المنشور البطريركي الصادر بمناسبة يوبيل ال1500 عام على رقاد القديس العظيم مار يعقوب السروجي الملفان:
العـدد: 134/ 2021
ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܕܟܠ ܐܚܝܕ
ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܘܕܟܠܗ̇ ܡܕܢܚܐ
ܘܪܝܫܐ ܓܘܢܝܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܐܪܬܕܘܟܣܝܬܐ ܕܒܟܠܗ̇ ܬܒܝܠ
ܕܗܘ ܐܦܪܝܡ ܬܪܝܢܐ ܡ̄
نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى إخوتنا الأجلاء: صاحب الغبطة مار باسيليوس توماس الأوّل مفريان الهند، وأصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نواب الأبرشيات والخوارنة والقسوس والرهبان والراهبات والشمامسة الموقرين والشماسات الفاضلات، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرّمين، شملتهم العناية الربّانية بشفاعة السيّدة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل ومار يعقوب السروجي وسائر الشهداء والقدّيسين، آمين.
بعد تفقد خواطركم العزيزة، نقول:
في عصر يشبه زماننا حيث الحروب تهدّد حياة الشعوب والبدع المضلّلة تحاول اجتياح التعليم الكنسي القويم، جادت النعمة الإلهية على كنيستنا الأنطاكية السريانية بملفان عظيم هو مار يعقوب السروجي، كنّارة الروح القدس. هو الشاعر اللاهوتي الذي جذب بنقاوة فكره وجمال صوره البيانية قلوبَ المؤمنين، وسبك روائع القصائد متناولاً فيها مواضيع روحية حملت بين كلماتها معاني إنجيل السيّد المسيح وتعاليمه فتعلّق سامعوه وقارئوه بشخصه المميّز الفريد وعادوا إلى كتاباته كلّما احتاجوا إلى برهان أو حجّة تدعم صحّة عقيدتهم وتفنّد هجومات المعتدين.
واليوم، بعد مرور ألفٍ وخمسمائة عام على رقاده، يطيب لنا أن نعلن العام 2021 عامَ اليوبيل المئوي الخامس عشر للقدّيس مار يعقوب السروجي. وانطلاقًا من وصية الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين التي تحثّنا لنذكر مرشدينا الذين كلّمونا بكلمة اللّه، وأن نتأمّل بنهاية سيرتهم ونتمثّل بإيمانهم (عب13: 7)، نصدر منشورنا هذا الأبوي حاثّين إيّاكم على التأمل بسيرة القديس مار يعقوب السروجي، لنقتدي به ونتعلّم منه التشبّث بالإيمان القويم والتعليم الرسولي الصحيح.
وُلِد مار يعقوب السروجي في قرية كورتم من أعمال سروج في بلاد ما بين النهرين في سنة 451. تعلّم في مدرسة الرها حيث تمكّن من اللغة السريانية ونهل من العلوم البيعية مغذّيًا موهبة الروح القدس التي نالها بأعجوبة في صغره. ذاع خبره وكان الكثيرون يقصدونه للاستماع إلى ميامره ومواعظه التي تروي الروح الظمأى إلى الإلهيّات وتغذّي النفس التائقة إلى السماويّات. قضى حياته في نظم القصائد اللاهوتية وإلقاء الخطب التعليمية التي من شأنها أن تثبّت إيمان سامعيه وتبيّن لهم الرأي القويم ليسلكوا في جدّة الأرثوذكسيّة ويسيروا باتّجاه الكمال الإنجيلي الذي يسعى إلى بلوغه المؤمنون كافة. ولكنّه كان دائمًا يحثّ الناس على عدم السعي وراء المباحثات اللاهوتية التي تثير الشكوك، بل على قبول الإيمان بمحبّة وبساطة دون شكّ أو بحث أو تمحيص. فكتب في هذا المجال ميامر عديدة عن الإيمان، جاء في مطلع أحدها:
ܐܰܚ̈ܰܝ ܢܶܥܪܽܘܩ ܡܶܢ ܟܰܣܝ̈ܳܬܐ ܕܠܐ ܡܶܬܒܰܨܝ̈ܳܢ܆ ܘܢܶܬܶܠ ܫܽܘܒܚܐ ܥܰܠ ܓܰܠܝ̈ܳܬܐ ܕܠܐ ܡܶܬܕܰܪ̈ܟܳܢ.
ܣܰܡܐ ܕܡܰܘܬܐ ܐܺܝܬ ܒܰܒܨܳܬܐ ܠܰܕܩܳܪܶܒ ܠܳܗ̇܆ ܘܢܽܘܗܪܐ ܘܚܰܝ̈ܶܐ ܒܗܰܝܡܳܢܽܘܬܐ ܠܰܕܪܳܚܶܡ ܠܳܗ̇܀
ܡܶܢ ܥܽܘܩܳܒܐ ܢܳܒܥܺܝܢ ܬܽܘ̈ܟܶܐ ܠܰܕܗܳܪܶܓ ܒܶܗ܆ ܡܶܢ ܚܽܘܒܐ ܕܶܝܢ ܟܽܠ ܝܽܘܬܪܳܢܐ ܠܰܕܩܳܪܶܒ ܠܶܗ.
ܒܨܳܬܐ ܒܢܰܦܫܐ ܐܰܝܟ ܒܶܠܛܺܝܬܐ ܒܩܰܝܣܐ ܪܰܡܝܐ܆ ܘܰܡܚܰܒܠܐ ܠܳܗ̇ ܬܰܘܒܶܕ ܫܽܘܦܪ̈ܶܝܗ̇ ܪ̈ܽܘܚܳܢܳܝܶܐ܀ (ܡܐܡܪܐ ܨܕ)
وترجمتها: “إخوتي، فلنبتعد من الخفايا التي لا تُفحَص، ونصعد المجد من أجل الأمور الظاهرة التي لا تُدرَك.
يوجد في البحث سمُ الموت لمَن يدنو منه، وأمّا الإيمان ففيه نورٌ وحياةٌ لمَن يحبّه.
تنبع الأضرار من التمحيص لمَن يتعمّق، وأمّا المحبّة فتفيض فائدةً لمَن يدنو منها.
إنّ البحث هو في النفس كالسوس الذي ينخر الخشب، ويفسدها فتخسر مفاتنها الروحية”.
سيم مار يعقوب السروجي كاهنًا في العام 503 وعُيّن زائرًا (بريودوطا) على الأديرة. فطاف يعلّم الرهبان في الأديرة، فكان كاتبوه (ومنهم حبيب الرهاوي والناسك دانيال) يكتبون قصائده التي بلغ عددها السبعمائة وستين قصيدة على الوزن الإثني عشري الذي امتاز به القديس حتّى عُرِف هذا الوزن الشعري بالـ”سروجي” نسبةً إليه. وكان عالي الهمّة في بيان الحقائق الإيمانية للرهبان ومحاربة الأضاليل داحضًا الهرطقات بالدليل الكتابيّ ومستخدمًا الشعر وسيلةً لإيصال فكر لاهوتيّ صافٍ وصريح. فأسبغت النعمة الإلهية عليه بالإلهام حتّى فاض لسانه بالتعليم وأصبح ينبوع حكمة وتقوى.
وفي عام 519، رُسِم أسقفًا على بطنان سروج وهي إحدى الأسقفيات التابعة لأبرشية الرها وهو في عمر متقدّم. فخدم هذه الرتبة زمنًا قليلاً مدّته فقط سنة وأحد عشر شهرًا، قبل أن ينتقل من هذا العالم في 29 تشرين الثاني من العام 521 فأصبحت الكنيسة تعيّد له في هذا اليوم. ونُقل جزء من رفاته إلى هيكل خاص بجوار كنيسة السيّدة العذراء في دياربكر.
كتب عنه المؤرّخون يصفون العصر الذي عاش فيه، وخاصة الحرب التي كانت قائمة بين الفرس والروم سنة 503 والتي أثارت الخوف عند شعب المشرق فطفقوا يتركون أرضهم ويهاجرون. عندئذ، انكبّ مار يعقوب السروجي على كتابة الرسائل لتشجيع الناس على البقاء في أرضهم والتمسّك بها داعيًا إيّاهم أن يتحلّوا بالثقة ويتّكلوا على العناية الإلهية التي لا تتركهم ولا تهمل معاناتهم وآلامهم في وقت الضيق. وما أكبر الحاجة اليوم إلى التمعّن في فكر مار يعقوب السروجي لنتعلّم منه التعلّق بأرض الآباء والأجداد وننهل منه القيم الوطنية التي تساعدنا على النظر إلى أبعد من الضيقات التي نعيشها فنتحمّل الاضطهادات دون مساومة أو تراجع.
أجل، كان القديس مار يعقوب السروجي لاهوتيًا عظيمًا ومفسّرًا قديرًا للكتاب المقدس. له فضل عميم في إغناء كنيستنا وتراثها السرياني بميامره التي لا تزال الكنيسة تنشدها وتستشفّ منها روعة الإيمان وعمق اللاهوت. وقد تعلّق كثيرًا بالكتاب المقدّس فذكر في إحدى قصائده الغنى الكبير الكامن في أسفاره، حيث قال:
ܟܬܳܒ̈ܶܐ ܛܥܺܝܢܺܝܢ ܥܽܘܬܪ̈ܰܝܟ ܡܳܪܰܢ ܠܰܡܦܰܠܳܓܽܘ܆ ܗܰܒܠܺܝ ܐܶܣܰܒ ܡܶܢ ܓܰܙܰܝ̈ܗܽܘܢ ܟܽܠ ܣܺܝ̈ܡܳܬܐ.
ܒܰܝܢܳܬ ܣܶܦܪ̈ܶܐ ܕܰܢܒܺܝܽܘܬܐ ܛܡܺܝܪ ܝܽܘܠܦܳܢܐ܆ ܘܰܐܝܟ ܣܺܝ̈ܡܳܬܐ ܒܰܐܪܥܐ ܡܛܰܫܰܝ ܡܶܢ ܙܰܠܺܝ̈ܠܶܐ܀ (ܡܐܡܪܐ ܦܒ)
وترجمتها: ربّنا، إنّ الكتب تحمل ثرواتك للتوزيع، فأعطني أن أغرف من خزائنها كلّ الكنوز،
فالعلم مطمور بين أسفار النبوة، وكالكنوز مخبّأ في الأرض من الدنسين.
أيّها الأحبّاء،
بمناسبة هذا اليوبيل، ستقوم البطريركية بنشر الكتب التي تتناول سيرة هذا القدّيس العظيم وأرثوذكسيّته فضلاً عن المقالات التي تستحقّ أن تكون في متناول الباحثين. كما نحثّ جميع أبرشيّاتنا في العالم على تنظيم المؤتمرات العلميّة والندوات الثقافية واللقاءات الدراسية التي نأمل أن تتناول سيرة مار يعقوب السروجي ومؤلفاته النفيسة فتبرز مساهمته في إغناء تراثنا السرياني الروحي العريق بل التراث الأدبي المسيحي القديم على وجه العموم وأهميّة هذا التراث الروحي لعالمنا اليوم.
نشكر اللّـه الذي يتفقّد كنيسته برحمته فيقيم فيها رعاة صالحين كصاحب الذكرى القديس مار يعقوب السروجي الملفان ليرعوا خرافه الرعاية الصالحة ويعطوا المؤمنين باسمه طعامهم الروحي في حينه. هؤلاء هم الآباء القدّيسون الذين عاشوا كما يحقّ لإنجيل المسيح وجاهدوا الجهاد الحسن محافظين على الإيمان ومحتملين المشقّات والضيقات. نصلّي ضارعين إلى الله أن يكون إحياء هذا اليوبيل سبب بركةٍ لكم جميعًا بشفاعة السيدة العذراء مريم ومار يعقوب السروجي والشهداء والقديسين كافّةً، ونعمة الربّ تشملكم دائمًا أبدًا آمين. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق
في الرابع من شهر شباط سنة ألفين وإحدى وعشرين
وهي السنة السابعة لبطريركيتنا