2020 – «ليكونوا واحدًا»

العـدد : 165 / 2020

 

ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܕܟܠ ܐܚܝܕ

ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܘܕܟܠܗ̇ ܡܕܢܚܐ

ܘܪܝܫܐ ܓܘܢܝܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܐܪܬܕܘܟܣܝܬܐ ܕܒܟܠܗ̇ ܬܒܝܠ

ܕܗܘ ܐܦܪܝܡ ܬܪܝܢܐ ܡ̄

 

نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى إخوتنا الأجلاء: صاحب الغبطة مار باسيليوس توماس الأوّل مفريان الهند، وأصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نواب الأبرشيات والخوارنة والقسوس والرهبان والراهبات والشمامسة الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرّمين، شملتهم العناية الربّانية بشفاعة السيّدة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الشهداء والقدّيسين، آمين.

 

«ليكونوا واحدًا» (يو 17: 21)

 

بعد تفقد خواطركم العزيزة، نقول:

 

صلاة يسوع من أجل وحدة المؤمنين به

عند جبل الزيتون، رفع ربّنا يسوع المسيح صلاته الأخيرة ليلة آلامه إلى الآب مناجيًا من أجل تلاميذه: “ليكونوا واحدًا” (يو 17: 21)، وخاطب الابنُ الآبَ بحوار داخليّ لأقانيم الثالوث الأقدس حيث بدأ يكمل خضوعه للآب مظهرًا محبّته للبشر ومطبّقًا ما علّمه لتلاميذه أن “ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبّائه” (يو 15: 13). وعملًا بوصيّة الربّ يسوع بأن يكونوا واحدًا كما هو والآب واحد (را يو 17: 22)، ظلّ الرسل متّحدين مع بعضهم البعض في الإيمان الواحد، بحسب قول الرسول بولس: “جسد واحد وروح واحد… ربّ واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله وآب واحد للكلّ، الذي على الكلّ وبالكلّ وفي كلّكم” (أف 4: 4-6).

في الصلوات التي نرتّلها في عيد التجلي بحسب طقسنا السرياني العريق، نقرأ من ميامر مار يعقوب السروجي، ملفان الكنيسة، حول وحدة الكنيسة، فيقول: “ܐܰܠܦܶܗ ܐܰܒܐ ܒܰܚܕܐ ܡܛܰܠܠܬܐ ܕܢܽܘܗܪܐ ܕܰܥܒܰܕ܆ ܕܰܚܕܐ ܗ̱ܝ ܥܺܕܬܐ ܘܚܰܕ ܗ̱ܽܘ ܝܰܠܕܐ ܕܡܶܫܬܰܡܰܫ ܒܳܗ̇: ܠܐ ܗܘܳܐ ܡܛܰܠ̈ܠܶܐ ܐܶܠܐ ܡܛܰܠܠܬܐ ܠܚܰܕ ܝܺܚܺܝܕܐ܆ ܘܠܐ ܥܺܕ̈ܳܬܐ ܐܶܠܐ ܥܺܕܬܐ ܠܒܰܪ ܐܰܠܳܗܐ” وترجمتها: “علّم الآبُ (بطرسَ) من خلال الخيمة الواحدة التي صنعها، أنّ الكنيسة واحدةٌ والإبن واحدٌ يُخدَم فيها، فلم يصنع مظالاً بل مظلّة واحدةً لوحيده، وليس كنائس بل كنيسة لابن الله”. بالفعل، هذه الكلمات الحكيمة التي تنطق بوحدة الكنيسة من خلال الأحداث التي جرت في قصّة تجلّي الربّ، تؤكّد أنّ الكنيسة لطالما سعت خلف الوحدة. وكذلك، تعكس اهتمامات آباء الكنيسة بالوحدة وكم رأوا حاجتها الحيوية من أجل حياة الكنيسة.

لقد حذّر الرسول بولس المؤمنين من الانقسامات، ونبّههم قائلًا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “ولكنني أطلب إليكم، أيّها الإخوة، باسم ربّنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا: ولا يكون بينكم انشقاقات بل كونوا جميعكم كاملين، في فكر واحد ورأي واحد” (1 كور 1: 10). فالفكر الواحد والرأي الواحد هو نتيجة عمل الروح القدس في الأفراد والجماعة عبر مواهبه التي تجعل الكثيرين واحدًا، كحال الرسل يوم الخمسين (العنصرة) حين حلّ الروح القدس عليهم بشبه ألسنة ناريّة التي، رغم تعدّدها، وحّدت الرسل والتلاميذ وجمعتهم، بخلاف ما حدث في بابل حيث بلبل الله لغة البشر وشتّتهم (را تك 11: 5-9).

وحدة الإيمان

بزغ فجر المسيحية التي انطلقت غير آبهةٍ بالاضطهادات، بل مستمدّةً القوّة والصبر على المشقّات من نعمة الله التي كانت تملأ المؤمنين، تشجّعهم وتعضدهم في كلّ الظروف، لا سيما عند اشتداد الضيقات. فكانت وحدتهم سبب قوّتهم ومصدر احتمالهم. وحدة الإيمان إذًا تجعل الكنيسة واحدة ويشترك أبناؤها بالأسرار كعلامة شركتهم واتّحادهم الروحيّ في الجسد الواحد الذي هو الكنيسة.

الوحدة في المسيح يسوع

تتجلّى هذه الوحدة في الكنيسة بعمق محبّة الخدّام الروحيّين والمؤمنين للسيّد المسيح والطاعة الكاملة لوصايا الإنجيل المقدّس. بالتالي، وحدة الكنيسة المبنيّة على العلاقة الصحيحة بالسيّد المسيح تُبعد الكنيسة عن الخصومات بين المؤمنين بسبب انتماءاتهم أو تحزّبات، التي غالبًا ما تستفحل بسبب تعاليم جديدة أو أفكار وإيديولوجيّات تخالف ما جاء به إنجيل السيّد المسيح وتعليم الرسل والآباء. وبالتالي، تصبح الكنيسة منبرًا لبولس أو لأبولس (را 1 كور 1: 12).

صليب السيّد المسيح رمز وحدة المؤمنين

ويبقى صليب المسيح هو الرمز الأقوى للوحدة، إذ توحّد جميع الرسل والتلاميذ بل البشرية جمعاء تحت لواء الفداء أي العمل الخلاصي العظيم الذي تمّ على ذروة الصليب. وقد أشار مار بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس إلى أهميّة الصليب في تأكيد وحدتهم حين كتب لهم: “ألعلّ بولس صُلِب لأجلكم أم باسم بولس اعتمدتم” (1 كور 1: 13). من هنا، فهم المسيحيّون أنّ صليب المسيح يوحّدهم بما يشير إليه من تضحية ومحبّة وفداء فريد لا مثيل له.

بالرغم من الضيقات، قويت الكنيسة الواحدة الجامعة في العصر الرسولي إذ اتّخذت لها الصليب رايةً فاحتضنت تحت لوائها جميع الذين اقتبلوا المسيح لهم مخلّصًا من كلّ الشعوب والأمم. فلم يعد هناك “يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى لأنّكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع (غلا 3: 28). وهكذا نرى مار إغناطيوس النوراني، ثالث بطاركة أنطاكية، يوحّد الكنيسة التي كادت أن تصير معسكرَيْن منفصلَيْن، واحد لليهود المتنصّرين وآخر للوثنيّين الذين قبلوا المسيح، وأطلق عليها لقب “الكنيسة الجامعة” لأنّها توحّد تحت كنفها الأعراق كلّها بدون تمييز، وهي منفتحة على الكلّ وتقدّم الخلاص للجميع دون تفرقة. من هنا، نعلم أهميّة تعليم الربّ يسوع: “أن تكون رعية واحدة وراعٍ واحد” (يو10: 16).

الانقسامات في الكنيسة

واستمرّت هذه الشهادة اللامعة لإنجيل المسيح تنمو في بلاد الشرق القديمة، حتّى جاء يوم اختلف فيه المؤمنون حول أمور عديدة – منها عقائدية ومنها سياسية، ممّا أدّى إلى نشوء خصومات أوجد فيها الشرّ مجالًا ليقسّم الكنيسة ويشكّك المؤمنين ويشتّت وحدتهم. وقد تسرّبت حينها إلى الكنيسة تعاليم عديدة غريبة حاولت إبعاد المؤمنين عن الإيمان الرسولي القويم، فلم تثبت وحدة الكنيسة بل كادت الكنيسة أن تصبح “مملكة منقسمة على ذاتها” (را متى 12: 25)، لولا العناية الإلهية ونعمة الله التي حافظت على الكنيسة رغم الانقسام الذي ضربها ورغم الهوّة الكبيرة التي جعلت المسيحيّين يحاربون بعضهم البعض.

مقوّمات الوحدة

ما أبسط مفهوم الوحدة! وما أصعب الحفاظ عليه بين البشر وتحقيقه بعد انقسام! من أهمّ متطلّبات الوحدة في الكنيسة المحبّة. وبالحقيقة، لا يمكن للكنيسة أن تستمرّ وأبناؤها منقسمون؛ فالربّ يسوع يتألّم لانقسامنا ويريدنا أن “نكون واحدًا” (را يو 17: 21). بالتواضع والمحبّة اللذين بواسطتهما نجتمع تحت راية المسيح، يمكننا أن نعمل سويّة لإزالة أي خلاف أو اختلاف، فنرفع قلوبنا معًا في الروح الواحد نحو الربّ الإله. وبالتالي، يصبح المؤمنون بحقّ “جسد المسيح، وأعضاؤه أفرادًا” (را 1 كور 12: 27). فالمحبّة الناتجة عن الإيمان بالربّ يسوع تستطيع التضحية من أجل الآخرين وتعرف أنّه “إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمُتْ، فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير” (يو 12: 24). وهكذا، إذا ضحّى المؤمنون في سبيل وحدة الكنيسة، ودفنوا في الأرض الروحيّة كلّ مكر وكبرياء وحبّ الذات، فسينعمون بثمار الروح التي هي محبّة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان (غلا 5: 22) فتبقى الكنيسة واحدة، وتعليمها الواحد يزهر ويثمر للأجيال أبناءً وقدّيسين.

العمل من أجل وحدة الكنيسة

منذ الانقسامات الأولى في الكنيسة ورغم الاضطهاد الذي حلّ بسببها بكنيستنا السريانية الأرثوذكسية، لم تألُ هذه الكنيسة جهدًا في الدعوة إلى والعمل على وحدة المسيحيين. ولعلّ رحلة القديس البطريرك مار سويريوس الكبير إلى القسطنطينية من أجل التباحث في لمّ شأن المسيحيين وما كتبه العلامة القديس مار غريغوريوس ابن العبري حول الانشقاق في الكنيسة الذي وصفه بالخلاف اللفظي ودعوته إلى الوحدة دليل كافٍ على هذه الجهود. وفي هذه العقود الأخيرة تسامت كنيستنا على الجروح التاريخية القديمة، وانفتحت بصدق نحو الكنائس الشقيقة وتعاونت معها على غير صعيد وخاصة في المجال الرعوي. إنّ إنجاز الوحدة بين الكنائس السريانية المشترِكة باللغة والتراث، يبقى هاجسًا قويًّا لنا. نأمل أن تعود هذه الكنائس إلى وحدة الإيمان والشهادة كما كانت في القرون الأولى للمسيحية.

نشكر الله أنّ الكنيسة اليوم متّحدة في الصلاة من أجل سلام العالم وخدمة الإنسانية. وبهذه الوحدة، رفع ويرفع المؤمنون من كنائس العالم بمشرقه ومغربه الصلاة من أجل مطراني حلب المخطوفين بولس يازجي ومار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، ومن أجل عودتهما إلى أبرشيتيهما، وذلك منذ اختطافهما وحتّى الآن. واليوم أيضًا نصلّي من أجلهما ونكرّر مناشدة جميع أصحاب النفوذ والقرار أن يعملوا ما بوسعهم من أجل عودتهما سالمَيْن.

أيّها الأحبّاء بالربّ،

في مستهلّ الصوم الأربعيني المقدّس وخلاله، وفيما نتأمّل بوحدة الكنيسة التي هي جسد المسيح، ندعوكم أن تسلكوا في الروح من خلال التوبة النصوح والصلاة الحارّة وقراءة الكتاب المقدّس وعمل الخير والخدمة والشهادة للمسيح معًا. كما ندعوكم للصلاة من أجل الحفاظ على وحدة كنيستنا السريانية الأرثوذكسية المقدّسة وإظهارها كعلامة قوّتنا وطاعتنا لله، ناظرين إلى تخطّي العثرات التي من شأنها إضعاف الكنيسة، مذلّلين كلّ عقبة يرميها الشرير أمامنا لتقسيمنا، وشاخصين برجاء للسلام والوئام والبنيان الناتج عن الوحدة، مصلّين وعاملين من أجل وحدة الكنيسة المسيحية جمعاء.

تقبّل الله صومكم وتوبتكم وصلواتكم وصدقاتكم، وأهّلنا جميعًا لنبتهج بعيد قيامته، بشفاعة السيّدة القدّيسة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الشهداء والقدّيسين، وكلّ عامٍ وأنتم بخير. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.

 

                                            صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق

                                                  في السابع والعشرين من شهر شباط سنة ألفين وعشرين

                                      وهي السنة السادسة لبطريركيتنا