي بطريركاً على أنطاكية وجرت حفلة تنصيبي في الرابع عشر من شهر أيلول سنة 1980. في كاتدرائية مار جرجس بدمشق، وعاهدت الرب يسوع يومذاك على الحفاظ على الإيمان المقدس الذي تسلمته من آباء الكنيسة المقدسة وحمايته ورعايته لأكون راعياً أغنام المسيح وخرافه وكباشه رعاية صالحة، وفي الذكرى الحادية والعشرين لتنصيبي بطريركاً وبدء السنة الثانية والعشرين لهذا الحدث التاريخي المبارك.

أجل في هذه الذكرى المباركة أسكب نفسي أمام الرب الإله بانسحاق ووداعة وتواضع شاكراً إياه تعالى على إلهامه آباء كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية لانتخابي بالإجماع أباً عاماً لهذه الكنيسة المقدسة العريقة بالمجد والسؤدد وراعياً لرعاتها، وأكرر عهدي له تعالى وللكنيسة بإكليروسها وشعبها المؤمن بأن أكون خادماً أميناً له ولخدامه، أجل لقد اختارني الرب ودعاني ولبيت الدعوة بإرادتي ودخلت من الباب الضيق وسرت في الطريق الصعبة والمليئة بالأشواك حاملاً صليب الرب يسوع وتابعاً إياه بل صالباً ذاتي معه على العود وقمت معه في اليوم الثالث لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ، فمحبة المسيح يسوع ربي تظهر بمحبتي رعيته الشعب السرياني النبيل في جميع أنحاء العالم الذي اختارني الرب لأكون وكيله في خدمته ورعايته وإعطائه طعامه الروحي في حينه فمهما تحملتُ في سبيل ذلك من صنوف الآلام والمشقات من الداخل والخارج فإنني أعد ذلك هبة من اللّه طبقاً لما قاله الرسول بولس: «لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضا أن تتألموا لأجله»، (في 1: 29).

وإن الرب يسوع المصلوب من أجل خلاصنا و صار مصدر عزاء لي في خدمتي وقد لبيتُ دعوته لي للمتعبين مثلي في خدمة كلمته الإلهية بقوله: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم»، (مت 11: 28 ـ 29). فالرب معي وأنا معه ولم يتخلَ عني لحظة واحدة منذ نعومة أظفاري وحتى هذا اليوم. وفي إحياء ذكرى تنصيبي أصلي إليه ليستمر بعضدي ومنحي نعمة إلهية وحكمة سامية، وصبراً جميلاً لتكون رعايتي لقطيعي الصغير وكنيسته المقدسة صالحة، أكرر أيضاً شكري لآباء المجمع المقدس الذين وضعوا ثقتهم بيّ أنا الضعيف.

وأذكر بالرحمة الذين رقدوا بالرب وأدعو للأحياء بالعمر الطويل والتوفيق الجليل والصحة التامة ليواصلوا خدمتهم الرسولية لأبرشياتهم العامرة. شاكراً إياكم أحباراً وكهنةً ورهباناً وراهباتٍ وشعباً مباركاً على مشاركتكم إياي الصلاة في هذه المناسبة السعيدة وليعيد اللّه علينا هذه الذكرى السعيدة وعيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس على يد الملكة هيلانة والدة قسطنطين وابنة الكاهن السرياني الرهاوي بالخير والصحة الروحية والجسدية الكاملة، وبهذه المناسبة لا بد أن أعلن أمام اللّه وأمامكم أيها الأحباء بأنني بذلت قصارى جهدي منذ جلوسي على الكرسي الرسولي الأنطاكي بأن أكون خادماّ أميناً للرب، وأجرؤ أن اردد مع الرسول بولس قوله: «قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان»، (تي2 4: 7) وتاجرت بالوزنات التي ائتمنني على المتاجرة بها الرب يسوع وأسأله له المجد أن يغفر لي ويؤهلني في اليوم الأخير لأرث ملكوت السماء مع الوكلاء الأمناء الحكماء الذين تاجروا باجتهاد بالوزنات الإنجيلية فكانوا من الرابحين ونعمته تشملكم دائماً وأبداً آمين، وكل عام وأنتم بخير.


عيد الصليب ـ مار متى الناسك (*)

    احتفلت الكنيسة المقدسة أيها الأحباء يوم الجمعة بعيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس على يد القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين. وباحتفال الكنيسة باكتشاف خشبة الصليب، إنما تحتفل بتمجيد المصلوب على تلك الخشبة، المسيح يسوع الذي فدانا بدمه الثمين. وبإلهام الروح القدس آباؤنا السريان القديسون رتبوا ونظموا قراءات من الكتاب المقدس وخاصةً من الإنجيل المقدس لهذه المناسبات ومناسبات أخرى. وبما أننا نكرم الصليب بتكريم المصلوب عليه لا نكرم خشبة أو أي معدنٍ ثميناً كان أو رخيصاً إنما نكرم المسيح. وعندما نسجد للصليب نسجد للمسيح بالذات الذي عُلِّق على الخشبة لأجل فداءنا.

    هذه عقيدتنا أيها الأحباء. لذلك في هذا اليوم الذي يلي اكتشاف خشبة الصليب تتأمل الكنيسة بحادثة مجيء الرب الثاني. وفيها أعلن لنا الرب يسوع أن علامته، رايته الصليب المقدس ستظهر في السماء. ظهرت أيام قسطنطين الملك الذي كان وثنياً، ولكن أمه كانت هيلانة ابنة قسيس الرها سريانية أرثوذكسية، وكانت تصلي لأجله. لنقتدِ بها كلنا في الصلاة لأولادنا وخاصة الأمهات، ونذرت أنها بعد أن تجد ابنها وقد آمن بالمسيح تذهب إلى أورشليم وتفتش عن خشبة الصليب. عندما نرى هؤلاء الشهود عبر الدهور والأجيال للمسيح يسوع، القديسون والقديسات وكيف أن الله يستجيب صلاتهم وكيف أنهم يهدفون في حياتهم إلى خلاص النفس، وخاصة إلى الأقربين منهم، إلى أبنائهم وبناتهم وأقربائهم ليولدوا ثانية من السماء، ليسجدوا للمصلوب، ليؤمنوا به فادياً للبشرية كافة بدمه الثمين. عندما نجد ذلك أيها الأحباء، نرى أيضا الكنيسة تعيد لقديسين عبر الدهور والأجيال وهي تنتظر مجيء المسيح، كما سمعنا الآيات المقدسة التي تُليَت على مسامعكم في بدء القداس الإلهي من إنجيل البشير لوقا. أننا يجب أن نكون ساهرين منتظرين مجيء الرب وبمجيء الرب سنرى علامة الصليب في السماء تعلن كراية أمام ملك أنه آتٍ. ومجي الرب. هذه العقيدة التي آمن بها آباؤنا بدءاً من المسيحيين الأولين تضع في قلوبنا الرجاء والإيمان والمحبة. لنعيش بيقظة وسهر دائم، لا سهر السكارى الذين يتلذذون بملذات هذا العالم. بل سهر النسّاك والزهّاد والعبّاد أولئك الذين ليلاً ونهاراً يلهجون بذكر الرب وناموسه، سهر أولئك الذين يرون أن أي زلة أو هفوة أو خطيئة ستزيل عنهم النعمة. لذلك يكملون ناموس الرب بحذافيره وندعوهم قديسين. سهر الذين إذا اقتضى الأمر في سبيل التمسك بالإيمان يسفكون دمهم الطاهر أيضا لأنهم يتأملون بالمصلوب الإله المتجسد الذي لم يكن مجرد إنسان.

    إن فخر الكنيسة كما يقول مار اسحق أن الله مات بالجسد. لذلك إذا كان الله قد مات بالجسد لكي يفديني أنا الإنسان البسيط، أكثير عليّ أن يسفك دمي في سبيل التمسك بإيمانه، أكثير علي أن أضحي حتى بهذه الدنيا وملذاتها لكي أكسب الآخرة، السعادة الأبدية في المسيح يسوع ربي وأصابع قدمي مرتفعة وعيوني تتطلع إلى السماء، أنتظر علامة الصليب المقدس لتظهر في السماء فأرى المسيح آتياً بمجد أبيه السماوي وملائكة أبيه تحتاط به من كل جانب. بل أسمع صوته ليقيم الموتى من قبورهم ليعودوا أحياء، ونحن الذين في الجسد كما يقول الرسول بولس: إذا كنا أحياء تتبدل أجسادنا الترابية إلى أجساد روحية شفافة كجسده بعد قيامته من بين الأموات لنخطف معه في الجو… (1تس 4 : 17)، أكثير علينا أن نتحمل الإيمان في سبيله ونحن نتصور كيف سنقوم باسمه، وكيف سنكون معه مرتفعين إلى السماء لننال السعادة الأبدية. هذه السعادة التي سعى إليها الآباء القديسون.

    هيلانة نذكرها بفخر وهي ابنة كنيستنا السريانية. تيودورة نذكرها باعتزاز، التي دافعت هي أيضاً ولئن كانت إمبراطورة عن الإيمان السرياني الأرثوذكسي بكل شجاعة وإيمان لأنها تترجى مجيء الرب ثانية لتنال هي أيضا السعادة الأبدية. النسّاك الزهاد. الذين حملوا مشعل الإنجيل المقدس إلى أطراف العالم، تلمذوا اليهود والوثنيين ليصيروا مسيحيين أولاداً لله بالنعمة. في هذا اليوم تعيد كنيستنا في المشرق من أطراف العراق التي كانت بلاد فارس، قديساً من القرن الرابع هو القديس مار متى، الذي جاء من تلك الأماكن من أطراف ديار بكر. القديس متى والقديس زكا والقديس أبروهوم وكذلك دانيال وغيرهم. جابوا مبشرين في بلاد فارس. كانت هناك ولاية آثور التي تعتبر بجوار الموصل والتي كان يحكمها والٍ آثوري هو سنحاريب دُعِي ملكاً. والذي كان مجوسياً يعبد النار. فمار متى من جبله الذي كان يتنسك به يومذاك، جاء ليبشر بلاد آثور، تلمذ سارة الأميرة وبهنام ولدي الملك سنحاريب، سارة عمدها فتطهرت من البرص الذي أصابها فآمنت كما آمن أخوها وجنوده الأربعون، واستشهدوا على يد سنحاريب بالذات لأنهم تركوا عبادة الوثنية، العبادة الوثنية التي كانت تتمسك بها تلك البلاد. وأخيراً سنحاريب أيضاً وزوجته الملكة، آمنا بالرب يسوع، واعتمداً أيضاً على يد القديس مار متى. ومنذ ذلك الحين نجد دير مار متى ملجأ للمرضى، للمحتاجين، للمعوزين، للملتجئين إلى المسيح يسوع بالصلاة والصوم والعبادة، لأنهم ينتظرون مجيء الرب ثانيةً ليكافئ أولئك الناس عن كل عمل صالح قاموا به، عن عمل الإيمان والمحبة والرجاء بربنا يسوع المسيح.

    اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون متى يأتي الرب: هذه العقيدة أحبائي، جعلتنا نتحمل الاضطهاد من أجل المسيح عبر الدهور والأجيال. هذه العقيدة جعلتنا أن نبقى أنقياء طاهرين لكي نقبل من الرب يسوع في مجيئه الثاني. هؤلاء النساك، هؤلاء العباد، هؤلاء الذين ضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل حمل صليب المسيح، ينتظرون ونحن معهم ويجب أن نكون معهم، متى تظهر علامة الصليب في السماء، متى يأتي المسيح يسوع، نطلب إليه ليأتي ملكوته. ننتظر ملكوت الرب، لأن ملكوت الرب ليس أكلاً وشرباً، بل هو بِرٌّ وسلام ومحبة وتحمل وإيمان تام، ملكوت الله في السماء. ننتظر ذلك بإيمان متين ثخين. ننتظر ذلك برجاء لا يخيب لنكون في عداد أولئك الذين سيرثون ملكوت السماوات مع هيلانه وتيودورة ويعقوب البرادعي وسويريوس الكبير، مع كل القديسين الذين سلّمونا تعاليم الرسل، الإيمان الحقيقي بالمسيح يسوع الإله المتجسد الذي صُلِب على العود. وكانت علامة الصليب ومازالت وستبقى التي شبهت بالحية النحاسية علامة خلاص لنا، لنرى المصلوب ونؤمن به وقد قام من بين الأموات وأقامنا معه، وبذلك ننال الخلاص بدمه الطاهر. وننتظر المسيح ليأتي على سحاب السماء كما صعد ورآه الرسل على السحابة وأخفته السحابة من أمامهم. وكما بشر الملاكان الرسل قائلين: أيها الرجال الجليليون لماذا تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا ثانية. فعادوا بفرح عظيم إلى أورشليم وكانوا دائما في الهيكل يعبدون الله (أع 1 : 9-14). ونحن أيضاً علينا أن نعبد الله بفرح وننتظر مجيئه ونقتدي بالقديسين وننتهز فرص أعيادهم لنتشفع بهم لكي يجعلنا الرب مثلهم أنقياء تائبين لننال معهم ملكوته السماوي. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.


عيد الصليب المقدس

أشكر الله تعالى على النعمة التي أسبغها عليّ، حيث قد اختارني لأكون خادم خدّام كنيستنا المقدسة الجامعة الرسولية، كنيسة أنطاكية. التي أسسها على مبدأ الإيمان القويم، الذي أعلنه بطرس الرسول بإيحاء من السماء بأن المسيح هو ابن الله الحي. فاستحق الطوبى من الرب. على هذا الأساس، أساس أن المسيح هو ابن الله الحي، وضع الرب وأسّس وشيّد وأقام كنيسته المقدسة. وتلك الكنيسة أيها الأحباء: كان لا بد أن يقيم عليها مَنْ يعتني بأبنائها، لذلك قال للرسول بطرس: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماًً ودماً لم يعلنا لك ذلك، لكن أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها(مت 16: 16-18). ليس هذا فقط. بل أعطاه سلطاناً في الأرض والسماء، أعطاه مفاتيح التعليم والتهذيب والسلطة في آن واحد، فما ربطته على الأرض قال له يكون مربوطاً في السماء، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماء (مت 16: 19) أعطاه مفاتيح التعليم أيضاً ليعلن العقيدة السليمة ويسلّمها إلى خلفاءه.

    هكذا أحبائي لم تكن الكنيسة مؤسسة عالميّة غير منظَّمة، بل مؤسسة سماوية وملكوت الله على الأرض، ومخزن الأسرار الإلهية والقائمون على توزيع هذه الأسرار والنِعَم هم الرسل الأطهار وفي مقدَّّمتهم هامة الرسل بطرس. الذي أسّس الكرسي الرسولي الأنطاكي والذي صار أول أسقف على إنطاكية. وهكذا تسلسل آباء الكنيسة وهم متمسكون بالإيمان القويم الرأي، وقد بذل العديد منهم وسكبوا دماءهم في سبيل الحفاظ على جوهرة الإيمان، وفي الوقت نفسه الحفاظ على لغتنا السريانية المقدسة، اللغة الوحيدة التي اختارها المسيح يسوع ربنا. المسيح يسوع اختار هذه اللغة وتكلّم بها، فأصبحت مسؤوليتنا كأناس تابعين لهذه الكنيسة، أن نحافظ على هذا الإيمان وفي الوقت نفسه أن نحافظ على لغة المسيح السريانية التي هي بركة عظيمة لنا وللعالم أجمع.

    آباء الكنيسة خلفاء بطرس العِظام، اهتموا برعاية هذه الكنيسة رعاية صالحة. الرب اختار بطرس وبقيّة الرسل البسطاء كما يذكر التاريخ. أوسابيوس في القرن الرابع يقول عنهم: أنهم لم يكونوا يعرفون سوى اللغة السريانية، هذه اللغة التي نعتز ونفتخر بها. ولكن في الوقت نفسه لا ننسى أنهم كانوا غيارى، وكانوا مؤمنين بالكتاب المقدس والنبوءات ومنتظرين مجيء السيد المسيح مشتهى الأجيال. لذلك نالوا مبتغاهم واستجاب الله صلواتهم، بل أيضاً اختارهم ليقودوا موكب الكنيسة ويرعوها رعايةً صالحة. تسلسل آباء الكنيسة الأحبار الأجلاّء، الأحبار العِظام. نذكر منهم بطرس ونذكر منهم اغناطيوس النوراني ثالث أساقفة إنطاكية، نذكر سويريوس الكبير العظيم، تاج السريان، ونذكر أيضاً من قام مقام البطاركة وثبّت الناس على الإيمان، يعقوب البرادعي. نذكر هؤلاء جميعاً ونعتزّ بهم، ونرى نفسنا وقد اختارنا المجمع المقدس قبل اثنتين وعشرين سنة لأكون خليفة لهؤلاء العِظام أنا الضئيل الضعيف، لأن قوته كما قال في الضعف تكمل. إنني أشكر هؤلاء الذين بإلهام من الروح القدس اختاروني كما اختار الرب منذ بدء المسيحيّة الذين اختارهم رعاة، وكان صوت الله يُعلَن يومذاك للجمهور كما في انتخاب برنابا وشاول. يقول سفر أعمال الرسل: «فيما كانوا يعبدون الله قال لهم الروح: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا وصلّوا ووضعوا عليهما الأيدي» (أع 13 : 2). والرب في كل حين يُلهم الآباء، يفرز أحدهم ليحمل الراية أمامهم ويخدم الرب ليكون خادم خدّام المسيح في الكنيسة المقدسة. أنا الضعيف اختارني أولئك الآباء، أترحّم وقد ذكرتُ على مذبح الرب الذين رقدوا بالرب منهم، وسألت الرب أن يحفظ الذين في الحياة بصحة تامة وعافية وعمر مديد، شاكراً إياهم على وضع الثقة فـيَّ أنا الضعيف، مؤكِّداً لهم بأنني وقد تسلّمت هذه الأمانة أسعى ليلاً ونهاراً في خدمة الرب بإيمان متين، وصبر ورجاء وطيد، طالباً من الرب وخاصة في الليالي أن أكون قريباً منه، أن يشملني بعنايته، أن يعضدني لأقوم بالرسالة التي وضعها على عاتقي مقتدياً به، فقد دعانا: تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم (مت 11 : 28). نيره هو الصليب المقدّس، وقد صُلِبت معه كما صُلِب آبائي أيضاً وهم يخدمون الكنيسة أحباراً أجلاّء، فتعلّموا مني قال الرب، لأني وديع ومتواضع القلب (مت 11 : 29). فإنني أجرؤ أن أعلن أنني وديع ومتواضع القلب كسيّدي وربي يسوع المسيح، وداعة بقوّة المسيح لا بضعف، والتواضع قدوة بالمسيح يسوع الذي بتواضعه كسر خطيئة الكبرياء وأعادنا إلى فردوس النعيم.

    في هذا اليوم المبارك، في ختام السنة الثانية والعشرين لجلوسي بالنعمة لا بالاستحقاق على الكرسي الرسولي الأنطاكي، وبدء السنة الثالثة والعشرين أشكر إخوتي الأحبار الأجلاّء أعضاء المجمع المقدّس على مشاركتهم إياي الصلاة في هذه المناسبة ليواصل الرب عونه لي حتى يناديني إلى السماء مع الآباء القديسين، مع التائبين، لا مع أولئك الذين يدّعون البر، فأنا إنسان خاطئ، ذليل، ضعيف ولكن أطلب من الرب أن يجعلني وقد انتخبني كرئيس لهذه الكنيسة وخادماً لخدّامها أن يجعلني في عِداد الذين يخدمونه ويرضونه في خدمتهم الصالحة. أشكر إخوتي وأحبائي وأعزائي أصحاب النيافة المطارنة الأجلاّء:

مار ملاطيوس برنابا مطران حمص وحماه المتقاعد.

مار اثناسيوس أفرام برصوم مطران بيروت.

مار غريغوريوس صليبا شمعون مطران الموصل وتوابعها.

مار سويريوس حاوا مطران بغداد والبصرة.

مار طيمثاوس أفرام عبودي النائب البطريركي في كندا.

مار يوليوس عيسى جيجك مطران أوربا الوسطى.

مار فيلكسينوس متى شمعون مطران المؤسسات البطريركيّة في العطشانة.

مار ثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان.

مار طيمثاوس صموئيل أقطاش مطران طور عبدين.

مار يوليوس عبدالأحد شابو مطران السويد والدول الاسكندنافيّة.

مار اسطاثيوس متى روهم مطران الجزيرة والفرات.

مار اقليميس أوكين قبلان النائب البطريركي في الولايات الغربية في أميركا.

مار كيرلس أفرام كريم النائب البطريركي في الولايات الشرقية في أميركا.

مار ديوسقوروس بنيامين أطاش النائب البطريركي في السويد.

مار سويريوس ملكي مراد النائب البطريركي في الأردن والقدس والديار المقدسة.

مار ديونيسيوس عيسى كوربوز النائب البطريركي في ألمانيا.

مار يوليوس قرياقس السكرتير البطريركي الأول ومطران شؤون الكنيسة في الهند.

مار سلوانس بطرس النعمة مطران حمص وحماه.

مار سويريوس صليبا توما النائب البطريركي في زحلة والبقاع.

مار أياونيس بولس السوقي النائب البطريركي في دمشق.

    كما أشكر أيضاً أبرشية دمشق والمؤمنين كافةً الذين يشاركوننا الصلاة في هذا اليوم وأشكر كل من تجشم عناء السفر من أي مكان كان ليشاركنا هذه الصلاة لأجل خادم الكنيسة. وفي هذا اليوم الذي تحتفل فيه الكنيسة بذكرى اكتشاف خشبة الصليب المقدس، أسأل الرب الإله أن يبارككم بعلامة صليبه ويحرسكم ويغفر لنا ولكم خطايانا لنكون مرضيين من الله تعالى. وكل عام وأنتم بخير.


ذكرى تنصيب قداسته عام 2003

أصحاب النيافة الأحبار الأجلاء، أحباءنا الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل،

أيها الشعب المبارك:

تحتفل الكنيسة المقدسة اليوم بعيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس في أوائل القرن الرابع للميلاد على يد الملكة هيلانة وابنها قسطنطين الإمبراطور الروماني العظيم. كانت هيلانة ابنة قسيس سرياني كان يخدم الكنيسة في بلدة تقع في ضواحي الرها، وكانت مؤمنة صالحة تؤمن بأن الرب يسوع بموته على الصليب قد خلصنا من أعدائنا الثلاثة الموت والشيطان والخطيّة، كما كانت تعلم سر هذا الصليب وقوته لأن المسيح قد علّق عليه.

أيها الأحباء:

بلغت أحقاد اليهود على الرب يسوع ليس فقط بتوجيه التهم الباطلة ضده ولكن ليجعلوا منه لعنة الدهور ـ والعياذ باللّه ـ فإذ ادّعوا بأنه قد كفر كان يكفي أن يقتلوه رجماً ولكنهم حكموا عليه بالصلب ليرفضه اليهود إلى الأبد لأنه قد علّق على الخشبة فقد كُتب في توراتهم «ملعون من عُلّق على خشبة». وقد جهلوا أن الرب يسوع إذ عُلق على خشبة الصليب حوّل لعنة الصليب إلى بركة وأصبحت الشعوب من أقصى الدنيا إلى أقصاها تسجد لصليبه المقدس فصار الصليب علامة نصرة للمؤمنين على أعداء البشرية وخاصة على إبليس اللعين، فطفل صغير إذا ما رسم علامة الصليب على جبهته أرعب الأبالسة كافة، بل قد صار الصليب راية الكنيسة المسيحية وعلامة للفداء، وبه تتم بركة أسرار الكنيسة السبعة ولا يتم سر من هذه الأسرار إلا برسم الصليب عليه. وما أروع ما قاله أحد ملافنة الكنيسة وهو يوجّه السؤال إلى الصليب المقدس: اخبرنا أيها الصليب عن سر قوتك. ويكون الجواب بأن المسيح قد صُلب عليه وهو ـ ابن اللّه ـ الفادي. هذا هو سر قوة الصليب أن المسيح قد مات عليه. يقول مار اسحق: «هذا هو فخر الكنيسة أن اللّه مات على الصليب» فالذي لا يؤمن أن اللّه الذي ظهر بالجسد قد علّق على الصليب لا ينال الفداء أبداً ولا يستحق أن يرث ملكوت اللّه، فمن هنا جاءت قوة الصليب وكان الرب يسوع قد أعلن لنيقوديموس أنه «كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية». عندما رفعت الحية في البرية، كان كل من لسعته الحيات المحرقة عليه أن ينظر فقط إلى هذه الحية النحاسية لينال الخلاص. هكذا نحن نحتاج إلى هذا الإيمان عندما نتطلع إلى صليب الرب يسوع عندما نستعمل الصليب ونرسم علامته على جباهنا ونرشم به الأسرار المقدسة، علينا فقط أن نؤمن أن المسيح قد فدانا على الصليب وأن الصليب هو راية المسيح وعلامة الخلاص.

لقد ظهرت لقسطنطين علامة الصليب إبان محاربة قسطنطين عدواً لدوداً له، كما ظهرت له كتابة تقول: إنه بهذه العلامة ينتصر. فآمن بالصليب وجعله راية لجيشه كما آمنت والدته هيلانة بأن علامة الصليب هي علامة النصر، ونذرت أن تفتش عن خشبة الصليب في الديار المقدسة إذا ما آمن ابنها بالمسيح يسوع ربنا. وهكذا كان، وانتصر قسطنطين على أعدائه إذ اتخذ علامة الصليب شعاراً له وآمن بالرب يسوع المصلوب. وسنة 326 ذهبت هيلانة إلى القدس وفتشت عن خشبة الصليب ووجدت ثلاثة صلبان، ووضع أسقف المدينة الواحد تلو الآخر على جثة شاب ميت كان يشيّع إلى مقره الأخير، فلما لمست خشبةَ صليب الرب الحقيقي عادت إليها الحياة فأعلن الأسقف أن هذه هي خشبة الصليب المقدس التي عليها علّق الرب يسوع وبارك الشعب بها. فنحن نكرم خشبة الصليب لأنها قد نالت نعمة عظيمة إذ لامست جسد الرب يسوع وسُفك دمه المقدس عليها، هذا الدم الغالي الثمين المقدس دم ابن اللّه الوحيد. وإذا كانت الثياب تؤخذ من على جسد الرسول بولس وتوضع على المرضى فينالون الشفاء، فكم بالحري الصليب الذي علّق عليه جسد الرب يسوع وأنعم علينا بنعمة الفداء إذا ما تبارك به المؤمنون ينالون نعمة الخلاص والفداء بل يستحقون أيضاً الحياة الأبدية لإيمانهم بأن الذي علق على الصليب هو الإله المتجسد وهو اللّه الذي ظهر بالجسد. من هنا نكرّم خشبة الصليب بل نكرم أيضاً علامة الصليب ونؤمن أن هذه الراية وهذه العلامة كما علمنا الرب يسوع ستظهر قبل ظهور الرب يسوع في مجيئه الثاني وإذا آمن كل من يرى هذه العلامة المقدسة سينال الفداء حالاً.

أحبائي عندما اكتشفت خشبة الصليب، بارك الأسقف فيها الشعب كافة وآمن أن المسيح يسوع قد سمح أن تكتشف تلك الخشبة لتكون سبب بركة للمؤمنين بالرب يسوع، وسمح لهيلانة السريانية الأرثوذكسية ابنة قسيس الرها أن تنال هذه النعمة العظيمة إذ على يدها اكتشفت خشبة الصليب، لذلك نعيّد لاكتشاف خشبة الصليب ونرى أن الحية النحاسية التي نصبها موسى في البرية وكانت سبب إنقاذ من الموت لكل من لسعته الحيات المحرقة وأطاع أمر الرب ونظر إلى الحية النحاسية بإيمان، كانت رمزاً لسر قوة الصليب المقدس وخلاص المؤمنين به من موت الخطيّة لإيمانهم بأن الذي صلب على الصليب هو ابن اللّه، وبأن صليبه هو سبب خلاص وبركة لنا جميعاً.

وفي هذا اليوم أحبائي نحتفل أيضاً بذكرى جلوسنا بالنعمة لا بالاستحقاق على كرسي مار بطرس هامة الرسل، وبهذه المناسبة أشكر اللّه شكراً جزيلاً لأنه اختارني أنا الضعيف لأكون خادم خدام كنيسته المقدسة. بهذا اليوم بدأ عهدي مع اللّه منذ ثلاث وعشرين سنة وأنا أسعى وأحاول أن أكون مرضيّاً لديه تعالى، وكم تعرضت للتجارب الصعبة التي سمح بها الرب يسوع لتكون بمثابة النار التي تنقي الذهب من شوائبه لذلك كنت دائماً أحمد اللّه الذي لم يتخل عنّي في الظروف الصعبة ويجعل للتجربة مخرجاً.

إنني والحمد للّه أبذل قصارى جهدي دائماً لأحصى مع التائبين الذين بقوة اللّه يتخلصون من التجارب فيكونون في عداد التائبين. وقد نلت نعمة عظيمة أن أكون في عداد بطاركة أنطاكية العظام، بدءاً من هامة الرسل بطرس مروراً بإغناطيوس النوراني وسويريوس الكبير ومار ميخائيل الكبير وسائر البطاركة الشرعيين حتى البسطاء فيهم، لأكون واحداً من هؤلاء البسطاء الذين يحق لكل واحد منهم أن يقول أنه قد اختارني أنا الضعيف لتكمل قوة اللّه فيَّ.

في هذا اليوم ذكرت على مذبح الرب المطارنة الذين وضعوا ثقتهم في ضعفي. ليرحم اللّه الذين انتقلوا إلى السماء وليحفظ الذين ما يزالون مثلي على قيد الحياة، وليعطهم نعمة الصحة وليباركهم ليواصلوا جهادهم الحسن وليكملوا سعيهم في خدمة الرب وكنيسته المقدسة.

أشكر إخوتي الأحبار الأجلاء الذين شاركوني في هذا اليوم المبارك الصلاة إلى اللّه ليكون اللّه معي كما كان مع يوسف الصديق فينجح اللّه طريق الكنيسة بوساطتي أنا الضعيف.

أشكر الآباء الكهنة الأعزاء رهباناً وقسوساً وخوارنة، أشكر الشمامسة وأشكر الراهبات وكل الذين بمناسبة كهذه يبذلون جهوداً جبارة لإنجاح خدمة عبادة الرب. أشكر كل من جاء من أماكن بعيدة متجشماً عناء السفر لكي يشاركنا هذه المناسبة المباركة. إنني أيها الأحباء لا بد أن أذكر لكم أيضاً بأننا في الثامن عشر من هذا الشهر أي يوم الخميس القادم وهو عيد القديس مار متى الناسك رئيس النساك والرهبان في جبل الألفاف في الموصل سنحتفل بالقداس الإلهي وتقديس وتكريس كنيسة مار متى التي شيّدت في دار المحبة، التي شاء الرب يسوع أن تشيّد على يدي أنا الضعيف من مال المؤمنين ليكون مقراً للمسنين من الإكليروس. فيوم الخميس إن شاء اللّه المصادف للثامن عشر من هذا الشهر وهو عيد مار متى سنقدّس تلك الكنيسة، أما اليوم فسنفتتح دار المحبة، وتقدس خلال تقديس الكنيسة الإيقونات المقدسة. ولأول مرة رسمت أيقونة القديس مار متى، هذه الإيقونة رسمتها بناتنا العزيزات أمهاتنا الراهبات التقيات المصريات القبطيات الأرثوذكسيات بالصورة التي قد ظهر طيف مار متى الناسك لنا سنة 1966 في دير مار متى في بيت القديسين هناك، وشاهده عدد كبير من المؤمنين وكنت من جملة من استحق أن يرى طيف القديس مار متى بالذات ووصفته لأمهاتنا الراهبات القبطيات اللواتي معنا: الأم الراهبة أغابي والأم الراهبة تريفوسا فرسمتا هذه الأيقونة، وبنعمة اللّه كأني أرى ذلك الطيف ثانية ولذلك أؤمن بأن هذا العمل كان الروح القدس بالذات وراءه، وسترون تلك الأيقونة المقدسة عندما نحتفل بتقديسها وتقديس كنيسة مار متى يوم عيده في الثامن عشر من الشهر الجاري.

أسأل الرب الإله أيها الأحباء أن يباركني ويبارككم، وأسألكم أن تصلوا لأجلي لأواصل الجهاد الروحي وحمل رسالتي هذه بما فيه تمجيد اسم اللّه القدوس وتقدم الكنيسة وازدهارها وأجدد العهد للّه أن أكون للرب وأجدد العهد لأخوتي أحبار الكنيسة أن أكون متعاوناً معهم بما فيه خلاص نفوسنا جميعاً ونجاح رسالتنا في خدمة هذا الشعب المبارك وهذه الكنيسة العريقة في المجد والسؤدد، الكنيسة التي نفتخر ونعتز ونشكر اللّه الذي أنعم علينا أن نكون في عداد أعضائها.

ليبارككم اللّه جميعاً أحبائي وكل عام وأنتم بخير.


الذكرى الأربعون لرسامة قداسته مطراناً(*)

أيّها الأحباء:

أنها مناسبة طيّبة رأيتُ فيها أن نتأمّل بحياتنا منذ بدء هذه الحياة الإكليريكية. ولذلك احتفلتُ بنعمة ربّنا يسوع المسيح بالقدّاس الإلهي بهذا الظرف، لأن ظروفـي لم تكن مواتيةً جدّاً، خاصةً ظروفـي الصحية. لأنني بعد أن أُجريَت لي عملية تغيير الركبة. الحمد لله عمليّة كانت ناجحةً جدّاً ولكنها تحتاج إلى أيام حتّى تتعوّد الرجل على ما صار معها، ومع هذا الأصل أصل وما يستبدله الجسم يجب أن يأخذ قوّته مع الزّمن، والحمد لله. ومع هذا قرّرت أن أقدّس، والحمد لله احتفلنا بالقداس الإلهي في هذا اليوم الذي أعتبره أنا يوماً مقدّساً بالنسبة لي ومباركاً، وهو يوم مبارك أيضاً بالنسبة للكنيسة المقدسة، لأنه ذكرى رسامتي أنا كاهناً وذكرى رسامتي مطراناً، رسمتُ كاهناً على يد المثلث الرّحمة سلفي البطريرك يعقوب الثالث عام 1957 في مثل هذا اليوم، كان هذا اليوم الأحد أحد زكريا ولكنه كان 17 تشرين الثاني، أما اليوم فهو السادس عشر. وفي سنة 1963 لم أعيِّن أنا ذلك اليوم، فقد كنتُ في روما كمراقب رسمي في الفاتيكان مُرسَلاً من قبل سلفي المثلث الرّحمة البطريرك يعقوب الثالث كمراقب رسمي، فجاءتني برقية أن المجمع انتخبني لأكون مطراناً للموصل وحالاً عيّن أيضاً يوم الرّسامة، أيضاً 17 تشرين الثاني وكان يوم الأحد طبعاً. فبدون أن يعلم، في خطابي أثناء الرّسامة ذكَّرت المرحوم البطريرك يعقوب أنه قبل ست سنوات في مثل هذا اليوم رسمني كاهناً. هذا يدلّ على أنه لم تكن الصدفة تعمل أي شيء، هذا يدلّ على أن ما جرى ويجري لنا نحن الذين نرغب بأن نخدم الرب وننخرط في سلك الكليّة الإكليريكية ونكرّس نفسنا للرب، ما يجري لنا ليس هو من باب الصدفة، بل هي العناية الربّانية التي تقرّر مصيرنا وما سيكون لنا من نوع الخدمة الكهنوتية للكنيسة المقدسة. هذا ما أردتُ أن أقوله لكم ولذلك عندما شاء أبنائي الأحبّاء الرهبان وبناتي العزيزات الراهبات أن يعملوا هذه الحفلة الروتينيّة التي هي ليست لأمثالي، حتّى أنتم أيضاً تفرحوا أخبرتكم بهذا الشيء، أردتُ أيضاً أن أخبركم أننا محاطون بعناية الرب ولا يحدث أي شيء لدينا إلاّ بإرادة الرب، وإذا كان الملائكة يحرسون البشر ويخدمونهم ويهتمّون بخلاصهم، فبالأحرى أن تكون لخلاص من يكرّسون أنفسهم للرب ويختارهم الرب ليكونوا رعاةً لهذه الكنيسة وخدّام هذا الشعب روحياً.

ذ نعومة أظفاري كان عمري ثلاثة عشر عاماً عندما دخلتُ الإكليريكية وكانت الإكليريكية تقبل الطلبة من السادس الابتدائي وهكذا كانت عندما نقلنا الإكليريكية إلى هنا، فكنّا أطفالاً ولكن أطفالاً ناوين أن نكون للرب. لأنني ما فكّرتُ يوماً أن أكون غير راهب، ما فكرتُ أنه يوماً ما سأكون كاهناً ولا مطراناً ولا بطريركاً. لم أشغل نفسي بهذا كثيراً، كل ما في الأمر أن رغبتي وأنا طفلٌ عمره ثلاثة عشر عاماً أن أكون راهباً، أن أكرِّس نفسي للرب. كان ذلك في الموصل وكانت مدرستنا الإكليريكية في الموصل وكان لدينا مديرنا –رحمه الله- كان إنساناً عظيماً جدّاً المطران بولس بهنام وكان ما يزال راهباً ثم أصبح مطراناً للموصل، وهو ما يزال مديرنا ويدرّسنا أيضاً وإن عُيِّن ناظراً -بعد أصبح مطراناً- عُيِّن المطران سويريوس حاوا وكان ما يزال راهباً، راهب كاهن تعيّن ناظراً هذا في السنة الأخيرة لدراستي في الإكليريكية، ولكن المرحوم المطران بولس فضله كبير جداً وكان المرحوم البطريرك أفرام يعتني كثيراً فيه ويعتمد عليه في خدمة المدرسة الإكليريكية وكنّا مسرورين جدّاً جدّاً كطلاّب، لم تكن لنا عيشة رفاهية كما هي اليوم لأن الذين عاشوا في ذلك الوقت يعرفون كيف كنّا، ولكن لم يكن يهمّنا الطعام ولا الشراب ولا اللباس ولا أي شيء، بل كان يهمّنا جداً أن نسير في طريق الرب وندرس اللغة السريانية التي كنّا نتكلّمها وننظم الشّعر بها ونحن أطفال، السريانية الفصحى، أي فضل للطوراني أن يتكلّم الطورانيّة، كما أن آخرين يريدون أن يتكلّموا العربية أي فضل لهم، فهذه لغتهم الأم، ولكن عندما نتعلّم اللغة السريانية الفصحى التي نصلّي بها التي كتب بها آباؤنا مؤلّفاتهم القيّمة، عندما نتكلّمها أيضاً برغبة وتوقن أن هذه اللغة هي لغة مقدّسة لأن ربنا يسوع المسيح تكلّم بهذه اللغة وهذه اللهجة، العديد من هذه اللهجات تغيّرت وتبدّلت وتشعّبت وأصبحت لهجات شبه خليط من بقيّة اللغات لكن الفصحى هي لغة الترجمة البسيطة التي دوِّن بها الكتاب المقدس، هي ذاتها نتكلّمها اليوم، اللغة ذاتها التي نظم بها مار أفرام قصائده، ذات اللغة نظم بها مار يعقوب السروجي قصائده، ذات اللغة التي كتب بها آباؤنا جميعهم بأسمائهم، فليكسينوس المنبجي في كتاب طريق الكمال، وأتمنّى أن جميعكم تقرؤونه وأعتقد أن أبونا ماتياس يعلّمكم إياه، وهذا الشيء رائع تماماً وغيره وغيره من الآباء القديسين، فهذه اللهجة تعتبر عندنا كنزاً ثميناً فنحن كنّا كطلاّب –حتّى صغار- في الصيف لم تكن لدينا دروس ولكننا كنّا نتنافس في الصّيف أي واحد منّا سينهي الكتاب الفلاني السرياني قراءته ودراسته، وأي واحد منّا سينظم القصائد السريانية في مواضيع عديدة، وكان المرحوم المطران بولس أيضاً بتشجيعه، أتذكر أنه كان يختار البعض منّا عندما يأتي غرباء ويسأل أي قصيدة لديك الآن جديدة، ونقرأ القصائد أمام هؤلاء الغرباء ونترجم لهم وهكذا شجّع الناس لدعم إكليريكيتنا. أنا شخصيّاً، ليس من باب الافتخار طوال السنة كنتُ الأوّل لأنه ليس لديّ هدف ما أو عمل ما وأعرف أنه نحن بحاجة إلى أن نتعلّم حتّى نستطيع أن نخدم بصورة أفضل. هذا الشيء ضروري جداً ولم نكن نفكّر إلاّ أنه سوف أصبح راهباً، لم أفكّر أنه سوف أصبح كاهناً، ولا أفكّر أنه سأصبح مطراناً، ونحن اليوم لدينا الكثيرون ينتظرون متى سيخدمون المكان الفلاني ولا يهتم بدرسه ولا يهتم بأمور مستقبل كنيسته، ولا يهتم أيضاُ بلغته ولا يهمه شيء سوى أنه متى ينال هذا المركز والحقيقة الذي يرغب بالمركز دون أن يهيّئ ذاته روحيّاً قبل كل شيء أنا متأكّد أنه فاشل، وأيضاً يهمّني أحبّائي أن تعرفوا أنني في دراستي وفي مطالعتي لم أكن أقصد إلاّ خدمة كنيستي. كيف تقدّمتُ أنا مثلاً في مركزي؟، كنتُ أشعر وما أزال أن العناية الربانية وراء كل حركة من حركاتي، طالما النيّة تكون مع الرب فأهم شيء هو، حتّى العلم لا شيء، هذا الشيء الذي أقول عنه مهم هو مخافة الله. هو التقوى هو البر هو البساطة في حياة الإنسان كإكليريكي، أنا لا تهمني الحياة مهما كانت، وقد قلت لكم أننا لم نأكل كالمعتاد ولم نلبس كالمعتاد ولا كان أيضاً الجوّ في الإكليريكية مثل ما هو الآن، لكن نحن لا نلوم أحداً بهذا الشيء، هذه كانت المقدرة، الكنيسة لم تكن تقدر أن تقدّم الأكثر فأنا إن أتيتُ للأكل والشرب سأكون مثل ذلك القائل: لنأكل ونشرب فغداً نموت، معنى هذا أنه ليس لي هدف في خدمة كنيستي. إن أتيتًُ لأظهر أمام الناس كأنني أنا قد صرتُ شيئاً، ثقوا بأنني أنا فاشل.

هذا ما أردتُ أن أقوله لكم أيها الأحباء، لأن الإنسان عندما يتّكل على الله، وعندما يضع أمامه هدفاً واحداً هو مخافة الله يقول: ܥܠܡܐ ܥܳܒܰܪ ܘܕܰܡܩܰܘ̈ܝܳܢ܆ ܕܶܚܠܰܬ ܐܠܗܐ ܘܚܟܡܬܐ ܐܢܝܢ. العالم كلّه زائل مثلما قال سليمان: ܗܒܠ ܗܒ̈ܠܝܢ ܟܠܡܕܡ ܗܒܠܐ ܐܝܬܘܗܝ، باطل الأباطيل الكل باطل، فنحن إذا فكّرنا أن دخولنا في الإكليريكية ليس لطعام أو شراب أو أمور أخرى بل واجب المسؤولين عن الإكليريكية أن يهتموا بنا كأناس يرغبون أن يخدموا كنيسة الرب، أما أن نظنّ نحن أن بمقدورنا أن نعمل شيء، فأنا مثلاً وصلتُ إلى درجة بحيث أنه أستحق أيضاً أو بحسب القانون أن أُرسَم مطراناً أقدر أن أعمل فتن ومشاغبات هنا وهناك مع الناس معنى ذلك أنني تركتُ الله، تركتُ عبادتي، تركتُ هدفـي، تركتُ اتّكالي على الرب، والرب أيضاً يتجرّد ممّن يتّكل على غيره، يقول الكتاب: ملعون كل من اتّكل على إنسان وقال الرب لتلاميذه أيضاً: «بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً»، يقول لهم عن هذا الشيء عندما كانوا يصطادون السّمك طوال الليل ولم يستطيعوا أن يصيدوا شيئاً، وعندما ظهر لهم قال: اطرحوا الشبكة في الجهة اليمنى حالاً اصطادوا سمكاً كثيراً، كبيراً وصغيراً 153 سمكة صغيرة وكبيرة وحتّى عدوها، لماذا؟، لأنهم سمعوا كلمة الرب وبدون الرب لا يقدرون أن يعملوا شيئاً ولكن عندما سمعوا كلمته استطاعوا أن يصطادوا الأسماك، هذه علاقة بسيطة أنه نحن عندما نتّكل على الرب، عندما نفكر أنه لا نقدر أن نعمل شيئاً من دون الرب ثقوا أننا نجحنا، وثقوا كلّما فكرنا وإن يقول بولس: من اشتهى الأسقفية فقد اشتهى عملاً صالحاً، بولس عندما قال هذا، هل تعرف لماذا قاله؟ أعتقد بأنها كانت أيام الشدة، أيام الاضطهاد عندما يأتي أعداء المسيحية من سيأخذون أوّلاً؟، سيأخذون الأسقف.

فمن اشتهى أن يكون أسقفاً، ويتحمّل هذه المشقّات في سبيل التمسّك بالإيمان ونشر البشارة الإنجيلية، يكون طبعاً قد اشتهى عملاً صالحاً.

أنا لم أكن من هذا النوع أي أخدمكم أنتم، حتى أريد أن أظهر لكم أن عناية الله هي الموجودة وهي التي تقرر، أنا كنتُ راهباً في الإكليريكية أعلّم لمدة سنة وطُلبتُ من البطريركية، رحمه الله البطريرك أفرام بواسطة تقارير أسبوعية كانت تصله وأحياناً شهرية وتقرير عام في كل سنة عن كل طالب من الطلاّب، وأنا الآن بالنعمة لا بالاستحقاق كبطريرك أرى الرسائل السابقة، أرى كيف كانت العناية بالطلاّب مثل الآن وأكثر لأنهم كانوا بالموصل والمراسلات موجودة، الشاردة والواردة كان البطريرك يعرفها وهو الذي يقرّر أن يُسمَح لهذا الطالب أن يُرسَم راهباً أو لا. الرهبنة صعبة والرّهبنة ليس من السّهل أن يسمح البطريرك برسامة الرّاهب. نحن قدّمنا ثلاثة في السنة الأخيرة لدراستنا، كتب المرحوم عنّي أنا وعن المطران صليبا أن نُرسَم رهباناً، المطران صليبا مطران الموصل، أما الثالث فلا يُرسَم ورُسم بعد ذلك قساً وبعد ذلك خورياً وهذا نصيبه ولكن هذا يدل على عناية الرئاسة بكل واحد من الطلاّب وتدقيق حياته: هل يصلح أن يكون راهباً أم لا؟، يمكن أن قسيس أو شماس أو يكون ما يكون. ولكن الرهبنة لا يستحقّها إلاّ من تقرّر الإدارة في المدرسة مع الهيئة التدريسية بحسب القرارات التي تعطيها شهرياً عن كل طالب وتقرر أن هذا الطالب يستحق، حينذاك البطريركية تقرّر أن يُرسَم راهباً. فعندما رُسمت راهباً كان عمري إحدى وعشرين سنة، في 6/6/1954 وعُيِّنت في الإكليريكية، طلبوني في البطريركية فاللجنة برئاسة المرحوم المطران بولس طلبوا إنه أنهم بحاجة له ليدرس فدرّست وبعدها أتيتًُ إلى البطريركية كسكرتير ثاني، كان معي المطران أفرام برصوم، على كل حال هو إنسان طيّب جدّاً ونبيل وخدوم وعشنا كاخوة نتعاون معاً في خدمة البطريركية. بعده عام 1957 عندما انتقل المثلث الرحمة البطريرك أفرام إلى الخدور العلويّة، وانتُخب البطريرك يعقوب أنا ظننتُ أن مهمتي قد انتهت حتّى أنني جهّزت أغراضي لأعود إلى الإكليريكية، ولكن المرحوم البطريرك قال: إنك لن تعود بل ستبقى هنا. ورسمني عام 1957 كان تنصيبه في 25 تشرين الأول وفي 17 تشرين الثاني رسمني كاهناً وسلّمني السكرتارية كاملة، وخدمتُ بقدر إمكاني بإخلاص لأن الإخلاص هو أهم شيء، وبتقوى الله والمواظبة على الصلاة وهذا شيء ضروري جداً، ثانياً بحسن الإدارة لأن السكرتير عند السكرتير عندما يقابل الناس يجب أن يعرف ماذا يتكلّم، ماذا ينقل إلى رئيسه من كلام وملاحظاته عن كل شيء، إلى جانب الكتابة طبعاً، كتابة الرسائل والمناشير التي يمليها عليه البطريرك، يملي عليه هذه الأشياء والأمور. يعني لم أفكّر يوماً ما بالراحة، ليلة رأس السّنة التي يغني فيها الناس ويرقصون، إن مهمّتي طبعاً موجودة في البطريركية ليلة رأس السنة نجتمع في الساعة التاسعة مساءً ونرتّب قليلاً ونصلي ويذهب كلٌّ منّا إلى غرفته أما أنا فأبقى ساهراً إلى الساعة الواحدة أو الثانية صباحاً أعمل في كتابة الرسائل وردّ التهاني في العيد، ولم أملّ يوماً ما ولا تذمّرت، وكان المرحوم طبعاً يرضى كثيراً عن الذي يخدم بإخلاص.

ثم كان لي نصيب أن زرت مع البطريرك يعقوب الأمريكتَين وأوربا والشرق الأوسط وكنائسنا والإنسان يتعلّم خاصةً في هذه الجولات الرسولية، يتعلم كثيراً: وضع الطائفة، نفسيّات الناس، لأن عندنا الحلو حلو إلى درجة العسل والأغلبيّة هي كذلك، شعبنا شعب نبيل وطيّب جداً، شعب مثل الخمر العتيقة ولكن أحياناً عديدة تأتي نقطة من الخل وتفسد كل شيء ونسمع بالدعايات والإعلام المعاكس، نسمع لأغراض شخصيّة من الناس يسيئون إلى هذا وذاك من الناس. نفرح إذا كنّا رهبان غير مؤدّبين إذا كنّا، غير متدينين، غير خائفين الله نفرح إذا ذمّ أحدهم زميلي الراهب. الخطّة الحمد لله لم نخطئ بها لا أنا ولا الراهب أفرام برصوم الذي كان كراهب نعمل في البطريركية، لم نكن نرضى بهذا الشيء أبداً. وبعد أن أصبح البطريرك يعقوب –رحمه الله- المطران أفرام برصوم أصبح سكرتيراً لمطران حلب، المطران جرجس وأنا بقيت لوحدي في البطريركية وكان لدينا طبعاً نائب بطريركي، ولم أفكّر حتّى أن أصبح كاهناً، لا لأنني لم أكن أريد أن أصبح كاهناً، لكن أنا أعمل وأخيراً عندما صار المرحوم بطريركاً كما قلتُ، بفترة قصيرة جداً وبعض المطارنة لم يكونوا قد غادروا البطريركية بعد الرسامة ورسمني كاهناً، زادت خدمتي في هذا الموضوع، ولكن في نفس الوقت بقيت واجباتي بالنسبة إلى ديوان البطريركية، بالنسبة إلى العمل مع الناس. وطبعاً كنتُ أحاول أو أوفّق ما بين خدمتي كسكرتير وما بين حياتي كراهب، لأن هذا أمر مهم جداً جداً، وإلى اليوم أنا دائماً أريد أن أوفّق ما بين خدمتي –حتّى كبطريرك- وبين حياتي كراهب. لا يمكن أن أضحي برهبنتي، بنذوري الرهبانية وأيضاً بحياتي الرهبانيّة. لم نأكل اللحم لسنتين أنا والراهب أفرام برصوم ولكن بعدئذ البطريرك أفرام بعدئذ –أريد أن تتعلّموها- كنتُ أصلّي سبع مرّات في النهار كراهب، فقال لي: انظر يا بني، لقد أصبحت في عمل إداري لا يمكن أن أدقّ لك الجرس فتترك الصلاة، صلواتك تجمعها صباحاً ومساءً، بعد ألاّ يكون أي شيء إداري. هل من المعقول أنك واقف تصلي ويأتيك مراجع كيف سيقدر أن يتكلّم معك، وكيف ستستطيع أن تقطع صلاتك وتتكلم معه. ولذلك صلواتك الموجودة في البطريركية لن تقدر أن تصلي صباحاً وظهراً ومساءً، صباحاً ومساءً وصلاة قبل النوم وتجمع معها كل الصلوات السبعة، وتكون صلاتك صباحاً ومساءً لأنك في عمل إداري، ولكن ليس معنى أن ذلك الإنسان إن أكل اللحم ولم يستطع أن يصلي الصلوات السبع معنى ذلك أنه خالف نذور الرهبانية، وليس إن أصبح كاهناً معنى ذلك أنه خالف نذور الرهبانية كان المطارنة يأتون إلينا ونستفيد منهم كثيراً خاصةً الذين نرى فيهم عنواناً للتقوى ومخافة الله مثل المطران يوحنا دولباني –رحمه الله- بقي هذا كناسك، كزاهد، كانت له طريقته الخاصّة في صلواته وعبادته حتّى في زهده وبطريقته الخاصة، لكن هذا لا يعني أن الذي لم يسلك سلوكه قد حاد عن الإيمان، لا. يجب أن نكون منفتحين، يجب أن نميّز بين الغث والسّمين، يجب أن نميّز بين الأمور الرئيسية في حياتنا وما بين الأمور الشّكليّة فنعبد الله بالروح والحق، ليس بالشكل لأظهر أمام الناس، لا. صلاتك صباحاً ومساءً وبقية الأيام وبقية الشهور صم الصوم الطبيعي وإن كانت لديك أصوام خاصّة تصومها لوحدك دون أن يعرف أحد. فبعد ثلاث سنوات أمر المرحوم الطباخة ألاّ تطبخ شيئاً خاصاً للرهبان، وهكذا كان. اليوم أنا نفسي أتمنى، كان لدينا مطارنة في الهند لا يأكلون اللحم، أرشدناهم ووجّهناهم أنك عندما تكون لدى أناس، في أمريكا مثلاً، تتظاهر بأنك لا تأكل اللحم والبقية كأنك أفضل منهم، بقية المطارنة. لا، كُل مع الجميع وعندما تكون لوحدك لا تأكل لحماً، هذا الصوم بالخفية، هذه الصلاة بالخفية أيضاً، وهذه الصدقات التي توزّع أيضاً في الخفية عن العيون، وهذه الممارسة جعلت الإنسان يتفاعل مع مجتمعه وأن لا ينكر نفسه أنه ضد التيار، لكن كل شيء يصيب العقيدة الإيمانية في ذلك الوقت يجب أن يظهر قوته وروحانيته لإثبات إيمانه، يحكى أن واحداً من النساك كان يصبر كثيراً على الناس ويسامحهم فاتفق عليه جماعة ليجربوه، فقال له واحد منهم: أنت رجل طماع، أنت رجل كذا وكذا … فلم يجب، فقال له: أنت رجل هرطوقي، فقال له: لا، أٌقبل ما تقول، كان رجل مخلص وإيماني، أرثوذكسي، مستقيم الرأي، لم يقبل أن يتهم بأنه هرطوقي. كل ما يريد الناس أن يقولوه عني فليقولوه، لكن في قضية الإيمان يجب أن لا يقبل. من هذه النقطة نرى، أنا شخصياً في حياتي لم أكن أسمح لأحد أن يسيء إلى كنيستي تاريخها قديسيها مجامعها دساتير إيمانها، أن يسيء بأي إساءة. عنّي شخصياً قولوا ما تقولون إلا هرطوقي، اكتبوا ما تريدون كتابته، لكن عندما يكتبون شيئاً يخص كنيستي مسيئين إليها، طبعاً أرفض وأدافع عن حق كنيستي، بهذا الشيء وبهذه الصيغة بحسب ضميري وبحسب ممارساتي، كنت أعتمد على الله أن الرب هو معنا ومع كنيستنا ونقرأ وندرس، ندرس بجدّية تاريخ هذه الكنيسة، ونعجب بآبائنا، أدرس سيرهم كلها وكيف استطاعوا أن يتحملوا المشقات في سبيل الثبات على الإيمان.

والمرحوم رسمني كاهناً في السابع عشر من تشرين الثاني سنة 1957، وذلك بعد رسامته بطريركاً بأسبوعين وبعدها رسمني مطراناً بحسب قرار المجمع المقدس طبعاً، بنفس التاريخ، ولم يكن هذا الشيء ببالي، ولم يخطر ببالي أبداً، ومن اشتهى الأسقفية فقد اشتهى عملاً صالحاً خاصة في ذلك الوقت في الموصل، كانت اغتيالات شبابنا في الموصل، ولقد درست في الموصل، وشبابنا يُغتالون في الموصل، أنا نفسي تعينت أن أخدم في مطرانية الموصل كراهب أولاً لمدة تقريباً سنة، وأتذكر المرحوم كان عائداً من الموصل، المرحوم البطريرك ومع المطران قرياقس، وأهل الموصل طلبوني منه، فقال لهم البطريرك: ما يزال صغيراً ولم يبلغ الثلاثين، فقالوا له: في السنة القادمة يبلغ الثلاثين. وفي بغداد كان أناس يمتون لي بصلة قرابة فقالوا له: ثمانية أعوام في الخارج، ولم تسمحوا له بالعودة إلى العراق، ثمانية أعوام أنا هنا، في سورية وحمص وفي دمشق ورافقت المرحوم في زياراته إلى كل مكان، لم أكن أفكر أن أذهب إلى أهلي، لأن الظروف أولاً التي مررت بها، وثانياً لأني راهب، يعني كل سنة يجب أن أذهب إلى أهلي، إذا كان الأمر هكذا فلماذا تركتهم، أبقى عند أهلي ولا أكون راهباً، المهم قال لهم: له ثمانية أعوام غائباً لماذا تريدون أن يأتي إلى الموصل والاغتيالات موجودة، طبعاً أنا ما سمحت لأهلي أن يتداخلوا في شؤوني الروحية، استمعت إلى هذه الأمور، والمرحوم البطريرك قال للمطران قرياقس: اذهب وأقنعه ليذهب إلى الموصل، أتذكر أنه جاء إليّ إلى غرفتي التي كانت في البطريركية مكان جناح الراهبات اليوم، أول غرفة على اليمين أمام المطبخ، فجاء المرحوم المطران قرياقس احتضنني وأخذنا نتكلم، كنا في الموصل وطلبوك وسيدنا البطريرك يريد أن يرسلك، فما هو رأيك؟ أنا لا أقول كلمة أبداً، أنا مثلما يأمر البطريرك مستعد وأينما يريد أذهب، جهزت أمتعتي وأغراضي وذهبت.

في مجمع الفاتيكان في الدورة الثانية في تشرين الثاني جاءتني برقية أن المجمع المقدس قرّر رسامتك مطران ويوم الرسامة 17 تشرين الثاني فارجع حالاً، رجعت وصارت الرسامة دون أن أفكر فيها، دون أن أطلبها، لكن بدون أيضاً أن أعترض، أن أصير مطراناً وخاصة أثناء وجودي كمطران تعرضت إلى نوع من شبه اغتيال إن استطعنا تسميته، كان لي نظارات سوداء وفي فصل الصيف، شكوا فـيّ، فرفعت نظارتي وتطلعت بهم، كانوا اثنين واحداً عن يميني والأخر عن شمالي، فانصرفوا لأنهم كانوا يريدون شخصاً آخر، أنا لم أخف لأني أعلم أن الرب معنا، واتهموا طائفتنا كثيراً، ومع غاية الأسف كان وراءها الكاثوليك، كان رجال الشرطة يأتون إلى الكنائس حيث اتهمونا بالشيوعية فالقس الكاثوليكي كان يقول لهم لسنا نحن بل هؤلاء هم الشيوعيون.

المهم، نشكر الله ربنا أن تلك المحنة زالت من البلد وقد تأذينا كثيراً وخاصة الكنيسة، ولذلك ليس من المعقول أن من اشتهى الأسقفية فقد اشتهى عملاً صالحاً، وأقول إن الإنسان يشتهي الأسقفية في هذا الظرف، لكن عندما يرى أن الكنيسة بحاجة لا بد أن يقدم إلى الخدمة. والحمد لله هذه هي السنة الأربعين، والأيام تمشي، ولماذا احتفلت بالقداس لا لكي أشكر ربي فقط، بل خاصة لأنه كان معي ساعدني، كانت الخدمة ناجحة، بالنسبة لي بصفاء الضمير وبشجاعة وبحياتي كراهب، فحتى اليوم أشعر بنفسي أن حياتي كراهب، لماذا كل يوم أنا هنا في الإكليريكية، طبعاً بطريركيتي موجودة ومريحة جداً، أنا حتى لما أجلس بالصالون كي لا أكون وحدي أثناء الصلاة، بل مع الرهبان والطلاب لأني أريد أن أعيش مثلهم، فكل واحد منا وقد تعود هذه الحياة أن لا أكون فقط في فترة معالجات أحاول أن لا تفوتني الصلاة، لأنها أصلاً هي الزوادة لنا في حياتنا، هي الوسيلة التي نقدر أن نتصل بها مع ربنا، نحن جسد وروح والروح خلقت نسمة من الله، حتى تستطيع أن تستمر في اتصالها مع ربنا.

وصارت أيضاً إرادة الله أن أكون خادم خدام المسيح كبطريرك وأتمنى أن تتقدم الكنيسة وتزدهر بعمل كل واحد منا والضمير يكون مرتاحاً، لأنني لم استرح كل تلك الفترة لأن همي أن تزدهر الكنيسة أن تتقدم، همي خاصة أن يكون لنا رهبان أتقياء يخافون الله، وأيضاَ أسسنا الراهبات، راهبات مار يعقوب البرادعي وأصبحن موضع فخر أمام كل الطوائف، الرهبان كثيرون لكن الراهبات اللواتي مبدؤهنَّ هنا، بدأن بالتسعين واليوم سبقون كل رهبنات الطوائف الأخرى ويلتقين بهن، ويتحدثن عنهن، وهذا أمر جداً جميل. ورهباننا أيضاً والحمد لله الذين يدرسون في الخارج والموجودين هنا معنا، أيضاً الإكليريكية، بالنسبة إلى كليات اللاهوت في الشرق الأوسط نفتخر بها، ونفتخر بكم جميعاً.

أريد أن أقول لكم أنه يجب أن نكون في عداد الذين يخافون الله، لا نخون ضميرنا، ولا نكون عملاء للآخرين لأنه هناك أناس أشرار، ونحن الخمرة الجيدة لكن نقطة من الخل تفسد كل شيء، لذلك لا تسمحوا لأحد في الخارج أن يستغلكم، أن يعتبركم مثل جواسيس على المسؤولين عنكم،على مدرستكم على كليتكم، لأنكم أسمى من هذا الشيء، الإنسان الذي ينحط إلى هذا الدرك، يحتقر والكنيسة لا يهمها شيء، فالرسول يقول: اعزلوا الخبيث من بينكم، فلنقل أن واحداً أخذ شهادة الدكتورة، ما هي الدكتورة، إذا لم تكن مخافة الله موجودة لا شيء، ويطرد أيضاً، فلا يهمنا أنه حصل على شهادة يهمنا أن يكون مخلصاً لكنيسته ومتمسكاً بعقائده الإيمانية، وبالفضائل السامية في السيرة الصالحة، السيرة الرهبانية، طالما أنت حتى إكليريكي هنا قبل أن تصبح قساً طالما أنت هنا فأنت راهب، وسيرتك يجب أن تكون سيرة راهب لذلك اغتنمت الفرصة حتى أتحدث معكم، واجلب من نفسي مثلاً لأني أعرف نفسي أكثر من أحد آخر، وهي أيضاً فرصة، ونحن فرحون بشيء واحد أولاً لأنني أؤمن أن العناية الربانية تحتاطني، أؤمن أن ملاك الرب معي، أؤمن أني أنا مع الرب، بهذا الإيمان أعلن هذه الشهادة أمامكم لأنكم أنتم أيضاً تحاولون تكريس أنفسكم، فإكليريكين كلنا نعيش عيشة الرهبان، ولا يكون لنا علاقات مشبوهة لأن هذا الأمر يجعلنا مرضيين عند الرب، وإلا إذا لم نكن مثل الإكليريكين لبسنا الأسود، مشينا وذهبنا، ويأتيه واحد ويقول له: عن القضية الفلانية كيف ستدبرها فيقول له: أفكر بها في الصلاة، إذا في الصلاة سأفكر بأمور مادية يعني أني لن أصلي، بينما إذا كنا على علاقة طيبة مع ربنا وعلاقة طيبة مع رؤسائنا، ونقدر أتعابهم، إن كانوا إداريين أو معلمين، نقدر عملهم لأجلنا، وعندما نكون على علاقة طيبة مع أخوتنا في الإكليريكية وسنرى في المستقبل كيف سنذكر تلك الأيام التي عشناها مع أخوتنا في الإكليريكية وسنندم على أمور كانت سبباً لخلافنا مع بعضنا البعض، لا سمح الله حتى الخلافات تدوم عندما نتقدم بالسن لذلك أشكر ربي لأنني بالرغم من دخولي في تجارب عديدة، صحياً لكن الحمد لله بلغت السبعين ونمشي أكثر وأنا بألف خير، يكفيني أني لا أنام الليل مثلاً لكن لدي القابلية أن أنهض واجلس أمام طاولتي وأبدأ بالدراسة وأصلي، الصلاة أهم شيء عندي كراهب، وأتلهّى بقراءاتي والقراءات الروحية أهم من أي شيء لأنها التي تبنينا كرهبان وهي التي تشجعنا على علاقتنا مع ربنا، علاقة طيبة ويكون ربنا راضياً علينا، ليرضى الله عليكم جميعاً ولتكون نعمة الرب معكم ويساعدكم بخدمتكم للرب، إن كنتم رهباناً أو كهنة متزوجين، أو ما كنتم وحتى شمامسة أن تكونوا مرضيين لربنا والله يبارككم.


 ذكرى تنصيب قداسته عام 2004

أصحاب النيافة الأحبار الأجلاء، الكهنة الأحباء، الرهبان والراهبات الأفاضل، أيّها المؤمنون:

نحمد اللّه حمداً جزيلاً على ما يغدقه علينا من نعم وعطايا روحية في كلّ حين، نشكره في هذا اليوم المبارك ونحن نحتفل بالقداس الإلهي بمناسبة عيد اكتشاف خشبة الصليب المقدس على يد الملكة القديسة هيلانة ابنة قسيس الرها السرياني الأرثوذكسي ووالدة قسطنطين الإمبراطور العظيم.

نشكر اللّه الذي جعل كنيسته المقدسة ملكوت السماء على الأرض ليتجه إليها الإنسان الخاطئ فيجد نعم الخلاص من مغفرة الخطايا والتبرير والتقديس والتبني. نشكر ربنا يسوع المسيح على تأسيسه هذه الكنيسة على صخرة الإيمان به أنه ابن اللّه الحي، الإيمان الذي أوحته السماء إلى هامة الرسل بطرس جواباً لسؤال الرب يسوع عندما سأل تلاميذه قائلاً: من يقول الناس عنّي إني أنا، ومن تقولون أنتم إني أنا ابن الإنسان؟ أجابه بطرس قائلاً: أنت المسيح ابن اللّه الحي، فأعطاه الرب الطوبى، طوبى لك يا سمعان بن يونا، قال له، إن لحماً ودماً لم يعلنا لك هذا لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان بالمسيح يسوع أنه ابن اللّه، أنه مشيحا، إنه ماسيا الذي انتظرته الأجيال، أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. ولم يكتف بذلك بل كان لا بدّ أن يؤسس سر الكهنوت ليقوم في كنيسته من يدّبره بإلهام الروح القدس ويرعاها، فقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وليس هذا فقط بل قال له أيضاً: وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات (مت 16: 16 – 19).

ما أعظم هذه العطية! إنسان على الأرض يتمكّن من أن يمنح نعمة عظيمة بقوة الرب يسوع في الأرض والسماء معاً، لقد أعطى الرب هامة الرسل منفرداً هذه العطية سلطة التعليم والتهذيب والتدبير في آن معاً، السلطة التي أعطاها بعدئذ للرسل مجتمعين بعد قيامته من بين الأموات وظهوره لهم في العلية.

أحبائي في هذا اليوم نحتفل بذكرى اكتشاف خشبة الصليب المقدس، ونتأمل برعاية الرب كنيسته، وبحسب وعده الصادق أنه يبقى معها دائماً وإلى انقضاء الدهر وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. كم أثيرت ضدها الاضطهادات العنيفة، شُرّد رعاتها، سُفك دمهم في سبيل تمسكهم بالإيمان القويم. بطرس وسائر الرسل وخلفاؤهم البطاركة الذين جلسوا على كرسي أنطاكية المقدس، تحمّلوا المشقات والاضطهادات وصنوف العذاب في سبيل التمسك بالإيمان القويم والحفاظ على جوهرة العقيدة السليمة التي تسلّموها من الرب يسوع، وقد أنعم اللّه على كنيسته أن تقوم فيها امرأة فاضلة قديسة هي هيلانة ابنة قسيس الرها السرياني الأرثوذكسي التي نذرت إن آمن ابنها قسطنطين بالمسيح يسوع ستفتش عن خشبة الصليب وهكذا فعلت إتماماً لنذرها ووجدت خشبة الصليب في أورشليم. ووُجدت ثلاثة صلبان كما يقول التاريخ ووُضعت على جثة شاب كان يُشيَّع إلى مقرّه الأخير، وعندما لمست جثته الصليب الحقيقي للرب يسوع عادت روحه إليه وقام من الأموات، فرفع أسقف المدينة خشبة الصليب ظافراً أمام الجماهير، ونحن نؤمن في القوة الإلهية لتلك الخشبة لأن الصليب هو غاية الكنيسة المقدسة، ومن ثم فقد لامست تلك الخشبة جسد المسيح المصلوب وسفك دم الرب على هذه الخشبة فإذا كانت الثياب تؤخذ من على جسد الرسول بولس وتوضع على المرضى فينالون الشفاء فكم بالحري هذه الخشبة المقدسة التي لامست جسد الرب يسوع؟ لذلك فإن الكنيسة تكرمها، وتكرّم علامة الصليب، العلامة التي رمز إليها موسى في العهد القديم يوم أقام بحسب أمر الرب الحية النحاسية في البرية وكل من كان تلسعه الحيات، فقط كان يؤمن بقول الرب ويتطلع إلى الحية النحاسية فينال الشفاء. هكذا وُجدت علامة الصليب في كنيستنا لتكون سبب خلاص لنا من إبليس وجنده، وخلاص لنا من الخطية أيضاً وتكون تكفيراً لنا بأن المسيح قد صُلب على العود ونلنا بذلك الفداء وهو الإله المتجسد. بل أيضاً نحن نؤمن كما علمنا الكتاب المقدس أن الصليب علامة الرب وغاية الكنيسة سيظهر في الأيام الأخيرة في السماء قبل مجيء الرب، وحينذاك سيأتي في مجد عظيم، لذلك أيها الأحباء عندما نحتفل بهذا العيد المبارك نؤمن إننا قد نلنا الفداء بيسوع المسيح وأنه جعل من الصليب الذي كان لعنة عند اليهود، علامة بركة وخلاص لنا نحن المؤمنين به وبخلاصه وهو إلهنا المتجسّد ومخلصنا. ففي هذا اليوم نسأل الرب بصليبه المقدس أن يجعلنا أحبائي جميعاً مصطحبين بصليب الرب وملتجئين إلى ربنا الذي صلب لأجلنا، مصلين إلى اللّه إلهنا أن ينعم بالأمن والسلام في ديارنا وفي كل مكان، طالبين إليه ونحن نرى العلامات التي ذكرت في الإنجيل المقدس أنها ستجري في العالم قبل مجيئه الثاني، طالبين إليه أن ننال المغفرة والنعمة والرحمة منه لكي حينما يأتي ولا نعلم متى يكون ذلك لأنه مكتوب «اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون متى يأتي ربّ البيت أمساء أم نصف الليل أم صياح الديك أم صباحاً» (مر13: 35) عندما يأتي لنكون في عداد أولئك الذين سيختطفون معه في الجو بقوة صليبه المقدس. وفي هذا اليوم أحبائي ونحن نرى الصليب كما علمنا الرب علامة أيضاً للتلميذ الحقيقي الذي يحمل الصليب ويعاني من صليب وُضع عليه ونحتفل أيضاً بذكرى جلوسنا بالنعمة لا بالاستحقاق على الكرسي الرسولي الأنطاكي قبل أربع وعشرين سنة وبدء السنة الخامسة والعشرين هذه السنة التي