من بيدر المواعظ – 1

مقدمة المؤلف

بحــث فــي الأعيــاد

يــــوم الأحــــد

تقديــس البيـــعة (1)

تقديــس البيـــعة (2)

تقديـس البيعة (3)

تقديــس البيـــعة (4)

تقديــس البيـــعة (5)

تقديــس البيـــعة (6)

تقديــس البيـــعة (7)

تجديــد البيـــعة (1)

تجديــد البيـــعة (2)

تجديــد البيـــعة (3)

تجديــد البيـــعة (4)

تجديــد البيـــعة (5)

تجديــد البيـــعة (6)

تجديـــد البيـــعة (7)

تجديـــد البيـــعة (8)

تجديـــد البيـــعة (9)

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (1)

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (2)

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (3)

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (4)

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (5)

بشـارة العــذراء مـريــم (1)

بشـارة العــذراء مـريــم (2)

زيارة العذراء إلى اليصابات (1)

زيارة العذراء إلى اليصابات (2)

زيارة العذراء إلى اليصابات (3)

زيارة العذراء إلى اليصابات (4)

ميلاد يوحنا المعمدان (1)

ميلاد يوحنا المعمدان (2)

ميلاد يوحنا المعمدان (3)

ميلاد يوحنا المعمدان (4)

ميلاد يوحنا المعمدان (5)

ميلاد يوحنا المعمدان (6)

ميلاد يوحنا المعمدان (7)

ميلاد يوحنا المعمدان (8)

وحي يوسف البار (1)

وحي يوسف البار (2)

وحي يوسف البار (3)

وحي يوسف البار (4)

وحي يوسف البار (5)

وحي يوسف البار (6)

وحي يوسف البار (7)

الميـــلاد المقــــدّس (1)

الميـــلاد المقــــدّس (2)

الميـــلاد المقــــدّس (3)

الميلاد المقدس والأسرة المثالية (4)

ميلاد الرب يسوع المسيح (5)

المجوس يجدون الملك المولود ويسجدون له (6)

المسيح قد جاء مولوداً من عذراء (7)

تجسد الإله الكلمة في ملء الزمان (8)

ميلاد المخلص (9)

ميلاد المحبة (10)

مجدٌ وسلامٌ ومسرّة (11)

هل في منزلك موضع ليسوع؟ (12)

جند السماء وميلاد الفادي (13)

الكلمة صار جسداً (14)

الميلاد المجيد (15)

تهنئة السيدة العذراء

الأحد الأول بعد الميلاد (1)

الأحد الأول بعد الميلاد (2)

الأحد الثاني بعد الميلاد

رأس السنة الميلادية (1)

عيد رأس السنة الميلادية (2)

رأس السنة الميلادية (3)

عمــــاد الـــــرب يـســــــوع (1)

عيـد الدنــح (2)

عيـد الدنــح (3)

قطع رأس يوحنا المعمدان

الأحــد الأول بعـــد الدنــح (1)

الأحــد الأول بعـــد الدنــح (2)

الأحــد الأول بعـــد الدنــح (3)

الأحــد الأول بعـــد الدنــح (4)

الأحد الثاني بعد الدنح (1)

الأحد الثاني بعد الدنح (2)

الأحد الثاني بعد الدنح (3)

الأحد الثالث بعد الدنح (1)

الأحد الثالث بعد الدنح (2)

الأحد الثالث بعد الدنح (3)

الأحد الثالث بعد الدنح (4)

الأحد الخامس بعد الدنح (1)

الأحد الخامس بعد الدنح (2)

الأحد السادس بعد الدنح (1)

الأحد السادس بعد الدنح (2)

الأحد السادس بعد الدنح (3)

الأحد السادس بعد الدنح (4)

تذكار العذراء مريم لبركة الزرع (1)

تذكار العذراء مريم لبركة الزرع (2)

تذكــار مـار أنطـونيـوس

عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (1)

عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (2)

عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (3)

عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (4)

عيـد دخول المسيح إلى الهيكل (5)

عيـد مــار بـرصـــوم

صـــوم نينــــــوى (1)

صـــوم نينــــــوى (2)

صـــوم نينــــــوى (3)

أحــد الكهنـــــة (1)

أحــد الكهنـــــة (2)

أحـــد الموتــــــى (1)

أحـــد الموتــــــى (2)

أحـــد الموتــــــى (3)

أحـــد الموتــــــى (4)

أحـــد الموتــــــى (5)

أحـــد الموتــــــى (6)

أحـــد الموتــــــى (7)

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف

 

بعد حمد الله تعالى، أقول:

شاء الرب يسوع فاختارني أنا الضعيف الضئيل، ودعاني لخدمته، فلبيت الدعوة، وأرسلني منذ شرخ شبابي لأعطي عبيده الطعام في حينه (مت 24: 45)، وأبسط أمامهم مائدة الكلمة الحية، وأرويهم من ماء الحياة. ومن جملة المسؤوليات الروحية التي وضعها الرب على عاتقي أن أعظ المؤمنين به. ففي عام 1954 وهي السنة الأخيرة من مرحلة دراستي في مدرسة مار أفرام الإكليريكية في مدينة الموصل بالعراق مسقط رأسي، ابتدأت أعظ في كنيسة العذراء الداخلية التي كانت تدعى كنيسة (الطاهرة) أو كنيسة (القلعة) إحدى كنائسنا الخمس في مدينة الموصل يومئذ، وهي كنيسة آبائي التي كان بينها وبين دارنا قاب قوسين أو أدنى في محلة (حوش الخان) وقد نلتُ سر العماد المقدس فيها، وخدمت مذابحها المقدسة في صباي كشماس صغير، وقد ابتدأت فيها خدمة الوعظ بإيعاز من أستاذي الجليل مطرانها المثلث الرحمة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام الخطيب المصقع والواعظ المفوّه. وقد اشتهر شعبنا السرياني الموصلي بإيمانه وتقواه وشغفه بسماع المواعظ. وإنني لمدين لهذا الشعب المبارك بتشجيعه إياي على الوعظ وبذلك نمت موهبة الوعظ فيَّ في سن مبكرة، وابتدأت أعير اهتماماً كبيراً بتهيئة مواعظي احتراماً للسامعين، وتقديراً لهم، وسعياً للوصول بهم إلى الهدف الأسمى الذي نتوخاه من رسالة الوعظ وهو خلاص النفوس، وقد تعودت على الصلاة إلى اللّه ليعضدني تعالى ويُمدني بقوة منه وحكمة، ولينير روحه القدوس ذهني لأبذل قصارى جهدي بدراسة موضوع الموعظة جيداً، وأقوم بتقسيمه إلى أجزاء وأختار الآيات المناسبة من الأسفار المقدسة، أستشهد بها لدعم الحقائق الإيمانية والعقائد السمحة، وأستعين بتعاليم آبائي السريان الميامين وشروحهم النفيسة للكتاب المقدس. ويشغل موضوع العظة ذهني بل يحيا معي فترة كافية من الزمن وتسرع نبضات قلبي عندما أكون على أهبة إلقاء العظة على ظهر قلبي. ولغتي في الوعظ سهلة سلسة وأتوخى دائماً البساطة والوضوح، وأتجنب التعقيد والألفاظ الغريبة غير المتداولة وغير المستساغة، محاولاً توصيل الحقائق الإيمانية والمبادئ الروحية إلى أذهان السامعين بسهولة قدر الإمكان.

وقد تعوّدت أن أسأل اللّه تعالى بصلاة حارة كي يضع في قلبي وعلى لساني الكلمات المناسبة المؤثرة في النفوس لتدخل هذه الكلمات الروحية إلى القلوب فتتطهر وتتوب إليه تعالى، وبذلك أكون قد بلغت الغاية المنشودة من الوعظ، ألا وهي خلاص النفوس. وفي هذا المضمار أسعى لخلاص نفسي أولاً لئلا ينطبق عليَّ القول: «أعلّم الناس ولا أتعلّم وأعظ ولا أتعظ» فكنت ولا أزال أعظ نفسي قبل أن أعظ الناس، وأطلب إلى الرب أن يملأ قلبي محبة للّه وللقريب وإيماناً به تعالى وثقة بالرب يسوع الذي وعد سائر خدامه الأمناء بأن يرسل إليهم روحه القدوس ليذكرهم بتعاليمه ويصون أفكارهم وألسنتهم من الخطل والزلل، فكنت أطلب إليه أن ينعم عليَّ بإصلاح نفسي قبل أن أسعى إلى إصلاح نفوس السامعين.

وبما أن أسلوبي في الوعظ هو غالباً عدم كتابة نص الموعظة بكامله مسبقاً، والاكتفاء بكتابة عناوين أقسامها الرئيسة، لذلك فقد فقدتُ أغلبَ عظاتي في عهد رهبنتي ومطرنتي، ولم يبقَ منها سوى ما سجله بعض الهواة لأنفسهم، وبخاصة مواعظ الجمعة العظيمة وبعض الأعياد الكبيرة. أما بعد أن تبوأتُ الكرسي البطريركي الأنطاكي بالنعمة لا بالاستحقاق عام 1980 فقد كان بعض أبنائي الروحيين، يسجلون مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) في المناسبات ثم يفرغونها على الورق وهكذا نشرت قسماً منها على صفحات المجلة البطريركية الغراء وبخاصة تلك التي كانت تذاع عبر إذاعة دمشق، كما نشرتُ بعضها في كتاب بجزئين طبع الجزء الأول منهما عام 1984 والجزء الثاني عام 1988 تحت عنوان (حصاد المواعظ).

وبعدما أسستُ عام 1990 رهبانية العذارى باسم (راهبات مار يعقوب البرادعي) اهتمت بناتي الروحيات الراهبات الفاضلات بإشراف رئيستهن الأم حنينة هابيل بتسجيل أهم مواعظي على أشرطة تسجيل (كاسيتات) أثناء إلقائي إياها على ظهر قلب، وتفريغها على الورق، فتجمع لديَّ عدد وافر من العظات والخطب التي ألقيتها في عدة مناسبات رأيتُ أن أنشر نخبة منها باسم (من بيدر المواعظ) في سلسلة أنوي إصدارها تباعاً، ويتضمن الجزء الأول منها وهو الذي بين يديك أيها القارئ الكريم مقدمة لاهوتية ضافية بموضوع الأعياد المسيحية ومواعظ مختارة لمناسبات الأعياد المارانية (السيدية) أي أعياد الرب الكبيرة، ولبعض هذه الأعياد أكثر من موعظة، خاصة لعيدي الميلاد والقيامة، وسيتبع هذا الجزء إن شاء اللّه أجزاء أخرى متتالية تتضمن مواعظ الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة، وأعياد السيدة العذراء مريم، والشهداء والقديسين، وآحاد الصوم الكبير وشتى المناسبات الروحية على مدار السنة الطقسية السريانية وكلها معدّة وجاهزة وتنتظر دورها في الطبع وذلك لفائدة الإكليروس السرياني وخدام مراكز التربية الدينية والشعب المؤمن. نسأل اللّه تعالى أن تؤول هذه المواعظ إلى خلاص النفوس وأن تكون سبب بركة للقارئ الكريم آمين.

 

إغناطيوس زكا الأول عيواص

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

 

 


بحث في الأعياد

بحث في الأعياد

بحــث فــي الأعيــاد

 

العيد في المفهوم المسيحي هو فرصة روحية، ووقت تعيّن الكنيسة المقدسة موعده ومناسبته، وتفرض على المؤمنين إحياءه والاحتفال به بعدم مزاولة الأعمال الدنيوية العادية، والانصراف إلى الصلاة، وإقامة الشعائر الدينية إكراماً للّه تعالى، وتذكاراً لمنحه الإلهية التي سكبها على المؤمنين، والتأمل بالمناسبة التي خُصّص يوم العيد لأجلها.

وقد أخذت الكنيسة المسيحية سنّة الاحتفال بالأعياد من الكنيسة الموسوية، حيث ذكرت أسفار العهد القديم، أن اللّه نفسه قد فرض على شعب موسى أعياداً ليهيئ لذلك الشعب أوقاتاً يرتاح بها من أعماله العادية، ويتفرّغ خلالها للأمور الروحية، ويتأمل بأعماله تعالى ونعمه الغزيرة وعجائبه الباهرة، في سبيل خلاص ذلك الشعب (خر 12: 24) وليذكر في أجياله اللاحقة مراحم اللّه وإحساناته على الأجيال السابقة وعنايته بهم (خر 12: 2) وبذلك يُواصل الصالحون من البشر حفظ شريعة اللّه (خر 13: 8 ـ 16) ولا ينسون فرائضه إذ يذكرون رعايته الدائمة للبشر ومحبته ويتّخذونه مثالاً لهم بالمحبة، ويعبّرون عن مشاعر الود الصافي بعضهم لبعض بمساعدة الفقير واليتيم والمحتاج.

فالأعياد إذن وضع إلهي، وترتيب سماوي، فرضها اللّه على بني إسرائيل، وأمر بحفظها والاحتفال بها، وحذّر من إهمالها، كما أنه تعالى عاقب من لم يراعِ حرمتها (عدد 15: 23و26). فقد جاء في سفر اللاويين ما يأتي: «وكلّم الرب موسى قائلاً، كلّم بني إسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة هذه هي مواسمي، ستة أيام يُعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة محفل مقدس، عملاً ما لا تعملوا، إنه سبت للرب في جميع مساكنكم» (لا 23: 1 ـ 3) وقد خصّص اللّه تعالى هذه الأعياد له بقوله: «هذه مواسمي وأعيادي» (لا 23: 1 ، 37) وقال تعالى عن أحد هذه الأعياد ما ينطبق على سائر الأعياد بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما ففي هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها»(لا 23: 30).

وأول أعياد العهد القديم هو العيد الأسبوعي السبت الذي ذكر في سفر التكوين أن اللّه استراح فيه وباركه (تك 2: 3) وجاء في سفر الخروج أن اللّه أمر شعب موسى بحفظه (خر 20: 8).

وثاني هذه الأعياد هو عيد الفصح، الذي هو أكبر الأعياد وأهمها عند اليهود (خر 12: 42 ولا 23: 4) فيه يذكرون إخراج الرب آباءهم من أرض مصر فيحفظونه سنوياً ليلاً، وهذه الليلة ذكرت في سفر التثنية (16: 1) حيث قيل: «احفظ  شهر أبيب (نيسان) واعمل فصحاً للرب إلهك لأنه في شهر أبيب أخرجك الرب إلهك من مصر ليلاً» فهذا العيد يُعدّ تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم وتخليصه إياهم من العبودية وكذلك تخليص أبكارهم من الموت لعبور الملاك المهلك عن بيوتهم الملطّخة بدم خروف الفصح، وضربه كل أبكار المصريين (خر 12: 1) وكان خروف الفصح هذا رمزاً لحمل اللّه الرافع خطايا العالم، المسيح يسوع المذبوح لأجلنا ولأجل خلاصنا على حد تعبير الرسول بولس القائل: «لأن فصحنا أيضاً المسيح، قد ذُبح لأجلنا»(1كو 5: 7).

وثالث هذه الأعياد هو عيد الأسابيع أو عيد الحصاد (خر 34: 22  ولا 23: 15 وتث 16: 6 وحز 23: 16) ويسمى أيضاً يوم الباكورة (عد 28: 26) وعيد الخمسين (أع 2: 1) ويقع عند نهاية حصاد القمح، وكان مناسبة لتقديم الشكر للّه على الحصاد الذي تُقدّم باكورته للّه تعالى ويقع هذا العيد في اليوم الخمسين من عيد الفصح، وهو رمز إلى عيد العنصرة المسيحي الذي حلّ فيه الروح القدس على تلاميذ الرب، وعلى أثر خطاب مار بطرس، آمن بالرب ثلاثة آلاف نفس كانوا باكورة المؤمنين يوم ميلاد الكنيسة.

ورابع هذه الأعياد هو عيد المظال ويسمى أيضاً عيد الجمع لوقوعه في نهاية موسم الحصاد، وعند اجتناء الأثمار في آخر السنة (عدد 19: 12  وخر 23: 16) وهو أحد أعياد اليهود الكبرى (لا 23: 24 ـ 43) ويذكرهم بارتحال آبائهم في البرية وسكناهم في المظال، وفيه يخرج الشعب من أماكن سكناهم ليقيموا في مظال مصنوعة من أغصان الشجر ومنصوبة على أسطح الدور، وفي الدار الخارجية للهيكل وفي الأزقة وعلى الجبال المجاورة لأورشليم. وهذا العيد هو سبعة أيام للرب، وفي اليوم الثامن منها اعتكاف وراحة وعبادة في محفل مقدس عظيم (لا 23: 39 و 19: 37).

وخامس هذه الأعياد هو عيد تذكار هتاف البوق (لا 23: 24).

وسادس هذه الأعياد هو عيد الكفارة (عد 19) وهو من أعيادهم المهمة أيضاً نهى اللّه فيه الشعب عن كل عمل وأمر بإذلال النفس قائلاً: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة محفلاً مقدّساً يكون لكم تذللون نفوسكم وتقرّبون وقوداً للرب، عملاً ما لا تعملون في هذا اليوم عينه لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم (لا 23: 24 ـ 29) وفيه كان الحبر الأعظم يدخل إلى قدس الأقداس ويكفّر عن خطاياه وخطايا الشعب كافة.

وسابع هذه الأعياد هو عيد رأس الشهر (عدد 28: 11).

وثامن هذه الأعياد هو عيد الفوريم: الذي وضع تذكاراً لنجاة الشعب اليهودي من دسيسة هامان بواسطة مردخاي واستير (اس 9: 20 ـ 32) ودعي بالفوريم لأن هامان سحب (فوراً) أي قرعة ليناسب يوما لإجراء مقصده الرديء (اس 3: 7).

وتاسع هذه الأعياد هو عيد التجديد، وقد وضع هذا العيد تذكارا لتطهير الهيكل وبناء المذبح وطرد الأعداء على يد يهوذا المكابي (1مك 4: 52 ـ 59) وكان ذلك سنة 164 ق.م وقد ذكر هذا العيد مرة واحدة في الإنجيل المقدس (يو 10: 22).

هذه أهم الأعياد التي فرضت من اللّه على اليهود بترتيب طقوسها وكيفية ممارستها، ذكرناها ههنا لنثبت أن الأعياد وضعها اللّه قديماً ، وأنه تعالى قد أمر بحفظها بقوله لشعب النظام القديم: «فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها. أنا الرب»(لا 19: 37). وحذّر الرب الشعب من إهمالها، وهدّد بالعقاب الصارم لكل من لا يصون حرمتها بقوله: «وكل نفس تعمل عملاً ما في هذا اليوم عينه أبيد تلك النفس من شعبها» (لا 23: 30) وقد حفظ شعب النظام القديم هذه الأعياد حتى ظهور الرب يسوع وهو نفسه أظهر قبوله لها بحضوره بعضها، وبممارسته الفروض التي كانت تقام فيها (مت 26: 17 ومر 14: 13 ولو 2: 41 ويو 2: 13).

فالرب مثلاً قد كمّل عيد الفصح مع تلاميذه بموجب السنّة الموسوية (مت 26: 19). وقد حضر في الهيكل في عيد التجديد (يو 10: 22) وحضر في عيد المظال (يو 7: 37و38) ولم تفرض أعياد اليهود هذه على المسيحيين، ولذلك ساغ للرسول بولس أن يقول لهم: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة» (كو 2: 16) وقد تمت بذلك نبوة النبي هوشع عن الأمة اليهودية على لسان الرب القائل: «وأبطل كل أفراحها وأعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها»(هو 2: 11).

وبعد صعود الرب إلى السماء ابتدأ الرسل الأطهار يعيِّدون أعياد التدابير الإلهية من تجسد الفادي وفدائه البشرية. وأهم هذه الأعياد وأولها هو عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات في فجر الأحد والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة
ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق» (1كو 5: 7و8). ولما كان الرسول بولس في أفسس أسرع إلى أورشليم ليحتفل بعيد العنصرة بقوله: «ينبغي على كل حال أن أعمل العيد القادم في أورشليم»(أع 18: 21) وكذلك لما كان في آسيا وعد مؤمني كورنثوس بالذهاب إليهم بعد أن يعيّد عيد العنصرة (1كو 16: 8) فمن هذا يستدل على أن الأعياد مأمور بها في العهد الجديد، ومصرّح بممارستها وأن الاحتفال بها كان في أوقات معيّنة. ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع الكنائس الرسولية في العالم تعتقد بالأعياد وتحتفل بها، وإذا كان الرب يسوع قد مارس بنفسه إبان تجسّده أعياد العهد القديم، أفلا يجب علينا من باب أولى أن نحافظ كل المحافظة على أعياد العهد الجديد التي هي أتمّ وأفضل حتى لا ننسى محبة اللّه لنا وإحسانه إلينا لأن الأعياد تذكّرنا بمِنَحٍ ملأت الأرض، وبركات من رحمة اللّه المتجسّدة في شخص الفادي العجيب، وتقدم للمؤمنين جيلاً بعد جيل دروساً بكيفية مؤثرة تضرم في قلوبهم نار الغيرة الدينية وتبثّ فيهم روح التقوى والتعبّد لله.

وقد شهد موسهيم المؤرخ البروتستانتي بأن الأعياد كانت وما تزال تمارس في الكنيسة منذ العصر الرسولي بقوله: «إن مسيحيي القرن الأول اجتمعوا للعبادة في اليوم الأول من الأسبوع، اليوم الذي استرجع فيه المسيح حياته ويظهر على أنهم كانوا يحفظون يوماً دينياً آخر لتذكار حلول الروح القدس على الرسل».

وقد زادت حقيقة تمسك الرسل بالأعياد وضوحاً في أوامر الرسل وقوانينهم، وإن جميع المسيحيين يحتفلون بالأعياد منذ فجر المسيحية وإن اختلافهم في تعيين موعد يوم عيد الفصح الذي توصّلوا إلى حل له في مجمع نيقية عام 325 خير برهان على تمسّكهم بالأعياد منذ بدء المسيحية.

 

 


يـوم الأحـد

يـوم الأحـد

 

يــــوم الأحــــد

 

فرضت الكنيسة المقدّسة منذ فجر وجودها يوم الأحد كيوم للرب، لأنه ذكرى قيامة الرب يسوع من بين الأموات. وحرّمت فيه الأشغال، وأمرت أن يكرّسه المؤمنون للتأمل بوصايا الرب، وتعاليمه، وعجائبه، وسائر أحداث سيرته في الجسد. وفي كل يوم أحدٍ تحتفل كنيستنا المقدسة في طقوسها الكنسية بقيامة الرب.

وعبر الدهور أضافت الكنيسة المقدّسة إلى يوم الرب، الاحتفال بأعياد مارانية أي سيدية، وهي أعياد الرب أيضاً من ذلك عيدا الميلاد والعماد اللذان كانت الكنيسة تحتفل بهما في يوم واحد، هو السادس من كانون الثاني وفي الربع الأخير من المائة الرابعة اتفق آباء الكنيسة على الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول وخصّصوا اليوم السادس من كانون الثاني للاحتفال بعيد العماد (الغطاس) على ما ذكر القديس سويريوس موسى ابن كيفا مطران بيت كيونا وبارمان في خطبته في عيد الميلاد. وعيد ختانة الرب، وعيد صعود الرب إلى السماء. وبهذا الصدد يكتب العلاّمة مار غريغوريوس ابن العبري (1286+) في كتابه الهدايات الذي يحتوي على قوانين الكنيسة ما ترجمته: «لا يحلّ للمؤمنين البيع والشراء في يوم الأحد المقدس، والأعياد المارانية (السيدية)» ويقول أيضاً «لا يجوز لأحدٍ أن يؤوي إلى بيته غريباً لا يحترم يوم الأحد والأعياد([1])» ونص القانون الثالث والعشرون من القوانين الكنسية للقديس مار يعقوب الرهاوي (708+) ما يأتي: «لا يحلّ للمؤمنين أن يبيعوا ويشتروا شيئاً في يوم الأحد المقدس وفي الأعياد السيدية، ولا يجوز أن يسافر أحد في طريق إلاّ إذا كان في مكان خال أو في صحبة كثيرين أو في أعمال ضرورية أو بغصب الحكام أو لعوارض أخرى اضطرارية([2])».

وفي عصور لاحقة وُضِعت تذكارات القدّيسين لغايات حميدة ونافعة. والكنيسة في كتب طقوسها، تميّز بين الأعياد المارانية السيدية فتسمّي الأولى عادًا أعياداً، وتفرض على المؤمنين البطالة فيها، وتكرّسها للعبادة وعمل الخير. أمّا تذكارات السيدة العذراء، والشهداء، والقدّيسين التي تسمّيها الكنيسة دوكإنا أي التذكارات، لم تفرض فيها الانقطاع عن العمل سابقاً. ولكن هذه التذكارات تأخذ أهمية كبرى في الكنائس المحلية التي شيّدت على اسم صاحب الذكرى. وفرضت في بعضها البطالة مع مرور الزمن.

يوم السبت خاص بالشعب اليهودي:

كان اليهود وحدهم دون سائر الأمم مكلّفين بحفظ يوم السبت، وحفظ المواسم والأعياد اليهودية، وسائر فرائض الكهنوت الموسوي وأحكامه، ووصفت هذه الفرائض بأنها أبدية كقول الكتاب لليهود: «فريضة دهرية في أجيالكم» (لا 3:17 ولا 6: 18و20 ولا 7: 34و 16: 29و34 وعد 25: 10 و18: 23) والمفهوم بالفريضة الدهرية الأبدية هو أن هذه الفريضة تدوم بديمومة الشريعة التي فرضت ضمنها. وقد فرض اللّه على شعب موسى: 1ـ تقديس أيام معيّنة أي السبت، والأعياد، والهلال. 2ـ الذبائح. 3ـ شريعة الحلال والحرام في أكل اللحوم. 4ـ الختان.

أما السبت فقد فرضه اللّه على شعب موسى يلتزمون بحفظه كيوم عطلة، وذكر كفريضة لأول مرة في حادثة إعطاء اللّه لهم المنَّ في البرية حيث كلّم اللّه موسى قائلاً: «ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء… ويكون في اليوم السادس يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطونه يوماً فيوماً… ثم كان في اليوم السادس أنهم التقطوا خبزاً مضاعفاً… فقال موسى هذا ما قاله الرب: وغداً عطلة سبت مقدّس للرب… ستة أيام تلتقطونه وأما اليوم السابع ففيه سبت لا يوجد فيه، انظروا أن الرب أعطاكم السبت… فاستراح الشعب في اليوم» (خر 16: 4 ـ 8 و22: 30).

وضمن الوصايا العشر التي أعطاها اللّه لشعب موسى قال له: «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي… اذكر يوم السبت لتقدّسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع أعمالك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك…» (خر 20: 1 ـ 3 و8: 10). وقال موسى لشعبه: «الرب إلهنا قطع معنا عهداً في حوريب… نحن الذين هنا اليوم جميعنا أحياء فقال: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية… احفظ يوم السبت لتقدّسه، كما أوصاك الرب إلهك. ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك، وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما… واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت» (تث 5: 2و6و12 ـ 15).

من هذه الآيات المقدّسة وغيرها، نعلم أن اليهود وحدهم كلّفوا بحفظ يوم السبت اليهودي، تذكيراً لهم بمراحم اللّه عليهم، وتخليصه إياهم من العبودية، فأراد اللّه أن يجعل هذا الخلاص ذكراً في أجيالهم، ليذكروا دائماً نعمته العظمى عليهم، ويجعله عهداً أبدياً بينه وبينهم، طالما بقي ناموس موسى وكهنوته الطقسي بتسلسله الشرعي، وطالما بقيت ذبائح هذا الناموس سارية المفعول، وطالما بقيت جداول أنساب ذلك الشعب محفوظة سليمة وصحيحة، وقد تبلبلت تلك الجداول وفقدت، وضاعت الأنساب بعد مجيء السيد المسيح، إذ كانت قد وجدت لتكون شاهدة على حقيقة مجيء المسيح، فشهدت بأن يسوع الناصري هو المسيح المنتظر، وأنّه من نسل داود، وفيه تمّت النبوات، وقد ذكر الإنجيل المقدس نسبه في الجسد. وبعد خراب أورشليم على يد طيطس عام 70م تبلبلت الأنساب وفقدت جداولها، وزالت الذبائح ومعها زال الكهنوت الموسوي أيضاً، وانتهت الفروض الموسوية، فانتهى معها العهد الأبدي.

ومن دراسة حالة اليهود في عهد السيد المسيح، نعلم أنهم في أجيالهم كلّها أخطأوا في كيفية حفظ يوم السبت، ونسوا الغاية من فرضه، فالله يريدنا أن نخصّص سبعَ وقتنا للاستراحة، لأن جسد الإنسان يحتاج إلى راحة، لذلك خصّص اللّه للإنسان يوماً في الأسبوع يرتاح فيه وهو سُبعُ وقته، كما خصّص اللّه للإنسان الليل لراحة جسده من أتعاب النهار. ويريدنا الرب خلال راحتنا الجسدية الأسبوعية أن نعبده تعالى بالروح والحق، ونمجّده ونشكره على أنعامه الكثيرة علينا.

وقد حفظ الرب يسوع (يوم السبت) إذ جاء ليكمّل الناموس لا لينقضه(مت 5: 17) ولكنه علّمنا كيف يجب أن نحفظ يوم الراحة بقوله: «إن السبت جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت»(مر 2: 27).

لذلك جاز لنا أن نعمل في يوم الراحة أعمال الرحمة، فقد أبرأ الرب يسوع في يوم السبت إنساناً كانت يده يابسة (مت 12: 10) وشفى المرأة المنحنية (لو 13: 10 ـ 14) وفتح عيني الأعمى (يو 19: 1 ـ 7) وشفى المستسقى (لو 14: 2) وفي يوم السبت قطف تلاميذه السنابل وأكلوا (مت 12: 1) وهذا ما كان يناقض تعاليم آبائهم وقوانين الفريسيين، فأراد اليهود قتل السيد المسيح لأنه نقض السبت (يو 5: 16) حسب ظنهم.

وكان السبت لدى اليهود فريضة طقسية أكثر منه وصية أدبية. فأُلغي كيوم راحة بإلغاء الناموس الطقسي لديهم.

وألغى المسيحيون يوم السبت وسائر الأعياد اليهودية ونتيجة لذلك يوصي الرسول بولس أهل كولسي بقوله: «فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت التي هي ظل الأمور العتيدة»(كو 2: 16 ـ 17). فالرسول بولس يعلن هنا حقيقية بطلان الفروض الناموسية الموسوية في المسيحية.

يوم الأحد هو يوم الرب:

واتّخذت الكنيسة منذ العصر الرسولي اليوم الأول من الأسبوع أي «يوم الأحد» يوماً مقدّساً ودعته يوم الرب، وأعلنته يوم راحة للإنسان، وكرّسته لعبادة اللّه وتمجيده وعمل الخير فيه. ذلك أن الرب يسوع قام فيه من بين الأموات (مت 28: 1) وظهر لتلاميذه الأبرار في اليوم ذاته ست مرات محققاً لهم قيامته (يو 20: 19 ـ 26) ولم يكن عبثاً تكرار ظهوراته لهم أيضاً وهم مجتمعون في العلّية في يوم الأحد الذي تلا أحد القيامة، كما كان قد دخل أورشليم يوم الشعانين يوم الأحد، وحلّ الروح القدس على التلاميذ وملأهم قوة وحكمة يوم الأحد، وآمن بالمسيح في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس دفعة واحدة (أع 2: 41) وإذا صحّ التقليد القائل أن السيد المسيح قد ولد يوم الأحد يكون قد اختتن يوم الأحد، كما أنه اعتمد يوم الأحد. وهكذا اتفق التلاميذ على حفظ يوم الأحد وتعيينه للعبادة منذ قيامة الرب يسوع من بين الأموات في هذا اليوم المبارك (يو 20: 19 ـ 26) وبهذا الصدد قال أحد آباء الكنيسة بالسريانية قولاً دخل الطقس الكنسي ويرتل بعد ظهر كل يوم أحد وهو: رب ؤْو يومؤ دحدبشبا، طوبوؤي لاينا دنُطر لؤ بؤيمنوةا، دبؤ قم مرن من قبرا وآوديو عممًا بابا وببرا وروحقودشا ؤّ حد ءلؤا÷

وترجمته: عظيم هو يوم الأحد، فطوبى لمَن يحفظه بإيمان، فإن فيه قام الرب من القبر وآمنت الشعوب بالآب والابن والروح القدس هللويا الإله الواحد.

ودعي يوم الأحد يوم الرب، وجاء ذلك أولاً في سفر الرؤيا بالنص اليوناني حيث قال يوحنا «كنت في الروح في يوم الرب»(رؤ 1: 10) وبما أن مفهوم المسيحية منذ بدئها بأن يوم الرب هو يوم الأحد لذلك فالترجمات اللاتينية والسريانية والقبطية ترجمت عبارة (يوم الرب) بـ «يوم الأحد».

وكان الرسل الأطهار وسائر تلاميذ الرب الأبرار يجتمعون في هذا اليوم لكسر الخبز والاشتراك في الأسرار المقدسة، وسماع كلام اللّه والوعظ والإرشاد (أع 20: 7). ولذلك أمر الرسول بولس المؤمنين أن يجتمعوا في هذا اليوم المبارك، ويجمعوا الصدقات لسد احتياجات الإخوة القديسين قائلاً: «في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازناً ما تيسّر حتى إذا جئت لا يكون جمع حينئذٍ»(1كو 16: 2) «إذاً يحلّ فعل الخير في يوم الراحة» (مت 12: 12). ولذلك يكون تقديس يوم الأحد: أولاً ـ بالبطالة أي بالامتناع عن ممارسة كل عمل غير ضروري، وترك مباشرة الحِرف والصنائع والبيع والشراء والنزهات الدنيوية وسائر الأعمال غير الضرورية. ثانياً ـ بحضور القداس الإلهي وسماع كلمة الله، أي بالقيام بأعمال العبادة وممارسة الأعمال التقوية. ثالثاً ـ بعمل الخير محبّة بالله والقريب.

وفي كتابات الآباء المسيحيين في القرون الأولى نقرأ في الديداكي أي تعليم الاثني عشر رسولاً([3]) وصية ذكرت في الفصل الرابع عشر منه تقول: «أما يوم الأحد فهو يوم الرب، تجتمعون فيه لكسر الخبز والشكر، بعدما تعترفون بخطاياكم، ليكون قربانكم نقياً وليكفّ عن الاجتماع بكم من يخاصم أخاه حتى يصالحه لكي لا تتدنّس تقدمتكم».

وفي طقوس كنيستنا السريانية منذ القرن الرابع خُصّصت فصول من الكتاب المقدس لكل يوم أحد، موزّعة على آحاد السنة، تتلى في بدء الاحتفال بالقدّاس الإلهي. كما نظمت الكنيسة كلندارها على أساس الآحاد، كآحاد قبل الميلاد، وآحاد الصوم الكبير، وآحاد بعد القيامة والخ… وبناءً على ما كانت تمارسه الكنيسة من تقديس يوم الأحد، اصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير في 7 آذار سنة 321 أمراً بإبطال الأعمال في يوم الأحد حتى تعليم الجنود. كما منع الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير حضور المسارح وملاعب الخيل وكل وسائل الطرب يوم الأحد، وذلك سنة 425. إن قرارات الملوك هذه تدل على ما كان للكنيسة من تأثير على المملكة فنفّذت المملكة قرارات الكنيسة، وإن آباء الكنيسة الرسوليين سجّلوا في كتاباتهم إلغاء يوم السبت، واتّخاذ الكنيسة يوم الأحد كيوم الرب، ومن ذلك ما قاله القديس مار إغناطيوس النوراني الشهيد (107+) في رسالته إلى أهل مغنيزيا: «إن الذين يعيشون تحت نظام الأشياء القديمة، اعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون السبت أبداً، بل يوم الأحد، اليوم الذي فيه طلع نجم حياتنا بفضل الرب وموته، (وقيامته) هذا السرّ الذي ينكره كثيرون وهو ينبوع إيماننا»([4]). وقال يوستينوس الشهيد (167+) في احتجاجه عن المسيحيين الذي بعث به سنة 140 إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس أنه «في يوم معين يدعى الأحد، كان من عادة المسيحيين القدماء، سواء كانوا ساكنين في مدن أو قرى، أن يجتمعوا في مكان واحد. وكانت تقرأ بقدر ما يسمح الوقت تقارير الرسل أو كتابات الأنبياء. وبعد أن ينتهي القارئ كان المترئس يقدم خطاباً حاثاً هؤلاء المجتمعين على متابعة الأشياء الحميدة التي قرئت، وكان الجميع إذ ذاك يقفون ويقدّمون صلوات. وبعد نهاية الصلاة كان يُؤتى بخبز وخمر ممزوج بماء، ويوضعان قدام المترئس الذي يقدّم صلوات وشكرانات عند نهايتها يقول الشعب آمين. وكانت تلك العناصر المقدّسة توزّع حينئذ وتُناول إلى كل واحد، وقسم منها كان يرسل إلى الغائبين»([5]).

هكذا أبطل الرسل عطلة يوم السبت واتّخذوا يوم الأحد يوما مقدساًً للرب، وذلك بسلطان إلهي نالوه من الرب، وبترتيب إلهي، وإلهام رباني، وبهذا السلطان أيضاً كانوا قد أقدموا على إلغاء الختان وإحلال المعمودية محله، حتى ساغ للرسول بولس أن يقول: «لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة»(غلا 5: 6) مع أن ما قيل عن الختان في العهد القديم، مطابق لما قيل عن السبت إذ قال الله: «ويكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختتن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها إنه قد نكث عهدي » (تك 17: 14). أما عن السبت فقيل: «سبوتي تحفظونها لأنها علامة بيني وبينكم في أجيالكم فتحفظون السبت لأنه مقدّس، من دنّسه قتلاً يقتل، فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً» (خر 31: 14 ـ 17). فبالسلطان الرسولي الذي به أبطل الرسل عهد الختان الأبدي، أبطلوا أيضاً عهد السبت الأبدي. (أع 15: 18).

ولا غرو في ذلك، فليس ثمة ذكر للسبت في موعظة الرب يسوع على الجبل (مت 5و6و7) ولا ذكر للسبت في جواب الرب يسوع للشاب الذي سأله قائلاً ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فعدّد له الوصايا دون أن يذكر له وصية حفظ السبت (مت 19: 16) مما يدل على عدم ضرورة حفظها لنيل الحياة الأبدية. وفضلاً عن ذلك، فإن قرار المجمع الرسولي الأول الذي عقد في أورشليم عام 51م كان خالياً من ذكر السبت (أع 15: 18).

هكذا أبطلت وصية السبت واتّخذ المؤمنون في المسيح يوم الأحد يوماً للرب مقدساً يحتفلون فيه بذكرى قيامة الرب من بين الأموات.

الأعياد المسيحية الأخرى:

إلى جانب وجوب احتفالنا بيوم الرب أي يوم الأحد، نحن ملتزمون بالاحتفال ببقية الأعياد المسيحية التي تقسم من حيث رتبتها وأهميتها إلى:

1ـ أعياد مارانية أي سيدية وتدعى بالسريانية عادًا مُإنُيِا وهي أعياد الرب يسوع فيها نذكر أعماله الخلاصية، وفي ممارستها نتأمل صورة تدابيره الإلهية، وكأننا نرسمها أمامنا بصورة ناطقة. مكرّسين يوم العيد لعبادته له المجد ولذلك فهي أعياد إلزامية تلزم فيها البطالة على المؤمنين كما يجب فيها حضور القداس الإلهي.

2ـ تذكارات وتسمى بالسريانية دوكإنا وهي أعياد وتذكارات السيدة العذراء مريم وبعض الشهداء الأبرار والقديسين، والعديد من هذه التذكارات يعتبر أعياداً في الكنائس المحلية المشيَّدة على أسمائهم أو في مناطق استشهادهم أو جهادهم الروحي.

وتقسم الأعياد المارانية (السيدية) إلى قسمين أ: كبيرة، ب: صغيرة. فالكبيرة هي من وضع الرسل الأطهار وتلاميذهم الأولين([6]) وهي: 1ـ عيد البشارة، 2ـ عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد، 3ـ عيد الغطاس أي عماد الرب يسوع في نهر الأردن على يد عبده يوحنا، 4ـ عيد الشعانين، 5ـ عيد القيامة، 6ـ عيد الصعود، 7ـ عيد العنصرة أي حلول الروح القدس على التلاميذ. أما الأعياد المارانية (السيدية) الصغيرة فهي: 1ـ عيد ختانة الرب يسوع، 2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل، 3ـ خميس العهد وهو خميس الفصح، 4ـ ويضاف إليها أيضاً عيدا الصليب والأحد الجديد، وهذه الأعياد كلها إلزامية. وفيما يلي نتكلّم عن كل منها باختصار.

أولاً: الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة وهي سبعة:

1ـ عيد البشارة: وهو ذكرى بشارة الملاك جبرائيل للقديسة مريم العذراء بحبلها بمخلص العالم الرب يسوع المسيح (لو 1: 26 ـ 38). وتُعد هذه البشارة أول تدابير عمل الفداء، ومقدمة عهد الحرية والتخلّص من نير العبودية لإبليس ومن ربقة الخطية والموت الأدبي. وقد تسلّمت الكنيسة الاحتفال بهذا العيد من الرسل أنفسهم واحتفلت به منذ القرن الأول للميلاد([7]).

ويقع هذا العيد في 25 آذار، وهو من الأعياد الثابت حسابها في التقويم الكنسي، وقد يقع خلال أيام الصوم الأربعيني في وأسبوع الآلام وحتى في جمعة الآلام المحيية العظيمة، فيجب الاحتفال فيه بالقداس الإلهي فيه لأنه أصل الأعياد السيدية وأولها ـ ونحن السريان عادة لا نحتفل بالقداس الإلهي أيام الصيام إلا في يومي السبت والأحد وأربعاء نصف الصوم وارتفاع الصليب وسبت البشارة أي النور. ولكن لأهمية عيد البشارة يجب أن نحتفل بالقداس الإلهي فيه حتى ولو وقع في يوم جمعة الآلام المحيية، ونعيّد للبشارة متناولين الطعام الصيامي، ثم نبدأ بالاحتفال بطقس الصوم أو أسبوع الآلام أو الجمعة العظيمة موشّحين الكنيسة بالسواد علامة الحداد كالمعتاد.

وقد فصَّل البشير لوقا حوادث البشارة العظيمة في الإصحاح الأول من الإنجيل المقدس الذي كتبه.

2ـ عيد الميلاد: وهو ذكرى ولادة الرب يسوع المسيح بالجسد، في مغارة بيت لحم (لو 2: 1 ـ 13).

وقد احتفلت به الكنيسة منذ فجر المسيحية، وأثبت مار سويريوس الكبير (538+) قِدَمه على ما ذكر ابن كيفا (903+) وكانت أكثر كنائس الشرق تحتفل به في السادس من كانون الثاني مع عيد الغطاس وفي القرن الرابع عمّ تعييده في 25 كانون الأول وبقي عيد الغطاس في 6 كانون الثاني.([8])

 3ـ عيد الغطاس: (الدنح) وهو ذكرى عماد الرب يسوع على يد عبده يوحنا المعمدان في نهر الاردن. ودعي بالسريانية دنحا ـ أي عيد الدنح أو الظهور الإلهي، لظهور الثالوث الأقدس الأقانيم الثلاثة الإله الواحد على أثر عماد الرب يسوع (مت 3: 13 ـ 17 ومر 1: 9 ـ 11 ولو 3: 21 ـ 23).

ويقع هذا العيد في السادس من شهر كانون الثاني وهو قديم العهد.

4ـ عيد الشعانين: وهو ذكرى دخول السيد المسيح إلى أورشليم راكباً على أتان وجحش ابن أتان (مت 21: 1 ـ 11 ومر 11: 1 ـ 11  ولو 19: 29 ـ 40 ويو 12: 22 ـ 25). ويقع هذا العيد في الأحد السابع من الصوم الكبير وهو الأحد السابق لعيد القيامة المجيد.

5ـ عيد قيامة الرب يسوع: من بين الأموات (مت 28: 1 ـ 4 ومر 16: 1). ويقع في الأحد الثامن من الصوم الكبير ولأهميته يسبقه أسبوع الآلام والصوم الأربعيني، وقد اختلف المسيحيون منذ فجر النصرانية في تعيين موعده، وعقدت مجامع محلية في أماكن عديدة لبحث هذا الخلاف، منها مجمع في ولاية الرها وفي فلسطين وبلاد البنطس، قررت أن يكون العيد يوم الأحد([9]). وقد وضع مجمع نيقية المسكوني الأول عام (325) حداً لهذا النزاع، وقرر أن يُحتفل بعيد القيامة في الأحد الذي يلي السبت لتمام بدر نيسان، ووضع المجمع قاعدة مضمونة لحساب العيد، وأعطي أسقف الاسكندرية الصلاحية ليعلن إلى عامة المسيحيين موعده لكل سنة([10]) معتمداً في تعيين موعده التقويم اليوليوسي الذي كانت الدولة تتبعه منذ فرضه يوليوس قيصر في السنة 46 قبل الميلاد. ولأهمية هذا العيد الدينية، واحتراماً لمقام قيامة الرب يسوع من بين الأموات، كان الملوك الرومان يعفون عن المجرمين فيه([11]).

وقد نشب الخلاف ثانية في صفوف الكنائس المسيحية في تعيين موعد عيد القيامة عندما اعتمد فريق منها الحساب الغريغوري أجراه البابا غريغوريوس الثالث عشر في السنة 1582. وما يزال الخلاف قائماً، وأبدى بعض رؤساء الكنائس والمؤسسات الكنسية في أيامنا هذه نية طيبة في محاولة توحيد مواعيد الاحتفال بالأعياد الدينية، فكان مجمعنا الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي المقدس المنعقد في حمص غضون شهر تشرين الثاني من عام 1954 قد قرر بأكثرية الآراء قبول الحساب الغربي لعيد الميلاد والأعياد التي تتبعه بالتقويم السنوي. واعتبر اليوم الثاني من شهر كانون الأول شرقي، اليوم الخامس عشر منه. وأصدر الخالد الذكر البطريرك افرام الأول برصوم منشوراً في اليوم نفسه لكي تسلك الكنيسة فيما بعد بموجبه في جميع الأعياد، واستثنيت أبرشية القدس وكنيسة مصر، وأما حساب الصوم الكبير وعيد الفصح فهما باقيان على حاليهما. ونشكر اللّه الذي ألهم رؤساء الكنائس في أيامنا هذه فاخذوا يسعون إلى توحيد موعد عيد القيامة أيضاً وبهذا الصدد قرر مجمعنا المقدس المنعقد في دمشق في جلسته العشرين بتاريخ 11/11/1981 ما يأتي: «يرى المجمع أن يبقى موعد الاحتفال بعيد القيامة على وضعه الحاضر، ولا يجد مانعاً من بحث توحيد موعد الاحتفال به مع سائر الكنائس في الشرق الأوسط على أساس الاحتفال به سنوياً يوم أحد في غضون شهر نيسان الغربي أو يوم أحد في أي موعد يُتّفق عليه مسكونياً»([12]).

6ـ عيد صعود السيد المسيح إلى السماء وجلوسه عن يمين اللّه الآب (مر 16: 19و20 ولو 24: 50 ـ 53 وأع 1: 9 ـ 12). ويقع بعد أربعين يوماً من عيد القيامة وقبل عشرة أيام من عيد العنصرة. وهذا العيد قديم العهد أيضاً وقد عيّدته أكثر الكنائس قبل القرن الرابع وذكره مار أفرام السرياني (375+)([13])

عيد العنصرة: هو ذكرى حلول الروح القدس على تلاميذ الرب في العلية بعد صعود الرب يسوع إلى السماء بعشرة أيام وبعد قيامته من الأموات بخمسين يوماً. ولذلك يدعى أيضاً بالفنطيقسطي أي عيد الخمسين (أع 2: 1 ـ 4).

ثانياً: الأعياد السيدية الصغيرة. وهي أربعة:

1ـ عيد الختان: وهو ذكرى ختان الطفل يسوع (لو 2: 21 ـ 24) بعد ميلاده بثمانية أيام على حسب ناموس موسى، ويقع هذا العيد في الفاتح من شهر كانون الثاني وهو رأس السنة المسيحية الجديدة. وتبدأ السنة المسيحية بعيد الختان وليس بعيد الميلاد، لأن بدء حياة الإنسان في نظام العهد القديم هو يوم ختانه الذي فيه يقطع عهداً مع اللّه أن يكون في عداد المؤمنين به والمتمسكين بوصاياه، أما الأيام التي تقع بين يوم ميلاده ويوم ختانه، فلا تحسب من أيام حياته. فالرب يسوع الذي ولد من امرأة وولد تحت الناموس، أكمل الناموس، وطقسياً بدأت حياته بالجسد في يوم ختانه(غلا 4: 4).

2ـ عيد تقدمة الطفل يسوع إلى الهيكل في المدينة المقدسة، حيث حمله شمعون الشيخ على ذراعيه (لو 2: 22 ـ 32) ويقع في الثاني من شهر شباط، وهو قديم العهد بدأت بتعييده الكنيسة في القدس ثم أخذت عنها ذلك بقية الكنائس المسيحية([14]).

3ـ خميس الفصح أو خميس العهد: وهو ذكرى تسليم الرب يسوع سر جسده ودمه الأقدسين إلى تلاميذه ليلة آلامه (مت 26: 26 ـ 29  ومر 14: 22 ـ 25 ولو 22: 19 ـ 20). ويقع في اليوم الخامس بعد عيد الشعانين.

4ـ عيد التجلي: وهو ذكرى تجلي الرب يسوع على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه الأطهار هم بطرس ويعقوب ويوحنا، وظهور موسى وإيليا معه (مت 18: 1 ـ 13 ومر 9: 2 ـ 13 ولو 8: 28 ـ 36) ويقع في السادس من شهر آب.

ويضاف إلى الأعياد السيدية الصغيرة الأحد الجديد وهو ذكرى ظهور السيد المسيح لتلاميذه بحضور توما أحد رسله (يو 20: 24 ـ 29) ويقع في اليوم الثامن من عيد القيامة. وعيد الصليب الذي يقع في 14 أيلول. ولمار  يعقوب الرهاوي (708+) رسالة في هذا العيد يوضّح فيها أنه يجهل واضع هذا العيد وزمانه وسببه ولم يقف على ذلك في تاريخ أو كتاب. وكل ما يعلم أنه عيد جرت عليه الكنيسة من عهد عهيد بحسب التقليد القديم([15]) والأغلب أنه نشأ في العقد الرابع من المائة الرابعة في القدس أولاً ثم أخذ يعمّ الكنائس. وقد تجدد ترتيبه في القرن السابع وخُصص لتذكار إعادة ذخيرة خشبة الصليب إلى القدس بعد أن سلبها كسرى ملك الفرس عام 625 ومكثت في حوزته مدة أربع عشرة سنة فأعادها هرقل ملك الروم إذ انتصر على ملك الفرس في الحرب.

إن المجمع الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في دير مار متى في الموصل من 11 ـ 25 تشرين الأول عام 1930 قرر «تحويل بعض الأعياد إلى تذكارات بشرط أن تبقى الأعياد السيدية والمكانية كما كانت». كما قرر المجمع المقدس المنعقد في حمص عام 1932 وجوب حفظ يوم الرب الذي هو الأحد بكل دقة حسب الأمر الإلهي كذلك الأعياد المارانية (السيدية) الكبيرة والصغيرة.

وفيما عدا الاحتفال بالأعياد السيدية فقد خصصت الكنيسة منذ أواسط القرن الثاني للميلاد أياما للاحتفال بتذكارات السيدة العذراء مريم والشهداء ثم سائر القديسين الذين انهوا حياتهم على الأرض متمسكين بالإيمان، وقدّموا شهادتهم بالمسيح بالأعمال الصالحة وختموها بسفك دمهم الطاهر على مذبح محبة اللّه. فاعتبرتهم الكنيسة قدّيسين انتقلوا إلى كنيسة الأبكار في السماء وتشفّعت بهم. وفي غضون القرن الرابع شرعت تشيّد على أسمائهم الكنائس الفاخرة، وتزيّنها بصورهم على ما أثبت مار غريغريوس النوسي([16]).

واستندت الكنيسة في عقيدة إكرام العذراء والشهداء وسائر القديسين إلى تعاليم الكتاب المقدس فقد قال الرب يسوع لتلاميذه: «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني»(لو 10: 16) وقال أيضاً: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب»(يو 12: 26). وجاء في سفر الأمثال: «ذكر الصديق للبركة»(أم 10: 7) وجاء في سفر المزامير: «ذكر الصديق باق إلى الأبد»(مز 112: 6) وقال الرب يسوع عن المرأة التائبة التي دهنت قدميه بالطيب ومسحتهما بشعرها: «حيثما يكرز بالإنجيل في العالم، يخبر بما فعلته هذه تذكاراً لها»(مر 14: 9). أما السيدة العذراء مريم فقد تنبأت عن أن تذكارها سيدوم إلى الأبد بقولها: «منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني، لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه» (لو1: 48 ـ 50).

أعياد السيدة العذراء مريم وتذكاراتها، وندعوها بالأعياد المريمية:

رتبت الكنيسة عبر الأجيال تذكارات للعذراء مريم على مدار السنة. ففي الثامن من شهر أيلول تحتفل بتذكار ميلادها، والكنيسة عادة تعيد للشهداء والقديسين بعد انتقالهم إلى كنيسة الأبكار في السماء، وانتهاء جهادهم الروحي على الأرض. ولكنها استثنت من هذه القاعدة، من البشر، القديسة مريم العذراء والقديس مار يوحنا المعمدان فاحتفلت بتذكاري ميلادهما.

وتحتفل الكنيسة للعذراء في الخامس عشر من كانون الثاني بعيدها لبركة الزروع وفي الخامس عشر من أيار بتذكارها لبركة السنابل وفي الخامس عشر من آب بعيدها لبركة الكروم الذي حلّ محله مع الأجيال عيد انتقالها إلى السماء([17])، ولأهميته يسبقه صوم لمدة خمسة أيام.

وهذه الأعياد الثلاثة قديمة العهد في الكنيسة كما ذكر ذلك الشاعر السرياني شمعون الفخاري الذي اشتهر ورفاق له في أوائل القرن السادس ويُدعون بـ (قوقيًا) (قوقويي) القواقين أي الفخارين نسبة إلى مهنتهم كخزافين. فيقول الفخاري: ما تعريبه: «رشت أرض أفسس ونضحت بندى وطلّ عندما جاءها مار يوحنا بكتب العذراء التي دوّن فيها وجوب الاحتفال بأعياد العذراء المباركة ثلاث مرات في السنة. ففي شهر كانون الثاني عيدها (لبركة) الزرع، وفي شهر أيار عيدها (لبركة) السنابل، وفي شهر آب عيدها (لبركة) الكروم التي يصور فيها سر الحياة». كما كانت الكنيسة تعيّد للعذراء مريم في آخر شهر آب عيد (تزنير السيدة العذراء) ولقربه من عيد انتقالها أهمل على تراخي السنين([18]).

وتعيّد الكنيسة أيضاً للعذراء مريم في السادس والعشرين من شهر كانون الأول أي اليوم الثاني لعيد ميلاد الرب يسوع، عيد تهنئة العذراء بالميلاد، وهو عيد شرقي قديم. كما تعيّد في الخامس عشر من شهر حزيران تذكار أول كنيسة بنيت على اسم العذراء في يثرب، ومن أشهر وأهمّ الأعياد في المسيحية عيد بشارة العذراء بالحبل الإلهي ويقع في الخامس والعشرين من شهر آذار، وقد مرّ شرحه. كما خصّصت الكنيسة السريانية في بدء السنة الطقسية ما يسمى بالآحاد السابقة للميلاد من ضمنها أحد بشارة العذراء وأحد زيارة العذراء لنسيبتها اليصابات، واحد وحي يوسف وهو تطمين الملاك جبرائيل ليوسف خطيب العذراء ببراءتها وكشف السر الإلهي له، أن الذي حبل به في العذراء مريم هو من الروح القدس([19]).

وفي صدد تنظيم جدول الأعياد قرر السينودس المقدس المنعقد في حمص 4ـ7 كانون الأول عام 1932 عن أعياد العذراء ما يأتي: «أعياد السيدة العذراء أربعة وهي: تهنئتها 26 كانون الأول، ولبركة الزرع 15 كانون الثاني، وميلادها 8 أيلول، وانتقالها 15 آب، وما بقي فهو تذكار فقط».

بناء على قرار هذا المجمع المقدس وقرارات ما تلاه من مجامعنا المقدسة وتمشيّاً مع ما يقتضيه تطور الزمان من عدم إمكان المؤمنين الالتزام بالبطالة لكثرة أعياد العذراء والقديسين، نرى أن يثبت عيد تهنئة السيدة العذراء بميلاد ابنها الذي يقع في 26 كانون الأول، وكذلك ليثبت عيد انتقالها إلى السماء على ما هو عليه طالما سبقه صوم خمسة أيام وقد قرر مجمعنا الأنطاكي السرياني المقدس المنعقد في حمص في شهر تشرين الثاني عام 1954 أن يضاف إلى عيد انتقال سيدتنا العذراء مريم تذكار اكتشاف زنارها الذي وجد في كنيسة حمص في سنة 1953 أما بقية أعيادها فهي تذكارات وتنتقل إلى أقرب أحد منها. ويحذف عيد تشييد أول كنيسة على اسمها في يثرب. وفي ما سواه من أعيادها وتذكاراتها غُني عنه.

كما قرر مجمع حمص عام 1954 ما يأتي: قررنا نقل بعض أعياد وتذكارات قديسين من الأيام المعينة لها إلى يوم الأحد الأقرب منها وذلك تسهيلاً لأصحاب المهن والصناعات لحضور القداس وصلوات العيد المفروضة. ويستثنى من هذا النقل أعياد وتذكارات مكانية لها منزلتها الخاصة في بعض الكنائس.

بقية أعياد القديسين([20]): وتنقسم إلى قسمين:

1 ـ الثابتة وهي:

تذكار قتل الأطفال في بيت لحم. ويقع في 27 كانون الأول، ويمكن أن يحول إلى الأحد التالي.

عيد استشهاد مار يوحنا المعمدان، ويقع دائماً في السابع من شهر كانون الثاني.

تذكار مار اسطيفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء وعيدته الكنيسة أولاً في القدس في صدر النصرانية ثم عمّ، ويقع في 8 كانون الثاني، يحول إلى الأحد الذي يتلوه.

تذكار مار برصوم رئيس النسّاك ويقع في 3 شباط يحول إلى الأحد التالي.

تذكار الأربعين شهيداً في سيبسطية ويقع في 9 آذار يحول إلى الأحد الذي يتلوه.

عيد مار جرجس الشهيد ويقع في 23 نيسان، وفي كنائس العراق في 24 منه يحول إلى الأحد الذي يتلوه. أو في التاريخ الذي اعتادت الكنائس التي شيّدت على اسمه أن تحتفل به.

عيد هامتي الرسل مار بطرس ومار بولس وهو قديم العهد بدأ في القدس ثم عمّ، ويقع في 29 حزيران يعيد في موعده إذ يسبقه صوم ثلاثة أيام وهو عيد مؤسسي الكرسي الرسولي الأنطاكي.

عيد مار توما الرسول يقع في 3 تموز وهو تذكار انتقال رفاته من الهند إلى الرها يحوّل إلى الأحد التالي.

تذكار مار قرياقس وأمه يوليطي الشهيدين يحوّل إلى الأحد التالي.

تذكار الشهداء مار بهنام وأخته سارة ورفاقه الأربعين، ويقع في 10 كانون الأول يحول إلى الأحد التالي.

2 ـ الأعياد المتنقلة أو المتحولة وهي:

تذكار مار سويريوس البطريرك معلّم المسكونة المعترف وفي العراق هو تذكار مار إغناطيوس النوراني البطريرك «وهو حديث الوضع» ويقع يوم الخميس بعد صوم نينوى، وعيد مار أفرام الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد ويقع في السبت الأول من الصوم الكبير وقد حوّل بقرار مجمعي إلى الأحد الذي يليه.

تذكار ارتفاع الصليب وأبجر الملك ويقع في يوم الأربعاء نصف الصوم، وتذكار جميع المعترفين ويقع يوم الجمعة الذي يتلو عيد القيامة، وعيد مار برصوم رئيس النساك ويقع يوم الخميس الذي يعقب يوم خميس صعود الرب إلى السماء وهو الخميس السابق لعيد العنصرة وهذا العيد موضوع في الكلندار للقديس برصوم أسقف كفرتوث الشهيد، أما الآن فيراد به مار برصوم رئيس النسّاك([21])، وتعدّ هذه الأعياد والتذكارات المذكورة عامة لكنيستنا المقدسة جمعاء. وهناك تذكارات خاصة ومكانية قد فصِّلَت في التحفة الروحية فليرجع إليها. وإكمالاً للبحث ندرج فيما يأتي أسماء الآحاد على مدار السنة([22]) فنقول:

إن السنة الكنسية عندنا تبتدئ في الأحد الثامن السابق لعيد ميلاد الرب يسوع في الجسد وهو يكون الأحد الأول من شهر تشرين الثاني إذا وقع أول هذا الشهر يوم الأربعاء أو الخميس أو الجمعة أو السبت أو الأحد لكنه إذا وقع في يوم الاثنين أو الثلاثاء كان الأحد الأخير من شهر تشرين الأول رأس السنة الكنسية. والأحد الأول يسمّى تقديس البيعة، والثاني تجديد البيعة، الثالث بشارة زكريا، الرابع بشارة العذراء، الخامس زيارة العذراء، السادس ميلاد يوحنا، السابع وحي يوسف، الثامن الأحد السابق للميلاد. ثم الأحد الثاني للميلاد، والأحد الأول بعد الدنح، ثم الثاني فالثالث فالرابع فالخامس، ثم أحد الكهنة فأحد الموتى. وفي العراق جمعة الكهنة وجمعة الموتى الغرباء وجمعة الموتى كافةً. وآحاد الصوم الكبير الستة وهي:

الأحد الأول: أحد أعجوبة تحويل الماء خمراً في قانا الجليل.

والأحد الثاني: هو أحد أعجوبة تطهير الأبرص وعيد مار أفرام السرياني الملفان معلّم المسكونة ومار ثاودورس الشهيد.

والأحد الثالث: وهو أحد أعجوبة شفاء المخلع.

والأحد الرابع: وهو أحد أعجوبة شفاء ابنة الكنعانية.

والأحد الخامس: وهو أحد مثل السامري الصالح.

والأحد السادس: وهو أحد أعجوبة شفاء الأعمى ابن طيما.

والأحد السابع: وهو عيد الشعانين ومساء النهيرة.

ثم أحد القيامة أي عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، ثم الأحد الجديد وهو الأحد الأول بعد القيامة ويليه الثاني والثالث والرابع والخامس وأحد العنصرة وبقية الآحاد حتى عيد الصليب وكلّها تخصّ القيامة، والآحاد التي تلي عيد الصليب وتعرف بالعامة.

ولكل من هذه الآحاد والأعياد والتذكارات طقوس خاصة بها نظمها آباء الكنيسة وملافنتها وضمتها مجلدات ضخمة سميت بالفناقيث أي المجلدات وهي تضمّ الصلوات التي وضعوها نظماً ونثراً لهذه المناسبات الروحية المقدسة تنشدها الكنيسة في الأيام المعينة لها.

 


تقديس البيعة

تقديس البيعة

 

تقديــس البيـــعة (1)

 

«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

(متى 16: 18)

 

أيها الأحباء:

تحتفل الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك، بأحد تقديس الكنيسة، وباحتفالها هذا تريد أن تؤكّد على الاعتراف الذي فاه به الرسول بطرس هامة الرسل جواباً لسؤال الرب يسوع لتلاميذه:«من يقول الناس اني أنا ابن الإنسان» (مت 13:16).

وتريد الكنيسة أيضاً أن تثبت بأنها قد أُسست على صخرة الإيمان بالرب يسوع، الذي هو رأس الزاوية وهو أيضاً رأس الكنيسة التي هي جسده السري، ولذلك هي ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

كان قد مرّ على بدء التدبير الإلهي العلني بالجسد مدة سنتين ونصف السنة، والناس حيارى، يرون شاب الناصرة يجترح الآيات والمعجزات، ويعلّم الناس طريق الحياة. يلقي عظاته كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين كما كانوا يقولون عنه، ولكن، هل هو «ماشيحا» المسيح المنتظر؟

لقد ارتكبت الأمة اليهودية جريمة كبرى، لأنهالم تعرف زمن افتقادها، ولم تعرف مسيحها فهلكت إلى الأبد. ولكن المسيح صرّح للعالم بأنَّه جاء مخلصاً للعالم، وها نحن نسمعه يسأل تلاميذه عن رأيهم فيه. ذكروا له أن الناس تظنّ أنه أحد الأنبياء. ولكن، وأنتم من تقولون أني أنا؟ يجيبه بطرس: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ». فيقول له يسوع: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلِنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

نعم، أسس السيد المسيح كنيسته على المبدأ الإيماني العقيدي السامي أنه: هو ابن الله الحي، ولذلك لا يمكن للكنيسة أن تتزعزع لأنه وَعَدها أن يكون معها إلى أبد الدهور، وأنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها.

سمعناه للمرة الأولى يفوه بلفظة «كنيسة»، وعَلِمنا أنه يعني المؤمنين به إيماناً مستقيماً، بأنه هو ابن الله، فإن لم يؤمن الإنسان بأن يسوع الناصري هو المخلص وهو ابن الله، لا يكون في عداد المؤمنين الذين يؤلفون الكنيسة، وهذه الكنيسة أراد أن يقيمها ملكوتاً لله على الأرض، ووهبها كلّ النعم السماوية السامية لتلد أولاداً من السماء ليكونوا إخوةً للإله المتجسد. هذه الكنيسة بنعمتها تأخذ الطفل فيعتمد باسم الرب يسوع، بوساطة كهنتها الشرعيين، ويصير ابناً لله بالنعمة بعد أن يكون قد تبرر من الخطية الأبوية الأصلية وتقدَّس، لأنّ ابن الله قد تجسّد لهذه الغاية: أن يعيد إلينا القداسة التي فقدناها يوم أخطأ أبوانا الأولين، هذه القداسة أعادها الرب إذ فدانا بدمه الكريم، بل أيضاً أقام من نفسه مثالاً لنا حياً، فكان قدوساً طاهراً نقياً كما قال الملاك للعذراء يوم بشّرها بالحبل به: «القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو1: 35)، فهو ابن الله القدوس.

رأيناه مرّةً يتحدّى أعداءه ويعلن لأصدقائه وأتباعه قائلاً: «من منكم يبكّتني على خطيئة، فإن كنت أقول الحقَّ فلماذا لستم تؤمنون بي» (يو8: 46). الإنسان ولو كانت حياته ساعة واحدة يقول آباؤنا السريان لابدَّ من أن يخطئ، ولكن المسيح يسوع عندما تجسّد، أخذ كل ما لنا كما يقول الكتاب ما عدا الخطية،لم يخطئ الرب يسوع فهو قدوس ويريدنا أن نكون قديسين كاملين كما قال في عظته على الجبل: «كونوا أنتم كاملين كما أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت5: 48).

وهذا الربط ـ لأن أباكم الذي في السموات هو كامل ـ قصد به أن تكون علاقتكم بهذا السموي «الله» بطهر ونقاء وقداسة.

يوم كانا أبوانا في حالة البرّ كانا مع الله، وكانا يخاطبانه ويخاطبهما، ويوم أخطئا طُردا من جنتهما. نحن أيضاً جاء المسيح ليُعيد إلينا القداسة، ولا يمكن أن نعود إلى فردوس النعيم وإلى ملكوت الله في السموات مالم نكن قديسين.

هذا ما عناه آباء الكنيسة، بتقديس البيعة الذي نحتفل به في مثل هذا، وهو الأحد الثامن قبل ميلاد الرب يسوع بالجسد، وهو رأس السنة السريانية الطقسية، هذا ما عناه بتسمية الأحد بتقديس الكنيسة: أن نقدّس أنفسنا لأننا قد تبررنا من الخطية الأصلية، والرب يسوع وفرَّ لنا كل وسائل القداسة في كنيسته المقدسة، فما علينا إلاّ أن نقتدي به لكي نكون قديسين.

إن الرسول بولس يوصينا أن نكون بسلام مع جميع الناس، ونتحلّى بالقداسة التي بدونها لن يرى أحداً الله، لأن الله قدوس ومالم نكن قديسين لا نستطيع أن نرى الله. والله يرفض البر الذاتي، فقد يشعر الإنسان بنفسه أنَّه قد بلغ الكمال والقداسة لأنه طبّق بعض الوصايا وقام ببعض الفروض الكنسية، ولكن هذا هو البرُّ الذاتي الذي ولو كان له صورة البر ولكنّه ليس ببرٍّ، لأنه لا يؤهل الإنسان للدخول إلى ملكوت الله، لأنَّه برٌّ فريسي، فالرب قال: «إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» (مت5: 20)، إذا كان هذا الحال أيها الأحباء مع المؤمنين فلا يمكن لمن لبس الجسد البشري سوى ربنا يسوع أن يبقى باراً قديساً، إذاً لا يمكن أن يرث إنسان ملكوت الله. ولذلك أعدَّ الله لنا سراً عظيماً هو سر التوبة والاعتراف، بأن يتوب الإنسان إلى الله.

لقد بدأ السابق يوحنا كرازته بمناداة الناس: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت3: 2)، وكانت عقيدة النظام القديم التي توارثوها عن آبائهم أنّه إن تاب بنو إسرائيل ساعةً واحدةً فقط فماسيا سيأتي حالاً، ونحن أيضاً ما لنا إلاّ أن نتوب، أن نعود إلى الله لننال البر، فيوم الدينونة يقول آباؤنا سوف لن يسألنا الله: لماذا أخطأتم؟ لأنَّه يعرف أننا معرضون للخطية دائماً، ولكن سيسألنا: لماذا لم تتوبوا؟ فالتوبة هي العودة إلى الله بندامة تامة، وأن يحتّم الإنسان أن لا يعود إلى الخطية أبداً، وأن يرضى بالموت ولا يرضى أن يعود إلى الخطية. بهذا فقط نستطيع أن نعود إلى برِّنا الذي فقدناه في الفردوس بعد أن نكون قد آمنا بالفداء، وقبلنا المسيح يسوع مخلصاً لنا، واعتمدنا باسمه القدوس.

لنقدِّس ذواتنا أيها الأحباء في هذا اليوم، وفي كل يوم، فإذا كان هذا اليوم هو تقديس البيعة فما هي البيعة إلا نحن، الرعاة والرعية، بل أنّ مار أفرام يقول للمؤمن: «أن يكون هو كنيسة وأن يجعل ذهنه مذبحاً للرب ليقدم تسابيح إلهية تصعد أمام منبر المسيح».

أيها الأحباء:

نحن هياكل الله وروح الله حالٌ فينا، فلنقدس هياكل الله بتوبة نصوح، ولنتَّحد بالمسيح يسوع بتناول القربان المقدس لنستحقَّ أن نكون قديسين، فنرث ملكوت الله في السماء بعد عمر طويل، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 


 

تقديــس البيـــعة (2)

 

«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

    (متى 16: 18)

 

كانَ الرب يسوع يجول في ضواحي قيصرية فيلبس، وكان التلاميذ يتبعونه، كان ذلك بعد بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد بسنتين ونصف السنة، وقد آن الأوان ليُعلن عن تأسيس ملكوته السماوي على الأرض، وليُعلنَ أيضاً أنَّه هو ماسيا المنتظر، وأنَّه ولئن ظهر كإنسان، لكنه هو الإله الحقيقي.

سأل تلاميذه قائلاً: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ أجابوه قومٌ يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون ارميا أو واحدٌ من الأنبياء. وأنتم من تقولون أني أنا؟ يتقدم بطرس ويقول: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ»، ويقول له الرب: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يُعلِنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت16: 17).

كانت المرّة الأولى التي يلفظ فيها الرب كلمة «كنيسة» وعنى بها جماعة الذين آمنوا به أنّه ابن الله، أي التلاميذ والرسل الذين كانوا يتبعونه دائماً وفي كل مكان، هؤلاء هم الكنيسة، بني هذه الكنيسة، هذه الجماعة التي تؤمن به أنَّه ابن الله بناها على أساس هذا المبدأ أنَّه هو المسيح ابن الله الحي.

الكنيسة التي أسسها الرب جعل منها مؤسسة إلهية على الأرض، تهيئ الناس لييكونوا مهيَّئين لملكوته السماوي، ووضع في تلك الكنيسة وكلاء عنه هم الرسل الأطهار وبعدئذ وضع خلفاءً للرسل ليتسلموا سلطان الإدارة الكنسية. حيث بعد أن أقرَّ بطرس بالإيمان الذي أوحته إليه السماء وأعطاه الرب مفاتيح باب السماء منفرداً أعطاه السلطان أن يفتح أبواب السماء وأن يغلقها أيضاً، أن يهيئ الناس أن يتعلموا تعاليم السماء، وأن يتقدَّسوا وأن يتبرروا ثم أن يصيروا أولاداً لله مولودين من السماء. بعدئذ أعطى هذا السلطان للرسل مجتمعين أن يفتحوا أبواب السماء لمن يستحق أن يدخلها، وأن يغلقوها أيضاً أمام من لا يستحق أن يدخل تلك الجنة التي هيأها الرب للإنسان.

بطرس كان شخصاً معرَّضاً للخطية، فهو إنسان، بل أيضاً ظهر لنا ضعفه عندما انتهر الرّب، هكذا يقول الإنجيل المقدس إذ أنّ الرب قد أظهر لتلاميذه أنه سيتألم، فنرى بطرس يقول: حاشاك يا رب، ولكنَّ الرب انتهره، رأى الشيطان الذي كان وراء فكرة بطرس، فطرده، «اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنّك لا تهتمّ بما لله بل بما للناس» (مت16: 23).

هذه كنيسة المسيح التي سلَّم مقاليدها للرسل هي مفاتيح التعليم الصحيح، كان الإنسان عندما يدرس الشريعة في العهد القديم يعطى له مفتاح كأنَّه استحقَّ أن يفتح أبواب العلم الديني أمام الناس، ولكن الرسل أعطوا مفاتيح السماء وما حلّوه على الأرض يكون محلولاً في السماء وما ربطوه على الأرض يكون مربوطاً في السماء (مت16: 19)، فعندما تأسست الكنيسة نالوا هذا السلطان السامي.

ولكنّ الكنيسة المقدسة التي أحبّها السيد المسيح ـ كقول الرسول بولس ـ وبذل نفسه دونها، وفداها بدمه الأقدس، فنقاها وطهَّرها فصارت له عروسة نقية طاهرة لا عيب فيها ولا غضن، فهي كنيسة مقدسة والرسل والتلاميذ وسائر أعضاء الكنيسة لابدّ أن يكونوا قديسين، ولهذا يوم ولدت الكنيسة يوم حلَّ الروح القدس على أولئك الذين ألفوا الكنيسة في يوم الخمسين طهّرهم الروح القدس ونقاهم وألهمهم، وكما كان المسيح قد وعدهم أنَّ الروح يذكِّرهم في كل ما قاله المسيح لهم، فصار الروح مرشداً للكنيسة ومعلماً، ويصون رؤساءها وأبناءها، الرعاة والرعية في آنٍ واحد في إطار العقيدة السليمة والسيرة الصالحة المقدسة، فما على الكنيسة إلا أن يخضعوا للروح القدس، أن يكونوا في حالة نعمة، أن يكونوا في حالة سلام، لأنَّ الروح يغضب عندما يشعر أن الإنسان يبتعد عن الله بتمرغه في الخطية. هذا ما شعر به داود يوم أخطأ وعند توبته طلب قائلاً:  «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي، لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني» (مز51: 10 و11). فنحن إذاً أحبائي أبناء ملكوت الله على الأرض أعضاء الكنيسة جسد المسيح السري بل كل واحد منَّا كما يعلمنا القديس مار أفرام السرياني: «كلُّ واحد منّا هو كنيسة» وليس هذا غريباً عن المسيحية كافة فالرسول بولس يقول: «لنا أنتم هياكل الله وروح الله حال فيكم».

وإذ نحتفل اليوم بأحد تقديس الكنيسة، لا نرى فقط الكنيسة كبنيان يحلّ فيه الله، لأنّ الله يحلّ في كل مكان، خاصة البناء الذي يُقدَّس ويُكرَّس على اسمه ليكون دائماً مع المؤمنين به. لا نرى ذلك فقط بل نرى أنفسنا كنائس لله هياكل له تعالى فكما أنَّ علينا أن نحافظ على السيرة الصالحة، فالكنيسة قد أؤتمنت على ذلك لأنها مقدسة وأعضاؤها قديسون وقد جاهَدت عبر الدهور والأجيال وإبليس يحاربها يريد زعزعة إيمان أبنائها، ويريدهم أن يحيدوا عن طريق الحق والاستقامة والفضيلة. واليوم في أيامنا هذه الكثير ممن يُدعون مسيحيين قد حادوا عن الإيمان بالمسيح يسوع ابن الله، تنكروا لهذه العقيدة وأنكروها، بل أيضاً حادوا عن الشريعة الإلهية التي أعطانا إياها المسيح يسوع إذ صار مثالاً لنا بنكران ذاته، بحمله الصليب، بفداء المسيح المعصوم عن كل خطأ، ألم يتحدّى أصدقائه وأعدائه قائلاً: «من منكم يبكتني على خطية» (يو8: 46)، فالكنيسة لها مسؤولية كبيرة أن تحافظ على العقيدة الدينية وعلى السيرة الفاضلة، وإن حادت عن إحدى هاتين المسؤوليتين لا تكون كنيسة المسيح، وكما نحافظ على ذلك ككنيسة، علينا أن نحافظ على ذلك كأفراد، كهياكل لله، وإلا نكون غرباء عن المسيح يسوع ـ لا سمح الله ـ ، فعندما نحتفل بتقديس الكنيسة نحتفل بتقديس نفوسنا، إذ اختارنا الله له شعباً كما تنبأ ارميا عن الأيام التي بدأت بتدبير المسيح يسوع في الجسد إنَّ الله سيختار له شعباً لا يعطيهم شريعة كما أعطاها بوساطة موسى لشعب العهد القديم، بل أن: «يجعل شريعته في داخلهم، وأن ينقشها على قلوبهم ليكون هو لهم إلهاً وليكونوا هم له شعباً» (إر31: 33)، هكذا نكون هياكل الله هكذا نكون أعضاء حية في كنيسة الله، فالسيد المسيح رأس الكنيسة، ومالم يكن الجسد معلقاً بالرأس وخاضعاً لأوامر الرأس يكون غريباً عن الرأس، بل يكون ميتاً كأغصان الكرمة التي مثلها الرب يسوع به وبأبيه وبأعضاء كنيسته المقدسة (يو15: 1).

ففي هذا اليوم مسؤوليتنا أن نجدّد عهدنا مع الله الذي جعل شريعته في قلوبنا، أن نسلك بحسب هذه الشريعة متمسّكين بالإيمان الذي تسلَّمه الرسل الأطهار من مسيحنا وسلموه لآبائنا ونحن تسلمناه منهم، متمسكين بالسيرة الصالحة، أن نكون قديسين كما أنَّ «أبانا الذي في السموات قدوس»، بهذا فقط نكون أعضاء حيّة في جسم كنيسة الله على الأرض، ونستحقَّ أن نكون بعد العمر الطويل أرواحاً نبني أسوار أورشليم السماوية مع الملائكة ومع أرواح القديسين الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي آمين.

 

 


 

تقديـس البيعة (3)

 

«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلِنْ لك لكنَّ أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات».

  (مت 16: 17 ـ 19)

 

تعلن السماء على لسان الرسول بطرس هامة الرسل حقيقة إلهيّة كان لابدّ أن يعرفها العالم عن يسوع المسيح، الذي يصفه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر بالجسد» هذا هة الابن، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الذي تجسّد في ملء الزمان من الروح القدس والعذراء مريم. وجال بين الناس يصنع خيراً، الذي كان يعلّم الناس كمن له سلطان، وليس مثل الكتبة والفريسيين، الذي اجترح المعجزات الباهرات، الذي جاء إلى عالمنا لينهج لنا طريق الحياة الأبدية، فلم يكن مجرد إنسان بل هو «اللّه ظهر بالجسد» (1تي 3: 16) كما أنّه ابن اللّه الحي، هذا ما أعلنته السماء يوم عماده من  يوحنا المعمدان عندما انفتحت السماء وهبط الروح على هامته شبه حمامة على هامته ليميّزه عن الجمهور. وهذا ما أعلنته السماء أيضاً يوم تجلّيه على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه، عندما تغيّرت هيئته وصارت ثيابه كالثلج ولمع وجهه كالشمس وظهر معه موسى وإيليا وجاء صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا» (لو9: 35)، وأعلنته السماء على ألسنة الكثيرين، خاصة على لسان مار بطرس هامة الرسل في ضواحي قيصرية فيليبس، وكان ذلك بعد سنتين ونصف السنة من بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، هناك سأل الرب يسوع رسله قائلاً: من يقول الناس عني إني أنا؟ فأجابوا قوم يقولون يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء. وأردف يسوع قائلاً لرسله الأطهار: وأنتم من تقولون إني أنا، أجاب بطرس قائلاً: «أنت المسيح ابن اللّه الحيّ». بعد أن لفظ بطرس ما ألهمه اللّه به حينذاك آن الأوان ليعلن الرب يسوع نفسه لأوّل مرة عن تأسيس كنيسته المقدسة التي هي ملكوت اللّه على الأرض، فلفظ كلمة كنيسة لأوّل مرة وعنى بها جماعة المؤمنين به أنّه ابن اللّه. فقد أسّس هذه الكنيسة على صخرة عقيدة إيمانيّة دينيّة إلهيّة أن يسوع المسيح هو ابن اللّه الحي، فمن لا يؤمن بالمسيح أنه ابن اللّه لا يعتبر عضواً في الكنيسة بل هو غريب عنها. وهذه الكنيسة التي أسّسها على صخرة الإيمان به وعدها أن أبواب الهاوية لن تقهرها أبداً، والأبواب هي السلطات كما كان يقال مدنياً عن الباب العالي أي السلطة العليا في الدولة العثمانية، وأراد الرب أن تكون كنيسته مقدسة لتكون سلّماً يصعد عليها المؤمن إلى السماء ولا غرو فمؤسّسها قدوس، كما قال عنه الملاك يوم بشّر العذراء مريم بالحبل الإلهي به: «الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظللّك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله» (لو1: 35)، وفي تدبيره الإلهي بالجسد لم يقترف خطيّة ما، ولم يوجد في فمه غش، وقد وقف أمام أصدقائه وأعدائه يعلن لهم حقيقة سامية بقوله: «من منكم يبكتني على خطية؟» (يو8: 46)، فهو وحده ممّن لبس الجسد معصوم من الخطأ.

جاء الرب يسوع إلى أرضنا ليقدّسنا ويطهّرنا، ففدانا بدمه القدوس الكريم واشترانا للآب السماوي على حد قول الرسول بولس القائل: «كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدّسة وبلا عيب» (أف5: 25 ـ 27) فالكنيسة مقدّسة لأن المسيح القدوس هو مؤسّسها، وهو رأسها وهي جسده السري المقدس، ليس هذا فقط بل يريد من كل عضو من أعضاء الكنيسة أن يكون قديساً، «كونوا كاملين» قال لنا في الموعظة على الجبل «لأن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت5: 48)، ويقول أيضاً الرسول بطرس في رسالته الأولى: «بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة، لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (1بط1: 15 و16)، فقد قدّسنا وطهّرنا ونقّانا بدمه الطاهر، وأسّس لنا الكنيسة مخزناً للنعم الإلهية والمواهب السماوية التي اكتسبها لنا بدمه الكريم، فنحن نولد في الكنيسة من جرن المعمودية ميلاداً ثانياً، والكنيسة بسلطة الكهنوت المقدس تدعو الروح القدس ليحلّ علينا عندما نمسح بالميرون المقدس وننمو بالقامة والنعمة في كنيسة اللّه، أبناءً للّه بالنعمة إذ ولدنا من فوق من السماء: «لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من اللّه» (يو1: 13)، لنكون أعضاء في هذه الكنيسة المقدّسة التي أسّسها المسيح يسوع على صخرة الإيمان به وليس هذا فقط بل نقّاها وطهّرها لكي يحثّنا كأعضاء حيّة فيها أن نكون أنقياء. من أراد أن يكون عضواً حياً في الكنيسة عليه أن يكون قديساً، هذا الأمر لا نستطيع أن ندركه بعقولنا ومهما سعينا للوصول إليه لا نستطيع أن نناله ما لم نؤمن بابن اللّه الحيّ. وقد نكون في عداد هؤلاء وأولئك الذين يخدعون أنفسهم ويظّنون أنهم بتمسّكهم ببعض ما ورثوه من آبائهم من عادات قد صاروا بجهودهم الخاصة أبراراً وهذا ما نسمّيه بالبر الذاتي الذي هو صورة التقوى الخالية من قوتها، وهذه كانت حالة الكتبة والفريسيين ولذلك يريد الرب يسوع أن يزيد برّنا عليهم ليكون برّنا حقيقياً بقوله لنا: إن لم يزد برّنا على الكتبة والفريسيين، الرب قال لنا: لا نستحق أن ندخل ملكوت اللّه. فالقداسة هي في الروح، الروح التي إذ تتطهر باللّه تستطيع أن تناجي روح اللّه الحي، القداسة هي العلاقة التّامة المتينة بالمسيح يسوع ربنا، فنحن أغصان وهو الكرمة ما لم نكن متصلين في الكرمة نيبس ونقطع ونلقى في النار.

هذه الكنيسة المقدسة التي أسّسها المسيح لن تقهرها أبواب الهاوية. كم قسا الدهر عليها! إن هراطقة لا يحصى لهم عدد قاموا فيها منذ فجر وجودها لكي يفسدوا عقيدتها القويمة الرأي. إبليس زرع فيها أيضاً زؤاناً اختلط مع الحنطة، ولكن اللّه في وسطها فلن تتزعزع فقد حافظت على إيمانها القويم الرأي، وقدمت الشهداء وقام ملافنتها يدافعون عن حقها وثبتوا أبناءها على الإيمان القويم الرأي وما تزال وسوف تبقى ثابتة على إيمانها القويم الرأي والسيرة الفاضلة، رغم اضطهاد العالم وأساطين العالم لأبنائها، وهي متمسكة بالقداسة، فالكنيسة مقدسة بالمسيح قديسها القدوس. آباؤنا نحن كنيسة اللّه، كنيسة أنطاكية، آباؤنا كانوا قديسين. إن سفر أعمال الرسل يذكر أن أتباع المسيح لأوّل مرّة دعوا مسيحيين في أنطاكية ذلك أن أعداء المسيح من الوثنيين واليهود في ذلك الوقت رأوا في أولئك  الذين يتبعون المسيح مسحاء صغاراً بسيرتهم الطاهرة النقية فسمّوهم مسيحيين (أع11: 26). فإذا كنّا نريد أن نكون أعضاء حيّة في كنيسة المسيح، أن نكون في هذه الكنيسة المقدسة بعلاقة تامة برأسها المسيح، علينا أن نكون أيضاً قديسين بسيرة طاهرة نقية وبالثبات على الإيمان القويم الرأي.

هذه هي الدروس الخالدة التي نأخذها أيها الأحباء ونحن نحتفل بطقس تقديس الكنيسة في هذا اليوم الذي يعتبر بدء السنة الطقسية السريانية، وهو الأحد الأول في عداد الآحاد الثمانية السابقة لعيد الميلاد المقدس، وهو الأحد الذي فيه نبدأ نقدس نفوسنا ونستعد ونهيئ عقولنا لتقبل عقيدة التجسد الإلهي والفداء في آن واحد. فعلينا أيها الأحباء أن نثبت على إيماننا، أن نعلن هذا الإيمان كما أعلنه بطرس أن المسيح هو ابن اللّه الحيّ، فالذي ولُد من العذراء مريم هو اللّه ظهر في الجسد، وفي الوقت نفسه أن نتأمل في هذا السر العظيم أن اللّه قد أحبنا إلى درجة أنه «بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). لذلك فلنقتدِ بالمسيح يسوع الذي هو حقّنا وطريقنا وحياتنا لنحيا به ويحيا فينا لنستحق مع القديسين والآباء وفي مقدمتهم الرسول بطرس أن نرث ملكوت اللّه بنعمته تعالى آمين.


تقديــس البيـــعة (4)

 

«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا إن لحماً ودماً لم يعلنْ لك ذلك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

         (متى16: 17 و18)

 

تحتفل الكنيسة المقدسة أيها الأحباء، في هذا اليوم، بأحد تقديس الكنيسة، وهو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد.

والكنيسة تهيأ عقول أبنائها وبناتها وقلوبهم، لتقبّل حقيقة الميلاد الإلهي. والإنجيل الذي تُلي على مسامع بعضكم في بدء القداس يُعلن لنا عمّا يناله الإنسان المؤمن من نِعم عندما يعلن إيمانه الحقيقي بالرب يسوع كما فعل سمعان بطرس، فاستحقَّ الطوبى.

 فقد كان الرب قد بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد قبل سنتين ونصف من تاريخ وجوده في ضواحي قيصرية فيلبس، التي هي بانياس السورية، وحين سأل تلاميذه عمّا يقول الناس عنه أنه هو، والرب يعلمنا بسؤاله لتلاميذه أننا يجب أن لا نتجاهل الناس في كل ما نفكر به ونقوله ونعمله، بل أيضاً علينا أن نحترم آراءهم، حتى ولو كان هناك قضية إيمانية علينا أن نستمع إليهم ونصحّح ما كان خارجاً عن أصول الإيمان المقدس.

أجاب الرسل الرب عمّا سمعوه من الناس قائلين: قوم يقولون أنك يوحنا المعمدان، أجل العديد من الناس كانوا يظنون أن يوحنا الذي قتله هيرودس قد قام من بين الأموات وبدء يبشر ثانيةً قائلاً: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت3: 1)، حتى هيرودس عندما سمع عن الرب يسوع قال: «هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات ولذلك تعمل به القوات» (مت14: 1)، وغيرهم يقولون: إنك إيليا، وعن إيليا كان يقال: إنَّه سيأتي ثانيةً قبل مجيء المسيح، إيليا الذي عرفنا عنه أنه كان نبياً غيوراً، وأنه استحق أن تصعد به مركبة نارية إلى السماء، فهو لا يزال حياً. وكان تقليد اليهود يعلم أنه سيأتي قبل مجيئ  المسيح ليهيأ طريقه أمام الرب، والرب قد أشار إلى ذلك وقال لهم: «إنّ إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه» (مت17: 11)، لقد جاء إيليا لأنَّ يوحنا المعمدان قد جاء بروح الغيرة التي كانت لدى إيليا وغيرهم.

وقال التلاميذ أيضاً: والبعض يقولون إنّك إرميا، وإرميا كان نبياً غيوراً حزيناً على كسر بنت شعبه، حزيناً على الناس الذين حادوا عن الإيمان وابتعدوا عن الله وعلى خراب المدينة والهيكل وعلى ابتعاد الناس عن الناموس وإبطال الذبيحة.  وبحسب تقليد اليهود أن إرميا كان يجب أن يأتي قبل مجيء المسيح وأنه سيجد قسط المن وعصا هرون ويهيأ هذه الأمور، وأنه سيفتش عن تابوت العهد ليجده ويُعاد بناء هيكلهم، وإعادة ذبائحهم الحيوانية.

ويتابع الرب يسوع سؤاله لتلاميذه ويسألهم عن رأيهم به هم كرسل اختارهم من بين العالمين ليحملوا رسالة الإنجيل إلى العالم ويتبعوه مدة سنتين ونصف السنة، ورأوه يجترح المعجزات، وسمعوا تعاليمه، يقول لهم: وأنتم من تقولون أني أنا؟

بطرس يتقدّم التلاميذ ويقول للرب: أنت هو المسيح ابن الله الحي. «طوبى لك يا سمعان ابن يونا ـ يقول الرب لبطرس ـ لأن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس «كيفا» وعلى هذه الصخرة ـ أي صخرة الإيمان بالمسيح بأنه ابن الله الحي ـ وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

في هذه الحقيقة الإلهية، في هذه الحادثة التي دوّنها لنا الإنجيليون نرى أنَّ الحقائق الإيمانية التي تفوق عقولنا جميعاً لا نستطيع أن ندركها، وأن نعلنها مالم تكن السماء قد أوحت إلينا بذلك. فالرب يقول لبطرس: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك ذلك بل أبي الذي في السموات». وبطرس خضع للروح والوحي الإلهي وأعلنه واستحق الطوبى.

ما أسعد هذا الإنسان الذي تقبَّل وحي السماء وأعلنه بإيمان!

طوبى لك يا سمعان ابن يونا، أنت بطرس، أنت لست بترا شوعا، إنما أنت حجر كافا في بيت إلهنا وعلى صخرة الإيمان، صخرة المبدأ الإلهي، ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

مهما صادف الكنيسة المقدسة من عقبات في سير رسلها لحمل الإنجيل من صعوبات من اضطهادات ولكنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها والأبواب كنية عن السلطة والسلطات العليا تدعى أبواباً ولكن هذه السلطة الدنيوية لم ولن تقوى على كنيسة المسيح لأنها قد تأسست على صخرة الإيمان طالما هي متمسكة بهذا الإيمان بالمسيح يسوع الذي هو ابن الله الحي تبقى ثابتة إلى الأبد.

هذه الكنيسة أيها الأحباء أسسها الرب يسوع لتكون ملكوته السماوي على الأرض، لتجمع الناس إلى حظيرة المسيح لتمنحهم النعم الإلهية التي استحقها بدم المسيح يسوع، إن هم آمنوا في المسيح، فالمسيح في بدء تدبيره الإلهي بالجسد لمّا جاء إلى العالم بالجسد جاء لفداء البشرية بدمه الكريم، وأعلن رسالة السماء على الأرض. جاء فوجد كنيسة اليهود التي أسسها على يد موسى قد حادت عن الناموس وأصبحت غريبة عن الشريعة، فقد وجدت لخلاص البشر ولكنها صارت سبباً لهلاكهم، فنادى ببدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله» ملكوت الله على الأرض هي الكنيسة المقدسة. إن الرب يسوع المسيح يريدنا أن نتوب لنكون في عداد أبناء هذا الملكوت على الأرض وهو يعلم أننا لا نستطيع أن ندعي البرَّ، ومن ادعى بالبر الذاتي أصبح غريباً عن الله إذاً نحتاج إلى التوبة لنعود إليه لنكون أعضاء في ملكوته السموي على الأرض، وعندما فدانا بدمه الكريم أعاد إلينا الحالة التي كان فيها أبوانا، حالة البر والقداسة إذ بررنا وقدسنا، عندما فدانا بدمه الكريم، وإذا كان في البدء قد أعلن أن روحه لا تحل على ذي جسد لأن الإنسان نجس، نجس بالخطية فبعد أن فدانا وآمنا به أنه ابن الله الحي وقبلنا نعمة الفداء بدمه الكريم، فلا يكفي أنه قد فدانا يجب أيضاً أن نؤمن بهذا الفداء ونقبله، حينذاك حلّ علينا روحه القدوس فقدسنا وأصبحنا قديسين. كل مؤمن ومؤمنة يؤمن إيماناً حقيقياً صحيحاً بالمسيح ابن الله ويسلك بموجب شريعة المسيح يصبح قديساً عضواً في الكنيسة المقدسة.

يأتي إنسان ليسأل: كيف يكون هذا والعديد ممن نراهم وكأنهم مؤمنون هم بعيدون عن التقوى ومخافة الله لهم صورة التقوى ولكنهم لا يعرفون قوتها؟

إن ذلك أيها الأحباء يوضَّح بمثل الرب عن نمو الزرع الصالح مع الزوان (مت13: 24ـ 30)، وعن توصية صاحب الحقل لعبيده أن لا يقلعوا الزوان لئلا تقلع الحنطة معه أيضاً الزرع الصالح من الزوان، ويقول: دعوهما ينموان معاً  إلى يوم الحصاد. هكذا ينمو معاً الصالح والطالح في كنيسة الله.

لكن الكنيسة مقدسة، وعندما نحتفل بتقديس الكنيسة نريد أن نقدّس نفوسنا كالكنيسة، وقد دعا مار أفرام الملفان كل مؤمن هو كنيسة ويريدنا أن نقدم ذبائح الله روحاً منكسرة روحاً طاهرة نقية، أعمالاً صالحة كأننا نقدم ذلك في مذبح الرب الذي هو فكرنا وقلبنا لنكون مرضيين لديه تعالى. فالكنيسة مقدسة وعلينا أن نكون قديسين، إذ قدَّستنا نعمة الرب وولدتنا الكنيسة التي هي أمنا ومعلمتنا ولدتنا ميلاداً ثانياً من جرن المعمودية وحلَّ علينا الروح القدس ليثبِّتنا ولننمو في النعمة والحق في هذا العالم ولنكون للعالم أيضاً مثالاً لأناس آمنوا حقاً كالرسول بطرس بأنَّ المسيح هو ابن الله الحي، وأن المسيح قد فدانا بدمه الكريم وهو حيٌّ،  وعلينا أن نحيا فيه بل هو يحيا فينا، لنكون قديسين كما أن أبانا الذي في السموات هو قدوس، حينذاك عندما نتقدس في الرب ونبقى في حالة التوبة التي دعانا إليها المسيح نستحق أن نكون معه أيضاً في السماء بشركة القديسين.

فالكنيسة أيها الأحباء تعلمنا بوساطة الوحي الإلهي أنها الكنيسة المجاهدة على الأرض وجهادها، ما جهاد الكنيسة؟ جهاد الكنيسة على الأرض ضدَّ إبليس لتثبت في حالة التوبة، فلا تخضع للشيطان، ولا تستمع إليه، بل تثق بالله وتتمسك بشريعته لتكون مرضية لدى الله ولتكون بشركة مع كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، هؤلاء هم كنيسة بشركتنا معهم خاصة خلال القداس الإلهي تتوحد الكنيسة الواحدة، نحن نصلي لأجلهم وهم يصلون لأجلنا لنبقى مرضيين لدى الله متمسِّكين بشريعته، سالكين سلوك آبائنا القديسين، متمسكين بإيماننا بالمسيح يسوع المسيح ابن الله الحيّ، لكي بعد أن نقضي شوطنا على هذه الأرض تستحق أرواحنا أن تتَّحد مع أرواح القديسين في السماء لنكون ضمن أعضاء الكنيسة المنتصرة، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 


 

تقديــس البيـــعة (5)

 

«فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

       (متى 16 : 16-18)

 

في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء، الذي ندعوه أحد تقديس الكنيسة، تحتفل الكنيسة المقدسة بذكرى بدء السنة الطقسية السريانية، وتهيّئ أذهان المؤمنين وعقولهم لتقبُّل سرّ تجسد الرب يسوع المسيح، أي بدء الآحاد الثمانية قبل الميلاد.

يقودنا الرسول متى في الإنجيل المقدس إلى ضواحي قيصرية فيلبس التي تدعى اليوم «بانياس» في أراضينا السورية. حيث كان الرب يسوع مجتمعاً مع تلاميذه، بعد ابتدائه تدبيره الإلهي العلني بالجسد بسنتين ونصف السنة، هناك أراد أن يعلن حقيقة لابدّ أن يعترف بها تلاميذه ومن يأتي بعدهم، بل كل من يؤمن أن المسيح هو ابن الله.

سأل التلاميذ: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟. قالوا له: قوم يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون إرميا، أو واحد من الأنبياء. قال لهم: وأنتم من تقولون أني أنا، فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. 

أراد الرب يسوع أن تُعلَن هذه الحقيقة لنا، ووضَّح أن سمعان لم يقلها من نفسه بل الآب السماوي أوحاها إليه. وأعطى الطوبى لسمعان ودعاه كيفا أي الحجرة، ودعاه أيضاًً الصخرة الصلدة التي عليها أسس كنيسته لتبقى ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

أجل أيها الأحباء:

إن الكنيسة المقدسة التي أسَّسها الرب يسوع، أراد أن تكون سُلّماً موضوعاً على الأرض، نصعد به إلى السماء، لأنه هناك ملكوته السماوي. فإذا تهيأ المسيحي في الكنيسة التي هي ـ كما ذكرها الآباء في مجمع القسطنطينية سنة 381م ـ هي واحدة وجامعة ومقدّسة ورسوليّة، وعندما نحتفل بتقديس الكنيسة، يعني ذلك أن هذه الكنيسة قد تقدّست وتطهّرت وتنقّت بوساطة سرَّي التجسّد والفداء.

الرب يسوع المسيح ابن الله تجسد ليكون ابن البشر، ليجعلنا أولاداً لله بالنعمة، وقدّسنا وطهّرنا ونقّانا فاستحقَّ كلّ واحد منّا أن يولد بالمعمودية ميلاداً ثانياً من السماء، ليكون ابناً لله بالنعمة. فجعل الكنيسة واسطةً للتبرير والتقديس. ونحن قد نلنا نعمة عظيمة من الرب، لأنَّه أسس كنيسته على المبدأ السامي المقدس بأنه ابن الله الحي، وهو معنا لأنه صار أيضاً ابن البشر. وجعل في الكنيسة وسائل النعمة، الأسرار المقدسة، فنولد من جرن المعمودية أولاداً للسّماء، وبالميرون المقدس نتثبّت ويحلّ علينا الرّوح القدس. لذلك فالكنيسة التي أعلنها الرب يسوع في قرى قيصرية فيلبس ولدت يوم حلَّ الروح القدس على التلاميذ، وبدأت الكنيسة بوساطة الروح القدس وإرشاده وقيادته، تتذكر ما قاله الرب يسوع للتلاميذ، ولا تحيد عن الحق، بل أصبحت عمود الحق. هذه الكنيسة بعد أن نولد من جرن المعمودية، ويحلّ علينا الروح القدس نصير فيها أعضاء على الأرض، لأنها ملكوت الله الذي أسسه الرب يسوع، ليتهيأ فيه المؤمن ويتدرب ليكون بعدئذ مرشحاً لملكوت الله في السماء.

الإنسان يخطئ دائماً لأنّه معرضٌ للخطيئة طالما هو لابسٌ الجسد، ولكن وُضِع سر التوبة والاعتراف لكي يتطهّر ويتنقّى، لأنه عندما أسّس كنيسته وأعطى الطوبى لبطرس، حالاً أعطاه سلطان حل الخطايا وربطها، «ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السّماء». هذا هو سلطان الكهنوت، الذي به تستطيع الكنيسة أن تبقى ثابتة على حالة البر، تغفر خطاياها بسر الاعتراف والتوبة، ثم عندما يتناول المؤمن القربان المقدس، يثبت في المسيح، ويثبت المسيح فيه، بل أيضاً حسب وعد المسيح الصادق أنَّه يرث الحياة الأبدية.

ما أعظم هذه النعمة التي ننالها بواسطة الكنيسة المقدسة من ربنا يسوع المسيح والكنيسة المقدسة، خاصةً وأن الرب يسوع هو رأسها، وهي جسده الطاهر النقي. نتأمل في الناس فنجد الصّالح والطالح، نجد البار والشرير، نجد المؤمن والملحد. فنقول: كيف الكنيسة مقدسة؟

أيّها الأحباء:

ضرب لنا الرب يسوع مثلاً عن الحنطة والزؤان (مت13: 24ـ 30)، إنسان زرع زرعاً جيداً، حنطةً نقية، وقبل أن تنمو نما معها الزؤان. عرف أن إنساناً شريراً قد زرع ذلك مع الحنطة. إبليس يقظ دائماً، فلابدّ أن يكون الزؤان إلى جانب الحنطة. وعندما طلب العبيد من صاحب هذا الزرع أن يذهبوا وينقوا الزرع من الزؤان، قال لهم: تمهَّلوا لا تفعلوا شيئاً لئلاّ تقتلعون أيضاً الحنطة مع الزؤان، دعوهما ينميان معاً إلى يوم الحصاد، الأشرار والأبرار معاً، الصّالح والطّالح معاً إلى يوم الحصاد. لا نقدر أن نميّز هذا من ذاك، نعرف فقط الأمور الظاهرة، وكثيراً ما يكون النفاق والدجل والخرافات موجودة عند الناس، لكن الرب يسوع يقول: دعوهما ينميان معاً إلى يوم الحصاد، يوم الدينونة، فيأمر الرّب أن تُنَقَى الحنطة من الزؤان، ويحرق الزؤان، أما الحنطة فتكون في مخازن الرب.

في يوم الدينونة الذين لم يتوبوا إلى الرب، الذين لم يعترفوا بان المسيح هو ابن الله، الذين لم يكونوا أعضاء أحياء في كنيسة الرب، حجارةً حيّة في بناء الكنيسة الروحيّة، ليس فقط في الأرض، بل كنيسة الأبكار في السماء والتي ندعوها الكنيسة المنتصرة، لأنها انتصرت على إبليس واستطاعت أن ترث ملكوت الله. حينذاك يُعزَل الأشرار عن الأبرار، ويرث الأبرار ملكوت الله.

أحبائي:

الوسيلة الوحيدة لنا التي أنعم بها الرب علينا، أن نتوب إليه لكي نتنقى ونتقدس، لكي يصير كل واحد منّا بحسب تعليم مار أفرام: «كنيسة يرفع التسابيح إلى الله»، يمجّد الإله الذي خلقه إنساناً، والذي أهّله بعد أن تجسد الرب يسوع بسِرَّي التجسد والفداء، وفداه بصليبه المقدس، ودمه الطاهر، أصبح هذا الإنسان كنيسةً مقدسة، فاستحقَّ أن يكون مع أعضاء كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 

 


 

تقديــس البيـــعة (6)

 

«فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هو المسيح ابن الله الحي، فأجاب يسوع  وقال  له طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

        (مت 6: 16ـ 18)

 

في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء تذكر الكنيسة المقدسة في طقسها أحد تقديس البيعة، وهو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد. وقد نظّم آباء الكنيسة الطقوس بالهام الروح القدس فبدؤوا بتقديس الكنيسة ثم بتجديدها ثم بالآحاد التي تهيّئ عقولنا كبشر لفهم الحقائق التي لا ندركها بعقولنا البشرية لكي تتقبل عقيدة سري التجسد والفداء.

كان الرب قد بدأ تدبيره الإلهي العلني بالجسد قبل سنتين ونصف السنة، كان قد خرّج تلاميذه في مدرسته الإلهية فشاهدوا المعجزات الباهرات التي اجترحها واستمعوا إلى التعاليم الإلهية التي علمهم إياها وكانوا كسائر أترابهم ومعاصريهم من اليهود وغيرهم قد ابتعدوا عن معرفة حقيقته الإلهية فتساءلوا قائلين: من هو هذا يا ترى؟

بعد أن أعلن المبادئ السامية السماوية كان لابدّ أن يوجههم نحو شخصه الإلهي لكي يفهموا من هو. كان في نواحي قيصرية فيلبس المنطقة التي تدعى وتسمى أيضاً «بانياس» لأنها تسجد وتعبد الإله الذي يدعى كذلك.

بعد أن صلى الرب يسوع، ودائماً عندما كان لابدّ أن يعلن أمراً إلهياً لخلاص البشر كان يصلي، وصلاة الرب يسوع هي مناجاة الذات للذات، فهو والآب واحد، ومن رآه فقد رأى الآب، ولكن لكي يعلمنا الاّ نتخذ قراراً روحياً مالم نستلهم ذلك من الآب السماوي. كان سائراً في الطريق، ووجّه سؤاله إلى الرسل قائلاً: من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ وصف نفسه بالإنسان ابن البشر، ويسأل التلاميذ من يقول الناس عنه؟ فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون ارميا أو واحد من الأنبياء، كانوا يعتقدون أيضاً بالتناسخ فظنّوا أنه واحد من الأنبياء الذين ماتوا، فتجسدت روحه ثانيةً فجاء نبياً عظيماً ليشهد للمسيح أو هو المسيح بالذات، وأرادوا أن يوفّقوا بين النبوات التي قيلت عن مجيء المسيح والخرافات التي ورثوها من آبائهم، وما بين المخلص الذي لابدَّ أن يأتي ليوفق ما بين سقوط الإنسان وعدل الله ورحمته، لذلك قالوا بأن قوماً يقولون: واحد من الأنبياء.

وأنتم من تقولون أني أنا؟ سأل المسيح تلاميذه هذا السؤال الذي يعدّ امتحاناً صعباً جداً بعد أن رأوا المعجزات وسمعوا التعاليم الإلهية احتارت عقولهم ما بين الحقائق الإلهية وبين الخرافات التي قيلت عن مجيء ماسّيا. ولكن السماء كانت هناك فألهمت الرسول بطرس. كان الرسول بطرس أكبرهم سناً وكان من طبيعته أن يتقدّم الكل خاصة في الكلام، إن أخطأ أو أصاب ولكن نحن لم نكن ندري بأن السماء وراء كل شيء. لذلك تقدّم بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي.

والرب يسوع أراد بعد سنتين ونصف السنة من تبشيره التدبيري الإلهي العلني بالجسد أن يعلن نفسه أيضاً لتلاميذه، هنا نسمع الرب يعطي الطوبى لسمعان بطرس: «طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». هذه الآية كانت وما تزال سبباً لخلافات عديدة في الكنيسة المقدسة «أنت بطرس». بعضهم يقولون أنّ الرب اعتبر بطرس أنّه صخرة وأن الكنيسة أُسست على هذه الصخرة مجازياً، أحياناً عديدة حتى الآباء في صلواتنا ينسبون لبطرس هذه الصفة لكن عندما ندرس ذلك من الناحية اللغوية نرى أن كلمة بطرس بيترا وبالسريانية فطروس وكيفا أيضاً بالسريانية (كافا) فكيفا كما تقول الترجمة السريانية هي الحجر وبصفة المذكر لكن بيترا هي الصخرة، (شوعا) فقال له أنت الحجر، الحجرة الثابتة وعلى هذه الصخرة، صخرة مبدأ السماء الذي أُعلن على فم بطرس: «أنّ المسيح هو ابن الله الحي»، على هذه الصخرة «أبني كنيستي» لذلك من لا يؤمن أن المسيح هو ابن الله الحي، لا يمكن أن يكون من أتباع الرب يسوع.

ليدّعي مَنْ يدّعي، إنَّ هناك نعمة كبيرة ينالها من يجلس على كرسي بطرس الرسول، وخاصة ما قيل عنه في أماكن عديدة بأنَّه الصخرة.

الغريب أننا لن نعتبر بطرس المسكين الذي هو عبارة عن حجرة في الكنيسة التي تأسست على الصخر والتي لن تتزعزع أبداً، بعد قليل من اعترافه عندما أعلن الرب يسوع عن آلامه، وعن الفداء الذي قام به ويقوم بسفك دمه على الصليب؛ عندما أعلن الرب هذه الحقيقة الإلهية، نرى أن بطرس يقول له: «حاشا لك يا رب لا يكون لك هذا». لم يتصوّر بطرس أنّ المسيح ابن الله الحي سيتألم، لم يدرك هذه الحقيقة، ونحن لا نلوم بطرس، فكلّ واحد منّا لم يكن ممكناً أن يدرك هذه الحقيقة، كل واحد منّا لو رأى المسيح يقيم لعازر من الموت، لا يمكن أن يتخيَّل أنه سيموت.

استغرب بطرس جداً، ولكنَّ الرب وبّخه ورأى الشيطان وراء هذه الأفكار الهدّامة، لأنَّ الشيطان شعر بأن المسيح سيفدي البشرية ويعطيها الحياة بموته كما يقول آباءنا: «يميت الموت بموته» لذلك جعل بطرس الذي ألهمته السماء أن المسيح هو ابن الله الحي، خدعه إبليس كما خدع أبوينا الأولين فقال بطرس للرب: «حاشاك يا رب لا يكون لك هذا»، فالمسيح وبَّخ الشيطان بشخص بطرس قال له: «اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس»، هنا نتعلم أنه علينا ولئن كنّا لا ندرك الحقائق الإلهية أن نسلم بها ونتمسّك بالاعتقاد بها، لأنها وحيٌ من الله فنرى أمامنا إنساناً هو الرب يسوع ولئن كان أسمى من الناس بتعاليمه وأسمى من الناس حتى في المعجزات التي يجترحها ونؤمن به أنه ابن الله الحي على هذه الصخرة أبني كنيستي.

شيَّد كنيسته لتتسلّم منه النِّعم الإلهية، نِعَم الخلاص وتنشرها في العالم أجمع والكنيسة لن تتزعزع، لنتأمَّل في تاريخ الكنيسة منذ بدئها، كيف أن إبليس حاربها وأعوان إبليس بطرق عديدة قاوموها، وظنّوا أنه  بإمكانهم أن يبيدوها، ولكنَّ الرب وعد أنها لن تتزعزع أبداً، ويقول الكتاب: أن الله في وسطها فلن تتزعزع، ويقول الرب يسوع: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

ما معنى الأبواب ؟

في العهد العثماني كانوا يقولون: «الباب العالي»، وهو السلطة العليا في الدولة، فالأبواب هي الرئاسات، السلطة الموجودة في السماء والأرض أبواب الجحيم لن تقوى عليها، الأبالسة الذين حاربوا الرب يسوع، فيحاربون من يتبع الربّ يسوع، لا يستطيعون أن يبيدوا الكنيسة. كم قسوا عليها؟ كم أثاروا عليها اضطهادات؟ آلاف مؤلّفة من الناس استشهدوا في سبيلها، وتمسكوا بعقيدتها أن المسيح هو ابن الله الحي، ولكن أبواب الجحيم أي الأبالسة، الأبالسة لا تستطيع أن تزعزع الكنيسة، هذه العقيدة السامية تجعلنا أن نثْبت على الإيمان بالمسيح يسوع؛ ليس هذا فقط، فالكنيسة لها عقيدة، وقيم روحية سامية، فكم قامت الهرطقات التي أرادت أن تبيد عقيدة الكنيسة؟ كم قامت خرافات أرادت أن تبلبل أفكار المؤمنين؟

في سفر أعمال الرسل الفصل الذي تلي على مسامعكم في بدء القداس رأينا الذين قاموا ضدّ تعاليم الرب والرسل، حتى الذين بلبلوا أفكار الناس بالمسيح يسوع، ورأينا كيف أنهم أبيدوا جميعاً، لأنّ تعاليم الرب باقية إلى الأبد سليمة صحيحة، لا يمكن أن تتغير.

حتى في أيامنا هذه باسم الكنيسة المسيحية، تقام خرافات وانحرافات عن الأخلاق ليس المسيحية فقط بل البشرية، ولكن الكنيسة لن تتزعزع أبداً وتستنكر هذه الضلالات لتبقى هذه الكنيسة أيها الأحباء على الأرض كنيسة مجاهدة ثابتة على الإيمان، داحرة إبليس وجنوده متمسكة أيضاً بالفضائل السامية، حتى ينتصر أبناء هذه الكنيسة المجاهدة، وينضموا بعد العمر الطويل إلى كنيسة الأبكار المكتوبة في السموات حينذاك يرثون ملكوته تعالى ويتنعّمون معه إلى الأبد، الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.

 


تقديــس البيـــعة (7)

 

«فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلِنْ لك لكنَّ أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات»

  (مت 16: 17 ـ 19)

 

بعد سنتين ونصف السنة من بدء التدبير الإلهي العلني للرب يسوع بالجسد، كان لابدّ أن يعلن حقيقة تجسّده الإلهي جهراً أمام تلاميذه، وأنه ماشيحا المسيح المنتظر، وأنه مخلّص العالم وأنه ابن اللّه الوحيد. أغلب الذين التقوه من الناس ظنّوا أنّه مجرد نبي. مرّة قالوا عن يوسف النجار الذي كان خطيب أمه العذراء مريم أنه أبو الرب يسوع، ومرّة قالوا عنه ما قالوا، والرب يسوع يريدنا نحن أيضاً أن نتساءل عمّا يقوله الناس عنا. ففيما كان في قرى قيصرية فيلبس التي هي على الأغلب بانياس السورية سأل تلاميذه قائلاً: «ماذا يقول الناس عني إني أنا ابن الإنسان؟» فقالوا له: «قوم يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء» فقال لهم: «وأنتم من تقولون إني أنا؟. أجاب بطرس وقال: «أنت المسيح ابن الله الحي» فأجاب يسوع وقال لبطرس: «طوبى لك يا سمعان بن يونا فإن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 16).

أيها الأحباء:

في هذا اليوم تحتفل الكنيسة المقدسة بأحد تقديس البيعة وهو بدء السنة الطقسية السريانية، كما هو الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد، وعندما نذكر هذا الأحد نذكر ما تلوناه الآن من آيات مقدسة من الإنجيل المقدس عن تأسيس الكنيسة المقدسة وعن الوعد الذي أعطاه الرب لأتباعه الذين هم أبناء هذه الكنيسة ليتمسّكوا بالإيمان الذي يريدهم المسيح يسوع أن يتمسّكوا به. عندما نسمع الرب وهو يسأل التلاميذ عمّا يقول الناس عن الرب يسوع، نستغرب ونسأل أنفسنا عن عدم اكتشاف التلاميذ أولاً أنه خلال مدة سنتين ونصف السنة لم يدرك أولئك التلاميذ أن يسوع الناصري القدوس هو ابن اللّه. كانت السماء قد أعلنت ذلك جهراً يوم خرج من النهر على أثر نيله المعمودية على يد يوحنا، عندما انفتحت السماء وهبط الروح القدس بشبه حمامة وحلّ على هامة الرب يسوع ليميزه عن الجماهير، أعلن الآب السماوي عنه قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت3: 17). كما أعلنت السماء شهادتها عن الرب يسوع أمام ثلاثة من تلاميذه في جبل التجلي حيث رأوا هيئته وقد تغيرت، وثيابه صارت بيضاء كالثلج ووجهه لمع كالشمس وظهر معه إيليا الذي كان قد صعد إلى السماء حياً قبل ألف سنة من بدء تاريخ التجسد الإلهي، كما ظهر النبي موسى الذي مات في الجبل ودفنته الملائكة، ظهر أيضاً مع الرب يسوع في التجلي وصار صوتٌ من السحابة قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» (لو9: 35). شهدت السماء بأن المسيح هو ابن اللّه كما شهد أيضاً بذلك بعض الناس، ولكن الكنيسة المقدسة اعتبرت شهادة هامة الرسل بطرس هي أيضاً شهادة السماء، الشهادة التي اعتمدتها لتكون أساس العقيدة الإيمانية به لأنها قيلَت بإلهام السماء، فالرب يسوع عندما سأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني إني أنا» نرى الآراء الكثيرة لم تكن آراء باطلة، كانت مبنية على تعاليم وتقاليد اليهود لذلك أجابوا الرب يسوع قائلين: «قوم يقول أنك يوحنا المعمدان»، هيرودس الملك نفسه عندما سمع أن الرب ابتدأ يعلن للناس «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت4: 17) قال: هل هذا يوحنا الذي قطعتُ هامته في السجن قد قام من بين الأموات؟ وقوم قالوا أنه إيليا النبي الناري الذي اتصف بالغيرة ومحاربة الشر، الذي صعد إلى السماء حياً قبل هذا التاريخ بنحو ألف سنة في مركبة نارية ولم يذق الموت الطبيعي، وظهر مع الرب يسوع على جبل التجلي بعد حادثة اعتراف بطرس بالرب يسوع أنه ابن اللّه الحي، وبظهوره هذا أعلن لنا أن المسيح ليس إيليا كما يظن بالمسيح بعض اليهود معاصريه، وثانياً: أن الرب نفسه عندما سأله التلاميذ الذين كانوا معه في التجلي «لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟»، قال أن إيليا قد جاء ولم يعرفوه وفعلوا به ما فعلوا. ذلك لأن يوحنا المعمدان بغيرته ومقاومته الشر اعتُبر أنه جاء بروح إيليا وغيرته الدينية حيث دعا الناس بالتهديد والوعيد أن يتوبوا ويعودوا إلى اللّه.

ثم قالوا أيضاً ربما إرميا. كان هناك تقليد عند اليهود أن إرميا النبي ذلك الذي كان قد نادى بالويل والثبور على أمة اليهود وأعلن لها بأنه رأى بعين النبوة ما سيجري لتلك الأمة من الدمار وعن خراب أورشليم، كان التقليد اليهودي قد انتشر بين الناس أن هذا النبي يأتي قبل مجيء المسيح وسوف يفتش في الجبل عن تابوت العهد وعصا هارون وقسط المن وكل ما كان قد أُخفي عن اليهود من الأواني المقدسة، ثم يبدأ بتجديد الهيكل فيأتي المسيح. هذه التعاليم الباطلة الجسدية غير الروحية كانت منتشرة بين اليهود، لذلك قال التلاميذ للرب يقولون أيضاً أنك إرميا النبي. أما هو فالتفت إلى التلاميذ وقال: «وأنتم من تقولون عني إني أنا». بطرس الذي عرفناه أنه هامة الرسل وعرفناه أنه كان مقدام الرسل وكان شجاعاً وكان أكبر منهم جميعهم سناً أجاب الرب على سؤاله قائلاً له: «أنت المسيح ابن اللّه الحي»، فأجابه الرب قائلاً: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس ـ أنت كيفا بالسريانية أنت بطرس باليونانية أي الحجر لا الصخر وعلى هذه الصخرة على هذه شوعا بالسريانية وبترا باليونانية على هذه الصخرة، صخرة الإيمان بالمسيح يسوع انه ابن اللّه الحي ـ وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». ليس هذا فقط بل التفت إلى بطرس وقال له: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات» (مت16: 19).

أجل إن الرب لأول مرة خلال السنتين ونصف السنة يلفظ كلمة كنيسة حيث بدأ يؤسّس كنيسته، وعنى بالكنيسة المؤمنين به إيماناً متيناً ثخيناً أنه ولئن ظهر للناس كإنسان ولكنه هو ابن اللّه، ابن اللّه الوحيد، ابن اللّه الحي. وعلى هذه الصخرة قال الرب أبني كنيستي، وهذه صخرة الإيمان به أنه ابن اللّه، فمن لا يؤمن بأن المسيح هو ابن اللّه لا يحق له أن يكون عضواً في الكنيسة، وليس هذا فقط، بل إن تأسيس الكنيسة كان يحتاج إلى من يقوم فيها نائباً عن المسيح في إدارة شؤونها، لذلك حالاً منح الرب سلطان الكهنوت في حلّ الخطايا وربطها، لهامة الرسل بطرس أولاً، وبعدئذ، بعد قيامته أعطى هذه الموهبة وهذا السلطان للرسل كافة. ويردف الرب قائلاً: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». معنى أبواب في هذه الآية المقدسة هي السلطات والقوى، فنحن في الاصطلاح الاجتماعي والمدني مثلاً نعرف أن في عهد العثمانيين كان هناك ما يُسمّى بالباب العالي أي السلطة العليا في تلك الدولة. إذن أبواب الجحيم هي السلطة العليا الشريرة لإبليس الذي ربطه الرب في الجحيم هذه السلطة لا تستطيع أن تسيطر على الكنيسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. لقد قسا الدهر على الكنيسة، وأُثيرَت ضدّها الاضطهادات القاسية التي أثارها الملوك والرؤساء والأمم والشعوب ضد الكنيسة المسيحية، ولكنها بقيت ثابتة لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، إن المسيح في وسطها فلن تتزعزع. كم قامت فيها البدع والهرطقات الباطلة لكي تفسد تعاليمها لتنكر أن المسيح هو ابن اللّه! لكن الكنيسة بشخص رعاتها الصالحين تغلبت على هذه التعاليم الغريبة الخبيثة وطردت وحرمت الهرطقات وأصحابها وبهذا الخصوص يقول الرسول بولس: «اعزلوا الخبيث من بينكم» (1كور5: 13).

واليوم نحتفل بأحد تقديس البيعة وهو في طقسنا الكنسي السرياني الأحد الأول من الآحاد الثمانية التي تسبق عيد الميلاد والتي نحتفل بها، لكي تتهيّأ عقولنا لتقبل عقيدة تجسّد ابن اللّه الحي كما يصفه الرسول بولس: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى اللّه ظهر في الجسد تبرّر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أومن به في العالم رفع في المجد» (1تيمو3: 16)، فالمسيح يسوع ربنا ظهر كإنسان ونقول عنه أنه ابن اللّه بل أنه «اللّه ظهر بالجسد» لذلك الكنيسة تهيّئ عقولنا لتقبل هذه العقيدة السمحة قبل احتفالنا بعيد ميلاد الرب بالجسد.

أجل لقد دُعيَت الكنيسة مقدسة لأن مؤسسها قدوس، هذا ما قاله الملاك للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل به قائلاً إن: «القدوس المولود منك يدعى ابن اللّه» (لو1: 35). وقد تجسّد من الروح القدس ومن العذراء مريم وصُلب عوضاً عنّا، فبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنصير أولاداً لأبيه السماوي. لذلك فالكنيسة تدعى مقدسة، والرسول بولس يقول بهذا الصدد: «كما أحبّ المسيح الكنيسة أيضاً وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهّراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 25 ـ 27). فالكنيسة إذن مقدّسة والمسيح القدوس هو أسّسها وأعضاؤها أيضاً يجب أن يكونوا قديسين، لذلك نادى الرب يسوع بالتوبة أولاً في بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه» وملكوت اللّه هو الكنيسة بالذات فهي على الأرض تُدعى «الكنيسة المجاهدة» لأنها تجاهد في حرب مستمرة ضد إبليس وجنده لتبقى نقية طاهرة، ليس فقط في العقيدة، بل أيضاً في السيرة المسيحية الصالحة. آباؤنا ـ ونحن كنيسة أنطاكية ـ آباؤنا الأنطاكيون نفتخر بهم لأنه كما يذكر سفر أعمال الرسل «دُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً» (أع11: 26)، لماذا؟ لأنهم رأوا فيهم أُناساً مؤمنين صالحين، مستقيمي السيرة كالمسيح يسوع، فدُعوا مسيحيين. هذه هي القداسة لكن: هناك أمر لابدّ أن نفهمه عندما نرى أن ليس جميع أعضاء الكنيسة أعضاء قديسين، وعندما نعلن على مذبح الرب عن القربان المقدس قودًشا لقدًيشا ولدًكيا زدق دنةيؤبون بلحود الأقداس تمنح فقط للقديسين والأنقياء، عندما نعلن هذا نعترف أن العديد من الناس الذين يعتبرون في عداد أعضاء الكنيسة المقدسة ليسوا قديسين، ومع هذا فهم في عداد أعضاء الكنيسة. الرب يسوع ضرب لنا مثلاً عن الحنطة الجيّدة التي زرعها إنسان في حقله ثم جاء عدوه وزرع مع الحنطة الزؤان فنبت الزؤان مع الحنطة، وعندما أُخبر صاحب هذا الحقل أن زؤاناً ينبت مع الحنطة، وسأله عبيده إن كان يرغب في أن يقلعوا الزؤان أجابهم قائلاً: «دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد» (مت13: 30). في الكنيسة يوجد أشرار ويوجد صالحون، ونحن نصلي دائماً ونقول مطل طبًا حوس عل عوًلا أي من أجل الصالحين، يا رب أشفق على الأشرار. لذلك الكنيسة المقدسة ولئن نبت فيها الزؤان والحنطة في آن معاً، والرب يوصي ألا نقلع الزؤان لئلاّ نقلع معه الحنطة، فإن ذلك الفصل سيكون يوم القيامة، يوم يُفصل الزؤان عن الحنطة النقية الطاهرة. فنحن عندما نحتفل بتقديس البيعة علينا أن نؤمن أن كل واحد منا كنيسة، كما يقول مار أفرام السرياني أن كل واحد منّا هو كنيسة، كما يقول الرسول بولس أن كل واحد منّا هو هيكل اللّه وروح اللّه حال فيه، فعلينا أن نجعل هذا الهيكل طاهراً نقياً مقدساً لكي يثبت روح اللّه أو الروح القدس في هذا الهيكل، ويكون الإنسان الذي ولد في الكنيسة من جرن المعمودية، وُلد ليكون ابناً للّه بالنعمة يكون حقاً مستحقاً كابن أن يرث ملكوت أبيه السماوي، فإذا أخطأ أحدنا علينا أن نتوب لنعود إلى اللّه أبراراً قديسين فنستحق أن نحيا لربنا على هذه الأرض ونستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوته السماوي والتي هي الكنيسة المنتصرة، كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء، الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 


 تجديد البيعة

تجديد البيعة

تجديــد البيـــعة (1)

 

«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

  (متى 16: 18)

 

ماشيحا المنتظر، مشتهى الأمم، وأمل الدهور، بمجيئه إلى الأرض لخلاص البشرية، احتارت فيه العقول، من يكون هذا؟ هل هو مجرَّد نبي؟ هل هو إنسان محض أعطي موهبة اجتراح المعجزات؟

من هو يا ترى؟ إنه يتحدّى العالم، العدو فيهم والصديق؟

رأيناه في مرة يقول: «من يبكتني على خطية؟» (يو8: 46)، بل أيضاً أظهر سلطانه على عناصر الكون كافةً الجامدة منها والحية، حتى على الأبالسة التي أخرجها من البشر استطاع بكلمة من فيه أن يُسكِت البحر وهيجانه، هذا الذي إذا ما تكلَّم يتكلم كمن له سلطان ليس كالكتبة والفريسيين، وبعد خدمة علنيّة دامت سنتين ونصف السنة هو نفسه أراد أن يعلن عن نفسه لرسله الأطهار وتلاميذه الأبرار فقال لهم وهم في ضواحي قيصرية فيلبس بقرب بانياس، من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟

فقالوا: قوم يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون إرميا، يقول لهم: وأنتم من تقولون إني أنا، سمعان يقول: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ» فأجاب يسوع وقال له: «طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يُعلنْ لك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

إنها الكنيسة المقدسة التي أعلن عنها الرب في تلك الحادثة لأول مرة، إنها الكنيسة التي جاء ليؤسسها على مبدأ الإيمان بذاته الإلهية وعلى المبدأ الإيماني أنه هو ابن الله الحيّ، فالمسيح هو بالذات هو الصخرة وهو حجر الزاوية في تلك الكنيسة ولكن في الوقت نفسه أعطى لبطرس لقباً أن يكون حجرة مهمة في بناء تلك الكنيسة وأعطاه الطوبى لأنه استحق أن توحي إليه السماء ليعلن الإيمان الصحيح بابن الله و«المسيح ابن الله الحيّ» ما لم يؤمن المسيحي إيمان بطرس وما لم يعلن هذا الإيمان جهراً أمام الناس فهو مسيحي بالاسم فقط، لا يعرف إيمانه. والكنيسة هذه المؤسسة الإلهية، ملكوت الله على الأرض، هذه التي نالت نعمة عظيمة أن تكون سلّماً يصعد الإنسان عليها إلى السماء أن تكون أماً تلد البنين من جرن المعمودية ومعلمة تلقنهم مبادئ الإيمان المستقيم الرأي وتأتي بهم إلى طريق الاستقامة ليكونوا بحسب شريعة إلهنا الكاملة كاملين وقديسين فالمسيحي الذي يدّعي بالمسيحية وهو لا يأخذ عن الكنيسة هذا الإيمان المستقيم وهذه السيرة الفاضلة الكاملة المقدسة فهو غريب عن المسيح ابن الله وإن لم تؤمن إن المسيح هو ابن الله هو أساس الإيمان فإذا ما آمنا إن المسيح هو ابن الله يعني ذلك إننا آمنا أيضاً بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس الإله الواحد وإذا ما آمنا بابن الله آمنا بشهادة الإنجيل المقدس الذي أعلن يسوع الناصري ابناً لله حال خروجه من ماء الأردن بعد معموديته وأعلنه ابن الله أمام ثلاثة من تلاميذه عندما تجلى على الجبل بل أعلنه ابن الله على لسان العدو والصديق حتى الأبالسة أعلنت ذلك ولكن بطرس نال نعمة عظيمة أن الرب أعطاه الطوبى لإعلانه هذا الإيمان وأنه بطرس بالذات استحق أن يكون حجراً في تلك الكنيسة بل استحق أيضاً أن ينال سلطاناً سماوياً فأعطي مفاتيح ملكوت الله والمفاتيح تعني السلطان والسلطة و أعطي سلطان الحل والربط مفرداً وبعدئذ أعطى الرب هذا السلطان للرسل كمجموعة هذا السلطان بالذات فبطرس هامة الرسل أيها الأحباء. يمثل السلطة الكنسية لهذه الكنيسة وعد الرب أن يكون معها إلى الأبد وهو رأسها وهي جسده السري المقدس ومن فيها أعضاء أحياء في ذلك الجسد وبطرس يمثل سلطة التشريع والتنفيذ والتعليم والتهذيب في هذه المؤسسة الإلهية ملكوت الله على الأرض هذه الكنيسة المقدسة معلمة ومتعلمة رؤساء ورعايا، تتكامل عندما جميعهم الرؤساء والرعايا الرعاة والخراف يجتمعون على تقديس اسم الرب القدوس ويجتمعون على التمسك بالإيمان المستقيم بابن الله يسوع الناصري الذي جاء متجسداً وفدانا بدمه الأقدس وأعطانا أن نكون أولاداً لله بالنعمة لأنه ابن الله المولود من قبل كل الدهور أعطانا أن نكون مشاركين إياه بالبنوة كما أعطانا أيضاً أن نكون أعضاء في جسده المقدس الكنيسة وأعطانا أن نكون أيضاً لملكوته السموي إن جاهدنا في الكنيسة المجاهدة على الأرض وجهادنا هو التمسك بالإيمان حتى الدم كم من الشهداء قدمت الكنيسة عبر الدهور والأجيال في سبيل الإيمان، بالإيمان بابن الله الحيّ يسوع المسيح  بل قدمت من الشهداء في سبيل الحفاظ على القداسة لتكون الكنيسة مقدسة بل ليكون كل فرد في الكنيسة عضو قديساً فيها كاملاً كما أوصانا الرب أن نكون كاملين لأن أبانا الذي في السموات هو كامل فالكنيسة المجاهدة على الأرض بكل عضو من أعضائها الرعاة والرعية معاً إذا ما انتصرت تستحق أن تكون في السماء في عداد أعضاء الكنيسة المنتصرة التي تمجد الله كالملائكة دائماً أبداً متنعمة مع المسيح يسوع مخلصنا وفاديها وفي أحد تجديدها أيها الأحباء رسالة الكنيسة لأبنائها أن يجددوا عهدهم مع الله ليكونوا متمسكين بهذا الإيمان ممارسين الفضائل بحسب شريعة المسيح شريعة الكمال ليجددوا أيضاً نفوسهم وأرواحهم وقلوبهم لتكتب شريعة الله في هذه القلوب والنفوس كما تنبأ الأنبياء عن العهد الجديد عهد الكنيسة الجديدة التي قبلت المسيح يوم لم تقبله كنيسة موسى والكنيسة الأولى الأبوية يوم رفضه الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة فرفضهم إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما الذين قبلوه كنيسته المقدسة الجديدة فأعطاهم أن يكونوا أبناء الله المولودين ليس من مشيئة رجل ولا من مشيئة بشر بل من الله قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيمة جدد في داخلي ليقل كل منا هذا القول الذي قاله داود يوم تاب إلى الله بذلك يكون الروح، الروح القدس قد جاء إلى هياكلنا المقدسة فنجدد هياكل الله مثلما قال الرسول بولس فجدد هذه الهياكل لتكون نقية طاهرة يسكن فيها الله لأن كل منا كنيسة لله وروح الله حال فينا فلنحافظ على طهر هياكلنا المقدسة ليكون روح الله فيها ولنطلب أن لا ينزع الله روحه القدوس بسبب خطايانا من هذه الهياكل المقدسة لنبقى أعضاء حية في كنيسته المقدسة الكنيسة المجاهدة لنستحق أيضاً أن نكون في عداد أعضاء الكنيسة المنتصرة في السماء الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي بنعمته تعالى آمين.

 


تجديــد البيـــعة (2)

 

أيها الأحباء تحتفل الكنيسة في هذا اليوم بأحد تجديد البيعة وقد استمعنا إلى فصل من الإنجيل المقدس في بدء القداس وفيه يقول الرب لهامة الرسل بطرس أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وعندما نتأمل بهذه الآية المقدسة نرى أمامنا الكنيسة المقدسة التي أسسها الرب يسوع والتي مهد لتأسيسها منذ خلقه الإنسان وبعد أن سقط الإنسان في الخطية وضع الله ضمن خطته الإلهية أن يؤسس كنيسته المقدسة لتكون مهد الأسرار الإلهية والنعم السامية نعم الفداء لتنشر اسمه القدوس في العالم أجمع رأينا كنيسة الآباء ورأينا ذبائحها المتنوعة وكهنوتها التقليدي فكان رب العائلة كاهنها ورئيسها ورأينا الكهنوت اللاوي عندما اختار الله  موسى لكي على يده ينزل الشريعة المكتوبة وبواسطته يعطي الكهنوت لأخيه هرون هذا الكهنوت كانت له ذبائح حيوانية وتقدمات كما كانت له محرقات لمغفرة الخطايا وكانت هناك كنيسة وتلك الكنيسة يقول الكتاب أن الله جعل موسى يرى شبه الكنيسة المسيحية على الجبل ليصنع قبة الزمان على ذلك الشكل الذي رآه فالكنيسة إذاً هي ملكوت الله الذي أسسه الرب يسوع وهيأ عقولنا بعد أن جعل كنيسة الآباء بذبائحها المتنوعة وبشريعة الضمير وكنيسة موسى بذبائحها الحيوانية وتقدماتها ومحرقاتها والشريعة المكتوبة شريعة العدل أما هو فعندما تجسد سمعنا الملاك يقول للعذراء مريم أنه لا يكون لملكه انقضاء وسمعناه في بدء بشارته يعلن عن ملكوته السموي فقد اقترب منكم يقول للناس ملكوت الله توبوا وآمنوا بالإنجيل ورأينا هذا الملكوت يؤسس على يده على أساس عقيدي إيماني عندما اعترف به الرسول بطرس قائلاً له أنت المسيح ابن الله الحيّ فأسس الرب كنيسته على هذا المبدأ الإيماني وأعطى الطوبى لبطرس لأنه استحق أن توحي إليه السماء العقيدة الصحيحة السليمة التي هي أساس العقائد بأن المسيح هو ابن الله الحيّ وأعطاه الطوبى  هذه الكنيسة المقدسة هي التي جدد معها العهد فبعد أن كان قد أقام عهداً مع كنيسة موسى وهذه الكنيسة خانت الرب لأنّه جاء ولم تعرفه وقد احتفظت بالنبوات ولكنها لم تعرف زمن افتقادها فرفضها واسمعنا إلى الكتاب يقول إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما الذين قبلوه فأعطاهم أن يصيروا أبناء الله المولودون لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله هؤلاء أعضاء الكنيسة المقدسة جعل لها دستوراً هو الإنجيل المقدس وراية هي الصليب المقدس وأقام فيها كهنة هم الرسل الأبرار والتلاميذ الأطهار وأرسلهم إلى أنحاء العالم ليذهبوا ويبشروا بالإنجيل في الخليقة كلها من آمن واعتمد خلص قال لهم ومن لم يؤمن يدن هذه الكنيسة المقدسة لم يعدها بأن تكون في حياتها الدنيا براحة وسعادة دنيوية فالذين انتخبهم ليكونوا صيادين للناس بعد أن كانوا صيادين للأسماك ليلقوا بالشباك ويأتوا بالناس إلى ملكوت الله ثم جعل منهم رعاة عندما قال لهامة الرسل بطرس ارع خرافي ارع نعاجي ارع كباشي اتبعني هؤلاء الذين جعل منهم أساقفة والتلاميذ الذين جعل منهم كهنة كان عليهم أن يحملوا الصليب فرسالتهم سامية ورسالتهم هي أن يتبعوا المسيح في طريق الجلجلة لكي ينالوا المجد فلا إكليل مجد في السماء دون صليب العار ولا قيامة دون جلجلة هؤلاء التلاميذ وعدهم أن يكون معهم إلى الأبد وأن يرسل إليهم الروح القدس فيوم حل عليهم الروح القدس جلببهم بقوة سماوية وحكمة وذكّرهم الروح بكل ما قاله المسيح لهم وصانهم في العقيدة السليمة الصحيحة المستقيمة الرأي وأرسلهم إلى العالم في ذلك اليوم ولدت الكنيسة بعد أن كان قد مهد المسيح لها في العهد القديم كما أنه أعلنها وأعلن المبدأ الذي تؤسس عليه في العهد الجديد ولدت الكنيسة يوم الخمسين عندما وقف بطرس  وأعلن للناس عن الروع القدس كما أعلن لهم أن يسوع الناصري إنما مات فدية عن البشرية قتله رؤساء اليهود ولكن الله أقامه من بين الأموات منتصراً هذه الكنيسة المقدسة أيها الأحباء جاهدت عبر الدهور والأجيال كم قسي الدهر عليها كم عانت قدمت في المسيح يسوع ملايين الشهداء حتى قيل إن دم الشهداء كان بذار الإيمان فانتشر إيمانها قدمت العلماء هذه كنيستنا السريانية مثلاً التي ما تزال متمسكة بالعقيدة المقدسة تحملت كثيراً في سبيل الحفاظ على الإيمان المستقيم الرأي والآداب المسيحية أديرتها كانت تعدُ بالمئات كنائسها كانت منارات للمعرفة عباداتها للمسيح يسوع كانت مثالاً لكل المسيحيين وإلى الآن وإن تعد اليوم بالألوف لا بالملايين ولكنها ما تزال المثال الصالح للمسيحية كلها بتمسكها بالإيمان المستقيم الرأي بتمسكها بطقوسها المقدسة التي تتلوها باللغة السريانية المقدسة بتمسكها بتقاليد آبائها مهما قسا الدهر لكن بقيت صامدة غير متزعزعة لأن الله في وسطها لأنه وعدها إن قوى الجحيم وأمخال الهاوية لا تقوى على الكنيسة المقدسة في جهادها الكنيسة تعلمنا أن نتبع الرب في طريق الجلجلة وفي الوقت نفسه تذكرنا بوعد الرب أننا إذا ما انتصرنا باسمه على أعداءنا الروحيين على إبليس وجنده فإن كنيسة الأبكار في السماء تنتظر هذه الأرواح الطاهرة وتستقبلها بفرح لتتنعم مع تلك الأرواح الطاهرة إلى الأبد الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 


تجديــد البيـــعة (3)

 

«احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم فيها الروح القدس رعاة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه»

         (أع 20:28)

 

هذا ما قاله الرسول بولس عندما جمع رعاة الكنيسة في أفسس قول يلخص لنا عقيدة الكنيسة المقدسة في الكنيسة قول يثمّن لنا مقام كنيسة الله التي اقتناها بدمه، كان هناك كنيسة وكان هناك رعية كان هناك شعب أؤتمن على النبوءات والناموس والشرائع كافة طقسية وقضائية وأدبية خاصة ولكن ذلك الشعب لم يعرف زمن افتقاده – عن المسيح يسوع كتب الأنبياء عم مجيئه أعطوا العلامات والإشارات الواضحة والصريحة بل عينوا الزمن ولكن ذلك الشعب الضال تلك الرعية التي كان رعاتها يرعون أنفسهم رُذل ذلك الشعب وكما قال الإنجيل المقدس «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم أن يصيروا أولاداً لله المولودون ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»، كان هناك كنيسة كان هناك أكثر من هيكل، هيكل في  أورشليم وهيكل في جبل الزيتون كان للسامرين وكان لليهود وكانت هناك مجامع كثيرة يجتمع فيها الناس كل يوم سبت ليقرأوا  النبوءات والشريعة ولكنهم نسوا النبوءات ولم يبالوا بالشريعة كان هناك ذبيحة منذ البدء عندما خلق الله الإنسان أعطاه سلطان الكهنوت حتى أن آدم قال للرب: جبلتني ووضعت علي يدك أي رسمتني كاهناً وبعد سقوطه يقول على لسان مار يعقوب السروجي وهو يوصي أولاده لا يحق لي أقدم ذبيحة لأن الكاهن المطرود لا يحق له أن يقدم ذبيحة لله لذلك أوصى ولديه قايين  وهابيل – قايين أن يقدم من ثمار الأرض وليس في الذبيحة أي خطاً أو خطية ولكن كانت نية قايين سيئة فرفضت تقدمته هذه وهابيل قدم حملاً بل أيضاً هو قُدم كحمل وديع بيد أخيه قايين فكان رمزاً للمسيح الذبيح من أجلنا – هذا ما يقوله الرسول بولس أن الكنيسة قد اقتناها بدمه فالذي قُدم ذبيحة عن الخطاة  المسيح يسوع كان أيضاً ابن الله واقتنى تلك الكنيسة بدمه رفض كنيسة اليهود وذبائحهم وتقدماتهم رفض شريعتهم وناموسهم لأنهم كانوا قد تنكروا لذلك ولم يعرفوا زمن افتقادهم رفضوه هو المسيح الذي جاء لخلاصهم فجمع له من الأمم أناساً آمنوا به أنه ابن الله وأنه الفادي وأنه اقتنى كنيسته بدمه هذه الكنيسة الجديدة  التي أقام المسيح معها عهداً أبدياً لا كالعهد الذي أقامه مع الكنيسة القديمة ذلك العهد كان عهداً مكتوباً على حجر الوصايا العشر التي أنزلها موسى من الجبل أما العهد الجديد بحسب قول الأنبياء على لسان الرب إن الذين اختارهم ليكونوا كنيسة جديدة كتب عهده على قلوبهم لذلك لا يحتاجون إلى من يعلمهم الشريعة كما يقول الكتاب لأن الروح القدس الذي يحل عليهم في المعمودية حيث يولدون ميلاداً ثانياً من فوق من السماء ليصيروا أولاداً لله بالنعمة، الروح القدس هو يلهمهم ويرشدهم وهو يقودهم إلى جداول المياه الحية إلى تعاليم الإنجيل المقدسة ليذكرهم بكل ما قاله المسيح له هذه الكنيسة الجديدة الكنيسة التي تحفظ العهد مع الله، الكنيسة القديمة رفضت العهد ونكثت به فرُفضت أما الكنيسة الجديدة فتُحافظ على عهدها مع الرب لذلك فالروح القدس يجعلها ككنيسة كرعية اقتناها الله بدمه وكأفراد قد تجددوا في المسيح يسوع يختلفون عن سائر البشر إيماناً بالمسيح ابن الله وسيرة فاضلة. المسيح برهن على أنه ابن الله بعجائبه الباهرات بتعاليمه السماوية السامية بسيرته الطاهرة النقية فهو الوحيد في الكون ممن لبس الجسد معصوم من أي خطأ، الذي يؤمن به والإيمان به ليس بالكلام بل بالفكر والقلب والأعمال التي تبرهن على أن هذا الإنسان حقاً مؤمن بالمسيح يسوع ربنا وهو فرد وعضو حيّ في الرعية التي اقتناها المسيح بدمه الكريم وهو مشمول ببركة الرب يسوع مباشرة وخلال الكهنة الذين يقيمهم المسيح يسوع كما يقول الرسول بولس للكهنة أن الروح القدس أقامكم رعاة على الرعية التي اقتناها بدمه، فتظهر أعمال الإنسان المؤمن بالمسيح يسوع العضو الحيّ في كنيسة المسيح يسوع وتبرهن على أن هذا الإنسان حقاً نال الخلاص بالمسيح يسوع. في فصل الرسالة التي تليت على مسامعكم الرسول بولس يضع نفسه مثالاً لهذا المؤمن يعترف كيف أنه كان ضالاً كان متمسكاً بشريعة وبتعاليم بعيدة عن الله كيف أنه اضطهد كنيسة المسيح كيف أنه كان سبباً لقتل الذين آمنوا بالمسيح يسوع ويقول أيضاً أنه قد اُفرز من بطن أمه ليكون رسولاً للمسيح لذلك بقي ثلاث أعوام في البرية العربية في بلادنا هذه السورية بعدئذ بعد أن أراه الرب برؤى التدبير الإلهي بالجسد وأصبح مثالاً للمؤمنين بل إناءاً مختاراً كما قال عنه الرب بعدئذ ذهب إلى أورشليم يقول الرسول بولس والتقى بطرس ذهب ليلتقيه لأن بطرس هو زعيم الرسل  وهامتهم ويقول الرسول بولس لم أرَ سواه وسوى يعقوب أخي الرب حينذاك وقد نال النعمة من الرب نعمة الكهنوت بل رئاسة الكهنوت نال الشركة أيضاً من زملائه بطرس ويعقوب وباقي الرسل ليصير في كنيسة الله مهندساً كما يصفه وإناءاً مختاراً ليحمل الإنجيل المقدس من الأمم ليرعى حقاً رعية الله التي اقتناها بدمه ولذلك يوصي هو الرسول بولس نفسه كما ذكرنا في آية موضوعنا وقد جمع الكهنة في أفسس يوصيهم قائلاً احترزوا لأنفسكم أي كونوا متمسكين بالإيمان والسيرة الفاضلة احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها رعاة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه. في هذا اليوم الذي نحتفل به بأحد تجديد الكنيسة نريد ككنيسة كجماعة الله رعية الله التي اقتناها بدمه أن نجدد عهدنا مع الله ونريد كأفراد كأعضاء حية في الكنيسة أن يجدد كل واحد منا عهده مع الله لأننا قد ولدنا من فوق  من السماء، المسيح يسوع فدانا بدمه وأهلنا لنتبرر ونتقدس وأن نولد من السماء لنصير أولاد الله بالنعمة. فليعطنا الرب الإله أيها الأحباء كرعاة ورعية أن نحترز لأنفسنا أن نتمسك بإيماننا بالمسيح يسوع ابن الله الحيّ أن نكون بسيرتنا الفاضلة خير شهود للمسيح ليتمجد اسم الرب بوساطتنا عندما يرى الناس أعمالنا الحسنة كقول الرب ويمجدوا الآب السموي ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


تجديــد البيـــعة (4)

 

«فأجاب بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فقال له يسوع: طوبى لك يا سمعان ابن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة سابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

     (متى 16 : 16-18)

 

أحبائي، في هذا اليوم كنيستنا السريانية المقدسة تذكر في طقسها الكنسي، أحد تجديد الكنيسة، وأحد تقديس الكنيسة الذي احتفلنا به في الأحد الماضي، وتجديد الكنيسة بهما نبدأ السنة الطقسية السريانية، ونبدأ الآحاد الثمانية التي تتقدم عيد الميلاد، لتتهيأ أفكار المؤمنين لتقبُّل عطيّة الله السّامية بميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد. والفصل الذي تُلِي على مسامعكم في بدء القداس من الإصحاح السادس عشر من الإنجيل المقدّس بحسب الرسول متى وفيه رأينا الرب مع تلاميذه في قيصرية فيلبس في ضواحي بانياس – لا تزال بانياس السورية موجودة إلى اليوم – وفيه استمعنا إلى الرب يسوع بعد سنتين ونصف السنة من بدء تدبيره الإلهي العلني بالجسد، يمتحن تلاميذه سائلاً إيّاهم: ماذا يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟ فكان جوابهم: قومٌ يقولون إيليا وآخرون إرميا وآخرون واحد من الأنبياء. وأنتم من تقولون أني أنا؟ قال بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. والرب يقول لسمعان: طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك: أنت بطرس وعلى  هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. في تلك اللحظات ولأول مرة يتفوه الرب يسوع بلفظة كنيسة، ويعلن أن هذه الكنيسة لها مبدأ سامٍ جداً، مبدأ إلهي بنيت عليه، مبدأ أن المسيح هو ابن الله الحي، وأعلن أيضاً في الوقت نفسه على لسان الرب، أن لهذه الكنيسة التي أسسها الرب رعاة حكماء، أمناء للرب يسوع، يرعونها ويذودون عن حياضها. لذلك أعطى السلطان للرسول بطرس ثم أعطاه للرسل بعدئذ حيث قال له: طوبى لك يا سمعان ابن يونا. هنا أسس سر الكهنوت المقدس، لأنه لا يمكن أن تكون الكنيسة بدون كهنوت. طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحماً ودماً لم يعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السماوات، فعقائدنا الدينية الإيمانية جاءت من السماء وسمعان كان واسطة تفوه بهذا الإعلان الذي أعلنه وهو إعلان إلهي، أن المسيح هو ابن الله، ابن الله الحي. وهذه العبارة وهذا الإيمان هي أهم عقائدنا المسيحية كافة، فالمسيح الذي أعلن أنه ابن الله بعد أن خرج من الماء عندما اعتمد من يوحنا المعمدان، أعلنته السماء: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، وأعلن ثانية في التجلي أمام التلاميذ: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا. هنا علمنا أن شريعتنا كلها هي من الرب يسوع، وبالرب يسوع وعلينا أن نسمع له. إذن أسس الرب الكهنوت أيضاً حيث أنه أعطى سلطاناً لبطرس على حلّ الخطايا وربطها، وهذا الغفران ليس فقط في الأرض، بل في الأرض والسماء أيضاً، هذه النعمة أعطاها الرب لرسله الأطهار وخلفاءهم، هذه نعمة جعلت القديس اغناطيوس النوراني البطريرك الأنطاكي الذي مات شهيداً أن يقول: لا كنيسة بدون أسقف. لا يمكن أن تكون الكنيسة كنيسةً حقيقية ما لم تكن هناك رئاسة كهنوت، ولا يمكن أن تكون رئاسة كهنوت ما لم تكن هناك كنيسة، فالقضيتان مرتبطتان، لذلك نرى أن الكنيسة المقدسة يقودها رؤساء الكهنة، ولكن لاحظوا أيضاً قول الرب يسوع: على هذه الصخرة أبني كنيستي، صخرة الإيمان المقدس بأنه هو ابن الله الحي، وإذا كان ابن الله فهناك كهنوت أيضاً، وإذا كان هو ابن الله وفادينا ومخلصنا، هو ابن الله الحي المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي ولد من العذراء مريم والروح القدس في ملء الزمان.

هذه العقيدة تجعلنا أيها الأحباء، أن نجاهد ونكافح للحفاظ عليها، ولذلك كما خاض الرب يسوع حرباً ضروساً مستمرة مع إبليس وجنده، من البشر ومن الأبالسة أيضاً الذين سقطوا معه بكبريائه وكبرياءهم.  يقول: وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، إذن فهناك أبواب جحيم، والأبواب هي السلاطين والقوى، هناك إذن حرب ما بين أبناء الله بالنعمة الذين يؤمنون أن المسيح هو ابن الله الحي، ويعتبرونه فادياً ومخلصاً، وما بين أبواب الجحيم، الأبالسة ومن يتبعهم. هذه الحرب انتصر بها أبناء الله عبر الدهور والأجيال. كم قسا الدهر على الكنيسة، هذا تاريخها مليء بالجهاد المستمر، الهراطقة من جهة أرادوا أن يفسدوا تعاليمها الإلهية، حتى اليوم العديد منهم يدّعون المسيحية وهم لا يؤمنون بالمسيح يسوع الإله المتجسد.

في القرن الرابع أعلن مجمع نيقية، أن المسيح هو إله ومساوٍ للآب في الجوهر، وأعلن أيضاً ميلاده من العذراء. ولأجل هذه العقيدة التي هي أساس المسيحية، أساس الكنيسة. قدّم عدد كبير، بل ما لا يُحصَى له عدد من الشهداء دماءهم في سبيل تثبيت الإيمان. ملوك وأباطرة حاولوا أن يدنّسوا الكنيسة، أن يبيدوها، لكن الله في وسطها ولن تتزعزع، المسيح وعد بأن يكون معها، وقال: أن قوى إبليس والجحيم لن تقوى عليها، ولذلك فهي ثابتة وستبقى ثابتة في إيمانها وعقائدها السمحة، وفي أعمالها أيضاً. لن يكفيها أن تؤمن ما لم تترجم هذا الإيمان بأعمالها الصالحة. الإيمان بدون أعمال ميت. لا يكفينا أن نقول أننا بإيماننا النظري نستطيع أن نرث ملكوت الله، ما لم يكن هذا الإيمان طاهراً نقياً، ما لم نكن مقتدين بالرب يسوع ورسله الأطهار، وتلاميذه الأبرار بالتمسك بالإيمان، وبالسيرة الفاضلة. بهذا نكون قد انتصرنا على إبليس. الكنيسة لفظ أطلق على المؤمنين بالرب يسوع وبالثالوث الأقدس، والكنيسة أُطلِقت بعدئذ على البناء الذي يُقدَّس ويُطهَّر ويُنقَّى ويُخصَّص ويُفرَز ليكون بيتا لله، والله يسكن في كل مكان وهو موجود طبعاً في كل مكان، ولكنه موجود خاصةً في المكان الذي يُكرَّس ويُقدَّس باسمه القدوس، وكل ما فيه مقدس. والكنيسة في هذه الأرض تجاهد وسمّيناها الكنيسة المجاهدة ، لتبقى ثابتة على الإيمان والسيرة الفاضلة، وهي ملكوت الله على الأرض وهي تسعى أن تجعل المؤمنين بالمسيح يسوع أولاداً للسماء، مولودين لا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل بل من الله (يو 1 : 13). ليصيروا أولاداً لله ويُرشَّحوا أيضاً أن يكونوا أبناءً وأرواحاً طاهرةً نقية للكنيسة المنتصرة التي انتصرت على إبليس، وبقيت ثابتة على الإيمان والسيرة الصادقة، فكانت أرواحاً في السماء منتصرة، متحدةً معنا، خاصةً أثناء الصلاة، وفي القداس الإلهي تكون هذه الأرواح معنا وتشترك معنا بشكر الله الذي أرسل إلينا الرب يسوع المسيح ففدانا، والذي أعطانا الكنيسة المقدسة ككنز عظيم يحتوي النِعم العظيمة، لكي تُوزع بواسطة الكنيسة، بواسطة رئاسة الكهنوت والكهنوت المقدس على من يؤمنون بالمسيح يسوع، فالكنيسة أم لنا وهي معلمتنا في الوقت نفسه، تلدنا من جرن المعمودية، تنشئنا أولاداً لله متمسكين بالإيمان والسيرة الطاهرة، الكنيسة أمنا ومعلمتنا تعلمنا المبادئ المسيحية السامية لنبقى سالكين على تعليم ربنا يسوع المسيح الذي فدانا بدمه المقدس، والذي أمرنا، لا فقط أن نؤمن بأنه ابن الله، بل أيضاً أن نسمع له فهو شريعتنا وهو ناموسنا، وهو مثالنا وهو قد أمرنا أن نتبعه في طريق الجلجلة لنصل إلى ملكوته السماوي، لنصل إلى ملكوته السماوي لنستحق أن نكون في عداد الأرواح التي تؤلف الكنيسة المنتصرة، وأخيراً في اليوم الأخير لنكون أيضاً في عِداد الذين سيرثون ملكوته السماوي. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته آمين.

 


تجديــد البيـــعة (5)

 

أيها الأحباء تذكر الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك أحد تجديد الكنيسة هذا الأحد عندما نحتفل به نتذكر أن الكنيسة المقدسة لم تكن بذهن الناس في زمن السيد المسيح فحسب بل أن الله أسسها منذ بدء الخليقة، قال داؤد للرب: اذكر كنيستك يا رب التي افتديتها  منذ الأزل.

إن الكنيسة عندما تقرأ أسفار العهد القديم وتتأمل بزعيم بني إسرائيل النبي موسى ترى أن الله قد اختاره لكي يصنع شبه الكنيسة المسيحية قبة العهد قبة الشهادة تابوت العهد الذي ضم في هذه القبة جعل ذلك رمزاً إلى كنيسة المسيح يسوع  وبذلك يعلن أن الكنيسة مشيدة منذ الأزل ورأى موسى كمالها فنزل من الجبل ورسمها. لو لم ير موسى كمالها كيف كان يمكن أن يقوم بهندستها بمذبحها قدس أقداسها، لقد علّم الرب موسى لوازم العبادة فصنع قبة الميعاد أو قبة الشهادة وجعل موسى في قدس الأقداس تابوت العهد أو تابوت الرب الذي هو أنفس وأقدس كل ما وجد في خباء المحضر وأن التابوت من خشب لا يفسد ومغشى بالذهب الخالص من داخله وخارجه. وحفظ في هذا التابوت لوحا الشريعة وإناء من ذهب مملوء مناً. وكان التابوت شهادة للعهد الذي عقده الله مع الإسرائيليين ولذلك سمي تابوت العهد وقدم موسى الذبيحة للرب لأول مرة وإذا عمود غمام قد غطى قبة الشهادة وملأ مجد الرب الخيمة وكل مرة يحتاج فيها موسى أن يستشير يذهب إلى قدس الأقداس وكان الله يكلمه من عرش النعمة. منذ أن سقط الإنسان كلم آدم ابنيه قايين وهابيل على الأرض أن يقدما القرابين ونقرأ في الكتاب المقدس أن قربان هابيل قد قبل بعلامة سماوية وأن تقدمة قايين قد رفضت والسبب في النية التي يقدم بها الإنسان قرابينه وتقدماته لله. الله جعل موهبة الكهنوت في بدء سقوط الإنسان في آدم أولاً فآدم اعتبر كاهناً وإذا كان هناك كاهن فهناك كنيسة هناك مؤسسة يرأسها هذا الكاهن ويخدمها وهناك ذبيحة هناك شريعة. فالشريعة في بدء سقوط الإنسان على الأرض كانت شريعة الضمير بحسب ما وضع الله صوتاً في الإنسان هو صوت الله بالذات ينبهه ويعرفه الخير من الشر والصالح من الطالح.

هكذا تتألف الكنيسة من شريعة ثم ذبيحة وتقدمة وينال الإنسان التائب مغفرة عما اقترفه من خطايا في هذا الناموس الفطري كما ندعوه. و في الكهنوت الذي كان طبيعياً ينال البكر في العائلة كما ينال الرئاسة الاجتماعية في القبيلة. وفي ذلك الزمن انقسم العالم إلى قسمين سمي بعضهم أولاد الله لأنهم كانوا يتبعون شريعة الله والآخرون أولاد العالم لأنهم كانوا ينخدعون  بغواية إبليس كما خدع آدم وحواء الأبوان الأولان بغواية الشيطان وسقطا في وهدة الخطيئة هكذا انقسم البشر إلى قسمين أولاد إبليس وأولاد الله وعندما اختلط أبناء الله مع أبناء إبليس الذين يصفهم الكتاب المقدس بأبناء العالم يقصد به العالم الشرير حينذاك فسد العالم كله «الجميع اخطئوا وأعوزهم مجد الله».

حتى عندما أقام الله موسى نبياً وقائداً ومرشداً بل أيضاً كاهناً أقامه وعلى يديه أعطى العالم شريعة مكتوبة ووصايا إلهية حتى ذلك الحين نرى الشعب الذي تبع موسى أصبح قسمين بعضهم أخطئوا وأنكروا الله عبدوا الأوثان فنالوا العقاب الصارم وبعضهم بقي مخلصاً لله متمسكاً به غير مبال أبداً بما في العالم من غواية عالماً أنه عندما يحيد عن شريعة الله ويتبع إبليس سيعاقب من الله جاءت الكنيسة في الدور الثاني دور الشريعة الموسوية والكتاب المقدس يعلمنا أن الرب عندما دعا موسى فصعد إلى الجبل وصام موسى أربعين يوماً وأربعين ليلة لإظهار بعض الأسرار ومن الجملة أراه شكل الكنيسة بالذات وعلى ذلك المثال أمره الرب أن يصنع قبة الزمان قبة الشهادة. قبة الشهادة هي شبه الكنيسة وهي رمز إلى الكنيسة كان هناك قدس المكان الذي يدخله الكهنة ثم الشعب وكان هناك قدس أقداس المذبح الذي لم يكن يسمح أن يدخله إلا رئيس الكهنة ومرة في السنة وعندما يحتاج أن ينال إرشاداً من الله ويتقبل رسالة منه تعالى ليعلنها للناس حينذاك كان يدخل موسى إلى قدس الأقداس. في قدس الأقداس كان هناك تابوت الشهادة هذا التابوت كان يحوي أموراً كثيرة عصا هارون التي أفرخت وأعطت لوزاً وثمراً معلنة بذلك أن الله قد اختار هارون من بين كل الأسباط وبين كل من كان معه وعصيّهم كانت موجودة فأظهرت عصا هارون أن الله قد اختاره ليكون كاهناً فالكهنوت الموسوي قد أعطي لموسى وهارون في آن واحد هكذا يعلمنا آباؤنا وأن هذا الكهنوت الذي كان عاماً وكان يتسلمه رئيس القبيلة أصبح مختصاً بسبط واحد هو سبط لاوي وتسلسل الكهنوت إلى أن جاء المسيح وكانت الذبائح الحيوانية يقدمها الكاهن لا غيره وكذلك البخور التي كان مذبحها ضمن قدس الأقداس كان الكاهن يحرق البخور وخبز التقدمة أما قبة الشهادة التي ذكرناها أيضاً ففيها أيضاً المن لكي يذكر بني إسرائيل أن الله أعطاهم خبز الملائكة مدة أربعين سنة في البرية وكان هناك أيضاً لوحي الشهادة لوحي الشريعة. اللوحين اللذين أنزلهما موسى من الجبل، كل هذا كان رمزاً إلى الكنيسة المقدسة و الكنيسة كانت الواسطة التي لها سلطان بواسطة الكهنوت المقدس أن تنوب عن الشعب أيضاً بالصلاة إلى الله ورفع هذه الصلاة إليه تعالى و الكنيسة عندما جاء المسيح أسسها على مبدأ الإيمان به إذ كان الأنبياء سابقاً يشيرون إلى الإيمان بالله، المسيح يسوع لم يكتف بهذا وأعلن الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس كذلك أيضاً أعلن نفسه أنه هو ابن الله الوحيد أنه مشيحا المسيح مخلص العالم وأن كل ما نسأله باسمه ننال من الآب السماوي وأنه مساوي للآب في الجوهر من رآه فقد رأى الآب وهو والآب واحد أعلن عن كل هذه الأمور وأثبت ذلك بالآيات والمعجزات وبتعاليمه الإلهية التي قيل عنه فيها أنه كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين لذلك حق له أن يعلن عن تأسيس كنيسته المقدسة على صخرة الإيمان به أنه هو ابن الله الحيّ هذه الكنيسة بعد أن أعلن تأسيسها وهي التي كان مرموز لها بقبة الشهادة التي صنعها موسى بعد أن رأى مثال الكنيسة بالذات في الجبل أراه ذلك الله فصنع قبة الشهادة هذه الكنيسة بعد أن أسسها أعلن تأسيسها حالاً وضع الكهنوت أعطى سلطان الكهنوت لبطرس منفرداً سلطان حل القضايا وربطها ليس في الأرض فقط بل أيضاً في السماء فبعد قيامته أعطى هذا السلطان للرسل مجتمعين لكي يكون للكنيسة قوة إلهية لإعطاء نعم الفداء واستحقاقات صليب المسيح يسوع التي كانت سبباً لتبرئتنا وتبريرنا وتقديسنا ومغفرة الخطايا التي فعلناها شخصياً والخطية الجدية الأولى.

الكنيسة بعد أن تهيأت لكل هذه الأمور وقبل صعود الرب إلى السماء أعطى سلطان نشر بشارته الإنجيلية إلى رسله «اذهبوا إلى العالم كله واكرزوا للخليقة جمعاء من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدان». وقال لهم أن يعمدوا باسم الآب والابن والروح القدس. أعلن الثالوث الأقدس هذه العقيدة السامية أعلن ذلك أيضاً مساواته بالجوهر للآب كذلك مساواة الروح القدس للآب السماوي وبينت الكنيسة متى؟ عندما حل الروح القدس على التلاميذ كانوا مئة وعشرين شخصاً رجالاً ونساء وأطفال والرسل والتلاميذ وكل من كان في العلية يصلي وينتظر هذه الموهبة التي وعد المسيح يسوع تلاميذه أنه يرسل الروح القدس إليهم بكل مواهبه بل أقنوم الروح القدس بالذات حل على أولئك التلاميذ ونالوا شجاعة وبسالة واعترفوا بالمسيح أمام الجمهور بل وبخوا الجمهور اليهودي على الجريمة التي اقترفوها وعندما بكتت ضمائر أولئك الناس قالوا للتلاميذ ماذا نصنع أيها الأخوة قالوا لهم توبوا.  فالتوبة أمر ضروري لكل من يريد أن يكون تابعاً للمسيح يسوع وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح فتنالوا المغفرة أنتم وبنوكم. بهذا المعنى شرح الرسل لكل اليهود الذين كانوا مجتمعين من جميع أنحاء العالم اظهروا لهم الطريق إلى الوصول إلى ملكوت الله بالتوبة والإيمان بالمسيح ولا غرو من ذلك فالرب يسوع عندما بدء تدبيره العلني بالجسد أعلن للناس جميعاً أنه قد اقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل فعندما نحتفل بتجديد الكنيسة لا ترى فقط كيف كانت الكنيسة في بدء سقوط الإنسان  من فردوسه إلى الأرض كيف كان الآباء الأولون يعبدون الله ويحاولون أن يرضوا ربنا. كيف كان رئيس العائلة كاهناً له يتشفع أيضاً بها كيف كان عهد موسى أيضاً في الشريعة المكتوبة وقبة الشهادة لا نرى ذلك فقط بل نرى أن الروح القدس كان يعمل دائماً في الإنسان وأن الإنسان الذي يعود ويتوب  إلى الله يقبل من الروح القدس فأولئك الذين لم يستحقوا لنقل ذلك أن ينالوا الفداء مثلما نلناه نحن. الرسول بولس يقول عنهم أنهم رقدوا على رجاء مجيء  المسيح يسوع واعتبروا أنفسهم غرباء عن هذه الحياة وعندما جاء المسيح وصلب عوضاً عنا ومات ونزل إلى الهاوية بشر أولئك بل أيضاً أقامهم ومنحهم نعمة الخلاص لأنهم كانوا قد آمنوا به وانتظروا مجيئه واشتهوا أن يروه وماتوا ورقدوا قبل أن يأتي فهو قد أحياهم وقبل توبتهم وكافأهم عن كل ما كانوا يؤمنون به لذلك نرى أننا نحن قد نلنا نعمة عظيمة من الله لأننا قد أصبحنا في عداد أولئك الذين افتداهم المسيح بدمه الكريم أصبحنا ضمن ملكوت الله. ملكوت الله كان في السابق في الكتابة أو بالفطرة أما ملكوت الله يقول لنا الرسول بولس ملكوت الله في داخلكم هذا هو العهد الجديد لذلك نحتفل بتجديد الكنيسة العهد الجديد هو كما تنبأ ارميا عن شعب بني إسرائيل أنه يأتي يوم الله لا يحتاج أن يعطينا شريعة مكتوبة بل يجعل شريعته في ضمائرنا. كيف يكون هذا؟ بوساطة الروح القدس بالذات فحق للرسول بولس أن ملكوت الله في داخلكم. ملكوت الله على الأرض هو الكنيسة المقدسة بالذات وهذه الكنيسة التي هي شرعاً عروس المسيح والمسيح رأسها وهي جسده. هذه الكنيسة بواسطة الروح القدس  تتمسك بالإيمان لأن الروح يعلمها كل شيء ويفهمها كل شيء والروح أيضاً يذكر رؤساءها وأيضاً مؤمنيها بما قاله المسيح لهم فنجدد عهدنا مع الرب في أحد تجديد الكنيسة ونرى أن علينا أن نكون أعضاء أحياء في الكنيسة المقدسة لا فقط بالاسم نكون أعضاء المسيح. جسد المسيح هو الكنيسة علينا أن نكون أحياء بالمسيح وإن قطعنا أنفسنا نكون كالغصن الذي يقطع من الكرمة ييبس ويلقى في النار علينا أن نشعر أن وجودنا على الأرض في عداد المؤمنين بالمسيح يسوع ابن الله الحيّ وأن نتمسك بشريعته أيضاً نكون أنقياء نكون في حالة التوبة دائماً لكي نستحق بعد عمر طويل عندما ننتقل من هذه الحياة أن نكون في عداد أولئك الذين تتألف منهم كنيسة الأبكار في السماء فنرث مع الرب يسوع ملكوته إلى الأبد في السعادة الدائمة الحالة التي أتمناها لي ولكم أحبائي باسم الآب والابن والروح القدس آمين.

 


تجديــد البيـــعة (6)

 

«فأجاب يسوع وقال له: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

    (متى 16: 17ـ 19)

 

في هذا اليوم المبارك، تحتفل الكنيسة المقدسة بطقسها المبارك، بأحد تجديد البيعة، واحتفلنا في الأحد الماضي بأحد تقديس البيعة، ومعنى ذلك أن البيعة، الكنيسة التي اختارها الرب منذ الأزل، لتكون ملكوت الله على الأرض، ومخزنا لأسراره المقدسة، والنعم التي اكتسبها للبشر بالفداء الذي قام به بصلبه وموته وقيامته، هذا الأمر كان ليبرر الإنسان من خطيئته الجَّدية، الخطيئة الأبوية، ومن خطاياه أيضاً الشخصية بعد توبته، ويقدسه ليكون ابناً لله.

إذن عندما نقول الكنيسة نعني المؤمنين، الكنيسة التي هي أولاً الرسل الذين اختارهم وخرَّجهم في مدرسته الإلهية، لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، رسب واحد منهم، فكان ابن الهلاك وهو يهوذا، أما الآخرون نجحوا في الامتحان. وأول امتحان دخلوه عندما سألهم الرب يسوع في ضواحي قيصرية فيلبس، ماذا يقول الناس عنّي إني أنا ابن البشر، بطرس كعادته ربما لأنه كان أكبر منهم سناً، وربما كان بطبعه يحب أن يتقدّم الآخرين، ولكن في هذه المرّة السماء تكلّمت على لسانه، هذا هو الوحي الإلهي بطرس أجاب الرب قائلاً له أنت هو المسيح ابن الله الحي.

 العديد من الناس قالوا هذا الكلام قبل بطرس، ولكن لم يكونوا يعنون ما عناه بطرس بإلهام الروح القدس، كل إنسان حتى الشعب في العهد القديم سمّوا أبناء الله، عندما كان هناك أولاد لإبليس الخطاة الذين حادوا عن طريق الشريعة الإلهية إن كانت شريعة الضمير أولاً، أو الشريعة المكتوبة بيد موسى، وأخيراً التي كتبت حسب نبوة الأنبياء في قلوب المؤمنين بالرب يسوع، هذه الشريعة تجدّدت، إذن في تقديس البيعة تقدسنا  وأصبحا أعضاء حيّة في هذه المؤسسة الإلهية التي هي جسد المسيح السري، فكل واحد منّا المؤمنين بالمسيح، والذين اغتسلوا بمعمودية المسيح، وتجددوا، وأصبحوا أناساً جدد، تابعين السماء، وشريعة السماء، النبوءات تنبأت عنهم، أن في تلك الأيام، أيام مجيء المسيح، لن تكون الشريعة مكتوبة ولا شريعة الضمير كشريعة الآباء القدامى، ولا شريعة أولئك الذين تبعوا موسى، ولكن الرب يقول بالنبوءات أنه يقيم عهداً جديداً لهذا الشعب المؤمن بالرب، أن يكتب شريعته في قلوبهم، هذا الشريعة الإلهية التي أعطاها لكنيسته المقدسة، شريعة جديدة، ولذلك عندما نحتفل بأحد تجديد الكنيسة نذكر أمامنا تاريخ الكنيسة القديمة، كنيسة موسى التي طلب الرب من موسى وهو على الجبل وقد أراه ما لم يكن قد تخيّل ذلك نحن الآن نستطيع أن ندرك هذا عندما نشاهد أفلاماً سينمائية أو تلفزيونية نرى أمامنا كأن كنا عائشين في تلك الفترة، فالله حسب تعاليم الآباء أظهر لموسى على الجبل صورة الكنيسة المقدسة، أظهر المؤمنين الذين يعبدون الله بالروح والحق، كما قال الرب يسوع بعدئذ أن الله روح والساجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا أظهر لهم قدس الأقداس أظهر له كيف أن الرب سيعمل الفداء بذاته ويفدي البشرية ولذلك يقول أن موسى عمل أولاً خيمة الاجتماع وقبة الزمان، بحسب الشكل الذي رآه على الجبل، والكنيسة المسيحية أخذت هذا الشكل بالذات عندما هندست محل الاجتماع، ولكن الكنيسة ليست البناء، الكنيسة هي أرواح المؤمنين الذين يسجدون لله بالروح والحق، الكنيسة هي أن يكون الإنسان عضواً حياً في جماعة الله، في ملكوت الله على الأرض ليستحق بعدئذ إذا عمل بمشيئة الرب أن يكون أيضاً كروح تنضم إلى كنيسة الأبكار  التي تتألف من هذه الأرواح المقدسة التي جاهدت في الكنيسة المجاهدة على الأرض وانتصرت.

 التجديد، تجديد الكنيسة الإنسان المؤمن، الإنسان الذي هو تحت حكم الخطية طالما هو لابساً الجسد، ويخطئ لذلك عبر الدهور والأجيال نرى كيف أن حتى الشعب في كنيسة موسى، الكنيسة التي لها الشريعة المكتوبة كيف أن هذا الشعب كان إذا ما أخطأ في طريق عودته إلى الله كان يباد، نرى ذلك في البرية كيف انشقت الأرض وابتلعت العديد من الناس كيف أبيد العديدون عندما لسعتهم الحيات وبنفس الوقت نرى الداء، نرى المرض ونرى أيضاً الدواء الذي يصفه الله في البرية عندما عوقبوا عندما لدغتهم الحيّات لدغتهم الحيّات المحرقة جاء الدواء بالإيمان، الرب أمر موسى أن يصنع الحيّة ومن يتطلّع  إلى الحية بعد أن تلسعه الحيّات المحرقة ينال الشفاء، الموضوع الشفاء ليس بهذه الحية النحاسية، لا الشفاء بإيمان هذا الإنسان بما وصفه الرب له، آمن وتطلع إلى الحيّة فنال الشفاء هذا هو تجديد الإنسان نفسه بإيمانه بهذا الإيمان يستطيع الإنسان أن يتوب، أن يجدد حياته وينال النعمة من الله.

 في كنيسة اليهود كنيسة موسى كثيراً ما حاد الشعب عن الشريعة، أيام المكابيين فقط نحو قرنيين قبل مجيء السيد المسيح عندما حاد الشعب عن الله وعبد الأصنام، واستُعبد أيضاً لشعب آخر، الذين كانوا أقوياء بالإيمان لم يسجدوا للأوثان، بل تجددوا في قلوبهم ونفوسهم وتمسكوا بشريعتهم، واستشهدوا كما رأينا شموني وأولادها السبعة، استشهدوا في سبيل التمسك بشريعة الرب. 

ونحن نعيد لشموني في الخامس عشر من تشرين الأول، كنا نظن أن الإنسان بإمكانه أن يدبر حيلة فيخدع الناس، فجاءوا إلى لعازر معلّم شموني، الكاهن الفاضل، قالوا له: إننا سنأتي بلحم لحم الضان أو لحم حيوان يحل لك أكله ونقول أنه لحم خنزير ونقول لك كل كما أمرك الملك طبعاً وبخهم «أنا بشيخوختي أحيد عن الرب» أي أن أكون مرائياً، أكون منافق أعلم الشبان أيضاًَ هذه الطريقة، الشبان سيظنون أني أكل لحم خنزير ولحم الخنزير كان طبعاً في ذلك الوقت محرماً على بني إسرائيل. أنطيوخوس الملك ملك سورية الذي كان قد استولى على بني إسرائيل في تلك الأيام أنطيوخوس لا يريد شيئاً إلا أن يحيد ذلك الشعب عن شريعة الرب ولكن ذلك الشعب تمسّك بالشريعة، الذين تمسكوا وأظهروا أنهم مؤمنين بالرب لا لأنهم يأكلون لحم الخنزير أو أي لحم كان لكن يعلنوا أنهم متمسكين بشريعة الرب حتى الموت هؤلاء تجددوا، وتجدد الشعب كله وبعدئذ صار عيد التجديد، في بني إسرائيل في شعب موسى قبل مجيء الرب إلى أرضنا، بالتجسد، قبل مجيئه بقرنين تقريباً، فتجددت الشريعة في قلوب أولئك الناس، ونحن الذين أصبحنا أعضاء في كنيسة اختارها الرب لتكون عروساً للمسيح بالذات الكنيسة المقدسة الذي اختارها لأنه رأى أن بني إسرائيل قد حادوا عن الشريعة وأصبحوا مبغضين من الرب الذين يقال عنهم: إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، أما الذين قبلوه فأعطاهم أن يكونوا أبناءً لله أبناء الله بالنعمة، أولئك الذين صاروا أولاد الله بالنعمة كثيراً ما يخطؤن أيضاً على الرغم أننا ولدنا من فوق من السماء، لكن أحياناً عديدة يتمكن إبليس أن يخدعنا ويحاول سلبنا النعمة التي نلناها من الرب ولكن نشكر الله أننا بالتوبة بإمكاننا أن نتجدد، هذا الذي نعنيه بتجديد الكنيسة، أي نجدد عهدنا مع الله، في هذا اليوم كل واحد منا، إن كنا كهنة وإن كنا علمانيين بإمكانه أن يجدد عهده مع الله، الله جدد عهده وأعطانا إياه ليس بلوحي الوصايا التي أعطاها لموسى، وليس بشريعة الضمير الحي التي أعطاها للآباء الأولين، بل كتب شريعته في قلوبنا، هكذا تنبأ الأنبياء عنها. فإذا ما حدنا عن الشريعة، إذا فكرنا بمحبة العالم أكثر من الرب، الرب قال: الذي يحبني يحفظ وصاياي، إن كنا نحب الرب يسوع يجب إن نحفظ وصاياه، إذا حدنا عن ذلك، يعني علينا أن نمارس سر التوبة والاعتراف وتناول القربان والقدس، أن نجدد عهدنا مع الله والكنيسة أيضاً عندما تحيد عن وصايا الرب يعني أنها بردت المحبة في قلوب أبنائها، الكنيسة هي جماعة المؤمنين، إذا من يحبني يحفظ وصاياي، إذا رأينا أنفسنا أننا لسنا بحافظي وصايا الرب أي بردت المحبة في قلوبنا، وهذه تنبأت عنها نبوءات الكتاب أن المحبة تبرد في قلوب الكثيرين، والرب يسوع المسيح نفسه قال عند مجيئه، فعلينا في تجديد الكنيسة أن نجدد عهدنا مع الرب يسوع، نشعر أننا نحن الكنيسة، نحن ملكوت الله على الأرض، نحن الذين أعطي لنا أن نحافظ على شريعة الله على الأرض لأن الكنيسة هي مخزن الأسرار كما قلنا الأسرار السبعة ومخزن التعاليم المستقيمة الرأي ومخزن الفضائل السامية، لا يمكن أن نؤمن بالكنيسة كنيسة مقدسة ما لم نحافظ على الإيمان القويم الرأي وما لم تحافظ على الآداب والأخلاق، وتجاهد في سبيل ذلك. نحن في هذه الأيام نسمع كثيرين ينطقون باسم كنيسة يعترفون بشذوذ الإنسان وحياده عن طريق الحياة ويباركون العمل المشين والعياذ بالله، فهؤلاء ليسوا بكنيسة، ليسوا بملكوت الله على الأرض، ليسوا بتلاميذ الرب يسوع فعلينا في أحد تجديد الكنيسة أن نفحص نفوسنا وقلوبنا وأفكارنا ونرى هل نحن متمسكون بالرب يسوع، قال من يحبني يحفظ وصاياي والبرهان على محبتنا للرب يسوع أن نحفظ وصايا الرب أسأله تعالى أن يؤهلنا جميعاً أن نعود إليه، إذا كان إبليس قد خدعنا وحدنا عن شريعة ربنا له المجد، أن نعود إليه لنكون دائماً كما بدأنا الأحد الأول من الآحاد الثمانية قبل الميلاد أحد تقديس الكيسة الذي هو الأحد الذي نعتبره الأحد الأول في هذه الآحاد، وأحد تجديد الكنيسة الذي هو اليوم الأحد الثاني من هذه الآحاد لنجدد عهدنا مع الرب يسوع، نجدد محبتنا له بحبه أكثر من كل شيء في هذه الحياة، المحبة لا تسقط أبداً، المحبة لا تقوى كل صنوف الاضطهادات حتى الموت أن يجعلها باردة وبعيدة عن الرب أسأله تعالى أن يؤهلنا لنتكون أعضاء حية في كنيسته في ملكوته السماوي على الأرض الكنيسة المقدسة ولنستحق بعد العمر الطويل أن نكون أعضاء في كنيسة الأبكار المكتوبة في السماء. الحالة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 

 


تجديـــد البيـــعة (7)

 

ذكرت الكنيسة المقدسة في الأحد الماضي أحد تقديس الكنيسة، وهذا الأحد بحسب طقسنا السرياني المقدس هو بدء السنة الطقسية لأنه يهيّئ ذهننا لتقبّل سرّ تجسّد الرب يسوع الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وهذا السر الإلهي هو سر الفداء حيث افتدانا الإله المتجسّد بدمه الكريم وغفر لنا الخطية الجدّية التي اقترفها في فردوس النعيم أبوانا الأولان، فطردا من ذلك الفردوس إلى أرض الشقاء. هذا السر العظيم كان في ذهن اللّه تعالى وتخطيطه مرسوماً منذ البدء، منذ أن خلق الإنسان وكان اللّه يعلم أن الإنسان سيسقط، إنه تعالى رحمةً منه لهذا المخلوق الذي أحبه وجعله يسمو على كل المخلوقات، بل أقامه سيداً على المخلوقات الأخرى، كان قد حتّم أن يفديه. وفي ذهن اللّه منذ الأزل أن يجعل للفداء واسطة كما تقول المعادلة اللاّهوتية أن الخطيئة التي اقترفها أبوانا الأولان كانت موجّهة إلى اللّه غير المتناهي، ولا يمكن أن ينال الإنسان المغفرة ما لم يكن اللّه بالذات يفدي هذا الإنسان ويخلّصه من تلك الخطيئة الشنيعة، فاقتضى أن يتجسّد الإله ليفدي الإنسان.

ومنذ البدء أيضاً حتّم اللّه أن تكون نعمة الخلاص مخزونة بما يسميه الكنيسة التي يؤسسها اللّه لتكون ملكوت اللّه على الأرض لكي تبقى هذه النعَم حاضرة لكل إنسان يؤمن بالرب يسوع المخلّص، والكنيسة كما يعلّمنا آباؤنا قد مرّت بثلاثة أدوار لها ثلاث شرائع ونواميس أدبية وطقسية يلتزم بها الجنس البشري وهي تطورت مع الزمن، أولاً ناموس الضمير، ثم الناموس المكتوب الذي أُنزل بوساطة موسى وهو العين بالعين والسن بالسن كما أعطي الإنسان كهنوتاً وطقوساً إلى جانب الناموس المكتوب الذي سُلّم لموسى على لوحَين من صخر. وكان هناك المسكن الذي هو شبه الكنيسة وقد شاهد موسى ذلك في الجبل، كما أمره اللّه أن يصنع كل شيء على المثال الذي رآه في الجبل (خر25: 40). ثم ناموس الكمال لما جاء ملء الزمان، وأعطي ناموس الرحمة ونال الفداء حيث بصلب الرب يسوع الإله المتجسّد تبرّر الإنسان وتقدّس واستحق أن يعود إلى الفردوس الذي طرد منه من جراء الخطيئة. ويقول آباؤنا أن اللّه عندما خلق الإنسان من تراب الأرض جبله ووضع عليه يده: جبلةني وسُمة علي آيدك أي جبلتني ووضعتَ عليّ يدك، أي رسمتني كاهناً. والكهنوت ضروري لكل ما نسمّيه مؤسسة روحية تحمل نِعَم اللّه، ولا يمكن أن تحمل هذه النِعَم ما لم يكن هناك وسيطٌ بين اللّه والبشر، وهذا الوسيط هو الكاهن بل الحبر الأعظم الرب يسوع المسيح، ولكن عندما طُرِد آدم من الفردوس توقّف عن تقديم ذبائح التسبيح للّه، وحتّى في الفردوس بعد أن أخطأ ذُبح حمل وديع ليخمد غضب اللّه على الإنسان، وإلاّ من أين جاء ذلك الجلد الذي ستر عورة آدم وحوّاء. ذُبح حمل وديع لأنه قد كُتب: «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب9: 22)، ولكن عندما أخطأ طُرد من الفردوس ولذلك وهو في أرض الشقاء لم يتمكّن آدم من أن يقدّم للّه ذبيحة لأنه كان كاهناً موقوفاً عن الخدمة الكهنوتية، كما يحدد ذلك آباؤنا لذلك يقول الملفان مار يعقوب السروجي أن آدم لم يقدّم الذبيحة لأنه لا شَليط لؤ لكؤنا طريدا ددبحا نقَرِب لا يحق للكاهن المطرود أن يقدم ذبيحة، لذلك أرشد ابنَيه قايين وهابيل ليقدما ذبيحة أو تقدمة للّه لعلّه يغفر له خطاياه. فقدم هابيل ذبيحة بل أيضاً صار هو بعدئذ ذبيحة بيد أخيه قايين، وقدّم قايين تقدمة من ثمار الأرض ولكنها رُفضَت لا لشيء إلاّ لأنها لم تٌقدَّم بنية صادقة طاهرة نقيّة.

على الأرض رأينا الكنيسة، رأينا الكاهن بل الكاهنَين، وبعدئذ كل بكر في العائلة كان يُقام رئيساً للعشيرة ورئيساً للكهنوت فكان كاهناً. هذا هو الكهنوت الفطري، الشريعة كانت شريعة الإنسان الذي يسير بحسب الضمير الذي وضعه اللّه في الإنسان، والذبيحة كانت تقدم من الكاهن الذي هو رئيس العائلة، والشريعة والذبيحة كانا يحتاجان إلى كاهن وهذا الكاهن هو رئيس العائلة. ثم جاءت شريعة موسى فغيّرت الكنيسة فجُدِّدَت وأصبحت كنيسة تتبع شريعة مكتوبة وذبيحة تحوّلت إلى ذبائح حيوانية بحسب ناموس موسى، وكانت تأخذ قوتها من إشارتها إلى ذبيحة المسيح الكاهن الأعظم الذي قدم هو نفسه ذبيحة عن الخطاة بدءاً من آدم وحواء ونسلهما، فنالت البشرية المغفرة والتبرير ثم التقديس ثم التبنّي والعودة إلى ما كان عليه الإنسان في فردوس النعيم من برّ ومن بنوّة للّه. ولكن كان ذلك تهيئة للكهنوت المكتوب الذي فيه اختصّ سبط لاوي بأن يكون كل بكر في جميع عائلاتهم كهنة للّه ويقدّمون تلك الذبائح، لكن أخيراً أشارت تلك الذبائح وذلك الكهنوت العام إلى «شعب ملوكي وكهنوت مقدس» هو الشعب المسيحي، لا يختص بسبط بل يختار اللّه أولئك الذين يخدمون مذابحه المقدسة.

كانت المذابح أولاً في خيمة الاجتماع وقبّة العهد، كانت هناك كمخطط أراه اللّه لموسى وأمره أن يصنع مثله على الأرض فكان هناك قدس الأقداس، وكانت المذابح التي تقدّم عليها الذبائح والمحرقات، وكان هناك مذبح البخور حيث يقدَّم البخور للّه. وقدس الأقداس لم يكن يحق لأحد أن يدخله إلاّ رئيس الكهنة ومرّة واحدة في السنة. وكان هناك ينتظر أمر اللّه، وكان اللّه يكلّمه، وكان يعلن له إرادته الإلهية ونواهيه وبذلك أصبح الإنسان قريباً من اللّه عن طريق الذبائح التي هي رمز لذبيحة المسيح بالذات، ولمّا جاء المسيح يسوع الإله المتجسّد جاء ليخلّصنا. وحقّ لكل من يؤمن به إن كان قد اختير من اللّه أن يكون كاهناً إن كان من السبط الفلاني أو من العائلة (الفلانية). وكان اللّه يختار هذا الإنسان خاصة عندما حلّ الروح القدس على الرسل الأطهار وبدت الكنيسة بميلادها لتكون كنيسة جديدة ليست ككنيسة العهد القديم، أي كنيسة موسى، بل تكون كنيسة قد نالت الفداء بالمسيح يسوع. بل أيضاً كنيسة يحقّ لها أن تكون مخزناً لأسرار الرب، وكلمة الأسرار بالنسبة إلى المصطلح الديني هي الأعمال الإلهية التي عن طريق المادة نشعر بقوّتها، لكنها إلهية وروحية. فعن طريق الماء مثلاً نعمّد الطفل لينال نعمة عظيمة، أن يصير ابناً للّه بالنعمة خاصة عندما نمسحه بالميرون المقدس فينال التبرير والتقديس والتبني، ويصبح مرشحاً لملكوت اللّه ليعود إلى السماء ليكون أكثر طهراً ونقاءً من الملائكة بالذات، وينال ذلك المجد الذي خُلِق ليتنعم به. هذه الأسرار الإلهية الكنيسة المقدسة تحتفظ بها ولها سلطان عن طريق الكهنوت بحل الخطايا وربطها ومنح هؤلاء الذين يؤمنون بالثالوث الأقدس ليكونوا كنيسة مقدسة ومنحهم هذا التبرير وهذا التقديس وهذه النعمة العظيمة نعمة التبني.

ما أعظم أن يكون الإنسان حجرة في كنيسة اللّه على الأرض، الكنيسة التي تدعى ملكوت اللّه على الأرض، الكنيسة التي فيها تجتمع المواهب كافة. ما أعظم أن يكون الإنسان عضواً في تلك الكنيسة فيكون أميناً للّه ويستحق بعد أن يقضي حياته على الأرض مجاهداً ضد إبليس وجنده ليبقى في حالة النعمة التي يحافظ عليها بالتوبة المستمرة، يستحق أن يصير عضواً في كنيسة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء كما يقول الكتاب المقدس. وعندما نقول بتجديد الكنيسة فنذكر ذلك في هذا الأحد، إنما نعني تجديد العهد مع اللّه، ومار أفرام يدعو كل واحد منا كنيسة كما أن الرسول بولس يدعو كل واحد منا هيكل اللّه والهيكل الذي يحلّ عليه الروح القدس كما حلّ على هيكل سليمان وغادره، غادر الروح القدس ذلك الهيكل عندما أخطأ ذلك الشعب وصلبوا الرب يسوع الإله المتجسّد وسمع الصوت لتغادر فغادروا المكان. نحن كلنا هياكل اللّه، كلنا قد نلنا نعمة عظيمة وحلّ علينا الروح القدس عندما مسحنا بالميرون المقدس فحلول الروح القدس ثابت فينا. إن الروح القدس ثابت فينا ما دمنا ثابتين نحن في الرب يسوع، متمسكين به بإيمان، مقتدين به حاملين صليبه، تابعين إياه، ولكن عندما ننكر الرب يسوع ينكرنا هو أيضاً ويغادرنا الروح القدس. هذا ما نفهمه من حالة داود النبي عندما أخطأ وتاب وندم وألّف مزموره الحادي والخمسين مزمور التوبة قال: «قلباً نقياً اخلق فيّ يا اللّه وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي»، فالروح القدس يغادرنا عندما نخطئ، فيحلّ علينا روح إبليس ليعذّبنا كما كان يعذّب شاول الملك ونحتاج إلى من يدعو اللّه ويصلي لأجلنا لكي تغادرنا الروح النجسة ويأتينا الروح القدس ويحل فينا لنكون هياكل اللّه. فتجديد هياكلنا وتجديد كنائسنا يكون بتوبتنا وعودتنا إلى اللّه لكي يسكن روح اللّه فينا، وإن كنا قد أخطأنا يغفر اللّه لنا، وإن كنا قد حدنا عن الصراط المستقيم يعيدنا إليه وبذلك نكون قد تجددنا هذا التجديد تجديد الكنيسة. هذا ما جرى قبل ميلاد الرب يسوع بمائتي عام عندما استشهد العديد منهم ومن جملتهم القديسة شموني وأولادها السبعة لأنهم تمسّكوا بشريعة اللّه ومعلمهم العازر الذي كان شيخاً عاتياً بالسن. كان شيخاً مؤمناً، وكان كاهناً، وعندما جاءه أبناء شعبه ليقولوا له لماذا  تستشهد، نحن بحاجة إليك إننا إن منعنا عن أكل الخنزير بشريعتنا وهؤلاء الناس يريدون أن نأكل لحم الخنزير نقدم لك لحم الضان ونأكله ونقول إنه لحم خنزير فقال لهم: هل تريدونني وأنا شيخ أن أنافق، أن أخدع الناس؟ ماذا يقول عني الشباب إذا فعلت هذا؟ لذلك جدير بي أن أستشهد في سبيل التمسك بشريعة الرب.

بدون شريعة لا توجد كنيسة، فاستشهد واستشهد الآخرون أيضاً في سبيل التمسك بشريعة الرب، وعلّمونا كيف يجب أن نكون صادقين مع اللّه ومع أنفسنا ومع البشر كافة وألاّ نكون مرائين لا نظهر فقط أمام الناس أننا أبرار وأننا متمسكون بشريعة إلهنا بل من كل قلبنا وضميرنا نتمسك بتلك الشريعة، هكذا نكون هياكل اللّه، هكذا نكون مرضيين لدى إلهنا وإلا فسنكون غرباء عن اللّه. استشهد العديد من الناس في سبيل اللّه لكن أيضاً دحر جيش المكابيين الذين أرادوا أن يدافعوا عن المدينة المقدسة وعن الشريعة، وعندما فتشوا بعد أن طرحوا وقتلوا وجدت أصنام صغيرة مخبأة في ثيابهم لأنهم أرادوا أن يجمعوا بين النقيضين بين عبادة الأصنام والاتكال على اللّه، فدحروا وقتلوا ولذلك أرسل المكابيون فضة إلى المدينة المقدسة لتقدم ذبائح عن هؤلاء ليغفر اللّه لهم خطيتهم، لذلك لا يمكن أن نجدّد عهدنا مع اللّه ونحتفل بالتجديد تجديد الكنيسة كما احتفل به المؤمنون باللّه في ذلك الزمن وبقي الشعب يحتفل بعيد التجديد، تجديد العهد مع اللّه وتجديد ذواتهم وتجديد هيكلهم، وبقي حتى في عهد تجسد الرب يسوع المسيح، علينا أن نبتعد عن عبادة الأصنام ولا نعبد إلا اللّه تعالى تقدس اسمه وأن نكون مخلصين لديننا وشريعتنا وناموسنا وذبائحنا التي أصبحت ذبيحة المسيح الذي صار ذبيحة عنا وفدانا بدمه الكريم القدوس.

في أحد التجديد أحبائي ونحن نهيّئ أنفسنا لنقبل سر الفداء، علينا أن نتوب، أن نعود إلى اللّه لنجدّد عهدنا معه تعالى لكي يقبلنا ويغفر لنا ويعيدنا إليه، ولكي يثبت روحه القدوس فينا ولكي نستحق أن نكون حقاً أبناء بالنعمة للآب السماوي وأخيراً ورثة لملكوته السماوي بنعمته تعالى الأمر الذي أتمناه لي ولكم أحبائي آمين.

 


تجديـــد البيـــعة (8)

 

«أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»

  (متى 18:16)

 

بعدما كان الرب يسوع قد تجسد وابتدأ تدبيره الإلهي بالجسد وهو يجول كما قال الكتاب يصنع خيراً ويشفي المرضى بل يقيم الموتى أيضاً، بعد كل ذلك، بعد سنتين ونصف السنة من هذا العمل كان الرب في بلادنا السورية، وإن كانت حتى فلسطين تُدعى سورية حينذاك، بل كان في منطقتنا التي نسميها اليوم سورية في قيصرية فيلبس وهي بانياس التي نراها ونمر بها عندما نذهب إلى اللاذقية، في تلك المنطقة في ضواحيها كان الرب يسوع، انفرد كعادته للصلاة، وصلاة يسوع هي مناجاة الذات للذات، فهو والله واحد مع الآب والروح القدس، لكن مع هذا نراه ينفرد ويصلي، ليجتمع بالآب السماوي والروح القدس معهم، ونراه يصلي عندما يُقدمُ بعدئذ إلى أمرِ جليل، فنعلم لماذا صلى عندما نقرأ عن هذا الأمر. كانت صلاته في ذلك النهار وتلك الساعة بل في ذلك المكان في بانياس وضواحيها في بلادنا السورية، كانت صلاته قبل أن شرع بتأسيس كنيسته المقدسة، ولأول مرة يذكر لفظة كنيسة، وهو يعني بها المؤمنين به، فقد صلى ثم عاد إلى تلاميذه ليسألهم: ماذا يقول الناس عني إني أنا ابن الإنسان، الناس الذين يرونني أنا ابن الإنسان، ماذا يقولون عني؟ قالوا قوم يوحنا المعمدان، من جملة الذين قالوا يوحنا هو هيرودس بالذات، قال يظهر أن يوحنا الذي قطعت رأسه في السجن قد قام من بين الأموات ويصنع المعجزات، وقال له قوم يقولون إرميا، إرميا النبي الذي له المراثي البكاء، الذي كان ينوح على أورشليم وعلى ذلك الشعب الذي غضب الله عليه. في التقليد اليهودي، إن إرميا يأتي قبلما يأتي المسيح ويصعد إلى الجبل ويفتش عما كان في خيمة الاجتماع من عصا هارون التي أفرخت وأعطت لوزاً لتبرهن على أن الله أختار هارون رئيساً للكهنة، أن يجد هذه العصا، أن يجد لوحي الشهادة،أن يجد قسط المن، أن يجد ما يجد مما كان أيضاً في الهيكل قبل أن يأتي المسيح، أي قبل التجسد. وقوم يقولون واحد من الأنبياء القدامى، قال لهم وأنتم من تقولون إني أنا. بطرس كان كبير الرسل سناً ومقاماً وحتى دُعي هو وبعدئذ بولس الرسول هامتي الرسل، يعني الرأسين. بطرس قال له: «أنت هو المسيح ابن الله الحي»، أجابه يسوع طوبى لك يا سمعان بطرس وأنا أقول إن لحما ودما لم يُعلن لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس (الحجرة) وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي(الصخرة التي هي الإيمان بأن المسيح هو أبن الله)، لو بُنيت الكنيسة على شخص بطرس لرأيناها قد تزعزعت،خاصة كما رأينا بعدئذ بطرس لضعفه البشري أنكر المسيح أمام جارية حقيرة، وتَندم وأصبح مثالاً لكل خاطئ  يتوب ويعود إلى الله، لكن الرب أسس كنيسته على صخرة الإيمان به أنه ابن الله، ولذلك كل من يدعي أنه كنيسة يكون ادعاءه باطلاً إذا لم يؤمن بأن المسيح هو ابن الله الحي، الحقيقة الإيمانية التي ألهم بها الله بطرس فأعلنها. فقال له الرب: «طوبى لك يا سمعان إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأُعطيك سلطان مفاتيح السموات ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماء وما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماء».

 بهذه الكلمات أعلن الرب أن لا بد أن يكون للكنيسة من يُديرها وأسس سر الكهنوت الذي أعطى فيه أولئك الذين يمنحهم هذا السر العظيم السلطان في الأرض والسماء، ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، هذه السلطة أعطاها أولاً لبطرس منفردا، وبعدئذ أعطاها بعد قيامته للرسل كافة مجتمعين، هذا الأمر اللاهوتي لا يدركه كل إنسان. هذه السلطة أًعطيت لهامة الرسل، وأعطيت أيضا مسؤولية عظيمة، أن على هامة الرسل وبعدئذ على الرسل كافة أن يحافظوا على الإيمان بابن الله الوحيد، ويدافعوا عنه ويذودوا عن حياض الكنيسة، ليس فقط عقائدها بل أيضاً طقوسها، والكنيسة هذه بعد أن أشار إليها في القديم، يقول آباءنا أن الله عندما دعا موسى للجبل أراه الكنيسة، هندسة الكنيسة كلها أراه إياها، وقال له أن يصنع مثلها، وعندما نزل موسى من الجبل ومعه الوصايا، اختار موضوع الكهنوت، لأن الرب عندما أسس الكنيسة أعطى أيضاً الكهنوت لهامة الرسل، وموسى أيضاً عندما نزل من الجبل ليصنع ما رأى في الجبل، أراه الله في الجبل أراه الكنيسة بالذات، فأختار العصي من جميع الأسباط والعصا التي أورقت وأثمرت لوزاً، قال إن الله أختار صاحب العصا أن يكون رئيس كهنة وهذا كان هارون، إذن لا كنيسة بدون كهنوت، والكنيسة التي يقيم الله فيها كهنته لينوبوا عنه ويحافظوا على أسراره المقدسة، بل ليعطوا هذه المواهب كذخائر تامة وكاملة للمؤمنين به، كانت هناك ما ندعوه خيمة الاجتماع(           ) في خيمة الاجتماع عندما يدخل مرة واحدة في السنة إلى قدس الأقداس كان الله يكلمه، ويعلن عن ذلك بكل أوامر الله، وهكذا عندما أسس الرب الكنيسة أعطى سلطان الكهنوت سلطاناً إلهياً ولئن نرى بشراً يحملون سلطان الكهنوت، ولكن نعلم أن هؤلاء البشر بالهام رباني يقومون بإدارة الكنيسة، وأبواب الجحيم قال الرب لن تقوى عليها، الأبواب هي السلطات، السلطة العليا هي الباب يسموها، في أيام آباءنا كان هناك لدى العثمانيين الباب العالي، أي السلطة العليا في الدولة، إذن أبواب الجحيم السلطات الشيطانية التي هي في الجحيم لن تقوى على الكنيسة، نحن في هذا اليوم الذي نُعيد فيه عيد تجديد الكنيسة، وكذلك في الأحد الماضي عيد تقديس الكنيسة، نقول

(                                                                                                     )

ما نقوله معناه: أن من يحاربك أيتها الكنيسة تكبوا فرسه وبالسهم الذي يوجهه عليك يرجع على صدره ويقتله.

حافظت الكنيسة على إيمانها وعلى أبناءها وعلى تقاليدها عبر الأجيال. كم قسا الدهر عليها، الاضطهادات الدموية العشرة قبل مجيء قسطنطين في أوائل القرن الرابع، آلاف مؤلفة من الشهداء استشهدوا في سبيل التمسك بإيمان المسيح ابن الله الوحيد الإيمان الذي أعلنه بطرس، بدع وهرطقات عديدة من أيام الرسل ظهرت في الكنيسة، ولكن بولس يقول انبذوا الخبيث من بينكم حرمته الكنيسة طردته  والعديد حتى اليوم بتسمياتهم تسميات شتى  يدعون أنهم كنيسة وهم ضد الكنيسة، لأن إيمانهم ليس إيمان بطرس ليس إيمان المسيح يسوع ابن الله الحي، يعتبرونه نبي من الأنبياء، وهو رب الأنبياء وخالق الكون ومبدعه، وقد أعطانا تعاليمه حتى نحافظ عليها وأبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة، وتبقى الكنيسة محافظة على تعاليمها مضحية بأولادها الذين يقتدون بالفادي الذي ضحى بنفسه وصلب على الصليب وفدانا بدمه، لتبقى كنيسته إلى الأبد.

 نسمي اليوم  تجديد الكنيسة وهذه نعمة عظيمة لنا، بولس يقول أنتم هياكل الله، وروح الله حال فيكم، ومار افرام يقول عن كل واحد منا أنه نحن كنيسة، ونقدم ذبائح التسبيح بألسنتنا وفكرنا متمسكين بإيماننا، لذلك عندما نخطئ أعطانا الرب نعمة عظيمة أن نتوب، عهده معنا إذا حدنا عن العهد في تجديد الكنيسة، عهدنا مع الله، هذه الغاية من تجديد الكنيسة، تقديس الكنيسة نعود إلى حالة البر حالة التوبة حالة العودة إلى الله، لكي لا نخسر التبني، لئلا نخسر أن نكون أبناء الله بالنعمة، هذا اليوم فرصة لنجدد العهد مع الله أن نكون مرضيين لديه لنكون كنيسة مقدسة الحالة التي أتمناها لي ولكم، آمين.

 


تجديـــد البيـــعة (9)

 

الكنيسة المقدسة أيها الأحباء في هذا اليوم الأحد والأحد الذي سبقه الأحد الماضي، احتفلت وتحتفل بذكري تأسيسها وما ندعوه تقديسها وتجديدها وما في ذلك من معاني سامية، وفي هذه الذكرى نرى أن الرب يسوع أعلن نفسه جهراً على أنه ابن الله الوحيد وليس هذا فقط، أعلن قداسة الكنيسة وتجديد العهد مع الإنسان، ولذلك دُعي الأحد الماضي أحد تقديس الكنيسة وهذا الأحد أحد تجديد الكنيسة. الإنجيل المقدس الذي تُلي على مسامعكم بالمناسبتين يُظهر لنا أن اعتراف هامة الرسل بطرس بالمسيح يسوع أنه ابن الله الحي، فبعد سنتين ونصف السنة لبدء التدبير الإلهي العلني بالجسد سمعنا الرب يسوع وكان مع تلاميذه في قيصرية فيلبس التي هي بانياس السورية، سمعناه يسأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني أنا ابن الإنسان؟»، كانت المدة كافية ليفهم الناس من هو هذا الذي خرج كما ظنوا من الناصرة، هذا الذي عُرف بعدئذ إنه قد ولد بأعجوبة في بيت لحم أفراته، كانت هذه المدة كافية ليعرفوا قوته الإلهية، وقد جال في الأرض يصنع خيراً كما قيل عنه الكتاب، عجباً هل هذا إنسان، وهو يدعو نفسه ابن الإنسان ابن البشر، هل هذا يسمو عن الإنسان فمن هو؟ يسأل التلاميذ: «ماذا يقول الناس عني إني أنا؟».

قالوا: قوماً يقولون يوحنا المعمدان، آخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء قد قام، وانتم من تقولون عني إني أنا، هامة الرسل بطرس يجيبه قائلاً: «أنت المسيح ابن الله الحي»، يقول له الرب: «إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»، أنت بطرس (بيتر) وعلى هذه الصخرة (بترا) أبني كنيستي، وبالسريانية أنت كيفو أو كيفا وعلى هذه الشوعو الصخرة أبني كنيستي، لم يبنِ المسيح على شخص بطرس ولا على شخص أي إنسان، فالإنسان مائت، والإنسان متقلب، الإنسان ليس ثابتاً، ولكن بناها على صخرة الإيمان، ماذا كان الإيمان؟ الإيمان الذي أعلنه بطرس القائل: «أنت المسيح ابن الله الحي»، هذه العبارة تشمل وتلخص كل قانون الإيمان، فإذا آمنا أن المسيح وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هو ابن الله الحي، يعني ذلك إننا آمنا بالثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس.

كان الآخرون قد أعلنوا هذا، بل قد أعلنته السماء أيضاً عندما أعتمد الرب اقتبل العماد وهو يصلي، انشقت السماء جاء صوت الآب عندما نزل الروح القدس بشبه حمامة على هامة الرب يسوع بعد عماده مباشرة، وجاء صوت الآب: «هذا هو أبني الحبيب الذي به سُررتُ»، ثانية في جبل التجلي نسمع صوت الآب يقول: «هذا هو أبني الحبيب الذي به سُررتُ له أسمعوا»، أعلن أنه هو الشريعة هو الناموس، علينا أن لا نسمع لغيره، فهو الله وابن الله له أسمعوا، بهذا الإعلان أيها الأحباء نعلم أن الرب يسوع وبشهادة السماء هو ابن الله الحي، ولكن عندما أعلن هذه الحقيقة الإلهية هامة الرسل بطرس إجابة لسؤال الرب يسوع «ماذا يقول الناس عني إني أنا؟». في هذه العبارة قال الرب يسوع: «إن لحماً ودماً لم يُعلنا لك ذلك لكن أبي الذي في السموات»، أصبحت هذه العبارة أساساً للكنيسة وأعتُبر أن الإيمان بالمسيح ابن الله الحي خلاصة وملخص لكل إيماننا في الكنيسة وفي ابن الله وهو مؤسس الكنيسة وهو رب الكنيسة والذي جعلها ملكوت الله على الأرض.

يقول له أنت بطرس، أنت كيفا وعلى هذه الصخرة، صخرة الإيمان أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، الأبواب هنا أيها الأحباء السلطات، نأخذ هذا التعبير حتى في الأمور البشرية، أيام العثمانيين كانوا يسمون الباب العالي، يعني السلطة العليا بالدولة، فأبواب الجحيم هي سلطة إبليس العليا لن تقوى على الكنيسة، كم قسا الدهر عليها، كم ثارت الأمم ضد المؤمنين بالرب يسوع الذين هم الكنيسة، ولكن لم يستطع إبليس ولا جند إبليس، ولا من يتجند من الناس لإبليس، ولم تستطع الهرطقات والبدع أن تفسد تعاليم الرب يسوع، لم تستطع أن تزعزع أركان هذه الكنيسة التي هي عريس الرب يسوع، التي قدسها، التي فداها بدمه الكريم وجدد معها العهد.

الكنيسة كان قد أسسها الرب يسوع منذ البدء، حتى بالنسبة إلى هندستها إلى شكلها إلى الأقسام الضرورية الرئيسية فيها، من قدس الأقداس إلى الهيكل إلى المذبح إلى فناء الكنيسة، حتى هذه الأمور كان الرب قد هندسها وأظهر شكلها في السماء، ولذلك عندما دعا موسى وقال له ان يصنع خيمة الاجتماع أو قبة الزمان كما رأى ذلك في الجبل، فالكنيسة كانت منذ ذلك الحين قد هندسها الرب يسوع وأعطانا شكلها أيضاً لتكون بيت الرب ولتكون هيكله وتكون أيضا ملكوت الله على الأرض تهيئ المؤمنين ليكونوا أعضاء فيها وتكون أرواحهم أيضاَ تبني ملكوت الله في السماء لذلك ثبتت الكنيسة وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وبقيت سليمة ، صحيحة بتعليمها وتحمّل أبناؤها العذابات فمن لم يستشهد أُعتبر معترفاَ تحمل الاضطهادات في سبيل التمسك بهذا الإيمان وأخيرا فهذه الكنيسة تبقى ثابتة إلى الأبد هي مقدسة ولكن تتجدد أيضا . تجدد عهد الرب للإنسان بعد أن كانت الكنيسة بأدوارها العديدة بعد أن كان الآباء. بدون كهنوت لا يوجد كنيسة كان كل أب من آباء العهد القديم كان هو كاهن العائلة بعدئذ صار الكهنوت الموسوي أيضا كنيسة وأخيرا كهنوت الرب يسوع عندما أعطى لبطرس أولا هامة الرسل السلطان على ربط الخطايا وحلّها ، ما يربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماء هذه سلطة عظيمة جداً لا نتصور كيف أن الرب أعطاها لبشر، أن يكون لهذا الإنسان سلطة في الأرض السماء، «ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء وما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء»  هذه نعمة عظيمة هي موهبة الكهنوت المقدس . فالكنيسة بكل أدوارها برهنت على أنها انتظرت من يخلصها من خطية آدم الأولى والخطايا أيضا التي يقترفها الإنسان وبذلك يتجدد . في ما تُلي على مسامعكم من قصص آبائنا الرسل في بداية القداس والرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية كيف يعلن تجدد الإنسان ، بولس عندما أعلن الرب يسوع تجدد هكذا الكنيسة تتجدد ، بعد أن كان مضطهداً لأتباع الرب يسوع أصبح مُضطَهداً في سبيل التمسك بهذا الإيمان المقدس وبهذا يكون الإنسان جديداً ، بهذا يتجدد العهد مع الله وقيل في الأنبياء أيضا كيف أن الله يجدد عهده مع الإنسان في أيامه الأخيرة بعد أن نال الإنسان الفداء بدم ربنا يسوع المسيح كيف يتجدد الإنسان ويصبح مع الله بعد أن يكون أحياناً عديدة قد حاد عن الحق فنحن في تقديس الكنيسة نقدس نفوسنا ونتوب عن خطايانا لأننا أعضاء في الكنيسة المقدسة ونحن في تجديد الكنيسة نعتبر أنفسنا كنائس وهياكل للرب والرسول بولس يقولها بكل وضوح أنتم هياكل الله والله حالّ فيكم . فكل واحد منا هو هيكل لله ودائما نطلب من الرب أن يحل في قلوبنا يختار اصغر شيء لنا فينا كبشر ويحل فيها ونجدد العهد مع الرب كلما شعرنا أننا قد ابتعدنا عن إلهنا باقترافنا الخطايا والذنوب والآثام . فرسالة اليوم أحبائي أن نجدد عهدنا مع الرب أن نتوب إليه أن نشعر بأننا أعضاء في كنيسته المقدسة ونقدس أنفسنا بهذا نكون قد احتفلنا حقا بتقديس الكنيسة وتجديدها وأصبحنا للرب بعهد جديد حيث نحفظ شريعته بقلوبنا وضمائرنا فلا نحتاج حتى إلى شريعة موسى السابقة وشريعة الآباء الفطرية إذ أن المسيح إلهنا وهو مخلصنا وهو شريعتنا وهو الذي يحفظنا ويصوننا من الخطية ويؤهلنا ونحن في ملكوته على الأرض أن نكون مرشحين أيضا لملكوته السماوي لنرث معه إلى الأبد بنعمته آمين.

 


بشارة زكريا الكاهن

بشارة زكريا الكاهن

 

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (1)

 

«لا تخف يا زكريّا لأن طلبتك  قد سُمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا. ويكون لك فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته. لأنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب. ومن بطن أمّه يمتلئ من الروح القدس»

      (لوقا 1: 13- 15)

 

كانت المواعيد الإلهيّة التي دوّنها الأنبياء قد شارفت على التّمام، وكان الزّمن الماضي مع العهد القديم قد دنا انتهاؤه كليّاً ليبدأ العهد الجديد، عهد النّعمة والرحمة والعزاء. وكانت السّماء قد أغلقت أبوابها عن الأرض، فلم ينزل الوحي على أحد مدّة طويلة من الزمن وصمتت. وفجأة وفي الهيكل العظيم، وفي جزء مهم وقف جبرائيل الملاك أحد رؤساء الملائكة، الذي تفسير اسمه (جبّار الله). وقف عن يمين مذبح البخور ليخاطب كاهناً شيخاً جليلاً هو زكريّا، من فرقة أبيّا وقد كانت نوبة خدمته في الهيكل. ارتعب زكريّا عند رؤيته الملاك، ولكن الملاك هدّأ من روعه قائلاً: لا تخف يا زكريّا، وبشّره أن طلبته قد سُمعَت وأن صلاته قد استُجيبَت، ونعلم موضوع الصّلاة من كلام الملاك: أن أليصابات امرأة زكريا، العجوز العاقر ستحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه يوحنّا، أي الحنان والرّحمة لأن عهد الرّحمة قد ابتدأ. ويقول له أيضاً: أن هذا سيبهج قلبه وإن ولادته ستفرح الكثيرين، بل أيضاً إن المولودـ –أي يوحنا- يكون عظيماً أمام الرب، وعظمته أنه سيكون كوالديه كما وصفهما البشير لوقا: أنهما كانا بارَّين متمسكّين بوصايا الله وأحكامه، أي فرائضه، فلا يكفينا أن ندّعي أننا نطبّق أوامر ربّنا ونتمسّك بكل وصاياه، ونترك الفرائض، أي الطقوس الكنسيّة التي فُرضَت علينا من صوم وصلاة وتقديم الصدَقَات، فلا خلاص لنا بالوصايا فقط ما لم تُكمَّل بفرائض، ولذلك يصفهما البشير لوقا بأنهما كانا بارَّين يتمسّكان بوصايا الله وأحكامه أي فرائضه. كذلك يوحنا جاءت عظمته ليس فقط من تمسّكه بوصايا الرب وأحكامه، بل أيضاً كونه خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ بالروح القدس وهو في بطن أمّه ومكمّلاً مشيئة هذا الروح.

زكريا وهو يسمع هذا الكلام من فم الملاك جبرائيل يرتعد ويرتبك، بل أيضاً يشك قليلاً وهو يتساءل عن إمكانيّة حبل أليصابات وهي شيخة طاعنة في السن، كما أنها كانت عاقراً أيضاً، وعن نفسه أيضاً وقد طعن بالسن. كاهن يعرف النّاموس والشّريعة، كاهن يستحق أن يقف أمام الله ويرفع البخور، ومع البخور تصعد صّلوات القديسين أمام منبر الرب، كما جاء في سفر الرؤيا. كاهن يشكّ في إمكانيّة حبل زوجته الشّيخة وهو يعلم ما يعلم في العهد القديم عن النسوة العاقرات الطّاعنات بالسن اللواتي حبلن وولدن أبناءً كان لهم دور في عمل الفداء، بل كان بعضهم من أجداد ربّنا يسوع المسيح بالجسد. هذا الكاهن يُحكَم عليه بالصمت من قِبل الملاك جبرائيل وألاّ ينطق حتّى يتمّ ما قاله له جبرائيل الملاك. لأنّه شك بصدق بشارة الملاك له. ويخرج الكاهن خارجاً والشّعب ينتظر ظنّاً منه أن الكاهن قد هلك في مذبح الرب وهيكله، لأنه كان قد فُرِض على الكهنة في العهد القديم أن يكونوا أنقياء أتقياء خاصةً عندما يدخلون إلى هيكل الرب لأنهم يخدمون الله الذي هو النار الإلهية زلوا زلة بسيطة يعاقبون عقاباً صارماً ويهلكون، لذلك ظنّ الشعب أن زكريا قد تأخّر في المذبح إذ أصابه ما أصابه من الهلاك، ولكن زكريا خرج وهو صامت يشير إليهم أنه قد رأى رؤية سماويّة، ويذهب إلى بيته ويعرف زوجته أليصابات معرفة زواج فتحبل وتمجّد الله بتواضعها، فلا تظهر نفسها خمسة أشهر للناس، وفي الشهر السادس جاءت العذراء وزارتها فأُعلِن حبلها للناس، وكان في ذلك سرٌّ أيضاً، لأنه لو علم هيرودس بحبل أليصابات لانتظر المولود وقتله حالاً ظناً منه أنه هو ماسيّا المنتظر. وكلٌّ منّا لو عاش في ذلك الزّمان وقرأ النبوّات وانتظر المسيح ليأتي ويخلّص العالم، وسمع ما جرى لزكريا في المذبح مع الملاك جبرائيل، لظنّ أن يوحنا هو ماسيّا المنتظر وجبرائيل خاصةً يُعرَف لدينا نحن المسيحيين أنه هو ملاك العهد الجديد، ملاك بشارة العذراء، فقبل ذلك بخمسمائة سنة وقف في بابل أمام النبي دانيال ليحدد له السنين التي يجب أن ينتظرها الشّعب ليرى المخلص آتياً، وذلك في نبوّة الأسابيع السبعين وأتى ليبشّر زكريا بميلاد السّابق للمسيح، المبشِّر بالمسيح المخلِّص الذي سيعد كما قال الملاك، يُعِدّ الشّعب لاستقبال المسيح، ولكن يوحنا نراه بعدئذ بعظمته أمام الله، أن عظمته تظهر بتواضعه، فهو يعرف حدّه أنه السّابق وليس الآتي وبصدق شهادته، وصار كارزاً وشاهداً عن المسيح أنه أقدم منه وأن يوحنا لا يستحق أن ينحني ويحل سير حذائه، وأن المسيح هو المخلِّص وأن يوحنّا هو صوت صارخٍ في البرية: أعدّوا طريق الرب، اجعلوا سبله مستقيمة.

زكريا انتظر، والشعب انتظر معه. هل عندما نأتي إلى هيكل الرب نسمع الوعظ، وقد تطول بنا مدّة الوعظ أو عندما نواظب على الصّلاة والمشاركة بالقداس الإلهي أيام الآحاد والأعياد خاصةً، وقد تطول المدّة أيضاً نصبر كما صبر ذلك الشعب لينتظر الفرج من الرب، خاصةً عندما يقدّم الكاهن البخور أو الذبائح، أو عندما يقدّم خبز التّقدمة مرّة في الأسبوع أو يقدّم المحرقات كفّأرةً عن ذلك الشّعب وعلى الشعب أن ينتظر لينال بركة الرب التي تأتي حصيلة تلك الخدمة الطّقسيّة. هل ينتظر الشّعب بصبر وإيمان وبتوق إلى نيل بركة إلهنا كما انتظر ذلك الشعب يوم أبطأ زكريّا خروجه من الهيكل، بل أيضاً ونحن نتأمّل هذه الحادثة نأخذ عبرة من صلاة زكريا وأليصابات كيف أن طلبتهما لم تستَجَب سريعاً ولكنهما كانا مؤمنَين بالرب وكانا بارَّين. بهذه الصّفة صفة البر نرى كيف أنهما كانا قدّيسَين، ولئن كان العقر في تلك الأيّام يعتبر عاراً على المرأة، لأن كل امرأة في بني إسرائيل كانت تتوق وتشتاق وتواظب على الصلاة ليولد منها ماشيحا المنتظر، ولكن أليصابات بإيمانها وزكريا الكاهن بتقديم الصّلاة عنه وعن الشّعب كان خاضعاً لإرادة الله مواصلاً الصلاة إليه تعالى، فسُمعَت طلبته وجاء جبرائيل ليبشره أن أليصابات ستحبل وتلد ابناً وليس ابناً كسائر البنين، بل ابناً له مكانة عظيمة في السّماء، إنه يكون عظيماً أمام الرب وإنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمّه. فما أعظم النعّمة التي نالها زكريا، وما أعظم النعمة التي نالتها أليصابات، وعندما ينال أحدنا نعمةً عليه أن يتواضع أمام الرب لأن النعمة منه تعالى والإنسان مهما حاول أن ينال نعمة بجهده الخاص، نراه بالأخير فاشلاً ما لم يتّكل على الرب.

لنقتدِ بالشيخَين أيّها الأحبّاء في هذا اليوم المبارك الذي هو أحد بشارة زكريا، لنقتدِ ببرّهما وتمسّكهما بوصايا الرب إذا أصابتنا مصيبة أو قد أصبنا بمصيبة، لنصبر مثلهما باتّكالنا على الله وليكن لنا مثل إيمانهما المتين الثّخين. ليكون هذا الإيمان كفيلاً لاستجابة صلواتنا ولرضى الرب عنّا ونَيل بركة المسيح التي هي أعظم بركة للمشاركة في الفداء لخلاص نفوسنا ولخلاص أفراد عائلاتنا ولخلاص أبناء الكنيسة بنعمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح، الذي في مثل هذا اليوم بُشِّر بميلاد كارزه وسابقه يوحنا. لتكن هذه النّعمة شاملةً جميعنا ليستجيب الرب صلواتكم أيّها الأحباء التي تكون في نطاق طلب ملكوت الله وبرّه قبل أي شيء في الحياة لننال بركة الله دائماً أبداً آمين.

 


بشــارة زكـــريا الكـــاهن (2)

 

بنعمة الله أيها الأحبّاء قمنا برسامة ثلاثة رهبان أتقياء، اثنان منهما من خرّيجي كلّيتنا الكهنوتيّة، كليّة مار أفرام السّرياني وواحد من رهبان دير مار كبرئيل في طورعبدين. قمنا برسامتهم كهنةً ليخدموا مذابح الرب ورعايا الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة التي هي أمّنا وأمّهم. وفي هذه المناسبة يطيب لنا أن نهنّئهم بهذه الموهبة السّامية، موهبة الكهنوت المقدس التي نالوها من الرب، الذي يختار كهنته من بين شعبه المبارك ليحملوا نير الكهنوت ويخدموه تعالى في مذابحه المقدّسة. هم من الشّعب وإذ يختارهم الله من بين الشّعب المؤمن كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين ليقدّموا ذبائح غير دمويّة تستمد قوتها وبركتها من ذبيحة المسيح الكفارية، بل أيضاً بالكهنوت بالذات ينالون النّعمة التي نالها تلاميذ الرب بحلّ الخطايا وربطها ليغفروا بقوّة الرب وباسمه ذنوب التائبين العائدين إليه تعالى ليكونوا كهنة على رتبة ملكيصادق كما قيل عن الرب يسوع أنه كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق.

إننا نهنّئ أهلهم وذويهم لأنهم استحقّوا أن يقدّموا لرب كاهناً يذكرهم دائماً على مذبح الرب كلّما أقام الذّبيحة الإلهيّة، ونهنّئ كليّة مار أفرام بشخص مديرها الهمام نيافة أخينا الحبر الجليل المطران مار ديونيسيوس عيسى كوربوز المعاون البطريركي. نهنّئ أساتذتهم جميعاً الذين اهتمّوا بتعليمهم أيضاً ليتخرّجوا رهباناً أتقياء أنقياء ليسيروا في درب الفضيلة، ليتدرّجوا في الحياة الرّهبانيّة، ومنذ اليوم أيضاً في الحياة الكهنوتيّة سائلين الرب الإله أن يعضدهم ليكونوا كهنةً أفاضل، ليتاجروا بالوزنة الإنجيلية التي أخذوها في هذا اليوم المبارك ويكونوا من الرّابحين الصّالحين.

أيّها الأحبّاء:

الكنيسة المقدسة بطقسها تذكر في هذا اليوم بشارة زكريّا الكاهن، وهذا اليوم يعتبر بدايةً لعهد جديد، لأن العهد القديم قد انتهى وكانت السّماء قد أغلقت أبوابها فلم ينزل الوحي طيلة هذه الفترة الزمنية على أحد حتّى نزل الملاك جبرائيل ووقف عن يمين مذبح البخور ليبشِّر زكريا الكاهن، الذي يصفه الإنجيل المقدس وامرأته أليصابات بأنّهما كانا بارَّين أمام الله، مكمِّلّين ناموس الرّب وأحكامه بلا لوم، وعندما يقول ناموس الرب يعني ذلك شريعة إلهنا، أما الأحكام فهي الفرائض التي وُضعَت على الشّعب القديم، كما أنها وُضعَت علينا بصيغة جديدة تناسب العهد الجديد، لا عهد العدالة بل عهد الرّحمة والحنان. جبرائيل الذي يصف نفسه بأنه الواقف أمام الرب، أحد رؤساء الملائكة، جبرائيل جبّار الله الملاك الذي اختصّ بالعهد الجديد. فقبل أن يقف أمام زكريا ليبشّره بولادة ابنه يوحنا، باستجابة طلبته التي كانت ليس فقط لنفسه، بل طلبة الخلاص بمجيء ماشيحا، المسيح المنتظر. وعندما كان يطلب زكريا ذلك وهو العاقر والشّيخ العاجز وامرأته كانت أيضاً عاقرةً، كان يطلب الخلاص للعالم أجمع. فاستجاب الله طلبته كما قال له جبرائيل، بل أيضاً أعطاه نعمة عظيمة أنه بشيخوخته تلد له امرأته الشّيخة الطاعنة بالسن والعاقر، تلد له ابناً يسمّيه يوحنا أي الحنان والعطف والرّحمة. ويصف هذا الابن بأن ولادته تكون سبب بهجة وسرور لوالديه، وليس هذا فقط بل أن الكثيرين سيفرحون بولادته وبأنه يكون بارّاً أمام الرب ويصف سلوكه في الحياة أنه يكون زاهداً، خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الرّوح القدس وهو في بطن أمّه. هذه النعمة العظيمة نالها يوحنا لأن والدَيه كانا بارَّين تقييَّن وهو أيضاً نسج على منوالهما واستحق أن يكون السّابق لينادي كما قال عنه الكتاب المقدّس في النبوّات، ليبشر الشعب بمجيء المسيح، ليهيّئ الطريق أمام ربّه فهو صوت صارخٍ في البريّة أعدّوا طريق الرب واصنعوا سبله مستقيمة.

في يوم بشارة الملاك لزكريّا الكاهن بدأ العهد الجديد. كانت السماء قد صمتت وكان الوحي قد انقطع عن الإنسان أجيالاً عديدة، والإنسان كان متلهّفاً ليرى المخلص الذي وعد به الله بوساطة الأنبياء، فآن الأوان لمجيء مَنْ يهيّئ الطريق أمام المخلّص أوّلاً، وكانت تلك البشارة لزكريا الكاهن البار التقيّ، الكاهن الذي لابدّ أنه درس النبوّات ويعرف التوراة وتاريخ ذلك الشّعب الذي أؤتمن على النبوّات والشريعة وأحكام الرب أي نواميسه جميعاً القضائيّة والطقسيّة والأدبيّة، هذا الكاهن العظيم الذي كان من رتبة أبيّا بحسب تقسيم داود للكهنة إلى أربع وعشرين فرقةً، كان من فرقة أبيّا وامرأته كانت من بنات هرون، مع هذا عندما رأى الملاك في مذبح الرب عن يمين مذبح البخور، وقد دخل زكريا ليعطّر البخور أمام الله ارتعب، ومن لا يرتعب من رؤية الملاك. الملاك طمأنه وهدّأ من روعه، قال له: لا تخف يا زكريا فإن طلبتك قد استجيبَت، زكريا الذي يعرف أن الكثير من العاقرات التقيّات ولدنَ بعد أن تحمّلن عار العُقر لأن بني إسرائيل في القديم وهم ينتظرون ماسيّا كانت كلّ فتاة تصلّي إلى الرب ليولد ماسيّا منها وكانت المرأة العاقر تُعَد غضباً عليها من الرب، وكانت تصلي لأن يزيل الرب عنها هذا العار، لكن في الوقت نفسه أيّها الأحباء عندما يصف البشير لوقا زكريا وأليصابات بأنهما كانا بارَّين نتعلّم درساً نفيساً أنه إذا أُصيب إنسان بتجربة ما، يجب ألاّ نظنّ أن هذا الإنسان قد غضب الله عليه بل علينا أن نؤمن أن إصابة أي إنسان بتجربة إن كان بارّاً تقيّاً يكون ذلك لمحبة الله له لكي يُظهر فضيلته. هكذا كان الحال مع زكريا وأليصابات. أليصابات عندما عاد زكريّا إلى بيته وهو صامت لأن الملاك حكم عليه بأن يكون صامتاً إلى أن يتم ما قاله الملاك، أي إلى أن يولد يوحنّا المعمدان. زكريا عندما كان مرتعباً في المذبح ثم آمن بقول الملاك، ولكن الشعب ظنّ بأن ملاك الرب ضرب زكريا، هذا ما يدلّ على عظمة الكهنوت لأن الرب قد أوصى في القديم موسى وعندما انتخب هرون، أن الكهنة يجب أن يكونوا أنقياء طاهرين لأنهم يخدمون مذبح الرّب، وفي العهد القديم عندما يدخل الكاهن ليقوم بخدمة ما، إمّا تبديل الخبز أسبوعيّاً خبز التّقدمة يسمّونه أو للتبخير في هيكل البخور أو عندما يقدّموا الذبائح إذا ما صمت الكاهن يُظَن أن ملاك الرب قد ضربه، لذلك كانت أجراس في بدلة الكاهن في حلّته الكهنوتيّة تُسمَع الشعب أصواتها والكاهن يخدم في المذبح. إذا كانوا وهم ينصتون إلى صوت الأجراس لا يسمعون ذلك الصّوت تبدأ الشكوك تساورهم: لعلّ الكاهن أخطأ وعوقب حالاً. هكذا كان الوضع مع زكريا، ولكن عندما خرج من مذبح الرب وكان صامتاً والشّعب ينتظر، لم يكن الشّعب حينذاك لجوجاً مثل الشعب في أيامنا هذه يضجر من الوعظ، يضجر من طول الصلاة ويريد أن يغادر حالاً بل كانوا ينتظرون ما ترسله لهم السّماء من رسائل، خاصة وقد انقطع الوحي حينذاك مدّة طويلة. خرج زكريا صامتاً فعلموا انه قد رأى رؤيا، لم يتكلّم، ذهب إلى بيته وعرف امرأته أليصابات معرفة زواج فحبلت في شيخوختها وهي العاقر، هي أيضاً تمجيداً للرب لم تعلم أحداً مدّة خمسة أشهر. في الشّهر السادس عندما زارتها العذراء مريم حينذاك أعلنت السّر ومجدت الله الذي أزال العار عنها، والذي منحها نعمة عظيمة أن تلد طفلاً وليس كبقيّة الأطفال، هذا الطفل قد امتلأ من الروح القدس وهو جنين في بطن أمّه، وارتكض عندما جاءه المسيح الإله المتجسِّد وهو في أحشاء العذراء مريم، سجد له، ارتكض، ابتهج فنالت نعمة عظيمة تلك المرأة الشّيخة لأن العذراء مريم باركتها وهي تحمل الرب يسوع في أحشائها.

دروس نفيسة نتعلّمها من هذا:

أوّلاً: ألاّ نحكم على النّاس إذا أصيبوا بمصيبة، فالحكم هذا باطل، وهو من باب لا تدينوا لئلا تدانوا.

ثانياً: أن ننتظر أحكام الرب وأن نكمّل الشرائع والأحكام أي الفرائض من صوم وصلاة وتوزيع الصّدقات مثلما كان يفعل زكريّا وأليصابات وأن نصطبر إذا أصابتنا مصيبة كما اصطبر الشيخ الكاهن البار زكريا وامرأته البارّة أليصابات لنرى أن عناية الرب تشملنا ورعايته ليست بعيدة عنّا إن كنّا متمسّكين بشرائعه.

جعل الرب هذا اليوم المبارك سبب نعمة لكم بالرب. آمين.

 


بشــارة زكـــريا الكـــاهن (3)

 

«لا تخف يا زكريّا لأن طلبتك قد سُمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا… لأنه يكون عظيماً أمام الرب، وخمراً ومسكراُ لا يشرب… أنا جبرائيل الواقف قدام اللّه وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا»

      (لو 1: 13 ـ 19)

 

كان الزمان قد آن لإتمام النبوات التي قيلت على لسان الأنبياء منذ أجيال سحيقة عن مجيء ماشيحا المخلص المنتظر، ليفدي البشرية. وكانت السّماء قبل خمسمائة سنة من ذلك التاريخ قد أرسلت الملاك جبرائيل أحد رؤساء الملائكة إلى بابل، إلى دانيال النبي، الذي كان يواظب في عداد المسبيين هناك على الصلاة ليل نهار. وكان ثلاث مرات في اليوم يفتح شبّاك داره وكانت وجهتُهُ أورشليم المدينة المقدسة وهو يسأل الرب الإله بانتحاب وحزن وكآبة وتوبة ودموع سخينة لينهي فترة سبي شعبه وليعيد الشعب إلى أرضه. ولكن اللّه استجابه لا بعودة قومه إلى وطنه، بل بعودة الإنسان إلى وطنه الأول، إلى فردوس النعيم بعد أن تُغفَر خطاياه. لذلك حدّد له أيضاً موعد مجيء المخلص الموعود به ماشيحا المسيح المنتظر لكي يقوم بعمل الفداء، فيتبرّر الإنسان من خطاياه الجدّية والشخصيّة وأن يتقدّس، بل أن يصير ابناً للّه بالنعمة. كان ذلك عندما وقف جبرائيل ذاته أمام دانيال ليحدّد له بالأسابيع السبعين المدّة التي بقيت لإتمام وعد اللّه بإرسال المخلص.

منذ ذلك الحين أغلقت السماء أبوابها ولم ترسل ملاكاً آخر إلى الأرض، ولئن ظهر بعض الأنبياء كملاخي النبي مثلاً الذي أوحي إليه ليتكلّم ويكلّم الشّعب ويعلن نبوّته عن مجيء يوحنا المعمدان، الذي سمّاه (الملاك) الذي يهيّئ الطريق أمام الرب، ولكن لم ترسل السماء ملاكاً آخر في تلك الفترة الزمنيّة ليبلغ رسالة من السماء لأحد الأنبياء. وآن الأوان والهيكل قد شُيِّد والكهنة يمارسون وظائفهم من ذبائح حيوانية ومن تقدمات لخبز التقدمة الذي كانوا يغيّرونه كل أسبوع، ولا يحق أكله إلا للكهنة ومن تقديم البخور في مذبح البخور، البخور الذي يرمز بارتفاعه إلى الفضاء إلى صعود صلوات القديسين إلى السماء لتبلغ عرش اللّه تعالى.

كان داود النبي قد قسّم الكهنة إلى أربع وعشرين فرقة، كل فرقة تخدم الكهنوت في الهيكل مدّة محددة، وكان في ملء الزمان قد جاء دور فرقة أبيّا لتخدم الكهنوت مدة أيام الأسبوع. وضربوا قرعة بين كهنة تلك الفرقة ليميّز من بينهم مَنْ سيقدّم البخور، وهذه خدمة كهنوتية سامية ووقعت القرعة على زكريا ذلك الكاهن الشيخ، فدخل إلى مذبح البخور. كان الكاهن عندما يقدّم البخور يقف وراء ستار ثخين جداً ونفيس جداً فلا يراه الشعب، ولكن عندما كان يوقد البخور كان الشّعب يتنسّم رائحته ويراه دخاناً صاعداً إلى السماء، فيقدم صلواته حتى بحسب عقيدته تصعد مع البخور إلى السماء. دخل زكريا إلى مذبح البخور. كانت المبخرة مطليّة بالذهب وكانت النار فيها مشتعلة ويضع فيها البخور رمزاً إلى ما كان قد فعله هرون بأمر الرب عندما أخطأ الشعب، وبلّغ موسى هرون أمر الرب أن يأخذ المجمرة، ويوقد البخور ويبخّر الشعب ليزول عنه وباء الموت. لم يكن لشعب العهد القديم في تلك الأيام مذبح للبخور قبل بناء هيكل سليمان، لذلك كانت المجمرة التي يوضع فيها البخور يأخذها الكاهن بيده ويبخّر الشعب الذي غضب اللّه عليه وبدأ يهلك الواحد بعد الآخر. فبأمر اللّه عندما تنسّم الشّعب رائحة البخور، تطهّر وزال غضب اللّه عنه. عندما بُني الهيكل كان مذبح البخور جزءاً مهمّاً جدّاً منه ويقع إلى جانب مذبح تقدمة الخبز الأسبوعي وملاصقاً لقدس الأقداس ولئن كان مفصولاً عنه ولكن عندما توقد البخور يدخل الدخان إلى قدس الأقداس ويصعد إلى العلاء.

دخل زكريا أمام مذبح البخور وعندما قدّم البخور ارتعب حيث رأى ملاكاً عن يمين مذبح البخور، فارتعدت فرائصه. من لا يرتعب وهو يدخل مذبح الرب وهيكله وهو لوحده لا يُرى حتى من الشعب كما قلنا، لأن الستار الذي يفصله عن الشعب كان ثخيناً جدّاً. من لا يرتعب وهو يقرأ في الكتاب المقدس عن ظهور ملائكة عاقبوا بعض الناس الخطاة بالهلاك. ولذلك كان الكاهن عندما يمارس خدمته الكهنوتية في الهيكل يرتدي حلّته الحبروية التي يعلق في حواشيها السفلى أجراس صغيرة لكي إذا ما تحرّك الكاهن يُسمَع صوت الأجراس وإذا لم يُسمَع صوت الأجراس يعني ذلك أن الكاهن قد أهلكه الملاك في المذبح لأنه قد أخطأ. من هنا جاءت العادة أن نرتّل الترانيم الروحية بمناسبة طقس تقديس البيعة، ونقول «إن اللّه دعا موسى من العليقة قائلاً له: كن لي وكيلاً على خيمة الاجتماع وما فيها، وقم بالخدمات الكهنوتية. كما يقول له أيضاً ادعُ الكهنة ليدخلوا إلى قدس الأقداس، وقل لهم أن يغسلوا أيديهم وينقوا قلوبهم وهم داخلون المذبح لأنهم يخدمون النار (الإلهية)».

أجل، ارتعب زكريا وهو يتذكّر كل ما كان يحدث لمن لا يكون من الكهنة نقيّاً طاهراً عندما يدخل مذبح الرب ليقوم بخدمة كهنوتية. ما أعظم الكهنوت!!. وما أعظم مسؤوليّة الكاهن عندما يقف أمام الرب ويمثّل الشعب كله ويطلب المغفرة له وللشعب. لذلك لا نلوم زكريا الذي ارتعب عندما رأى ملاكاً أمامه، ولكن الملاك هدّأ من روعه قائلاً له: لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعَت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسمّيه يوحنا أي الحنان والرحمة، ويقول عن هذا المولود أنه يكون عظيماً أمام اللّه، خمراً ومسكراً لا يشرب ويذكّره بأن له رسالة سامية هي أن يهيّئ الشّعب لتقبّل ماشيحا الذي سيأتي لخلاص البشريّة. زكريّا رغم أنه كان يعرف كل ما حدث في العهد القديم من علامات في ظهور الملائكة، بدءاً من ابراهيم أبي الآباء الذي كانت امرأته سارة عاقراً وبشيخوختها، كانت قد بلغت تقريباً مائة سنة، حبلت وولدت اسحق لأنه هكذا كانت إرادة اللّه، مع هذا شك زكريا: كيف يكون لي هذا وأنا شيخ وأليصابات عبرت في أيامها. شكوكه سبّبت له العقاب، فحكم عليه الملاك أن يبقى صامتاً حتّى يرى بأم عينه الحدث الذي سيتم بميلاد ابنه يوحنا المعمدان. ويقول له الملاك: أنا جبرائيل الواقف أمام اللّه، أُرسلت لأخبرك وأبشّرك بهذا. وحيث أن مدّة وجود زكريا في الهيكل قد طالت، استبطأه الشّعب، خاصةً وأن أجراس حلته الكهنوتية قد صمتت، إذن توقفت حركة زكريا، فهل يا ترى قد ضربه ملاك الرب في الهيكل!؟ واستبطأ الشعب زكريا ولما أتمّ زكريا وضع البخور خرج من الهيكل، فرآه الشعب وفرحوا لأنه كان ما يزال حيّاً. وإذ لم يستطع زكريا أن ينطق ببنت شفة أي بكلمة واحدة، أشار إليهم بأنه قد رأى رؤيا في الهيكل. لوقا البشير كان طبيباً وكان منطقيّاً عندما دوّن هذه الحوادث وقد اتّبع التسلسل المنطقي في سردها، فهو يذكّرنا بأمور نحن بأمسّ الحاجة إلى معرفتها فيقول عن زكريا أنه أتمّ نوبته بإيمانه أن ما سيحدث سيحدث طالما الملاك بشّره به، فأتمّ نوبته أي خدمته في مدّة ثمانية أيام ثم ذهب إلى بيته، وعرف امرأته معرفة زواج فحبلت وبقيت مختفيةً مدّة خمسة أشهر، وفي الشهر السادس أُعلن حبلها، لأن الملاك جبرائيل نفسه عندما بشَّر العذراء مريم قال لها: هذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً أي أليصابات. ليس عند اللّه أمر عسير، لأن اللّه عندما يريد أن يحدث شيء، يحدث وهو خالقنا وهو رازقنا وهو المعتني بنا ومجيب طلباتنا وصلواتنا.

بعد أن حبلت أليصابات ولتواضعها أخفت ذلك عن الناس خمسة أشهر وزارتها العذراء مريم في الشهر السادس، كان الملاك جبرائيل قد قال لزكريا عن يوحنا أنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه، وقد ظهرت مفاعيل الروح القدس إتماماً لقول الملاك عندما زارت العذراء مريم أليصابات. يوحنا وهو جنين ابن خمسة أشهر وبدأ بالسادس ارتكض في أحشاء أمه. أليصابات باركت العذراء مريم وهنّأتها بقولها: «عندما وقع صوت سلامكِ في أذنَيّ»، قالت أليصابات للعذراء «ارتكض الجنين بابتهاج في بطني فطوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب». هذه الأمور النبوية تحثّنا دائماً على التأمّل بالكتاب المقدس والحوادث التي جرت للقديسين والقديسات لكي نؤمن بأن اللّه وراء كل أمر يحدث لنا وخاصةً كل شيء يثبِّت إيماننا به تعالى. عندما نقرأ الإنجيل المقدس وخاصةً نقرأ هذه القصص التي نراها بسيطة، علينا أن نتصوّر ما جرى لهؤلاء الأنبياء المختارين من الرب لإتمام مشيئته على الأرض، كيف كانت هذه الأمور، مقبولة لدى هؤلاء المؤمنين الذين يلهجون بناموسه ليل نهار، ونقتدي بهم. إذا كان الملاك قد بشّر زكريا فكل واحد منّا له ملاك، له ملاك يحرسه وله ملاك يلهمه لعمل الخير والابتعاد عن الشر. فلننصت إلى ملاكنا ولئن كنا لا نراه بعيوننا البشرية المجرَّدة ولكن بإيماننا يجب أن نشعر بوجوده حيث يوحي لنا أن الرب هو معنا.

أحبائي: الدرس الذي نتعلّمه من حادثة بشارة الملاك لزكريا عن حبل اليصابات وولادتها يوحنا ما قاله الإنجيل المقدس عن زكريا وأليصابات، كانا بارَّين يقول الكتاب المقدس، وكانا مكمّلين شريعة اللّه وأحكامه، أي ليس فقط مثلاً أن يكمل الإنسان من بني إسرائيل الوصايا العشر بل هناك أحكام، هناك فروض، من الفروض التي يجب أن نمارسها، أن نصوم وأن نصلي، وأن نقدّم الصدقات، وأن نساعد الناس، هذه فروض لا بدّ أن نقوم بها أمام اللّه لكي نكون بارِّين مثل زكريا وأليصابات. وأمر آخر عندما نصاب ببلية ـ لا سمح اللّه ـ أن نصطبر ونتحمّلها ونطلب من اللّه ولئن تأخرت الإجابة، ولا نُستجاب لأن عدم استجابة اللّه لنا بسرعة هي الاستجابة، أن نطلب من اللّه أن يستجيبنا ونصلي ونصلي ونصلي، لا نملّ أبداً أن نقتدي بزكريا وأليصابات حيث أنهما تحمّلا عار العقر الذي كان يعد في أيامهما عقاباً من اللّه، ولكن اللّه نظر إلى إيمانهما وصبرهما وبرّهما فكانا بارّين فاستجاب لهما في الوقت الذي شاء اللّه أن تكون الاستجابة. فالرب هو الذي يرحم، الرب هو الذي يلهم، الرب هو الذي يحتّم ويعيّن الوقت الذي تُستجاب فيه صلواتنا بشفاعة زكريا وأليصابات وجميع القديسين. ليعطنا الرب أن نكمّل شرائعه الأدبية وفرائضه تعالى، لنكون مقبولين لديه تعالى وليستجيب طلباتنا التي تؤول إلى خلاص نفوسنا ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 

 

بشــارة زكـــريا الكـــاهن (4)

 

«لا تخف يا زكريا لأنَّ طلبتكَ قد سُمعت وامرأتكَ إليصابات ستلدُ لكَ إبناً وتسميهِ يوحنا،  ويكونُ لكَ فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادتهِ، لأنهُ يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومُسكراً لا يشرب، ومن بطن أمهِ يمتلىء من الروح القدس»

     ( لوقا 1: 13- 16)

 

كانت السماء لأجيال عديدة قد صمتت ولم تعطي رسالة ما لبني البشر حتى الأتقياء وعندما جاء ملئ الزمان وآن الأوان أن تتم النبوات وتكمل أرسل الملاك جبرائيل إلى هيكل الرب، إلى كاهنٍ أسمه زكريا كان قد دخل الهيكل إذ كانت القرعة قد سقطت عليه ليبخر، عندما دخل إلى مذبح البخور، ومذبح البخور كان ملاصقاً لقد الأقداس لم يدخل إلى قدس الأقداس كما قال بعضهم! لنه لم يكن رئيس كهنة وكان فقط رئيس الكهنة مرة في السنة يدخل إلى قدس الأقداس، لكن حق له أن يضع البخور في مذبح البخور ومذبح البخور كان مطلياً بالذهب وكانت النار مشتعلة فيه وعندما يضع الكاهن البخور كانت الرائحة تصعد إلى السماء وأيضاً تتعدى المذبح إلى قدس الأقداس والبحور عندما يعطر مذبح الرب ويصعد إلى السماء كان الشعب بحسب العقيدة في العهد القديم يؤمن أن صلاته تصعد مع البخور إلى أمام الرب. هذا أمر مهم جداً فجاءت البراهين أن الرب يريد البخور عندما مثلاً عم الوباء على بني إسرائيل للخطايا التي اقترفوها أمر وناب عنه موسى الرب أمر موسى ليأمر أخاه هارون ليضع البخور ويعطر الشعب ليزول عنه ذلك الوباء، إذاً نحن الذين ورثنا هذه الطقوس عن العهد القديم ليس عبثاً نستعمل البخور نؤمن أن الله بوساطة الكهنة يعطبنا المغفرة والبركة عندما يعطرنا الكهنة بهذا البخور.

نعم كانت السماء قد صمتت وعندما آن الأوان ليبدأ عهد الرحمة عهد التجسد الإلهي ظهر الملاك جبرائيل الملاك جبرائيل ندعوه ملاك العهد الجديد حتى في الماضي كان هو الذي يبشر لمجيء ماشيحا المسيح يسوع لخلاص العالم ظهر الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور وكان زكريا في الهيكل زكريا كان كاهناً من فرقة آبيا كما يقول الإنجيل المقدس، فداود كان قد وزع الكهنة إلى أربع وعشرين فرقا هذا زكريا كان من فرقة آبيا وعادتاً تلقى القرعة عندما يأتي دور تلك الفرقة من الأربعة والعشرين تلقى القرعة بين الكهنة، ففي ذلك اليوم وقعت القرعة على زكريا الكاهن ليدخل إلى مذبح البخور ويعطر، فعندما دخل زكريا فوجئ برؤية الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور فرتعب لأن كثيراً ما كان الملائكة يظهرون لمعاقبة الكاهن الذي كان قد أذنب لذلك كان الكهنة بحلتهم الكهنوتية يضعون أجراساً في أسفل الحلة وعندما يدخل إلى المذبح ويتحرك تقرع الأجراس فيعلم الشعب أن الكاهن لازال حياً وإذا سقطت الأجراس فهذا يعني أن ملاك الرب قد عاقبه لأنه ليس بريئاً ولأنه ليس باراً ولأنه تجرئ أن يدخل مذبح الرب وهو غير طاهراً كثيراً كان يصنع هذا الشيء لذلك موسى أوصاهم أنه أيها الكهنة قبل أن تدخلوا المذبح طهروا أنفسكم ونقوا أفكاركم وقلوبكم ودخلوا المذبح وأيلا فعقاب ذلك صارم جداً وكان إذا ما الملاك ضرب كاهناً وآماته وصمتت الأجراس كان على الشعب أن يسحب جثة هذا الكاهن خارجاً لألا يتنجس هذا الشعب.

زكريا كان طاعناً في السن وعندما رأى الملاك عن يمين مذبح البخور أرتعب فخاطبه الملاك قائلاً: «لا تخف يا زكريا إن طلبتك قد سمعت وامرأتك إليصابات تلد لك أبناً تسميه يوحنا (الحنان والرحمة لأن عهد الحنان والرحمة كان قد بدأ في تلك الحادثة) تسميه يوحنا هذا يكون سبب بهجةٍ لك ولكثيرٍ من الشعب ويكون عظيماً أمام الرب (العظمة أين تظهر؟) إن خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه» لو 1: 13-16

حديث جرى بين زكريا وبين الملاك، قال له الملاك بعد أن رأى أن زكريا قد شك بالكلام: «أنك تبقى صامتاً حتى يكون ما أقوله لك، أنا جبرائيل الواقف أمام الرب» (لو 1: 19-20) الملاك جبرائيل نفسه عرف بنفسه وكان على زكريا أن يؤمن ولا عن قال لجبرائيل كيف هذا أنا شيخ وامرأتي إليصابات قد ذهبت أيامها، كان عمر إليصابات آن ذك مئة سنة كيف يكون هذا ؟ كان على زكريا أن يؤمن بقول الملاك لأنه درس الكتاب المقدس والنبوات وعرف أن العديد من النسوة القديسات قد ولدن وكن عاقرات وبشيخوختهن، كان عليه أن يذكر هذا الشيء ويؤمن ولذلك عوقب بأن يبقى صامتاً حتى يتم ما قال عنه الملاك.

الشعب قد تعب والأجراس قد وقفت في حلة هذا الكاهن وانتظروا ماذا جرى وإذا بالكاهن يخرج خارجاً صامتاً ويشير إلى الشعب بأنه قد رأى رؤية ويذهب إلى بيته ويعرف زوجته معرفة زواجٍ، وتحمل إليصابات تلك العجوز الطاعنة بالسن وبقيت ستة أشهر مختفية لا تريد أن تظهر ما جرى لها أمام الناس حياءً، وعندما زارتها العذراء مريم حين ذك فقط أرتكض الجنين في أحشاءها مبتهجاً لأنه قد امتلأ من الروح القدس كما قال الملاك، حين ذك فقط ظهرت للناس، والعذراء مريم باركتها.

بهذه البشارة أحبائي بدأ العهد الجديد، سماه يوحنا عهد الرحمة وعهد الحنان وانتهى العهد القديم عهد العدالة والصرامة والعقاب الحاد الذي كان يصاب به مَن يخالف شريعة الله ونهت الأيام أيضاً وجاء يوحنا ليمتلئ من الروح القدس وليهيئ الشعب لقبول الرب يسوع، هذه بشارة زكريا أيها الأحباء.

كانت المرأة العاقر تعد ملعونة من قبل الرب! لأن بني إسرائيل كانوا ينتظرون مجيء المسيح، وكانت كل فتاة تصلي وتتمنى أن يولد منها المسيح، لكن بعد أذن نرى الإنسان الذي آمن بالمسح نال نعمة عظيمة واعتُبِرَ ما يجري للمرأة هو أرادة الرب.

دروس كثيرة نتعلمها من هذه الحادثة : أولاً عندما نرى إنساناً قد جرب من قبل الرب علينا أن لا نشك بصلاحه فإليصابات و زكريا كانا بارين أمام الرب كما يقول الإنجيل المقدس مكملين الشريعة والناموس وكانا عاقرين لكن لم يكن ذلك عقاب بل كان تجربة من الرب ونالا نعمةً عظيمة إذ ولد منهمكا السابق للرب يوحنا لتكن نعمة ربنا يسوع المسيح شاملةً إياكم أحبائي بدعاء زكريا إليصابات ويوحنا، آمين.

 

 


بشــارة زكـــريا الكـــاهن (5)

 

«لا تخف يا زكريا لأنَّ طلبتكَ قد سُمعت وامرأتكَ إليصابات ستلدُ لكَ إبناً وتسميهِ يوحنا،  ويكونُ لكَ فرحٌ وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادتهِ، لأنهُ يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومُسكراً لا يشرب، ومن بطن أمهِ يمتلىء من الروح القدس»

     ( لوقا 1: 13- 16)

 

كانَ الأوان قد آن لتَتِمَّ النبوة عن مجيء السيد المسيح التي أعلنها الملاك جبرائيل قبلَ ذلك الموعد بما يُقارب الخمسمئة سنة، في الأسابيع السبعين التي ذُكرَت بوضوح وحدَّدَت الموعد.

كانت السماء قد صمتَت عن إعلان أيِّ نبوَّةٍ بعدما أعلنَ جبرائيلُ هذهِ النبوة للنبي دانيال يومَ كان هذا النبي العظيم في عِدادِ المَسبيِّينَ في بابل وكان يومياً ثلاث مرات يفتحُ كُوَّةً في دارهِ متَّجهةً نحوَ أورشليم، نحو هيكل سليمان وهو ينتحب ويبكي أمام الله ليُعيد الشعبَ إلى أرضِه ويُنهي ذلك السَبي القاسي، فجاء جبرائيل إلى دانيال وأعلن لهُ عن الأسابيع السبعين التي في تلكَ المدة يكون الله قد أنهى سَبي بني إسرائيل ويعودونَ إلى ديارهم، كان شوقُ دانيال وتَوقهُ أن تُقدَّم الذبائح وأن يكونَ تسبيح الرب في هيكلهِ وكانَ أيضاً في الوقتِ نفسهِ يتوقُ أن يرى الخلاص لبَني إسرائيل وللعالم أجمع.

مرَّت الدهور وعبرت الأجيال وجاء الموعد، الأسابيع السبعون التي هي خمسمئة سنة من ذلك الموعد فيظهر جبرائيل بعدَ أن صَمَتت السماء عن إخبارِها للأرض بأيَّةِ نبوَّةٍ في هذهِ الفترة إلا بوجود مالاخي أحد الأنبياء الصغار الذي أعلن عن مجيء يوحنا الكارز المُبشِّر الذي يُهيِّىء طريق الرب أمامهُ، الذي قيل عنهُ صوتُ صارخٍ في البرية، الذي كان نداؤهُ عن مجيء الرب فيُهيِّىءُ ذلك الشعب لقبول هذهِ النعمة الإلهية، الخلاص الذي يأتي بواسطة مشيحا المسيح المُنتظَر، فقط هذهِ النبوة ظهرت مدة الخمسين سنة من عهد دانيال وإلى مجيء زكريا، مَن هو زكريا ؟

 زكريا كان كاهناً فاضلاً، كانت زوجتهُ أليصابات عاقراً وكان يُصلي ليلاً ونهاراً ليُزيل عنهُ هذا العار كما كان يُعتبر عندَ بني إسرائيل، وكان من نوبة أبيَّا، ففي أيامِ داود وزَّعَ داود هذا الشعب الذي كانَ يخدمهُ الكهنة إلى أربعة وعشرين فرقة، إحدى الفِرق كانت فرقة أبيَّا وكان زكريا واحد من أولئكَ الكهنة في فرقة أبيَّا، جاءت نوبتهُ مع فرقتهِ في خدمة الهيكل، وأُلقيَت القرعة في يوم تقديم البخور فوقعت على زكريا.

مذبح البخور كان قريباً من مذبحِ تقديم الخبز، حيث كان أسبوعياً يُغيَّر خبز التقدمة ولا يحق إلا للكهنة أن يأكلوا ذلك الخبز، ومذبح البخور كان قريباً من هذا المذبح، كان الكاهن عندما يدخل إلى مذبح البخور بينهُ وبين الشعب ستارٌ ثخينٌ وجميلٌ وغالي الثمن، الشعب لا يراه إنما يشعر بوجودهِ لأنهُ كان يتحلى بثياب الكهنوت وكان في أسفل بدلة الكهنوت أجراس، فإذا كان الكاهن حياً تُقرعُ هذهِ الأجراس أما إذا ضُرِبَ الكاهن لأنهُ لم يكُن طاهراً نقيَّاً ودخل هيكل الرب يكون الملاك قد ضربهُ فتسقط الأجراس حينذاك يعرف الشعب – قلنا أنَّ الستار لا يسمح للشعب أن يرى الكاهن –  أن الرب قد ضربَ ذلك الكاهن لأنهُ لم يكن مستعداً لخدمةٍ كهنوتية نقيَّة، زكريا دخل إلى هيكل البخور وعطَّرَ البخور، والبخور  وُجِدت علامة لصعود صلوات عبيد الرب إلى منبرهِ المقدس، وأخذت المسيحية أيضاً عادة تقديم البخور، ونقصد بذلك عندما عمَّ وباءٌ على بني إسرائيل أمر الله موسى أن يوصي هارون أن يأخذ المَبخرة ويضع البخور ويُعطِّر ذلك الشعب ليزول عنهُ الوباء، أحياناً أحبائي البخور في الكنيسة أغلب المؤمنين لا يعرفون ما هو وما معناه، إنهُ يحمل روح الصلوات والطلبات إلى الله، ولذلك نعمة عظيمة أنَّ آباءنا– ربما بعضنا يفهم هذا الشيء- عندما يُبخِّر الكاهن يُحاولون أن يأخدوا شيئاً من البخور بيدهِم ليُعطِّروا أنفسهم ليزول عنهم الوباء، لِتحُل عليهم النعمة لتصعد صلاتهم مع هذا البخور إلى السماء.

 دخل زكريا لِيُعطِّر البخور وظهرت رائحة البخور للشعب ولم يرى الشعب زكريا كالعادة لأن الستار يحجبهُ عنهم، ثم رأى زكريا ملاك الرب جبرائيل عن يمين هيكل البخور، خاف.. مَن منا لا يخاف  عندما يرى ملاكاً فجأةً، فهدَّأ الملاك من رَوعهِ قائلاً لهُ: لا تخف يا زكريا، إن طلبتك قد سُمعت وامرأتك إليصابات هذه العاقر ستلد لكَ إبناً  تسميهِ يوحنا، يوحنا معناهُ الحنان  والرحمة لأنهُ بهِ بدأ عهدُ الرحمة، بهِ انتهى العهدُ القديم عهد العدالة، العين بالعين والسن بالسن وبدأ العهد الجديد عهد الرحمة عهدُ الحنان.

 هذا يكون عظيماً، ما سرُّ عَظَمتهِ ؟

يكون عظيماً خمراً ومُسكراً لا يشرب، هذهِ إحدى أسرار عَظَمة يوحنا أنهُ خمراً ومسكراً لا يشرب، ثانياً ويمتلىء من الروح القدس وهو في بطن أمهِ ثالثاً يبتهجُ بهِ يوحنا وكثيرون أيضاً سيبتهجونَ بميلادهِ، يوحنا هذا البشير الذي هيَّأ طريق الرب قال لهم أنهُ يأتي بروح إيليا بغيرتهُ ويُهيِّىء الطريق أمام الناس لكي يُؤمنوا بمسيا المُنتظر، الرب يسوع، يوحنا بأعجوبةٍ طبعاً، أمهُ كانت عاقراً لكن زكريا وهو كاهن ويعرف الكتاب المقدس ويعرف النبوات لا نعرف لماذا في تلك الساعة استغرب جداً، أنا شيخٌ وامرأتي عبرت أيامها فكيف يكون لي هذا، لم يذكر أن سارة زوجة ابراهيم كان عمرها مئة سنة عندما حبلت وولدت بعدئذٍ بإسحق.

 هكذا نرى أن النعمة الإلهية عندما تحلُّ على الإنسان ينال هذا الإنسان بركة عظيمة من الرب، فصارهذا النسل الذي هو نسل ابراهيم نسل البَركة ونسل الموعد وهي كانت عاقر وكانت طاعنة في السن.

جبرائيل يُذكِّر زكريا بكل ذلك ويحكم عليهِ بأن يكون صامتاً لأنهُ لم يُصدِّق من أول لحظة ما بشرهُ بهِ الملاك، يقول لوقا أنهُ بعدَ أن انتهت نوبتهُ ذهبَ إلى بيتهِ وعرفَ امرأتهُ إليصابات معرفة زواج فحبلت إليصابات، ولِخجَلها اختفت عن الناس لم تُظهر نفسها للناس خمسة شهور وفي الشهر السادس أُعلِنت هذه البشارة عندما ظهر جبرائيل للعذراء مريم يُبشِّرها  ويذكر لها أنها ستحبلُ وتلدُ إبناً تدعوهُ يسوع عمانوئيل ولكي يُثبِّت إيمانها قال لها الملاك جبرائيل هذا الشهر السادس لإليصابات التي تُدعى عاقراً، حينذاك أُعلنت هذهِ البشارة عن الحَبَل بيوحنا، عن حَبَل إليصابات بهذا الإبن العظيم وبعدئذٍ نرى لوقا أيضاً يُبشِّرنا كيفَ أنَّ العذراء مريم ذهبت إلى الجبال وزارت إليصابات وكيف أنها بقيت عندها بعض الوقت ثم عادت عندما آن الأوان لولادَت يوحنا.

أيها الأحباء الكتاب المقدس مليء بالعظات، بالعِبَر، بالإرشاد، بالنُصح بتقوية إيمان الإنسان بوجود الله بالعناية الإلهية بكل فرد من أفراد الناس حتى عندما نرى امرأة عاقر نتألم خاصة إذا كنا في عهد بني إسرائيل لأنهم كانوا يعتبرون أن مجيء المسيح هو النعمة العظيمة التي ستحل على البشرية وخاصة على الذين سيكون لهم علاقة في ولادة المسيح يسوع ولذلك نرى في هذهِ الحادثة كيف أن الله اعتنى بهذَين البارَّين، كُتِبَ عنهما عن زكريا وإليصابات أنهما كانا بارَّين يتمسَّكان بوصايا الرب ليس هذا فقط حتى في أحكامهِ ومعنى الأحكام هو الفروض، هذهِ عِبرة لنا ألا نتمسَّك فقط بشريعة الرب الإلهية بحسب الوصايا التي أُعطيت لنا بل أيضاً الفروض التي فُرضت علينا من صوم وصلاة وتقديم الصدقات، هذهِ الفروض أيضاً علينا أن نتمسك بها «أحكام الله» يقول عنها الإنجيل المقدس التي كانت تُمارس من إليصابات ومن زكريا الكاهن، وعندما نرى أيضاً أُناساً قد أُصيبوا بمصيبةٍ مؤلمة وبنعمةٍ لم ينالوها، علينا أن ننتظر ونرى أحكام الله وقضاءهُ وكل ما يريدهُ الله، هذا الشيء نراهُ لدى الله بعنايتهِ في الإنسان وعلينا أيضاً أن نصبِر كما جرى مع زكريا وإليصابات لأن الله رحيمٌ يعتني بكلِّ إنسان ولا ينسى أحد أبداً.

هذهِ الحِكَم أيها الأحباء تُقوي في قلوبنا الإيمان بأن الله لابدَّ أن يكون مع الصديقين والأبرار وإن ظهروا للناس كأنهم في شقاء وكأنهم في آلام لكن أحكام الله لا يدركها الإنسان أبداً.

وصلاتنا إلى الله أنهُ كما استجابَ إليصابات وزكريا الكاهن كذلك يستجيب كل مؤمن ومؤمنة لكي يُزيل عنهم العار والخطية ويزيل عنهم أيضاً كل الشدائد، بالصبرِ يستطيع الإنسان أن يكتسب حياة البر وينال ما يريدهُ الله أن ينالهُ من نِعمة عظيمة.

ليستجيب الرب طلباتكم بشفاعة إليصابات وزكريا الكاهن وجميع الأبرار والقديسين آمين.

 


بشارة العذراء مريم

بشارة العذراء مريم

 

بشـارة العــذراء مـريــم (1)

 

«فدخل إليها الملاك وقال لها: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء. لا تخافـي يا مريم، إنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعَى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»

        (لو 1 : 28-33)

 

كلّكم أيها الأحبّاء ترددون ما تعلمتموه من أمهاتكم ومن الكنيسة، ترددون السلام الملائكي، تحيّون به العذراء مريم ولكن ليس الجميع يعلمون أن ذلك السلام الملائكي إنما اقتبسته الكنيسة المقدسة مما فاه به الملاك جبرائيل وهو يبلغ رسالة السماء للعذراء مريم، وأضافت الكنيسة أقوالاً نبوية إلهية قالتها أليصابات أيضاً للعذراء مريم، وتطلّعت الكنيسة إلى العذراء فرأتها شفيعة لها لأنها استحقّت أن تكون والدة لله، لذلك تتشفّع بها وتطلب معونتها خاصة في ساعة فراق الإنسان المؤمن لهذه الحياة.

السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، ما أسمى هذا السلام في زمن كان الخصام فيه، شديداً جداً ما بين الإنسان والإنسان وبين الأرض والسماء. الله كان قد أعلن أن روحه لا تحل على ذي بشر لأن الإنسان نجس، ولكن في الوقت نفسه الله الذي يبغض الخطية لا يبغض الإنسان الخاطئ لأنه هكذا أحب الله العالم (الله يحب العالم)، ولئن كان العالم خاطئاً حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية كما يقول الإنجيل المقدس. فإذا أحب العالم يحبه ككل، الخطاة والأبرار معاً، السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب لذلك إذ ابتعد الإنسان عن الله بارتكابه الخطية الجدية أصبح وهو بعيد عن الله يتطلّع إلى رحمة الرب والرب برحمته أعطاه المواعيد أن سينال الخلاص والمواعيد كثيرة، بدءاً من سقطة الإنسان، والمواعيد كلّها تعلن لنا أن امرأة ستلد ابناً، نسلها يسحق رأس الحية الدهرية أي إبليس، والمرأة يوضّحها لنا إشعياء في القرن السابع قبل الميلاد تكون عذراء وتمّت الأيام، قرائن الزمان والمكان تدلّنا على أن نبوءة النبي دانيال قد آن أوان إتمامها. كان هناك ملاك قد أعلن لدانيال وحدد المدة التي يكون فيها الخلاص قبل خمسة قرون من مجيء المسيح، الناس ينتظرون ذلك الموعد بالذات وجبرائيل هو الذي أعلن ذلك لدانيال، وجبرائيل (جبّار الله) هذا معنى اسمه كأني به قد نال نعمة من الرب فاختصّ بحوادث العهد الجديد فبشّر دانيال بقرب مجيء المخلّص فقط خمسة قرون، والزمن لا شيء بالنسبة إلى الله، وعندما آن الأوان رأينا جبرائيل يبشّر زكريا بميلاد يوحنا السابق للمسيح، وبعد ستة أشهر أُرسل إلى مدينة بسيطة إلى الناصرة التي قيل عنها في تلك الأيام: «أمن الناصرة يخرج شيئاً صالحاً»، إلى بيت بسيط، إلى بيت يوسف النجار خطيب العذراء مريم، إلى عذراء بسيطة فقيرة يتيمة التي كانت سليلة الكهنة والملوك والأنبياء، قد اختارها الله لتكون والدةً لابنه الحبيب، لتلده بالجسد بطهرها ونقائها وروح الله الذي لا يحل على إنسان بحسب قول الرب في العهد القديم لأن الإنسان نجس. الروح القدس تهيأ ليحل على العذراء، سلام أُعطي لها، خافت: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً، تقول لجبرائيل، ويعلن لها جبرائيل الحقيقة الإلهية: الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العلي تظللك لذلك أيضاً فالقدوس المولود منكِ يدعى ابن الله. آباؤنا ملافنة الكنيسة العظام يقفون عند هذه الحقيقة بتعجب، ولكن الروح يلهمهم فنسمع يعقوب السروجي مثلاً يقول: إن الملاك أرسل من الآب ليبشّر العذراء، وإنّ الروح القدس نقّاها: (دخيذ ومرقذ كن آجن بذ) نقّاها وطهّرها ثم حلّ بها. يعني ذلك أن الروح الذي لا يحل على ذي بشر لأنه نجس قد حلّ على العذراء بعد أن نقّاها من الخطيئة الأصلية، والعذراء ولدت كسائر الناس تحت حكم الخطية الجديّة، ولكن عندما آن الأوان ليحل في أحشائها نار اللاهوت نقّاها الروح القدس وطهّرها وأهّلها لكي يحل نار اللاهوت في أحشائها كما حلّت النار في العوسجة التي ظهرت لموسى، فظهرت ملتهبة ولكن لم تحرقها، فاستحقت العذراء بعد أن قالت للملاك ها أنا أمة للرب ليكن لي كقولك، استحقت أن تكون والدة الله وأم الرب كما دعتها أليصابات، استحقت هذه النعمة العظيمة التي هي مسؤولية كبيرة أيضاً وتحمّلت في سبيل قبولها هذه النعمة الآلام والأوجاع والمشقّات والعذاب كما يتحمّل الصدِّيقون والأبرار في هذه الحياة التي لم يعدنا الرب أن نكون في سعادة دنيوية فيها، بل أعدّ لنا السعادة في السماء. فاستحقت العذراء ذلك واستحقّت أن يطوّبها كل من يؤمن بابنها الحبيب لأنها تنبّأت أيضاً عن نفسها: هوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم، وأعظم أعجوبة لها وفيها ومن أجلها أنها وهي بشر حملت نار اللاهوت وولدت ابن الله، الذي دعاه الملاك قدوساً وابن العلي يُدعى، والذي أعطي مُلك داود أبيه، وهو يملك على بيت يعقوب إلى الأبد وليس لمُلكه انقضاء.

في هذا اليوم أحبائي إذ تذكر الكنيسة بشارة الملاك للعذراء مريم بالحبل بالرب يسوع مهيّئة عقولنا وقلوبنا قبل أن نعيّد عيد ميلاد ربنا لنتقبّل هذه الحقيقة بإيمان لنطوّب العذراء مريم، لنعطيها السلام مكررين ذلك مع جبرائيل الملاك: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، مبارك ثمرة بطنكِ يسوع. ونطلب إليها أيتها القديسة مريم يا والدة الله صلّي لأجلنا نحن الخطاة، الآن وفي ساعة موتنا آمين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

تعيد أيها الأحباء الكنيسة المقدسة بأحد تقديس الكنيسة وباحتفالها هذا تريد أن تؤيد الاعتراف  الذي فاه به الرسول بطرس جواباً لسؤال الرب يسوع لتلاميذه: «ماذا يقول الناس عني إني أنا» (متى 16:16) وتريد الكنيسة أيضاً أن تثبت أنها قد أسست على صخرة الإيمان بالرب يسوع والمسيح يسوع الذي هو رأس الزاوية وهو رأس الكنيسة وهي جسده السري ولذلك هي ثابتة إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. كان قد مرّ على بدء التدبير الإلهي العلني بالجسد مدة سنتين ونصف السنة والناس حيارى يرون شاب الناصرة يجترح الآيات والمعجزات  ويعلم الناس طريق الحياة يلقي عظاته كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين كما كانوا يقولون عنه، ولكن هل هو ماشيحا المسيح المنتظر لقد ارتكبت الأمة اليهودية جريمة كبرى لأنها لم تعرف زمن افتقادها ولم تعرف مسيحها فهلكت إلى الأبد، ولكن المسيح صرّح للعالم بأنه جاء مخلصاً للعالم وها نحن نسمعه يسأل تلاميذه عن رأيهم فيه، ذكروا له أن الناس تظن أنه أحد الأنبياء ولكن ماذا تقولون أنتم عني إني أنا يجيبه بطرس أنت هو المسيح ابن الله الحيّ يقول له يسوع طوبى لك يا سمعان ابن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك ذلك لكن أبي الذي في السموات وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها أسس المسيح كنيسته على المبدأ الإيماني العقيدي السامي أنه هو ابن الله ولذلك لا يمكن أن تتزعزع لأنه وعدها أن يكون معها إلى أبد الدهر وأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.

 


بشـارة العــذراء مـريــم (2)

 

«فدخل إليها الملاك وقال لها: السلام لكِ أيتها المنعم عليها الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء. لا تخافـي يا مريم، إنكِ قد وجدتِ نعمة عند الله وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعَى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»

        (لو 1 : 28-33)

 

أيها الأحباء: الطقس الكنسي في هذا اليوم يذكر بشارة السيدة العذراء بالحَبَل الإلهي، وهذا الأحد ليس هوعيد البشارة بل أحد البشارة، أحد الآحاد التي تسبق عيد الميلاد، والكنيسة عَنَت بذلك أن تُهيِّىء قلوبنا وأفكارنا لتَقَبُّل سر التجسد الإلهي وميلاد الرب يسوع الذي هو الله ظهر بالجسد.

والإنجيل الذي تُليَ على مسامعكم في بدء القداس، الإصحاح الأول من بشارة البشير لوقا فيهِ سمعنا عن الملاك جبرائيل الذي جاء إلى الناصرة إلى مدينة صغيرة واعتُبِرت أيضاً حقيراً بالنسبة إلى ذلك الجيل لأنهم لم يكونوا يتصوَّرون أنَّ هذهِ القرية أو المدينة الصغيرة ستنال شرفاً عظيماً حيث سيولد فيها الرب يسوع أو يتربى وينشأ ويُدعى ناصرياً.

 رأينا جبرائيل الذي ندعوهُ ملاك العهد الجديد بعد أن انقطعت السماء عن إعلان الحقائق الإلهيَّة لأبناء الأرض مدة طويلة، رأيناهُ يأتي إلى بابل حيثُ كان بنو إسرائيل قد سُبوا إلى تلك المدينة العظيمة الشهيرة وكانوا تحت حكمٍ قاسيٍ جداً، كان هناك بين المسبيِّين شخصٌ تقيٌّ يخاف الله يُصلي في اليوم ثلاث مرات يفتح كوَّةَ دارهِ متَّجهة نحو أورشليم ينتحب ويبكي ويطلب من الرب متى ينتهي السبي ويعود الشعب إلى مدينتهِ، إلى هيكلهِ، إلى ذبائحهِ وقرابينهِ، ويأتيهِ الملاك جبرائيل ليُعلن لهُ أنَّ الله قد حتَّمَ ليس فقط بإعادة الشعب إلى مدينته ِبل بإعادة الإنسان إلى وطنهِ الأول إلى فردوس النعيم يُبشِّرهُ بأن المخلص سيأتي، المخلص الذي أُعلِنَ في النبوات وأخبرَ عنهُ الأنبياء بوحيِ السماء، الذي عندما سقطَ الإنسان في الخطيئة جاءهُ الخبرُ من السماء بل أعلنَ الله في تلكَ اللحظات أن نسل المرأة يسحق رأس الحية أي إبليس وهذا النسل لا الأنسال كما يقول الرسول بولس كانَ المسيح بالذات الذي ليسَ إبنَ الإنسان فقط بل وُلدَ من إمرأة بدون زرعِ رجل.

جبرائيل يُعلن هذهِ الحقيقة في إشعياء أنَّ هذهِ المرأة هي بتول، فيُعلن إشعياء نبوةً عظيمة قبلَ أن يأتي جبرائيل إلى دانيال ويقول: «هوذا العذراء تحبل وتلدُ إبناً وتدعوهُ عمانوئيل الذي تفسيرهُ الله معنا».

أما جبرائيل عندما أتى إلى بابل أعلن للنبي دانيال عن مجيء مسيَّا المسيح المخلِّص وحدَّدَ لهُ الوقت والزمان بمدة خمسمئة عام منذُ ذلك التاريخ، النبوة التي ندعمها نبوة الأسابيع السبعين، سبعون أسبوعاً قُضيت على مدينتكَ وعلى شعبكَ.

يُعلن ذلك ليضع جبرائيل دانيال موضع نبوة عظيمة وأمل ورجاء ثابت لهذهِ الأسابيع السبعين لأنَّ الإنسان كان قد ظنَّ أن الزمان قد طال، أينَ هو مسيَّا، أينَ هو المسيح، أينَ هو المخلِّص، والإنسان يرزح تحتَ ثقل خطاياهُ وأثامهُ يومياً، يوماً بعدَ يوم تزيد هذهِ الآثام.

ومضت الدهور إثرَ الدهور والإنسان بانتظار وأُعلنت هذهِ النبوة وعرفَ بها كل إنسان، أولاً النبوة التي أعلنها إشعياء عن العذراء التي تلد، ثانياً نبوة المدة الزمنية عن الأسابيع السبعين، ثم امتنعت السماء عن الكلام مع الأرض رغم أننا نحنُ رأينا النبوات عبر الدهور والأجيال تظهر للإنسان وتقوي الرجاء في قلبهِ.

أخيراً نرى جبرائيل الذي سمَّيناهُ ملاك العهد الجديد ملاك التجسُّد بعدَ أن يُعلن تلك الحقيقة عندما آن الأوان وتقريباً تمَّت الأسابيع السبعون يقف كما قلنا أيضاً في الأحد الماضي عن يمين هيكل البخور ليُبشِّر زكريا بولادة يوحنا السابق للرب يسوع الذي أُظهِر بغيرة إيليا ليُبشر الشعب ويُعيدهُ إلى الله قبل مجيء المسيَّا.

بعدئذٍ أيها الأحباء نرى جبرائيل في بيتٍ بسيط كما يقول طقسنا السرياني أنَّ هذهِ العذراء كانت تصلي، كانت مخطوبة لرجل إسمهُ يوسف، العذراء بخلاف ما يقول بعضهم لم تكن قد نذرت البتولية لأنهُ لم يكن في ذلك الزمان نذور كهذه وكانت كل فتاة في إسرائيل تتمنى أن تتزوج وتتمنى أن يولد منها المخلِّص الذي يُخلِّص العالم لذلك لم يكن هناك نذور بتولية أبداً، العذراء كانت ربيبة الهيكل، هي من نسل داود حسب النبوات أيضاً وكان خطيبها أيضاً من نسل داود وكانت العادة في تلك الأيام أن الفتاة اليتيمة الكهنة يتبنوها وعندما يحين وقت زواجها هم يهتمون بذلك، وألقوا قرعة بين أولئك الأقرباء الذين يحق لهم أن يتزوجوا هذهِ الفتاة فكانت من نصيب يوسف.

هل كان يوسف أرملاً .. هل كان بتولاً ؟ كل هذا لا يُوضَّح إنما يوسف اختيرَ من الله أن يكون خطيباً للعذراء مريم وكان لابد أن يكون خطيب لها لكي يصون هذهِ العذراء من الناس الظالمين الذين بعدئذٍ عندما ولدت الرب يسوع اتَّهموها أيضاً إتهاماً باطلاً، لذلك أيها الأحباء يوسف كان حارساً لبتولية العذراء، والعذراء عندما بشرها الملاك أعطاها السلام، حيَّاها: السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمةً الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، خافت العذراء مريم من ظهور الملاك، لا تخافي يا مريم قال لها الملاك إنكِ ستحبلين وتلدينَ إبناً وتُسمينهُ يسوع هذا يكون عظيماً وابن العليّ يُدعى ويُعطيهِ الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على آلِ يعقوب إلى الأبد ولا يكون لمُلكهِ إنقضاء.

العذراء تسأل السؤال، كيفَ يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ فيشرح لها: الروح القدس يحُلُّ عليكِ وقوة العليّ تُظلِّلُكِ لذلك فالقدوس المولود منكِ يُدعى إبن الله، حالاً العذراء قالت: ليكن لي كقولك.

كل نعمة ننالها من ربنا إذا لم نقبلها بإرادتنا لا نستحقها فتزول عنا، فلو لم تكن العذراء مريم بإرادتها وتقول بكل وضوح أنها قبلت بهذا الأمر ليكن لي كقولك لَما كان سرُّ التجسد من العذراء.

طبعاً سنرى في الآحاد القادمة عن شكوك يوسف ونرى أيضاً بعدئذٍ عن ميلاد الرب يسوع السر العظيم سر التجسد الإلهي، عن الرب الذي ظهرَ حقاً بالجسد وهو الله ، نرى كل ذلك ونؤمن مع العذراء مريم ونؤمن أنها كانت تحفظ الكلام بقلبها لأنها كانت في صلاة مستمرة مع الله.

 هذهِ هي العذراء مريم التي تعلَّمنا من الملاك أن نُعطيها الطوبى وهيَ نفسها قالت بعدَ ذلك هوذا منذ الآن تُعطيني الطوبى جميع الأجيال لأنَّ القدير صنعَ بي عَظائم واسمهُ قدوس ورحمتهُ إلى جيل الأجيال للذين يتَّقونهُ. فنحنُ نُحيِّييها في ختام كل صلاة، نُكرِّرُ السلام الذي قالهُ لها الملاك جبرائيل السلام لكِ يا مريم الممتلئة نعمة الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، وهذهِ العبارة قالتها أيضاً بعدئذٍ إليصابات عندما زارتها العذراء مريم وقالت من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربي إليَّ، أعلنت أنَّ العذراء مريم هي أم الرب بل هي والدة الرب والدة الإله كما قال آباؤنا وعلَّمونا بوحيِ السماء.

فهذا اليوم يوم البشارة أو أحد البشارة الذي يُهيِّىءُ عقولنا جميعاً لتقبُّل سر التجسد الإلهي، هذهِ العقيدة السامية أساس كلِّ العقائد المسيحية.

ليكن هذا اليوم مباركاً عليكم أحبائي ليملأ الرب فيهِ وفي كل يوم قلوبنا بالإيمان بأنَّ الله ظهرَ بالجسد وأنَّ العذراء التي كانت عذراء قبلَ الولادة وفي الولادة وبعدَ الولادة، هذهِ العذراء الممتلئة نعمة هيَ تكون شفيعة لنا في حياتنا وحتى عندَ مماتنا كما نُصلي السلام لكِ يا مريم ونطلب منها أن تكون معنا وتُقوينا في ساعة موتنا ومُغادرتنا هذهِ الحياة في تلكَ الساعة الرهيبة نحتاج إلى مَن يُصلي  لأجلنا ونِعمَ مَن يُصلي لأجلنا هو العذراء مريم.

لِتُبارككم السماء بصلاة العذراء مريم أيها الأحباء وكل عام وأنتم بخير.


زيارة العذراء إلى اليصابات

زيارة العذراء إلى اليصابات

 

زيارة العذراء إلى اليصابات (1)

 

«فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»

     (لوقا 1: 39 – 40)

 

الكنيسة المقدسة أيها الأحباء في هذا اليوم المبارك تذكر في طقسها الكنسي زيارة العذراء لنسيبتها أليصابات، أو كما نلفظ الاسم بالسريانية أليشبع، هذه الزيارة ليست فقط زيارة تاريخيّة مهمّة، بل أيضاً جزء لا يتجزّأ من الحوادث العجيبة التي سبقت ميلاد الفادي. مريم العذراء الفتاة التي بشّرها الملاك بالحبل الإلهي سألت: كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً. ويفسِّر لها الملاك: إن هذا الحبل العجيب هو من الروح القدس وأنه ليس صعباً على الله أن يحدث أمر عجيب كهذا، بل ضرب لها مثلاً نسيبتها أليصابات التي هي الأخرى حُبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشّهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً كما قال الملاك للعذراء مريم. ذهب الملاك وبدأت تفتكر فيما سمعت وتاقت لزيارة نسيبتها لأسباب كثيرة أنكر بعضها بعض المفسِّرين المتطرّفين الذين ظنّوا أنه من العار على العذراء مريم أن تبيح بسرِّها لنسيبتها أليصابات، ولكننا نحن نرى العذراء مريم ولئن حلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقّاها وأهّلها ليحلّ في أحشائها، اللاّهوت بالذات ليجبل من دمائها جسداً للابن الوحيد ليولد إنساناً كاملاً وهو الإله الكامل، ولكننا في الوقت نفسه لا نجرِّد العذراء من إنسانيّتها، فهي فتاة وهي بحاجة ماسّة إلى أم، إلى صدر أم تسند إليه رأسها وتبيح بسرِّها العجيب، فليس لها إلاّ أن تذهب إلى نسيبتها وهي يتيمة الوالدين لتبيح لها بسرِّها وتسمع إلى نصائحها.

في ظرف صعب على الفتاة كهذا الظّرف ذهبت مسرعة إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا يُقال أنها (عين كارم) أو غيرها تبعد مائة كيلومتر عن أورشليم. قضت ساعات وأيّام ووصلت إلى هناك. دخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات. زكريا كان صامتاً لأن الملاك عاقبه لقلّة إيمانه أن يبقى صامتاً حتّى ولادة يوحنا. أليصابات عندما صار صوت سلام العذراء في أذنَيها ارتكض الجنين في أحشائها، وصرخت بصوت عظيم يقول لوقا قائلة للعذراء:مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ. من أين لي هذا. -أي من أين لي هذه النعمة العظيمة والكرامة والاحترام- أن تأتي أم ربي إليَّ. عندما صار صوت سلامكِ في أذنيّ ارتكض الجنين بابتهاج في بطني فطوبى لمن آمنت أن يكون لها ذلك من الله. فما أعظم هذه الكلمات وما أسماها، امرأة طاعنة في السن ولئن كانت امرأة كاهن، ولئن كانت تقرأ الكتاب وتتأمّل في النبوّات، ولكن يستحيل على امرأة أو على إنسان أن ينطق بكلام سماوي كهذا ما لم يكن الروح القدس ينطق فيه، فهذا كلام السماء وعقيدة سمحة أعلنتها أليصابات أن العذراء هي أم الله، فقالت: من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ. وإذا كانت السماء قد أعلنت هذه العقيدة فما علينا إلاّ أن نجثو أمام العزّة الصمدانية ونقبل بهذه الحقائق الإلهية، فالعذراء إذ هي أم الرب، هي أم الله كما قالت أليصابات والعذراء المتواضعة الوديعة القديسة العفيفة الطاهرة امتلأت تواضعاً وهي مملوءة بالروح القدس، فقالت أنشودتها الخالدة التي سبقت فيها أباها داود في كل مزاميره وترانيمه فقالت مريم:تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته –وتنبّأت مريم- فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه. واسترسلت العذراء وهي تذكر كلمات السماء بالذات وقد نطق بها الروح القدس لتعلن أنها ولئن استحقّت بنعمة الرب أن تكون أماً لله، ولكن ذلك قد حصل لها لتواضعها فهي أمة للرب. وبرهنت وهي تلخّص التاريخ المقدس أن الله يرفع الأعزاء عن الكراسي، إن الله يرذل المتكبرين، أن الله يختار المتواضعين ويجلسهم مع عظماء الشّعب. هذه العذراء مريم أيها الأحباء التي أعلنت لنا أيضاً أن الأجيال تطوّبها ونحن نطوّبها وقد اقتبسنا جزءاً من كلمات الملاك إليها وهو يعطيها السلام:السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، وجزءاً من كلمات أليصابات إليها قائلة:مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ، وكمّلنا ذلك لنعطي السلام دائماً للعذراء إتماماً لنبوّتها أن الأجيال تطوّبها.

إن العذراء بزيارتها لأليصابات علّمتنا التواضع وهي تعلم أنها أم الله كما ذكر لها ذلك الملاك أيضاً:إن المولود منها قدوس وابن العليّ يُدعى، وكما أكّدت لها أيضاً بعدئذ أليصابات، ومع هذا جاءت مسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا لتقدّم التهنئة لنسيبتها أليصابات إذ زال العار عنها وعن دارها وإنها حُبلى بابن. كما أننا نتعلّم كيف أن علينا اجتماعياً وإنسانياً قبل أن يكون روحيّاً الاشتراك مع غيرنا بأفراحهم وليس من الهيّن أن يفرح الإنسان مع غيره، قد يكون من الهيّن أن يحزن معه على مصيبة أصابته ولكن الفرح لنجاح الآخرين صعب على الإنسان، إلاّ على الذين هم أبرار وأتقياء ويحبّون الله ويحبّون نجاح الآخرين كالعذراء مريم. ونتعلّم أيضاً كيف أننا بزيارتنا للآخرين علينا أن يكون حديثنا حديث السّماء، الحديث المقدس لكي نهيّئ أنفسنا لينطق الروح القدس فينا، ألم يقل لنا الرب يسوع:حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم، فإذا اجتمعنا باسم الرب يسوع يكون بيننا، ويكون الروح القدس يرشدنا ويعلّمنا ويذكّرهم ويذكّرنا بما قاله المسيح لتلاميذه وبذلك قد قاله لنا أيضاً، فيكون حديثنا حديث السماء ولنحوّل الأرض إلى سماء كما فعلت العذراء ونسيبتها أليصابات. ومكثت العذراء عند أليصابات ثلاثة أشهر ثم عادت إلى دارها.

ليبارككم الرب بدعاء وصلوات أمنا العذراء مريم والقديسة أليصابات لتقتدوا بهما بالطهر والنقاء وتنالوا نِعماً عظيمة كما نالتا لتحوّلوا دوركم العامرة إلى سماء ليكون فيها الروح القدس معلّماً ومرشداً ويكون فيها المسيح رأساً وتكون أحاديثكم لا في اغتياب الناس وثلب سمعتهم ودينونتهم، بل لتمجيد الله القدوس ويبارككم إلهنا آمين.

 


زيارة العذراء إلى اليصابات (2)

 

«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»

         (لو 1: 39-40)

 

يحيا القديسون والأبرار والأتقياء حياة مخافة الله. الحياة التي تملأ قلوبهم فرحاً وبهجةً وسروراً كما يقول صاحب المزامير وهو يصف الصالحين: أن مسرّتهم بالرب وفي ناموس الرب يلهجون ليلاً ونهاراً. هذه هي حياة البر أن التقي يفرح بالله لأنه بسلام معه تعالى وبسلام مع نفسه وبسلام مع الإنسان، ويتزاور القديسون، يزور أحدهم الآخر ويتجاذبون أطراف الحديث، والحديث ذو شجون فتارةً يكون الحديث مفرحاً وتارةً يكون مؤلماً ومحزناً، إنّما ينال القديسون العزاء والبهجة والفرح بوجود الرب يسوع بينهم كوعده الإلهي القائل: إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم.

أيها الأحباء:

تحتفل الكنيسة المقدسة اليوم بذكرى زيارة العذراء مريم لأليصابات. هذه هي إحدى زيارات القديسين للقديسين، هذه الزيارة التاريخية المباركة تعلّمنا دروساً ثمينة ونفيسة، فآباء الكنيسة القديسون عندما وزّعوا فصول الإنجيل المقدس على آحاد ما قبل الميلاد لكي يهيئوا عقولنا وقلوبنا لتقبّل السر الإلهي، سر التجسّد، يذكرون في هذا الأحد زيارة العذراء لأليصابات، العذراء مريم الفتاة التي عرفناها يتيمة فقيرة مسكينة بسيطة ولئن كانت سليلة الملوك والكهنة والأنبياء، الطفلة التي رأيناها في الهيكل مذ كان عمرها ثلاث سنوات، التي تربّت على جداول مياه الله الحيّة ونشأت عفيفة طاهرة قديسة، الفتاة التي اختارها الله لتكون والدةً وأماً لابنه الوحيد. العذراء مريم نذكر كيف أن الملاك جاء يبشّرها، قال لها: أيتها الممتلئة نعمة، الرب معكِ مباركة أنتِ في النساء، إنّك ستحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، وسمعناها تتساءل، لا تحتج: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً، ويجيبها الملاك: الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك فالقدوس المولود منكِ يُدعَى ابن الله، ويأتي ببرهان ليثبّت إيمانها وتصديقها كلامه فيقول لها: هوذا أليصابات نسيبتكِ هي الأخرى حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً  لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله. تتذكّر مريم هذه العبارة أنها قد رضيت بما شاء الله أن ينعم عليها وهي الممتلئة نعمة بقوّة الله وقالت: ها أنا أمة الرب فليكن لي كقولك، ولكنها في الوقت نفسه افتكرت بنسيبتها أليصابات، لابد أن تقوم بزيارة لتلك النسيبة، هذه الزيارة لا لتثبت إيمانها فقط بما قاله الملاك ولكن قد هي قد شعرت بالقوة الإلهية تحل فيها، حيث أن اللاهوت حلّ في أحشائها وناره لم تحرقها، وجَبَل من دمائها جسداً كاملاً، ولكنها أرادت أن تشارك نسيبتها البهجة والفرحة بما أنعم الله عليها هي الأخرى. قال لوقا: قامت في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا، إلى مدينة حبرون وتُدعى اليوم مدينة الخليل، وكانت مّدة السفر في تلك الأيام بين الناصرة وتلك المدينة خمسة أيام سيراً على الأقدام، قطعتها مريم ودخلت بيت زكريا، ذلك البيت المقدس، بيت الكاهن الذي قيل عنه وعن امرأته أليصابات أنهما كانا بارَّين، يتمسّكان بوصايا الله وفرائضه، هذا البيت الذي كانت تفوح منه رائحة القداسة والبر، دخلته العذراء لتباركه، استقبلتها أليصابات ويقول لوقا أنها سلّمت على أليصابات وأليصابات عندما سلّمت العذراء عليها حلّ الروح القدس على اليصابات وصرخت ـ يقول الإنجيلي لوقا ـ  صرخت بصوت  عظيم وقالت للعذراء: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ، هوذا من أن صار صوت سلامك في أذنيَّ ارتكض الجنين في بطني، طوبى للتي آمنت بما قيل لها من قبل الرب. ما أعظم هذا الكلام أيها الأحباء!! امرأة شيخة كانت عاقراً فأنعم الله عليها فحملت في شيخوختها ابناً قيل عنه يوم بشّر الملاك أباه بولادته أنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه كان عمره كجنين ستة أشهر فقط وقد امتلأ من الروح القدس، نبّهه الروح أن والدة الإله مريم التي حملت اللاهوت في أحشائها جاءت إليه فارتكض، لا كما تتحرك الأجنّة في بطون أمهاتهم، ارتكض بابتهاج يقول لوقا، طبعاً لوقا هو موحد لا يمكن أن يذكر أن يذكر عبارة أليصابات ما لم يكن قد استقاها من مصدر موثوق به، قد تكون العذراء مريم بالذات أو من أليصابات التي عندما حلّ عليها الروح قد نطقت بكلام يفوق إدراكها، وهذه تماماً حالة الأنبياء الصادقين الذين قد يعلنون أموراً لا يفهمونها لأنها أعلنت لهم من الله وعليهم أن يبلغوها للشعب، مباركة أنتِ في النساء من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ. إنها أم الرب، ومن لا يعتقد منّا كمسيحيين أن العذراء والدة الإله المتجسِّد وهي أم الله المتجسّد، فإنه ليس بمسيحي فقد أنكر ذلك نسطور فحرمته الكنيسة في مجمع أفسس سنة /431م/ ورفضت آراءه وأعلنت مع أليصابات وبعدئذٍ مع  بطرس والرسل والكنيسة أن المسيح هو ابن الله وأن العذراء مريم هي  أم الرب، أم الله ولذلك نطوّبها، والعذراء مريم وقد سمعت كلاماً عظيماً كهذا ازداد تواضعها فقد تواضعت أوّلاً عندما جاوبت الملاك ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك وقبلت النعمة، والحقيقة الإلهية التي تعلنها الكنيسة أن الله عندما ينعم علينا بمواهب من نِعم سماوية لا نستحقّها ولكن نعمة منه أيضاً أن لا ننال تلك النِعَم ما لم نقبل بها، فالعذراء قبلت هذه النعمة وقالت: ها أنا أمة الرب، وعندما أُعلنت لها الحقيقة التي كانت قد سمعتها من الملاك قالت مريم: «تعظّم نفسي الرب»، هذا النشيد الذي فاق كل الأناشيد التي نظمها داود أبوها: «تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه». ما أسعد الذين يتقون الله، إنهم ينالون رحمته ويبتهجون به دائماً أبداً. زارت العذراء أليصابات نسيبتها، هنّأتها وابتهجت معها وأعطتنا قدوةً لكي نتزاور وبزيارتنا وخلال تلك الزيارة أن يكون حديثنا حديث العذراء وأليصابات لنمتلئ نحن أيضاً فرحاً وسروراً بالرب. إننا بشر ونخطئ كثيراً، كثيراً ما تكون أحاديثنا غير روحية وقد ندين الآخرين وكأننا إن دنّا الآخرين نبرّر أنفسنا، وكثيراً ما تكون أحاديثنا في أباطيل هذه الدنيا ولكننا أيضاً نعود إلى أنفسنا نرى أننا جسد ونرى أننا ضعفاء تجاه الخطية، ولكننا أيضاً نشكر ربنا الذي ينعم علينا بالتوبة.

تعظّم نفسي الرب قالت العذراء مريم، وكثيراً ونحن نصلّي وهذه الصلاة عظيمة ولكننا نطلب من الرب الأمور الدنيوية، قلّما نشكر الرب على ما أنعم علينا روحياً وجسدياً. ألم نقرأ في الإنجيل المقدس عن البرص العشرة الذين طهّرهم الرب وشفاهم وذهبوا وعاد واحد فقط ليشكر الرب وكان هذا الواحد غريباً، لم يكن يهودياً، فقال له الرب: أين التسعة الآخرون؟ فصلاتنا يجب أن تمتلئ بالشكر للرب إلهنا على ما ينعم علينا وعندما يزور بعضنا بعضاً يجب أن تكون هذه الزيارة سبب عزاء للآخرين ونعمة وبركة للدور التي نزورها بهذا فقط نكون قد جعلنا العذراء مريم مثالاً طيّباً وصالحاً لنا. العذراء مريم مكثت مع أليصابات ثلاثة أشهر كما كان تابوت العهد في العهد القديم ويقول الكتاب أن الرب بارك ذلك البيت في العهد القديم. فكم نتوق أيها الأحباء أن تزور العذراء مريم دورنا وتزورها إن كنّا نتشفّع بها، إن كنّا نجتمع باسم ابنها، إن كنّا نجعل همّنا قراءة الإنجيل المقدس والتأمل بسيرة ربنا يوع المسيح وسيرة أمه العذراء مريم والرسل القديسين فرسالة الله لنا في هذا اليوم أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء وبأليصابات لنكون هياكل الروح القدس فننطق بما يوصيه الروح القدس لنا أن نكون كالعذراء وأليصابات بالتواضع، بالعفة، بالنقاء، في هذا فقط ننال بركة المسيح بشفاعة العذراء وأليصابات البركة التي أتمناها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.

 


زيارة العذراء إلى اليصابات (3)

 

«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»

         (لو 1: 39-40)

 

هلمّ أحبائي في هذا اليوم المبارك الذي تذكر فيه الكنيسة المقدسة في طقسها زيارة العذراء مريم لأليصابات نسيبتها. هلمّ معي لنرافق العذراء في زيارتها هذه لننصت جيداً إلى الحديث المقدس الذي دار بينها وبين أليصابات، بين البتول الطاهرة وهي حبلى بالإله المتجسد يسوع المسيح وهي فتاة في الثالة عشر من عمرها، وبين العاقر الطاعنة بالسن وهي حبلى بيوحنا المعمدان، الكارز المبشّر بالمسيح. كانت العذراء في مدينة الناصرة وكان الملاك قد بشّرها بالحبل الإلهي، دعاها ممتلئة نعمة وقال لها أن الروح القدس يحلّ عليها وينقّيها ويطهّرها وأنها ستحبل وتلد ابناً وتدعوه يسوع، كما دعاه هذا الملاك ثانيةً عندما ظهر ليوسف البار وطمأنه عن براءة مريم وطهرها وحقيقة حبلها الإلهي، وقال عن هذا الابن أنه قدوس وابن العلي يدعى. أجل ولئن كان إيمان العذراء مريم ثخيناً، متيناً ولكنها أمام هذه الحقيقة الإلهية، أعجوبة الأعاجيب تسأل الملاك: كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ ويوضّح لها الملاك الحقيقة عن حلول الروح القدس عليها، وفي الوقت نفسه يقول لها: هوذا نسيبتكِ أليصابات هي الأخرى حُبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس للمدعوة عاقراً، لأنه ليس عند الله شيء غير ممكن. هذا المثال الذي أعطاه جبرائيل للعذراء مريم ذكّرها بنسيبتها فأرادت العذراء أن ترى الأعجوبة الثانية والتي ولئن كانت أقل عجباً من أعجوبة حبل العذراء بالرب يسوع دون أن يمسسها رجل، ولكنها أيضاً أعجوبة باهرة أن تحبل العاقر العجوز من زوجها الطاعن بالسن.

يقول لوقا وهو يسرد هذه الحوادث بأسلوب منطقي: أن العذراء قامت مسرعة وذهبت إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا، التي هي مدينة حبرون وتسمّى اليوم الخليل والمسافة ما بينها وبين الناصرة مائة ميل، كانت تُقطَع مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام، قامت العذراء مسرعة من الناصرة متجهة إلى مدينة يهوذا لتعلّمنا أن نسرع دائماً للفرح مع الفرحين، كما يوصينا أيضاً الرسول بولس (رو12: 15). دخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات فامتلأت أليصابات من الروح القدس وقالت للعذراء: حين سقط صوت سلامكِ في أذني ارتكض الجنين في بطني بابتهاج، من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ؟ إنه حديث مقدس بل كان هناك الروح القدس كما يقول لوقا امتلأت من الروح القدس. حينما تسلّم العذراء على أحد لا بد أن يمتلئ هذا الإنسان من الروح القدس لأنها قد نالت نعمة من عند الله، وهي الممتلئة نعمة وكانت قد حملت المسيح يسوع في أحشائها وشعر بذلك يوحنا وهو جنين في بطن أمه. ولا غرو من ذلك فقد قال عنه الملاك عندما بشّر أباه بولادته بأنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه وقد تم ذلك عندما زارت العذراء مريم أليصابات نسيبتها لذلك شعر الجنين يوحنا بوجود الرب يسوع وهو جنين وكأني بالجنين يوحنا جثا وسجد أمام الرب، والروح ألهم تلك الشيخة العاقر لتعلن عقيدة سماوية سمحة هي أن الجنين الذي كان في أحشاء العذراء هو الرب ولذلك دعت العذراء مريم أم الرب قائلة لها: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي وبهذا الصدد قال الرسول بولس بعدئذ: «لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1كو12: 3)، فالروح القدس ألهم تلك الشيخة التي لا يمكن أن تدعو أحداً ربّاً وإلهاً إلا الله، الإله الحقيقي لأنها كانت موحّدة وتعلم أن الله واحد، ولكنها بإلهام الروح القدس عرفت أن الذي حُبِل به في العذراء مريم هو الله بالذات. نحن نعلم أن نار اللاهوت حلّ في أحشاء العذراء مريم وهو الإله المتجسّد، الذي وصفه الرسول بولس قائلاً: الله ظهر بالجسد، لذلك قالت أليصابات: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، وكرّرت ما كان الملاك قد قاله للعذراء مريم عندما أعطاها السلام: مباركة أنتِ في النساء، وأضافت على ذلك: ومباركة ثمرة بطنكِ، ونحن دائماً نكرّر هذا القول، هذا السلام نعطيه للعذراء مريم، ولكننا هل نتذكّر أن السماء أوحت بهذه الكلمات إلى شيخة عاقر كان الله قد أنعم عليها أيضاً لكي تحبل بشيخوختها بالكارز الذي سبق ميلاده ميلاد المسيح بالجسد ليهيّئ الطريق أمام المسيح. ما أجمل أحاديث القديسين. دخلت العذراء بيت زكريا، ذلك البيت ربّما كان بسيطاً ليس كبيوتنا العامرة الفخمة ذات الأثاث الجميلة ولكن ذلك البيت كانت تفوح منه رائحة الفضيلة، رائحة البر والتقوى والقداسة لذلك كان نادراً. سلّمت على أليصابات ولو سلّمت على زكريا لنطق، ولكن العناية الربّانية جعلتها أن تسلّم على أليصابات، صرخت هذه بصوت عظيم معلنة عقيدة السماء. كم نحن بحاجة أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء مريم، أولاً بمحبتها للناس جميعاً، بشعورها بالقيام بواجبها تجاه نسيبتها أليصابات لتفرح معها، من السهل أن نبكي مع الباكين كثيراً والعديد منّا في ظروف مصائب الآخرين يبكي على ما أصابهم من مصائب شخصية عندما نبكي مع الباكين، ولكن ليس من السهل أن نبتهج مع الفرحين لأن أغلب الناس قد امتلأت قلوبهم حسداً من الآخرين، إذا ما نجح إنسان في الحياة يقولون إنه الحظ، لا يقولون أن الله قد أنعم على هذا الإنسان وهو مستحق هذه النعمة لينجح في حياته، لا يقولون أن هذا الإنسان اجتهد وجدّ واهتم ولم يتكاسل والكسل خطيّة، فنال ما نال. أما العذراء مريم ففرحت مع أليصابات وابتهجت معها، فنالت أليصابات نعمة عظيمة عندما سلّمت عليها العذراء إذ حلّ عليها الروح القدس، حينئذٍ قالت مريم: تعظّم نفسي الرب ولم يقل لوقا أن الروح القدس حلّ على مريم كما قال إن الروح القدس حل على أليصابات لأن مريم كانت ممتلئة من نعمة الله، من الروح بالذات، كان الله في أحشائها، فقد اختارها وميزها على نساء العالمين وليظهر للعالم بالجسد وجبل من دمها جسداً كاملاً فظهر إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، لذلك قالت مريم: تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته، فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه.

في هذا اليوم أحبائي ونحن ننصت إلى هذا الحديث المقدس نتخيّل أمامنا تلك الفتاة الصغيرة التي أنعم الله عليها فامتلأت نعمةً وحملت الإله في أحشائها ونتخيّل تلك الشيخة العاقر التي أنعم الله عليها لتحمل الكارز لمجيء الرب، يوحنا المعمدان. ونتخيّل ابن البتول وهو الرب كما أعلنت أليصابات وكارزه نراه وهو قد ابتهج بقدوم سيّده ونعلم أن الإنسان يتكوّن في بطن أمه ويحق له أن يحلّ عليه الروح القدس كما اختير إرميا النبي، وكذلك الرسول بولس وجميع القديسين. فهو إذن إنسان كامل. ونأخذ درساً لا بد أن نذكره دائماً أن على الوالدين أن يحميا الطفل وهو في بطن أمه ذكراً كان أم أنثى، ومن أقدم على الإجهاض يكون قد قتل ولده فهو قاتل، فعلينا أن نعتني بالطفل ونحميه وهو في بطن أمه إن كنّا مسيحيين حقيقيين. وعلينا أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء وأليصابات في زيارتنا بعضنا لبعض لتكون أحاديثنا مقدسة، مباركة، سماوية لتحل علينا نِعم الرب. أسأله تعالى أن يؤهّلنا جميعاً أن نمتلئ من الروح القدس، أن نقوم بواجبنا من كل قلبنا وفكرنا تجاه القريب، أن نهتمّ أيها الأحباء لنجعل دورنا مليئة بالأحاديث الروحية ونحن الذين آمنّا بالمسيح ونؤمن أنه صادق بوعده: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت18: 2)، ليكن المسيح معكم وبينكم وفي دوركم العامرة دائماً أبداً ونعمته تشملكم آمين.

 


زيارة العذراء إلى اليصابات (4)

 

«وقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات»

         (لو 1: 39 و40)

 

يحيا القديسون على الأرض حياة طهر ونقاء، وبهجة روحية وسعادة، ويتزاورون ليتبادلوا الخبرات الروحية، وليشجّع بعضهم بعضاً على تحمّل أعباء الحياة الدنيا ومواصلة الجهاد ضد إبليس وجنده للحفاظ على الشركة مع اللّه تعالى، تلك الشركة المقدسة التي تظهر ثمارها الطيبة بمحبة المؤمنين للّه تعالى التي يبرهن عليها المؤمنون بمحبتهم القريب. كما تعرف هذه الشركة مع اللّه بشركة المؤمنين بعضهم مع بعض على هذه الأرض خاصّة بوحدة الإيمان والتحلّي بالمزايا الصالحة والسيرة الفاضلة. ويتجاذب القديسون أطراف الحديث الروحي، وإذا كان اجتماع المؤمنين الأتقياء باسم الرب يسوع، يكون الرب في وسطهم فقد وعدهم بذلك بقوله: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (مت 18: 20).

أيها الأحباء: يصادف هذا اليوم في الطقس الكنسي أحد زيارة العذراء مريم لنسيبتها أليصابات، ويتناول البشير لوقا في الفصل الأول من بشارته موضوع هذه الزيارة بالتفصيل. فالزائرة هي العذراء مريم، الفتاة التي بشّرها الملاك جبرائيل بالحبل الإلهي، ولمّا استفسرت منه عن كيفيّة ذلك لأنها عذراء ولم تعرف رجلاً، قال لها: «الروح القدس يحلّ عليكِ وقوّة العلي تظللكِ فلذلك أيضاً القدوس المولود منكِ يُدعَى ابن اللّه» (لو1: 35)، ولكي يزيد إيمانها ثباتاً ورسوخاً ذكر لها حدثاً مشابهاً، ولئن كان أقلّ عجباً قائلاً: «وهوذا أليصابات نسيبتكِ هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى اللّه. فقالت مريم هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك» (لو1: 36 ـ 38). أجل إن أموراً عديدة شجّعت العذراء مريم على القيام بزيارة نسيبتها أليصابات. أولها إيمانها بما قاله لها الملاك، فقد شعرت بالحبل الإلهي حالما آمنت بما أعلن لها ورضخت بقولها: «ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك»، وبهذا الصدد يقول أحد آباء الكنيسة على لسان الملاك جبرائيل: لعِل آرفيةؤ وأآدَيكي آشكحةؤ لقد غادرتُه في السماء ووجدتُه عندكِ. وهذا يعني أن الرب حلّ في العذراء حالما رضيَت العذراء بأن تحمل هذه الرسالة السّامية وهي أن يولد المسيح منها بالجسد.

أما في زيارتها أليصابات فقد أرادت أن ترى بأم عينها صحّة خبر الملاك عن حبل أليصابات العجيب في شيخوختها، ولتهنّئها بما أنعم اللّه عليها وتفرح معها، كما أن الصداقة الحقيقية تظهر بمشاركة الصديق صديقه أفراحه وتخفيف المشقّات عنه، وتظهر في مشاركتهم أفراحهم وفي هذه الحالة التجرّد من الأنانية والحسد، ولذلك فالرسول بولس يوصينا قائلاً: «افرحوا كل حين» (1تس5: 16)، «افرحوا في الرب» (في 3 : 1 و 4: 4)، «فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين» (رو 12 : 15). هذه هي القاعدة المسيحية التي عليها تبنى الصداقة النقيّة، إنها مشاركة الأصدقاء أفراحهم وأتراحهم بصدق وإخلاص بودٍّ صافٍ وبمحبة خالصة، لا بنفاق ورياء ودجل كما يفعل أغلب أهل العالم الذين يعلّم بعضهم بعضاً بما يُسمّى فن كسب الأصدقاء والتأثير في الناس. كما أن مريم الفتاة اليتيمة، وهي تمرّ بتجربة الحبل الفائق للطبيعة كانت بحاجة ماسّة إلى أم تسند إلى صدرها رأسها، وتبوح لها بسرها العميق، وقد وجدت هذه الأم بشخص نسيبتها أو خالتها أليصابات، فجاءتها مسرعة بروح الإيمان والرجاء والمحبّة والاتضاع والجرأة والاهتمام بالغير. قامت مريم بسرعة وذهبت إلى الجبال، إلى مدينة يهوذا غير مبالية بمشقّة الطريق، فمدينة يهوذا تبعد عن الناصرة حيث كانت العذراء مريم مسافة نحو مائة ميل كانت تقطع مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام، ومدينة يهوذا هذه على الأرجح هي مدينة حبرون، وهي اليوم مدينة الخليل. وقد تشرّفت أن سكن فيها إبراهيم أبو الآباء مدة طويلة وفيها قبر سارة زوجته.

في بيت زكريا، هذا البيت الكريم المقدّس وقد يكون بيتاً بسيطاً، ولا يكون البيت بيتاً رفيع العماد كريماً مباركاً بأهمية موقعه ونفاسة حجارته أو حسن هندسته ولا بأثاثه بل بسكانه، فبيت زكريا ضمّ زوجَين بارَّين أمام اللّه سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم، كما يشهد الإنجيل المقدس، ففاحت في بيتهما رائحة القداسة، بل صعدت التسابيح للرب ليل نهار.

دخلت العذراء بيت زكريا، وسلّمت على أليصابات. فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: «مباركة أنتِ في النساء ومباركة هي ثمرة بطنكِ، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب»(لو 1: 42 ـ 45). وقد قال بعض المفسِّرين: أنه لو سلّمت العذراء على زكريا لفكّت عقدة لسانه وجاوبها، ولكن إرادة اللّه شاءت أن يتمّ ما حكم به الملاك على زكريا بأن يبقى صامتاً حتّى يرى ميلاد يوحنا، لذلك لم تسلّم العذراء عليه، وسلّمت على أليصابات. ما أعظم تأثير هذا السلام، فعلى إثره امتلأت أليصابات من الروح القدس. هكذا تأتينا البركات الروحية عندما يزورنا الأتقياء ونزورهم ونعاشر الأبرار والقديسين. امتلأت أليصابات من الروح القدس ونالت السلام الروحي والفرح العظيم ووضع الروح على لسانها كلام الملاك للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل الإلهي فكرّرته قائلةً: مباركة أنتِ في النساء، وأضافت عليه كلاماً آخر: ومباركة هي ثمرة بطنكِ، ثم أردفت هذا الكلام بعبارة نبويّة سماوية معترفة بالمسيح الإله قائلةً: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ» (لو1: 43). إن هذا القول خطير جداً لا يمكن أن تقوله أليصابات إلا ويكون الروح القدس الحال فيها قد ألهمها به، ولا يمكن أن يهودياً موحّداً نظير لوقا البشير يلفّقه على لسانها، فهو ما كان ليدوّنه في بشارته ما لم يكن قد سمعه من مصدر موثوق به قد تكون العذراء ذاتها أو أليصابات ذاتها. إن هذه الشيخة أليصابات كانت زوجة كاهن جليل وهي موحِّدة، ولكن الروح قد أنطقها بالحقيقة الإلهية، ألا وهي العقيدة الإيمانية السمحة بأن يسوع المسيح هو الرب الإله، ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «وليس أحدٌ يقدر أن يقول يسوع ربٌّ إلا بالروح القدس»(1كو 12: 3). إن أساس العقائد المسيحية هو أن يسوع المسيح هو الرب الإله، وهو ابن اللّه فليست العذراء أم اللّه وحسب، بل هي والدة الإله المتجسّد «اللّه ظهر بالجسد» (1تي 3: 16) على حدّ قول الرسول بولس، حيث أن اللّه حلّ في أحشائها واتّحد لاهوته مع الناسوت ووُلد منها، فحقّ لها أن تُدعى «يلدة ءلؤا» والدة الإله. ومن تنكّر لهذه العقيدة يعد غريباً عن المسيحية كنسطور الذي أبى أن يسمي العذراء أم اللّه، ودعاها فقط أم يسوع أو أم المسيح، فاجتمع المجمع المسكوني الثالث في مدينة إفسس عام 431م برئاسة القديس كيرلّس الإسكندري، وحرم نسطور معلناً أن عقيدة المسيحية السمحة هي: أن العذراء مريم هي أم اللّه، بل هي والدة اللّه «يلدة ءلؤا» مفتتحاً بيانه بقوله: نعظّمك يا أم النور الحقيقي، ونمجّدك أيتها العذراء القديسة والدة اللّه.

وأليصابات في نشيدها تعلن حقيقة أخرى، وهي أن الأجنّة في بطون أمّهاتهم مشمولون بعناية اللّه ورعايته، وإذا كان الأجنّة مشمولين بعناية اللّه، يعني ذلك أن اللّه يريد أن يشعر الوالدان بمسؤوليتهما تجاه هذا الجنين والعناية به، فالإجهاض قتل. فهذا يوحنا وهو جنين امتلأ من الروح القدس وارتكض فرحاً، تحرّك فرحاً وبهجةً لاستقبال ربّه، وربّه كان أيضاً جنيناً في أحشاء والدته والعذراء مريم بعد أن أكملت أليصابات الترنيم بنشيدها الارتجالي، بدأت تسبحتها التي تنشدها كنيستنا كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية صباح كل يوم في طقوسها، ولم يقل لوقا أن الروح حلّ على العذراء مريم كما قال عن أليصابات: «وامتلأت أليصابات من الروح القدس» (لو1: 41) لأن العذراء التي كانت قد امتلأت من الروح، بل كان نار اللاهوت قد حلّ في أحشائها، فقد كان الروح القدس حالاًّ فيها، لذلك جاءت تسبحتها من أجمل ما قيل من التسابيح في الكتاب المقدّس وأسماها، وهي تضاهي أبدع مزامير جدّها داود. فقالت مريم: «تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي باللّه مخلّصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتّقونه» (لو1: 46 ـ 50). تعظّم نفسي الرب: صلواتنا الطقسية كلها شكر للّه وتعظيم له تعالى. لغة الشكر أسمى لغة، ولكن بعض المؤمنين بعد أن يكون قد استجيبت طلباتهم التي كانوا قد سألوا اللّه تعالى بصلواتهم ينسون الشكر، رأينا البرص العشرة الذين طهّرهم الرب يسوع، ولم يرجع منهم سوى واحد ليشكر الرب، وهذا الواحد كان غريب الجنس، فقال له الرب: «أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟» (لو17: 17). فهل وقفنا أمام اللّه لنشكره على إنعاماته الكثيرة، أم أن صلواتنا كلّها طلبات دنيويّة؟!. حتى هذه الطلبات إذا استجيبت أيضاً ننسى أن نشكر اللّه عليها، أما العذراء مريم فتشكر اللّه وتعظّمه تعالى على ما أنعم عليها وتنبّأت أن جميع الأجيال تطوّبها، بقولها: إن الرب نظر إلى اتضاعها، لأن القدير صنع بها عظائم، وتذكّر المواعيد الإلهية لجدّها إبراهيم ونسله، وعلى ما صنعه نحو أعداء شعبه: أنزل الأعزّاء عن الكراسي، وما صنعه نحو كنيسته إذ رفع المتواضعين. مكثت العذراء نحو ثلاثة أشهر وقبل أن تلد أليصابات ابنها يوحنا، عادت العذراء مريم إلى بيتها في الناصرة منتظرة يومها السعيد، يوم تلد الرب يسوع مخلص العالم.

أحبائي: ونحن نتأمّل في هذه الحادثة المقدسة أموراً عديدة لا بدّ أن نستفيد منها فبيت زكريا وأليصابات كان بيتاً مثالياً، تضوعّت في جنباته رائحة بخور الحمد والشكران ورائحة الطهر والقداسة. فهلاّ كانت بيوتنا كذلك. رأينا زيارة العذراء مريم لأليصابات وما تخللها من أحاديث روحية عميقة، بينما زيارات بعض المؤمنين اليوم تشوبها أحاديث ماجنة خارجة عن أصول الأخلاق المسيحية، وهي خليط بين حديث الكبرياء بوصف النفس بما لا تستحقه، وبين أكل لحوم البشر والاتهام بالشرور ومصدر كل ذلك قلّة الإيمان والحسد والبغضة والحقد. كما نتعلّم من زيارة العذراء مشاركة الناس أفراحهم والابتعاد عن ذمّهم ونسب نجاحهم إلى الحظ، لا إلى الاستقامة وعمل الخير ومحبّة الناس.

واليوم وفي كل يوم من أيام حياتنا علينا إتماماً لنبوّة العذراء، أن نعظّمها، ونعطيها الطوبى، ونتشفّع بها بتكرار كلمات الملاك وأليصابات: «السلام لك يا مريم العذراء الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنكِ يسوع، يا مريم القديسة يا والدة الله صلي لأجلنا نحن الخطاة الآن وفي ساعة موتنا آمين»، نلتمس من العذراء أن تزور دورنا كما زارت أليصابات، مثالها تابوت العهد الذي مكث في بيت عوبيد ثلاثة أشهر فبارك الرب عوبيد وكل بيته (2صم 6: 11)، فهل تزرونا العذراء؟ هل يزورنا يسوع ابنها؟ ذلك يكون إن اجتهدنا في حفظ وصايا اللّه وأحكامه والتمسك بالإيمان به وممارسة الفروض التي علينا أن نتقدم بها بتقوى اللّه من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات على المحتاجين فنستحق بعد العمر الطويل أن نرث ملكوته السماوي، الحالة التي أتمنّاها لي ولكم بنعمته تعالى آمين.


ميلاد يوحنا المعمدان

ميلاد يوحنا المعمدان

 

ميلاد يوحنا المعمدان (1)

 

«وأما أليصابات فتم زمانها فولدت ابناً، وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظّم رحمته لها ففرحوا معها»

       (لوقا 1: 57-58)

 

فرحٌ عظيمٌ عمَّ جبل يهوذا، إنه فرح بالرب الذي يقترن بالشكر لإلهنا، فرح عظيم شمل أولئك الناس الطيّبين الذين دائماً يفرحون لفرح غيرهم، لأنهم قد سمعوا أن تلك الشيخة الجليلة العاقر أليصابات قد ولدت، ولدت ابناً ذكراً في شيخوختها، لذلك فرحوا معها بل كان ذلك الفرح سبب تعظيم للرب، لأن الرب قد عظّم رحمته لها كما يقول لوقا، وهذا الفرح يعقبه فرحٌ أعظم وكأنها حلقات في سلسلة ذهبية ثمينة بدأت في الهيكل عندما بشّر الملاك زكريا بأن يكون له ولد يسميه يوحنا، ومرّت بميلاد يوحنا ونرى الآن حلقة أفضل فبحسب عادة اليهود وطقوسهم بل حسب شريعتهم في اليوم الثامن يجتمع الأهل والأقارب والكهنة ليختنوا الصبي ويطلقوا عليه اسماً، وهكذا كان خاصة أن زكريا كاهن شيخ فاجتمع زملاؤه الكهنة وزوجته أليصابات المرأة الجليلة التقيّة الفاضلة البارة، اجتمعت جاراتها والجيران والأقارب لكي يختنوا هذا الصبي في اليوم الثامن، لكي يستحق أن يكون في عداد شعب العهد القديم، ويسجّل اسمه في سجلات كنيسة النظام القديم، فسمّوه زكريا، تطلعوا إلى ذلك الشيخ، الكاهن زكريا وقد حكم عليه الملاك بأمر الله أن يكون صامتاً، بل أيضاً كان أطرشاًُ، فلم يسمع ولم يملك القدرة على الكلام، فلا داعي ليستشيروه بما يسمّون الصبي، وكانت تلك الأم الشيخة صامتة هي الأخرى لم تنطق لم تنبس ببنت شفة، فسموا ذلك الصبي باسم أبيه زكريا، وهذا احترام وإكرام للأب لأنه قد وُلد له ابن في شيخوخته من زوجته الشيخة العاقر، ولا بد أن يحي هذا الولد ذكر أبيه، هذه كانت عاداتهم، وكان للاسم مكانة عظيمة في قلوبهم لأنه يعني أموراً عظيمة بالنسبة إلى أنسابهم حين ذلك.

الشيخة أليصابات بقوة الروح القدس علمت أن اسمه يجب أن يكون يوحنا، كما علمت سابقاً بقوة الروح القدس عن العذراء مريم وتنبأت وعلمت أنها قد حملت حامل العوالم وقالت لها كما علمنا وكما كتب الإنجيل المقدس من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ الآن أيضاً بقوة الروح قالت للأهل والأقارب والأصدقاء والجيران لا بل يُسمّى يوحنا فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم، ثم أومأوا إلى أبيه زكريا، ماذا يريد أن يُسمّى، فطلب لوحاً وكتب قائلاً: اسمه يوحنا (الرب حنّان)، فقد بدأ عهد الرحمة والحنان، عهد المغفرة التي سينادي بها يوحنّا للتائبين العائدين إلى الله ليستحقوا ملكوته السماوي، فاسمه إذاً يوافق ويطابق المهمّة التي ولد لأجلها ليكون سابقاً للمسيح، يعد طريقه قدامه. حين ذاك انطلق لسان زكريا وتكلّم عندما شكّ صمت، وعندما تكلم نطق بتسبيح الله فمجّد إلهنا ثم تنبأ عن هذا الصبي وناجاه وناداه: أنت أيها الصبي نبي العلي تدعى، لأنك تتقّدم أمام وجه الرب لتعدّ الطريق أمامه، وأظهر النبوات أن الصبي يعد الطريق أمام الرب إلهه، ولم يكتفي بمحيطه اليهودي وبأنبيائه وبشعبه كما كانت فكرة الخلاص لدى أغلب اليهود، بل تعدّى ذلك بتسبيحه إلى العالم أجمع، ونسي ابنه موضوع بهجته، وبدأ يفكر بمخلّص العالم الذي دعاه كما دعاه ملاخي آخر أنبيائه، شمساً فكما أن الشمس ضرورية لحياة الأرض كذلك شمس البر المسيح يسوع كما دعاه أيضاً زكريا أنه ينير الجالسين في الظلمة وظلال الموت فهو ضروري لكل العالم لكي يمنحهم حياة أبدية. هذا هو زكريا أيها الأحباء عندما امتلأ من الروح القدس كما يقول البشير لوقا، لم يحل عليه الروح فقط، بل امتلأ من ذلك الروح ونطق بنبوات عجيبة.

 والصبي يوحنا موضوع كلامنا الذي بأعجوبة حبل به، وبأعجوبة ولد، وبأعجوبة أطلق عليه الاسم الذي أطلقته عليه السماء قد نمى خبره في كل جبل اليهوديّة وتساءل الناس ما عسى يكون هذا الصبي وبدءوا يفتكرون لعله هو ماسيا المنتظر ونحن لا نستغرب أن يفتكر الناس ويظنون كما يقول الإنجيل أنه ماسيا بل بعد ذلك الزمن بسنين عندما خرج يبشّر جاءه من الكهنة والفريسيين ومسؤولي اليهود الدينيين والاجتماعيين يسألونه إن كان هو الآتي أو ينتظرون آخر فكانت شهادته شهادة صدق وحق قال: إنه إنما جاء فقط ليعمّد بالماء، أما الذي يأتي بعده فيعمد بالروح القدس، وأنه لا يستحق أن ينحني ويحل سيور حذاء ذلك الذي يأتي بعده، وهو قبله هذه شهادة يوحنا أتت من ولادته العجيبة من تهيئة السماء له، أتت أيضاً من تربيته فإننا نقرأ في الإنجيل المقدس أن يد الله كانت مع الصبي، ويد الله تعني عناية الله وقوته كما كانت يد الله مع يوسف الصديق مثلاً فأنجح الله طريقه فكانت يد الله مع الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح، هذه القوة التي نالها ذلك الصبي جعلته أن يصطبر على شغف العيش الخشن في البرية، فقد كان عمره ثمانية شهور فقط عندما أصدر هيرودس أمره بعد ولادة المسيح قتل أطفال بيت لحم، وشمل كل اليهودية فهربت به أمه، هربت بالصبي يوحنا إلى البرية وماتت أمه وبقي الصبي تربية الملائكة، وكان أكله جراد البر وعسل البر أيضاً، ولم يكن عسل البر حلواً بل مراً، ولم ينم على سرير فربى على يد الملائكة وصار ابن السماء. لم يعرف أحد من اليهود، حتى لم يعرف المسيح في حياته، إلى أن جاءه المسيح ليعتمد منه، والروح أعلن له أن هذا حمل الله الرافع خطايا العالم، هكذا عاش يوحنا في البرية بعيداً من آثم الناس وخطاياهم، من كلامهم الباطل مما يتطرفون به من دينونة الآخرين بعيداً أيضاً حتى من الأصدقاء لئلا يجامل الأصدقاء عندما ينادي بالتوبة والعودة إلى الله. هكذا هيأ الله الملاك الذي يتقدّم المسيح يسوع الذي سيأتي لخلاص العالمين وكان في البرية إلى أن ظهر لإسرائيل كما يقول الإنجيل المقدس وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة.

هذا هو يوحنا الذي قال عنه الرب يسوع لم يقم في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ففي ميلاده نرى عظمته، عظمته التي جاءت ليس فقط من السماء بل أيضاً من والديه بالتربية الصالحة، فالملاك عندما بشّر بميلاده قال: لأبيه إنه خمراً ومسكراً لا يشرب، فربي بهذه الطريقة هذا الأسلوب تجنب الرذائل، والتحلي بالفضائل، نشأ النشأة الصالحة ليكون عظيماً بين مواليد النساء بل لم يقم بين مواليد النساء أعظم منه، ما أعظم هذه الشهادة‍! هل نسعى للحصول عليها لنا ولأولادنا؟. كان هناك إنسان أيضاً عاش المسيح وكان أحد تلاميذه، ولكنه بعكس يوحنا، لم يكن مجرداً عن العالم وإن ظهر كأنه مجردٌ عن العالم إنه يهوذا ماذا كانت شهادة المسيح عنه خيرٌ لهذا الإنسان لو لم يولد. العديد من الناس يقول عنهم المسيح: خير لأولئك الناس لو لم يولدوا لكان الأفضل لهم، أما من اقتدى بيوحنّا فيكون عظيماً في مواليد النساء، ولئن قال الرب: والصغير في ملكوت الله هو أعظم منه، لأننا نحن الصغار في ملكوت الله قد نلنا نعمة إذ افتدانا الرب بموته وقيامته. فأيها الأحباء في هذا الأحد، أحد ميلاد يوحنا ونحن نتأمل بأليصابات المرأة التقية الفاضلة البارة نتأمل بزكريا الرجل البار القديس ونرى عمل الروح القدس فيهما، ونتأمل بالصبي الذي عاش حياة الشغف، كان شقياً في حياته ولكنه كان في حياته نعمة عظيمة ليكون عظيماً جداً بين مواليد النساء، لأنه مقياس الحياة والنجاح في الحياة، هو روحيٌ لا جسدي لذلك فعظمته خاصة بتجنبه الرذائل، خمراً ومسكراً لم يشرب فعلينا أن نقتدي بأليصابات وبزكريا بالتمسّك بناموس الرب وفرائضه، وعلينا أن نسعى لنسمي أولادنا الأسماء الروحية فالكنيسة عائلة واحدة روحية، أن نسمي أولادنا بأسماء آبائنا القديسين ليقتدوا بهؤلاء الآباء وليعلموا أن معنى الاسم العظيم أن يجعلنا أن نقتدري بأولئك الذين سموا قبلنا بهذه الأسماء.

أهلنا الرب جميعاً أيها الأحباء أن نقتدي بيوحنا المعمدان وبوالديه وبكل الأبرار والأتقياء والقديسين لكي نكون مثله من أبناء ملكوت إلهنا شاهدين لا بالقول فقط بل بالعمل للمسيح يسوع الذي جاء لخلاصنا والذي جعل منا عظماء في ملكوته السماوي لنكون معه في ذلك الملكوت متنعمين معه إلى الأبد. الحالة التي أتمناها لي ولكم بشفاعة القديس يوحنا المعمدان وزكريا وأليصابات ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


ميلاد يوحنا المعمدان (2)

 

«وأما أليصابات فلمّا تمّ زمانها لتلد، فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها إن الرب قد عظّم رحمته لها ففرحوا معها»

         (لو 1: 57-58)

 

فرح روحيّ طغى على بيت زكريا وأليصابات وانتشر نبأ ذلك بين الجيران والأقرباء، فإن الله قد عظّم رحمته على أليصابات، وفي الوقت نفسه على زكريا الكاهن زوجها، والناس الطيّبون يفرحون مع الآخرين فرحاً روحياً كان هذا الحدث حلقة بسلسلة حوادث عجيبة جرت في تلك الأيام في تلك المنطقة من العالم، حوادث لم تأتِ صدفة إنما جاءت نتيجة نبوّات عديدة قيلت في العهد القديم عن الذي ولد من زكريّا وأليصابات عن يوحنا المعمدان. وهذا الفرح أيها الأحباء بدأ في الهيكل قبل تسعة أشهر من تاريخ ميلاد يوحنا، يوم وقف الملاك جبرائيل عن يمين مذبح البخور ليعلن لزكريا البشرى: إنه يولد له ولد ويسمّيه يوحنا أي الرب حنّان ورحيم. هذا الفرح إذن أيها الأحباء، هو ثمرة رحمة السّماء بالأرض وعلى أبناء الأرض، وتمّ الفرح خاصةً في اليوم الثامن من ميلاد يوحنا لأنه بحسب عقيدة اليهود أن المولود الذكر لا بدّ أن يُختتن في اليوم الثامن لميلاده ليكون في عِداد الشعب الذي أقام الله معه عهداً بشخص أبيه ابراهيم، فهذا الختان عندما جرى حسب عادة اليهود اجتمع الكهنة والأقرباء والأصدقاء، وبعد الختان حدث ما حدث لأنهم أرادوا أن يسمّوا الصبي، وإكراماً للأب سمّوه زكريّا، ولكن أليصابات تلك التي كانت قد امتلأت من الروح القدس يوم زارتها العذراء مريم وتنبّأت قائلة: من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ، امتلأت ثانية من الروح القدس وقالت لا، فليُسمّى يوحنا. ليس في عشيرتكِ قالوا لها أحد يدعى بهذا الاسم، ثم أومأوا إلى زكريا الذي كان قد حكم عليه الملاك بالصمت، فلم يكن يقوى على الكلام، بل أيضاً لم يكن يقوى على سماع كلمة، فأشار إليهم أن يأتوا بلوح وكتب: اسمه يوحنا. اسمه، لا أسمّيه، اسمه الذي جاء من السّماء، اسمه الذي أعطاه الملاك إنه يوحنا. فسُمّي يوحنا لأن رسالته هي رسالة الرحمة والحنان، رسالة التوبة والعودة إلى الله، رسالة النعمة الإلهية التي تبدأ بتبشيره العالم ثم تنتهي بصعود المسيح إلى السماء بعد إتمامه الفداء، وعندما كتب زكريا هذه الكلمة: اسمه يوحنا، انطلق عقل لسانه وانفتحت أذناه وشرع يسبّح الله. عندما عوقب وقوصص بالصمت لسبب شكوكه بقي صامتاً تسعة أشهر، ليس له عمل سوى أن يصلي إلى الله ويتأمّل ويدرس النبوّات، وحين انتهى عقابه وشرع ينطق، نطق بتسبيح الله فأنشد نشيده الذي يُعَد من الأناشيد الروحيّة السامية جدّاً في الكتاب المقدس ممجداً الله على نعمته، متنبّئاً أيضاً عن الصبي ورسالته: وأنت أيها الصبي يقول لابنه يوحنا، نبي العليّ تدعى، ويقول عن رسالة هذا الصبي أنه يتقدّم أمام الله، أمام ربّه ليهيّئ شعبه قدّامه. هذه كانت رسالة يوحنا وهذا ما تنبّأ به زكريا عن ابنه، ولم يكتفِ أن تنبّأ عن ابنه، بل أعلن أيضاً أن ابنه ليس سوى إنسان نبي يتقدم ربه أي يسوع المسيح ليهيّئ الشعب قدّام ذلك الرب، وهنا يعلن رسالة الخلاص، ليس فقط لبني إسرائيل، بل للشعوب كلّها.

زكريا لم تكمل فرحته بابنه. إن كنّا نفتكر بالفرح الدنيوي، زكريا نال ما ناله من العذاب كما يقول لنا التقليد المقدّس: أن هيرودس عندما أمر بقتل كل أطفال بيت لحم، وقد نمى الخبر في جبال اليهودية عن الابن العجيب يوحنا، بلغ أيضاً هيرودس أن هناك مولوداً عجيباً ابن العاقر الشيخة أليصابات والشيخ زكريّا، لذلك أرسل من أرسل من جنوده ليقتلوا هذا الصبي أيضاً، فقال زكريا: لا أسمح لكم بذلك، إني أخذته من الهيكل، فهلمّوا إلى الهيكل وخذوه من هناك، ووضعه أمام عتبة الهيكل فاختطفه الملاك، ملاك الرب وأخذه إلى البرية. ونحن نعلم أن يوحنا تربّى في البرية، ربّته أمّه حتى بلغ الثامنة من عمره، ماتت وبقي هناك يتربّى بأيدي الملائكة، ولم يعرف أحداً من أقربائه حتى أنه لم يعرف المسيح إلى أن جاء المسيح ليعتمد منه، فالروح الذي أرسله ليعمّد قال له إن الذي ترى الروح يحلّ عليه بشبه حمامة هو ماشيحا المسيح المنتظر، مخلّص العالم ورجاء الشعوب. عاش يوحنا في البرية، لم ينم على سرير، كانت ثيابه من وبر الإبل، وكان طعامه جراد البرية وعسل البرية أيضاً الذي يُقال أنه مُرّ لا حلو. كان هذا يوحنا قد نشأ نشأة تقشّف وزهد وتضحية ونكران ذات، ليكون صريحاً مع الخطاة لكي لا يهاب أحداً، لكي ينادي توبوا قد اقترب منكم ملكوت السموات. عندما نمى الخبر أي انتشر بين الناس عن ميلاد يوحنا وعن تسميته وسلسلة العجائب التي جرت، ولم يكن هناك في تلك المنطقة عجائب منذ أجيال، والناس ظنّوا أن يوحنا هو ماسيّا، فهناك تشابه في حياة الاثنين فهذا ابتدأ رسالته في الثلاثين من عمره، والمسيح أيضاً بدأ رسالته في الثلاثين من عمره، يوحنا ابتدأ بقوله: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، والمسيح أيضاً ابتدأ رسالته العلنية إلى مناداة التوبة: توبوا فقد اقترب منكم ملكوت الله، ويوحنا عندما سُئل إن كان هو المسيح، شهد وهو صادق في شهادته إن الذي يأتي بعده أي المسيح، هو قبله، وهو لا يستحق أي يوحنا أن ينحني ويحلّ سير حذاء المسيح، والمسيح أيضاً شهد ليوحنا، يوحنا أرسل تلاميذه إلى المسيح لكي يؤمنوا بالمسيح وتبعوا المسيح، وكان بين تلاميذ الرب أربعة منهم كانوا سابقاً تلاميذ يوحنا، بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا. هؤلاء استمعوا إلى يوحنا وأطاعوا نصيحته وإرشاده وآمنوا بالمسيح وصاروا تلاميذ له.

عندما سُئل المسيح عن يوحنا كما سمع بعضكم الذين كانوا في بدء القداس الإلهي إلى الإنجيل المقدس، قال المسيح عن يوحنا: لم يقُم بين مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ونحن عندما نتأمّل بقول المسيح يسوع نرى عظمة يوحنا أولاً بصدقه مع رسالته وباستمراره بتواضعه لإتمام هذه الرسالة، ولكننا إن كنّا ننظر إليه بعين بشرية صرفة وبمقياس البشر نتعجّب: هل عظمة الإنسان بشقائه مع أنه ولد بأعجوبة ولكنه اضطهد وهو طفل، وعاش في البرية شقيّاً فهل العظمة بالشقاء؟ ولكن عندما ننظر إلى هذا الإنسان نظرة روحية نرى العظمة التي تأتي من السماء، عظمة الإنسان أن يكمّل الرسالة التي أُلقيت على عاتقه من السّماء وأن يتحمّل في سبيل ذلك المشقّات والأتعاب الكثيرة لأنه ينتظر المكافأة من السماء.

أيها الأحبّاء:

في هذا اليوم نذكر ميلاد يوحنا ونعتبره أحد ميلاد يوحنا من آحاد ما قبل الميلاد، ميلاد الرب يسوع لنهيّئ أذهاننا لتقبّل عقيدة التجسّد الإلهي ولنفرح بميلاد ربّنا. ونحن نتأمّل بميلاد يوحنا علينا أن نقتدي بزكريا وأليصابات بالمواظبة على الصلاة بالإيمان بما يبلغنا الرب، وذلك عن طريق مطالعتنا الكتاب المقدس بتأمّل مستمر في الإنجيل، وتقتدي بهما خاصةً بتربية الأولاد تربية صالحة بالتمسّك بالشريعة والفرائض، فنحن نرى مثلاً أن أليصابات وزكريا بالذات عندما يقومون بالاحتفال بختان يوحنا وهو في اليوم الثامن من ميلاده إتماماً لوصيّة الرب ليكون في عِداد الذين دخلوا في عهد مع ربنا، نتعلّم نحن أيضاً كيف أنه علينا أن نربي أولادنا التربية الصالحة وأن نعلّمهم الطقوس الكنسيّة والفروض البيعية، لكي في هذا يكونون في عِداد شعب الله، لا يكفي أن نربي أولادنا التربية الجسدية ليكونوا أقوياء جسدياً، ليبلغوا مراكز سامقة ويكونوا في غنى وبحبوحة من العيش، قد يكون ذلك سبب هلاكهم الروحي. ولكن عندما نقوم بواجبنا الروحي تجاه هؤلاء الأولاد ونعلّمهم أسرار كنيستنا ومبادئ الدين الإلهي السامي والعقيدة السمحة، بهذا نكون قد هيّأنا أولادنا لملكوت الله كما فعل زكريا وكما فعلت أليصابات في البرية بتربية ابنها يوحنا بحسب التقليد الشريف. كذلك أيها الأحباء نتعلّم العظمة الحقيقية من يوحنا، فكان الملاك يوم بشّر أباه زكريا به قد قال أنه خمراً ومسكراً لا يشرب، فهناك نواهٍ إلهية سماوية علينا أن نرفضها رفض النواة كما رفضتها السماء وهناك وصايا الله التي يجب علينا أن نتمسّك بها، وبذلك نكون عظماء بالروح كما كان يوحنا، وأن نهتم أيضاً أن يفهم أولادنا العظمة الحقيقية. ما أجمل أن أواظب على القداس الإلهي ولكن الأجمل من هذا عندما تتاح لنا الفرص أن نأتي بأولادنا لحضور القداس الإلهي لكي هم يتعلّموا منّا، أي علينا أن نمارس الفروض الدينية من صوم وصلاة وصدقة وغيرها لكي ينشأوا النشأة الصالحة ويكونوا عظماء بالروح كما كان يوحنا. أسأل الله أن يلهمنا جميعاً لكي نسير بحسب شريعة إلهنا مقتدين بالآباء القديسين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 

 


ميلاد يوحنا المعمدان (3)

 

أيها الأحبّاء:

تذكر الكنيسة في هذا اليوم ميلاد يوحنا المعمدان. وعندما نتأمّل بما كتبه البشير لوقا في هذا الموضوع نتعجّب كثيراً كيف أن الروح القدس كان وما يزال وسيبقى وراء الحوادث الدينية الروحيّة في الكتاب المقدس وفي عمل الكنيسة.

نقرأ ما قاله وكتبه لوقا عن أليصابات التي عندما تمّ زمانها لتلد، ولدت ابناً يقول لوقا: إن جيرانها وأقرباءها سمعوا بذلك ففرحوا لأن الله عظّم رحمته لها. فرحوا معها، هذا الفرح الروحي لا يكون إلاّ للذين يشعرون بقوّة الله وعجائب الله والذين يشعرون بواجبهم إزاء الآخرين بأن يفرحوا مع الفرحين. وعندما نتأمّل تلك الحادثة العجيبة نرى أمامنا امرأة شيخة عاقراً تلد ابناً. ونرى أمامنا أيضاً شيخاتً جليلاً كان كاهناً، كان قد بُشِّر بحبل امرأته وبولادتها ابناً، وكان الملاك أيضاً قد ذكر حتّى بما يُدعى الصّبي قائلاً:يُدعى اسمه يوحنا، لأنه به ابتدأ عهد الحنان والرحمة، وبميلاده قد عمّ الجميع الفرح. وكان لابدّ من أن تتمّ فريضة الختان للطفل، فهي أهمّ الفرائض الدينيّة خاصة في بيت زكريّا وأليصابات، ولوقا يقول عنهما أنهما كانا بارَّين وكانا متمسّكّين بشريعة الله، بل أيضاً بالفرائض، بأحكام الله يقول لوقا. ومن جملة هذه الفرائض التي فُرضَت على بني إسرائيل أن يختنوا الصّبي في اليوم الثّامن من ميلاده. وفي بيت زكريا الكاهن وهو كاهن معروف، وفي حدث عجيب كهذا أن يولد ابن لعاقرَين ولشيخَين في الوقت نفسه، لابدّ أن يكون فرح عظيم. اجتمع الأقرباء والجيران ليختنوا الصّبي، وعندما كان الصّبي يُختَن عادةً في اليوم الثامن كان يُدعى باسم فأرادوا أن يسمّوه باسم زكريّا أبيه، خاصّةً أن زكريا كان كاهناً وكان شيخاً فليبقَ اسمه في العائلة. ولكن أليصابات التي كانت قد امتلأت من الرّوح القدس يوم زارتها العذراء مريم وتنبّأت، بل أعلنت عقيدة سامية إذ قالت للعذراء:من أين لي أن تأتي أم ربّي إليَّ فدعتها أم الرب العذراء التي عندما سمعت ذلك أنشدت نشيدها العظيم الشّهير، أعظم وأفضل نشيد قيل في الكتاب، قال مريم: «تعظّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي»، في تلك اللّحظات أيضاً، في اختتان يوحنا امتلأت أليصابات ثانية بالروح القدس وأصرّت أن يُدعى ابنها يوحنا، وعندما استشاروا زكريا أباه، ونحن نعلم أن زكريا قد حكم عليه الملاك يوم بشّره الملاك بأن امرأته ستلد له ابناً كان قد حكم عليه أن يبقى صامتاً حتّى يتمّ ما قاله الملاك، فلم يكن زكريّا يقوى على الكلام ولم يكن يقوى على سماع شيء، وعندما أشاروا إليه طلب لوحاً ليكتب اسم الصّبي، وعندما ابتدأ يكتب اسمه كتب: «اسمه يوحنا». حينذاك انفكّ عقل لسانه وابتدأ ينطق ويسبّح الله. عندما حُكِم عليه بالصّمت حُكم عليه لأنه تشكّك في قول الملاك، وعندما نطق ابتدأ ينطق بتسبيح الله، سبّح الله على عظائمه وسبّحه أيضاً وتنبّأ وهو قد امتلأ من الروح القدس وتنبّأ عن هذا الصّبي الذي دعاهُ نبيّ العليّ، قال له: نبيّ العليّ تُدعى بعد أن تنبّأ أيضاً بأن الحوادث التي كان قد تنبأ عنها الأنبياء ستحدّث عن مجيء ماسيّا، ماشيحا المنتظر.  هكذا رأينا في بيت زكريا عندما تمّ قول الملاك فولدت أليصابات، وهكذا رأينا الروح القدس يقود التّابعين للرب الذين ينصتون إلى قول الروح فيمتلئ زكريّا بالروح ويتنبّأ عن الصّبي وعمّا سيجري له.

أيها الأحبّاء:

لم يكتفِ لوقا بذلك، بل ذكر عن الصبي أنه عاش في البرية حتّى ظهر لإسرائيل ونحن نعلم من التقليد الرسولي والأبوي، التقليدَين المقدَّسَين أن يوحنا كان معرَّضاً للقتل من جند هيرودس يوم ولد المسيح ويوم قتل هيرودس صبيان بيت لحم، وأن الجند أتوا إلى بيت زكريا والحادثة كانت قد اشتهرت وعُرفَت من الناس وطلبوا أن يأخذوا الصّبي ويقتلوه، فقال لهم زكريا حسب ما يقول التقليد المقدس: إنني استلمته من هيكل الرب فهلمّوا استلموه من هناك أي من حيث أخذته، غذ بشّره الملاك في الهيكل وأنتم خذوه واقتلوه وعندما ذهب إلى الهيكل وضع الطّفل يوحنا على الهيكل فاختطفه ملاك الرب وأخذه إلى البريّة وتربّى هناك مع الملائكة حتّى ظهر لإسرائيل. لم يكن يعرف أحداً وعندما ظهر نادى بالتوبة لم يخجل من أحد لأنه لم يعرف أحداً من أولئك الناس. جاء وكأنه ملاك الرب، جاء بروح إيليا، جاء يندي بالتوبة، جاء ليعدّ الطريق أمام الرب يسوع ليعود الشّعب إلى ربّه، ليتوب الناس إلى إلههم لينالوا الخلاص بالمسيح يسوع.

ميلاد يوحنا أيها الأحبّاء يعطينا دروساً خالدة.

أوّلاً: أن نرى المعجزات والعجائب التي تجري، جرت وتجري دائماً وأن الروح القدس هو وراء ذلك. ثانياً: نرى كيف أن الإنسان البار والعائلة التقيّة تقوم بإتمام فراض الله، ونرى أيضاً كيف أنهم يشعرون بأنهم عائلة روحيّة جميعاً ويريدون أن يسمّوا أولادهم بأسماء الآباء القديسين، لنقتدي بهم. ونرى أيضاً كيف أن يوحنا تربّى التربية الصّالحة على أيدي والدَيه والملائكة، فإن أليصابات كما يُقال ذهبت إلى البرية فوجدت ابنها وربّته حتّى صار عمره ثلاث سنوات أو أكثر وماتت وبقي هو في البرية. ونرى أيضاً كيف أن الله يعدّ خلاصاً لشعبه بتدبير إلهيّ لا تدركه عقولنا، وعندما نقرأ هذا نشعر بواجبنا تجاه السّماء لأن السماء تريد خلاصنا فعلينا أن نتجاوب مع هذا الخلاص، علينا أن ننصت إلى يوحنا الذي ولد بعجب وعاش بأعجوبة وخرج إلى البرية ونادى: «توبوا». فلنتب ونعود إلى الله لننال الخلاص بنعمته تعالى آمين.

 


ميلاد يوحنا المعمدان (4)

 

«أما أليصابات فتم زمانها لتلد، فولدت ابناً، وسمع جيرانها وأقرباؤها  ففرحوا معها»

     (لو 1: 56)

 

النخبة التقية من الناس الذين يعبدون الله بالروح والحق، أولئك الذين يشهدون بسيرتهم الفاضلة وبمخافتهم لله عل أنهم يعيشون السماء على الأرض لذلك وهم يلهجون بناموس الرب ليل نهار يفرحون عندما يلمسون أن إرادة الرب تتم على الأرض ورأينا أمثالهم في جبل اليهودية، في جبل يهوذا، جيران أليصابات وزكريا الكاهن وأقرباؤهما سمعوا بما جرى في هيكل الرب لزكريا الكاهن وعلموا بعدئذ أن العاقر أليصابات قد حملت بقوة إلهية وآن الأوان فولدت. أقرباؤها وجيرانها فرحوا معها لأن إرادة الرب قد تمت هؤلاء الناس الطيبون فرح أقربائهم وجيرانهم خاصة بهذا الفرح الروحي الذي يطفي على كل ما في الحياة من آلام وأحزان ومصائب لأن الروح تسمو بفرح روحي نحو السماء وهي تلمس إتمام إرادة الله على الأرض. ولدت أليصابات ابنها يوحنا فاجتمع جيرنها وأقرباؤها أيضاً في اليوم الثامن من الميلاد ليشاركوها في احتفال طقس اختتان  الصبي بحسب ناموس موسى وهذا كان أيضاً طقس فيه يسمى الطفل اسماً، اجتمع كهنة، هم أصدقاء زكريا وأناس آخرون وأرادوا أن يسموا الطفل على اسم أبيه زكريا إكراماً له، كان زكريا صامتاً لأن الملاك منذ أن بشره بأنه يكون له ولد وشكّ زكريا بذلك عاقبه الملاك أن يبقى صامتاً حتى ميلاد ابنه ولكن، ولكن زكريا يرى الطفل يتأمل أن ينعم الله عليه بالنطق ولكن ميلاده بالجسد لا يعتبر ميلاداً ما لم يكن في عداد الذين دخلوا كشعب له وعد وموعد ولهد أيضاً ميثاق مع الله، فميلاد الطفل أيضاً بل يكون خاصة عند اختتانه ليبدأ حياته الروحية والجسدية في آن واحد، فالأيام السبعة قبل اليوم الثامن لا تعتبر في عداد أيام الطفل، في تلك الأيام لذلك لم ينطق زكريا حتى جاء موعد اختتان الصبي اختتنوه وأرادوا أن يسموه زكريا أما أمه فقالت كلا بل يدعى يوحنا، استغرب الجميع إذا كان لهم عادة ـ ونعم العادة ـ أنهم يدعون الطفل باسم أحد آبائه وأجداده كما علينا أن نقتدي بهم فندعو أطفالنا باسم آبائنا وأجدادنا القديسين والقديسات لأننا عائلة الرب ورأس العائلة المسيح يسوع ربنا. اجتمعوا ليدعوه زكريا أما هي فقالت لا بل يوحنا، ليس في عائلتك أحد يدعى بهذا الاسم والتفتوا إلى زكريا لم يكن يسمع ولا ينطق أشاروا عليه ماذا نسميه فطلب لوحاً وكتب اسمه يوحنا، وعندما ذكر ذلك، عندما أنهى كتابة هذا الاسم نطق زكريا، فالأعاجيب حلقات في سلسلة إرادة الرب تتلوا الواحدة الأخرى بعد أن بشره الملاك بيوحنا وبعد أن حملت زوجته العاقر الشيخة أليصابات وولدت، بعد أن أسكت فلم ينطق نطق الآن، سكت لأنه تشكك ونطق بادئ نطقه بتسبيح الله وبالتنبؤ عن وظيفة هذا الصبي اسمه يوحنا ويوحنا يعني الرب ضارع لأنه عهد العدالة قد تم وانتهى السن بالسن والعين بالعين وعهد الرحمة بدأ عهد إعلان محبة الله للإنسان عهد الفداء عهد تقديم ابن الله ذاته على الصليب في سبيل خلاص البشرية وتنبأ زكريا عن الطفل أنه يهيئ الطريق أمام ربه، والطفل الذي كان أعجوبة إذ حبل به وولد من شيخين عاقرين أصبح معرضاً لأخطار عديدة فالتقليد الكنسي يخبرنا أن هيرودس يوم أراد قتل أطفال بيت لحم وفعل ظناً منه أنه يقتل يسوع الطفل أخبر أيضاً عن يوحنا فأرسل من يقتل يوحنا، زكريا أبوه أخذ الجند إلى الهيكل قائلاً لقد أخذته إلى الهيكل فهلموا خذوه من هناك، يقول التقليد كان عمر يوحنا ثمانية شهور واختطفه ملاك الرب من الهيكل وأخذه إلى البرية ربته أمه أولاً في البرية وماتت فربي على أيدي الملائكة اعتزل الناس لكي لا يعرفه الناس ولكي لا يعرف الناس هو أيضاً لكي ينادي بالتوبة لما بلغ الثلاثين من عمره لا يخجل من أحد حتى أنه لم يعرف المسيح عندما جاءه المسيح ليعتمد الروح قال ليوحنا أن هذا هو المسيح فشهد يوحنا. تربى يوحنا في البرية يأكل جراد البر وعسل البر الذي لم يكن حلواً بل مراً تربى ليتم رسالة سامية ليشهد للمسيح ويعد طريقه أمامه، لينادي بالتوبة ليأتي بالناس إلى الله، إذا نوع حياتنا على الأرض ليس مقياساً على رضا الله عنا أو غضبه لا سمح الله علينا، فيوحنا عاش شقياً زكريا وأليصابات اضطهدا، قتل زكريا بيد الجند في المذبح في الهيكل ولكن ما هي هذه الحياة لا بد أن تنتهي والإنسان الذي يؤمن بالله والذي يطمح أن يرث ملكوت الله يضحي بشقاء هذه الحياة لكي يكتسب الآخرة زكريا استشهد وأليصابات التي اضطهدت، يوحنا الذي في شظف العيش في البرية على يدي الملائكة كانت له رسالة سامية أن يأتي بالناس إلى الله، كلٌّ له دور في هذه الحياة وأخيراً انتهى دور زكريا عندما استشهد هو أيضاً واستشهاده دلالة على أننا عندما نشقى في هذه الحياة لا يعني أن الله غير راضٍ عنّا، إنما لأن لنا رسالة لنتمها رجالاً كنا أو ونساءً، العذراء مريم وأليصابات نسيبتها أيضاً دخلا في عداد من اشترك بالتدبير الإلهي في عمل الفداء فالنساء كالرجال في الكنيسة التي جعلت المسيح يسوع نصب أعينها لتتمثل به ولتتشبه بآلامه لتحمل صليبه، هذه الكنيسة الشاهدة كان فيها رجال ونساء يشهدون في الحق ويستشهدون أيضاً في سبيل الإيمان بالمسيح يسوع في هذا اليوم ونحن نعيد لميلاد يوحنا المعمدان نحتفل أيضاً بعيد القديسة الشهيدة بربارة، بعيد ميلادها لا بالجسد بل ميلادها للسماء فاستشهاد الشهداء إن كانوا نساءً أو رجالاً يعني ذلك ميلاد تام للسماء والكنيسة المقدسة منذ فجرها كرّمت الشهداء يوم استشهادهم لأنها رأت فيهم أناساً ضحوا بالغالي والنفيس بل أيضاً بأنفسهم في سبيل محبة المسيح يسوع فلم يفصلهم عن المسيح ومحبته لا سيف ولا نار ولا علو ولا عمق لا قوات روحية ولا جسدية فضحوا في أنفسهم على مذبح محبة المسيح هذا الولاء للرب لا لأن الرب قد خلقنا ولا لأن الرب قوي ليس مثله في الكون ولكن لأن الرب أيضاً حنان في عهد الرحمة الذي بدأ بيوحنا آخر أنبياء العهد القديم وأول أنبياء العهد الجديد في عهد الفداء. الرب محب لنا فعلينا أن نحبه وقمة المحبة هي أن يقدم الإنسان ذاته في سبيل محبة المسيح والإيمان به. بربارة عاشت في القرن الثالث كان أبوها غنياً جداً وكان وثنياً ملأ بيته بالأصنام، بربارة كانت مع خدامها خادمات مسيحيات علمنها وهي تسألهن عن دينهن كيف أن المسيح هو وحده يملأ قلب الإنسان لذلك آمنت بالمسيح لأنها أرادت أن يمتلئ قلبها وعقلها بمحبة المسيح الفادي، واستشهدت في سبيل ذلك على يد أبيها بالذات، هذه بربارة مثال لكل إنسان إن الحياة عابرة وزائلة، عزاء للجميع أن الإنسان الذي يولد في هذه الحياة تبدأ حياته الأبدية إن كان مع الله وإن كان محباً لله وإن كان في كل محبته لله يتعبّد لربنا ينال الحياة الأبدية السعيدة في الأبدية فرسالة الرب لنا في هذا اليوم في ذكرى ميلاد يوحنا بالجسد وميلاد بربارة في السماء أن نكون مخلصين لإلهنا.  الود والولاء له تعالى لكي نستحق أن نرث معهما ملكوت الله ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


ميلاد يوحنا المعمدان (5)

 

«وأما أليصابات فلمّا تمّ زمانها لتلد، فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها إن الرب قد عظّم رحمته لها ففرحوا معها»

                   (لو 1: 57-58)

 

أيها الأحباء:

تذكر الكنيسة المقدسة في هذا اليوم المبارك حدثاً عجيباً جرى في تاريخ الفداء، تذكر ميلاد يوحنا المعمدان. هذا الميلاد جرى كسائر الولادات التي حدثت لعاقر أو عاقرين في العهد القديم، الولادات التي يدعوها الرسول بولس: «الولادة بالموعد لا الولادة الجسدية»، فهو أمر يفوق الطبيعة، ولئن كان أمراً طبيعياً أيضاً، ونحن لا نحتفل بأعياد وتذكارت ميلاد القديسين والقديسات إلا ميلاد العذراء مريم ويوحنا المعمدان. دائماً عندما نحتفل بأعياد القديسين نحتفل بذكرى رحيلهم إلى السماء، فقد احتفلت الكنيسة بأعياد الشهداء الذين باستشهادهم يعتبرون قديسين لأنهم ضحّوا بالغالي والنفيس وحتى بالنفس في سبيل إعلان الإيمان بالمسيح يسوع. ثم نحتفل بأعياد الأبرار والأتقياء والنسّاك عند ختام حياتهم على هذه الأرض لأنهم حتى ختام حياتهم كانوا يسلكون بموجب شريعة الرب وناموسه بلا عيب. كما قيل عن أليصابات وعن زوجها الكاهن زكريا كانا بارّين أمام الرب وأنهما كانا يسلكان بحسب شريعة الرب وأحكامه أي فرائضه بالصوم والصلاة وتوزيع الصدقات وبإقامة نفسَيهما مثالاً للناس بسيرة طاهرة نقية.

كانت أليصابات عاقراً وكانت شيخةً، وكان زكريا عاقراً وكان شيخاً طاعناً في السن أيضاً، لذلك عندما بشّر الملاك زكريا بأنه قد استجيبت طلبته وسوف تلد له أليصابات امرأته ابناً، تعجّب زكريا رغم أن هذا الحدث لعاقرَين يلدان ابناً لم يكن جديداً في العهد القديم، وحُكِم على زكريا بالصمت كما نعلم من تقرير لوقا البشير، ولكن كانت الولادة طبيعية ولئن لم تكن جسدية صرفة بل كانت ولادة بالمواعيد، لأن الرب وعد والرب أتمّ وعده، وجرت هذه الأعجوبة. تسعة شهور حملته أمه كما تحمل الأمهات أطفالهنّ، في الشهر السادس بعد انقضاء خمسة شهور تبارك الجنين من الرب عندما جاءت العذراء مريم وهي تحمل في أحشائها الرب يسوع، وعندما زارت العذراء أليصابات وكلّمتها امتلأت أليصابات من الروح القدس وتنبّأت، وأعلنت أن الذي في أحشاء العذراء هو ربٌّ: «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ؟».

كل ذلك قيل بالروح القدس، والآن قد تمّت أيام أليصابات وولدت ابناً، في هذه الولادة عرفنا ما كان قبل الولادة، كما عرفنا أن جيرانها وأقرباءها فرحوا عندما ولدت أليصابات ابنها يوحنا، لأنهم كانوا أبراراً، لذلك فرحوا لفرح الآخرين. ليس كل إنسان يستطيع أن يفرح عندما ينجح الآخرون، فهم حسداً يعلّلون نجاحه بأمور كثيرة: إنه الحظ، يقولون أيضاً قد تكون هذه الفرحة سبباً لسقوط هؤلاء الناس. العديد من الناس عندما يُنعَم عليهم من الرب تساورهم الكبرياء، تقوى عليهم تجارب إبليس، لا يملكون قوة روحية لمقاومة هذه التجارب فيسقطون في الكبرياء، وكثير من الناس عندما يُنعَم عليهم بنعمة يساور الحسد الأشرار من أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم فيحاولون ببغضهم حتى أنهم يتمنون لهم الهلاك.

لكن أليصابات في جبل يهوذا الذي كان يسكنه العديد من الكهنة فرح جيرانها وأقرباؤها بها لأن الرب قد عظّم رحمته لها فرزقت ابناً بعد أن كانت عاقراً، وجاؤوا يشاركونها في اليوم الثامن حفلة ختان الصبي. شريعة الختان كانت علامة عهد ما بين اللّه وبين ذلك الشعب من أيام إبراهيم، ونجده في عهد موسى وبأمره فريضة تمارس في اليوم الثامن لولادة الصبي  حيث يختن الصبي ليستحق أن يكون ضمن هذا الشعب الذي أقام اللّه معه عهداً أبدياً. كان الجيران والأقارب يجتمعون للاحتفال بطقس الختان، ليس ضرورياً أن يكون هناك كاهن حتى يُختتن الصبي، بل من الضروري أن يُسمّى ذلك الصبي باسم أحد آبائه وأجداده. هذه عادة حميدة جداً أولاً كي يُحيي هؤلاء الناس ذكر آبائهم، وبإحياء أسماء الآباء ينال هذا الإنسان بركة عظيمة لأنه يكون قد اشترك بالنعمة التي أسبغ اللّه بها على أولئك الآباء.

نحن في أيامنا هذه قد نسينا آباءنا الروحيين، ونسينا أنّنا عائلة واحدة ورأس العائلة هو يسوع المسيح، وعندما ننسى أسماء آبائنا ننسى سيرهم، ولا ننسج على منوالهم، ولا نقتدي بهم، ونطلق على أولادنا أسماء غريبة، هذه الأسماء تؤثّر على هذا الصبي الذي ينمو في القامة لكن لا ينمو في النعمة إذا لم يكن يتذكّر أنه دُعي باسم أحد آبائه الأتقياء والأبرار. عندما يُسمَّى بأسماء آبائه يتذكّر دائماً أنّه من نسل أولئك الآباء وأن عليه أن يتمسّك بإيمانه الذي تسلّمه منهم خاصةً نحن كمسيحيين يجب أن نتمسك بالإيمان المسيحي الذي تمسّك به آباؤنا، لذلك نرى أن أولئك الناس الجيران والأقرباء بحسب تلك العادة سمّوا الابن الذي ولدته أليصابات باسم أبيه زكريا. كان زكريا كاهناً تقيّاً والجميع عرفوا أن هذا الصبي حُبل به في بطن أمه أليصابات بعد أن بشّر الملاك أباه زكريا في مذبح البخور، لذلك فهو صبي ولد بموعد وبنعمة ولئن كانت الولادة مثلما قلنا طبيعية جسدية وهذا أمر مهم جداً أن نفهمه، ولادة جسدية صرفة إنما لم تكن جسدية بالنسبة للروح، لأنها جاءت بموعد من اللّه. أليصابات قالت: يدعى يوحنا، أجابوها: في كل نسلكم لم يكن شخص اسمه يوحنا، فاستشاروا زكريا الذي كان صامتاً كما حكم عليه الملاك لا يسمع ولا يتكلّم. أعطوه لوحاً ليكتب فكتب: يوحنا، وعندما كتب ذلك انطلق عقد لسانه وفتح فمه وتكلّم وسبّح اللّه وتنبّأ عن الصبي. ليس عن الصبي فقط أنه يسبق مجيء المسيح، ماسيّا المنتظر الذي هو ربّه، بل أيضاً تنبّأ عن المسيح بالذات الذي أقامه اللّه قرناً أي عزّاً لذلك الشعب، ودعي يوحنا لأنه به بدأ عهد الحنان، هذا الحنان كان أيضاً لا بدّ أن يرافقه ما ندعوه الرجوع إلى اللّه أي التوبة، ولذلك عهد الحنان بدأ بمناداة يوحنا الشعب قائلاً: «توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه»، وبدأ مناداة الرب في تدبيره الإلهي العلني بالجسد بعد أن اعتمد وأعلن من السماء أنه ابن اللّه وبعد أن ظهر الروح القدس بشبه حمامة هابطاً على هامته ليميّزه عن بقية الناس ولأجل الناس، لأنه هو والروح واحد، هو والآب واحد أيضاً. بعد كل ذلك بدأ رسالته الإلهية بالمناداة أيضاً بالتوبة، توبوا فقد اقترب منكم ملكوت اللّه، هذا هو عهد الحنان الذي تمّ بالفداء بدم المسيح يسوع، فنلنا رحمة اللّه بالعودة إلى فردوس النعيم وبالموعد أن نكون بعدئذٍ في يوم القيامة في عِداد القديسين في ملكوت اللّه، ليس فقط في الفردوس كأرواح قديسة طاهرة، بل أيضاً في يوم القيامة في ملكوت اللّه.

بشفاعة هذا القديس مار يوحنا المعمدان نسأل الرب الإله أن يؤهّلنا جميعاً لنقتدي بآبائنا كزكريا وأليصابات إذا ما أصبنا ببلوى لنصطبر، أليصابات أنشدت بنشيدها أن اللّه رفع العار عنها، كان العقر عاراً وكان بلوى، كان مصيبة على أليصابات كما كانت مصيبة على زكريا ولكنهما كانا صابرين، وقد يكون قد عُيِّرا أيضاً من الناس أن الرب لم يباركهما ولذلك أليصابات مجّدت اللّه لأنه رفع عنها وعن عائلتها العار، فولدت ابناً. فعلينا أن نصطبر لأن في كل حدث في حياتنا غاية ربّانية وإذا ما اصطبرنا وطلبنا وسألنا اللّه أن يزيل عنّا هذه البلوى يستجيبنا الرب فيفرح معنا أقرباؤنا وأصدقاؤنا وجيراننا الصالحون لأن الرب قد أنعم علينا، وعظم رحمته لنا. كما علينا أن نقتدي بأليصابات وزكريا اللذين أتمّا شريعة الرب أي ختنا الصبي في اليوم الثامن كما نصّت الشريعة. أحياناً عديدة نحن نؤمن بفرائض الرب، أحياناً عديدة بعض الناس يظنون أن خلاصنا بالكتاب المقدس فقط، والحقيقة يبتعدون عن الحق وعن ينابيع الحق، ولكن هناك فروض وأحكام. عندما أراد لوقا أن يصف أليصابات وزكريا بالبر قال عنهما أنهما كانا يتمسّكان بشريعة الرب وبأحكامه وفروضه، فنحن علينا فروض دينية من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات علينا أن نكملها إلى جانب تمسكنا بالناموس الأدبي، فعلينا أن نواظب على حضور القداس الإلهي أيام الآحاد والأعياد، هذا القداس ضروري جداً عندما بعض الذين تتطرّفاً منهم تركوا النظم والفرائض ظنّاً منهم أن قراءة كلمة اللّه أي الكتاب المقدس تكفي للخلاص، لقد حادوا عن الحق وابتعدوا عن ينبوع الخلاص لأن ما نمارسه من صلوات واجب علينا، الصلوات اليومية الفرضية يجب أن نصلّيها وقد سمحت الكنيسة للظروف العالمية أن نصلّيها في البيت. سابقاً كان علينا أن نصلّيها في الكنيسة صباح مساء، أو في موقع العمل، إنّما مَن منّا إن كنّا إكليريكيين علينا أن نصلي بالروح نعبد اللّه بالروح والحق، ليس فقط نقرأ الإشحيم أو نقرأ الفنقيث، واجب علينا أن نعمل ذلك، ولكن ليكن ذلك بالروح والحق، وإن كنّا علمانيين أيضاً على الأقل كما هو مدوَّن في كتاب التحفة الروحية، أن نقوم بهذه الصلوات أينما كنّا لكي نعبد اللّه أيضاً بالروح والحق ونكمّل هذه الصلوات باشتياق إلى مناجاة الرب، فالفروض ضرورية كالناموس والشريعة.

نتعلّم أيضاً من زكريا ومن أليصابات أن نتواضع عندما يُنعَم علينا بنعمة ما وأن نقرّ ونعترف بأننا لم ننل هذا من أنفسنا وبقوّتنا بل من اللّه، وأيضاً نفكّر في المجموع، فزكريا لم يفكر أن يُرفَع العار عنه وعن زوجته، بل أيضاً فكّر بالخلاص وعندما مجّد اللّه بولادة ابنه مجّد أيضاً اللّه لأنه أقام قرن خلاص يعني الخلاص العام الذي صار بالمسيح يسوع ربنا.

ليباركنا الرب جميعاً، ويؤهّلنا أيها الأحباء لنتمسّك بشريعته الإلهية ونواميسه وفرائضه لننال نعمة الخلاص به، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


ميلاد يوحنا المعمدان (6)

 

«أما اليصابات فتم زمانه لتلد فولدت ابناً وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب قد عظّم رحمته عليها ففرحوا معها»

   (لو1: 57 ـ 58)

 

 الكنيسة المقدسة في هذا اليوم تحتفل بأحد ولادة يوحنا المعمدان والكنيسة كما تعلمون تحتفل احتفالاً عظيماً بذكرى وعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح الإله المتجسد ولكنها ايضاً إلى جانب ذلك تحتفل بذكرى ميلاد العذراء مريم ويوحنا المعمدان فقط أما بقية الشهداء والقديسين وآباء الكنيسة فإذا ما احتفلت بأعياد هم إنما تحتفل بذكرى انتقالهم إلى الخدور العلوية لأنها تتأمل بسيرة كل واحد منهم ليس فقط في ميلاده ولكن منذ ميلاده وحتى انتقاله الى السماء مستثنى من ذلك العذراء مريم التي ولدت من عاقرين والتي اختارها الله لكي يولد منها الكلمة الإله المتجسد وكذلك يوحنا المعمدان الذي اختاره الله ليكون مبشراً بمجئ الرب ومعلناً أن الإله المتجسد سيأتي ليؤسس ملكوته السماوي على الأرض . قبل كل شئ نحن نطوّب البشير لوقا الذي دوّن لنا باسلوب منطقي هذه الحوادث الإلهية لتجسد الرب يسوع بدأ وهو يحدثنا في بشارته الإلهية عن زكريا الكاهن الذي كان من فرقة أبيا الذي كان شيخاً طاعناً في السن الذي كان يصلي دائماً لكي يأتي مسيا المنتظر ويخلص ذلك الشعب من العبودية ظناً منه ربما كبقية أترابه تلك العبودية الجسدية من الاستعمار الروماني ولكن كما يذكر لوقا عندما آن الأوان ليدخل كاهنٌ الى مذبح البخور ويعطر البخور ليطهر الشعب كما فعل هارون عندما عمّ الوباء شعب إسرائيل فأمره موسى أن يأخذ المبخرة ويبخر الشعب ليزول عنه الوباء وكان دائماً يخل الكاهن الى مذبح البخور ومذبح البخور هو قريب جداً الى الهيكل الذي لا يخله إلا رئيس الكهنة ومرة واحدة في السنة أما مذبح البخور فكان الكاهن يدخله اسبوعياً يبدل خبز التقدمة وإذا ما عطر الكاهن البخور  يدخل البخور الى قدس الأقداس من هناك يصعد الى السماء ويؤمن الشعب بأن كل صلوات أولئك المؤمنين تصعد مع البخور الى عرش الله تعالى . زكريا من فرقة أبيا وقعت عليه القرعة أن يدخل مذبح البخور لم يكن يدري ما سيُفاجأ به ولكن رأى عن يمين مذبح البخور الملاك جبرائيل ملاك العهد الجديد رئيس ملائكة أُرسل وهو جبار الله وهذا معنى اسمه أُرسل من الله ليبشر بميلاد الرب يسوع ومقدمة ميلاد الرب يسوع ليبشر ايضا بيوحنا الذي تقدم الرب يسوع وهيأ الشعب أمامه . الملاك جبرائيل يقول لزكريا لا تخف إن طلبتك قد اُستجيبت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً تسميه يوحنا هذا يكون عظيماً خمراً ومسكراً لا يشرب ويتقدم بروح إيليا أمام الرب نعرف ذلك عندما ندرس موضوع بشارة زكريا ونعلم أن زكريا أصبح صامتاً لأنه شك في قول الملاك ونعلم أن الشعب علم بهذه الاعجوبة وعاد زكريا الى داره وحملت زوجته العاقر وهي شيخة طاعنة في السنين وبعد تسعة أشهر آن الأوان وتم الزمان كما يقول لتلد فولدت ابنا جيرانها أولا وأقربائها ثانياً عندما سمعوا فرحوا معها . في اليوم الثامن بحسب ما فُرض على بني إسرائيل كان لابد أن يجتمع الأقرباء والجيران والأحباء جميعاً ليختنوا الصبي إن وُجد كاهن أو لم يوجد هذا  الختان  هو عهد وُضع مابين الله  أولا وما بين إبراهيم ثم في عهد موسى أصبح فرضاً على بني إسرائيل لابد أن يُختن الذكور ليكونوا في عداد الشعب الذي وُضع له أن يكون شعباً خاصاً لله حافظا الناموس والفرائض وجيد جداً أن لوقا يصف زكريا واليصابات أنهما كانا يحفظان الشريعة والناموس وليس هذا فقط بل ايضا يحفظان الفروض الطقسية التي هي ضرورية جداً للإنسان المؤمن . بدع عديدة ظهرت وتظهر بالنسبة الى المسيحية يقول مثلاً أحدهم يكفي أن نؤمن بالكتاب المقدس جيد جدا أن نؤمن بالكتاب المقدس ولكن هذا لا يكفي للخلاص  هناك فروض وُضعت على الإنسان المؤمن بالكتاب المقدس أن يقتدي بالقديسين بالصوم . بالصلاة. بتوزيع الصدقات . بتقديم القرابين بالتمسك مثلا في يوم الأحد الذي هو يوم القيامة وسابقاً بيوم السبت الذي كان قد فُرض على إسرائيل لذكرى خلاص الرب إياهم من عبودية مصر حيث أخرجهم من هناك بيده القوية وذراعه الممدودة . هذه فروض لابد أن يكملها الإنسان ، نحن ايضا عندنا فروض عندما نصلي  كنا نصلي مرات عديدة في النهار جمعها آباء الكنيسة الى مرتين صباحاً ومساءً هذا فرض علينا أن نجتمع مع الله بالروح والحق نعبده عبادة تامة لا يكفي أن نؤمن ، لا يكفي أن نطلب بعض الكلمات ظناً منا أن هذه الكلمات تخلصنا لا خلاصنا بدم المسيح وبالفروض التي فُرض علينا أن نكملها لنكون قريبين من الله حينذاك نكون مسيحيين حقيقيين ولوقا البشير لم ينسَ ذلك لذلك عندما وصف البارين القديسين اليصابات وزوجها زكريا الكاهن قال عنهما أنهما كانا يكملان الشريعة والناموس أي الناموس الأدبي والفروض أي الطقوس جميعها التي فُرضت على الإنسان ومن جملة تلك الفروض كان الختان كان لابد أن يُختتن الصبي في اليوم الثامن ولم يكن الصبي يُسمى باسم ولم يكن يُعدّ في عداد شعب الله في الأيام السبعة الأولى لذلك حتى في الميلاد نحن نبدأ السنة الميلادية في عيد رأس السنة الذي هو ختان الرب بالذات لا بعيد ميلاده فميلاده بالجسد يبقى جانباً ثم بدء العهد الذي عمله يسوع بالنيابة عن الشعب عن العالم كافة كذلك يوحنا المعمدان كان لابد بحسب الفروض أن يُختتن ففي اليوم الثامن اجتمع الأقرباء والجيران والأحباء الذين فرحوا مع اليصابات لأن الرب أزال عنها العار وولدت ولدت ابناً ابناً وليس كالبنين الرب يسوع يقول عن يوحنا في انه لم يقم بين جميع الأنبياء أعظم من يوحنا المعمدان ولكن ايضا يقول عنا نحن الذين قد فدانا بدمه القدوس الصغير في ملكوت الله هو أعظم منه . عندما بدأوا بالختان كان لابد أن يطلقوا  على هذا الصبي اسماً وكانت العادة أن يُطلق عليه اسم من أسماء أجداده وآبائه أرادوا أن يسموه زكريا على اسم أبيه اليصابات قالت لا بل يُسمى يوحنا الحنان به بدأ عهد الرحمة والحنان يُسمى يوحنا ليس في كل آبائكم أحد اسمه يوحنا قالت لا يسمى إلا يوحنا فأرادوا أن يسألوا زكريا كان زكريا قد حتّم عليه الملاك لشكوكه انه لا ينطق ولا يسمع كان أصم واخرس فأشار عليهم أن يأتوا بلوح حينئذٍ كتب يُسمى يوحنا كان الملاك قد سماه لزكريا يوحنا لكن كيف علمت اليصابات هذا عمل الروح القدس ، وعندما كتب يوحنا حينذاك انطلق لسانه حقل لسانه وبدأ يسمع وبدأ أولا يسبح الله ويشكره ويتنبأ معلناً أن هذا الصبي يهيئ الطريق أمام ربه معلنا ايضا أن الرب الذي سيأتي بحسب بشارة هذا الصبي يكون للعالم أجمع «نور إعلان للأمم ومجد لشعب اسرائيل»، هذا المجد جاء لشعب اسرائيل لأن ذلك الشعب اؤتمن على أن يحفظ الناموس والشريعة والفرائض والذبائح الى مجيء الرب يسوع. زكريا تنبأ وهو يسبح الله ويشكره لأنه أزال العار عن داره ولأنه وهب له ابنا يكون عظيما خمرا ومسكرا لا يشرب ويتقدم أمام ربه ليهيئ الطريق قدامه بروح ايلياء . الشعب قد سمع الخبر قد أُذيع في كل مكان لابد أن هيرودس سمع ايضا ذلك وفي تشابه جدا مابين الخبر عن الرب يسوع وعن يوحنا فهيرودس كما يخبرنا التقليد الصحيح السليم هيرودس بعث ليقتل الفتى الصبي يوحنا زكريا قال لذلك الذي اوكل مع جند كثيرين أن يأخذ الصبي ليقتله ظنا منه أن هذا هو مشيحا هذا هو ملك اليهود عندما أمر بقتل الصبيان في بيت لحم يقول التقليد أن زكريا قال لهم أنا قد أخذت هذا الطفل من مذبح الرب فتعالوا هلموا خذوه من مذبح الرب وأخذه الى الهيكل هناك خطفه ملاك الرب وذهب به الى البرية فقتلوا زكريا مابين الهيكل والمذبح هذا ما يقول بعض آبائنا إن الرب عندما قال لليهود يأتي عليكم كل دم زكي للأنبياء يذكر من دم هابيل والى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح يوحنا فقط لوقا يذكر لنا في هذا الإصحاح الأول أن يوحنا كان ينمو بالنعمة ويحيا في البرية الى أن ظهر لبني اسرائيل يعني كان في الثلاثين من عمره كان يعيش يُربى من الملائكة بالذات لا يعرف من البشر أحداً حتى لم يكن يعرف المسيح مع أن  اليصابات نسيبة العذراء مريم لم يكن يعرف أحدا من البشر لئلا يماري البشر لئلا يهابهم لأنه عندما بشر توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت الله بشر بقوة وغيرة كالنبي الناري ايلياء ولذلك يقال عنه في الكتاب انه جاء بروح إيليا كما قال المسيح نفسه عن يوحنا المعمدان . تربى في البرية على يد أولئك الملائكة أنقذه الملاك من يد أولئك الأشرار حينذاك قامت مهمته عندما بلغ الثلاثين قبل الثلاثين لم يكن يُسمح لأحد من بني اسرائيل أن يقف ويخاطب الشعب لأنه لم يبلغ سن الكمال حتى المسيح لم يبدأ تدبيره العلني بالجسد إلا عندما بلغ الثلاثين من عمره هذا هو يوحنا الذي تعيد له الكنيسة عيد ميلاده في هذا الأحد من الآحاد الثمانية التي تسبق الميلاد لتهيئ عقولنا لمجيء المسيح فعليما أن نسمع لشهادته ، علينا أن نقتدِ بالوالدين اللذين شاء الله وهما في شيخوخة صالحة أن يولد لهم ولد واليصابات كانت عاقر هو يوحنا المعمدان فقد اصطبرا على ذلك سنين عديدة بالصوم ، بالصلاة ، بالتمسك بالشريعة ، بالفروض التي فرضها الله على إنسان العهد القديم فهما قدوة لنا جميعا . ثم نأخذ لنا قدوة ايضا بالنسبة الى تسمية الأطفال بأسماء أجدادهم كانت عادة حميدة جدا لأن الطفل عندما ينمو وقد سُمي باسم احد أجداده يقتدي بآبائه بالتمسك بالرب وإتمام شريعة الرب ثم علينا أحبائي أن نرى رسالة يوحنا المعمدان بالتواضع أحيانا عديدة عندما الرب ينعم على بعض البشر نعمة عظيمة دنيوية أو حتى روحية يأتي إبليس يجند معه من يجند من جنوده الأشرار لكي يخدعوا هذا الإنسان فبغرور وكبرياء وعجرفة يسقط هذا الإنسان ويفقد النعمة يوحنا كان متواضعا وكان شاهدا صادقا عندما شهد عن الرب عندما سُئل أنا قلت كانت سيرته في بدء التبشير بميلاده وميلاده العجيب ايضا الذي يدعوه الرسول بولس الميلاد بالمواعيد لا بقوة الجسد عندما يكون الإنسان قد شاخ وخاصة العاقر التي شاخت ولكن بقوة الله ولد يوحنا الميلاد بالمواعيد مواعيد الرب لا هو بالجسد ولا أن يكون هذا الميلاد ميلاد طبيعي لكن ميلاد المواعيد يفوق عن الطبيعة لأن وعد الله يتم في هذا الإنسان فبشفاعة هذا القديس وزكريا واليصابت ليحفظ الرب جميعكم ليزيل الهموم والضيقات وكل ماهو ضمن التجارب التي تطرأ علينا كما طرأت التجارب على زكريا واليصابات ليزيل الرب هذه التجارب عنا وليفرحنا كما افرح جيران وأقرباء اليصابات إذ الرب قد كثّر كما يقول الإنجيل المقدس رحمته عليها ليكثّر الرب المراحم علينا أيها الأحباء بنعمته تعالى آمين. 

 


ميلاد يوحنا المعمدان (7)

 

«أما إليصابات فلما تم زمانها لتلد فولدت ابنا وسمع جيرانها وأقرباءها وفرحوا معها، لأن الرب قد عظم رحمته عليها»

       (لو57:1)

 

هذا الأحد أيها الأحباء ندعوه أحد ميلاد يوحنا، ميلاد يوحنا من العجوز الشيخة الوقورة إليصابات ومن زوجها الكاهن الشيخ زكريا، يوحنا ولد من العاقرين، لكنه ولد كسائر الناس كما يولدون، يقول لوقا وهو الطبيب المنطقي الذي فصّل لنا حوادث ميلاد الرب يسوع، والكنيسة المقدسة تهيئنا في  هذه الآحاد لتقبل سر التجسد الإلهي وميلاد الرب يسوع بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم، يقول لنا لوقا أيها الأحباء، إن زمن إليصابات قد تم كسائر النسوة بولادتهن أبناءهم وبناتهم، تسعة شهور مضت منذ بشر الملاك جبرائيل الكاهن الشيخ زكريا، عندما دخل زكريا إلى مذبح البخور وعطر هناك البخور ليصعد صلات المؤمنين معها إلى منبر الرب، عندما ظهر جبرائيل عن يمين مذبح البخور فأرتعب زكريا. قال له حينذاك الملاك جبرائيل، ملاك العهد الجديد «لا تخف يا زكريا فإن امرأتك إليصابات ستلد لك ابناً  وتدعو  اسمه يوحنا هذا سيكون عظيماً، خمراً ومسكراً لا يشرب ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه»، بعد تسعة شهور من هذه الحادثة تمت أيام إليصابات لتلد، فولدت ابناً. 

يقول لوقا: «سمع بذلك جيرانها ـ الجيران قبل الأقرباء ـ سمع بذلك جيرانها وأقرباءها وفرحوا معها»، لقد عم الفرح جبل يهوذا، عم الفرح أولئك الناس الذين عرفوا بالبارين التقيين، الشيخ الكاهن زكريا، وزوجته البارة إليصابات، اللذين كانا يسيران بشريعة الرب ونواميسه وأحكامه، وحدث لهم ما حدث، فولدت إليصابات وهي في شيخوختها ابناً، فاجتمعوا فرحين معها.

ما أجمل أيها الأحباء أن نفرح مع الفرحين، كما يُعلمنا الرسول بولس، وأن نحزن مع الحزانى، قد نحزن مع الحزانى وعلى الحزانى، ولكن ليس من السهل أن يفرح الإنسان مع الفرحين، أحياناً عديدة إذا حدث لعائلةٍ نجاح في حياتها لا ننسب ذلك إلى رحمة الرب على تلك العائلة، ولا ننسب نعمة الرب على تقوى تلك العائلة ومخافتهم الرب ونقول إنه الحظ،، ولكن الإنسان المنصف، الإنسان الذي يخاف الله يفرح مع الفرحين، هكذا كانوا جيران إليصابات وأقرباءها فرحوا معها، لأن الله قد عظّم رحمته عليها بشيخوخة صالحة ولدت ابنها يوحنا.

والبعض عادة يكمل شريعة الله وأحكامه، أي الفروض التي وجدت ووضعت على الإنسان المؤمن، ومن جملة هذه الأحكام أيها الأحباء التي وضعت لدى بني إسرائيل قبل تجسد الرب يسوع،كان لا بد أن يختتن كل ذكرٍ مولود منهم، وعهد الختان قد بدأ بإبراهيم، وبنو إسرائيل كانوا يعتبرون إبراهيم أباً لهم، ويظهرون أن الخلاص قد تم لهم لأن أباهم إبراهيم، وكانوا يقولون للرب يسوع أن أبانا إبراهيم، الرب يسوع يعلم أن أولئك الناس الذين حادوا عن الشريعة لا يستحقون أن يدعوا ابناءاً لإبراهيم، كان يقول لهم: «أنتم من أبٍ هو إبليس وإرادة أبيكم تفعلون».

عهد الختان كان أن الولد، الابن، الذكر بعد ميلاده بثمانية أيام لا بد أن يختتن، هذا العهد بين شعب الرب وبين الرب بالذات قبل مجيء الرب يسوع، لذلك عندما ولد يوحنا اجتمعوا، الكهنة اجتمعوا والأقرباء والأصدقاء، وكانوا فرحين ليختتنوا الصبي، وعادة عندما يُختتن الصبي كان يُدعى باسم، فأرادوا أن يسموه زكريا باسم أبيه، تكريماً لأبيه، وما أجمل أن نحفظ العهد مع آبائنا وأن نسمي أولادنا بأسماء الآباء القديسين، ما أجمل أن نفعل ذلك لكي يقتدي الأبناء بالآباء، ولكن عندما أرادوا أن يسموه زكريا، اعترضت إليصابات، زكريا بعد تحت حكم الملاك الذي قال له: أن يبقى صامتاً لا يسمع ولا ينطق، إلى أن يتم قول الملاك، وقول الملاك كان هو  التبشير بميلاد يوحنا. فقالت إليصابات لا، لا يدعى زكريا إنما يُدعى يوحنا، هذا عجب عجاب، من أين علمت إليصابات أن الله قد أرسل ملاكه، وأنه قد أعطى هذا الاسم بالذات عندما بشر زكريا قائلاً له: إن إليصابات تلد ابناً وتدعوه يوحنا، الحنان، الرحمة، عهد الرحمة والمحبة والحنان يبدأ به، من أين علمت إليصابات ذلك؟  لا غروا من هذا فنحن نعرف أن الروح القدس حلّ عليها حينما زارتها العذراء مريم والرب يسوع كان في أحشاء العذراء مريم، وأن يوحنا حقاً قد امتلأ بالروح القدس كما قال الملاك وهو في بطن أمه إليصابات، وارتكض فرحاً بلقاء الرب يسوع الطفل. هذا أمرٌ عجيب جداً، ولا يُعتبر عجيباً  بالنسبة لنا لأن ديننا كله أعاجيب، لذلك قد امتلأت إليصابات من الروح القدس، والروح القدس ألهمها أنه يدعى اسمه يوحنا.

احتار الكهنة والأصدقاء والأقرباء، وقالوا لإليصابات ليس في عائلتك أحد بهذا الاسم، فأشاروا على زكريا، ماذا نسمي الطفل، طلب لوحاً لأنه لم يكن ينطق بعد، طلب لوحاً وكتب اسمه يوحنا،  لا يُسمى، اسمه يوحنا، هذا الاسم أعطته السماء، أسمه يوحنا، وحالما كتب أسمه يوحنا أنفك عقد لسانه، وأيضاً سمعه ونطق، عندما شك صمتَ، عندما نطقَ سبح الله، وابتدأ يتنبأ عن مستقبل هذا الصبي يوحنا، الذي قال عنه نبي الله يُدعى ويتقدم الرب يهيأ شعباً أمامه.

 هكذا نرى الولادة العجيبة، ولئن كانت ولادة طبيعية، لكنها ولادة من عاقرين شيخين، ونرى كيف أن الله حتى يتدخل في هذه الأمور الصغيرة، نتعجب من ذلك، وندرس حياتنا جميعاً، نرى أن الرب وراء كل حدث يحدث لنا، أن كنا نؤمن بالرب، وإن كنا نكمل ناموس الرب وأحكامه بمخافة الرب.

 دروسٌ عديدة نتعلم أيها الأحباء بميلاد يوحنا، نرى مثلاً ونحن ندرس حياة يوحنا، كيف يقول الملاك لأبيه زكريا ويبشره «هذا يكون عظيماً»؟

أين هذه العظمة؟ بلغة البشر وبعقل البشر. هل العظمة لأنه قد ولد من شيخين؟ العظمة بالآلام التي تحملها في سبيل حمل رسالة الرب. + العظمة بأنه لم يذق خمراً ولا مسكراً، أين العظمة بلغتنا وبفهمنا نحن البشر؟ أن الإنسان يكون عظيماً عندما يكون غنياً، عندما يكون ذا جاه ومركز سامي في هذه الدنيا.

أما العظمة الحقيقية لدى الله، هي أن يخاف الإنسان الله، أن يُكمل شريعة الله، أن يتتم أحكامه وفرائضه من صوم وصلاة وتوزيع الصدقات، هناك تظهر عظمة الإنسان المؤمن.

 فيوحنا كان عظيماً لأنه كان يخاف الله. ونحن عندما نحتفل في هذا الأحد بذكرى ميلاده، وذكرى ختانه، وذكرى تسميته بهذا الاسم العجيب، أيها الأحباء، نسبح الله الذي أختاره ليكون سابقاً للرب يسوع ويبشر به ويكون كاروزاً له، مهيئاً الشعب قدامه، ولنقتدي به، ليس فقط  أن لا نحتسي الخمر والمسكر، بل أن نمتلئ من الروح القدس ولا يكون ذلك إلا بإيماننا بالرب يسوع، وإيماننا بالرسالة السامية التي وضعها الرب يسوع على عاتق كل واحد منا، مؤمنين به لننال أجراً عظيماً، ونعمته تشملكم دائماً أبداً، آمين.

 

 


ميلاد يوحنا المعمدان (8)

 

«أما إليصابات فلما تمَّ زمانها لتلد، ولدت إبناً فسمعَ جيرانها وأقرباؤها أنَّ الرب قد عظَّمَ رحمتهُ عليها ففرحوا معها»

   (لوقا1: 57 )

 

فرحٌ وسرورٌ وبهجةٌ عمَّت جميع سكان جبل يهوذا عندما بلغهم الخبر المُفرح أن إليصابات قد ولدت إبناً، تلكَ الشيخة العاقر التي انتظرت سنين عديدة بصوم وصلاة ونذور لكي يُعطيها الرب نعمةَ الولادة لتلد مولوداً إن كان ذكراً أو أنثى، فولدت إبناً مما زادَ فرحها وبهجتها، ولدت إبناً بإنذار السماء بالذات بوعد الله لزوجها زكريا، ونحنُ عندما نتأمل بهذا الحَدث العجيب نذكر قبل تسعة أشهر من زمن هذا الحَدث كيفَ أن زكريا عندما كانت نوبتهُ ليدخل إلى هيكل الرب ويُبخر إلى مذبحِ البخور ارتفعت صلاتهُ إلى الله وظهر لهُ ملاك الرب جاء عن يمين مذبح البخور يُبشر زكريا بأن امرأتهُ إليصابات ستلد لهُ إبناً وأعطاهُ الإسم أيضاً، يُدعى يوحنا ..

 لأنَّ بهِ يبدأ عصر الحنان والرحمة والمحبة وينتهي العصر القديم عصر العدالة وعصر شريعة العين بالعين والسن بالسن.

ولما تمَّ زمان إليصابات، بعد تلك البشارة بتسعة أشهر لتلد، ولدت هذا الذي عنهُ تنبأ بل أنبأ الملاك جبرائيل أباهُ زكريا.

كانت العادة بحسب فرائض وطقوس شريعة موسى أن الابن الذَكَر في اليوم الثامن يُختتن فاجتمع الكهنة والجيران والأصدقاء والأقرباء ليحتفلوا بختان يوحنا ابن زكريا الكاهن، الذي كان قد عوقِبَ من ملاك الرب أن يبقى صامتاً طالما شكَّ في قول هذا الملاك إلى أن يتم ما قالهُ الملاك لهُ.

اجتمع هؤلاء الناس وهم فرحون، وعندما كانوا يختنوا الطفل الذكر كانوا يُطلقون عليهِ إسماً، أطلقوا على هذا المولود اسم والدهُ زكريا فامتلأت إليصابات أمهُ من الروح القدس وقالت لا، بل إسمهُ يوحنا قالوا لها ليسَ في عشيرتكِ أحد بهذا الإسم، قالت إسمهُ يوحنا، كان زكريا صامتاً لا يسمع ولا ينطق، حينذاك أتوا بلوحٍ وطلبوا إليهِ أن يكتب ماذا يُسمى هذا الطفل فكتبَ إسمهُ يوحنا، لم يكتب نسمِّيهِ يوحنا بل إسمهُ يوحنا، هذا الإسم أعطيَ من السماء حينذاك فُكَّ عقل لسانه وانطلق عندما أُمرَ بأن يصمت كعقاب لهُ لشكوكهِ بقول الملاك، صَمت وعندما نطق بدأ بتسبيح الله، نطق بقوة الروح القدس وبدأ يُسبح الله ويُناجي ابنهُ وأنتَ أيها الطفل نبي العليّ تُدعى، وأظهرَ رسالتهُ، ما هي الرسالة التي أُعطيت ليوحنا… أن يكون عظيماً كما قال الملاك عنهُ خمراً ومسكراً لا يشرب ويتقدَّم بروح إيلياء، روح الغيرة، روح التمسُّك بالإيمان ليتقدم أمام الرب ليُهيِّىء طريقهُ قدامهُ.

كل هذهِ الأمور العجيبة رأيناها وسمعنا ما قالهُ زكريا وما قال أيضاً الناس عن هذا الطفل، ماذا سيكون من هذا الطفل ورسالة هذا الطفل يا تُرى..

لا نتعجَّب أيها الأحباء عندما نسمع بعدئذٍ أن هذا الطفل إضطُهِد أيضاً من هيرودس  كما اضطُهدَ الرب يسوع، وأن هذا الطفل أتمَّ شريعة الرب وعاش للرب ناسكاً زاهداً مُتصوِّفاً، عاش حيثُ رباه الملائكة، لا نتعجب أبداً أن بعض الناس ظنوهُ مشيحا المسيح أما هو فهو الشاهد للمسيح لستُ أنا، الذي يأتي بعدي هو أقدمُ مني الذي لا أستحق أن أنحني وأحل سيور حذائهِ. هذا كل ما سمعنا من يوحنا كشهادة للرب يسوع وهذهِ الشهادة هي رسالتهُ السامية وُلدَ لأجلها ونشأ لأجلها وأعلنها، لم يكُن يوحنا يعرفُ أحداً من أقربائهِ وأصدقائهِ، لماذا ؟ لأنهُ وهو طفل اضطُهِد، هيرودس الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم حتى يقتل المسيح الطفل أمر أيضاً عندما سمعَ خبر ميلاد يوحنا أمر أن يُقتل هذا الطفل لعلَّهُ هو المسيح، ويقول التاريخ الكنسي أيها الأحباء وهذهِ حقيقةٌ تامة وصحيحة أن الجُند أتوا إلى زكريا ليأخذوا يوحنا الطفل فرفض زكريا وقال لهم إنني أخذتهُ من مذبح الرب وأُعطيهِ لمذبح الرب وأنتم أفعلوا ما تشاؤون فأخذهُ إلى الهيكل ووضع يوحنا أمام مذبح الرب فجاء ملاكٌ واختطف يوحنا وأخذهُ إلى البرية. وهناك رأي وهو أن الرب عندما قال كل دم زكي يُطلب من اليهود أشار إلى دم زكريا الذي قتلوهُ بين المذبح والهيكل حينذاك حسب رأي بعض الآباء عندما اختطف الملاك الطفل يوحنا الجُند قتلوا زكريا بالذات ودمهُ كان على اليهود لأن الجُند أيضاً كانوا من جُند الهيكل الذين هم كانوا يهود أيضاً وهناك اُخذ يوحنا أيضاً إلى البرية.

التاريخ يُخبرنا ويؤكد لنا أن الطفل عاش في البرية وبقوة الله تبعتهُ أمهُ إليصابات وأرضعتهُ وإلى السنة الثامنة كانت أمهُ معهُ، ثم غادرت هذهِ الحياة إلى الخدور العلوية ويوحنا رباهُ الملائكة لذلك لم يكُن يعرف أحداً من أقربائهِ حتى المسيح الذي هو نسيبٌ ليوحنا، حتى المسيح لم يكُن يعرفهُ يوحنا، وعندما جاء المسيح ربنا إلى يوحنا ليعتمد قال يوحنا الذي أرسلني لأعمِّد قال لي الذي ترى على هامتهِ شبه حمامة هو هو مسيَّا المسيح وأنا  ورأيتُ وشهدتُ أن هذا هو المسيح.

تربى يوحنا في البرية لكي لا يُجاري أو يُجامل أحد ولذلك عندما آن الأوان ليُعلن بشارتهُ عن مجيء المسيح بدأ بقولهِ توبوا لأنهُ قد اقترب منكم ملكوت الله، وكل مَن كان يأتيهِ ليعتمد منهُ كان أولاً يعترف بخطاياه أمام يوحنا حينذاك يُعمِّدهُ يوحنا معمودية التوبة، لذلك عندما جاءهُ المسيح في البداية لم يعرفهُ وبعدئذٍ جاءهُ يوم الوحي على يوحنا وعلمَ أنهُ المسيح فقال لهُ أنا محتاجٌ أن أعتمد منكَ وأنت َ تأتي إلي، الرب يسوع قال لهُ دع الآن ينبغي أن نُكمِّل كل برّ، أنهُ حتى الرب يسوع جاء لم يأتِ فقط كإنسان، جاء كإنسان  جمعَ كل خطايا العالم في نفسهِ حتى يكون ضحية وذبيحة عن هذهِ الخطايا ويغفر لنا نحنُ البشر.

في ميلاد يوحنا أحبائي نأخذ دروساً قيِّمة أولاً كيفَ أنهُ إذا الإنسان أُصيبَ ببليَّة لا يعتبر هذهِ البلية من الخطية بل إرادة الله كانت تشاء، وباعتبار أنهُ في تلك الأيام العاقر تُعتبر خاطئة لأنها لم تلد فكان همُّ العاقر هو أن تلد ذكراً أو أنثى لا يهمّ، المهم أن تلد لكي يزول العار عنها، هذا في العهد القديم أما نحنُ في العهد الجديد هذا الشيء لا يهمنا أبداً، الإنسان يهمُّهُ أن يكون لله وأن يعبد الله وأن يُكمِّل الشريعة هذا أهم شيء فلا يهمّ إن كانت المرأة عاقراً أم وَلَدت.

لكن مع هذا نحنُ نرى أن إليصابات وزكريا كانا بارَّين يكمِّلان شريعة الله وأحكامهُ، الأحكام هي الفروض والطقوس، ومن جملة تكميل هذهِ الطقوس مجيء  يوحنا المعمدان وإكمال الطقس بالنسبة إلى الختان إذ كان الختان علامة عهد بين بني إسرائيل وبين الله، إذا لم يُختتن فهذا لا يتعاملون معهُ ولا يعرفوهُ ويعتبروه من الأمم، هذا الشيء زال في المسيحية فالمعمودية هي العهد بيننا وبين الله ولذلك الرسول بولس يقول ولئن اختُتنتم فالمسيح لا ينفعكم شيئاً، فنحنُ كمسيحيين لا يوجد عندنا الختان كعهد بين الله وبين الإنسان إلا إذا كان لغاية صحية فمسموح بهِ، عهدنا عن طريق المعمودية، دُفنا معهُ بالمعمودية للموت حتى كما قام المسيح من بين الأموات نحنُ أيضاً نقوم في جِدَّة الحياة والحياة الجديدة.

نتعلَّم أيضاً من إليصابات ومن زكريا الصبر، كيف زكريا اصطبر لأن الملاك عاقبهُ تسعة شهور وهو صامت لا يسمع ولا ينطق وعندما نطق سبَّح الله، هذا الشيء واضح جداً.

ونرى أنهما قدوة لكلِّ مؤمنٍ بالله أن يرضى بما يُعاقبهُ الله بهِ أو يُؤدبهُ وثم يُسبح الله بعدئذٍ عندما يُزيل عنهُ هذا العقاب.

 ونتعلم منهما كيف نربي أولادنا، ربَّيا إبنهما وإن كان طفل ولكن حتى عندما اختطفهُ الملاك وأخذهُ إلى البرية تبعتهُ – بإرادة الله طبعاً – إليصابات ويقول الكتاب المقدس أن إليصابات امتلأت من الروح القدس، امتلأت أولاً من الروح القدس عندما زارتها العذراء مريم ونطقت إليصابات بقانون الإيمان من أينَ لي هذا أن تأتي أمُّ ربي إليَّ . أول مَن دعا العذراء مريم بأم الرب هي إليصابات طبعاً فعلت ذلك بقوة الروح القدس.

 فنحنُ أيضاً أيها الأحباء عندما نقتدي بهؤلاء الأبرار والأتقياء الذين ربنا ولئن أحياناً أدَّبهم ولكن أدَّبهم لكي يُظهِر فضلهم ويُظهِر تقواهم ويُظهر قداستهم كما يُنقَّى الذهب بالنار.

نسأل الرب يسوع في هذا اليوم الذي هو أحد ميلاد يوحنا المعمدان بشفاعة زكريا وإليصابات ويوحنا المعمدان بالذات أن يحفظكم ويُؤهلكم لكي تُربُّوا أولادكم التربية المسيحية الصالحة بنعمتهِ تعالى آمين.

 


وحي يوسف البار

وحي يوسف البار

 

وحي يوسف البار (1)

 

«يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»

  (مت 1 : 20)

 

تذكر الكنيسة المقدسة في طقسها في هذا اليوم جليان (ܓܠܝܢܐ ܕܝܘܣܦ) أي ظهور الملاك ليوسف في الحلم، وإعلان حقيقة التجسّد، حقيقة حبل العذراء مريم من الروح القدس. وفي هذه الحادثة ونحن نتأمّل ما جرى ليوسف البار من اضطراب عندما وجد مريم حبلى بعد أن عادت من زيارتها لنسيبتها أليصابات، نشعر بعناية الله تعالى بعباده الصدِّيقين وبالعالم أجمع، حيث طمأن هذا الصدِّيق، ثم نلمس إيمان هذا الصدّيق وتصديقه لإعلان السماء وطاعته للرب.

كانت العذراء مريم قد عادت من زيارة أليصابات بعد أن مكثت في بيت زكريا الكاهن زوج أليصابات في جبل يهوذا ثلاثة اشهر، عادت فبدت عليها علائم الحبل، شكّ يوسف، اضطرب لا يعلم ماذا يفعل، هل يشهرها كأنها زانية والعياذ بالله، أم يسكت عنها ويكون قد اشترك في خطيّتها لأن من يشعر بخطيئة كهذه ويسترها يكون قد اشترك فيها، والرسول بولس بعدئذٍ يقول: «لا تشترك في خطايا الآخرين» (1تي 5 : 22). موسى كما ذكر الرب يسوع ذاته كان قد أذِن لليهود بتطليق نسائهم، سمح للرجل الذي يرغب بتطليق زوجته أن يعطيها كتاب الطلاق فتُخلّى. هكذا قال الرب عن موسى، وقال للفرّيسيين عندما ذكّروه بهذه الحقيقة: «إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم، أما منذ البدء فلم يكن هكذا»، هل يفعل يوسف ذلك؟ صار يوسف كريشة في مهب الريح، وكقارب صغير يمخر عباب بحر خضم تتلاطم أمواجه وتعصف رياحه، لا يعلم ماذا يفعل. من هنا نعلم أيها الأحبّاء أنه ليس فقط عامة الناس يدخلون في تجارب ويتعرّضون لآلام والاضطرابات والقلق، ولكن حتى الصدِّيقين تصيبهم هذه المصائب، فقد افتكر يوسف بنفسه هل يشهر العذراء مريم؟ هل يعطيها كتاب الطلاق فتخلّى؟ أم يصدّق ما حدّثته به ولا بد أنها حدّثته عن ظهور الملاك لها وعن تبشيره إياها أنها تحبل الرب، أنّها قد حملت من الروح القدس، وأن الذي حملته هو ابن الله، وأنها ستلد ابناً وتسمّيه يسوع، لا بد أنها حدّثت يوسف بكل ذلك وهو يصدّقها، لكن هذا الأمر عجيب حدّاً، خلافاً للطبيعة وليس من السّهل على الإنسان أن يصدّقه ويؤمن به بدون إلهام ربّاني. هنا نرى كيف يضطرب الإنسان المؤمن وتبدأ الشكوك، الشكوك إذا ساورت الرجل أو المرأة أحدهما في شريكه تدخل الشكوك من كوّة وتخرج المحبة من الباب، ويبدأ ذلك البيت ينقسم على ذاته، والبيت الذي ينقسم على ذاته يقول الرب، يخرب. ولذلك فالقديسون دائماً، الصدِّيقون يصطبرون، يأخذون جانب الصبر والتريّث والتفاهم حتى لا يخرب هذا البيت.

نحن الإكليروس أيها الأحبّاء، خاصةً عندما يلتجئ الناس إلينا بأسرارهم، يجب أن نفتكر بهذا، أن نجعل هؤلاء الناس يلتجئون إلى الرب بالصلاة، وأن ينقّوا قلوبهم وأفكارهم، بعدئذٍ يبدأ البحث والتحقيق في أمور عائلية كهذه كي لا يهدم البيت. يعلّمنا الإنجيل المقدس أن يوسف قد تشكّك، ولكن لا يخبرنا أن أهله أو أقارب العذراء مريم أو الأصدقاء والجيران قد تشكّكوا أو شكّوا في العذراء مريم، لماذا؟ لأن العذراء مريم كانت قد خُطِبَت ليوسف، والخطبة هي عقد زواج وكان يحق ليوسف أن يعرفها معرفة زواج، ولئن كانت في بيتها، وخاصةً وقد صارت في بيته. لذلك لم يشكّوا أن يوسف قد عرفها معرفة زواج فهي حُبلى، إن يوسف وحده يعلم أنه لم يعرفها معرفة زواج وأنّها لم تحمل منه. الله لا يترك الصدِّيقين الذين يخافونه ويلتجئون إليه وقت الضيق، لا يتركهم في حيرة، لذلك نقرأ في الإنجيل المقدس كما كتب متى يقول أن يوسف قد ظهر له الملاك في حلمه قائلاً: «يا يوسف ابن داود» ذكر اسمه وذكّره بداود الذي من نسله يأتي المسيح، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، سمّاها امرأته لأنها شرعاً كانت امرأته، ولكن بالحقيقة وفعلاً لم يعرفها معرفة زواج، لا تخف أتن تأخذ مريم امرأتك، ويعني بكلمة تأخذ أي تُزَفّ إليك، كانت العادة أنه بعد الخطوبة تُزَف الفتاة إلى الرجل باحتفال عام أمام الناس جميعاً، فتصير امرأته فعلاً، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً، يبشّره بولادة الابن، وتدعو اسمه يسوع. الحق في تسمية الابن كان للرجل، للأب، فاعتبره أباً للرب يسوع شرعاً، ولذلك عندما حملت وعندما ولدت لم يستطع اليهود أن يتّهموها بالخيانة، ذلك أن يوسف قد اعتبر زوجها شرعاً ونال نعمةً عظيمة، لأن أصبح يُعرَف لدى الناس أنه أب الرب يسوع، والأب هو الذي يحمي أولاده، ولفظة أب من أشرف وأنبل وأفضل الألفاظ. تصوّروا، الرب يسوع عندما علّمنا أن نصلّي، أي أن نخاطب الله تعالى سمح لنا أن نخاطبه مثلما يخاطب الأبناء آباءهم فنقول: (أبانا الذي في السموات)، فما أعظم النعمة التي نالها يوسف أنه دُعي أباً لرب يسوع، ونحن نقرأ أيضاً في الإنجيل المقدس عندما فقدت العذراء مريم وخطيبها يوسف البار الرب يسوع في الهيكل وهو ابن اثنتي عشرة سنة وعادا إلى الهيكل ووجداه قالت له العذراء: «هوذا أبوك وأنا تعبنا جدّاً في التفتيش عنك»، قال لها: «ألا تعلمان أنه ينبغي لي أن أكون فيما هو لأبي»، ويعني بقوله أباه السماوي باعتبار أن الهيكل هو هيكل الله الآب السماوي. إذن الناس لم يشكّوا في العذراء مريم، وكان يحق لخطيبها أم يعرفها معرفة زواج، وحيث أن يوسف لم يمسسها ووجدها حُبلى فهو وحده الذي شكّ فيها، والملاك طمأنه لا تخف يا يوسف ابن داود أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، يسوع (الله خلّص) لأنه قال له الملاك يخلص يخلّص شعبه من خطاياهم.

أيها الأحباء:

استحق يوسف أن يكون أباً للرب يسوع، وحماهُ، هذا وهو جنين، وهو طفل صغير، وهو فتىً يافع، وهذا درس للآباء جميعاُ أن يحموا أولادهم. وربّاهُ يوسف جسدياً بحسب الناموس، بل حمى أيضاً يوسف العذراء مريم، ويخبرنا التاريخ أن يوسف الطاهر النقي الذي يصوّره المصوّرون وفي يده زنبقة دلالةً على الطهر والنقاء، يوسف هذا عندما فارق الحياة مات في أحضان الرب يسوع، يسوع الذي كان يعمل نجاراً في حانوت يوسف وكأنه تعلّم هذه المهنة الشريفة من يوسف، يسوع أيضاً اعتنى هو الآخر بأمه العذراء مريم خاصةً بعد انتقال يوسف إلى السماء. في هذه الحادثة نتعلّم كيف يجب أن نخاف الله، وإذا ما طمأننا الله في الضيق، مؤمنين أنه هو معنا دائماً ويرعانا ويعتني بنا، علينا أن نطيع أوامر الله، يوسف أطاع أمر الله، استيقظ من الحلم وعمل كما أمره الملاك وأخذ العذراء مريم إلى عنده، أي زُفَّت إليه رسمياُ ولم يعرفها، أي لم يعرفها معرفة زواج. يقول متّى مؤكِّداً على أنه لم يعرفها معرفة زواج يقول (حتّى ولدت ابنها البكر) ولا يعني هذا أنه عرفها معرفة زواج بعد ولادة ابنها البكر. البكر هو أول ابن، يمكن أن يأتي بعده آخر، ويمكن ألاّ يأتي بعده أحد، فهو في كل الأحوال يُعَد بكراً للعائلة. وعقيدتنا الإيمانيّة أن العذراء مريم كانت عذراء قبل ولادتها الرب يسوع وعند الولادة وبعد الولادة، لذلك نسمّيها الدائمة البتوليّة. «لم يعرفها حتى ولدت ابنه البكر»، ولك يكن ليسوع اخوة من العذراء مريم، ربّما كان يوسف أرملاً وربّما له أولاد من امرأة أخرى أخذها قبل أن يأخذ العذراء مريم، ولكن في الحقيقة لم يكن للرب يسوع اخوة من العذراء مريم لأنها دائمة البتوليّة، والباب الذي دخل فيه الرب يقول حزقيال (لا يمكن أن يدخل فيه أحد). وهل يعقل أن يوسف البار الذي حدّثته العذراء عمّا جرى لها، والذي رأى العجائب والمعجزات الباهرات، وسمع السماء وهي تنشد التراتيل وتترنّم مبتهجةً مع الرعاة البسطاء في مغارة بيت لحم، هل يُعقَل أن يوسف الذي رأى ملوك المشرق يأتون إلى مغارة بيت لحم ويسجدون للرب يسوع المولود ويسمع كلماتهم، هل يعقل أن يعرف العذراء مريم معرفة زواج. أما الذين دعوا اخوة الرب في الإنجيل المقدس، فهؤلاء هم بنو عمومته أو بنو خؤولتهن وفي لغة الكتاب المقدس كان أبناء الخؤولة أو العمومة يسمون اخوة للشخص. لذلك بقيت العذراء مريم دائمة البتوليّة والمسيح يسوع بكرها وبكر الآب السماوي، وهو الذي اعتنى بها أيضاً، وحين كان معلّقاً على الصليب لم ينسها بل سلّمها لتلميذه الحبيب يوحنا لأنه لم يكن لها ابن سوى الرب يسوع، ولو كان لها ابن آخر إلى جانب الرب يسوع لكان الرب قد سلّمها إليه لأنه أحق من غيره بالعناية بها.

نسأل الرب يسوع في هذا اليوم المبارك أيها الأحباء، أن لا يدخلنا في التجارب، كالتجربة التي دخل فيها يوسف وهو بار، وأن ينقذنا من الشرير الذي يحاول أن يجرّب الصدِّيقين كما أنقذ يوسف من تلك التجربة، وإذا ما دخلنا في التجارب علينا أن نلتجئ في الضيق إلى الرب يسوع، فبعد اضطراب نفوسنا يطمئننا، وإذا ما طمأننا علينا أن نطيع أوامر الرب لنكون مرضيين لديه تعالى. أسأل الرب يسوع أن يؤهّلنا جميعاً ويؤهّل كل صدِّيق وتقيّ وبار أن ينال نعمة عظيمة عند مغادرة هذه الحياة كما نال ذلك يوسف البار، إذ رقد في أحضان الرب يسوع، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


وحي يوسف البار (2)

 

«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»

  (مت 1 : 20)

 

دجى الليل وسكنت الطبيعة، ولكن نفس يوسف الصدِّيق كانت مضطربة. لقد عادت العذراء مريم من جبل اليهودية، من مدينة يهوذا ـ التي هي مدينة الخليل اليوم ـ وبدت عليها إمارات الحبل وعلاماته، فساورت الشكوك نفس يوسف واضطرب جداً وأصبح بين نارين: إنه يعلم أن الفتاة التي خطبها وعقد له عليها عقد زواج هي طاهرة وقدّيسة ونقيّة وعفيفة، ولكنه أيضاً أمام أمر واقع، فقد ظهرت إمارات الحبل وعلاماته. لم يشك أحد بطهر العذراء مريم، أحد من أقربائها أو جيرانها فقد كانوا على يقين أنها حُبلى من يوسف. ففي عادات اليهود في تلك الأيام، أن الفتاة إذا ما خُطبت لرجل، تبقى في دارها ويحق لذلك الرجل أن يزورها في دارها، بل أيضاً يحق له أن يعرفها معرفة الزواج، ولكن العذراء مريم، الفتاة اليتيمة، ربيبة الهيكل عندما آن الأوان لكي تتزوّج بحسب عادات اليهود في تلك الأيام، كان من هو ولي عليها –وفتاة يتيمة ربيت في الهيكل- يكون الكهنة أولياءها، فيختارون من أقربائها، ومن يحق له الزواج منها، وكان في حالة العذراء مريم أن تتزوّج من يوسف الذي بحسب تعليم آبائنا كان أرملاً، ويثبت هذا أيضاً المؤرّخ المسيحي الأول يوسابيوس القيصري، الذي عاش في القرن الرابع. فخُطبَت إلى يوسف، وإذ كانت في الهيكل وقد خُطبت، كان لا بد أن يأخذها يوسف إليه لتعيش معه في داره إذا لم يكن لها أهل غيره إلى أن يأتي الوقت المعيّن لتُزَفّ رسمياً إليه، ويحق للزوج أو الخطيب في هذه الفترة أن يعرف خطيبته معرفة زواج. بعضهم يقول أن العذراء كانت قد نذرت نفسها نذر البتولية، وهذه خرافة، لأنه لم يكن في العهد القديم نذرٌ للبتولية، للسيدات خاصة، ذلك أن كل فتاة يهودية كانت تتوق أن تتزوّج لعل المسيح يولد منها، لذلك عندما آن الأوان وصار عمر الفتاة مريم (13) سنة، خطبت ليوسف، وقبل أن يتزوّجها وجدت حُبلى من الروح القدس، لم يشك أحد بطهرها ونقائها، كلّهم ظنّوا أنها حبلى من يوسف. هكذا شاءت الإرادة الربانية، أن يكون يوسف حامياً للعذراء ولسمعتها أيضاً، ولذلك لم يشك فيها سوى يوسف الذي كان يعرف أنه لم يعرفها معرفة زواج. هل يشهرها ويفشي سرّها ويطلّقها أي أن يعطيها كتاب طلاق فتتخلّى، وبذلك يسيء إلى سمعتها، ويسِم سمعة عائلتها إلى الأبد بوصمة الخطيئة. لم يكن بمقدور اليهود أن يطبّقوا الشريعة الموسوية على الزّانية بأن يرجموها، لأن الانحطاط الأدبي كان قد تفشّى بينهم، ولأن الدولة الرومانية لم تكن تسمح لأولئك القوم أن يطبّقوا شريعتهم التي كانت تأمر برجم الزانية. يوسف وهو صدِّيق اصبح بين نارَين: هل يطلّقها أم يأخذها إليه، وإذا أخذها إليه امرأة وهو يشك بطهرها، بل يرى علامات الحبل بادية عليها يكون قد خالف الشريعة واشترك بالخطية. لذلك خاف من أن يفعل ذلك.

في حالة الاضطراب هذه التي تحدث كثيراً بسبب الشكوك، حتى في دور المؤمنين، عندما تدخل الشكوك الدار تغادرها المحبة، كم دار خربت بسبب الشكوك التي قد يولّدها الغرباء حسداً وبغضةً، وما أكثر من يحيا في حياة المشاغبة والنفاق والدجل وبث الفتن والفساد بين العائلات، وهو لا يعلم أن دينونته عظيمة لأن الله يرى كل شيء ويعرف الخفايا، وفي حالة كهذه الأبرار والأتقياء دائماً يلتجئون إلى الله. لا بد أن العذراء مريم قد حدّثت خطيبها يوسف الصديق بما جرى لها مع الملاك، لا بد أيضاً أنها قد قصّت عليه ما حدث لها مع أليصابات التي حلّ عليها الروح القدس، وقالت للعذراء: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ، ولكن عندما تدخل الشكوك قلب الإنسان وتتمكّن في ذلك القلب، يصمّ هذا الإنسان أذنيه عن سماع النصح، ويرى الحق باطلاً ويرى النور ظلاماً ويرى الأخ والصديق عدوّاً. الصدِّيق كما قلنا يلتجئ إلى الله، هذه كانت حالة يوسف بالتجائه إلى الله ونفسه مضطربة، والله يرى الناس ويقرأ ما في القلوب والكلى كما يقول الكتاب المقدس ويعتني بنا جميعاً، وينتظر منا في كل حال، ليس فقط في الضرّاء، بل بالسرّاء أيضاً أن نلتجئ إليه. في هذه الحالة أرسل الرب ملاكه إلى يوسف فظهر له في حلم، أجل ظهر الملاك جبرائيل ليوسف البار، قال له: يا يوسف ابن داود، يناديه باسمه، لأن اسمه مكتوب لدى الله، والله يعرف أسماءنا جميعاً كل فرد منّا الصغير والكبير لذلك يناديه الملاك باسمه يقول له: يا يوسف ابن داود، ويعلم أيضاً أن يوسف سمن نسل داود، ويريد أن يذكّره أن المسيح يأتي من ذلك النسل: لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لا تخف فإنك لا تخالف الشريعة بذلك، لا تخف وأنت تخاف الله لأنك تكمل أوامر الله بحماية العذراء مريم، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً، ليس هذا فقط، يعطيه شرفاً عظيماً وتدعو اسمه يسوع، ولم يكن يحق لأي إنسان أن يطلق على الطفل اسماً إلا والد الطفل، فهذا الشرف العظيم الذي ناله يوسف أنه أعتبر أباً للرب يسوع المسيح، لذلك قال له الملاك وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. ما أجمل هذا الاسم: يسوع (يشوع) بالسريانية الآرامية التي كان يستعملها ذلك الشعب، يشوع الذي يعني الله مخلص لأنه يخلّص الشعب من خطاياه. متّى الرسول هو الوحيد بين كتبة الإنجيل المقدس الأربعة سرد لنا هذه الحادثة، وحتى يبرهن لليهود الذين كتب إنجيله إليهم أن الرب يسوع هو مشتهى الأمم، الذي فيه تمّت نبوّات الأنبياء، أضاف متى على ذلك قوله: حتى يتم ما قيل بالنبي. يريد أن يذكّرنا ويذكّر العالم عن العذراء التي دعيت امرأة ليوسف بحسب الشرع، أنها هي عذراء فيذكر آية إشعياء النبي الذي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد وتنبّأ عن العذراء قائلاً: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل، ويذكر متى أيضاً تفسير هذا الاسم فيقول: عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، بهذا نقرأ ونرى في إنجيل متى الاسمين اللذين أطلقا على الرب يسوع: «يسوع» كما قال الملاك ليوسف، وتدعو اسمه يسوع، لماذا يدعو اسمه يسوع، يسوع يعني الله يخلّص لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم، إذن يسوع هذا الاسم الجليل يجعلنا أن نأتي إلى الله لأنه هو مخلّصنا فننال به الخلاص. أما الاسم الثاني: عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، فنشعر أن الله قد صار قريباً منّا، الله معنا فقد صار الله معنا، فما أعظم هذه النعمة التي ينالها المؤمنون بالرب، أجل إن الصدِّيقين والأبرار عندما تضطرب قلوبهم بالتجارب التي يدخلونها، فليس كل من يتألم بالحياة، ليس من يشقى في هذه الحياة بعيداً عن الله والله بعيد عنه لأن التجارب كثيرة، وإبليس يحارب خاصة أولئك الذين يكون الله معهم ويكونون مع الله، وفي هذه الحالة على هؤلاء الصدِّيقين أن يلتجئوا كيوسف إلى الله ليحلّ لهم مشاكلهم، وإذا ما أوحى إليهم الله بطريقة ما حلاًّ لتلك المشاكل ومخرجاً من تلك التجربة، عليهم أن يقتدوا بيوسف خطيب العذراء مريم ليطيعوا الله. قد أطاع يوسف مثلما يقول الرسول متى فعندما استيقظ من نومه أخذ مريم، أي زُفَّت إليه رسمياً أيضاً، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ويؤكّد متى لأنه يتكلّم عن الابن البكر، والابن البكر لا يعني أنه قد ولدت أولاداً بعده، بل يُسمّى بكراً حال ولادته إن صار له اخوة أو لم يصر له اخوة، فالابن البكر هو يسوع بكر الخليقة كلّها، بكر لأنه باكورة جميع الذين نالوا الخلاص باسمه.

أيها الأحباء:

يرسم الرسّامون يوسف عادةً وبيده زنبقة بيضاء علامة الطهر والنقاء لأنه كان طاهراً وعفيفاً وصار حارساً لبتوليّة العذراء، وكذلك هو مثال للأب الحنون العطوف، لأنه اعتنى بالرب يسوع، كما كان الرب يسوع مثالاً للابن الذي يطيع والديه كما ذكر عنه الإنجيل المقدس أنه كان يطيعهما، ويوسف أيضاً الذي مات في أحضان الرب يسوع، أغمض الرب عينيه في هذه الأرض ليفتحهما في السماء ليحيا حياة سعيدة في العلاء، هو أيضاً مثال للميتة الصالحة، وفي هذا الأحد نذكر هذا القديس الذي اضطربت نفسه بالشكوك التي ساورتها، والذي طمأنه الملاك والذي أطاع أمر السماء فنال نعمة عظيمة وشرفاً ليس بعده شرف إذ دُعي أباً لربنا يسوع المسيح. فلنقتدِ به أيها الأحبّاء عندما ندخل بالتجارب ملجئين إلى الله ولنقتدِ به بطاعته ربّنا لعلّنا ننال نصيبه ونصيب القديسين كافة على الأرض وفي السماء بنعمته تعالى آمين.

 


وحي يوسف البار (3)

 

«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»

                                                                 (مت 1 : 20)   

 

يدخل الأبرار والصدِّيقون في تجارب قاسية كسائر البشر. ألم نقرأ في أسفار العهد القديم عن أيوب البار الذي جُرّب من إبليس وأصيب في الأموال والبنين، ولكنه اصطبر فظفر. ألم نقرأ عن يوسف الصدِّيق الذي بيع عبداً لمصر ولكنه تمسّك بشريعة إلهه، فأنقذه الله من التجارب ورفعه فصار الثاني بعد فرعون على مصر كلّها. ويوسفنا الذي نذكر حلمه في هذا اليوم هو الآخر كان قد دخل بتجربة قاسية، فقد عادت العذراء مريم من جبل اليهودية بعد أن كانت قد حلّت ضيفة مكرّمة على نسيبتها أليصابات في بيت زكريا الكاهن.

أجل، عادت وإمارات الحبل ظاهرة عليها، فساورت الشكوك يوسف خطيبها الذي يعتبر زوجاً لها بحسب الشرع اليهودي، وبدأ يوسف وقد دخل بتجربة قاسية، بدأ يفتكر: هل يأخذها إلى عنده ويرضى بما اقترفته من ذَنْب حسب ظنّه ويكون قد شاركها خطيّتها، أم يشهرها أمام الناس فتوصم هي مع سائر أفراد عائلتها بالعار إلى الأبد. يقول الرسول متى الذي انفرد بذكر هذه الحادثة في الإنجيل الذي كتبه بالآرامية أن يوسف كان صدّيقاً، هكذا البار الصدِّيق يفتكر ولكن يفتكر فيما هو للخير، ويفتكر ويلجأ إلى الله، فالله هو الذي يلهمه ما هو للخير وما هو للصلاح. نحن لا نفهم شكوك يوسف وعدم شكوك أقرباء العذراء مريم وجيرانها ما لم نفهم العادات التي يمارسها شعب العهد القديم، فكانت الخطبة تعتبر عندهم كزواج ولئن كانت الخطيبة في دار أهلها يحق لخطيبها أن يزورها، بل أيضاً أن يعرفها معرفة زواج وبعدئذ تُزَف إليه رسمياً، ولذلك لم يشك أحد ممن عرف العذراء مريم بأنها قد اقترفت ذنباً، وظنّوا أنها قد حملت من يوسف خطيبها قبل أن تُزَف إليه، أما يوسف وحده الذي بدأ يفتكر لعل إنساناً شريراً غرّر بها فهل يأخذها إلى عنده، هل يطلّقها، وقرر بعدئذ أن يوفق بين شكوكه وعدله وصلاحه أن الأنسب أن يطلّقها سراً، وذلك أن يعطيها كتاب طلاق فتخلّى وتذهب لحالها. كان يوسف كسائر البشر الذين قد تساورهم الشكوك في العائلة، كان مضطرباً كريشة في مهب الريح، كقارب صغير يمخر عباب اليم الهائج والعواصف العاتية، ذهب إلى سريره لينام، ولكن إذ التجأ إلى الله أرسل الله ملاكه إليه، وقف به ملاك الرب في حلم قائلاً له: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياه. يا يوسف ابن داود، خاطبه مخاطبة من يعرفه معرفة جيّدة، هذه المعرفة الجيّدة جعلت الملاك أن يدعوه باسمه يا يوسف، بل أيضاً يذكّره بالعهد الذي أُعطي للعالم عن ابن داود الذي يأتي ليخلّص العالم، لا تخف أن تأخذ امرأتك لأنها صارت له امرأة شرعاً ولئن كانت خطيبةً له، والخطيبة كانت تعتبر زوجة مثلما قلنا حتى أنه إذا مات خطيبها كانت ترثه شرعاً، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. لا بد أن العذراء مريم قد حدّثت يوسف عمّا جرى لها بمجيء ملاك الرب وتبشيره إياها بالحبل الإلهي، لا بد أنها ذكرت أنها قالت للملاك: ها أنا أمة للرب ليكن لي كقولك، ولا بد أنها ذكرت أنها بزيارتها لأليصابات امتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم قائلة: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ. ولكن يوسف كان بشكوكه حتى ظهر له الملاك، يقول متى الرسول في الإنجيل المقدس الذي كتبه للمؤمنين من أصل يهودي أن يوسف عندما نهض من النوم فعل ما أمره به الملاك، وأخذ مريم امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، وبقوله البكر لا يعني أنها ولدت أولاداً آخرين بعده، فكان الولد الأول في العائلة يًدعى بكراً، إن ولدت والدته أبناء آخرين أو لم تلد فيوسف لم يعرف العذراء مريم أبداً، بل بقيت العذراء مريم دائمة البتولية. هذا ما نقرأ في الإنجيل المقدس ونلاحظ أن الملاك قال ليوسف عن المولود أنه يدعى يسوع الله المخلّص، لماذا؟ لأنه يخلص شعبه من خطاياه، وحدّد الملاك ليوسف رسالة المسيح. كان اليهود بتمسّكهم بالأمور الدنيويّة الماديّة ينتظرون مسيحاً يخلّصهم من عبودية الرومان ويمنحهم سلطاناً دنيوياً. أما الملاك فقد أوضح ليوسف أن يسوع الإله المخلّص يخلّص شعبه من خطاياه، هذه رسالة المسيح أنه يخلّص العالم من خطاياهم هي رسالة توبة وعودة إليه تعالى، ومتّى إذ يكتب إنجيله بلغتنا ولغة مسيحنا السريانية الآرامية، يريد أن يذكّرهم بما تنبّأ به إشعياء قبل ذلك الزمان بسبعة قرون فيقول: وكان هذا كلّه ليتمّ ما قيل بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل، هذه اللفظة السريانية الآرامية يقول متى: الذي تفسيره الله معنا. فالمسيح هو عمانوئيل، الله معنا والمسيح هو يسوع الله مخلّصنا، فهو أتى وخلّصنا لنذهب إليه وقد صار معنا وأن نكون أيضاً معه أيها الأحباء إذ تذكر الكنيسة اليوم في طقسها المقدس حلم يوسف وجليانه كما يقال باللفظة السريانية (جلينا ديوسف)، نرى أن علينا أن نقتدي به قبل كل شيء إذا ما دخلنا في تجربة والتجارب كثيرة في العالم، وإبليس يقارعنا ويصارعنا وينزلنا رغماً عنّا إلى ميدان القتال معه، ولكن إن التجأنا إلى الله فباسم الرب أي بقوّته وسلطانه نغلب إبليس والرب يجعل لنا من التجربة مخرجاً كما فعل مع يوسف الصدّيق، وعندما نلهم من الرب إلى الخير كما أُلهم يوسف في حلم فعلينا أن نطيع أوامر الرب وأن نقتدي أيضاً بيوسف بطاعة إلهنا، فيوسف نال شرفاً عظيماً لأنه دعي أبا للرب، ولئن كان أباً شرعياً لا طبيعياً لحمايته من أعدائه وصيانة اسم العذراء وشرفها، ولئن كان أباً شرعاً إذا ربّى الرب يسوع وهو أيضاً فتىً وهو طفل وحماه من الأشرار ولكنه نال شرفاً عظيماً أن العذراء يوم فقدته في الهيكل وبعد أن وجدته في الهيكل بين العلماء يناقشهم عاتبته لأنه أتعبها كما أتعب يوسف والده، فقد قام يوسف البار بواجب الأبوّة وكان يعمل نجّاراً بسيطاً في الناصرة ويقيت المسيح والعذراء مريم، ولكن نال نعمة عظيمة أيضاً فالمسيح كان مطيعاً لوالديه كما يقول الإنجيل المقدس، فيوسف مثل صالح لكل أب صالح والعذراء مريم مثلٌ صالح وسامٍ لكل أم صالحة، والمسيح مثلٌ لكل فتى يطيع والديه وما أعظم النعمة التي نالها يوسف لأنه مات في أحضان الرب يسوع، هذا الموت الذي يعتبر موتاً صالحاً جداً لأن يوسف عاش تقياً عفيفاً طاهراُ نقياً، فإذا ما اقتدينا به سنغادر هذه الحياة بعد العمر الطويل في أحضان المسيح، كما جرى ليوسف ونغمض أعينينا في هذه الحياة لكي نفتحهما في الحياة الأبدية الصالحة التي إنما قد وجدت ليوسف والأبرار والأتقياء ولكل من يقتدي بهم ونعمة الرب تشملكم بدعائه وصلواته آمين.

 


وحي يوسف البار (4)

 

«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»

  (مت 1 : 20)

 

انتهت الزيارة المباركة لجبل يهوذا حيث قامت العذراء مريم بزيارة نسيبتها أليصابات ومكثت خناك ثلاثة أشهر كما يذكر الإنجيل المقدس. هذه الزيارة التي تخلّلتها أحاديث سماويّة سامية وتسابيح جعلت من أليصابات بمستوى القديسات التقيّات، إذ حلّ عليها الروح القدس وأعلنت حقيقة إلهية أن العذراء هي أم الرب. عادت العذراء إلى الناصرة حيث كان خطيبها يوسف بانتظارها، عادت وقد بدت عليها علامات الحبل. يوسف تحيّر وارتبك وساورته الشكوك وإذا ما ساورت الشكوك أحد الزوجين خرجت المحبة من تلك الدار وابتدأ الخصام والنزاع، فالعراء لا بد أنها شرحت ليوسف ما جرى لها من حديث الملاك، ولكنه وقد شك الظنون تجعل الإنسان لا يصدق رفيقه. صار يوسف أيها الأحباء كقارب صغير يمخر عباب يم عظيم أمواجه تعلو مرتفعة ومنخفضة ورياحه عاصفة، بل كريشة في مهب الريح، ولكن الله لا يترك أحباءه الصدِّيقين والأبرار في حالات كهذه يتعذّبون، كما لا يدعهم يتعجّلون في أخذ قرار قد يضرّ الآخرين. يوسف احتار ماذا يفعل: إن هو أخذ العذراء وهو يظن أنه قد غُرِّر بها أو قد سقطت في الخطيّة العظمى، يكون قد شاركها خطيّتها، إن هو أشهرها جلب عليها وعلى أسرتها العار وهو يعلم أنها بريئة وربّما لبساطتها قد غُرِّر بها. يقول الإنجيل المقدس: همَّ بتخليتها سراً، وهذا يعني أنه سيدعها وشأنها لحوادث الزمان، ولكن الله لا يدع الصدِّيقين أيضاً أن يتهوّروا. إن يوسف وحده ساورته الشكوك فقط بالعذراء مريم ذلك لأنها كان قد خطبها، والخطبة كانت لدى اليهود تُعلَن بكتابة كتاب هذا الزواج بالذات، فيحق للخطيب أن يعرف خطيبته معرفة زواج وهي في بيت أهلها قبل أن تُزَفّ إليه، ولذلك كل إنسان عرف العذراء مريم وعرف يوسف ظنّ أنها قد حملت من زواج من يوسف بالذات. يوسف وحده ساورته الشكوك بها. يقوا الإنجيل المقدس أن ملاك الرب، جبرائيل بالذات وقف بيوسف في الحلم وطمأنه قائلاً له: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. في عبارة الملاك طمأنينة تامّة ليوسف، فالعذراء لا بد أنها كرّرت أمامه ما كان الملاك قد قاله لها عن المولود، عن ماسيّا المنتظر، ولذلك فالملاك يذكّر يوسف أنه ابن داود وحق له أن يكون حارساً للعذراء، وأن يُسمّى أيضاً أباُ ليسوع وأن يكون شرعاً زوجاً للعذراء لكي يصونها من أقاويل الناس، كما يصون أيضاً المولود الذي يحق ليوسف أن يطلق عليه اسماً، وهذه صلاحية وامتياز للأب أن يسمي ابنه باسم وأن يسميه يسوع كما كان الملاك قد سمّاه عندما بشّر العذراء بالحبل به، ويشرح متى ذلك لأنه يخلّص شعبه من خطاياه كقول الملاك بالذات. يستيقظ يوسف، يؤمن بما قاله له الملاك ويصدّق ذلك، يأخذ العذراء إلى عنده، تُزَف رسمياُ إلى داره ولئن كانت قد سكنت داره لأنها كانت يتيمة الوالدين، وعندما بلغت السن الذي يجب أن تتزوّج فيها اجتمع الأهل والأقرباء مع الكهنة وهم أولياؤها جميعاً وألقوا القرعة ووقعت على يوسف. ويوسف أيها الأحبّاء كان رجلاً أرملاً، كهلاً اختبر الحياة كما يؤكّد لنا ذلك المؤرّخ يوسابيوس الذي كتب هذا في القرن الرابع، وأولئك الذين دُعوا اخوة للرب يسوع كانوا أولاد يوسف، ولذلك رأينا الله كيف أنه اختار إنساناً كهذا صدِّيقاً تقيّاً وكاملاً في السن ليكون خطيباً للعذراء مريم وليعيش معها بطهر ونقاء فلم يعرفها كما يقوا الإنجيلي متى وهو يريد أن يؤكّد أن المسيح هو ابن الله، وأنه قد حُبِل به فيها من الروح القدس لا من زرع رجل، ولذلك يقول: لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، وكان الابن يدعى بكراً إذا كان أول ولد ولئن لم يولد بعده ولد آخر، فالمسيح إذن بكر الآب السماوي وبكر العذراء مريم، والعذراء مريم هي دائمة البتولية لأنها قد ولدت ابن الله وعرفت هذه النعمة العظيمة وعرفت من ولدت الذي دُعِي يسوع كما سمّاه الملاك لأنه يخلّص شعبه ليكون الشعب معه ودُعي أيضاً عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، ليكون هو مع الشعب.

يوسف أيها الأحباء نال نعمة عظيمة من الرب حتى حقّ له أن يُدعَى أباً للرب يسوع وهل يوجد لفظة في كل اللغات أسمى من لفظة أب حتى أن الرب يسوع عندما أراد أن يعلن لنا ويعلّمنا كيف يجب أن تكون علاقتنا مع الله، علّمنا أن نصلّي ونحن واقفون أمام الله قائلين له: أبانا الذي في السموات، فهذه العلاقة التي بيننا وبين اله علاقة الأبوّة والبنوّة، هذه العلاقة السّامية التي تجعلنا نطمئن إلى إلهنا لأنه أب، ونجعل إلهنا يشفق علينا ويرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا لأننا أبناؤه، هذه العلاقة السامية استحقها يوسف البار فدعي أباً للرب يسوع الذي أبوه الطبيعي هو الله الآب. ويوسف أيضاً الذي اهتم بتربية الرب يسوع وهو طفلٌ وهو فتىً، كذلك استحق أن يموت وهو في أحضان الرب يسوع،. هو مثال لنا بالتقوى، بمخافة الله، بالإيمان أيضاً، مثال لنا بالتريّث والصبر عندما نحل أي مشكلة في البيت بين الرجل والمرأة أو بين الوالدين والأولاد، أن يتريّث الإنسان ولا يتعجّل ففي العجلة الندامة. ليس هذا فقط بل أيضاً أن يصلّي ليطلب العون من الله فيشعر أن الله أب لنا لا يدعنا في دوّامة الألم والاضطراب والقلق بل يرسل ملاك السلام إلى قلوبنا ليلهمنا كيف يجب أن نحل مشاكلنا، هذه المشاكل التي لا بد أن تُحَلّ بمواظبتنا على الصلاة وطلب العون من إلهنا، ويوسف أيضاً المثال الطيّب لكل أب، كما أن العذراء هي المثال الأسمى لكل أم. هذه العائلة المقدسة استحق يوسف أن يكون رأسها وكان المسيح الطفل الإلهي أحد أعضائها، واستحق يوسف أيضاً المثال الطيّب لكل إنسان يقوم بمسؤولية الأبوّة تجاه أولاده كما كان الرب يسوع أيضاً خير مثال للأولاد بطاعة والديهم. هكذا يذكر الإنجيل المقدس أنه كان خاضعاً لهما، ما أعظم هذه العبارة: خالق الكون ومبدعه مخلّصنا الإلهي خضع ليوسف كما خضع للعذراء مريم، ويوم فقداه في الهيكل قالت له أمه عندما وجداه إن أباك وأنا كنّا بقلق نفتش عنك.

أيها الأحباء:

يوسف نراه بصوره ماسكاً بيده زنبقة دلالة على الطهر والنقاء والعفة التامة فهو مثال لكل من يشاء ويرغب ويتوق أن يكون أباً صالحاً وزوجاً صدِّيقاً في عائلته، لأنه كان طاهراً ويدعونا جميعاً إلى الطهر والنقاء والقداسة.

ليبارككم الرب بشفاعة القديس يوسف وينشر أمنه وسلامه في دوركم العامرة وليبعد عنها الظنون والشرور الفاسدة لتملك المحبة في هذه الدور لنكون كيوسف وكالعذراء مريم وكالرب يسوع خاصةً، فتكون دورنا طاهرة نقية ومقدسة بإلهنا بنعمته تعالى آمين.

 


وحي يوسف البار (5)

 

«وإذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، وستلد ابناً وتسميه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»          

                                                                 (مت 1 : 20)    

 

تدعو الكنيسة المقدسة هذا الأحد: أحد وحي يوسف، والفصل الذي تُلي على مسامعكم من الإنجيل المقدس يفصِّل لنا حادثة مهمّة جداً في تدبير الرب يسوع بالجسد، ومن تلك الحادثة نتعلّم دروساً نفيسة في حياتنا العائلية كأناس مؤمنين بالمسيح يسوع وبالوحي الإلهي وبتدبير الله للكون، ورعايته للبشر جماعةً وأفراداً. نرى من هذه الحادثة أن الحياة لا تجري على وتيرة واحدة حتى لدى الأبرار والصالحين والأتقياء. نرى أن العذراء مريم التي كانت قد قامت بزيارة إلى نسيبتها أليصابات لتسند رأسها إلى صدرها وتبيح لها بسرّها كابنة لأنها. نراها وقد عادت بعد ثلاثة أشهر بعد أن سمعت على لسان أليصابات ما أعلنه الوحي من سر أن العذراء هي أم الرب، هذه العذراء تعود إلى بيتها فرآها خطيبها يوسف وعلامات الحبل ظاهرة عليها. اليهود ظنّوا أنها حبلت من خطيبها يوسف، يوسف وحده يعرف أنها لم تحبل منه. كانت العادة لدى اليهود أيها الأحباء أن الفتاة إذا ما خُطبت لرجل، يحق له أن يعرفها معرفة زواج خلال تلك المدة إن كانت قبل أن تُزَفّ إليه أو بعد ذلك، لذلك لم تساور اليهود الشكوك حينذاك بالعذراء مريم لأنهم ظنّوا أنها قد حبلت من خطيبها يوسف. يوسف صار كريشة في مهب الريح، إنه لا يريد أن يشاركها خطيّتها كما ظن أنها قد أخطأت أو غُرِّر بها أو خُدعَت وفي الوقت نفسه يراها قديسة عفيفة طاهرة بسيطة جداً، فلا يريد أن يشهرها ويعلن أنها قد أخطأت وتطرد من بيتها وتصير عاراً لعائلتها، بل أيضاً تُصاب عائلتها بوصمة العار بسببها. عندما تدخل الشكوك إلى بيت ما تخرج المحبة من ذلك البيت، بل يضطرب الناس وباضطرابهم تساورهم أفكار الخطية فيبتعدون عن الله، ولكن العاقل التقي الذي يخاف الله امرأة كان أو رجلاً، يتريّث قليلاً بل كثيراً قبل أن يحكم على قرينه ولا يشاركه الخطيّة، الرسول بولس يقول: لا تشترك في خطيّة غيرك. وهذا درس لنا أن لا نشارك أقرباءنا أو أصدقاءنا حتى أقرب إنسان إلينا بخطيّته لأنه نكون قد أجرمنا واشتركنا معه في الجريمة أيضاً، ولكن في الوقت نفسه لا نحكم أيضاً عليه بسرعة بل أن نتريّث. اضطرب يوسف فتدخّلت السماء، فالسماء دائماً تتدخّل في أمورنا الخاصة لأنها ترعانا جماعةً وأفراداً، الله يعرف ما نفتكر به وإن كنّا نلتجئ إليه بالصلاة سيستجيبنا وسيهدينا سواء السبيل، لأن الروح في كل وقت مستعد أن يحل على كل إنسان يدعوه ليكون مرشداً لذلك الإنسان. نام يوسف في تلك الليلة فظهر له ملاك الرب جبرائيل قائلاً له: يا يوسف ابن داود، دعاه باسمه وأعلن له نسبه إلى داود. يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك ودعاها امرأة له شرعاً لا فعلاً، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس وتلد ابناً وتسميه يسوع، هنا أعطاه الصلاحية هنا أخذ مكان الأب للرب يسوع فيدعوه باسم، وهذا الاسم كان الملاك قد أعلن عنه قبل الآن للعذراء مريم يوم بشّرها بالحبل الإلهي. استيقظ يوسف من نومه وهو التقي البار القديس، وعمل ما أمره به الملاك وأخذ العذراء مريم وزُفَّت إليه رسمياً ولم يعرفها يقول متى حتى ولدت ابنها البكر، ويعني بذلك متى التأكيد على أن يوسف لم يعرف العذراء مريم معرفة زواج وقوله ابنها البكر لا يعني أنها قد ولدت آخرين بعد يسوع، فكان البكر يدعى بكراً عندما يولد إن ولدت أمه أولاداً آخرين أو لم تلد، لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ويعترض بعض الناس الذين يأخذون كلمات الإنجيل بحرفيّتها ويقولون كان للمسيح اخوة من العذراء مريم، وبالحقيقة إن الذين دعوا اخوة للمسيح هم بنو خؤولته وعمومته كما كانت لغة الكتاب المقدس توضّح قرابة هؤلاء بعضهم إلى بعض، ويؤكّد أوسابيوس المؤرّخ في القرن الرابع أن يوسف كان أرملاً وأن اخوة يسوع هم أولاد يوسف من امرأته الأولى. هنا نعلم أيها الأحباء أن يوسف كان عاقلاً وكان كهلاً كان رائعاً في كل أعماله وقد اختاره الله لصيانة عفة العذراء مريم كما اختاره وانعم عليه أن يرى أمام الناس أباً للرب يسوع، ألم نسمع العذراء مريم يوم بلغ الرّب يسوع الثانية عشر من عمره وفقدته العذراء ويوسف في الهيكل وظنهم أن ضاع، ورأوه في الهيكل يجادل العلماء، قالت له العذراء، عاتبته: إنني مع أبيك يوسف، تقصد بذلك خطيبها، تعبنا بالتفتيش عنك، قال لها: ألا تعلمين أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي، ويقصد الآب السماوي، ويدعو الهيكل بيت أبيه السماوي، فما أعظم النعمة التي نالها يوسف أن يدعى أباً للرب يسوع والرب يسوع عندما أرادنا أن نصلي إلى أبيه السماوي منحنا نعمة عظيمة أن ندعو الله أبانا الذي في السماوات، وما أعظم النعمة التي نالها يوسف ليكون رب العائلة المقدسة ومثالاً لكل عائلة مقدسة مباركة تقية تخاف الله فقد عاش الرب يسوع مع يوسف ومريم وكان يوسف يعمل في النجارة في استقامة وتقوى الله وعندما شاخ كان الرب يسوع يعمل في النجارة وهو الذي يعضد يوسف وهو طفل فتى، كما أننا نرى في تقليدنا الرسولي والكنسي أن يوسف قد مات في أحضان الرب يسوع، ولذلك دائماً المؤمن يتمنى أن يموت في أحضان الرب يسوع ميتة يوسف بالذات.

وفي هذا اليوم المقدس ونحن نحتفل بأحد وحي يوسف الوحي الذي أوحي إليه ونتأمل سيرته نتمنّى أن تكون العائلات المسيحيّة متمثّلة بالعائلة المقدسة، بيوسف بالعذراء مريم بالطفل يسوع، أن نلتجئ إلى الله في زمن الضّيق وخاصة عندما تساورها الشكوك، أن تحيا حياة الاستقامة في أعمالها، أيضاً تتمنّى أن تكون الساعة الأخيرة من حياتها بعد العمر الطويل في أحضان الرب يسوع، بنعمته تعالى آمين.

 


وحي يوسف البار (6)

 

«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس»

   (متى 1 : 20)

 

الصدّيقون أيها الأحباء. كسائر الناس أو أكثر قليلاً منهم معرضون للتجارب. والرب أوصانا أن نصلي الصلاة الربيّة وأن نسأله ألا يدخلنا في التجربة، لكن ينجينا من الشرير.

تجربة قاسية جداً دخل فيها يوسف البار، الذي كان خطيباً للعذراء مريم. فقد ذهبت العذراء مريم بعد أن بشرها الملاك جبرائيل بالحبل بابن الله الذي هو قدوس كما قال لها وابن العلي يُدعَى. فذهبت إلى أليصابات إلى مدينة يهوذا لبيت زكريا لترى أيضاً حقيقة ما ذكر لها الملاك أن نسيبتها أليصابات هي الأخرى حبلى بابن في شيخوختها وهذا الشهر السادس قال لها الملاك للمدعوة عاقراً (لوقا 1 : 26).

بعد مدّة ثلاثة أشهر مكثتها العذراء مريم في بيت زكريا. عادت إلى بيتها. وجدها يوسف حبلى، فاضطرب وساورته الشكوك. وإذا ساورت الشكوك أحد الزوجين انقسم البيت على ذاته يقول الرب يسوع: البيت المنقسم على ذاته يخرب. فكان يفتكر بنفسه هل غرّر بها إنسان شرير فاقترفت هذه الجريمة الكبرى، جريمة زنى؟. الصدِّيقون عادة يلتجئون إلى الله والناموس والشريعة وما تسلموه من الله من تقاليد وشريعة. الناموس كان يحكم على الزانية بالرجم. ولكن أيضاً كما علمنا الرب يسوع في حوار مع الفريسيين. إن بني إسرائيل لأجل قساوة قلوبهم، أذن لهم موسى أن يطلقوا نساءهم. لم يقصد هنا الزانية من النساء بل بنو إسرائيل لأجل قساوة قلوبهم أذن لهم موسى أن يطلقوا نساءهم (مت 19 : 8)،  وكانوا يقتلون نساءهم ليتزوجوا بأخريات لذلك سمح لهم موسى أن يطلقوا نساءهم. إذا لم يرغب بها فليعطها كتاب طلاق فتُخَلَّى أي تصبح حرة, ولكن الرب يسوع يؤكد أنه منذ البدء لم يكن هكذا وقد خلق الله آدم وحواء خلقهما ذكراً وأنثى وما يجمعه الله لا يفرقه إنسان (مت 19 : 6).

يوسف أمام كل هذه الشرائع وأمام ضميره الحي. اضطرب جداً وصار كقارب صغير يمخر عباب بحر عظيم، وغدا أيضاً كريشة في مهب الريح لا يعلم ماذا يفعل. إن أعطاها كتاب الطلاق وخلاّها يعني ذلك أن عائلتها قد وسمت بوصمة عار إلى الأبد، وإن تركها يكون قد اشترك في جريمتها بحسب ظنه. ونحن أيضاً عندما ذكر الرسول متى هذه الحادثة نقف حيارى، حيث أنه يدعوها امرأته. ونحن نعلم أنه لم يمسسها أي لم يعرفها معرفة زواج. ولكن بحسب التقليد اليهودي ونحن نرى من غرائب الحادثة أن الخطيبة كانت تعتبر زوجة الرجل وكان يحق له أن يعرفها معرفة زواج حتى قبل أن تغادر دار أهلها ولم تزف إليه، وكانت العذراء مريم في بيت يوسف بعد أن خطبها مباشرة لأنه لم يكن لها بيت خاص. فهي ربيبة الهيكل وحين آن أوان زواجها في الثالثة عشرة من عمرها. كان أولياؤها الكهنة قد جمعوا من يحق له من أقاربها الزواج بها، فوقع الخيار على يوسف البار، وقد كان يوسف أرملاً وهذا ما يثبته لنا أوسابيوس المؤرخ في القرن الرابع الذي كان من أوائل المؤرخين المسيحيين.

كان يوسف أرملاً وعندما يذكر الإنجيل المقدس أخوة الرب اعتبرهم بعض الآباء أنهم أولاد يوسف من زواج سابق, كان يوسف أرملا وأخذ مريم إلى بيته لكنها لم تكن قد زُفَّت إليه بعد رسمياً، لأن عقد المِلاك يكون في الخطوبة وبعدئذ تُزَف هذه التي عقد لها عقد مِلاك إلى الرجل الذي خطبها وعقد عليها عقد الملاك أي تأتي إلى داره باحتفال عام يعلن فيه زواجها من رجلها هكذا كان الحال مع  العذراء مريم لم تكن قد زُفَّت بعد إلى يوسف، ولما حملت يوسف وحده شكّ فيها أما الباقون فظنوا أنها حبلى من يوسف. هذا هو السر الإلهي، إنها قد خُطبَت ليوسف ليصير يوسف حامياً لها من أهل مجتمعها وهي قد حملت بقوة الروح القدس الذي حل في أحشائها وجبل منها جسداً كاملاً بنفس بشرية. لذلك لم يشك فيها إلا يوسف.

وكان يوسف حكيماً وصار قدوة لنا نحن المؤمنين عندما تطرأ علينا التجارب القاسية. لنسجد أمام الله ونسأله أن يعلن لنا الحقائق. واستحق يوسف البار أن يُعلَن له سر التجسد. إن الذي حبل بالعذراء مريم هو من الروح القدس. هذا هو سر التجسد. فقد ظهر ليوسف الملاك في حلم، جبرائيل نفسه الذي نعتبره ملاك العهد الجديد, قبل ميلاد الرب يسوع بالجسد بخمسمائة سنة كان قد تراءى لدانيال وحدّد له الموعد. وقبل ذلك بمئات السنين ظهر لأشعياء وأعلن له أن العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل. لذلك يوسف وُبِّخ من الملاك: «لا تخف يا يوسف بن داود أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس وستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. يسوع المخلص لماذا؟ يقول الملاك لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (مت 1 : 24).

نحن نعلم أن الرسول متى عندما كتب إنجيله كتبه إلى أولئك الذين ائتمنوا أن يحافظوا على النبوءات والشريعة في العهد القديم، ولكن ليثبت لهم متى أن يسوع هو المسيح. ذكّرهم بقول إشعياء: لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل. ويذكر اسمين للرب: «يسوع» الذي تفسيره المخلّص، والملاك يعلل تسمية الرب يسوع بهذا الاسم قائلاً: لأنه يخلّص شعبه من خطاياه، أما التسمية الثانية فقد دعاه: «عمانوئيل» هذه الكلمة بلغتنا السريانية المقدسة ويترجم الرسول متى لفظة عمانوئيل قائلً: الذي تفسيره الله معنا يقول متى. فيسوع هو المخلص لنأتي إليه فيخلصنا وعمانوئيل الله معنا قد جاء إلينا كما فتش الراعي الصالح عن الخروف الضّال لكي يحملنا على منكبيه ويأتي بنا إلى حظيرة الخراف.

يوسف استيقظ من نومه ولأنه صديق صدّق كل ما قاله الملاك، وعمل به، وأخذ مريم امرأته ولم يعرفها يقول الإنجيل المقدس حتى ولدت ابنها البكر. المتشككون، الضالون والمضِلُّون أحياناً يقولون: إذاً قد عرفها بعد أن ولدت ابنها البكر، لأنه قد سمي بكراً. وفي الكتاب المقدس أن: بكر العائلة هو الولد الأول، إن ولدت والدته آخرين، وإن لم تلد فهو يدعى: «بكراً»، والمسيح يسوع بكر الآب السماوي وهو ابن الله الوحيد وبكر مريم وهو الوحيد من مريم. كما ذكرنا فإن ما ذُكِر في الكتاب المقدس عن اخوة يسوع، فإما يكونون أولاد يوسف الأرمل، أو بنو خؤولة الرب يسوع أو عمومته وكان ابن العمومة أو الخؤولة يدعى أخاً، وهذا هو المعنى الذي نفهمه من الكتاب المقدس بالنسبة للاخوة. إذن: فالعذراء بقيت بتولاً قبل الولادة. ولادة الرب يسوع وعند الولادة وبعد الولادة. ولذلك نسميها دائمة البتولية ولم تلد أحداً. وهل يعقل؟ أن يوسف البار بعد أن بشره الملاك بالحبل بالرب يسوع،  وأن العذراء قد حملت به من الروح القدس، ثم بعد أن رأى ميلاد الرب يسوع ذلك الأمر العجيب، سمع ترنيمات الملائكة، رأى الرعاة يسجدون له وقد بشرهم الملاك، ورأى ملوك المشرق المجوس يسجدون له. هل يعقل ألا يشعر بسمو العذراء مريم عن سائر البشر؟ وهل يعقل أن يمسسها، وأن يعرفها معرفة زواج بعد ولادتها الرب يسوع؟ لذلك عندما قال متى: حتى ولدت ابنها البكر، يعني ذلك ليؤكد أن الرب يسوع، إنما ولد من العذراء مريم من الروح القدس، وبقوة الروح القدس.

ما نراه أيها الأحباء في يوسف، ونحن نحتفل بأحد وحي يوسف أو وحي يوسف، كما نسميه بالطقس الكنسي، يعني نحتفل بعيد مار يوسف هذا الإنسان البار لنقتد به. وما نراه أن الرسامين عندما يرسمون صورة يوسف البار يضعون في يده زنبقةً، دلالة الطهر والنقاء. ونحن عندما نتشفع به، نذكر خدمته للعذراء مريم، فهو قد حماها من أعدائها إبليس وجنده من الروحيين والبشر، نذكر خدمته للرب يسوع الطفل، يسوع الذي كان اعتنى به بالجسد ورعاه وحماه، نذكر كيف أن الرب يسوع عندما كان ابن اثنتي عشرة سنة وفقدته العذراء مريم وبحثت هي ويوسف عنه، وقالت له عندما وجداه في الهيكل معاتبة: أنا وأبوك كنا مضطربين، وعنت بلفظة «أبوك» يوسف البار. فأجابها يسوع: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما هو لأبي؟. وأبوه الحقيقي هو الله الآب، ولذلك كان في الهيكل. فيوسف اعتبر شرعاً أباً للرب يسوع. وهذا شرف عظيم، ونعمة فائقة نالها يوسف، إذ ربى الرب يسوع في داره وعمل معه في حانوته البسيط، حانوت النجارة، نشأ الرب يسوع ومارس تلك المهنة. كما أن الرب يسوع كان ابناً باراً اعتنى بوالديه، بيوسف وبالعذراء مريم، وهو قدوة للشباب وللأبناء البَررَة في أيامنا هذه خاصةً، ألاّ ينسوا وهم في غمرة الحياة وميعانها، ألاّ ينسوا الوالدين. المسيح يسوع اعتنى بأمه بعد أن مات يوسف البار، ويوسف قدوةٌ لنا لأنه مات في أحضان الرب يسوع، وهذه ميتة صالحة يتمنى كل واحد منا أن يغمض الرب يسوع عينيه في ساعة موته ليستيقظ في الفردوس مع أرواح القديسين.

أحبائي:

 في هذا اليوم ونحن نذكر هذا البار لنقتدِ به، بعفته، بقداسته، بعنايته بالرب يسوع، باتكاله عليه عندما دخل التجربة، التجأ إلى الرب، والرب أعلن له ماذا يفعل.  ليبعد عنا أيها الأحباء التجارب القاسية، ليجعل أفكارنا نقية طاهرة، ليبعد عنا الشكوك بعضنا ببعض، لتبنى دورنا على أساس المحبة والقداسة بنعمته تعالى آمين.


وحي يوسف البار (7)

 

«يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك فإن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم»

       (مت 1: 20و21)

 

دجى الليل وغفت النجوم وعمّ الكون الهدوء والسكون ولكن نفس يوسف الصدّيق خطيب العذراء مريم كانت مضطربة، فقد سيطر عليها القلق والاضطراب وكانت كقارب صغير يمخر عُباب يمٍ كبير، بل كريشة في مهب الريح، فالعذراء مريم خطيبته كانت قد عادت من الجبال من مدينة يهوذا من زيارة اليصابات وزكريا الكاهن، عادت إلى الناصرة ولكن لا كما ذهبت فعلامات الحمل بدت عليها. اضطرب يوسف وبدأ يسأل نفسه قائلاً: هل غرّر أحد بالعذراء مريم فحملت منه؟ إنّه متأكد من أنها طاهرة نقية بل قديسة، ويعرف أنها قد غادرت الناصرة بمعرفته وذهبت إلى بيت طهر ونقاء إلى بيت زكريا الكاهن ومكثت هناك ثلاثة أشهر وقد عادت الآن. ويعرف أيضاً كما نحن نعرف أن المسافة ما بين مدينة يهوذا والناصرة مائة ميل، كان الشخص يقطعها مشياً على الأقدام مدة خمسة أيام. يعرف يوسف كل ذلك، ولكنه اضطرب كثيراً عندما شاهدها وقد بدت عليها علامات الحَبَل. لابدّ  أنّه سألها وأخبرته بقصة الملاك جبرائيل وبتبشيره إياها بحبل ابن اللّه. لا بدّ أنها أخبرته بأنها قد حملت ابن اللّه الوحيد بقوة الروح القدس، ولابدّ أنها أخبرته كيف أن اليصابات دعتها أم ربي فهي أم الرب ولكن يوسف لا يمكن أن يصدق هذه الأمور التي تفوق إدراك البشر في الماضي والحاضر وإلى الأبد. اضطربت نفسه جداً وهو يحاول أن يوفّق ما بين الشريعة الموسوية وبين ما هو فيه من تجربة  قاسية. فإن الشريعة كانت تحكم على الزانية بالرجم بالحجارة ولئن لم يكن بإمكان اليهود في تلك الأيام أن يطبّقوا هذه الشريعة وهم تحت استعمار الرومان ولكن خرجوا بشيء آخر وهو أنه إذا وُجدت امرأة كذلك تُخلّى أي يُعطى لها كتاب طلاق فتترك لحالها. هل يفعل يوسف هكذا مع العذراء مريم؟ هل يستطيع أن يوفّق ما بين الشريعة وبين الشكوك التي ساورته؟

إن السماء لا تتركنا حيارى أيها الأحباء خاصة عندما نلتجئ إلى اللّه في ظروف صعبة كهذه ندخل خلالها في تجارب لا نستطيع أن نتحملها كبشر. أجل! لقد التجأ يوسف إلى اللّه وهو بار وصدّيق فجاءه ملاك الرب في حلم قائلاً له: «لا تخف يا يوسف» إنه قد خاف لئلا يشترك بخطية هذه التي حملت ولا يعلم من أين، خاف أيضاً لئلا إن أعطاها كتاب الطلاق يكون قد أجرم بحقّها وهي بريئة، إنه رجل صدّيق لذلك أرسل اللّه الملاك ليطمئنه قائلاً له: «لا تخف يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك»، هنا نقف حيارى أيها الأحباء عندما نسمع الملاك يقول للصدّيق البار يوسف أن مريم هي امرأته، كان خطيبها ولا نستطيع أن نفسّر هذا الأمر ما لم ندرس العادات الاجتماعية لدى اليهود في تلك الأيام.

نحن السريان قد ورثنا ممارسات اجتماعية دينية كثيرة من العهد القديم ومن الجملة عادة ممارسة مراسم الزواج. حتى اليوم لا يفهم العديد من الناس ما معنى خطبة الإملاك ولئن دونت في كتب الأكاليل. كان وما يزال عندنا عندما تُخطب فتاة لرجل قبل مراسم الإكليل كان هناك خطبة الإملاك هذه الخطبة تعتبر زواجاً كاملاً شرعياً ولئن لا تعتبر إكليلاً، فبعد أن تتم مراسم العقد بين الرجل والمرأة أو من كان وكيلاً للرجل ووكيلاً آخر للمرأة فبعد عقد خطبة الإملاك يعتبران حقاً زوجين ولئن لم يدخل الزوج بعد بخطيبته التي تعتبر زوجته شرعاً. وكان يحقّ للرجل أن يعرف خطيبته التي يجوز أن تدعى امرأته أن يعرفها معرفة زواجٍ قبل أن تُزفّ إليه، لذلك الملاك يدعوها امرأته بقوله له: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك»، ودعاها امرأته ولئن لم تكن قد زُفّت إليه باحتفالٍ أمام الناس، فقد كان قد عُقد له عليها عقد خطبة الإملاك، وكانت الخطبة عادة في بيت أهلها. وفي حال السيدة العذراء مريم نحن نعلم أنها كانت ربيبة الهيكل تربّت في هيكل الرب على يد النسوة التقيات الفاضلات، يتيمة نشأت بالتقوى ومخافة اللّه. وبحسب تقليد اليهود كان لا بد أن تُخطب لرجل ما من أقاربها لذلك لم يكن لها وليّ أمر سوى أقاربها فعندما بلغت الثالثة عشر من عمرها اجتمع هؤلاء الكهنة وبعض أقارب العذراء مريم وحتى إن أقرب من يكون إليها كان يوسف الصدّيق يوسف كان رجلاً بسيطاً تقياً يخاف اللّه ويعمل بالنجارة، عندما صار القرار أنّ يوسف سيكون زوجاً للعذراء مريم وكان يوسف أرملاً هذا ما يثبته التاريخ المسيحي الصحيح وأثبته وذكره أوّل مؤرخ مسيحي في القرن الرابع هو اوسابيوس أنّ يوسف كان أرملاً، فعندما صار القرار أن تكون زوجة له وكان لا بدّ أن تقبل به زوجاً وهي في الثالثة عشر من عمرها، عقد إملاك عليها فأصبحت امرأته شرعاً لا فعلاً لأنه كان لابدّ أن تُزفّ إليه في احتفالٍ كبير لإعلان هذا الزواج وكما قلنا كان يحق لها أن تكون في بيت أهلها وحيث أنّه لم يكن لها بيت هذه اليتيمة المسكينة لذلك أخذها يوسف إلى عنده إلى بيته في الناصرة منتظرين تعيين الموعد الذي تزفّ فيه إلى يوسف علناً، فعندما وُجدت حُبلى بعد عودتها من مدينة يهوذا من زيارة نسيبتها أليصابات وزكريا الكاهن لم يشكّ أحد من أقربائها وغيرهم بها، وظنّوا أنها قد حملت من يوسف نفسه لأنه كان له حق أن يعرفها معرفة زواج حتى قبل أن تُزفّ إليه، لذلك لم يشك أحد فيها إلا يوسف وحده.

عندما رآها حبلى دخل في تجربة قاسية وفكّر بنفسه قائلاً: هل غرّر بها أحدٌ؟! هذه الفتاة الطاهرة التقية النقية الطاهرة القديسة كيف حملت؟! قلنا لا بدّ أنها شرحت له هذا الأمر ولكنه كان قلقاً كريشة في مهب الريح مضطرباً، والتجأ إلى اللّه ليعلمنا عندما ندخل في تجربة علينا أن نلتجئ إلى اللّه. الرب أرسل إليه ملاكه فقال له في حلم: «لا تخف يا يوسف ابن داود»، دعاه باسمه وذكّره أن المسيا المسيح يأتي من نسل داود ذكره انه ابن داود «لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس» ليس هذا فقط وستلد ابناً وتسميه يسوع. أعطاه صلاحية الأب الذي يحقّ له وحده أن يطلق اسماً على ابنه، وذكر الملاك اسم على الطفل الذي كان جنيناً في أحشاء العذراء مريم، فقال ليوسف «وتدعو اسمه يسوع»، ومعنى يسوع «يشوع» بلغتنا الآرامية السريانية التي كانت اللغة الوحيدة التي يتكلّمها ذلك الشعب في تلك الأيام، معنى يشوع «اللّه المخلص» والملاك يشرح ليوسف لماذا يسميه يسوع قائلاً له «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»، هذه هي رسالة الرب يسوع أن يخلص شعبه من خطاياهم، فعندما استيقظ يوسف ككل بارٍ وصدّيق يؤمن بالوحي الإلهي وتعاليم السماء كافة، عندما استيقظ أخذ مريم امرأته أي زُفت إليه أعلنت امرأة له ولم يعرفها، لم يعرفها معرفة زواج حتى ولدت ابنها البكر الابن البكر الذي هو يسوع.

إنّ بعض المشككين الذين لم يؤمنوا بتقاليد الكنيسة وتعاليم الرسل التي تداولها أبناء الكنيسة عبر الدهور والأجيال، قالوا: طالما قيل أنّه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر يعني ذلك أنّه عرفها بعد أن ولدت ابنها البكر ولذلك سُمّي بكراً أول فيظهر أنه يوجد أولاد آخرون. هذه الضلالة جعلت أولئك الناس الذين لم يفهموا روح الكتاب المقدس لم يعلموا أن كل ابن إذا ولد أولاً لوالدين يدعى بكراً إن كانت أمه ولدت آخرين بعده أو لم تلد، فهو بكر العائلة، فالرب يسوع هو بكر الآب السماوي وبكر العذراء التي لم تلد غير يسوع. هل يعقل أن يعرفها يوسف وهو يعلم طهرها ونقاءها وهو يعلم أنها بُشرت من الملاك بأن تلد، تحبل وتلد ابناً هو يسوع مخلص العالمين وليس هذا فقط بل يسوع الذي دُعي أيضاً عمانوئيل بحسب نبوّة إشعياء النبي عنه في القرن الثامن قبل الميلاد بقوله: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية» الإنجيل المقدس فسّر هذه اللفظة عمانوئيل السريانية قائلاً عمانوئيل الذي تفسيره اللّه معنا. هل يعقل أن يوسف بعد أن يسمع هذا الكلام المقدس يعرف تلك الفتاة العذراء الدائمة البتولية معرفة زواج؟ هل يُعقل أن هذا الاسم وهذه الصفة التي أطلقت على العذراء منذ البدء أنها دائمة البتولية والتي وصفتها بهذه الصفة السماء على لسان إشعياء النبي القائل: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»، فهل يتجاسر يوسف وهو بار وقديس وكان رجلاً كامل السن وأرملاً أن يعرفها معرفة زواج؟

وفي هذا الصدد لابدّ أن نذكر أنّ في الكتاب المقدس دُعي بعضهم إخوة للرب يسوع لم يكونوا أشقاءه بل أقرباؤه، ففي العهد القديم كل قريب للإنسان من بني خؤولته أو عمومته يعتبر أخاً له، فعندما نقول: أخو فلان لا يعني أنه أخوه شقيقه أو أخوه من أمه وأبيه فأخوه لأنه ابن من أبناء خالته أو عمه أو عمته. فالعذراء مريم ولدت ابنها البكر ولم تلد ابناً آخر ولا بنتاً ولا أحد فبكرها يسوع المسيح لأنه أول من ولد من العذراء ولم يولد أخ، والذين يدعون إخوة الرب هم الذين كانوا من أقاربه، وفي هذا المجال نقرأ في التاريخ أن المؤرّخ المسيحي يوسابيوس في القرن الرابع يعتبرهم أولاد يوسف الأرمل قبل زواجه من العذراء مريم ويعتبرون أيضاً أولاد خؤولته أو عمومته، هذا الأمر يبرهن لنا على عقيدة سامية أن العذراء مريم هي دائمة البتولية، إذن لا تخف يا يوسف أن تأخذ العذراء مريم أن تأخذها هذه امرأتك شرعاً عُقد لك عليها عقد زواج ولئن لم تعرفها ولئن لا يحق لك أن تتزوجها وهي دائمة البتولية.

هذه عقيدتنا أيها الأحباء لذلك نرى الدرس الخالد الدرس الروحي الذي علينا أن نأخذه من حادثة ما نسميه جلينا ديوسف جليان يوسف حتى أن آباءنا ترجموا هذه الكلمة الى جليان يوسف أي ما أوحي به ليوسف عن حقيقة العذراء مريم.

إذن فالعذراء مريم أيها الأحباء، استحقت بتواضعها أن تكون والدة الإله الأمر الذي قرّرته الكنيسة واعترفت به وكل من لا يعترف بذلك أن العذراء والدة الإله وأنها دائمة البتولية يكون قد حاد عن الحق. في أحد جليان يوسف في هذا اليوم دروس قيّمة نأخذ من هذا البار، أولاً عندما ندخل في تجربة علينا أن نلتجئ إلى اللّه، ثانياً عندما تساورنا الشكوك بتجربة إبليس وإذا دخلت الشكوك الى البيت تخرج المحبة منه ويخرب ذلك البيت مثلما قال الرب «كل بيت ينقسم على ذاته يخرب»، فعلينا في أحوال كهذه أن نلجأ الى الرب. إن كان الرب قد أرسل ملاكه ليوسف لكي يثبته على محبة العذراء ويطلعه على السر الإلهي، فنحن يرسل الرب ملاكه دون أن نعلم إلى أفكارنا لكي يثبّتنا على إيماننا ومحبتنا بعضنا لبعض، كذلك في جليان يوسف أن الرب دُعي يسوع لأنه قد جاء إلينا ومعنى يسوع اللّه يخلص ودعي عمانوئيل اللّه معنا فقد جاءنا الراعي الصالح وفتّش عنّا يوم كنا كخروف ضال ووجدنا ووضعنا على منكبيه وأتى بنا الى حظيرة الخراف. ودعي عمانوئيل اللّه معنا أي أن يكون اللّه معنا ونكون أيضاً نحن معه وبذلك إذا آمنا بالرب يسوع ايماناً متيناً نرى أنفسنا حتى في الشدة، في التجارب، في كل وضع من أوضاع هذه الحياة، نرى أنفسنا أننا مع اللّه وأن اللّه معنا ولا يتخلى عنّا ابداً.

أسأله تعالى في هذه اللحظات أحبائي أن يُزيل عنا كل تجربة لا نتحملها وأن نصطبر ونحن نصلي الصلاة الربية لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير أن يخلصنا جميعاً من الشرير والأشرار في آن واحد ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


 ميلاد الرب يسوع بالجسد

ميلاد الرب يسوع بالجسد

 

الميـــلاد المقــــدّس (1)

 

«ولكن لمّا جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»

       (غلا 4:4)

 

يبدأ تاريخ كل امرئ في هذه الحياة منذ ساعة ميلاده، أما ربنا يسوع المسيح فلا بدء لتاريخه. فهو الكلمة الذي قال فيه الإنجيلي يوحنا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله» (يو1: 1) وقال عنه النبي ميخا: «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (5:2) وقال هو عن نفسه: «أبوكم ابراهيم تهلـّل بأن يرى يومي فرأى وفرح … قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن» (يو8: 56و58)، وأعلن عنه دستور الإيمان النيقاوي عام (325م) أنه «نور من نور إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للآب في الجوهر».

هذا هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس المولود من الآب أزلياً ولما عيّنت المشيئة الإلهية أن تفدي الإنسان تقرر أن يتجسد فولد من مريم العذراء في ملء الزمان وصار ابن الإنسان وهو ابن الله. والأبوة والبنوة بالنسبة للآب السماوي وابنه الحبيب ربنا يسوع المسيح أمر يسمو عن إدراكنا ولا يمكن أن يشبَّه بالأبوة والبنوة البشرية. ويصف الكتاب المقدس سر التجسد العجيب بقوله: «والكلمة صار جسداً» (يو1: 14) فقد جبل له من دم العذراء مريم جسداً كاملاً وولد منها ولادة عجيبة في بيت لحم أفراتا إتماماً لنبوات ميخا وإشعيا وغيرهما من الأنبياء. وقد مهّد لميلاده العجيب في الجسد قبل حدوثه بآلاف السنين بالوعود والنبوات والرموز والإشارات ليهيئ البشرية لفهم هذه الحقيقة الإلهية. وكان الله قد كلّم الآباء والأنبياء بطرق عديدة قبل أن كلّمنا بابنه الحبيب (عب 1: 1و2) الذي فيه وحده تكمل شروط المخلص. وحيث أنه جاء مخلصاً للعالم أجمع شاءت إرادته الإلهية أن تترجم أسفار الكتاب المقدس إلى اللغة اليونانية لغة الثقافة بأمر بطليموس في الاسكندرية قبل مجيء الفادي بقرنين من الزمان تقريباً، ليطّلع العالم الوثني على ما تنبأ به الأنبياء عنه.

ففي «ملء الزمان» كانت المعصية قد كملت والإثم قد تم، وظهرت علناً حاجة البشرية الماسة إلى المخلص ماسيا المنتظر. فالديانة اليهودية لم تقوَ على خلاص الإنسان من خطيته. كما عجزت النظريات الفلسفية والاجتماعية الوثنية عن إنقاذه من شروره. حيث كان اليهود قد فسدوا وحادوا عن الناموس وأهملوا النبوات وعندما ادّعوا أمام الرب يسوع قائلين: «لنا أب ابراهيم» أجابهم: «لو كنتم أبناء ابراهيم لكنتم عملتم أعمال ابراهيم. أنتم من أب هو ابليس وشهوات أبيكم تريدون أن تفعلوا»(يو 8: 44) وصب الرب ويلات على زعمائهم من الكتبة والفريسيين قائلاً: «أتركوهم هم عميانٌ قادة عميانٍ وان كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة» (مت 15: 14).

أما الوثنية فقد استبدلت حق الله بالكذب وعبدت المخلوق دون الخالق، وانحطت بالإنسان إلى درك المعاصي والتمرغ بالشهوات.

«فالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله» بل إله المجد، ولقد سخّر الله قوات البشرية لخدمة مقاصده الإلهية. فالرومان كانوا يحكمون أغلب أجزاء العالم المعروف في ذلك الزمان، عبِّدوا الطرق ووسّعوا البلاد وسيّروا سفنهم في البحار، ممهدين بذلك الطريق لنشر البشارة الإنجيلية دون أن يعلموا.

وأثقلوا النير على العباد وظلموهم، فعلا أنين الناس وارتفع، وتاقوا إلى ظهور ماشيحا (ماسيا) المنتظر وتشوقوا لرؤيته ولئن ظنوه مخلصاً بشرياً ينقذهم من سلطة الرومان ولم يعرفوا بأنه سيخلصهم من سلطان الخطية والموت والشيطان.

أجل يرى المراقب أن قوات عديدة دينية وفلسفية وثقافية واجتماعية وسياسية كانت تحكم العالم قبل ميلاد الرب يسوع، ولكن كانت هناك قوة سامية وإرادة إلهية وراء تلك القوات البشرية ألا وهي قوة الله تعالى وإرادته العظمى فإرادة الله هي وراء حوادث التاريخ أمس واليوم وإلى الأبد. فقد كتب البشير لوقا في الإنجيل المقدس قائلاً: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة» (لو 2: 1) ويعني بالمسكونة الأجزاء التي كانت خاضعة سياسياً لسلطة الدولة الرومانية في العالم المعروف يومذاك. وكانت غاية أوغسطس قيصر الافتخار بامتداد أرجاء مملكته وتسهيل أمر جباية الضرائب من الخاضعين لسلطانها. ولكن قصد الله من وراء ذلك الاكتتاب كان ليثبت أنه حقاً قد أرسل ابنه الحبيب إلى العالم فولدته ابنة داود في بيت لحم مدينة داود، لذلك كانت إرادته تعالى ألا يجري الاكتتاب بحسب نظام الرومان وحسب بل أيضاً بموجب تقليد اليهود وهو أن يذهب كل واحد إلى مدينة آبائه عند التسجيل.

وهكذا جاء إلى بيت لحم أفراثا، يوسف البار وخطيبته العذراء مريم وهي حبلى، جاءا من الناصرة إلى بيت لحم وهما لا يعلمان القصد من ذلك الاكتتاب، وبينما كانا هناك تمت أيام مريم لتلد(لو 2: 1 ـ 5) ولم يكن لهما منزل في الموضع ولا موضع في المنزل، فالتجأا إلى مغارة بسيطة … هناك ولدت العذراء ابنها البكر «يسوع» المخلص، «عمانوئيل» الله معنا. وسجل اسمه في سجلات المملكة. ويستشهد يوستينوس الشهيد (+ 163؟) وترتليانوس (ت نحو 220) وغيرهما بسجلات الامبراطورية الرومانية وهم يقيمون الحجة على أن ماسيا قد جاء إلى العالم، وولد بحسب النبوات في مدينة داود لأنه من نسل داود. فاليهود بلا عذر في رفضه.

أجل، في ملء الزمان ولد الإله من عذراء، ولد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني، وسجل اسمه في سجلات المملكة كسائر البشر، ودخل التاريخ بل صار زمن ميلاده تاريخ التواريخ، وبدأ بميلاده عهد النعمة، والرحمة، والحق، والعدالة، والمساواة.

ها هي ذي الخطية تتزعزع أركانها لأن إله السماء قد كلم أبناء الأرض بابنه الحبيب، فالملائكة هتفت مبشرة الرعاة البسطاء أن «قد ولد لكم في مدينة داود مخلص هو المسيح»«المجد للّه في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة». والنجم يأتي بحكماء المشرق ليسجدوا له مقربين هداياهم ذهباً ولباناً ومراً معترفين بألوهته وملكه وفدائه، وهيرودس الملك الطاغية يرتعب وأورشليم معه، وعلماء اليهود وكهنتهم يعلنون نبوة ميخا عن مكان ميلاد ماسيا ولكنهم لا يستحقون النعمة فيهملون التفتيش عن المخلص ولا يبالون بخلاص نفوسهم فيرفضون من الله ويتم فيهم قول الكتاب: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 11و12).

أجل لقد ولد متواضعاً، ناكراً ذاته، واشترك معنا في اللحم والدم، وأخذ كل مالنا ما عدا الخطية، ليعطينا نعمة التبني. فنكون أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة.

فلنقدم له المجد مع الملائكة، والسجود مع الرعاة والهدايا مع حكماء المشرق. ولنهيئ قلوبنا منازل نقية طاهرة ليولد فيها روحياً فيملك علينا إلى الأبد ويكون إلهنا ونكون له شعباً مقدساً.

وبمناسبة ذكرى ميلاده المقدس، يطيب لنا أيها الأحباء أن نهنئكم جميعاً، وأن نهدي البركة الرسولية إلى أبناء كنيستنا المقدسة وبناتها في أرجاء العالم كافة سائلين مولود بيت لحم القدوس أن يصونهم بالصحة التامة والتوفيق الروحي الجليل لينعموا بأعياده سنين عديدة والنعمة معكم جميعاً آمين.

 

 

 


الميـــلاد المقــــدّس (2)

 

«فقال لهم الملاك لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب. انه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب»

(لو 2: 10و11)

 

في هذا اليوم المقدس، تقرع أجراس الكنائس معلنة بأنغامها الشجية، ورناتها المبهجة، أفراح المؤمنين بعيد ميلاد فاديهم الإلهي، وهم يشاركون ملائكة السماء بتمجيده، فقد صار الإله إنساناً، وأزاح عن كاهل البشرية كابوس الأحزان، وملأ القلوب مسرات وأفراحاً.

وفي هذا اليوم المقدس أيضاً، يتبادل المؤمنون التهاني القلبية والهدايا الثمينة، مشيرين بذلك إلى أثمن هدية قدمتها السماء للأرض يوم الميلاد ألا وهو المخلص المسيح الرب.

ففي هذه الذكرى السعيدة، ننتقل بأفكارنا وأنظارنا إلى بيت لحم أفراثا، إلى مغارة متواضعة حيث ولدت العذراء مريم، قبل عشرين قرناً، ابنها البكر، وهو بكر الآب السماوي أيضاً، وقمّطته، ووضعته في مذود، إذ شاء أن يولد فقيراً، فأهمله بنو قومه، وتم بذلك ما قاله النبي أشعيا قبل ذلك التاريخ بسبعمائة سنة إن «الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما … شعبي فلا يفهم»(أش 1: 3).

وإن حولنا الآن أنظارنا إلى السماء، نراها مهتمة جداً بهذا الحدث الإلهي العظيم، فقد مهدت له عبر الدهور والأجيال بالنبوات والرموز والإشارات، وأرسلت كبير الملائكة جبرائيل إلى الأرض مرات عديدة فحدد للنبي دانيال تاريخ وقوع هذا الحدث قبل موعده بخمسة قرون. ولما بلغ ملء الزمان بشر جبرائيل العذراء مريم بالحبل الإلهي موضحاً لها بأن الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظللها فلذلك أيضاً القدوس المولود منها يدعى ابن اللّه (لو1: 35) .

ويوم الميلاد أعلنت السماء فرحتها بميلاد الماسيا الذي انتظرته الشعوب والأجيال، فانحدر الملاك من السماء ووقف برعاة بسطاء يسهرون على أغنامهم يحرسونها حراسات الليل على هضاب بيت لحم أفراثا. ومن أجدر من الرعاة بالبشارة بولادة الحمل الوديع «حمل الله الرافع خطايا العالم» كما دعاه يوحنا المعمدان بعدئذ؟!

ولما وقف الملاك بالرعاة أضاء مجد الرب حولهم فخافوا خوفاً عظيماً، وسقطوا على وجوههم، ذلك أن الناموس كان قد كشف سر الخطية، وقدر حجمها، ولكنه لم يصف لها الدواء الناجع. وكانت الخطية تعذب ضمير الإنسان فيرى نفسه هالكاً لا محالة لأن الغضب الإلهي مستعر وجمره ملتهب متعد، لذلك فرؤية الملاك الذي يمثل السماء يخيف الإنسان من السماء الغاضبة. ولكن الملاك يطمئن الرعاة ويحول خوفهم العظيم إلى فرح عظيم قائلاً: لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب انه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبّحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة»(لو 2: 10 ـ 14) يا لها من قصيدة بديعة فريدة يتيمة، نظمتها السماء ولحنتها وأنشدتها، وقد أنعم على الأرض، لأول مرة بعد دخول الخطية إليها، أن تسمع ألحان المجد الشجية، وأنغام السلام الروحية، يوقعها على قيثارة الروح ملائكة السماء معلنين بهجة الخليقتين المنظورة وغير المنظورة بالحدث العظيم ألا وهو ميلاد المخلص الذي هو المسيح الرب، الذي به زال الخوف وعمت الطمأنينة، وكسر السيف الملتهب الذي قبض عليه الكروبيم أمام جنة النعيم لحراسة طريق شجرة الحياة ونقض سياج العداوة بين الإله والإنسان، وحل السلام وتبددت الأحزان وامتلأت القلوب مسرات وأفراحاً. فحق للملاك أن يبشر بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، ذلك أن المسيح المولود في بيت لحم هو مسيح العالم كله. لا فرق لديه بين أمة وأمة، لغة ولغة، لا فرق بين رجل وامرأة، شيخ وطفل، غني وفقير، كبير وصغير فهو الكل في الكل (كو 3: 11) وهو للكل على اختلاف أجناسهم وحضاراتهم وطبقاتهم الاجتماعية ومذاهبهم الدينية لأنه جاء ليكسّر إطارات الأنانية المقيتة والعنصرية البغيضة والتعصب الذميم وينشر البهجة والسرور في قلوب الناس ونفوسهم، ويهب الراحة والسلام لضمائرهم. ألم تفرح العذراء مريم فرحاً روحياً عارماً لما قالت لها اليصابات نسيبتها «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ»(لو 1: 42و43). فأنشدت مريم أنشودتها الخالدة، وتهللت قائلة: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى اتّضاع أمته، فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني، لأن القدير صنع بي عظائم…»(لو 1: 46 ـ 49).

هذا هو الفرح الروحي الذي يملأ قلوب الأبرار بالخلاص بالرب، وهو ليس كالأفراح الدنيوية الزائلة، أجل ليس كأفراح الأمم «الفرحين بفعل السوء المبتهجين بأكاذيب الشر» (أم 2: 14) ولكنه فرح سماوي مقدس كقول الرسول بولس: «إن ملكوت الله ليس أكلاً وشراباً بل هو سلام وفرح في الروح القدس» (رو 14: 17) وكقول الرب «افرحوا بالحريّ ان أسماءكم كتبت في السموات» (لو 10: 20) «فافرحوا بالرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا»(في 4: 4) فقد ولد لنا مخلص هو المسيح الرب، حمل الخروف الضال على منكبيه وأتى به إلى حظيرة الخراف، وقبل الابن الشاطر العائد إلى بيت أبيه، وأعلن لنا «أن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب» (لو 15: 7و10).

أجل ولد لنا في مدينة داود مخلص تمت بميلاده نبوة النبي ميخا القائل: «وأنت يا بيت لحم أفراثا وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج مدبر يرعى شعبي … ومخارجه منذ القدم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2) فهذا المخلص قد رعى الشعب رعاية صالحة إذ شفى المرضى وأقام الموتى، وعزّى الحزانى، وفرّج عن المكروبين، وهدى الضالين. ولا غرو فقد أعلنته السماء مخلصاً، فهذا جبرائيل كبير الملائكة يطمئنن يوسف البار خطيب العذراء مريم بقوله: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت1: 20و21) فالخلاص هو الغاية الأولى من تجسده خاصة وأن البشرية كانت بأمس الحاجة إليه لأنها لم تقوَ على خلاص ذاتها فانتظرته لينهضها من كبوتها ويعيدها إلى  برها الأول.

هذا هو المخلص المسيح الرب. إنه المسيح، وبالسريانية (مشيحو) ماسيا المنتظر، المسيح الحقيقي الوحيد الذي ظهر في العالم الذي مسحه الرب الإله بدهن الابتهاج أكثر من رفقائه(مز45: 7) وكما كان الملوك والكهنة والأنبياء يمسحون بزيت لما يتقلدون رتبتهم السامية هكذا مسح الرب يسوع بزيت الابتهاج كقول الكتاب فهو الممسوح ملكاً وكاهناً ونبياً، فهو ملك طبقاً لقول الملاك لأمه العذراء مريم: «ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 32و33) وهو كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق(عب7: 17). وقد قدم نفسه ذبيحة لله ففدى البشرية بدمه الكريم. وهو نبي بل هو رب الأنبياء.

وقد أعلن الرب في بدء تدبيره الإلهي بالجسد أنه مسيح الرب، لما دخل المجمع في الناصرة وقام ليقرأ: «فدفع إليه سفر إشعياء النبي ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة… فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لو4: 16-21)

في حدث الميلاد المقدس أعلنت وظائفه الإلهية بهدايا المجوس حكماء المشرق الذين أتى بهم النجم العجيب من بلادهم البعيدة إلى بيت لحم أفراثا فسجدوا للمولود الإلهي وقدموا له هداياهم ذهباً، ولباناً، ومراً. معترفين به ملكاً وإلهاً ومتنبئين عن موته الكفاري، حيث أنهم اعتادوا أن يقدموا الذهب لملوكهم، واللبان لآلهتهم، والمرّ لتحنيط موتاهم. فالإله الذي أرسل إليهم النجم العجيب ليقودهم إلى بيت لحم، هو الإله الذي ألهمهم أن «المولود» هو الإله الحق فسجدوا له واعترفوا بلاهوته بتقديم اللبان. ولا غرو فالملاك يدعوه مخلصاً ومسيحاً ورباً فهو رب بل هو الرب الإله، وهكذا دعاه كبير الملائكة جبرائيل لما بشر العذراء مريم بالحبل به قائلاً: «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى» (لو1: 31ــ32).

أجل لقد اشتركت في ظهور المولود الإلهي السماء والأرض فهو قد ولد بالجسد من الروح القدس والعذراء مريم معاً. وبتجسده العجيب اتحد وهو الإله الحق بطبيعتنا الإنسانية وكياننا البشري اتحاداً يفوق إدراكنا، وقد جبل له من دم العذراء جسداً كاملاً فهو إله كامل وإنسان كامل بآن واحد، ولاتحاد اللاهوت بالناسوت اتحاداً جوهرياً بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا تبلبل ولا انفصال، نؤمن بأنه أقنوم واحد وطبيعة واحدة ومشيئة واحدة. وكما عبر الرسول بولس عن ذلك بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16).

فما أسعد الرعاة البسطاء يبشرون بميلاده! وما أعظم النعمة التي أسبغت عليهم بسماع نشيد الملائكة. طوباهم فقد آمنوا وصدّقوا ما قيل لهم عن المولود وقاموا مسرعين وأتوا إلى مغارة بيت لحم ووجدوا الطفل مقمّطاً مضجعاً في مذود، طبقاً للعلامة التي منحهم إياها الملاك، وامتلأوا فرحاً روحياً وسجدوا للطفل المولود وقدموا هداياهم «زبداً وعسلاً» إتماماً لنبوة أشعيا القائل: «ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل زبداً وعسلاً يأكل»(أش7: 14و15). وأخبر الرعاة العذراء مريم والصدّيق يوسف وغيرهما ممن صادفوهم بخبر ما حدث لهم في تلك الليلة في البرية «وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة»(لو 2: 18).

فلنفرحن بميلاد الفادي، أيها الأحباء، في هذا اليوم المبارك وفي كل يوم. ولا ندع العالم ومغرياته ومنغصاته تشغلنا عن الفرح الروحي بالمسيح يسوع ربنا. ففي وسط العاصفة… وحتى عندما يهيج البحر الخضم، فتتقاذف أمواجه الصاخبة سفينة حياتنا الغالية تريد تحطيمها، لا يمكن أن يغادر السلام نفوسنا، والبهجة قلوبنا ما دام إلهنا معنا وهو المخلص المسيح الرب. فقد وعد قائلاً: «طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي كاذبين افرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم في السموات»(مت5: 10ــ12).

أجل إن المسيح في ميلاده بعث البهجة في قلوبنا والسلام في نفوسنا، فعلينا أن نفعل نحن أيضاً ذلك بإخوتنا بني البشر، فنعزي الحزانى، ونفرِّج عن المكروبين ونجبر القلوب المنكسرة، ونحوِّل عوز الفقراء والمساكين وفاقتهم إلى اكتفاء بالعطاء السخي. ليكون للمسيح موضع في منازلنا، وليحل في قلوبنا، فنقبله مسيحاً ورباً ومخلصاً لنا عاماً وشخصياً.

ليكن عيد الميلاد هذا عيداً مباركاً عليكم أيها الأحباء، ولينشر الله تعالى أمنه وسلامه في العالم أجمع لتمتلئ قلوب البشر فرحاً روحياً وسلاماً كاملاً آمين.

 


الميـــلاد المقــــدّس (3)

 

«الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نورٌ… لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفيه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام»

             (إش9: 2و6)

 

قبل مولد السيد المسيح بسبعمائة عام، أعلن النبي إشعياء نبوته هذه الصادقة عن ميلاد الفادي، فبعد أن رسم الصورة الحقيقية للعالم الشرير الذي كان قبل الميلاد متخبطاً خبط عشواء في دياجير الجهل والخطية، بشر النبي إشعياء بظهور مشتهى الأمم شمس البر الذي بدد الظلام، وغمر ضياؤه قلوب البشر فأمات فيها اليأس والقنوط، وأحيا فيها الرجاء والأمل. وسمعناه ينادي قائلاً: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة»(يو8: 12) فلا غرو من أن يُعتبر ميلاده ميلاد النور والحياة، ميلاد المحبة والرحمة، ميلاد الحق والعدالة، ميلاد التواضع والوداعة، ميلاد الحضارة والمدنية، فقد حطم قيود العنصرية البغيضة، والطبقية الشنيعة، وساوى بين الغني والفقير، والكبير والصغير، والعظيم والحقير، والعبد والحر، والرجل والمرأة، وأنقذ البشرية من داء الكبرياء الوبيل، وأقام من نفسه مثالاً يحتذى به في التواضع والوداعة، ودعا الناس إليه قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف» (مت11: 29و30).

هذا هو ماسيا المنتظر، الموعود به منذ بدء الخليقة، «الكلمة الذي كان منذ البدء»، «الذي صار جسداً وحل فينا»، ليبرر الجنس البشري من الخطية الأبوية، ويفي عدل الله حقه، وليوفق بين عدله تعالى ورحمته، الأمر الذي لم يتمكن الآباء والأنبياء القيام به، مهما بلغ بعضهم من البر والقداسة، ومهما قدموا من ذبائح وقرابين «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح»(رو3: 23و24) فصرنا بالنعمة أولاداً لأبيه السماوي، كما صار هو بتجسده ابناً للبشر، وهو ابن الله الوحيد، ونسل المرأة الذي ولد منها العذراء مريم بوساطة الروح القدس، فتمت بذلك نبوة إشعيا القائل «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) الذي تفسيره الله معنا(مت1: 23)، كما تنبأ إشعياء أيضاً قائلاً: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أبا أبدياً رئيس السلام».

أجل، لقد ظهر الله في القديم لأبينا إبراهيم في شكل ثلاثة رجال، ولأبينا يعقوب في شكل ملاك، وللنبي موسى في العليقة الملتهبة غير المحترقة، وفي عمود من سحاب وعمود من نار، وقد كلم الله الآباء والأنبياء بطرق عديدة(عب1: 1و2) ولكن «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من إمرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل4: 4) وهكذا «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس» (في2: 7).

واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد الفادي لننتقلن بأفكارنا إلى بيت لحم أفراثا حيث ولد ماسيا قبل عشرين قرناً، ولنتأملنّ بما جرى هناك من حوادث عجيبة، فنرى أمامنا العذراء مريم تسير الهوينا وهي تدخل قرية بيت لحم أفراثا قادمة من الناصرة برفقة خطيبها يوسف ليسجلا اسميهما في سجلات المملكة بحسب أمر قيصر لأنهما كانا من نسل داود وعشيرته، وبذلك يعلماننا الخضوع للسلطة المدنية «لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله»(رو13: 1) ونرى العذراء مريم ويوسف البار يقرعان أبواب دور بيت لحم وتوصد الأبواب بوجهيهما، وقد هدّ عناء السفر حيلهما. فيلتجئان إلى مغارة كانت تستعمل كإسطبل للمواشي، هناك ولدت مريم ابنها القدوس وأضجعته في مذود.

يا للعجب! إن الإله خالق الكون ومبدعه ومدبره، ملك الملوك ورب الأرباب الغني الذي يملك السماء والأرض يولد فقيراً في مغارة بسيطة لا في قصر منيف، وفي قرية بيت لحم الآمنة الوادعة، لا في إحدى عواصم الدنيا. ولكنه بولادته رفع مكانة بيت لحم وجعلها محجاً للأمم يقصدها ملوك الأرض ورؤساؤها، ليحنوا الهامات أمام مغارتها ويعفروا الجباه أمام المذود الذي اضطجع فيه الطفل الإلهي.

عجبي كم غني بات في ليلة الميلاد في مدن العالم الكبرى وحتى في بيت لحم البلدة الصغيرة في فراش ناعم دافئ، وهذا الطفل الإلهي وحيد الآب السماوي يرقد بوداعة في مذود بسيط في مغارة صغيرة يقاسي آلام البرد وخشونة التبن والقش!؟.

كم طفل فقير يولد في أيامنا هذه في العراء، تضمه أمه إلى صدرها الحنون محاولة منحه الدفء والطمأنينة، وهي بأمس الحاجة إلى ما يسد رمقها من بسيط الغذاء. هذا الطفل هو أخ للطفل يسوع وأمه أخت للعذراء مريم، بغض النظر عن انتمائهما العرقي والقومي والديني، والعناية بهما تعتبر كالعناية بيسوع وأمه مريم، وقرضاً للآب السماوي يفيه يوم الدين، فطوبى لمن يكنز له كنوزاً في السماء… وليت الأغنياء الميسورين يعيرون آذاناً صاغية إلى بكاء الأطفال المساكين المعوزين، فيرصدون مبلغاً من المال ولو يسيراً ينفقونه لسد حاجة هؤلاء الفقراء الذين يعضُّهم الجوع بأنيابه الحادة. أجل، ليت الأغنياء يخصصون شيئاً زهيداً مما ينفقونه بتبذير وترف على إحياء سهراتهم الصاخبة ولياليهم الحمراء في ذكرى الميلاد المقدس، فصاحب الذكرى مولود بيت لحم الرحيم الذي يعد المعوزين والمساكين أخوة له يريدنا أن نحتفل بذكرى ميلاده بإكساء العراة، وإشباع الجياع، وإيواء الغرباء، وإلا فسوف يسمعنا يوم الدين صوته المرعب القائل للذين عن يساره: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته، لأني جعتُ فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، كنت غريباً فلم تأووني، عرياناً فلم تكسوني، مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني… الحق أقول لكم، بما أنكم لم تفعلوا ذلك بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا»(مت 25: 41 ـ 46). طوبى لمن لهم آذان صاغية فيسمعون، ولهم عيون ناظرة فيرون ويعون.

أجل ولد المسيح فقيراً متواضعاً ليعلمنا التجرد والتواضع ومحبة الفقير والمسكين ومتواضعي القلب، وإذا كان أهل الأرض قد تجاهلوه فإن «السموات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه»(مز 19:1) فقد أرسلت السماء ملاكاً يزف بشرى ميلاد المخلص إلى رعاة بسطاء متواضعين آمنوا وأطاعوا وزاروا الملك المولود وسجدوا له، وعادوا وأخبروا بما رأوا وسمعوا. بل استحقوا أن يسمعوا أجمل أنشودة وقّعتها الملائكة على قيثارة الروح ألا وهي «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو 2: 14).

كما أعلنت السماء هذه البشرى السارة لعلماء المشرق ورؤسائه بظهور نجم غريب الشكل قادهم إلى بيت لحم أفراثا فسجدوا للطفل المولود مقدمين له هداياهم ذهباً ولباناً ومراً، وبذلك أعلن الله الرب يسوع مخلصاً للعالم أجمع فهو لم يأت إلى العالم لأجل شعبٍ خاص، أو أمة واحدة، إنما هو للعالم قاطبةً، وللمسكونة وشعوبها كافةً، هو للرعاة البسطاء والمجوس الأغنياء الحكماء، وهو لا يزال في المذود وفي المغارة لا حاجب يمنع الناس من الدنو منه، ولا حاجز يصد إنساناً عن الاقتراب إليه. قال إشعيا النبي: «يولد لنا ولد ونعطى ابنا» فقد ولد لنا، وأعطي لنا جميعاً وهو يسوع مخلصنا، وعمانوئيل «الله معنا» وهو الآن مستعد أن يتخذ له مذوداً في قلوبنا ليحيا فيها، فهل نحن على استعداد لاستقباله؟ أم أن قلوبنا مكتظة بالآمال والأماني الدنيوية، وبأشياء وأشخاص بعيدين عن المولود، فنرفضه كما رفضه أهل بيت لحم، فلم يكن لوالدته وخطيبها موضع في المنزل، بل لم يكن له أيضاً وهو طفل منزل في الموضع.

إن الملاك لا يزال يبشرنا، أن قد ولد لنا ولد في مدينة داود، فهل آمنا ببشارة الملاك، وأطعنا الرب كالرعاة، وأتينا وسجدنا له؟. والنجم يهدينا إليه فهل اقتدينا بالمجوس وسجدنا للمولود وقدمنا له هدايانا إيمانا متيناً ثخيناً، وأعمالاً صالحة وفضائل سامية؟.

لقد أنشدت الملائكة نشيد المجد والسلام والمسرة، فهل شاركنا جند السماء بتمجيد الله بأفواهنا وقلوبنا وعقولنا. ليرى الناس ذلك ويمجدوا الآب السماوي؟. وهل مجدنا رب السماء الذي دعانا إلى السلام(1كو7: 15) و(عب12: 14) وقال: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»(مت5: 9) فهل نحن بسلام مع الله ومع النفس ومع الناس؟!..

لقد بدأ الرب تدبيره الإلهي على الأرض بأنشودة السلام الخالدة، وقبل أن يعود إلى السماء بالجسد الذي أخذه من مريم العذراء، بارك تلاميذه قائلاً لهم: «سلام لكم»(لو24: 36).

ففي هذا اليوم المقدس نسأله تعالى أن يفعم قلوبكم بسلامه الإلهي. وأن ينشر أمنه وسلامه في أقطار المسكونة، وأن يعيد عيده عليكم باليمن والبركة لتسيروا بنور المسيح نور العالم ورئيس السلام، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 

 


الميلاد المقدس والأسرة المثالية (4)

 

«فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»

        (لو2: 7)

 

بعبارات سهلة الفهم، بسيطة المبنى وسامية المعنى، سجل البشير لوقا في الإنجيل المقدس، وقائع أعظم حدث عرفته البشرية، ألا وهو ميلاد السيد المسيح له المجد.

إنه الحدث الفريد من نوعه، فلم يسبقه مثيل ويستحيل أن يعقبه شبيه أو نظير، ذلك أن الرب يسوع الإله المتجسد، قد ولد من عذراء لم يعرفها رجلٌ، فكان ميلاده، أعجوبة باهرة تنبأ عنه النبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد قائلاً: «ولكن يعطيك السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) فعمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، هو معجزة المعجزات في شخصيته القوية الفذة والجامعة المانعة فهو الكشف الإلهي في الإنسان، واتحاد اللاهوت بالناسوت، الأمر الذي يشرحه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع عظيمًٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي3: 9).

فلا غرو إذا صار ميلاده يوم الختام لما كان قبله من التاريخ، ويوم البدء لعهدٍ جديد، إذ حوّل المولود مجرى التاريخ، وأضحى مصدره، ومركزه، ومحور دائرته. فما مضى من قبل ميلاده بالجسد كان مشيراً إليه، ومنتظراً مجيئه، وما لحق به، أثبت حقيقته واستمد منه قوته. لأن مولود بيت لحم قد جلس على عرش العظمة في السماء، وتبوّأ قلوب الملايين على الأرض، أولئك الذين صار لهم الطريق، والحق، والحياة. كما غدت تعاليمه لهم دستوراً وإنجيلاً، وأصبح إنجيله نوراً للعالم وهدى للناس، وعلى ضوء موعظته على الجبل عرف الإنسان الخير من الشر والصلاح من الطلاح.

يقول البشير لوقا: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة… فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلي مدينة داود التي تدعى بيت لحمٍ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى. وبينما هما هناك تمَّت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضعٌ في المنزل»(لو 2: 1 ـ 7).

قضى الله منذ القديم بأن يولد المسيح في بيت لحم، وأعلن ذلك على لسان النبي ميخا في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد، كما أوضح أن مولود بيت لحمٍ أزليٌّ، بقوله: «ومخارجه منذ القديم منذ أيّام الأزل» (ميخا 5: 2).

وبيت لحمٍ كلمةٌ سريانيةٌ معناها :بيت الخبز وموضعه. وشاء الله تعالى أن يولد فيها المسيح الذي هو خبز الحياة وقد قال عن نفسه «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد»(يو 6: 51).وقد حوَّل الطفل الإلهي مغارة بيت لحم إلى سماء ثانية جاعلاً من المذود عرشاً إلهياًً استوى عليه له المجد. وكانت أمّه العذراء مريم الطاهرة النقية وخطيبها البار يوسف النجار يحيطان به فألفوا جميعاً الأسرة المثالية التي كانت وما تزال موضع أمل الآباء والأنبياء والفلاسفة والمصلحين في كل جيل. فإذ لم يكن لهما موضع في المنزل اعتبرت المغارة البسيطة، بوجود الطفل، المولود، أجمل منزل في الكون وأفضله وأقدسه.

تألّفت الأسرة البشرية الأولى من رجل وامرأة، اعتبرا جسداً واحداً، لما كانا في حالة البر والقداسة. ولكنهما انقسما على ذاتهما بعدما ساورتهما الكبرياء، وهيمنت عليهما الأثرة والأنانية، فتقوضت أركان الأسرة إذ دخلت الشكوك البيت، وخرجت منه المحبة. وابتدأ الرجل والمرأة يلصق أحدهما بالآخر التهم اللاذعة، وهكذا انقسم البيت على ذاته، فلم يقدر ذلك البيت أن يثبت (مر 3: 25).

وانتقل داء الكبرياء من الآباء إلى الأبناء في أرض الشقاء. بل تطوّر وتقوّى واستفحل، فحسد قايين أخاه هابيل وقتله. وتفككت أوصال الأسرة البشرية. وعبر الدهر والأجيال لم تقم الأسرة وزناً للفضيلة، وتمرَّغ أفرادها بالشهوات، وغدا الإنسان بهيمياً إذ داس ناموس الضمير ولم يعمل بوصايا الرب ولم يسمع للآباء الأبرار والأنبياء الصادقين وصمّ أذنيه عن سماع صوت السماء…

ولما جاء ملء الزمان كملت معصية الإنسان، وطفح كيل الآثام وبقدر تراكم الخطايا، كان الأمل يتقوّى. والرجاء يتعزز بقرب خلاص الرب، فقد شاع شعورٌ جارفٌ بل اعتقادٌ متين قوي، إن المخلص العظيم قريباً ينقذ شعبه من أعدائهم، وتكمل فيه نبوات الأنبياء، فلم يلبث الحلم أن تحقق بميلاد المسيح المنتظر، وكان ميلاده ميلاد الأسرة المثالية.

تألفت هذه الأسرة المقدسة من ثلاثة أشخاص هم يسوع المسيح وهو طفل ملفوف، مقمّط، مضجع في مذود، وأمه العذراء مريم، وخطيبها يوسف النجار. وخيَّم على هذه الأسرة جوٌّ من المحبة النقية الصافية، واتصف الزوجان بالتضحية ونكران الذات، والإخلاص المتبادل، واجتمعا حول الطفل الإلهي الذي أحبّاه أكثر من نفسيهما، وصار بذلك مثالاً للأسرة المثالية المباركة التي يجتمع أفرادها حول الرب يسوع فتغمرهم السعادة الروحية الحقيقية. فأسباب السعادة الحقيقية لا تأتي عن طريق المال، والجاه، بل بالطهر والنقاء والعفة والصفاء، الفضائل التي تجعل من أفراد الأسرة قيثارات روحية توقع الترانيم السماوية لتمجيد الله بالإيمان والأعمال الصالحة.

وهكذا تعاون يوسف ومريم على تربية الرب يسوع وتحملا المشقات في سبيل حمايته وهو طفل وإنقاذه من عدوه الألد هيرودس، وكان الرب يسوع يحبُّهما ويكرِّمهما، ويقول الإنجيل المقدس بهذا الصدد: «..وكان خاضعاً لهما، وكانت أمُّه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها، وأما يسوع فكان يتقدّم في الحكمة، والقامة، والنعمة عند الله والناس»(لو 2: 51 ـ 52). وقد أحب يسوع يوسف البار وكرَّمه كأبٍ له، ويقول التقليد الكنسي إن يوسف مات في أحضان يسوع، فصار موت يوسف مثالاً للميتة الصالحة. وقد اعتنى يسوع بأمه وكرمها، ولم ينسها حتى وهو على الصليب يتألم، إذ سلَّمها إلى تلميذه الحبيب يوحنا قائلاً: «أيها التلميذ هذه أمك»(يو 19: 26 و 27) فصار بذلك مثالاً لنا في إكرام الوالدين الأمر الذي يعتبر مهمّاً جداً لثبات أركان الأسرة الصالحة.

جاء يسوع إلى أرضنا هذه، فأعاد إلى الأسرة كرامتها، وقداستها وبرَّها، المزايا التي فقدتها بالخطية. وقدّس الرب الزواج إذ حضر عرساً في قانا الجليل. وبتعاليمه أكّد على قدسية الرباط الزوجي بين المرأة والرجل، وقد ساوى بينهما بقوله: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم زوجته ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذا، ليسا بعد اثنين بل جسدٌ واحد» (مت 19: 5 و6) والجسد هنا يعني الإنسان بأكمله. وهذه هي الوحدة المثالية للزواج الصالح الناجح والتي يشبِّهها الرسول بولس باتحاد المسيح بالكنيسة حين يقول :«أيُّها النساء إخضعن لرجالكن كما للرب لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة… أيها الرجال أحبُّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها…» ـ ويتابع الرسول بولس تعليمه هذا قائلاً: «من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمَّه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة» (أف 5: 22 ـ 33).

فالزواج الشرعي الذي يقدسه الله بوساطة الكنيسة، يعتبر سراً مقدساً، وهو ثابتٌ لا ينحل إلا بالموت الطبيعي أو الموت الأدبي لأحد الزوجين أو لكليهما.

وقد أعطى الرب الحقوق الكاملة للزوجين، إذ ساوى بين المرأة والرجل. فقبل الميلاد كانت المرأة محتقرة مرذولة مهضومة الحقوق، يظهر ذلك جلياً من تعاليم آباء اليهود القائلة: «إن إلقاء نصوص الناموس في النار أفضل من إيصالها إلى النساء». كما أن اليهودي المتدين يصلي صباح مساء شاكراً ربه لأنه لم يخلقه بهيمة ولا امرأة. أما الوثني فقد اعتبر المرأة سلعة تباع وتشترى. والمرأة لديه أمةٌ لأبيها ثم لزوجها ثم لابنها.

فجاء الرب يسوع ورفع المرأة إلى المكان الذي تستحقه واعتبرها مساويةً للرجل، وعاملها كما عامل الرجل تماماً. وقد تبعته نسوةٌ كثيرات، كنَّ يخدمنه وأخلصن له، ولم تتنكر له واحدةٌ منهن، ووقفن عند صليبه، وكنَّ آخر من انصرف عنه وأول من ذهب إلى قبره، وأول من شهد بقيامته. أما جهاد المرأة المسيحية عبر التاريخ فواضحٌ وضوح الشمس في رائعة النهار. ولا عجب من ذلك فالمرأة شريكة الرجل بالنعمة الإلهية، والامتياز الروحي. ولذلك فالرسول بولس يقول: «ليس في المسيح ذكر ولا أنثى» (غلا 3: 28).

ويكفي النساء شرفاً أن تكون العذراء مريم واحدةً منهنَّ، وقد استحقت أن تصير أمَّاً لله. وأن تسمع قول الوحي الإلهي على لسان اليصابات :«مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربيّ إلي»(لو 1: 42 و 43).

وقد قدّس الرب يسوع الطفولة، إذ ولد طفلاً، وأحب الأطفال الصغار وأحبوه واقتربوا منه بثقةٍ، وكان يباركهم، ووَّبخ مرةً تلاميذه توبيخاً صارماً لما ثبطوا عزيمتهم بالدنوّ إليه. ولما أراد أن يلقي على تلاميذه درساً بالتواضع، على أثر نقاشهم فيمن عسى أن يكون عظيماً بينهم، «فدعا يسوع إليه ولداً وأقامه في وسطهم وقال: الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات. ومن قبل ولداً واحداً مثل هذا باسمي فقد قبلني ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخيرٌ له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجَّة البحر» (مت 18: 1و6). فبعد أن كان الطفل محتقراً قبل الميلاد، رفع الرب يسوع من مكانته، وجعل له منزلة سامية حتى انه اعتبر الإحسان إلى الطفل إحساناً إلى يسوع نفسه والإساءة إلى الطفل إساءة إلى يسوع نفسه.

وهكذا نرى الرب يعطي كل ذي حق حقه، وفي عظته على الجبل يهتمُّ بإصلاح الفرد لتصلح الجماعة، فيريد أن يكون كل من أتباعه ملحاً للأرض ونوراً للعالم.

ورسالة الميلاد اليوم، هي رسالة إصلاح للأسرة، التي هي نواة المجتمع. ورسالة تمجيد لله، وسلامٍ على الأرض، ومسرةٍ للناس. وباهتمامنا بتهذيب الأطفال وتربيتهم التربية الصالحة وتنشئتهم على جداول مياه التعاليم السماوية، والشرائع الإلهية هذا الاهتمام هو تمجيد لاسم الرب القدوس، لأننا بذلك نكون قد هيأنا من الأطفال جيلاً يعبد الله بالروح والحق ويمجده تعالى بالأعمال قبل الأقوال. ونكون قد لبينا نداء الرب يسوع، وقدَّمنا إليه الأولاد فهو ما يزال ينادينا قائلاً : «دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله»(مر 10: 14)

وما لا يختلف فيه اثنان، أن الأسرة هي المدرسة التي يتخرج فيها قادة العالم السياسيون والاجتماعيون والروحيون، فإذا نشأ هؤلاء نشأة صالحة صلح العالم بهم، وساده السلام، وإلاّ فسيعم الخصام، وتكثر الحروب، وتتفاقم النزاعات، وتتسابق الشعوب إلى التسلح، وتتهيأ لتدمير العالم، وإبادة الأرض ومن عليها. فإيجاد الأسرة الصالحة إذن ضروريٌّ لإصلاح المجتمع.

والمحبة العائلية هي أساس الأسرة الصالحة، ذلك أن الفرد الذي لا يحب أفراد أسرته لا يحب وطنه ولا المواطنين، فالمحبة داخل البيت ضرورية لتوفير المحبة خارجه، وكيف يحب الإنسان الناس الغرباء ما لم يختبر المحبة المتبادلة بين أفراد أسرته وفي أرجاء بيته؟!

لقد فسدت الأسرة وتفسَّخ المجتمع قبل الميلاد. وجاء السيد المسيح فأعطى بميلاده مثالاً للأسرة الصالحة. وعلينا اليوم أن نسأل أنفسنا: أين هي الأسرة الصالحة؟! ما مدى اهتمام الآباء والأمهات بالأمور الروحية؟ هل يسعون إلى تربية أولادهم وتهذيبهم لينموا كيسوع في الحكمة والقامة والنعمة لدى الله والناس؟ أم قد اقتصروا على الاهتمام بأمور الجسد فقط؟ هل يسعى الآباء والأمهات إلى توجيه أولادهم توجيهاً صحيحاً بالمثال والأعمال قبل الأقوال!؟ ليؤمنوا بالله ويتكلوا عليه تعالى ويخشوه؟ أم أنهم منهمكون في جمع المال والتمرّغ بالشهوات وقد تركوا أولادهم للشارع الفاسد، ولرفقة السوء فتنتقل إليهم عدوى الخطية والعادات الرديئة ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «لا تضلوا فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة»(1كو 15: 33).

إنه ليومٌ مقبولٌ عيد ميلاد الفادي يسوع بالجسد، وإنها لساعة خلاصٍ، فلنستيقظ من النوم ولنتقدم إلى الطفل المولود، الذي لم يكن له موضعٌ في المنزل، لنرى هل له موضعٌ في منازلنا؟! إنها لفرصةٌ سانحة أن نهيّئ هذه المنازل لتكون سكناً له. بل أن نعدَّ قلوبنا ونفوسنا ليملك عليها.

لقد جاء السيد المسيح لخلاص العالم، ولم يقبله اليهود، إذ لم يطيعوا الأنبياء الذين أعلنوا موعد مجيئه، ومكان ميلاده. ولم يعرف اليهود زمن افتقادهم، فخسروا بذلك خلاص نفوسهم. أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه» (يو 1: 12).

إن الرب يسوع آتٍ ثانية إلى العالم بمجد أبيه مع ملائكته القديسين ليدين الأحياء والأموات، وقد أعلن ذلك بنفسه. وأمرنا أن نصحو ونسهر، وننتظر مجيئه الثاني. إنه آتٍ لا ليسجل اسمه في سجلاتنا البشرية، بل ليسجل أسماءنا في سجلات ملكوته السماوي. فهل نحن من أبناء الملكوت؟! وهل نحن مستعدون لاستقباله؟ هل نحن مشتاقون إليه؟ إذن لنطلب إليه مع الرائي يوحنا قائلين «آمين تعال أيها الرب يسوع» أعاد الله عيده عليكم باليمن والبركة وكل عام وأنتم بخير.

 

 


ميلاد الرب يسوع المسيح (5)

 

«فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين أبناً وتسمينه يسوع»

      (لو 1: 30 ـ 31)

 

يتسلّم رئيس الملائكة جبرائيل، أسمى رسالة تسلمها من عرش الله تعالى، وينحدر إلى الأرض، ليدخل بيتاً بسيطاً في مدينة الناصرة، وليقف بإجلال واحترام، أمام فتاة فقيرة، هي العذراء مريم، المخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. فيحييها جبرائيل تحيته الملائكية، ويبلغها الرسالة السماوية المقدسة قائلاً : «سلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك، مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمةً عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع» (لو 1: 28) .

ويصف الملاك جبرائيل العذراء مريم بالممتلئة نعمةً، وهي الصفة الفريدة التي لم تطلق على غيرها من بني البشر، ذلك أن الله تعالى قد اصطفاها على بنات جنسها كافة، لتكون أمّاً لابنه الوحيد. وأنعم عليها فامتلأت نعمةً، ورضخت مريم للأمر الإلهي فقالت للملاك «هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك» (لو 1: 38). ففي الحال حلَّ عليها الروح القدس، وطهَّرها، وقدَّسها، فاستحقت أن يحلَّ فيها نار اللاهوت، فتحبل لا من زرع رجلٍ، بل من الروح القدس، وتلد بعد تسعة أشهر ابناً عجيباً هو ابن الله الوحيد، فسمت مريم بذلك على سماء السموات، لأنها حملت في بطنها الإله الحي الذي لا تحده حدود، وولدته وهي بتول طاهرة، وقد أنعم عليها مولودها القدوس بأن حافظ على بتوليتها قبل الولادة وفي الولادة وبعدها، كعلامة واضحة وبرهان ساطع ناصع، على ولادته العجيبة الفريدة، فهو الإله ولئن رأيناه إنساناً، الأمر الذي يعبّر عنه الرسول بولس بقوله: «وبالإجماع، عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16). كما يصفه يوحنا الإنجيلي بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً»(يو 1: 1 و 14). وقد دعي الإله المتجسد بالكلمة، لأن الله كلمنا به، بعدما كلم الآباء والأنبياء قديماً بطرق كثيرة (عب 1: 1). ويسوع المسيح كلمة الله، أعلن لنا أفكار الله ومشيئته (يو 1: 18) كما تعلن كلمة الإنسان أفكار الإنسان وإرادته.

وشاءت السماء أن تطلق على الإله المتجسد اسماً جليلاً كريماً مقدساً هو أفضل الأسماء التي تدعى بها الذات الإلهية، اسماً يدل على الغاية من تجسده الإلهي، ويوضح طبيعة رسالته السامية، رسالة الفداء والخلاص، هو اسم يسوع. فقال الملاك جبرائيل للعذراء مريم «وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع» كما أعلنه الملاك ليوسف خطيب العذراء مريم لما ظهر له في حلم ليطمئنه عن طهر مريم وقداستها، ويكشف له سرَّ حبلها الإلهي قائلاً له: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت 1: 20 و 21) ويقول لوقا البشير: «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن»(لو 2: 12).

أجل، إن لاسم الشخص أهمية كبرى في الكتاب المقدس، فكثيراً ما دلَّ الإسم دلالة واضحة على الرسالة التي يحملها المسمى، ففي النظام القديم، أطلق الله تعالى على أبرام اسم (ابروهام) أي ابراهيم الذي يعني «أبا جمهور»(تك 17: 5) إذ قطع الله معه عهداً أن يجعله أباً لجمهور من الأمم، وتتبارك في نسله جميع الشعوب. ويدعو الرسول بولس ابراهيم «أبا لمؤمنين»(رو 4: 11) وما نسل إبراهيم إلا المسيح يسوع الذي فيه صارت بركة للأمم كافة  (غل 3: 8 و 14).

وفي اسم الرب يسوع تكمن قوة إلهية هائلة، فباسمه وباسم أبيه وروحه القدوس ينال المعتمد نعمة التبرير والتقديس والتبني. ففي يوم الخمسين لما نخس اليهود في قلوبهم على أثر موعظة الرسول بطرس، وقالوا له ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة، فقال لهم بطرس «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس»(أع 2: 37 ـ 38).

وباسم يسوع تجترح المعجزات الباهرات، فقد حدث مرة، عند باب الهيكل الذي يقال له الجميل أن سأل رجل أعرج صدقة من الرسولين بطرس ويوحنا، فقال له بطرس، «ليس لي فضة ولا ذهب، لكن الذي لي فإياه أعطيك، باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش. ففي الحال تشددت رجلاه وكعباه، فوثب ووقف وصار يمشي ودخل معهما إلى الهيكل وهو يمشي ويطفر ويسبح الله»(أع 3:1 ـ 10).

واسم يسوع يعني «الرب المخلِّص» ويقول الرسول بطرس: «ليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص»(أع 4: 12) ويقول الرسول بولس: «لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب»(في 2: 9 ـ 11).

كان اليهود قبل مجيء الرب يسوع إلى العالم يطلقون على العديد من أولادهم، اسم يشوع أي يسوع الذي يعني «الرب مخلِّص» ذلك أنهم كانوا ينتظرون إتمام النبوات والمواعيد بمجيء المخلص. ولكن عندما جاء الرب يسوع إلى العالم ليخلص العالم، وطلب إليهم هيرودس الملك أن يخبروه عن مكان ميلاد المسيح بناء على سؤال المجوس الذين جاؤوا من المشرق يسألون قائلين أين هو المولود ملك اليهود، فأوضح له الكهنة وكتبة الشعب أن المسيح يولد في بيت لحم، لأنه هكذا تنبأ النبي ميخا قائلاً: «أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2 ). لقد قرأ اليهود نبوات أنبيائهم وحافظوا عليها ولكنهم لم يعرفوا زمن افتقادهم، لذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء التفتيش عن موضع ميلاد المسيح المنتظر. ولما ظهر للعالم بعد ذلك التاريخ، بثلاثين عاماً، أبغضوه مجاناً، وعلقوه على الخشبة لقساوة قلوبهم وغلاظة رقابهم، وأبطلوا تسمية أولادهم باسمه المبارك يسوع.

أما المسيحيون فإجلالاً للرب يسوع ولاسمه المقدس، لا يطلقون على أولادهم هذا الاسم الإلهي مجرداً بل يسبقونه بكلمة (عبدٍ) فيدعون (عبد يشوع) و(عبد المسيح) وقد أخذ العرب من باب التكريم الحروف التي يتألف منها اسم يسوع وصاغوا منها اسماً جميلاً كريماً أيضاً هو اسم (عيسى) أطلقوه على أولادهم.

ولقِّب ربنا يسوع بألقاب عديدة أشهرها لقب (المسيح) الذي أضيف إلى اسمه القدوس فدعي في أماكن عديدة من أسفار العهد الجديد بيسوع المسيح أو المسيح يسوع. وقد أطلق لقب المسيح على الملوك والكهنة والأنبياء في النظام القديم (مز132: 10 و1صم24: 6) لأنهم مُسحوا بالزيت (1صم10: 1) علامة لتكريسهم لخدمة الله تعالى. أما الرب يسوع المسيح فهو وحده قد مسح بالروح القدس (لو4: 18 وأع4: 27) بصورة فريدة، وأطلق عليه لقب المسيح وفي الأصل الآرامي السرياني (ماشيحا) ومشيحو أي الممسوح، ذلك الذي انتظرته الأجيال والشعوب ليهب العالم خلاصاً، ويرى آباء الكنيسة أن المجوس الرؤساء والحكماء الذين جاؤوا من الشرق وسجدوا للطفل يسوع، قد اعترفوا به مسيحاً مسح كاهناًً وملكاً ونبياً، وذلك بتقديمهم له الذهب واللبان والمر، الهدايا التي تقدم للملوك والكهنة والأنبياء، كما تنبأوا عن موته الكفاري.

وأعلن الرب يسوع نفسه أنه المسيح المنتظر (لو4: 16ــ21 وإش61: 1) وبهذه الصفة عرفه تلاميذه وأتباعه واعترفوا به. فإن أندراوس مثلاً بعدما تبعه بناءً على شهادة يوحنا المعمدان، بشّر أخاه سمعان بطرس بقوله: «قد وجدنا ماشيحا الذي تفسيره المسيح»(يو1: 41و42). ولما سأل الرب يسوع تلاميذه عما يقوله الناس عنه، وعما يقوله التلاميذ أيضاً عنه، أجاب سمعان بطرس وقال: «أنت هو المسيح ابن الله الحي»(مت16: 16) وهكذا صار لقب المسيح اسماً جليلاً يطلق على الرب يسوع، دالاً على ألوهيته وناسوتيته معاً، ولا يشاركه فيه أحد من البشر.

أجل، أن من نعم الله علينا كمسيحيين أن ننسب إلى ربنا يسوع المسيح. «فقد مسحنا الله وختمنا وأعطانا عربون الروح في قلوبنا»(2كو1: 21و22) على حد قول الرسول بولس: «وليس هذا فقط بل قد أعطانا سلطاناً أن نصير أولاداً لله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو1: 12و13).

إننا ندعى مسيحيين، فهل افتكرنا ماذا يعني هذا الاسم المقدس!؟

يقول البشير لوقا في سفر أعمال الرسل: «دعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً»(أع11: 26) وكانت أنطاكية عصرئذ عاصمة سوريا القديمة، وكان أجدادنا الأنطاكيون قد قبلوا المسيح يسوع رباً ومخلصاً، بل كان اسمه القدوس يقدس شفاههم، وهم يبتهلون إليه ليل نهار، ويلهجون بتعاليمه الإلهية، ويحدثون الغريب والقريب عن معجزاته. وكان الرب يسوع المسيح معهم إتماماً لوعده الإلهي القائل: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم»(مت18: 20) وليس هذا فقط بل بمعاشرتهم إياه اقتبسوا منه العديد من فضائله الإلهية السامية. فكان مثالهم في الحياة، وكانت تفوح منهم رائحته الذكية. فرأى فيهم الوثنيون مسحاء صغاراً فدعوهم مسيحيين هزءاً وسخرية. ولكن هذا اللقب تفوق على كل الألقاب، وسمت هذه التسمية على كل التسميات، وافتخر أتباع المسيح بذلك، فيقول الرسول بطرس بهذا الصدد: «إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم أما من جهتهم فيجدَّف عليه وأما من جهتكم فيمجَّد. فلا يتألم أحدكم كقاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو متداخل في أمور غيره. ولكن إن كان كمسيحي فلا يخجل بل يمجِّد الله من هذا القبيل»(1بط4: 14ــ16) وما أجمل ما كتبه القديس إغناطيوس النوراني (حامل الإله) بطريرك أنطاكية الثالث(107م) قائلاً: «صلاتي إلى الله، لا أن أدعى مسيحياً فحسب، بل أن أكون بالفعل مسيحياً».

هكذا كان آباؤنا أهل أنطاكية الذين لم يسمّوا مسيحيين فقط بل كانوا مسيحيين اسماً وفعلاً، قولاً وعملاً. وقد اقتدوا بالمسيح يسوع ربنا بالصدق والاستقامة، والمحبة والرحمة، والتضحية ونكران الذات، فصاروا مسحاء صغاراً أدهشوا العالم بسيرتهم الفاضلة، وسريرتهم النقية، وكانوا أول من جمع صدقات، على أثر الجوع الذي حدث وقتئذ، وأرسلوها إلى القدس بيد برنابا وشاول، لسد عوز الإخوة. ونحن أنطاكيون، لأن كرسينا الرسولي أسسه الرسول بطرس في أنطاكية، فأين نحن الآن من متطلبات التسمية المسيحية المجيدة ومبادئها؟ إذا ما عقدنا المقارنة بين ما كان عليه آباؤنا الأنطاكيون وبين ما نحن عليه الآن تبرز أمامنا حتماً الحقيقة المريرة وهي أن البون قد اتسع بين مسيحنا ومسيحيتنا. فنحن اليوم ننعم في بحبوحةٍ من العيش الرغيد، والعديد منا لا يفتكر بالفقير واليتيم والأرملة. بل يتجاهل ما يحدث من جوع مرير في أماكن عديدة من العالم حيث يموت آلاف الأطفال جوعاً، وكل منهم يمثل الطفل يسوع، الذي ولد فقيراً، ليعين الفقراء والبؤساء والمحتاجين.

أجل، إن المجاعة تكشر عن نابها لملايين البشر في كل عام وتجتاح البلدان الفقيرة، والأقطار المتخلفة التي كانت عبارة عن مستعمرات للأجانب الذين نهبوا ثرواتها المادية، وسخروا طاقاتها البشرية لمصلحتهم الخاصة على مدار سنين كثيرة. وتشتدد عليها الآن وطأة الجوع نتيجة الجفاف وعدم كفاية الواردات، ونسمع كل يوم بموت آلاف الأطفال والشيوخ لانعدام التغذية.

وفي هذا الوقت بالذات والإنسانية تتعذّب وتتحمل مأساة المجاعة القاسية نجد الرأسمالية الكبرى تنفق على إنتاج الأسلحة الفتاكة وأدوات الدمار، الملايين بل المليارات من الدولارات. ونجدها كذلك تقوم بإتلاف كميات هائلة من المواد الغذائية بحجة المحافظة على الأسعار، وصيانة دخل المنتجين في بلادها من الانهيار، وتحول دون إرسال هذه الكميات الفائضة من المواد الغذائية إلى البلدان التي يموت أهلها جوعاً، غير آبهة بموت هذه الشعوب، في سبيل المحافظة على مصالحها الاحتكارية الدنيئة.

ففي ذكرى ميلاد الطفل الإلهي القدوس، نناشد الضمير العالمي لإنقاذ الإنسانية من الجوع والفقر والدمار. أما نحن فلنقتدِ بآبائنا الميامين، ونمد يد العون للمعوزين، كي نستحق أن ندعى مسيحيين.

أعاد الله أعياده المقدسة عليكم جميعاً، باليمن والبركة، ووطد أمنه وسلامه في أقطار المسكونة، وخفف عن الناس ويلات الحروب والمجاعات بنعمته تعالى آمين.

 


المجوس يجدون الملك المولود ويسجدون له (6)

 

«ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك، إذا مجوسٌ من المشرق قد جاؤوا إلى أورشليم قائلين أين هو الملك المولود ملك اليهود، فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له»

   (مت2: 1و2)

صرخة البشرية للخلاص استجابتها السماء بميلاد الفادي قبل عشرين قرناً. فقد كانت البشرية قبل ذلك، جيلاً بعد جيل، تحنّ بكل جوارحها إلى رؤية مشتهى الأمم، المخلص الموعود به منذ ابتداء الخليقة، ليقيل عثرتها، وينتشلها من وهدة الخطية، ويبررها ويقدسها، ويعيدها إلى حظيرة الآب السماوي.

«فلما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4). ففي الزمان المعيَّن من الله، وفي الطريقة العجيبة التي اختارها تعالى أن يولد ابنه الوحيد من الروح القدس ومن العذراء مريم، وُلِد الإله المتجسد. ويصف الرسول بولس هذا السر العجيب بقوله: «وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16). ويسرد الإنجيلي متى سلسلة نسبه في الجسد مبتدئاً بشارته بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم»(مت1: 1). فقد اختار الله إبراهيم وداود وبعض الآباء ليكون المسيح من نسلهم في الجسد. ووعدهم الرب الإله أن يتبارك بنسلهم جميع الشعوب (تك22: 18 و26: 4 و28: 14). ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول في الأنسال كأنه عن كثيرين بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح»(غل3: 16). وشاءت العناية الربانية أن يحتفظ شعب العهد القديم بهذه المواعيد الإلهية، والنبوات الصادقة والرموز والإشارات التي تمت بحذافيرها في المسيح يسوع ربنا. ويقول الرسول بولس عن هذا الشعب: «ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين»(رو9: 4و5).

واشتركت الأمم الوثنية أيضاً في سلسلة نسب المسيح بالجسد عن طريق راحاب الخاطئة، وراعوث الموآبية، ضمن سلسلة نسب النبي داود، وبالتالي صارتا ضمن سلسلة نسب السيد المسيح، وهذه إشارة إلى قبول الأمم في ملكوت الله، وخلاص الرب يسوع للعالم أجمع. «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم»(يو3: 16و17) فرسالة المسيح الخلاصية هي عامة شاملة لا لشعب واحد ولا لعنصر واحد ولا لجيل واحد بل هي للعالم أجمع ولكل الأزمنة للماضي والحاضر والمستقبل. فلا غرو إذن، إذا هيّأت العناية الربانية أن يأتي المجوس من المشرق إلى فلسطين ليسألوا عن المولود الذي دعي ملك اليهود لأنه ملك الملوك ورب الأرباب.

رأينا المجوس في بابل على عهد النبي دانيال، قبل مجيء السيد المسيح بنحو خمسة قرون، رأيناهم رجالاً حكماء علماء يراقبون الكواكب السابحة في القبة الزرقاء، ويدرسون حركاتها، ويسجلون ذلك بحساب دقيق معتقدين أن للكواكب مساساً بحياة البشر. وكان الملوك يستشيرونهم في الأمور المهمة، لذلك تبوّؤوا مراكز مرموقة في مجتمعهم، واعتبروا من الأمراء والعظماء والأغنياء، وكانوا يدينون بالديانة الزرادشتية.

وكان المجوس الثلاثة الذين جاءوا إلى فلسطين للسجود للرب يسوع وتقديم الهدايا له من نسل النبي الأممي بلعام بن بعور الذي كان من بلاد ما بين النهرين موطن إبراهيم خليل الله. وعاصر بلعام النبي موسى، وذاع صيته كثيراً بين الشعوب الوثنية فكان زعماؤها يقصدونه ليباركهم ويتنبأ لهم عن أمور تتعلق بحياتهم الخاصة والعامة ومستقبل بلدانهم في السلم والحرب. وكان بلعام، على الأغلب، موحداً يعبد الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى (عد24: 16) ولكنه لم يكن في تعداد شعب موسى لذلك اعتُبِر نبياً أممياً.

وكان بلعام بن بعور قد تنبأ عن مجيء السيد المسيح إلى العالم، لخلاص العالم بقوله: «أراه ولكن ليس الآن، وأُبصِره ولكنه ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب… »(عد24: 17ــ19) وكان من جملة تعاليم بلعام لتلاميذه أنّ نجماً يظهر في السماء يختلف عن سائر الكواكب التي يرصدونها، وأنّ ظهور هذا النجم يدل على ولادة ملك عظيم يسمو على سائر ملوك الأرض. وأوصى بلعام تلاميذه قائلاً: متى ظهر هذا النجم العجيب فاتبعوه، آخذين معكم له هدايا ذهباً، ولباناً، ومراً.

ومرت الأجيال والدهور، وتعاليم بلعام يتسلمها الأبناء من الآباء حتى ميلاد الفادي، حيث كان ثلاثة من المجوس يرصدون الكواكب في بلاد ما بين النهرين فرأوا نجماً غريباً ظهر في السماء وكأنه على سفر، فعرفوا فيه النجم الذي تنبأ عنه جدهم بلعام بن بعور، فشدوا الرحال حالاً وتبعوه وهم لا يعلمون إلى أين يقودهم تماماً كما خرج إبراهيم من أرض آبائه بالإيمان إطاعةً لأمر الله تعالى، وهو لا يعلم إلى أين يأتي(عب11: 8) وقد رافق المجوس الثلاثة ألف رجل يحملون مؤونة وأسلحة.

يقول آباء كنيستنا السريانية وفي مقدمتهم مار أفرام (ت373) ومار يعقوب السروجي (ت521): لم يكن النجم الذي ظهر للمجوس كسائر الكواكب السابحة في القبة الزرقاء، إنما كان كائناً روحانياً ظهر ككتلة من نور باهر وفي وسطه صورة امرأةٍ تحتضن صبياً. وسار هذا النجم أمام المجوس الثلاثة حالما غادروا بلادهم في ما بين النهرين كما كان عمود النور يسير في البرية أمام شعب موسى… وعندما وصلوا إلى القدس اختفى النجم عنهم، فظنوا أن رحلتهم قد انتهت وانهم لا محالة من أن يجدوا الطفل المولود في المدينة المقدسة التي طالما سمعوا عنها. فسألوا الناس قائلين : «أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له». وذاع خبر مجيئهم في المدينة كلها وبلغ أذني الملك هيرودس الكبير الأدومي الجنس الذي اغتصب الملك وبطش بكل من ظنه منافساً له، فاضطربت المدينة خوفاً وفزعاً منه من بطش هذا الطاغية الذي كاد قلبه يتفجر غيظاً ونار الغيرة والحقد تلتهب فيه.

يقول الإنجيل المقدس إن هيرودس استدعى رؤساء الكهنة اليهود وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا له في بيت لحم اليهودية لأنه هكذا مكتوب بالنبي «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبّرٌ يرعى شعبي…»(مت 2: 5 و 6) ولم يكملوا له الجزء الثاني من الآية القائل :«ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا 5: 2) الأمر الذي يعلنه الوحي الإلهي على لسان النبي ميخا لإثبات حقيقة أزلية المسيح الملك المولود في بيت لحم أفراثه.

وصمم هيرودس أن يهلك نفس الصبي فاستدعى المجوس سراً وسألهم عن زمان ظهور النجم ثم أرسلهم إلى بيت لحم قائلاً :«اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أيضاً واسجد له» (مت 2: 8) وكان هذا مكراً منه وخديعة، فقد تأبط شراً، وبيَّت للمولود سوءاً، ونوى الإيقاع به، ووأده في مهده. ولكن الآب السماوي صان حياة الطفل القدوس. أما المجوس فحالما غادروا المدينة، «إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً([23])، وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخرٌّوا وسجدوا له([24]). ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هداياهم ذهباً، ولباناً، ومرّا ً(مت2: 10 و 11) الهدايا التي كانت ترفع عادة في هياكل عبادتهم قرابين شكر للإله العظيم، فقد قدموا له الذهب الذي يقدم أيضاً للملوك لأنهم رأوا فيه ملكاً للعالم. ومملكة المسيح روحية. وهي تضم كل من يؤمن به إيماناً مستقيماً، لذلك لما بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم بالحبل به قال لها: «هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهايةٌ» (لو 1: 32 و 33) وفي ابتداء تدبيره الإلهي في الجسد سمعناه يقول للناس: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(مر 1: 15) وقال لبيلاطس الحاكم: «مملكتي ليست من هذا العالم»(يو 18: 36). كان اليهود ينتظرون بفارغ الصبر مجيء ماشيحا المخلص الموعود به منذ ابتداء الزمن. ولكن معلمي الشريعة، وكتبة الشعب ضللوهم، ورسموا في عقولهم صورة مادية لرسالة هذا المخلص، معتبرين إياه منقذاً دنيويا صرفاً، يخلصهم من مصائب هذا الدهر، وينقذهم من ظلم الرومان واستعبادهم. إن هذا المفهوم المغلوط في صفات مملكة المسيح السماوية، أفقد اليهود نعمة الخلاص، فصاروا غرباء عن ملكوته. وتجاسر بعضهم ليقولوا: «ليس لنا ملك إلاّ قيصر» (يو 19: 15) فتم فيهم القول: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه»(يو 1: 11 و 12) إن المؤمنين باسمه، يقدمون له قلوبهم النقية الطاهرة، كالذهب المصفّى بنار التوبة، والمحبة الإلهية، عربون خضوعهم له، وطاعتهم لوصاياه المقدسة، واعترافاً منهم بملكه الأبدي الذي لا يتزعزع، وأبواب الجحيم لن تقوى عليه. فان دول العالم تدول، وممالكه تتداعى إلى السقوط وتزول، أما ملكوت السماء فثابتٌ إلى الأبد.

وقدّم المجوس للصبي يسوع لباناً، لأنهم رأوا فيه إلهاً عظيماً يستحق أن يحرق أمامه بخور الحمد والشكران اعترافاً بألوهته، فهو الإله المتجسد، الكلمة الذي هو منذ البدء «والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو 1: 1 و 14) فالمؤمنون به يرفعون إليه صلواتهم الحارة، بخوراً طيب الرائحة، ذكياً، تحملها الملائكة إلى السماء، وتقدمها أمام عرشه السامي مع صلوات القديسين جميعهم (رؤ 8: 3).

وقدم له المجوس مراً، لأن السماء كشفت لهم سراً عظيماً عن عمله الكفاري، وما يتحمله من آلام في سبيل فداء البشرية، وقد دعي اسمه يسوع كما دعاه الملاك جبرائيل وهو يبشر العذراء مريم بالحبل به، ومعنى يسوع المخلص، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.

ففي ميلاده في مذود، حيث تولد الخراف، يكمن سر الفداء العجيب. فالمسيح يسوع هو حمل الله الرافع خطايا العالم، كما دعاه يوحنا المعمدان، الحمل الذي قدم نفسه فدية عن البشرية، لذلك فالميلاد هو أول الطريق المؤدية إلى الصليب والموت والقيامة، الطريق الموصلة إلى ملكوت الله.

والمؤمنون باسمه القدوس، يولدون من فوق، من السماء ميلاداً ثانياً، لا من مشيئة رجل، بل من الله. ليصيروا أولاد الله بالنعمة. ويحملون صليب الرب يسوع وهم يتبعونه في طريق الآلام صالبين ذواتهم معه على الخشبة فتموت فيهم الأنانية بنكران الذات والتضحية، وهكذا يقدمون له مع المجوس مراًّ ممزوجاً بتنهدات القلوب النقية، متحملين الضيقات من أجل اسمه القدوس بفرح وابتهاج.

فإذا كنا، أيها الأحباء، نرغب في أن نحتفل بعيد ميلاد الفادي كما يريدنا المسيح ربنا أن نحتفل به، علينا أن نسترشد بنور إنجيله بإيمان متين، ورجاء وطيد، كما استرشد المجوس بضياء النجم المنير. سالكين في الطريق التي نهجها لنا الرب يسوع مولود بيت لحم القدوس، الذي هو الطريق والحق والحياة (يو 14: 6) عائشين كما يحق لإنجيله المقدس(في 1: 27) جاثين أمامه راكعين، مع المجوس الحكماء، مقدمين له هدايانا المتواضعة، عربون محبتنا وخضوعنا له.

في سبيل الوصول إليه، لا نبالي بما يصادفنا في الطريق من المصاعب والمتاعب والمشقات والضيقات ف «ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه»(متى 7: 14) على حد قول الرب يسوع.

وأمام مذوده المقدس، لننس مراكزنا الدنيوية المرموقة السامقة، وكل أمجاد العالم، وغناه، وهناءه، وسعادته، إن وُجِدت، ولنتلاش قدامه جاثين ساجدين خاشعين «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب»(في 2: 10 و 11). بذلك نستحق في انتهاء مسيرتنا في هذه الحياة أن نعود إلى وطننا السماوي كما رجع المجوس إلى بلادهم من طريق أخرى (متى 2: 12)، لا طريق هيرودس المعوجَّة، بل طريق الإنسان الجديد الذي رأى الرب يسوع مولود بيت لحم القدوس، بعين الإيمان والرجاء والمحبة، وعرفه معرفة جيدة، وقدّم له قلبه عرشاً يتربع عليه إذ قبله ملكاً، وإلهاً، ومخلصاً عظيماً.

أعاد الرب الإله هذا العيد المقدس عليكم جميعاً باليمن والبركة والنعمة معكم آمين.

 

 


المسيح قد جاء مولوداً من عذراء (7)

 

قال الرسول بولس: «لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امراة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني»

            (غل 4: 4و5)

 

تمتلئ قلوبنا بهجة وسروراً، في عيد ميلاد الرب يسوع، ونحن نتأمل بالروح أعظم حدث وقع في تاريخ البشرية، ألا وهو التجسد الإلهي العجيب، الذي لا تقوى عقولنا على أن تدرك كنهه، ولكننا نؤمن به، ونسلّم بصحته، مثلما نؤمن بكل ما توحيه إلينا السماء من الحقائق الإلهية التي يفوق بعضها إدراكنا. ولا غرو فقد عرّف الكتاب المقدس الإيمان بقوله: «وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى»(عب 11: 1). فنحن نؤمن بكل ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من عقائد إلهية، دوّنوها في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، من ذلك تكوين العالم، وخلقة الإنسان، وسقوطه في المعصية، وإنقاذه من براثن إبليس، وذلك بإرساله تعالى ابنه الوحيد إلى العالم متجسداً من الروح القدس ومن مريم العذراء، فصار إنساناً وافتدانا بدمه الكريم، وغفر لنا خطايانا وبرّرنا وقدّسنا، وأعادنا إلى رتبة البنين التي فقدناها بالخطية، هذا الفداء العظيم حدث في الزمن الذي حدده الله قبل حدوثه بأجيال عديدة، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل 4: 4و5).

 

يذكرنا هذا السر العجيب، أيها الأحباء بحادثة تجلّي الله تعالى للنبي موسى في عليقةٍ كانت تتوقد بالنار دون أن تحترق، وإذ تقدم موسى منها، ناداه الله من العليقة قائلاً له: «لا تقترب إلى ههنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب.. أنا هو الكائن» (خر3: 5و6و14).

لم تكن تلك العليقة سوى رمزٍ للعذراء مريم، فكما كانت النار تتوقد في العليقة دون أن تحرقها، وكلّم الله موسى من العليقة، كذلك حلّ نار اللاهوت في أحشاء العذراء مريم، ولم تهلك مريم ولئن كانت إنساناً محضاً. إذ أنعم الله عليها فحلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقًاها وقدسها فأصبحت أهلاً لأن يجبل الروح القدس من دمها جسداً كاملاً، وهكذا حبلت من الروح القدس بابن الله ولم يمسسها رجل، كقول الملاك جبرائيل لها يوم بشرها بالحبل الإلهي، وسألته كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فأجاب الملاك وقال لها: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تُظلّلك ولذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 34و35) بعد أن كان الملاك قد قال لها «السلام لك أيتها الممتلئة نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمةً عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 28ــ33).

فما أعظم النعمة التي وجدتها العذراء مريم عند الله، إذ صارت أماً ليسوع الذي يدعوه الملاك ابن العلي كما يدعوه ابن الله. وهو نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية على حد قول الله تعالى للحية المجرِّبة «أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك 3: 15) والحية هنا رمز قوة الشر أي إبليس الذي يظفر به نسل المرأة أي المسيح يسوع، وهكذا كما أدخلت المرأة الأولى حواء، الخطية إلى العالم، كذلك المرأة العذراء مريم حواء الثانية بوساطة نسلها المسيح أتت بالخلاص للعالم.

يقول آباء الكنيسة «إن الله قادرٌ على أن يصنع الإنسان على أربعة أنواع إما من رجلٍ وامرأةٍ كما هو الحال الجاري في العالم، أو من غير رجلٍ أو امرأةٍ كما صنع آدم، أو من رجلٍ بلا امرأةٍ كما صنع حواء، أو من امرأةٍ من غير رجل الذي لم يكن قد صنعه إلى حين تجسد كلمة الله يسوع المسيح الذي اتّخذ له جسداً كاملاً من امرأةٍ وحدها هي العذراء مريم».

وقد وُلِد الرب يسوع بصورة عجيبة إذ ولدته العذراء مريم وهي عذراء وبقيت عذراء في الولادة وبعد الولادة ولذلك ندعوها بدائمة البتولية. وهكذا تمّت فيها نبوة إشعيا الذي قال: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) «الذي تفسيره الله معنا» (مت1: 23).

ويقول الرسول بولس: «وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16).

أجل، إن عقيدة ميلاد السيد المسيح من عذراء هي من العقائد الجوهرية في الدين المسيحي. وإن هذا الميلاد الذي يفوق الطبيعة، هو ضروريٌّ جداً في التجسد الفريد من نوعه في الكون، وهو أعجوبةٌ باهرة لا بد من حدوثها في بدء تجسد الرب، كما أن قيامته من بين الأموات أعجوبةٌ أخرى اجتُرِحت لتقيم الحجة على صدق نبواته وصحة مطاليبه الإلهية وقبول كفارته عن البشرية. فكما ولد من عذراء وحافظ على بتوليتها قبل الولادة وفي الولادة وبعدها كذلك قام من بين الأموات وغادر القبر، والصخرة العظيمة موضوعةٌ على بابه وأختام المملكة لم تنثلم.

إن حقيقة الولادة من عذراء هي الأساس الذي تبنى عليه حقيقة عصمة المسيح الإله المتجسد الذي أرسله الآب إلى العالم ليخلص به العالم ودعاه جبرائيل الملاك «قدوس القديسين» لما بشر النبي دانيال قبل الميلاد بخمسمائة سنة، وحدد له زمن مجيء الرب بالأسابيع السبعين التي ذكرها في نبوته (دا9: 24) ولما جاء ملء الزمان وتمت هذه النبوة بشّر جبرائيل العذراء مريم بالحبل به. ودعاه أيضاً قدوساً، وابن العلي، كما سماه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.

كما أن ولادة العذراء ابنها الوحيد الرب يسوع بهذه الصورة العجائبية رفع من مقامها بين نساء العالمين، فأطلق عليها أتباع المسيح ابنها صفة الأمومة لله، ودعوها والدة الله وقد سمعنا إليصابات نسيبة العذراء وقد امتلأت من الروح القدس وهي ترحب بها في دارها، تقول لها: «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاجٍ في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب»(لو1: 41ــ45) فأنشدت العذراء مريم أنشودتها النفيسة قائلة: «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه»(لو1: 46ــ50). وإتماماً لنبوة العذراء عن نفسها يطوِّبها أبناؤها المسيحيون في صلواتهم التي يرفعونها إلى ابنها الحبيب مكررين العبارات التي حيّاها بها الملاك جبرائيل مضيفين إلى ذلك كلمات إليصابات قائلين: السلام لك يا مريم العذراء الممتلئة نعمةً، الرب معك، مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك يسوع. يا مريم القديسة يا والدة الله. صلي لأجلنا نحن الخطاة الآن وفي ساعة موتنا آمين.

فجدير بنا أيها الأحباء أن نقتدي بالعذراء مريم الممتلئة نعمةً، التي اختارها الله لتكون أماً لابنه الوحيد لطهرها ونقائها وعفتها ووداعتها وتواضعها، ويقول عنها البشير لوقا: «وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها»(لو2: 19) فقد كانت تنصت جيداً إلى كلام الوحي الإلهي وتحفظه متفكرةً به في قلبها، كما كانت تتأمل باهتمام الحوادث التي جرت لها وما حولها وتحفظها وقد بلّغتها إلى رسل الرب وتلاميذه الذين أعلنوا شهاداتهم ودوّنوها في الإنجيل المقدس، فالعذراء أول من حمل البشارة إلى الآخرين.

من العذراء عرفنا بشارة الملاك جبرائيل لها، وزيارتها لإليصابات نسيبتها، وظهور الملاك جبرائيل ليوسف خطيبها ليطمئنه عن أن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس. ومن العذراء عرفنا ولادة الرب العجيبة في بيت لحم في مغارة بسيطة وتسجيل اسمه في سجلات المملكة.

ومن العذراء مريم عرفنا أن الملاك ظهر للرعاة وبشّرهم بالمولود، وأن الملائكة رنموا في تلك الليلة قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة».

ومن العذراء مريم عرفنا أن المجوس جاءوا من المشرق وسجدوا للطفل المولود، أولئك الذين كانوا قد سألوا في المدينة المقدسة عن المولود ملك اليهود، وأن هيرودس جمع رؤساء الكهنة والكتبة واستفسر منهم عن مكان ميلاد المسيح المنتظر وأنهم ذكروا له نبوة النبي ميخا القائل: «أما أنت يا بيت لحم أفراثة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج مدبر يرعى شعبي… ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2) فذكر هيرودس ذلك للمجوس الذين جاءوا إلى بيت لحم وسجدوا للمولود الإلهي وقدموا هداياهم ذهباً ولباناً ومرّاً معترفين به إلهاً وملكاً وكاهناً يقدم نفسه فديةً، أما رؤساء اليهود وكتبتهم وفريسيّوهم فلم يكلفوا أنفسهم عناء التفتيش عنه وهم ومن خلفهم حتى اليوم ينتظرون وَهماً مجيء مخلص بعد أن فقدوا المخلص الحقيقي.

من العذراء أيضاً علمنا أن هيرودس اضطهد الصبي يسوع وإنها ويوسف هربا بالطفل إلى مصر ثم عادا به وسكنوا في الناصرة فلنقتدِ بها في التأمل بالحوادث المقدسة وفي المواظبة على الصلاة والتفكر بعجائب الله لنكون قريبين منه تعالى، كما كانت أمنا العذراء.

المسيح المنتظر جاء وولد من عذراء، ونما في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس. واعتمد من يوحنا المعمدان، والمعمدان شهد له أنه حمل الله الرافع خطايا العالم. ورأى السماء مفتوحة والروح بشبه حمامة يهبط على هامته، وجاء صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت3: 17).

وأرسل يوحنا إلى المسيح اثنين من تلاميذه ليسألاه: أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر. فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. «العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهّرون والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ»(مت11: 2ــ6). ووجّه يوحنا تلاميذه فآمنوا بالمسيح وكان أحدهم يقول للآخر وجدنا مشيحا ــ المسيح ـ وانضم بعضهم إلى زمرة الرسل والتلاميذ.

كان عدد كبير من اليهود قبيل ميلاد السيد المسيح ينتظرون بفارغ الصبر مجيء المسيح «مشتهى كل الأمم»(حج2: 7) ورجاء الشعوب كافة، ولكن أفكارهم بخصوص المسيح لم تكن روحية، فقد أرادوه مسيحاً يخلصهم من سلطة الرومان، لا من سلطان الشيطان، مسيحاً مادياً لا روحياً. لذلك خاب ظنهم وطاش سهمهم وما يزالون يفتشون عن مسيح ابتدعته أفكارهم الدنيوية، وكبرياؤهم وأنانيتهم.. لهؤلاء قال الرب: «فتّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي تشهد لي» (يو5: 39). أمّا هم فلم يفهموا الكتب فهلكوا، ولو أمعنوا النظر في نبوات أنبيائهم لاكتشفوا أن زمان مجيء المخلص كان قد بلغ، ولكنهم قد حافظوا على أسفار الأنبياء بإكرام، دون أن يدرسوها جيداً بروح التقوى ومخافة الله فلم يعرفوا زمان افتقادهم. أما الأتقياء منهم فآمنوا بالمسيح يسوع ونالوا الخلاص وهم الآن ينتظرون مجيئه الثاني على السحاب ليُسمِع الذين في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة(يو5: 28و29).

أجل لقد ضل الضالون والمضلون ممن لم يؤمنوا بالمسيح الحقيقي، ويسمون أنفسهم المسيحيين الصهاينة الذين يمزجون السم بالدسم، ويسيئون إلى المسيحية بتفسير نبوات العهد القديم، وكأن المسيح لم يأتِ بعد وهم ينتظرونه ليأتي ويملك على الأرض.

هؤلاء الأشقياء جهلوا أو تجاهلوا أن النبوات التي دوّنها الأنبياء في أسفار الكتاب المقدس عن مجيء السيد المسيح لخلاص البشرية، هي حلقاتٌ مسلسلة متينة لا تنفصم وإنها تمت بحذافيرها بالمسيح يسوع المولود من العذراء مريم في الزمن الذي عيّنه جبرائيل رئيس الملائكة للنبي دانيال، وفي المكان الذي ذكره ميخا النبي، وإنه نسل المرأة، ونسل إبراهيم، وابن داود بالجسد، وقد أتم الفداء وصعد إلى السماء وسيأتي لدينونة العالمين.

وفي احتفالنا بعيد ميلاده المقدس بالجسد، يهمنا أن تكون علاقتنا به علاقة مصالحة، بل محبة، فنشعر بوجوده بيننا لأنه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ونؤمن بأنه فادينا فهو يسوع الذي تفسيره المخلص.

ونقبله مسيحاً مشتهى جميع الأمم، الذي انتظرته الشعوب فجاء مولوداً من عذراء، فلنقدم التهاني للذين انتظروا مجيئه وآمنوا به ونالوا الخلاص. ولنعيدعيد ميلاده ببهجة وسرور آمين.

 


تجسد الإله الكلمة في ملء الزمان (8)

 

قال الرسول بولس: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس. ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»

    (غل4: 4و5)

 

الزمان الذي هو مدة الدنيا كلها، هو في آية موضوعنا الأزل والأبد، هو البداية والنهاية. ويريد الرسول بولس أن يوضح بعبارة ملء الزمان، أن عقيدة تجسد الإله الكلمة، هي في المفهوم المسيحي، مركز الدائرة لكل الحوادث الدينية الخطيرة، التي جرت وستجري في العالم على مر الدهور والأجيال.

ففي البدء خلق الله السموات والأرض(تك1: 1) وخلق الإنسان من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيةً، (تك2: 7). وخلقه على صورته كشبهه(تك1: 26) في حال برٍّ وقداسة. ووهبه عقلاً راجحاً، وضميراً نيِّراً ليميز الخير من الشر وليتبع الخير ويتجنب الشر كما منحه إرادةً حرةً تقررمصيره الأبدي.

وقد أحب الله هذا المخلوق الناطق، أكثر من كل مخلوقاته. وبقيت محبته له ثابتةً لم تتزعزع، ولم تنقص، حتى بعد أن تمرغ الإنسان في الخطية وتمرد على الأوامر الإلهية، وعاقبه الله إذ حكم عليه بالموت. فكانت محبة الله للإنسان أقوى من الموت. وبهذا الصدد يقول الرب يسوع: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو3: 16).

وشاء الله أن ينتشل الإنسان من وهدة الخطية، ويخلصه من بين براثن إبليس عدوه اللدود، وينقذه من فم الموت الأبدي، بطريقة عجيبة غريبة، لا تدركها عقولنا البشرية، تماماً كعدم إدراك هذه العقول سائر الحقائق الإلهية التي أوحتها لنا السماء، وأمرتنا أن نسلم بها، ونؤمن ونعتقد بصحتها، لأنها جاءتنا من الله تعالى الذي أوحاها إلى أنبيائه الصادقين الصالحين.

وهذه الطريقة العجيبة هي التدبير الإلهي السامي في إرسال اللّه ابنه الوحيد إلى العالم في ملئ الزمان مولوداً من إمرأة مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني(غل4: 4و5) على حد تعبير الرسول بولس، الذي يقول أيضاً بهذا الصدد: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد»(1تي3: 16) ويصف الرسول يوحنا ذلك بإنجيله المقدس قائلاً: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل فينا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو1: 1 و14).

شكراً لله على نعمته التي أسبغها علينا فقد كشف النقاب عن سر التجسد العجيب، لأنبياء العهد القديم، فدونت في الكتاب المقدس النبوات الصريحة والإشارات والرموز الواضحة، قبل موعد التجسد الإلهي بمئات السنين. معلنةً أن ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، والذي لا يحده مكان أو زمان، «ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(ميخا5: 2) سيتجسد من عذراء، في الزمان الذي حددته العناية الربانية، والمشيئة الإلهية، والمكان الذي اختارته السماء، الأمر الذي أعلنه رئيس الملائكة جبرائيل، قبل موعد حدوثه بخمسمائة سنة قائلاً للنبي دانيال: «سبعون أسبوعاً قُضيت على شعبك، وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة، ولمسح قدوس القديسين»(دا 9: 24).

وبعد خمسمائة سنة تقريباً، انحدر الملاك جبرائيل من السماء، مرسلاً من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجلٍ من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. «فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمةً عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 26ــ33).

ففي ملء الزمان، الوقت الذي عينه الله تعالى منذ الأزل، موعداً لتجسد ابنه الوحيد لفداء البشرية، في ذلك الوقت تمت نبوة دانيال بحذافيرها، فقد كانت المعصية قد كملت والإثم قد تم. وغدت حاجة العالم ماسةً إلى ظهور المخلص، المسيح الموعود به منذ البدء، والذي انتظرته الشعوب كافةً، لينقذها من شقائها، ويهب لها راحة الضمير، والطمأنينة الروحية، فقد عجزت عن ذلك الديانات اليهودية والوثنية بكل فرقها كما لم تتمكن النظريات الفلسفية والاجتماعية توفير السعادة الروحية للإنسان، «إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله»(رو3: 23) بل أعوزهم رب المجد.

وهيّأ الله أن تعلن النبوات لشعوب العالم كافةً، فترجمت أسفار الكتاب المقدس، إلى اللغة اليونانية، لغة الثقافة في أغلب أقطار العالم المعروف عصرئذ، وذلك بأمر بطليموس في الإسكندرية قبل الميلاد بنحو قرنين من الزمان. فاطلع العالم الوثني على تلك النبوات، وشارك شعب النظام القديم بانتظار المسيح المخلص.

أجل، إن الله وراء حوادث التاريخ، وشاء تعالى أن يحكم الرومان الأرض المقدسة في تلك الأيام، وأن يصدر أمرٌ من أوغسطوس قيصر لتُكتَتَب كل المسكونة، ويعني بالمسكونة الأقطار التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية، وكانت غاية أوغسطوس قيصر من ذلك الاكتتاب الافتخار بامتداد أرجاء مستعمراته، وتسهيل أمر جباية الضرائب من الخاضعين لمملكته. أما قصد الله تعالى من وراء هذا الاكتتاب، فكان إعلان تجسد ابنه الوحيد للأجيال اللاحقة، لتثبيت حقيقة التجسد الإلهي، ومجيء المسيح المنتظر. لذلك شاء الله تعالى أن يجري الاكتتاب بأمر السلطة الرومانية بموجب التقليد اليهودي وهو أن يقصد كل إنسان بلدة آبائه، ليسجل اسمه في سجلات المملكة في تلك البلدة، وبذلك تثبت صحة نسبه إلى عشيرته وسلالة آبائه ليكون اليهود بلا عذرِ في إنكارهم المسيح، فقد جاء المسيح الموعود به من نسل داود، واعتبر كذلك إذ كانت العذراء مريم وخطيبها يوسف من نسل داود وكانا يسكنان مدينة الناصرة، ولكي يسجلا اسميهما في سجلات المملكة طبقاً لأوامر أوغسطوس قيصر جاءا إلى بيت لحم، مدينة داود وكانت العذراء مريم حبلى، وبينما كانا هناك تمت أيامها لتلد (لو2: 1ــ5) ولم يكن لهما منزل في الموضع، ولا موضع في المنزل، فالتجأا إلى مغارةٍ بسيطة… وولدت العذراء ابنها البكر، يسوع «المخلص».. وسجل اسمه في سجلات المملكة. واختتن في اليوم الثامن بحسب ناموس موسى. فقد ولد من امرأة، وُلد تحت الناموس وأتم الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني.

وتمت بذلك نبوة إشعيا القائل: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً، ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش6: 14) «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23) كما تمت نبوة ميخا القائل: «أما أنت يا بيت لحم أفراثة وأنت صغيرةٌ أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا5: 2).

أجل تجسد الإله الكلمة من الروح القدس ومن مريم العذراء، وولد في ملء الزمان في بيت لحم أفراثة طبقاً للنبوات، وسُجِّل اسمه في سجلات المملكة كسائر المواطنين هناك. وهكذا دخل التاريخ البشري، في ملء الزمان، بل صار زمان ميلاده تاريخ التواريخ فقسم تاريخ العالم إلى قسمين: ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد. أما هو فكما يصفه الكتاب المقدس بقوله «يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد»(عب13: 8). لا يتغير ولا يتبدل. وابتدأ بميلاده عهد النعمة والرحمة والحنان، عهد الحق والمساواة والمغفرة، والقداسة. وفدانا المخلص ووهبنا فيه نعم التبرير والتقديس والتبني.

ولد المسيح على الأرض، لنولد نحن للسماء.

ولد من الروح القدس ومريم العذراء، لنولد نحن من الروح القدس والنار.

صار ابن البشر لنصير نحن أولاد الله بالنعمة، كقول الرسول يوحنا الإنجيلي: «أما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله» (يو1: 12و13) ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب. إذاً لست بعد عبداً بل ابناً. وإن كنت ابناً فوارثٌ لله بالمسيح» (غل4: 6و7).

فكما سجل اسمه في سجلات المملكة على الأرض، في ملء الزمان، كذلك سُجِّلت أسماؤنا في سجلات ملكوته في السماء الذي سنرثه في نهاية الزمان. وقد بشرنا الرب بذلك بقوله لتلاميذه: «افرحوا بالحري، إن أسماءكم كتبت في السموات»(لو10: 20). فعلينا إذن أن نعيش على الأرض كأبناء السماء، كما يوصينا الرسول بولس قائلاً: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح الذي سيغيِّر شكل جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته، أن يخضع لنفسه كل شيء» (في3: 20و21).

ففي ملء الزمان جاء الإله الكلمة إلى أرضنا متجسداً، فأخذ صورتنا بل كل ما لنا ما عدا الخطية، وفدانا، ووهب لنا صورته التي فقدناها بالخطية، إذ برّرنا وقدّسنا، وجعلنا أولاداً لله وورثةً لملكوته السماوي.

وفي نهاية الدهر سيأتي ثانية، ليأخذنا إليه. فرسالة عيد الميلاد اليوم هي أن نُولد من فوق، ونحيا للسماء، وننتظر مخلصنا عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، لنكون نحن أيضاً معه، في سماء مجده. وبذلك نكون قد أتممنا الغاية من تجسده الإلهي، وهي العودة إلى السماء، وإعادة الشركة مع أبيه السماوي، حيث نضيء مع الأبرار كالشمس(مت13: 43) ونشارك الملائكة بتمجيده قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة» وكل عام وأنتم بخير.


ميلاد المخلص (9)

 

«فقال لهم لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب»

(لو2: 10ـ11)

 

قبل عشرين قرناً، احتفلت السماء والأرض بميلاد المسيح يسوع مخلص العالم، الذي حررنا من عبودية إبليس وأعتقنا من نير الخطية، ونصرنا على الموت، وبررنا، وقدّسنا، فصرنا أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة، وورثة لملكوت الله.

وقبل الميلاد بعشرين قرناً، كان الله قد قطع عهداً لإبراهيم أبي الآباء قائلاً له: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض»(تك20: 18) ونسل إبراهيم هو المسيح المخلص. وهذا الوعد الإلهي هو امتداد لوعد الله للإنسان منذ ابتداء الخليقة، أن يسحق نسل المرأة رأس الحية أي إبليس عدو البشرية. وإن نسل المرأة هو المسيح المخلص الذي من عذراء لم يمسسها بشر فهو ليس من زرع رجل كما أوضح ذلك الوحي الإلهي على لسان النبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14)، «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23). وقبل الميلاد بخمسة قرون، حدد الوحي الإلهي للنبي دانيال موعد إتمام الوعد بمجيء المسيح الذي دعاه قدّوس القديسين وذلك بالنبوة المعروفة بالأسابيع السبعين(دا9: 24) أجل إن هذه النبوات الصادقة، وأمثالها مما لا يُحصى لها عدد، إنما أوحاها الله إلى الآباء والأنبياء، لتتضح في ذهن الإنسان، الصورة الحقيقية للمخلص والشروط التي يجب أن تتوفر فيه، ليوفق بين عدل الله ورحمته، في التكفير عن خطية الإنسان غير المتناهية، التي اقترفها ضد الله اللامتناهي. لذلك شاء الله تعالى أن يرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم فيتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، على حد قول الرسول بولس: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4ــ5).

طوبى لتلك المرأة العذراء مريم التي اختارها الله لتكون أماً لابنه الوحيد مخلص العالم لنقاء سيرتها، وصفاء سريرتها، وتواضعها، ووداعتها، وهي سليلة الملوك والكهنة والأنبياء. طوباها فقد تنبأت عن نفسها أن الأجيال تعطيها الطوبى، لأن القدير صنع بها عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. طوباها فقد ولدت في مثل هذا اليوم الإله المتجسد وحق لها أن تدعى والدة الإله، وأم الله.

أجل، شاء الله منذ البدء، أن يولد المخلص في بيت لحم أفراثا. لذلك سخّر تعالى أوغسطس قيصر ليصدر أمراً لإحصاء الشعوب الخاضعة لسلطة الدولة الرومانية، وأن يجري اكتتاب شعب العهد القديم حسب تقليد ذلك الشعب، وهو أن يذهب كل شخص منهم ذكراً  كان أو أنثى إلى مدينة آبائه ويسجل اسمه هناك في سجلات المملكة وبهذا الصدد يقول البشير لوقا في الإنجيل المقدس: «وصعد يوسف أيضاً من مدينة الناصرة إلى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته، مع مريم امرأته وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر، وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»(لو2: 6و7).

وسُجِّل اسم يسوع، الذي يعني المخلص، في سجلات المملكة في بيت لحم أفراثا، ليبقى للأجيال القادمة دليلاً ناصعاً، وبرهاناً قاطعاً، على أنه مسيح الأنبياء الذي انتظرته الأجيال السابقة وقد جاء من نسل داود، وولد في ملء الزمان في بيت لحم أفراثا قبل الميلاد وتمت بذلك أيضاً نبوة ميخا الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد وتنبّأ قائلاً: «أما أنت يا بيت لحم أفراثا وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(ميخا5: 2).

يسجل لنا لوقا في الإنجيل المقدس حوادث الميلاد في تلك الليلة المباركة بتسلسل منطقي وينقلنا من المغارة إلى ضواحي بيت لحم، ليرينا مشهداً مهماً لرعاة بسطاء كانوا ساهرين على حراسة أغنامهم حراسات الليل، ويذكر لوقا أن: «مجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً فقال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو2: 8 ـ14).

ما أسعد هؤلاء الرعاة الذين قيل أنهم كانوا يرعون الخراف التي تقدم ذبائح ومحرقات في الهيكل، وقد أنعم الله عليهم في تلك الليلة فاستحقوا أن يكونوا أول الذين بُشِّروا بولادة «حمل الله الذي يرفع خطايا العالم»(يو1: 29) الذي قُدِّم بعدئذ ذبيحة كفارية عن العالم أجمع، وأبطل الذبائح الحيوانية. ما أسعد أولئك الرعاة البسطاء الذين استحقوا أيضاً أن يسمعوا أبدع قصيدة نظمتها السماء، وانشدها جند السماء، بمناسبة ميلاد الفادي فعبّروا بذلك عن معاني هذا الحدث الفريد العجيب، والذي لم يسبقه مثيل، ولن يكون له شبيه، إلى الأبد، قائلين: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة»(لو2: 14).

ما أسعد الرعاة الذين أطاعوا تعليمات الملاك وقصدوا المغارة حيث ولد المخلص وشاهدوا الطفل المولود، المضجع في مذود، وتباركوا منه، ورجعوا يحدثون الناس بكل ما رأوا وسمعوا.

أجل، لقد خلق الإنسان ليمجد الله، وكان بسلام معه تعالى يوم كان في حالة البر والقداسة ولكن ذلك السلام انقلب إلى خصام، عندما حاد الإنسان عن جادة الحق، وتبع غواية إبليس فابتعد عن الله، واستُعبد لإبليس، فزالت عنه المسرة وهيمنت عليه الكآبة.

وفي ميلاد «المخلص، المسيح الرب» وفي إتمامه بعدئذ عمل الفداء، بسفك دمه الثمين زال عهد الخصام، ونقض الجدار، جدار العداوة الفاصل بين الله والإنسان، وأقيم الصلح واستتب السلام، فعاد الأتقياء إلى تمجيد الله بالفكر والقول والعمل… وامتلأت قلوبهم فرحاً روحياً لا ينزعه أحد منهم مهما كانت ظروف الحياة قاسية عليهم.

واليوم ونحن نحتفل بهذه الذكرى السعيدة، ذكرى ميلاد المخلص الإلهي، علينا أن نقتدي بالرعاة البسطاء، ونذهب بالروح إلى مغارة بيت لحم أفراثا، لنشاهد المولود القدوس، المخلص الذي هو المسيح الرب، والذي إنما ولد في مغارة بسيطة لأنه لم يكن لأمه مريم العذراء وخطيبها مكان في المنزل، فلنهيّئ له قلوبنا منازل يولد فيها ويملك عليها.

لقد جاء ليتغمد خطايانا «ودعي اسمه يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم»(مت1: 21) جاء ليخلص ما قد هلك (مت18: 11) وقال بعدئذ: «لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاةً إلى التوبة»(مت: 13) وإذ وجد أن الديانة اليهودية وقد حوَّلها أتباعها إلى طقوس بالية، وعبادة ظاهرية خالية من العزاء ولم يكن قد بقي لها سوى صورة التقوى دون قوتها، وقد تمسك مُشرِّعوها بالحرف تاركين الروح، والحرف يقتل، وقد أثقلوا على المؤمنين الأحمال الشاقة يرزحون تحت وطأتها فييأسون من رحمة الله، ويهلكون فوبّخهم المخلص بقوله: «ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم تُحمِّلون الناس أحمالاً عسيرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم»(لو11: 46). لذلك فهو ينادينا وينادي كل من استيقظ ضميره، واعترف بأنه خاطئ قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديعٌ ومتواضع القلب فتجدوا راحةً لأنفسكم لأن نيري هيّن وحملي خفيف» (مت11: 28).

فلنلبِّ نداءه، أيها المؤمنون، ولنعد إلى بيت الآب السماوي تائبين، كعودة الابن الضال إلى بيت أبيه، فالآب بانتظارنا وسيفرح لعودتنا وسيلبسنا الحلة الجديدة والخاتم الثمين، ويذبح لنا الكبش المسمّن محتفياً بعودتنا إليه، لأننا كنّا أمواتاً فعشنا، وكنا ضالين فوجدنا، وستفرح أيضاً بعودتنا إليه ملائكة السماء الذين قال الرب عنهم إنهم يفرحون بخاطئٍ واحد يتوب، وبهذا تتم الغاية القصوى من التجسد الإلهي، وميلاد المخلص، في مثل هذا اليوم المبارك. أعاد الله عليكم أعياده باليمن والبركة آمين.

 

 


ميلاد المحبة (10)

 

«لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم»

 (يو3: 16و17)

 

آيات كريمة هي خلاصة الإنجيل المقدس، وزبدة عقائد الديانة المسيحية السمحة، في التأمل بها ندرك أن محبة الله تعالى للبشر لا حدود لها، فهي تشمل شعوب العالم قاطبة، كما تشمل كل فرد من البشر. والله تعالى هو القداسة والبر. ويبغض الخطية والإثم، ولكنه يحب الخاطئ، ويريده أن يترك طريقه الملتوية ويعود إليه تعالى تائباً فيحيا.

أجل لقد بلغت محبة الله للإنسان درجة سامقة بحيث أنه أرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليخلص العالم. ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل4: 4).

فمنذ عشرين قرناً، ولد المخلص المسيح يسوع، مشتهى الأمم والأجيال، في مغارة بسيطة يأوي إليها الرعاة في بيت لحم أفراثا. فلفته بأقمطة، أمه العذراء مريم، الفتاة الفقيرة اليتيمة والوديعة المتواضعة، وأضجعته في مذود، وجلست تتأمله وقد استولت عليها الدهشة وأخذ منها العجب كل مأخذ، فهي لا تفقه أمر هذا الطفل العجيب، ولئن حملته بأحشائها تسعة أشهر، وها هي اليوم تضمه إلى صدرها بحنان الوالدة الرؤوم، وترضعه لبنها الطاهر النقي. ولكن الذكرى السعيدة تعود بها إلى اليوم الذي بشّرها فيه الملاك جبرائيل في بلدة الناصرة قبل تسعة أشهر، وصدى صوته ما يزال يرن في أذنيها وهو يقول لها: «لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية»(لو1: 30ــ33).

أما يوسف رجلها، فهو الآخر يتذكر يوم ساورته الشكوك في طهرها وإخلاصها إذ وجدها حبلى، وهمّ بتخليتها سراً، ولكن ملاك الرب ظهر له في حلم قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبِل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت1: 20و21).

ولم تمضِ ساعات على وضع مريم طفلها القدوس حتى دخل المغارة رعاة يسألون عن «المخلص الذي هو المسيح الرب»(لو2: 11) ولما رأوا الطفل أخبروا العذراء ومن كان معها عن الملاك الذي وقف بهم وهم يحرسون أغنامهم حراسات الليل، وكيف أن مجد الرب أضاء حولهم، وأنهم خافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو2: 8 ــ14).

لا غرو ولا غرابة من أن ترافق ميلاد هذا الطفل العجيب آيات من السماء، فهو ابن السماء المولود من الآب قبل كل الدهور، وهو كلمة الله الذي قال عنه الإنجيلي يوحنا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءاً نعمةً وحقاً»(يو1: 1 و14) فإذا كان الوحي الإلهي قد نزل على الإنسان في العهد القديم بطرق متنوعة، برؤى وأحلام، أو فماً لفم، فقد خاطبنا الله، في ملء الزمان، بكلمته الذي تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء «آخذاً صورة عبدٍ صائراً في شبه الناس»(في2: 6و7). على حد قول الرسول بولس. ويوم ميلاده بالجسد هبطت الملائكة من السماء إلى الأرض وابتهجت الأرض إذ تحققت مواعيد السماء، والعهود التي قطعها الله في القديم مع البشر. كما تمت النبوات الصادقة التي فاه بها أنبياء العهد القديم قبل الميلاد بقرون عديدة: فها قد جاء المخلص مولود المرأة ليسحق رأس الحية الدهرية إبليس عدو البشرية. وولد من عذراء طاهرة دون زرع رجلٍ إتماماً لنبوة إشعيا النبي، وولد في بيت لحم أفراثا كما تنبّأ النبي ميخا، وولد في الموعد الذي حدده الملاك جبرائيل للنبي دانيال قبل الميلاد بخمسة قرون. وليس هذا فقط بل أيضاً جاء نوراً للعالم لينير دياجير الظلام. فهو شمس البر والشفاء في أجنحتها، كما دعاه النبي ملاخي(4: 2).

وشاءت إرادة الله أن يسجل اسم مولود بيت لحم القدوس في سجلات المملكة الرومانية لتتأكد الشعوب الوثنية أيضاً من أن مخلص العالم قد جاء. كما أن نجماً قد ظهر في المشرق وقاد حكماء فارس آتياً بهم إلى بيت لحم ليسجدوا للطفل المولود الذي سموه ملك اليهود، وقدموا له هداياهم ذهباً ولباناً ومرّاً، معترفين به ملكاً وإلهاً ومتنبئين عن موته الكفاري لخلاص البشرية. ولهذا قال الملاك ليوسف عن العذراء مريم إنها «ستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (مت1: 21) فالغاية الفضلى من تجسد الرب هي إذن خلاص البشرية. وهذا ما نفهمه من حديث الرب يسوع مع نيقوديموس إذ قال له: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم» (يو3: 16و17).

فما أسمى المحبة الإلهية للإنسان، المحبة التي تأملها الرسول يوحنا فتجرّأ على التفوه بالآية المشهورة القائلة: «الله محبة»(1يو4: 8).

لقد تبينت محبة الله للإنسان منذ بدء الخليقة، إذ خلق الله الإنسان على صورته كشبهه(تك1: 27) ومنحه عقلاً ثاقباً وضميراً نيّراً وبهذا تمكن الإنسان من أن يميز الخير من الشر والحق من الباطل كما منحه تعالى أيضاً قوة الإبداع والخلق والصفات الأدبية السامية، وحرية الإرادة. وإن العامل المشترك بين الله الخالق والإنسان المخلوق، هو الروح الخالدة التي نفخها تعالى نسمة حياة في أنف الإنسان يوم خلقه من تراب الأرض فصار آدم نفساً حيةً كما يقول الكتاب(تك2: 7) ولكن الإنسان لا يقوم بذاته وإنما يقوم بالله الذي خلقه، ويدبره، ويعتني به ويرعاه. وإن صلة المحبة هي التي تربط الإنسان بالله. وإن وشائج المحبة الإلهية هذه قد تجلت في تجسد الإله الكلمة، الأمر الذي يلخصه الرسول يوحنا بقوله: «بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به، في هذا هي المحبة ليس إننا نحن أحببنا الله بل إنه هو أحبنا أولاً»(1يو4: 9و10) ولكنه يريدنا أيضاً أن نبادله هذه المحبة الخالصة. ولذلك جاءت وصيته الإلهية في أسفار العهدين قائلة: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك. وتحب قريبك كنفسك»(مت22: 37و39).

لقد تجسدت محبة الله في المسيح يسوع مخلص العالم المعصوم من الخطأ، والذي لم يكن في فمه غش، وقد تحدى أعداءه، كما أعلن لأصدقائه وأتباعه قائلاً: من منكم يبكتني على خطية، فحق له أن يصير الوسيط بين الله والناس وقد بررنا وطهرنا وقدسنا بل أعاد إلينا أيضاً رتبة البنين حيث قد صالحنا مع أبيه السماوي فصرنا أبناء الله بالنعمة وشركاء المسيح في ميراثه الأبدي. وبهذا الصدد يقول الإنجيلي يوحنا: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاداً لله أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو 1: 12 و 13). فلنسلك في هذا العالم كأبناء الله بالسيرة النقية والسريرة الطاهرة لنستحق أن نرث السماء مع ابن السماء المسيح يسوع ربنا.

ورسالة عيد الميلاد المجيد هي رسالة المحبة، المحبة التي أعلنها السيد المسيح في ميلاده وخلال سائر تدابيره الإلهية في الجسد، بأقواله وأمثاله ومثاله، فعلمنا محبة الله والقريب وحتى محبة الأعداء.

أجل تعد المحبة الينبوع الثر لفضيلة الرحمة التي فضلها الله حتى على الذبائح بقوله تعالى: «أريد رحمة لا ذبيحة»(هو 6: 6 ومت 9: 13 و 12: 7) وأفعال الرحمة هي القانون الذي بموجبه يحاكم الله البشر في يوم الدينونة الرهيب.

واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح عيد المحبة والرحمة، لتنعكس رحمة الله على أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، وعلينا ألا ننسى أن المسيح يسوع مخلص العالم قد اختار له أماً فقيرة يتيمة وولد كفقير معوز وهو مغني كثيرين كقول الرسول بولس: «فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره»(2كو 8: 9) وقد أحب الفقراء والمحتاجين والمعوزين ودعاهم إخوته الصغار، وبحسب تعاليمه الإلهية أن ما نصنعه مع الفقراء من أعمال الرحمة مادياً ومعنوياً وروحياً يعتبر كأنما صنعناه مع المسيح المخلص بالذات، فلتتجلَّ فضيلة الرحمة بما نقدمه من الصدقات لهؤلاء الفقراء وبهذا نشارك الرعاة والمجوس بتقديم الهدايا بسخاء وكرم وفرح وابتهاج لمولود بيت لحم القدوس، كل على قدر ما أعطاه الرب من خيرات، لننال بركة الرب ونعمته دائماً أبداً.

وكل عام وأنتم بخير

 


مجدٌ وسلامٌ ومسرّة (11)

 

«المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة »(لو 2: 14)

 

قبل عشرين قرناً، في الليلة التي ولد فيها المسيح يسوع مخلّص العلم، ابتهجت السماء وتهللت، ابتهاج الصادق الوفي، وهو يبرّ بوعده، وتهلل الكريم السخي، وهو يبذل العطاء للفقراء. ووقف ملاك الرب برعاة بسطاء كانوا في ضواحي بيت لحم يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، فأضاء مجد الرب حولهم وخافوا خوفاً عظيماً، فهدّأ الملاك روعهم بقوله لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلصٌ هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود وظهر بغتة مع الملاك جمهورٌ من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة» (لو 2: 10 ـ 14).

ما أسعد أولئك الرعاة الطيبين الذين نالوا حظوة عند الرب فقد اختارهم تعالى دون سائر الناس ليكونوا أول من يبشرون بميلاد الفادي، ويسمعون القصيدة اليتيمة الفريدة التي نظمتها السماء ولحنتها، وأنشدتها الملائكة معلنة بذلك بهجتها بميلاد السيد المسيح الذي هو ميلاد السلام، وبدء العمل بميثاق المصالحة بين السماء والأرض، وفتح باب الملكوت أمام المحررين من الخطية، والمبرّرين والمقدّسين بالمولود الإله. لذلك امتلأت القلوب فرحاً «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً بل هو سلامٌ وفرحٌ في الروح القدس»(رو 14: 11) على حد قول الرسول بولس.

«ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرةً به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم»(لو 2: 13 ـ 20).

«رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه» فقد استحقوا أن يروا الطفل المقمّط المضجع في مذود وأن يكونوا أول من يبشر به، فحدثوا مريم وخطيبها عن ظهور الملائكة، وواصلوا تسبيح الله بتكرار تسبيحة الملائكة له، «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة». فالملائكة سبحت الله ومجدته يوم خلق الأكوان من العدم، ويوم خلق الإنسان على صورته كمثاله، وتمجده دائماً على قدرته ورحمته ومحبته وعنايته بمخلوقاته، ولكنها مجدته خاصة يوم ميلاده بالجسد، لأن تجسد كلمة الله يعد أكثر عجباً من خلقة الأكوان من العدم هذا السر العجيب الذي لخصه الرسول بولس بقوله: وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16) حيث أن عقولنا لا تقوى على إدراك سر التجسد، لذلك أرسل الله تعالى الأنبياء قبل الميلاد بمئات السنين ليبلغوا رسالته الإلهية للبشر ويهيئوا عقولهم لتتقبل حقيقة عقيدة التجسد. فتنبأوا عن مجيء الفادي، وتمت فيه نبواتهم بحذافيرها. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «الله بعدما كلّم الآباء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين»(عب 1: 1 و 2).

فقد جاء في سفر التكوين عن وعد الله للبشر من أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، والنبي اشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد يصف هذه المرأة بأنها عذراء قائلاً: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(اش 7: 14) وعندما يستشهد الإنجيلي متى بهذه النبوة يشرح كلمة عمانوئيل بقوله: «الذي تفسيره الله معنا» (مت 1: 23). ويقول الرسول بولس «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني»(غل 4: 4) وملء الزمان، هو الزمان الذي عينه الله منذ البدء لإتمام سري التجسد والفداء الأمر الذي أعلنه الملاك جبرائيل للنبي دانيال قبل الميلاد بخمسمائة عام بنبوة الأسابيع السبعين.

أما موضع ميلاد الفادي فقد تنبأ عنه النبي ميخا في القرن الثامن ق.م بقوله: «أما أنت يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرةٌ أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج الذي يكون متسلطاً على اسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل»(مي 5: 2). والنبي ميخا بنبوته هذه يعلن بأن مولود بيت لحم هو أزلي، وهذا ما أوضحه الإنجيلي يوحنا بقوله: «في  البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان… والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمةً وحقاًَ»(يو 1: 1 ـ 3 و 14).

ويكشف النبي اشعياء النقاب عن سر رسالة السيد المسيح مولود بيت لحم فيقول: «لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام»(اش 9: 2 و 6) فرسالة السيد المسيح هي رسالة السلام، فقد أرسى دعائم السلام الحقيقي بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، فهتفت الملائكة يوم ميلاده قائلة: «المجد لله في الأعلى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة» وفي عظته على الجبل قال السيد المسيح: «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»(مت 5: 10) ولما ودّع تلاميذه قبل آلامه قال لهم: «سلام أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب» (يو 14: 27). ولما ظهر لتلاميذه عشية يوم قيامته من بين الأموات، وهم مجتمعون في العلية والأبواب مغلقة خوفاً من اليهود، بادرهم بالسلام قائلاً: «سلام لكم»(يو 20: 19) ويوضح لنا الرسول بولس فحوى هذا السلام الذي هو ثمرة الإيمان بالمسيح قائلاً: فإذ قد تبرّرنا بالإيمان لنا سلامٌ مع الله بربنا يسوع المسيح»(رو 5: 1).

هذا هو السلام الداخلي، سلام الضمير، وهو انسجام إرادة الإنسان مع إرادة الله، والتحرّر من الآثام والعمل بشريعة الله. فهو هبة الله للمؤمنين الأتقياء الأنقياء، وينجلي هذا السلام في حياتهم في السرّاء والضرّاء، لأنهم يؤمنون أن مولود بيت لحم معهم يرافقهم في طريق الحياة، فقد دعي «عمانوئيل» الذي تفسيره الله معنا كما دعي «يسوع» لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.

ليهبنا الرب نعمة السلام والمسرّة التي هي ثمرة السلام الروحي الداخلي، ليضع الرب في أفواهنا كلمات التسبيح كي ننشد له أناشيد الشكران مع الملائكة القديسين قائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة».

 

 


هل في منزلك موضع ليسوع؟ (12)

 

«فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل»

       (لو 2: 7)

 

إنها العذراء مريم، الممتلئة نعمة، اختارها الله تعالى على نساء العالمين، فحل عليهاّ الروح القدس، وطهّرها وقدّسها، فاستحقت أن يحل فيها كلمة الله ويأخذ منها جسداً كاملاً. وقد وصف الرسول يوحنا ذلك بقوله: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحّل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من عند الآب مملوءاً نعمة وحقّاً» (يو 1: 1 و14).

ويعبر الرسول بولس عن هذا الأمر العجيب بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد»(1تي 3: 16).

عجب عجاب كيف تحملت العذراء مريم جسامة معجزات التجسد الإلهي التي جرت لها وفيها ومعها وأمامها؟! وهي الفتاة البسيطة التي لم تكن قد بلغت الرابعة عشر من عمرها؟! فهي عذراء قبل الولادة، وفي الولادة، وبعد الولادة؟ وهي أم وفي الوقت ذاته ترضع ابنها الإلهي لبنها النقي وتقمطه وتضجعه في مذود، وقد ولدته في زريبة خان بيت لحم إذ لم يكن لهم موضع في المنزل! ويوم بشرها الملاك جبرائيل بالحبل الإلهي قال لها: «لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع،… هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها. الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله»(لو 1: 30 ـ 35).

فأين عظمة يسوع يا جبرائيل الملاك؟ وأين مملكته؟ وأين عرشه؟! أجل إن مملكته ليست من هذا العالم لذلك فلئن تجاهل وجوده كهنة الأرض وسلاطينها فقد مجدته السماء، وبشر الملاك الرعاة البسطاء بميلاده، بقوله لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمطاً مضجعا في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو 2: 10 ـ 14).

ولما ذهب الرعاة مسرعين إلى حيث ولد الملك المسيح، وجدوه فإذا مملكته زريبة، وعرشه مذود، فسجدوا له، وعادوا يبشرون بميلاده فكانوا أول من بشر بالمسيح المخلص. أما رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون وغيرهم ممن كانوا مؤتمنين على حفظ النبوات، فلم يعرفوا زمن المولود ملك اليهود، ولما استفسر هيرودس الملك منهم عن مكان ميلاد المسيح، أخبره الكهنة ان النبي ميخا قد تنبأ بأن المسيح يولد في بيت لحم أفراثا، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنه، فتم فيهم ما تنبأ به عنهم النبي اشعيا قبل الميلاد بثمانية قرون قائلاً: «انهم شعب لا يعرف ولا يفهم، وفضّل عليهم الثور الذي يعرف قانيه والحمار الذي يعرف معلف صاحبه»(اش 1: 2 ـ 5).

فلا عجب من أن نرى العذراء مريم وخطيبها إذ لم يجدا لهما موضعاً في المنزل، يلتجئان إلى زريبة الثور والحمار، ليولد المسيح هناك وتقمطه أمه وتضجعه في مذود… بميلاده تحول ذلك المذود إلى مكان مقدس وصار قبلة أنظار المسيحيين كافة، فإليه يأتي ملوك الأرض وعظماؤها ويخلعون تيجانهم ويحنون هاماتهم بل ويسجدون للذي ولد فيه. أجل كان المذود المكان اللائق ليوضع فيه الطفل يسوع المخلص الذي إنما نزل من السماء ليعلمنا التواضع، وليكون تواضعه الدواء الناجع لشفاء الإنسان من داء الكبرياء، وأطاع حتى الموت موت الصليب، ليزيل عار تمرد الإنسان على أوامر ربه في الفردوس «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16).

فالمذود هو المكان اللائق لمن جاء ليخدم لا ليُخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين، فبدأ تدبيره الإلهي بالجسد مضطجعاً في مذود بسيط ليكون الطرف الثاني من حياته صليب العار يحمله على كتفه أمام جمهور حاقد ينادي اصلبه اصلبه، ثم يعلق عليه، وليضطجع بعد موته بالجسد في قبر جديد لا يملكه… وهل كان يملك شيئاً من متاع الدنيا؟ وهو الذي لما سأله الكاتب قائلا له: يا معلم أتبعك أينما تمضي، فأجابه يسوع للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه»(مت 18: 19 ـ 20).

أجل إن المؤمن المتأمل في مجريات حوادث ميلاد الفادي يمجد الله تعالى على تدبيره الإلهي وتوصيله الحقائق الإلهية إلى أذهان البشر، فقد تمت بحذافيرها النبوات التي أعلنها على لسان أنبيائه الصادقين.

أجل! إن حكمة الله في تدبيره الأكوان لا يدركها عقل الإنسان، فقد كانت العذراء مريم في الناصرة في بيت خطيبها يوسف، حيث كان الملاك جبرائيل قد بشرها بالحبل الإلهي، وقربت أيام حملها من الانتهاء، وأوشكت أن تلد ابنها البكر، ولو خيرت لمكثت في دار خطيبها يوسف في الناصرة. ولكن الله سبحانه وتعالى كان قد رسم منذ البدء أن يولد المخلص في بيت لحم أفراثا، وأعلن الوحي الإلهي ذلك على لسان النبي ميخا في القرن الثامن ق.م (ميخا 5: 2). وان ميلاده في بيت لحم بلدة داود، يثبت انه من نسل داود. ولكي يسجل يسوع المسيح المخلص في سجلات المملكة الرومانية كبرهان قاطع على انه قد جاء حقاً بالجسد من نسل داود، سخرت الإرادة الربانية اوغسطس قيصر ليصدر أمراً بأن يكتتب كل المسكونة ويعني بالمسكونة الشعوب التي كانت خاضعة للدولة الرومانية. ورسم الله تعالى أن يكون أمر اوغسطس قيصر بأن يكتتب اليهود حسب تقليدهم أي أن يذهب كل إنسان إلى مدينة أجداده ويكتتب هناك لئلا تتبلبل الأنساب والأنسال.

أجل سيبقى الإنسان المؤمن متعجّباً منذهلا وهو يقرأ قصة ميلاد الفادي لبساطة عباراتها وسهولة أسلوبها بحيث يفهمها الأطفال جملة وتفصيلا وفي الوقت ذاته لا يقوى الفلاسفة العظام على سبر غور معانيها وإدراك أسرارها الإلهية. وهذا ما عناه الرب يسوع بصلاته إلى أبيه بقوله عن تدبيره الإلهي في الجسد: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال»(مت 11:25).

لقد أخفى الله أسراره عن الحكماء في أعين نفوسهم ليخزي حكمة هذا العالم، فلم يكن له موضع في دورهم، ولم يولد من إحدى بنات الأغنياء والعظماء والفلاسفة والعلماء بل ولد من الفتاة الفقيرة اليتيمة العذراء مريم، ولكنها كانت سليلة الملوك والكهنة والأنبياء، ولم يوضع في سرير صنع من الذهب أو العاج، ولم يلف جسده الطاهر بالحرير الناعم، بل قمط بكتان ووضع في مذود في زريبة الخان في بيت لحم البلدة المتواضعة، لكي يجده كل من يطلبه. انه جاء لكل البشر وخاصة للكادحين والمتعبين والمظلومين، وكأني به وهو طفل صغير مضجع في المذود قد بسط ذراعيه وهو يدعو الناس إليه كما دعاهم بعدئذ قائلاً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيّن وحملي خفيف»(مت 11: 28 ـ 30).

هذه هي رسالته السماوية العملية، أن نتعلم منه الوداعة والتواضع لنزيح عن كواهلنا أثقال العجرفة والغرور والكبرياء، فنحصل على السلام مع الله ومع أنفسنا ومع الناس أجمعين. وأن نتعلم منه المحبة التي تتمثل بصليبه المقدس الذي يدعوه نيره الهيّن وحمله الخفيف، وقد أمرنا أن نحمله كل يوم، وأن نتبعه في طريق الجلجلة طريق الآلام، طريق التضحية ونكران الذات، فالمذود هو بدء الطريق إلى الصليب. والصليب هو المحبة، وله بعدان: الأول البعد العمودي الذي يتجه نحو السماء ليستمدّ المحبة من الله الذي أحبنا أولا لنحبه من كل قلبنا وكل فكرنا وكل إرادتنا. والبعد الثاني هو البعد الأفقي الذي يقاطع البعد العمودي، ويعكس محبتنا لله على كل البشر، فنعمل بوصية الله بمحبتهم والتضحية في سبيل تخفيف آلامهم، مقتدين بذلك بالسامري الصالح الذي أسعف الساقط بين اللصوص في المثل الذي ضربه الرب يسوع لنا ليعلمنا الرحمة التي هي ثمرة المحبة.

أجل إن رسالة عيد الميلاد هي رسالة المحبة، ويسوع الطفل الذي ولد في مثل هذا اليوم في زريبة وقمط وأضجع في مذود إذ لم يكن له موضع في المنزل نراه اليوم في ملايين الأطفال الذين لا مأوى لهم وهم مع أمهاتهم وآبائهم يتضوّرون جوعاً، ونحن نتنعّم بخيراتٍ كثيرة. وقد شابهنا الغني في مَثَل الغني ولعازر الذي ضربه الرب يسوع، فالغني لم يُعِر أهمية للعازر الفقير الملقى أمام باب داره وهو يموت جوعاً، فمات الاثنان وأُخِذَ الغني إلى جهنم أمّا لعازر فحملت الملائكة روحه إلى أحضان إبراهيم… فكل محتاج وكل فقير وكل يتيم معوز وأرملة مسكينة هم إخوة يسوع الصغار بل هم يمثلون الطفل يسوع الفقير الذي لم يكن له موضع في المنزل فأُضجِع في مذود في زريبة خان بيت لحم أفراثا. فهلاّ أخذنا بتعاليم الرب يسوع الذي سيدين البشر في اليوم الأخير على أساس ما قاموا به من أعمال الرحمة إلى جانب إيمانهم به. فهلاّ تُقنا إلى الوقوف عن جانبه الأيمن مع الذين سيسمعون صوته العذب قائلاً لهم: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، ومحبوساً فأتيتم إلي… الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم»(مت25: 34ــ40).

واليوم ونحن نحتفل بعيد ميلاد الرب يسوع هل يا ترى أعددنا له موضعاً ليولد في قلوبنا؟. هل حدّثنا أولادنا عن ميلاده العجيب في الجسد؟ وعن أمه العذراء مريم الفقيرة اليتيمة سليلة الملوك والكهنة والأنبياء والقديسة العفيفة التي قالت عن نفسها «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوّبني لأن القدير صنع بي عظائم..». هل حدّثناهم عنها كيف كانت تحفظ في قلبها كل الكلام الذي كانت تسمعه من السماء ومن أبناء الأرض؟ وتلهج في ناموس الرب ليل نهار؟ أم حوّلنا عيد الميلاد إلى أمور دنيوية لا تمت روحياً إلى العيد بصلة؟. هل حدثناهم عن محبة الله لنا وإرساله ابنه الوحيد لخلاصنا، واضطجاع الابن في مذود في زريبة ليعلمنا التواضع والوداعة.. لأنه لم يكن له موضع في المنزل؟ فهل له موضع في منازلنا وفي قلوبنا؟ أم أن قلوبنا مليئة بمحبة غيره… كما كانت قلوب الكتبة والفريسيين وكهنة اليهود الذين تجاهلوا النبوات واهتموا بالأمور الدنيوية؟…

هل يا ترى ونحن نحتفل بطقوسنا الدينية في هذه المناسبة السعيدة نشعر بأن المسيح معنا وبيننا يشاركنا فرحة العيد أم أننا غرباء عنه وهو بعيد عنا؟ فقد سمي عمانوئيل الذي تفسير الله معنا(مت 1: 21). فهل قبلناه مخلصاً لنا، وآمنا بسري التجسد والفداء؟ أم نقوم بطقوس أعياده كفروض روتينية، لها صورة التقوى ولكنها فقدت قوتها؟ وانقلبت لدينا العادات الروحية إلى عادات اجتماعية بحتة لا تمت إلى الروح بصلة، وقد انتهزنا فرصة عطلة العيد لنقضي أوقاتاً نتمتع بها بلذات جسدية غير مشروعة، بالسكر والعربدة والعهر والميسر؟ الأمور التي تبعد المسيح عنا وتبعدنا عن المسيح إذ لا يكون له موضع في منازلنا وقلوبنا بل لن يوجد معنا في تلك المناسبات. لأنها بعيدة عن روح التقوى ومخافة الله والوداعة والتواضع.

فلنهيّئ موضعاً للمسيح في منازلنا، وفي قلوبنا ونفوسنا، لنحيا لا نحن بل هو يحيا فينا(غل 2: 20). ولنقتدِ بالعذراء التي كانت تحفظ في قلبها ما سمعته من الملائكة والمجوس والرعاة وما رأته من المعجزات الباهرات وبشرت به، ولننصت جيداً إلى قول الرب يسوع وهو يجيب المرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت له: «طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما. وأما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه»(لو 11: 27). فلنسمع كلام الله ونحفظه ونعمل به لنستحق الطوبى التي نالتها العذراء مريم بولادتها السيد المسيح بالجسد وليكن عيده مباركاً عليكم آمين.

 


جند السماء وميلاد الفادي (13)

 

«فقال لهم الملاك لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب… وظهر بغتةً مع الملاك جمهورٌ من الجند السَّمويِّ مسبحين الله وقائلين، المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة»

      (لو 2: 10 ـ 14)

 

حمل الملائكة النورانيون رسالة السلام هذه، ليلة ميلاد الفادي، إلى رعاة بسطاء كانوا ساهرين على هضاب بيت لحم، يحرسون غنمهم، فأشرق عليهم نور سماوي حوّل ليلهم نهاراً. وخاطبهم ملاك الرب بلغتهم السريانية الآرامية، بغاية اللطف والرقة ليهدئ من روعهم، قائلاَ: «لا تخافوا»، فاطمأنت نفوسهم، وانصتوا إليه وهو يواصل كلامه قائلاً: «فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السمويِّ مسبحين الله وقائلين:

ةشبوحةا لالؤا بمإوما، عل آرعا، شلما وسبرا طبا لبنيًنشا÷

«المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام». (والرجاء الصالح للبشر). فآمن الرعاة بما شاهدوا وسمعوا، وامتلأت قلوبهم بالرجاء الصالح الذي هو الفرح الروحي، وأطاعوا أوامر السماء. وذهبوا مسرعين إلى بيت لحم، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي… ثم رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحونه، على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم (لو 2: 8 ـ 20).

أما مريم العذراء، والدته، فكانت تحفظ جميع هذا الكلام مفكرة به في قلبها (لو 2: 19) وحملت بدورها بشارة السلام إلى سكان البسيطة، فصارت هذه البشارة أغنية الأمل الوطيد، والرجاء الصالح الذي لا يخيب، ومصدر المسرة الروحية في قلوب البشر ذوي الإرادة الصالحة، لحلول السلام الإلهي فيها. فقد ولد مخلص العالم الذي انتظرته البشرية، وجاء «ليخلِّص ما قد هلك»(مت 18: 11) «ولتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل»(يو 10: 10). وليؤسس ملكوته السماوي على الأرض، الملكوت الذي هو «برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس»(رو 14: 17) على حد تعبير الرسول بولس.

وللمحبة العميقة التي يكنّها الملائكة للبشر، ملأ الفرح قلوبهم، وهم يرون سياج العداوة القائم بين الأرض والسماء يتصدع وينهار، وبادرة السلام بين الله والإنسان تبدو في الأفق وتظهر. فأنشدوا نشيد الظفر، ومجدوا الله العظيم الذي لتواضعه هبط من علياء سمائه، وولد من عذراء طاهرة ليفدي الجنس البشري من الخطية، ويحرره من ربقة عبودية إبليس، ويهب له الحياة الأبدية.

فابتهجت أرواح الآباء والأنبياء الذين رقدوا على رجاء مجيء المخلص. وهتفت تلك الأرواح مناجية أصدقاء البشرية الملائكة الصالحين قائلة: «سبحوا الرب من السموات سبحوه في الأعالي، سبحوه يا جميع ملائكته»(مز 148: 2) «سبحوه يا كل جنوده»(زك 1: 3). فازداد الملائكة تسبيحاً ليلة الميلاد، مرددين الأنشودة الخالدة أمام الرعاة قائلين: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر». ولا غرو فقد خلق الله تعالى الملائكة لتمجيده كقول الكتاب: «الصانع ملائكته أرواحاً، وخدامه لهيب نار»(مز103: 4) «وهم أشرف من الإنسان وأقوى»(عب 2: 7) خالدون، لا يفنون، ولا يموتون، لذلك هم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يزوّجون ولا يتزوّجون (مت 2: 30 ولو 20: 35  و 36  ومر 12:  5) ولا يتناسلون، ولا يتكاثرون   ولكن لا يحصى لهم عدد. وهم يسكنون السماء ويمثلون أمام الله ـ وقد رآهم النبي أشعيا وسمعهم يمجدون الله ويعبدونه «وكان هذا (السرافين) ينادي ذاك ويقول: «قدوسٌ قدوسٌ قدوسٌ ربُّ الجنود الأرض كلها مملوءة من مجده»(اش 6: 3). ويتحلى الملائكة الصالحون بفضائل سامية منها نكران الذات، والترفّعّ عن الحسد والكبرياء، ومنها محبة البشر والسعي لخلاصهم.

وعلى الرغم من سعة معرفة الملائكة فقد خفي عنهم سرُّ التجسد العجيب، ولم يسبروا غوره، حتى شاهدوه معلنا، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس.. «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر بالجسد…تراءى لملائكة» (1تي 3: 16) فسر التقوى عجيب جداً، ذلك أن الإله المحتجب بجوهره، الخفيَّ بألوهته، حملته العذراء مريم في بطنها جنيناً، وولدته بصورة عجيبة، فرآه الملائكة والبشر طفلاً مقمّطاً، مضجعاً في مذود فمجَّده جنود السماء أمام الرعاة البسطاء.

أما الملائكة الأشرار، أولئك الذين تمردوا على الخالق متكبرين متعجرفين، فسقطوا من رتبهم وهلكوا. وهم أعداء الله وأعداء ملائكته الصالحين، والبشر أجمعين. هؤلاء الأبالسة لم يدركوا أبداً كنه سرّ التجسد وقد أخفاه الله عنهم، ليفاجئهم بالمعركة الفاصلة التي تمت على الصليب، حيث دحرهم وظفر بهم، وبهذا الصدد يقول مار إغناطيوس النوراني (107+) البطريرك الأنطاكي الثالث:

«إن إبليس جهل أسراراً ثلاثة عجيبة تمت في صمت، وهي: بتولية العذراء، والحبل بالرب يسوع وولادته بالجسد وموته فسقطت مملكة (إبليس) القديمة، لأن الله قد ظهر في الجسد ليكمل النظام الجديد (رو 6: 4). ويمنح الحياة الأبدية
(للمؤمنين به)».

وقد قال الرب: «رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء» (لو 10: 18).

وأنعم الله على الملائكة الأبرار أن يبلّغوا البشر النبأ العظيم قبل وقوعه بمئات السنين، ولئن لم يدركوا سره، فقد أرسل النبي دانيال في بابل حيث كان مع قومه المسبيين، فأعلن له موعد مجيء المخلص بقوله: «سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة، لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين» (دانيال 9: 24) وهذه المدة هي أربعمائة وتسعون سنة، باعتبار كل أسبوع في النبوة يعادل سبع سنين، وبعد ظهور الملاك جبرائيل للنبي دانيال، احتجبت رسل السماء عن الأبصار البشرية نحواً من خمسمائة سنة. وفي ملء الزمان ظهر جبرائيل رئيس الملائكة لزكريا الكاهن في هيكل البخور، مبشراً إياه بأن امرأته اليصابات العاقر ستحبل بابن في شيخوختها، وأمره أن يدعو اسم المولود يوحنا، وبين له وظيفته، وهي تهيئة الشعب ليكون للرب. وبيوحنا، ومعنى اسمه الحنان والرحمة، بدأ عهد الحنان والرحمة، عهد النعمة الإلهية والفداء. وهيأ يوحنا الناس الإيمان بالمسيح، بمناداته إياهم ليتوبوا ويعودوا إلى الله فقد اقترب منهم ملكوت الله.

وهكذا لما بلغ ملء الزمان، ودنا موعد إتمام النبوات توارد الملائكة، بعدد أوفر، وجاءوا إلى الأرض ليعلنوا للبشر رسالة السماء، الحدث الأهم في الكون ألا وهو تجسد الإله الكلمة. وجبرائيل الذي بشر دانيال، ودعا المخلص قدوس القدوسين، هو ذاته في ملء الزمان بشر العذراء مريم بالحبل بالمسيح يسوع بقوله: «السلام لك أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك. مباركة أنت في النساء… لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً. فأجاب الملاك وقال لها. الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى أبن الله» (لو 1: 26 ـ 35)

إن جبرائيل ذاته يظهر في حلم ليوسف خطيب العذراء مريم ويطمئنه عن براءتها قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم»(مت 1: 20 و 21) وهنا أيضاً يعلن الملاك جبرائيل اسم المولود، ووظيفته، فيدعى اسمه يسوع، أي المخلص «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم».

وفي ميدان إنقاذه البشرية، واكب الملائكة الرب يسوع، في كل مرحلة من مراحل تدبيره الإلهي في الجسد ليتم ما كُتِب عنه «لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في جميع طرقك، على أيديهم يحملونك لئلا تصدم بحجرٍ رجلك» (مت4: 6 ولو4: 10و11) فعلى أثر ظفر الرب يسوع بإبليس في معركة التجارب في البرية، تركه إبليس، «وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه» (مت4: 11 ومر1: 13).

وفي البستان في جبل الزيتون وهو يصلي إلى أبيه قبيل آلامه ويسلم إليه إرادته، «ظهر له ملاك من السماء يقوِّيه»(لو22: 43) ولما ألقى أعداؤه القبض عليه قال لبطرس: «رد سيفك إلى مكانه… أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة»(مت26: 52و53).

وعلى أثر قيامته من الأموات في فجر الأحد، حدثت زلزلة عظيمة، «لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس فوقه»(مت28: 2) و(يو20: 12). وبشر الملاك المرأتين بقيامة الرب يسوع من الأموات.(مت28: 5).

ولما صعد الرب إلى السماء، ظهر ملاكان للتلاميذ وقالا لهم: «أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقاً إلى السماء»(أع1: 10و11).

فكما واكبت الملائكة الرب يسوع في تدابيره الإلهية بالجسد في مجيئه الأول لخلاص العالم، كذلك ستوكبه ملائكته في مجيئه الثاني، يوم يأتي لدينونة العالمين. فيوم ميلاده ظهر ملاك الرب، وبشر الرعاة بميلاده وأعلن أنه مخلص وهو مسيح الرب. ويوم مجيئه الثاني سينفخ رئيس الملائكة بالبوق. ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «لأن الرب نفسه بهتافٍ بصوت رئيس ملائكةٍ وبوق الله سوف ينزل من السماء»(1تس 4: 6). ويقول الرب أيضاً: «لأن ابن الإنسان مزمعٌ أن يأتي في مجد أبيه مع ملائكته» «وحينئذ يجلس على كرسي مجده ويدين العالم» (مت 25: 31 ولو 9: 26 و 2تس 1: 7 ومت 16: 27  ومر 8: 38 و1كو 15: 52 و1تس 4: 15) وقال الرب أيضاً: «هكذا يكون في منتهى الدهر يخرج الملائكة ويميّزون الأشرار من بين الأخيار» (مت 13: 39 ـ 50 و 24: 31 ومر 13: 27).

قال الكتاب عن الملائكة «أليس جميعهم أرواحاً خادمة ترسل للخدمة من أجل الذين سيرثون الخلاص»(عب 1: 14) إن من نعم الله العظيمة على الإنسان، أنه تعالى عيّن لكل إنسان ملاكاً حارساً يرافقه منذ ساعة ولادته وحتى مغادرته هذه الحياة وعند مماته يحمل الملاك روحه إلى السماء، قال الرب: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم»(لو16: 23) وقال صاحب المزامير: «ملاك الرب حالٌّ حول خائفيه وينجِّيهم»(مز34: 7) وقال الرب: «انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات»(مت18: 10).

لقد رافق الملائكة الرسل الأطهار، والتلاميذ الأبرار، وساعدوهم على نشر البشارة وخلّصوهم من أعدائهم ومن الموت أحياناً عديدة (أع5: 19و20  و12: 15 و11: 3ـ14).

كما أن ملاكاً صالحاً يرافق الإنسان كذلك يرافقه ملاك شرير يقيمه إبليس على نحو ما يفعل الله في تدبير ملكه، ويعهد إبليس إلى ملاكه بغواية الإنسان الذي يرافقه وتجربته لذلك على المؤمن أن يطيع ملاكه الصالح ويرفض الشرير.

فالملاك الصالح يريد خلاص الإنسان ويسعفه ويعينه(دا10: 13) وينقذه من الشرور(تك48: 16) ويحفظه في كل طرقه(مز 9: 11 ـ 12) ويرشده إلى عمل الخير ويحذره من إتيان الشر، ويحاول تنبيه الخاطئ ليعود إلى الرب بالتوبة ويتشفع فيه إلى الله لاستجلاب رضاه تعالى(زك 1: 12 ـ 13) ويفرح بقبول توبته وبهذا الصدد قال الرب: «أقول لكم انه هكذا يكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر مما يكون بتسعة وتسعين صدّيقاً لا يحتاجون إلى التوبة»(لو 15: 7).

فرسالة الميلاد هي رسالة الخلاص، ورسالة السلام مع الله وهي رسالة السلام مع الملاك الحارس الذي يرافق كلاً منا. فعلينا أن نكرّمه ونشكره على جميله وخدمته الجليلة لنا، ولكن لا نعبده، لأن عبادة أي كائن، غير الله تعد كفراً وإلحاداً، ولكن علينا أن نطيعه لأنه يريد لنا الخير، مقتدين بالرعاة الذين أطاعوا الملاك الذي بشرهم بولادة يسوع المخلص، وبطاعتهم إياه استحقوا أن يسمعوا أنشودة المجد من أفواه الملائكة القائلين: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة»، كما بالطاعة أيضاً استحقوا أن يروا يسوع طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود كما وصفه لهم الملاك.

ورسالة الميلاد رسالة توبة نصوح، وعودة إلى الله، والسهر الدائم لانتظار يسوع بمجيئه الثاني، لنشاهد الملائكة القديسين وهم يرافقونه. فقد قال «فاسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان»(مت 25: 13).

ليكن هذا العيد مباركاً عليكم أيها الأحباء أعاده اللّه عليكم وأنتم بأحسن حال، وأنعم بال، وأهَّلكم وإيانا لميراث ملكوت الله مع المسيح يسوع في مجيئه الثاني آمين.

 


الكلمة صار جسداً (14)

 

«في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان»

   (يو 1:1 و 2)

 

مبارك إلهنا العظيم الذي أهلنا لنحتفل بعيد الميلاد المقدس. متأملين بإيمان متين في سر التجسد الإلهي، ذلك الحدث السماوي العجيب، الفريد من نوعه، فلم يسبقه شبيه ولن يكون له مثيل، وقد وقع قبل عشرين قرناً في بيت لحم أفراثا، وغيّر وجه التاريخ، بل صار تاريخ التواريخ. فقد جمع بين الأرض والسماء ووطد السلام بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وأخيرا بين الإنسان وذاته، وأسمعت الملائكة البشر ترنيمة الخلود وهم يمجدون الله قائلين: «ةشبوحةا لالؤا بمإوما وعل آرعا شلما وسبرا طبا لبنينشا» «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»(لو 2: 14).

أجل إن سر التجسد الإلهي لا تدركه عقولنا البشرية، تماما كعدم أدراكنا سائر الحقائق الإلهية التي أوحتها السماء، وأعلنتها على ألسنة الرسل والأنبياء، وسلم بها المؤمنون، وقبلوها عقائد إيمانية، وقواعد لسلوكهم في هذه الحياة الدنيا، لينالوا إذا ما عملوا بها الحياة الأبدية. ويلخص الرسول بولس عقيدة التجسد الإلهي بقوله: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر بالجسد»(1تي 3: 16). فلم يكن ميلاد السيد المسيح في الجسد بدء تاريخه، لأنه له المجد هو الكلمة الأزلي الذي يصفه الرسول يوحنا في مقدمة الإنجيل المقدس الموحى بها من الله قائلا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله»(يو 1: 1). ولفظة البدء في هذه الآية المقدسة لا تعني بدء الزمان بل تعني حتما ما قبل الخلق والزمن، ولم يكن قبل الخلق والزمن إلا الله تعالى، كما أن الفعل (كان) يدل هنا على الكينونة وليس على الزمن، ويسوع المسيح الإله المتجسد ليس إلها ثانيا غير الله تعالى، ولكنه واحد مع الله في الألوهة لا يفارقه البتة كعدم مفارقة الكلمة للعقل لحظة واحدة، ولا يوجد الكلمة بدون العقل لحظة واحدة. فالله الآب هو العقل الأزلي وابنه الوحيد المولود منه قبل كل الدهور ميلاداً روحياً أزلياً هو كلمة الله الأزلي ولا نتصور أن يكون الله الآب لحظة واحدة بدون ابنه الوحيد وروحه القدوس المجيد، فأزلية كلمة الله وروحه القدوس هي عين أزلية الله الآب، والكلمة هو ذات الله وهو الله ذاته في طبيعته وجوهره وكذلك الروح القدس. هذه خلاصة عقيدة التجسد التي تعتبر محور عقائدنا المسيحية السمحة المبنية على أساس الإيمان بالمسيح يسوع الأزلي الذي ولد ميلادا زمنيا في الجسد، يصفه الرسول يوحنا بقوله: «والكلمة صار جسدا وحل فينا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءا نعمة وحقا» (يو 1: 14)، فقد تجلى مجد الله للبشر في سر التجسد الإلهي «فالله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر»(يو 1: 18)، وقد سمعنا الرب يسوع يقول عن ذاته: «الذي رآني فقد رأى الآب… صدقوني إني في الآب والآب فيّ»(يو 14: 9 و 11). كما أن السماء شهدت له محددة العلاقة الطبيعية بينه وبين الآب السماوي، فعلى أثر صعود الرب يسوع من نهر الأردن بعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان هبط الروح القدس على هامته بشبه حمامة وسمع صوت الآب من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (مت 3: 17). وعلى جبل التجلي أيضا سمع صوت الآب قائلا: «هذا ابني الوحيد الذي به سررت له اسمعوا» (مت 17: 5 ولو 9: 35)، كما أن رئيس الملائكة جبرائيل وضّح هذه الحقيقة للعذراء مريم يوم بشرها بالحبل الإلهي قائلاّ لها: «فالمولود منك قدوس وابن الله يدعى»(لو 1: 25). قد أعلنت السماء هذه العقيدة على لسان هامة الرسل بطرس الذي اعترف بألوهة المسيح يسوع بقوله له: «أنت هو المسيح ابن الله الحيّ، فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أيضاً، أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»(مت16: 16ــ 18) فعلى هذا المبدأ الإيماني السامي أسّس الرب يسوع كنيسته المقدسة، وإذا فقدت الكنيسة إيمانها الصحيح بالمسيح يسوع انقلبت إلى مؤسسة اجتماعية أخلاقية كسائر المؤسسات الاجتماعية العالمية التي تسنّ القوانين وتضع الشرائع والنواميس لتحديد علاقات البشر بعضهم ببعض على أساس المصالح المشتركة، ولكن الكنيسة المقدسة مبنية على أساس الإيمان بشخص المسيح يسوع الذي وعدها أن يمكث فيها إلى الأبد وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، ولم يكن المسيح مجرد إنسان بل هو كلمة الله المتجسد وعلى حد تعبير قانون الإيمان الذي وضعه مجمع نيقية المسكوني الأول في أوائل القرن الرابع ملخصاً فيه عقيدة المسيحية إن المسيح هو «المولود من الآب قبل كل الدهور، نورٌ من نور إلهٌ حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به صار كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء (والدة الإله) وصار إنساناً وصُلِب عوضاً عنا في عهد بيلاطس البنطي، تألم ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء، وأيضاً سيأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات، ذلك الذي ليس لملكه انقضاء» والنبي إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد يتنبّأ عنه بقوله: «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»(إش7: 14) فالمسيح عمانوئيل، ويفسر الرسول متى هذه اللفظة الآرامية السريانية قائلاً: «الذي تفسيره الله معنا»(مت1: 23) وعمانوئيل هو يسوع، كما دعاه الملاك الذي ظهر في الحلم ليوسف خطيب العذراء قائلاً: «يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم» (مت1: 20و21) ومعنى لفظة يسوع الله المعين والمخلّص.

«فلما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأةٍ مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي»(غلا4: 4و5) على حد تعبير الرسول بولس. فرسالة وليد بيت لحم إذن هي رسالة الخلاص رسالة الفداء «ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» وهذا ما بشّر به الملاك للرعاة البسطاء يوم ميلاد الفادي قائلاً لهم: «لا تخافوا فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مذود»(لو2: 10ــ12).

أجل! لم يتجسد الفادي ليأخذ الملك من هيرودس الغريب الجنس، ولم يتجسد ليحرر شعب العهد القديم من الاستعمار الروماني، بل قد جاء من السماء وولد من مريم العذراء ليخلّص البشر من خطاياهم وليحررهم من ربقة الخطية الأصلية، وقد وقع ميلاده في الجسد في ملء الزمان، الوقت الذي عيّنه الله تعالى وحدّده منذ بدء الخليقة لتجسّد الكلمة من أجل خلاص العالم الذي كان بأمسّ الحاجة إلى الخلاص، وكان الأبرار والأتقياء ينتظرون بفارغ الصبر ظهور المخلّص وهم يدرسون النبوّات، ويتوقعون إتمامها بحذافيرها في ذلك الزمان.

أيّها المؤمنون: لقد تجسّد كلمة الله الأزلي، وفدانا بدمه الكريم لنستحق أن نرث الحياة الأبدية.

ولد من الروح القدس ومن مريم العذراء لنولد نحن من الماء والروح (يو 3: 5) ، والروح القدس ونار (لو 3: 16).

صار كلمة الله ابن البشر، لنصير نحن أولاد الله بالنعمة «الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله»(يو1: 13) على حدّ تعبير الرسول يوحنا.

فلنسلك في الأرض كأبناء السماء بإيمان ومحبة ورجاء، لنستحق أن نكون في عداد الأبرار والأتقياء المنتظرين مجيئه الثاني لنخرج معهم للقائه، ونرث معه ملكوته السماوي بنعمته آمين، وكل عام وأنتم بخير.

 


الميلاد المجيد (15)

 

أيها الأحباء في هذه الأيام المباركة نعيش أعياد ميلاد الرب يسوع، فنسمع بشارة الملاك ليقول للرعاة أن يبتهجوا أن لا يخافوا بالعكس «لأنه قد وِلد لنا ولدٌ وأُعطينا ابناً ـ كما تنبأ إشعياء ـ وتكون الرئاسة على رأسه ويدعى اسمه عجيباً إلهاً قديراً»، ونسمع أيضاً أنشودة الملائكة: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».

لنبتهج بميلاد الفادي، وننصتُ إلى الرسول بولس وهو يعلمنا قائلاً في الإصحاح الرابع، والعدد الرابع من الرسالة إلى غلاطية: «ولما جاء ملئ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني».

 كلُّ إنسانٍ يبدأ تاريخ حياته على هذه الأرض في ساعة ميلاده، بخلاف ذلك ميلاد الرب يسوع بالجسد ليس هو بدأ حياة الرب، فالرب يسوع مولود من الآب قبل الدهور، كما نقول في دستور الإيمان النيقاوي الذي دائماً ننشده ونرتله ونعلنه أثناء القداس الإلهي وصلواتنا صباح مساء إنه نور من نور، إله من إله، مولود غير مخلوق، حقاً إنه مولود، مولود من الآب أزليا ًوولد بالجسد من الروح القدس ومن العذراء مريم، لكنه مولود غير مخلوق، هو خالق، هو الإله، لذلك لا يبدأ تاريخ الرب يسوع بميلاده الجسدي. ودُعي «كلمة» و«الكلمة صار جسداً وحل فينا، ورأينا مجده مجداً كوحيد من الآب مملوءا نعمةً وحقاً». متى رأينا مجده، هو غير منظور، لكن عندما أراد أن يتجسّد وأن يصير جسداً أيضاً كسائر البشر ما عدا الخطية، حينذاك رأينا ذلك المجد العظيم، عندما ولد من امرأة كما قال الرسول بولس، وإذ نتوقف عند هذه العبارة إنه ولد من امرأة، فنعود بالذاكرة إلى بدء الخليقة، نعود إلى خلقة الإنسان، خُلق آدم أولاً ثم ألقى الله عليه سباتاً وأستلَّ ضلعاً من ذلك الإنسان وخلق من ذلك الضلع حواء وأعطاها لآدم لتكون معيناً له، وقال آدم هذه تدعى امرأة لأنها أُخذت من إمرىءٍ، وهذه أيضاً إذ دُعيت امرأة، يعني ذلك أنها بشر كالرجل وجزء منه ومساوية له، ولذلك عندما أخطأ آدم ومعه حواء وأصبحت الخطية تعم كل البشرية،كل نسلهما إلى الأبد عمت الكل، ولذلك رحمة من الله تعالى لهذا الإنسان وعد أنه يخلصه من خطيئته.

النظرية اللاهوتية بل القاعدة التي تبني عليها عقائدنا الكنسية هي، أن الخطية موجهة نحو الله، لذلك لا يمكن أن يغفر خطية إلا من يكون معادلاً لله، وقد جاء الناموس، وجاء الأنبياء، وجاء الأتقياء والآباء جميعاً لم يتمكنوا أن يغفروا الخطايا، لا بذبائحهم، لا بقرابينهم، لذلك كان لا بد أن يتجسد الله بالذات، ويقدم نفسه فدية عن البشرية ليكون معادلاً للإله الذي إليه وجهت الخطية، وكان لا بد أن يتجسد، وبتجسده أن يتجسد من امرأة كما وعد الله آدم، أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، والحية هي إبليس بالذات، لذلك كان لا بد أن يولد المسيح من امرأة، لم يولد من رجل إنما من امرأة، وهذه المرأة التي دُعيت امرأة في البدء يوضحها لنا في القرن الثامن قبل الميلاد النبي إشعياء، فيقول: ها العذراء، بقوله: «ها السيد الرب نفسه  يعطيكم آية، هو نفسه يُعطيكم آيةً». ما هي هذه الآية؟: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» الذي تفسيره بعدئذ يقول متى الرسول في الإنجيل المقدس: الذي تفسيره الله معنا، إذن هو الله، لكن الله صار معنا بتجسده من ولادته من عذراء، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل».

في عيد دخول الرب إلى الهيكل، إذ ولد تحت الناموس كما قال الرسول بولس وكمّل كل الناموس، في عيد دخول الرب يسوع إلى الهيكل وشمعون الشيخ، نرى أن شمعون كان أحد السبعين الذين ترجموا الكتاب المقدس النبوات، من العبرية إلى اليونانية لغة الثقافة في ذلك الزمان، وكيف أنه تعجب كيف يقول، لئلا يضحك عليه الناس، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً»، هل يُعقل هذا الأمر أن تكون عذراء وتلد ابناً، فكتب ذلك أنه شابة، ولكن في اليوم التالي رأى أن الكلمة تغيرت وعادت إلى اللفظة الأولى العذراء، وهكذا وعد من الله أنه لا يذوق الموت حتى يرى هذا الأمر واضحاً وعملياً.

فإذن الله الذي تنبأ أولاً رحمةً منه بالبشرية أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وضح في إشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد أن هذه المرأة هي عذراء، «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل»، والرسول بولس يقول عن الرب يسوع أنه يولد من امرأة، يولد تحت الناموس، بموجب الناموس الذي أُعطي بواسطة موسى، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني.

ولادته عجيبة جداً من الروح القدس والعذراء مريم، ولذلك مهد الله العقل البشري بواسطة الأنبياء  أن يقبل هذه الفكرة بل هذه الحقيقة الإلهية، فمثلاً، زمن ميلاد الرب قبل خمسمائة سنة ظهر الملاك جبرائيل، وهو أحد الملائكة الواقفين أمام عرش الله، وندعوه ملاك العهد الجديد، لأن كل أمور العهد الجديد تقريباً صارت بواسطته، هو الذي بشر، من جملة ذلك ظهر للنبي دانيال، كان دانيال أحد المسبيين من أورشليم إلى بابل، وكان يصلي دانيال دائماً، يفتح الكوة نحو أورشليم ويندب ويبكي وينتظر الرب أن يعيد هذا الشعب من السبي حتى يرجعوا إلى بلدانهم ليعبدوا الله في هيكلهم أيضاً، ويظهر جبرائيل لدانيال ليبشره أن صلاته قُبلت، ليس فقط أن يرجع الشعب إلى أورشليم الأرضية بل إلى أورشليم السماوية، إلى الفردوس الذي طُرد منه الإنسان، لأنه اقترف الخطية العظيمة بشخص آدم وحواء، ويحدد له المدة بالأسابيع السبعين، يعني نحو خمسمائة سنة، يحدد له أن المسيح سيأتي وهو الذي ينقذ البشرية من هذه الخطية، ويعيد الإنسان إلى وطنه الأولي إلى الفردوس، وهكذا كان، زمن ميلاد الرب بالجسد، نقول  بالجسد، لأن ميلاد الرب الميلاد الأزلي قبل كل الدهور وهو نور من نور،إله حق من إله حق. لذلك قلنا إن بدء تاريخ كل إنسان بزمن ميلاده، لكن السيد المسيح ليس له بدء لأنه هو الله بالذات، فحدد له ميلاد الرب بالجسد بعد خمسمائة سنة، الأسابيع السبعين وحدد له حتى أنه في الأسبوع الأخير تكون أنه تبطل الذبائح والمسيح يُقدم فدية عن الخراف، هذا جبرائيل لدانيال، نرى أيضاً أن السماء توحي لميخائيل، قال له في زمن إن هذا الميلاد يكون في بيت لحم أفراته، ولذلك عندما ولد الرب يسوع بالجسد كان الأمر من أغسطس قيصر أن تُكتب جميع المسكونة، والمقصود المسكونة كل الدول التي كانت خاضعة للدولة الرومانية، والاكتتاب عادة بحسب الطريقة الرومانية أن كل إنسان موجود أينما يكون موجود يكتبوا اسمه، لكن ربنا أراد بميلاد الرب لا أن يسجل فقط اسمه في عداد أولئك الذين ولدوا، بل أن يسجل بحسب قانون اليهود بالذات أن كل واحد يكتب بحسب ما ورث من آبائه في المدينة والبلدة والقرية والضيعة التي آباءه قد ولدوا فيها. وكانت الأنسال إلى ذلك الوقت إلى وقت الرب يسوع كانت تحفظ،، فأنت تعرف أن تذكر أنت ابن فلان وان تذكر أنسالك وأجدادك، أحياناً عديدة نقول لماذا متى ذكر الأسماء كلها، والأحد الذي قبل الميلاد نقرأ هذه الأسماء، لأنه سابقاً مثلما قلنا هذه الأنساب كلها موجودة، والأراضي التي وزعت على بني إسرائيل حسب الأسباط ، هذه الأراضي حتى لا يحدث بالورثة أي بلبلة فكل واحد معروف نسله من أين.

الاكتتاب صار بأمر الدولة الرومانية، والغاية أن الدولة الرومانية وأغسطس قيصر أولاً ليظهروا مجد دولتهم ويعرفوا كبر مستعمراتهم، وكم هو عدد المستعمرين، ثانياً لكي يهيئوا لإدارة هذا الشعب، وكل ذلك بدون علم هي تهيأ لميلاد الرب يسوع بالجسد، ثم لنشر البشارة الإنجيلية في العالم. فالطرق عُبدت، والسفن سارت بالبحر، حتى تُنقل البشارة بواسطة هؤلاء الناس إلى العالم كله، وكان الناس يفعلون ذلك دون أن يعلموا لماذا.

 فعندما ولد الرب، بحيث أن يوسف هو من نفس نسل السيدة العذراء، فكان لا بد أن يأتوا إلى بيت لحم أفراته، لأن هذه هي ورثة آباءهم، فجاءوا من الناصرة إلى بيت لحم أفراته، وكانت طبعاً العذراء مريم حُبلى بالرب يسوع، وزمن الولادة جاء وهي في بيت لحم، ولم يجدوا مكان حتى تولد فيه، لأن لم يكن مكان في المنزل، كان منزل واحد هو عبارة عن فندق صغير، ولم يكن لهم مكان في البلد أيضاً، اضطروا وهي تريد أن تولد، اضطروا أن يذهبوا إلى مغارة خراف أو ما شابه في بيت لحم بالذات في ضواحيها، هناك وضعت ابنها البكر وقمطته ووضعته في مذود، وهناك جاء الملائكة وسجدوا له، وجاء الرعاة أيضاً سجدوا وعرفوه إذ بشرهم الملاك إنه قد ولد، بل هناك أيضاً بعدئذٍ جاء المجوس إلى بيت لحم وكان في المنزل، لم يكن في المغارة يوم جاءوا، وسجدوا له وقدموا له الهدايا، ذهباً ولباً ومراً، معلنين إيمانهم به أنه ملك اليهود، بل ملك العالمين، وأنه إله لذلك قدموا له البخور، اللبان والبخور، وكذلك مؤمنين أنه سيموت بالجسد عن البشرية لذلك قدموا له المر.

هذه آيات الميلاد أيها الأحباء، ولادة الذي يُدعى عجباً،إلهاً قديراً كما دعاه أيضاً إشعياء قبل ميلاده في القرن الثامن قبل الميلاد، كما دعاه هذا النبي وغيره من الأنبياء، وولد حسب النبوات في بيت لحم، وولد من عذراء كما أعلن إشعياء، ولد من امرأة التي هي عذراء كما تنبأ بل أعلن الله عندما رحمته غلبت عدله وأراد أن يُخلص هذا الإنسان الذي كان قد أخطأ وخطيئته كانت ضد الله بالذات.

 في ميلاده أحبائي علينا أن نسبحه كالملائكة، علينا أن نسجد لنا كالرعاة، أن نزوره وهو متواضع وفي محل متواضع في المغارة، علينا أن نقدم له أنفسنا كما فعل المجوس حكماء وملوك الشرق الذين أتوا وسجدوا له وقدموا له الهدايا.

 نحن عندما نُعيد، أولاً بدأنا ننسى المسيح بالذات، فهذا الشيء، عندما نقول بابا نوئيل أو سانت كلوز، أو نقول ما نقول، هذه الأمور تجعلنا إذا لم نفكر في المسيح بالذات تجعلنا بعيدين عن المسيح بالذات. ومع هذا يوجد شيء يرمز إلى ما فعله مثلاً المجوس بتقديمهم الهدايا، نقدم الهدايا بعضنا لبعض، لا نفكر بالمولود.

 يذكر ما ذكره أحد الرعاة أنه سال طفل والدته قال لها نحن نقدم الهدايا بعضنا لبعض، وعادة في يوم ميلادنا تقدمون لنا الهدايا، ميلاد المسيح ماذا نقدم له من هدايا، طبعاً ارتبكت الأم، فقالت له، لا نعرف ماذا نقدم له من هدايا، لأن السيد المسيح عظيم جداً فماذا نقدم له من هدايا؟ فإذا كان المسيح في ميلاده قدم لنا ذاته، ماذا نعوض له، إذا لم نقدم له ذاتنا بالذات لا يكون قد عوضنا له شيء.

 فالهدايا التي نقدمها للمسيح لا شيء بالنسبة للمسيح، فيجب أن نقدم ذاتنا، ولا يمكن أن نقدم ذاتنا ونقدم قلبنا ليكون مقر للرب يسوع إن لم يكن ذلك القلب نقياً طاهراً، ونكون نحن مكرسين هذا القلب وهذه الذات للمسيح بالذات، لنعوض له عن ما هو قدمه لنا في ميلاده.

لا نتصور كيف يصير الله بشر، من هو هذا البشر حتى الله نفسه يصير بشر، مثلما قال الرسول بولس: «الله ظهر بالجسد»، هذا الشيء لا يمكن أن نتصوره حقيقة، أنه فوق عقولنا، الله الذي خلق الكون، وأبدع كل شيء، ويدبر الناس، ويدبر العالمين، يدبر العالمين هذه بكل ما جعله من قوانين طبيعية وغيرها، بحيث إذا أختل شيء في هذا القانون الحياة كلها تباد. ما  نتصور أن هذا الإله الذي صار بشراً بهذا التواضع العظيم، أنه إذا قدمنا له ذاتنا لا شيء  من نحن كبشر. فعلينا في يوم ميلاده أن نطهر نفوسنا وذواتنا، ونهيأ قلوبنا لا في الأمور البشرية التي أعتدنا أن نقوم بها في أعياد الميلاد وبعيدة أحياناً عديدة حتى عن الناموس، فهو قد ولد تحت الناموس، لنكن نحن أيضاً بحسب ناموسه وشريعته، شريعة المحبة، أن نقدم له ذاتنا لكي يسكن في قلوبنا ويثبت فيها إلى الأبد. وكل عام وأنتم بخير أيها الأحباء.

 


تهنئة السيدة العذراء

تهنئة السيدة العذراء

 

تهنئة السيدة العذراء

 

«وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كلّه متفكّرة به في قلبها»

                                                                  (لوقا 2: 16)

 

في هذا اليوم المبارك أيها الأحبّاء، تحتفل الكنيسة المقدسة بعيد تهنئة العذراء بميلاد الرب يسوع المسيح بالجسد، وهذا العيد من أقدم أعيادنا الشرقيّة. فيه نقدّم التهنئة للعذراء لأنها استحقّت أن تكون أمّاً لله، بل أيضاً والدة لله بحسب تعبير آبائنا السريان، لأنها ولدت الإله المتجسِّد. وعندما نتقدّم إليها بالتهنئة نتأمّل بما قاله عنها البشير لوقا: أنها كانت تحفظ الكلام، أي كلام هذا الذي كانت تحفظه العذراء مريم. البشير لوقا بعد أن سرد حادثة ظهور الملائكة للرعاة ومجيء الرّعاة إلى المغارة وسجودهم للطّفل يسوع وحديثهم أيضاً عمّا ظهر لهم وما سمعوه، خاصّةً أنشودة السّماء التي رتّلتها الملائكة بلغتنا السريانيّة الآراميّة التي كانت لغة أولئك الرّعاة. ةشبوحةا لالؤا بمإوما.

المجد لله في العُلا وعلى الأرض السّلام وبالناس المسرّة. لوقا يقول أن العذراء مريم كانت تحفظ هذا الكلام متفكّرة به في قلبها. عندما نقرأ الكتاب المقدّس أيّها الأحبّاء نقرأ كلام الله ونعتبر ذلك وحياً، لأن الله عندما يتكلّم معنا معنى ذلك أنه أوحى بكلامه إلى شخص ليعلن ذلك الكلام المقدس، ولكن عندما حوادث تاريخيّة نسمّي ذلك إلهاماً لأن الإنسان يكون قد سمع بهذه الحوادث وحفظها ويُلهَم من الله أن يسردها والله يصونه ضمن الحقيقة التاريخية، فحادثة الرّعاة مثلاً وكلّ الحوادث التي جَرَت للعذراء مريم وأمامها كانت تحفظها، والعذراء مريم التي دعاها الكتاب المقدس: الممتلئة نعمة فقد أنعم الله عليها إذ حلّ عليها الروح القدس وطهّرها ونقّاها وجعلها أهلاً لتحلّ نار اللاّهوت في أحشائها ولتلد الإله المتجسِّد. هذه العذراء لا نستكثر عليها أن تأخذ إلهاماً من الله. فعندما تسرد هذه الحقائق تسردها بكل أمانة، ليس هذا فقط بل كانت تحفظ كل كلام كان يُقال عن الرب يسوع، تحفظه في قلبها متفكِّرة أيضاً يقول لوقا في قلبها بذلك الكلام، أو بعبارة أخرى كما يُقال عن الإنسان الصّالح في المزمور الأوّل أنّه يلهج بشريعة الله ليلاً ونهاراً. هذه كانت حالة العذراء مريم في كلّ ما جرى لها ولابنها منذ أن بشّرها الملاك وحتّى صعود ابنها إلى السّماء. لا تتعجّبوا من هذا فالفتاة التي اختارها الله وفضّلها على نساء العالمين لتكون أمّاً له، تستحقّ أن تكون أوّل من بُشِّر بهذا الإله المتجسِّد.

نتأمّل نحن بسيرتها، نرى ما يكتب آباؤنا السريان وهم خير من يكتب في هذه المواضيع الإلهية وأصدق من كتب في تاريخ المسيحية أن العذراء وُلدَت من عاقرَين، ولكنها وُلدَت كسائر الناس تحت حُكم الخطيئة وخطأ من قال أنها ولدَت معصومةً من الخطيئة الأبويّة، لم يولد خالياً من الخطيّة الأبويّة إلا المسيح يسوع. العذراء مريم وهي ابنة ثلاث سنوات قُدِّمَت للهيكل، لا يعني ذلك أنها تكون بذلك نذيرةً لبتوليّة، الأمر الذي لم يكن في العهد القديم، ولكن قُدِّمَت للهيكل لأنها كانت يتيمة الوالدَين الشّيخَين اللّذين كانا عاقرَين كما يقول آباؤنا وقد وُلدَت طبعاً بأعجوبة ولكن كسائر الناس. تربّت في الهيكل مع الأرامل اللّواتي كنّ يخدمن الهيكل، وكنّ يقضين أوقاتهنّ بالتأمّل بالنبوّات التي قيلَت عن ماسيّا وبحوادث الكتاب والشريعة الإلهية، هكذا نشأت العذراء مريم تتأمّل بحوادث الكتاب المقدس ولما استحقّت أن تكون أمّاً لله، ويوم خُطبَت إلى يوسف بحسب شريعة أولئك الناس يومذاك. وبشّرها الملاك ظهرت فضيلتها، ظهر تواضعها، إيمانها، قبولها مشيئة الله بعد أن بشّرها الملاك وقالت: ها أنا أمة الرب ليكن لي كقولك، وفي زيارتها لأليصابات ظهرت ثِمار الروح القدس فيها عندما أنشدت أليصابات وتنبّأت عنها بأنها أم الرب أنشدت العذراء نشيدها الذي يُعَد أفضل نشيد في الكتاب قاله بشر: تعظِّم نفسي الرب، تبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته، فهوذا منذ الآن تعطيني الطوبى جميع الأجيال. هذا النشيد بدأته العذراء مريم لتعلن كيف أن الله اختارها لتواضعها وكيف أنه يُنزِل المتعجرفين عن الكراسي ويرفع المتواضعين. وتنبّأت أن الأجيال كلّها تعطيها الطوبى. هذه ثمار التواضع، ثمار الهذيان بشريعة الله واللّهج بأوامره تعالى، ثمار الصلاة المستمرة، الحياة مع الله، فالعذراء كما قال لوقا كانت تحفظ كل هذا الكلام في قلبها. فالعذراء عندما نأتي لنهنّئها تطلب منّا أن نقتدي بها، أن نعمل كما عملت بالسماع لكلام الله، باللّهج بهذا الكلام، بتطبيقه عمليّاً. إنها تريد أيها الأحبّاء أن تأخذ الطوبى التي نالتها في الفصل الذي تُلي على مسامعكم في بدء القداس من إنجيل لوقا.

أيضاً رأينا العذراء مريم واخوة الرب كانوا واقفين خارجاً يريدون أن يروا الرب، وعندما أُخبر الرب بذلك التفت إلى الذين كانوا يسمعون كلامه وقال: أمّي واخوتي الذين يسمعون كلام الله ويعملون به، فالعذراء طُوِّبَت في هذا الكلام أيضاً لأنها كما قال لوقا كانت تسمع كلام الله، كانت تسمع وتحفظ وتتفكّر به في قلبها وكانت نقيّة طاهرة بكل سيرتها وسريرتها، لذلك بالإضافة إلى ما أنعم عليها لتكون أمّاً لله، استحقّت الطوبى وهذا المركز السّامي الروحاني لأنها كانت تسمع كلام الله وتعمل به.  ففي هذا اليوم المبارك الذي نقدّم فيه التهاني لأمّنا العذراء مريم لنقتدي بها أيُّها الأحبّاء بسماع كلام الله، بقراءة الإنجيل المقدس، بتربية أولادنا التربية الصّالحة كما فعلت العذراء إذ بعدئذٍ يقول لوقا عن الصّبيّ، عن الرب يسوع أنه كان ينمو بالقامة والحكمة والنّعمة أمام الله والناس، وكل ذلك طبعاً عندما نتكلّم بشريّاً نرى وراء كلّ ذلك العذراء مريم.

ليؤهّلنا الرب أن نقتدي بها لنستحق أن نكون معها في السّماء وفي عِداد أولئك الذين قال عنهم الرب: أمي واخوتي هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون به. وليجعل الرب هذا العيد المبارك، عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح سبب نعمة وبَرَكة لكم جميعاً ويعيده عليكم بالصحّة التّامّة والتّوفيق الجليل ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

 


الأحد الأول بعد الميلاد

الأحد الأول بعد الميلاد

 

الأحد الأول بعد الميلاد (1)

 

«وأما يسوع فكان ينمو بالحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس»

    (لو 2 : 52)

 

أسدل الوحي الإلهي السّّتار عن الفترة التي قضاها الرب ما بين ميلاده بالجسد وعماده، ما خلا إعلان حدث ختانته وتقديمه للهيكل وزيارته الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره بالجسد. ذلك أن الغاية الفُضلى من كتابة الإنجيل المقدس أن يعرف العالم كلّه ويؤمن أن يسوع هو المخلص، وهذه الحقيقة الإلهية أظهرها الملاك جبرائيل للعذراء مريم كما أظهرها ليوسف خطيبها الذي ساورته الشكوك بطهر العذراء مريم، فظهر له الملاك وأفهمه أن يأخذ مريم امرأته لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح: تلد ابناً وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، هذا قول الملاك، قول السماء المقدس وإعلان إلهي للأرض، قال يُدعى اسمه يسوع، كلمة يسوع أيها الأحباء تعني الله المخلص. إذن ظهرت رسالة الرب يسوع بوضوح وأعلنتها السماء على لسان الملاك: الرب يخلّص. فكلّ فاهم الحقائق الإلهية بسر التجسد والفداء هي أن يسوع هو الله الذي تجسّد ليخلّصنا. رأينا السماء تعلن مجده والملاك يظهر للعذراء يبشرها، والملاك يظهر للرعاة ويبشرهم. يوم ميلاد الرب بالجسد قال لهم: يولد لكم ابن ملك في مدينة داود هو المسيح الرب، يولد لكم خاصةً يقول لهم مخلص. إذن أظهر أيضاً رسالة هذا الذي وٌلِد من العذراء في بيت لحم أنه هو مخلص، هو المسيح الرب. لذلك أيها الأحباء العذراء قد حفظت كما يقول لوقا البشير بالذات كل هذا الكلام، كلام الملاك كما بشّر به الرعاة وما أعلنه الرعاة أيضاً للعذراء عن تسبيح الملائكة يوم ميلاد الرب. يقول لوقا: أنها كانت تحفظ كل هذا الكلام مفتكرة به في قلبها، بل أيضاً الحوادث التي جرت في سر التجسّد والتي رأتها العذراء بأم عينها واستمعت بها واستمعتها بالذات من السّماء، كانت تحفظها مفتكرة بها في قلبها أي أنها كانت تلهج بها ليل نهار وتهذ كما يفعل الأتقياء والأبرار عندما يتقدمون أمام الرب بالصلاة. وحياة العذراء كانت حياة صلاة مستمرّة. لماذا لم يذكر الوحي الإلهي كل تلك الحوادث التي جرت من تبشير الملاك للعذراء بالحبل بالرب يسوع وإلى عماده، إننا لا نرى من الضرورة أن نعرف كل شيء عن ذلك ومع هذا ذكر الوحي الإلهي أهم المراحل في تلك الفترة، المهم أن المسيح هو المخلّص. والمهم أن المسيح أعلن نفسه كمخلّص عندما بلغ الثلاثين من عمره، وكان لا يمكن أن يظهر أمام الناس كمعلم للشريعة قبل أن يبلغ الثلاثين لأن هذا كان الناموس، هذه كانت الشريعة، هذه كانت العادة لدى اليهود، أنهم لا يستمعون كلام الشريعة من إنسان ما لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره ولا يحق له أن يعلّم، فلما بلغ الثلاثين من عمره أعلن المسيح نفسه بعد أن اعتمد وبعد أن شهد له الروح القدس عندما هبط على هامته بشبه حمامة أنه هو ابن الله. قبل ذلك الإنجيل وضّح لنا أن المسيح ولد من عذراء ميلاداً عجيباً وأن المسيح قد أعلنته السماء عندما سبّحته الملائكة وأن المسيح كما قال بعدئذ الرسول بولس: ولد من امرأة، ولد تحت الناموس، تمسّك بكل الناموس، بكل الشريعة. لماذا؟ ليخلص ليفتدِ الذين تحت الناموس وأكمل الناموس، اختتن في اليوم الثامن بحسب عادة اليهود ليكون في عِداد الشّعب الذي أصبح بعهد مع الله وليحق له أن يكون في عِداد أولئك الناس أن يكلمهم أيضاً عن شريعة الله وناموسه، ثم في اليوم الأربعين قَدِم  أيضاً إلى الهيكل لأنه بكر مريم وهو في الوقت نفسه كما تعلمنا الكنيسة المقدسة مستندة إلى الإنجيل المقدس هو بكر الآب السماوي. كل ذلك أتمّه الرب وأكمل أيضاً ما كان على كل يهودي أن يتممه وعلى كل يهودي ويهوديّة أن يهتمّا بتربية أبنائهم وبناتهم، فكان الطفل بحسب عادة اليهود عندما يبلغ السادسة من عمره يأخذه أبواه إلى المدرسة الدينية، إلى الكنيست أي إلى مجمع اليهود، وهناك يتعلم الشريعة والناموس، يدرس التوراة والنبوءات. هكذا كان مع الرب يسوع، أخذته العذراء مريم وخطيبها يوسف ليكون في عِداد أولئك الأطفال لأنه نشأ في بيئة يهوديّة أتمّ فيها الناموس وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره بحسب ما يذكر الإنجيل المقدس أخذاه ليقدماه أمام الرب لأن في تلك السن كان على اليهودي أمن يكمّل الناموس ليُعَد في عِداد ذلك الشعب الذي وضع عليه الناموس وليكون مسؤولاً عن نفسه لا يعتبر له أي خطأ أيضاً خطيئةً، لكن بعد أن يبلغ الثانية عشرة يجب أن يزور الهيكل خاصةً أولئك الذين يحتاطون في أورشليم على نحو مائة ميل، كان عليهم أن يحضروا إلى الهيكل سنوياً ولأول مرة حضر الرب يسوع، أحضره يوسف والعذراء مريم.

يذكر لوقا البشير أنهما فقداه بعد أن غادرا أورشليم لمسيرة يوم. كانت العذراء تظن أنه مع يوسف ويوسف كان يظن أنه مع العذراء، كان الرجال يسيرون وحدهم والنساء يسرن وحدهن مشياً على الأقدام في مراحل يوميّّة ويجتمعون مساءً. عندما اجتمعوا وجدوا أن الرب يسوع لم يكن معهم. عادا إلى أورشليم فتّشا عن الرب ثلاثة أيام بتعب وقلق ثم وجداه. أين وجداه؟ في الهيكل، عند المعلمين يسألهم ويستمع إليهم ويستمعون إلى كلام الحكمة الخارج من فمه متعجّبين من هذه الحكمة العظيمة. عاتبته مريم لأنه أتعبها وأتعب يوسف الذي دعته أباه، فكان جواب يسوع: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي. لأوّل مرة يعلن أنه ابن الآب السماوي ومن ذلك نعلم أيضاً كيف أن الاعتناء بتربية الأولاد التربية الدينية الصالحة كان واضحاً لأنه كان في الهيكل غرف عديدة يجلس فيها المعلّمون لكي يوضّحوا الحقائق الدينية لكل من يسألهم ونرى الرب ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. نما في القامة أصبح في سن الثانية عشرة والحكمة نمو الرب يسوع في الحكمة والنعمة هو النعمة بالذات، وما هي النعمة. النعمة هي حصول الإنسان على البِر والقداسة اللذين كانا يتّصف بها الإنسان قبل أن يسقط في الخطيئة. والحكمة هو الحكمة بالذات وما هي الحكمة. الحكمة هي أن يطبّق الإنسان شريعة الله عملياً ليس فقط بالكلام، بل تظهر الحقيقة الإلهية فيمارس ما تأمر به الشريعة، والمسيح هو الحكمة بالذات وكما قلنا قد ولد تحت الناموس وأتمّ الشريعة والناموس ليكون قدوة للناس كافةً، فنما بالحكمة والقامة، القامة هي الجسد والنعمة. في نموّه هذا يظهر الرب يسوع لا نامياً فقط بل مظهراً ما هو عليه. يعني إذا كان هو الحكمة. ما ينمو في الحكمة، الرب يسوع هو الحكمة بالذات، لكن أمام الناس كانت تظهر هذه الحكمة عندما ينمو. كان يراه الناس أن هذا الإنسان يختلف عن البقيّة كما تعجّب معلّمو الناموس في الهيكل كيف أنه كان ينطق بالحكمة.

عاد الرب يسوع مع والدته وخطيبها وكان يطيعهما يقول الإنجيل المقدس، فهو القدوة الصالحة والمثال الطيّب لكل ابن بار يطيع والدَيه. في هذه الفترة ما بين زيارة الفتى يسوع ذي الاثنتي عشرة سنة للهيكل وبين العِماد، احتارت عقول الناس الذين يحاولون معرفة المكان الذي قضى فيه الرب يسوع هذه الفترة الزمنية وأخذوا يعثرون به لعدم ثقته بالحقائق الإلهية التي لا يمكن أن يدركوها في عقولهم القاصرة ما لم يثقوا بصدق الوحي الإلهي، وقيلت أقاويل عديدة وخرافات لدى بعض الناس، ولكن من الإنجيل المقدس نعلم أن الرب يسوع كان يعمل مع يوسف البار نجاراً بسيطاً في قريته في الناصرة، حتى أن يوستينوس الشهيد في القرن  الثاني يقول أنه رأى بأم عينه بعض الشبابيك والأبواب التي صنعها الرب يسوع عندما كان في الناصرة يعمل مع يوسف، وبعد أن مات يوسف ميتة صالحة في أحضان الرب يسوع، أخذ يسوع مسؤولية الاعتناء بأمه وتوفير معيشتها بكرامة أكل خبزه بعرق جبينه. نعلم هذا عندما زار الناصرة وقالوا: أليس هذا النجار وقال آخرون: أليس هذا ابن يوسف النجّار إذ كان نجّاراً ابن نجار وكان يعمل بعرق جبينه ويأكل خبزه وهو بذلك القدوة الصالحة والمثال الجيد في السلوك باستقامة في الحياة الدنيا. كانت لبني إسرائيل شريعة وكان ناموس، والناموس لا يقوى على أن يفدي الناس، كان الإنسان بحاجة ماسّة إلى مثال. فجاء المخلّص ليكون هذا المثال الذي نعمل كما يعمل ونقتدي به ونسلك كما يسلك ونسير في إثره تابعين خُطاه هذا المثال هو الرب يسوع المخلّص الإلهي إلى أن اعتمد، عندما اعتمد لم يأخذ القوّة بما ظهر للناس بحلول الروح القدس عليه فهو والروح القدس واحد وهو والآب واحد، ومن رآه فقد رأى الآب، لكن كل ذلك أولاً لأن يوحنا قد قيل له: الذي ترى الروح يهبط عليه هو هو. من هو. يسوع المخلص وشهد يوحنا بذلك. ثانياً: لكي يعرّف ويعلن أمام الناس حيث أن الحمامة أو الروح الذي نزل بشبه حمامة أو بجسد حمامة كما يذكر الإنجيل المقدس. بهذه التعابير الإلهية أعلنه وميّزه عن كل الناس، فهو ولئن ظهر كإنسان لكن كما يقول عنه الرسول بولس، وهذا القول يجب أن يكون أمامنا وأساساً لعقيدتنا أن الله ظهر بالجسد.

أيها الأحباء:

أما يسوع يقول لوقا: فكان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. أبناء العالم العلمانيون كما ندعوهم عليهم أن يقتدوا بالعذراء مريم وبيوسف البار، ليس فقط بحفظ كلام الله، وأن يلهجوا بذلك الكلام ليل نهار بقراءة الإنجيل المقدس وسيّر الآباء القديسين بل أيضاً أن يكمّلوا شريعة الله، الفضائل السامية التي يجب أن يتحلّوا بها، الفرائض التي وضعت علينا أن نكمّلها في تربية أولادنا التربية المسيحية الصالحة مقتدين بالعذراء وبيوسف البار. ونحن الإكليريكيين عندما ننخرط في سلك الكليّة الإكليريكية التي هي المدرسة الإلهية المقامة لننمو فيها بالحكمة وليس فقط بالنعمة، ليس فقط بالقامة، بل بالحكمة والنعمة عند الله والناس. علينا أن نفتكر بعمق بصورة روحية جداً أن الكنيسة هي أمنا كنيستنا السريانية الأرثوذكسية أمنا الرؤوم وهي معلّمتنا الصالحة، هي التي تؤهّلنا للنمو بالقامة، توفّر لنا كل شيء لا نحتاج إلى أمور جسديّة أبداً. بقوْت الجسد لنموّه جسدياً فيجب أن نشكر الله على ذلك أننا نشأنا في هذه الكنيسة العريقة التي تجعلنا حقاً أن ننمو في القامة أمام الله والناس، وليس هذا فقط بل أن ننمو في الحكمة، أن نطبّق شريعة الله بالحكمة وننمو بالنعمة، أن نحاول أن نكون أبراراً أتقياء قديسين وقد افتدينا بدم المسيح يسوع وفادينا عظيم جداً وهو معنا، عمانوئيل كما كان مع يوسف البار والعذراء مريم. أن نفتكر في عقولنا ونتصوّر الحالة التي كانت فيها العذراء مريم عندما فقدت يسوع، القلق وهي تعلم أن المسيح هو الإله المتجسّد وهي تعلم الحقائق الإلهية أن السماء كانت وراء ذلك التجسّد، ونحن أيضاً وقد افتدينا بدم المسيح ونشعر أن المسيح معنا وقد نلنا قوة عظيمة عندما نشعر أنه معنا إذا فقدنا المسيح كيف تكون حالتنا، تصوّروا أننا بدون المسيح من نحن، نكون قد فقدناه لكن في الوقت نفسه قد فُقدنا روحياً وحتى جسدياً نشعر بأننا لا عون لنا من السماء أبداً، لا بد أن نعود للهيكل ونفتش عن المسيح. ما أشقى وما أتعس الأيام الثلاثة التي قضتها العذراء ويوسف في التفتيش عن المسيح. إذا فقدنا المسيح أين نجده. نذهب إلى أماكن عديدة مثلما فعلت العذراء ويوسف أولاً ولكن عندما نجيء إلى الهيكل، نحضر الصلاة، نشترك في الصلاة سنعود إلى المسيح ويعود المسيح إلينا لأنه قال للعذراء مريم: ألا تعلمان أنه ينبغي أن أكون فيما هو لأبي. فإذن إذا أردنا أن نجد المسيح بعد أن نفقده بالخطيئة إذا ما أخطأنا، إذا ما شكّ كل واحد منّا بالحقائق الإلهية، إذا ما أراد أن يتمرّغ أقول ذلك أيضاً بحكمة العالم بالأمور الدنيوية يبتعد المسيح عنا وعندما نجده في الهيكل المقدس يعود إلينا، وعندما نؤمن بالوحي الإلهي ونتمسّك بالحقائق الإلهية التي أعطتنا إياها أمنا الرؤوم ومعلمتنا الصالحة كنيستنا المقدسة العريقة في المجد والسؤدد، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية حينذاك سنجد المسيح في هيكل الرب فقط، سننال قّوة من السماء، نسلك مع المسيح لنهيّئ أنفسنا للنمو ليس فقط بالقامة بل أيضاً بالحكمة والنعمة عند الله والناس.

ليبارك الرب جميعكم أيها الأحباء إكليريكيين وعلمانيين ويؤهّلنا جميعاً للنمو أمام الله والناس بحكمة الرب ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.


الأحد الأول بعد الميلاد (2)

 

«وكان يسوع يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس»

     (لو 2: 52)

 

صمتَ الإنجيل المقدس عن ذكر تفاصيل نمو الرب يسوع بعد ولادتهِ من العذراء مريم والروح القدس، وقرائن تلك الولادة وما جرى إن كان المكان، الذي ذُكر أنهُ بيت لحم، وإن كان الزمان بحسب نبوة دانيال، وإن كان الأشخاص إلى جانب العذراء مريم ويوسف البار خطيبها، الملائكة الذين ظهروا والأناشيد التي رنموها وأخيراً أيضاً المجوس الذين جاؤوا من المشرق وقد دلهم إلى مكان ولادة الرب يسوع نجمٌ، يقول آباؤنا أن ذلك النجم كان ملاكاً من السماء وكان قد ظهر، وظهر أمام الناس خاصة أولئك المجوس حكماء المشرق، ظهر وكأنهُ نورٌوفي وسط النور صورة فتاة تحتضن طفلاً صغيراً وجاؤوا وسجدوا للرب وقدموا لهُ الهدايا ذهباً ولُباناً ومراً معترفين بلاهوتهِ وبكونهِ ملك الكون وبكونهِ الكاهن إلى الأبد وتقديم نفسهُ ذبيحة وذلك المر دلالة على الآلام التي تحمَّلها في سبيل خلاص البشرية.

قلنا أن الإنجيل المقدس صمتَ عن ذكر تفاصيل هذهِ الأمور لأن الغاية الكبرى من كتابة الإنجيل المقدس وحتى التبشير بالمسيح يسوع أن المسيح هو الله الذي ظهر بالجسد والذي جاء لرسالةٍ سامية هي خلاص البشرية، عرفنا هذا من النبوات الكثيرة التي ذُكرت عنهُ ومن الملاك الذي بشر يوسف مثلاً،ً قال لهُ عن الرب يسوع أن العذراء كانت حبلى بابنٍ وكانت أيضاً حُبلى من الروح القدس بالذات وأعطاهُ سلطان – كان الأب هو الذي لهُ السلطان أن يُسمي الطفل بأي اسم – قال الملاك جبرائيل ليوسف وتسميهِ يسوع، وكلمة يسوع تعني الله مخلِّص، فأعطاهُ سلطان أن يُسميهِ يسوع إذاًهذهِ الغاية القصوى من مجيء الرب أن الله هو الذي يُخلص، والله المخلص الله الذي ظهر بالجسد هو يسوع لأن اسمهُ يدل على وظيفتهِ ورسالتهِ السامية، هذا ما نقرأهُ في الإنجيل المقدس أيها الأحباء ونرى أيضاً في الإنجيل المقدس أن الرب يسوع الطفل الذي ظهر لنا نعمة عظيمة من السماء قيل عنهُ أنهُ كان ينمو في القامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس، كيف ينمو في الحكمة ؟ ولئن كان كطفلٍ لم تظهر حكمتهُ السامية كلها، لكن هو الحكمة بالذات وإن كان كطفل لم تظهر هذهِ النعمة وهو النعمة بالذات بل هو موزِّع النِعَم على البشركافة، لكن عندما يقول ينمو وعندما يقول أن هذهِ النِِعَم ظهرت أمام البشر، البشر لم يكونوا يدركوا هذا الشيء لكن تدريجياً ظهرت الحكمة وظهرت النعمة عندما كان يظهر كإنسانٍ و ينمو بالقامة أيضاً، فهذا الذي نقرأهُ نراهُ أيضاً عملياً أن الإنجيل المقدس كان يهمُّهُ خاصةً أن نعرف هذا الإله المتجسد الله الذي ظهر بالجسد أن نعرفهُ أنهُ هو المخلص ونؤمن بهِ أنهُ هو المخلص وهذهِ هي رسالتهُ السامية ولذلك لا يهم كتبَة الأناجيل الأربعة أن يذكروا تفاصيل نموهِ بالجسد يهمهم شيء واحد وهو أن نعرف أنهُ الله ظهر بالجسد وأنهُ جاء لخلاصنا.

نحن نعرف أن الرب يسوع كما يُخبرنا آباؤنا القديسون أنه كان ينمو كطفل، كما كان ينمو كل طفل في اليهودية ينمو ويتعلم أيضاً، ونحن ندرس أطباع أولئك الأطفال اليهود الذي كان الرب يسوع واحداً منهم، أنهُ في السادسة من عمرهِ كان يجب أن يدخل المدرسة الناموسية، المدرسة التي تكون في الهيكل ويدرس الشريعة وهو طفلٌ يتعلم القراءة والكتابة إلى أن يبلغ الثانية عشرة من عمرهِ كان يظهر أمام الرب بعد أن يكون قد اختتن عندما كان عمرهُ أربعين يوم وأصبح ضمن الشعب الذي صار لهُ عهدٌ مع الرب بالختان، فالرب يسوع أيضاً أمهُ العذراء مريم وخطيبها كانا يُكملان الناموس كما يقول الرسول بولس: وُلدَ من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني، فكمَّل الناموس اختتن في اليوم الثامن وقدِّم إلى الهيكل في اليوم الأربعين وقُدِّم عنهُ أيضاً تقدمة وهذهِ كلها يذكرها الإنجيل المقدس ونعرف أن الرب عملها، ويذكر الإنجيل المقدس أيضاً كما تليَ على مسامعكم في بدء القداس أنهُ عندما بلغ الثانية عشرة من عمره فقدهُ أبواه – يعني العذراء مريم وخطيبها – في الهيكل وهو يزور الهيكل، وعندما عادا مع الموكب الذي عاد من الهيكل بعد زيارتهِ كان النساء يسِرنَ وحدهُنّ والرجال وحدهم، ومسافة يوم كانوا يمشون على الأقدام وفي المساء كانوا يجتمعون ليستريحوا من عناء الطريق ولم يجدوا الرب يسوع، يوسف ظنَّ أنه مع أمهِ العذراء مريم، والعذراء مريم ظنت أنه مع يوسف وعادا إلى أورشليم ولمدة ثلاثة أيام فقدا الرب يسوع، ما أشقى تلك الأيام وتلك الساعات على العذراء مريم وعلى يوسف البار لِفقدهما الرب يسوع.

 ما أشقانا إن كنا نفقد الرب يسوع أيها الأحباء أو أن الرب يسوع يفقدنا لذلك نرى القلق على العذراء مريم ويوسف البار وهما يُفتشان في أورشليم عن الرب يسوع، أخيراً وجداهُ في الهيكل، عاتبتهُ العذراء مريم.. يا بنيّ كنا قلقَين أنا ويوسف أبوك، فقال لهما لماذا كنتما قلقَين ألا تعلمان أنهُ ينبغي أن أكون فيما لأبي، أي في هيكل الله فأعلن هنا الرب يسوع أنهُ ابن الله، ابن الآب السماوي وهذهِ صفةٌ سامية جداً أن يكون مخلصنا ابن الله وهو الله، بل أيضاً أن يُعطينا نعمة عظيمة أن نكون نحن أيضاً كما يُعلن الإنجيل المقدس بحسب يوحنا مولودين لا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وأصبحنا أولاد الله والرب يسوع أعطانا دالة وصفة عظيمة جداً عندما علمنا الصلاة الربية أن نقف أمام الله  ونقول أبانا الذي في السموات.

 في العهد القديم لم يكن الإنسان يُفكر ولا حتى يتجرَّأ أن يقول لله أباً لهُ نحن كلنا عبيد الرب ولكن هذهِ النعمة العظيمة أعطانا إياها الرب يسوع بأن نقول أبانا الذي في السموات وأعلن ذلك أولاً لأمهِ العذراء مريم «ألا تعلمان أنهُ ي