2019 – «مَنْ عَمِلَ وعَلَّمَ، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السَّماواتِ»

العـدد: 173 / 2019

 

ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܕܟܠ ܐܚܝܕ

ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܘܕܟܠܗ̇ ܡܕܢܚܐ

ܘܪܝܫܐ ܓܘܢܝܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ ܐܪܬܕܘܟܣܝܬܐ ܕܒܟܠܗ̇ ܬܒܝܠ

ܕܗܘ ܐܦܪܝܡ ܬܪܝܢܐ ܡ̄

 

 

 

نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى إخوتنا الأجلاء: صاحب الغبطة مار باسيليوس توماس الأوّل مفريان الهند، وأصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نواب الأبرشيات والخوارنة والقسوس والرهبان والراهبات والشمامسة الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرّمين، شملتهم العناية الربّانية بشفاعة السيّدة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الشهداء والقدّيسين، آمين.

 

«مَنْ عَمِلَ وعَلَّمَ، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السَّماواتِ» (مت 5: 19)

 

  • مقدّمة: الكنيسة شعب الله الجديد

بعد تفقد خواطركم العزيزة، نقول:

تقف الكنيسة المشمولة برحمة الله العلي أمام مشهد العظة على الجبل متأمّلةً منتظرةً عريسها الآتي بعهدٍ أبديٍّ ليخطبها لنفسه، فتتذكّر موسى النازل من جبل سيناء وفي يده العهدُ منقوشًا على لوحَين حجريَّين داعيًا الشعب العبرانيّ ليكون جماعة مختارة لله؛ ولكنّ الشعب “الصلبَ الرقبة” (خر 32: 9) لم ينتظر موسى بل أخذ يلهو ويرقص أمام عجلٍ ذهبيٍّ هو صنعه لنفسه إلهًا. أمّا الكنيسة – “شعب الله الجديد” – فتسجد أمام المصلوب ليؤهّلها الله بنعمته لتكون له عروسًا “كنيسَةً مَجيدَةً، لا دَنَسَ فيها ولا غَضنَ أو شَيءٌ مِنْ مِثلِ ذلك، بل تكونُ مُقَدَّسَةً وبلا عَيبٍ” (أف 5: 27). وهناك، عند جبل التطويبات، تستلم الكنيسة من عريسها التعاليم الإلهية بصورتها الأكمل، فهو لم يأتِ لينقض بل ليكمّل (را مت 5: 17)؛ وهناك أيضًا يوصي الربّ كنيسته قائلاً: “مَنْ نَقَضَ إحدَى هذِهِ الوَصايا الصُّغرَى وعَلَّمَ النَّاسَ هكَذا، يُدعَى أصغَرَ في ملكوتِ السَّماواتِ. وأمّا مَنْ عَمِلَ وعَلَّمَ، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السَّماواتِ” (مت 5: 19). هكذا إنّه يدعوها دعوةً لها بُعدان تلخّص رسالتها السماوية: وهما التعليم والعمل.

  • الكنيسة مؤتمنة على التعليم القويم

الكنيسة، جسد المسيح وهيكل روح قدسه، هي المؤتمنة على حفظ وديعة الإيمان ونقلها من جيلٍ إلى جيلٍ؛ فهناك على الجبل، يسجد للربّ الأحد عشر تلميذًا بعد القيامة، ويستلمون منه الأمانة: “اذهَبوا وتلمِذوا جميعَ الأُمَمِ وعَمّدوهُمْ باسمِ الآبِ والِابنِ والرّوحِ القُدُسِ. وعَلّموهُمْ أنْ يَحفَظوا جميعَ ما أوصَيتُكُمْ بهِ. وها أنا معكُمْ كُلَّ الأيّامِ إلى انقِضاءِ الدَّهرِ” (مت 28: 19-20).

وبعد أن أرسل الابنُ لهم المعزّيَ، روحَ الحقِّ، المنبثق من عند الآب، انطلق الرسلُ حاملين الإنجيل، البشرى السارة، إلى كلّ أصقاع الأرض، كقول المزمور: “في كُلِّ الأرضِ خرجَ مَنطِقُهُمْ، وإلَى أقصَى المَسكونَةِ كلماتُهُمْ” (مز 19: 5). هذا ما تؤكّده الكنيسة في ترنيمةٍ نرتّلها في كلّ قدّاسٍ إلهيّ قبل القراءة العامّة: “ܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܓܒܰܝ̈ܳܐ ܕܶܐܫܬܰܕܰܪܘ ܡܶܢ ܐܰܠܳܗܳܐ ܠܥܳܠܡܳܐ ܟܽܠܶܗ…” وترجمتها: “إنّ الرسلَ المختارين الذين أُرسلوا من الله إلى كلّ العالم، وخرجوا يكرزون بشارة الابن بين الشعوب وأقاصي الأرض، بشّروا بملكوت السماوات قائلين: طوبى للذين يؤمنون”.

التعليم الصحيح إذًا يؤخذ فقط من الكنيسة، الأمر الذي يؤكّده مار بولس الرسول بشديد اللهجة والعبارة قائلاً: “إنْ بَشَّرناكُمْ نَحنُ أو مَلاكٌ مِنَ السَّماءِ بغَيرِ ما بَشَّرناكُمْ، فليَكُنْ ’أناثيما‘” (غل 1: 8). وإذ إنّ المسيح أكّد لرسله بأنّه ليس معهم فقط، بل مع جميع الذين يؤمنون باسمه بسببهم ومن بعدهم إلى انقضاء الدهر (را مت 28: 20)، وحيث أنّه لا بدّ من تأمين عمل الكنيسةِ الرسولي بالمحافظة على الإيمان الحقّ، وَجَبَ أن ينتخب هؤلاء الرسلُ أساقفةً خلفاءَ لهم يعتنون بكنيسة الله (را 1 تيم 3: 5)، ويختاروا شيوخًا أي كهنةً وكذلك شمامسةً يعاونونهم.

  • الأسقف معلّم الكنيسة:

“حيث يكون الأسقف، هناك تكون الكنيسة؛ كما أنّه حيث يكون المسيح، هناك تكون الكنيسة الجامعة”: بهذه العبارة يحدّد مار إغناطيوس النوراني – ثاني خلفاء مار بطرس وثالث بطاركة أنطاكية – في رسالته إلى الكنيسة في إزمير إطارَ العلاقة بين الأسقف والرعية، موجّهًا الرعية للالتفاف حول الأسقف ومعه الشيوخ والشمامسة. ويشدّد القدّيس على المسؤولية الموكلة للأسقف مؤكّدًا “أنّ شيئًا يتعلّق بالكنيسة لا يجب أن يُعمَل بدون إرادة الأسقف”.

يقول مار بولس الرسول عن الأسقف: “يَجِبُ أنْ يكونَ الأُسقُفُ: بلا لومٍ كوَكيلِ اللهِ، غَيرَ مُعجِبٍ بنَفسِهِ، … مُلازِمًا للكَلِمَةِ الصّادِقَةِ الَّتي بحَسَبِ التَّعليمِ، لكَيْ يكونَ قادِرًا أنْ يَعِظَ بالتَّعليمِ الصَّحيحِ ويوَبِّخَ المُناقِضينَ” (تي 1: 7-9). يُدرك مار بولس أنّ تعليم الأسقف ووعظه لا يمكن أن يكون فعّالاً إن لم يكن الأسقف نفسه ملازمًا للكلمة الصادقة ومختبرًا لمفاعيلها؛ فعليه، كمعلّمٍ للكنيسة، أن يعرف ويختبر المسيح وقوّة قيامته وشركة آلامه، وأن يعظ بهذا التعليم داعيًا الرعية إلى التعلّم من المعلّم الصالح (را في 3: 10). في الحقيقة، إنّ الأسقف – وكذلك الكاهن – لا يمكنه أن يكون معلّمًا ولا قدوةً للمؤمنين إلاّ بالسيرة الحسنة والمثل الصالح، لأنّ “الإنسان الصّالِح مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصّلاحَ” (لو 6: 45).

يجب علينا نحن الإكليروس – بدرجاتنا المختلفة – أن نكون حُماةً للإيمان القويم، معلّمين للرعية وساهرين على خلاصها، خادمين كلّ عضوٍ فيها بكلّ تفانٍ ومحبّة، وكارزين بالكلمة في وقتٍ مناسبٍ وغير مناسبٍ، موبّخين ومنتهرين وواعظين بكلّ أناةٍ وتعليمٍ (را 2 تيم 4: 2). ولكن، لا يغيبنّ عن بالنا لحظةً أنّ تعليمنا – ولئن كان نابعًا من إيماننا – لا ينفعنا ولا يقدر أن يخلّصنا، إن لم يقترن بأعمال صالحة تمجّد اسم الله القدّوس (را يع 2: 14 و17).

  • التعليم المقترن بالعمل

يدعو الربّ يسوع الكنيسةَ، بإكليروسها وأبنائها كافّةً، لتكون معلّمةً وعاملةً، ففي ذلك عمق التعبير عن محبّتها له وإيمانها به إيمانًا عاملاً بالمحبة (را غلا 5: 6). في الواقع، إنّ الكنيسة تتعلّم من معلّمها وتقتدي به، فهو المعلّم الإلهي الصالح الذي “كانَ يَطوفُ المُدُنَ كُلَّها والقرَى يُعَلّمُ في مجامعِها، ويَكرِزُ ببِشارَةِ الملكوتِ، ويَشفي كُلَّ مَرَضٍ وكُلَّ ضُعفٍ في الشَّعبِ” (مت 9: 35). ورغم الاضطهاد والرفض والتآمر، فقد كان جوابه صريحًا: “أبي يَعمَلُ حتَّى الآنَ وأنا أعمَلُ” (يو 5: 17). الكنيسة مدعوّةٌ إذًا لأن تعيش ملكوت السماوات على الأرض، وكلّ عضوٍ فيها مدعوٌّ ليكون تلميذًا للربّ، معلّمًا وعاملاً بوصاياه لأنّ “مَنْ عَمِلَ وعَلَّمَ، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوتِ السَّماواتِ” (مت 5: 19). والعمل الكنسي برمّته يهدينا إلى بنيان الكنيسة وتحقيق ملكوت الله بين الناس.

أيّها الأحبّاء، من بين هؤلاء التلاميذ للمعلّم الإلهي، أي الأساقفة المعلّمين والعاملين في كرمه، نتذكّر هذه السنة مثلّثي الرحمة المطرانَين مار فيلوكسينوس يوحنا دولباني مطران ماردين ومار غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد، بمناسبة مرور خمسين عامًا على انتقالهما إلى الخدور السماوية (1969-2019).

  • مار فيلوكسينوس يوحنا دولباني مثالاً للعمل الرسولي

وُلد مار فيلوكسينوس يوحنا دولباني في ماردين عام 1885، وعاش راهبًا ناسكًا عاكفًا على العبادة وممارسًا أعمال النسك والتقشّف. أوكِلَت إليه العديد من الخدمات التعليمية والإدارية داخل الكنيسة، ومن المعروف عنه أنّه كان يعتني بالفقراء والأيتام والمحتاجين على الدوام. وفي عام 1933، عيّنه المثلّث الرحمات البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأوّل برصوم نائبًا بطريركيًّا لأبرشية ماردين ودير الزعفران وتوابعهما، ثمّ رسمه سنة 1947 مطرانًا لأبرشية ماردين؛ فأدّى واجبه الأسقفي والرعائي بكلّ أمانةٍ واستقامةٍ، جاعلاً نفسه مثالاً للقداسة والتقوى في وقت عاش فيه المؤمنون أهوال الحربَيْن العالميّتَيْن الأولى والثانية. كما انصرف إلى التأليف والتصنيف والوعظ، دون أن يتخلّى عن حياة النسك والتقشف ومساعدة الفقراء التي دأب عليها منذ صباه، إلى أن انتقل إلى الأمجاد السماوية عام 1969، تاركًا مؤلّفاتٍ عديدة تربو على الخمسين كتابًا باللغات السريانية والعربية والتركية.

  • مار غريغوريوس بولس بهنام: مثال المعلّم الرسولي

وُلِد مار غريغوريوس بولس بهنام في قره قوش – العراق سنة 1916، ودرس اللاهوت والفلسفة، وعُيّن مديرًا لمدرسة مار أفرام اللاهوتية في الموصل عام 1945. اهتمّ بالعلم كثيرًا، فأصدر مجلّتي المشرق ولسان المشرق حيث دبّج فيها مقالاتٍ قيّمةً في الأدب والفلسفة واللاهوت والتاريخ الكنسي. وفي سنة 1951، أنعم عليه المثلّث الرحمات البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأوّل برصوم برتبة “ملفان” على أثر الأطروحة التي قدّمها إليه في موضوع علم النفس لدى مار سويريوس موسى بن كيفا الفيلسوف السرياني (903+)، ورسمه في العام التالي مطرانًا للموصل. وفي سنة 1959، حصل على منحة دراسية من إكليريكية الاتحاد اللاهوتية في نيويورك، فصرف فيها سنة دراسية، معرّجًا في طريق عودته منها على بعض البلاد الغربية حيث أمضى ثلاثة أشهر بين المكتبات والمؤسسات الدينية والعلمية. وفي عام 1960، نُقلَتْ خدماته إلى أبرشية بغداد ليكون أوّل مطران لها بعد اندثارها في القرن الثالث عشر. وتوفي عام 1969، تاركًا مؤلّفاتٍ عديدة في التاريخ والأدب السرياني واللاهوت والفلسفة.

فيما نذكر هذَين العلمَين العملاقَين من أعلام السريان في القرن العشرين، نوصيكم بإقامة الصلوات والقداديس تذكارًا لهما وراحةً لنفسَيهما. وإذ نتذكّر سيرتَيهما، نذكر الظروف التي عاصراها – وما أشبهها بزماننا – ونستذكر كيف عاشا وكيف جاهدا الجهاد الحسن، فنحثّكم على الاقتداء بسيرتَيْهما، سائلين الله أن يمنحنا من الخصال والمواهب الروحية التي أغدق بها عليهما، وأن يجعل الحكمة والغيرة من نصيبنا جميعًا، فتنعم كنائسنا وبلادنا بالسلام الموعود، خاصّةً في شرقنا المعذّب. وفيما نحتفي بتذكار المطرانَين يوحنا (دولباني) وبولس (بهنام)، نصلّي لحبيبَينا مطرانَي حلب المخطوفَين يوحنا (إبراهيم) وبولس (يازجي)، عسى الله يثلج قلوبنا بعودتهما سالمَين.

  • الخاتمة

ونحن نهمّ بدخول الصوم الأربعيني المقدّس، وفيما نتأمّل بعظمة دعوة الكنيسة الخادمة للإنجيل علمًا وعملاً، نصلّي إلى الربّ الإله مع ملفان الكنيسة مار أفرام السرياني قائلين: “ܐܰܠܳܗܐ ܗܰܒ ܝܽܘܠܦܳܢܐ ܠܰܐܝܢܐ ܕܪܳܚܶܡ ܝܽܘܠܦܳܢܐ܆ ܘܰܠܪܰܒܐ ܕܡܰܠܶܦ ܫܰܦܺܝܪ ܥܒܶܕܳܝܗ̱ܝ ܪܰܒܐ ܒܡܰܠܟܽܘܬܳܟ: إمنح، اللهمّ، العلمَ لمَن يحبّ العلم، والمعلّم الذي يعلّم حسنًا إجعلْه عظيمًا في ملكوتكَ”. ليتقبّل الله صومكم وتوبتكم وصلواتكم وصدقاتكم، ويؤهِّلكم لتبتهجوا بعيد قيامته المقدّسة ببهجةٍ وسرورٍ وصحّةٍ تامّةٍ، ويرحم أمواتكم المؤمنين، بشفاعة السيّدة القدّيسة العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الشهداء والقدّيسين، وكلّ عامٍ وأنتم بخير. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.

 

 

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق

في الأول من شهر آذار سنة ألفين وتسعة عشر

وهي السنة الخامسة لبطريركيتنا