أين تقضي الأبدية
«ثم يقول الملك (المسيح) للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم… ثم يقول للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته… فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبديّ والأبرار إلى حياة أبدية» (مت 25: 34 و 41 و 46)
يميط لنا الإنجيل المقدس اللثام عمّا سيجري في السماء يوم الدينونة الرهيب، يوم تقوم الساعة يوم النشور والقيامة العامة، ويرسم لنا الوحي الإلهي صورة جلية واضحة نشاهد فيها الديّان العادل وقد أحاطت به شعوب العالم كافة منقسمة إلى فئتين اثنتين، فئة الأبرار وقد وقفوا عن يمين الديّان، وفئة الأشرار وقد وقفوا عن يساره، وتضمّ كل فئة منهما أناساً ينتمون إلى سائر الأجناس والأقوام واللغات والحضارات، فيهم الأغنياء وفيهم الفقراء، العظماء والبسطاء، العلماء والجهلاء، الرجال والنساء. ولكن ما يميّز الفئتين عن بعضهما موقع كل فئة منهما من الديّان العادل، الموقع الذي تحدد بناءً على موقف تلك الفئة من الديّان في الحياة الدنيا، ويعني جانب اليمين في لغة الإنجيل المقدس مكان الشرف والسعادة، أما جانب اليسار فيعني مكان الذل والشقاء.
أمّا الديّان فهو الرب يسوع الذي أعلن لنا هذه الحقيقة بقوله: «لأن الآب لا يدين أحداً بل أعطى كل الدينونة للإبن»(يو 5: 22) ويقول الرسول بطرس بهذا الموضوع: «وأوصانا (الرب) أن نكرز للشعب، ونشهد بأن هذا المعيَّن من الله ديّاناً للأحياء والأموات»(أع 10: 46) وقال الرسول بولس: «لأنه لا بدَّ أننا جميعنا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً»(2كو 5: 10). وجاء في دستور الإيمان النيقاوي عن الرب يسوع أنه وهو المساوي للآب في الجوهر، بعد أن تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار إنساناً، صلب عوضاً عنّا، وتألم ومات ودُفنَ وقام في اليوم الثالث كما شاء، ثم يردف قائلاً «وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأيضاً سيأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات ذلك الذي ليس لملكه انقضاء». في ذلك اليوم الرهيب الذي سيأتي فيه الرب يسوع ليدين الأحياء والأموات، تزول السماء والأرض «فإنَّ السموات كالدخان تضمحلّ والأرض كالثوب تبلى وسكانها كالبعوض يموتون«(أش 51: 6) «ويسمع الأموات صوت ابن الله، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة»(يو 5: 25) أما الأحياء الأتقياء فيخطفون مع المسيح صاعدين معه في الجو بعد أن تكون أجسادهم الحيوانية قد تغيرت إلى أجساد روحانية.
أجل لقد عيّن الله تعالى يوماً سوف يدين فيه المسكونة بالعدل (أع 17: 31) في ذلك اليوم تُعلن كل سرائر البشر، ويحكم على كل إنسان بحسب أعماله التي عملها في هذه الحياة الدنيا، وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان… ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله»(رو 2: 1 و 5 و 6). فالإنسان الذي خلقه الله على شبهه كمثاله، حيث قد أنعم عليه بالعقل الراجح الذي يؤهله ليعرف الحلال من الحرام والصالح من الطالح، وخلقه تعالى ذا نفسٍ خالدة لا تموت ولا تفنى، كما أنعم الله على الإنسان أيضاً بالإرادة الحرّة، وخيّره بين عمل الخير أو الشر، فإن اختار الخير كافأه عن ذلك بالحياة الأبدية، وإن ارتكب الشر عاقبه بالعذاب الأبدي. هكذا يقرر الإنسان بحريّته مصيره الأبدي، ولا غرو من ذلك، فعندما تقدّم إلى الرب يسوع شابٌ رئيس وجثا له وسأله قائلاً: «أيها المعلم الصالح، أيّ صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، أجابه يسوع: إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا. قال له أية الوصايا؟ فقال يسوع: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك وأحب قريبك كنفسك» (مت 19: 16 ـ 19 ومر 10: 19 ولو 18: 20).
أجل إن الذين يحفظون وصايا الرب هم الأبرار الصالحون المعروفون بنقاء السيرة، وصفاء السريرة مثل زكريا الكاهن وزوجته أليصابات والدي القديس يوحنا المعمدان اللذين يصفهما الإنجيل المقدس بأنهما كانا بارين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم (لو 1: 6)، وأحكام الرب هي فرائضه المقدسة من صوم وصلاة وأعمال الرحمة، وهذه جميعها تعلّمنا إياها أمّنا الكنيسة المقدسة التي تلدنا من جرن المعمودية أولاداً لله بالنعمة، وأخوة للرب يسوع. والكنيسة توصينا بأن نتخذ الرب يسوع رفيقاً لنا في طريق الحياة الدنيا، لنستحق أن نرث معه ملكوته السماوي أي الحياة الأبدية السعيدة التي يقضيها الأبرار في السماء بالسكنى مع الرب يسوع إلى الأبد (رو 6: 23)، إتماماً لوعده الإلهي الصادق القائل: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك يكون خادمي، وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب»(يو 12: 26)، «وحيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً»(يو 14: 3)، هناك في السماء يتمتّع الأبرار بالأمجاد التي لا توصف «بل كما هو مكتوب ما لم ترّ عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه»(1كو 2: 9 و 10). هناك ينال كل واحد من الأبرار اكليل المجد الذي يهبه له الرب الديّان العادل (2تي 4: 8) لأنه استحق الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحلّ المحفوظ (للأبرار) في السموات (1بط 1: 4) هؤلاء الأبرار سينالون شبع سرور وراحة أبدية، ويدخلون إلى فرح سيدهم (مت 25: 2).
أما الأشرار فسيعذبون عذاباً أبدياً في جهنم، المكان المرعب المعدّ لإبليس وجنوده، «فإن عذابهم إلى أبد الآبدين، ولا تكون راحة لهم نهاراً وليلاً»(رؤ 14: 9 ـ 16) هناك يكون البكاء وصرير الأسنان (مت 13: 42) في الظلمة الخارجية (مت 22: 13).
فأين تقضي الأبدية؟ هل خطر هذا السؤال ببال كل واحد منكم أيها المؤمنون!؟ أم أن شواغل الحياة الدنيا قد شغلتكم عن التفكير بمصيركم الأبدي!؟ إن قوم نوح أصمّوا آذانهم عن سماع إنذاره وهو يدعوهم إلى التوبة وينذرهم ويخبرهم أنه لا محالة من وقوع الطوفان، فلم يصدّقوه، فجاء الطوفان وأخذ الجميع (مت 24: 39) فهلكوا إلا نوح وأهل بيته. وإن قوم لوط لم يسمعوا إلى إنذاره بأن الله لابدَّ من أن يحرق سدوم بالنار والكبريت، بل اعتبر لوط كمازح في أعين أصهاره. وهذا لم يمنع من إبادة المدينة بسكانها بالنار والكبريت ما عدا لوطاً وأمرأته وابنتيه الذين غادروا المدينة ولما التفتت امرأته الشريرة إلى ورائها صارت عمود ملح.
أجل إن الحقائق الإلهية عن الأبدية ثابتة وواضحة، على الرغم من محاولة الضالّين والمضلّين في عصرنا هذا مناهضة الدين وتشكيك المؤمنين بتشويه هذه العقائد الإيمانية، وذلك ببثّ الأفكار الرديئة والعثرات الخبيثة «وويل لمن تأتي من قِبَله العثرات»(لو 17: 2). فلنحذر معاشرة الناس الأردياء كما يعلمنا الرسول بولس بقوله: «لا تضلّوا. فإن المعاشرات الرديّة تفسد الأخلاق الجيدة»(1كو 15: 33). ولنحذر أضاليل الملحدين وغوائلهم ولنسترشد بنور الإنجيل المقدس وتعاليم آبائنا الميامين لتبديد الشكوك وإزالة الشبهات، فتنجلي الحقائق وتتنقى الكنيسة من جميع المعاثر وفعلة الإثم الذين يريدون أن يبعدوا المؤمنين عن ينابيع الإيمان الثرّة النقية. فلنبتعد عن أمثال هؤلاء الخبثاء آخذين بوصية الرسول بولس القائل: «فاعزلوا الخبيث من بينكم»(1كو 5: 13).
أجل أن إحدى العقائد الإيمانية المهمة في المسيحية هي عقيدة مجيء الرب يسوع ثانية إلى أرضنا هذه لدينونة العالمين وبهذا الموضوع قال الرب يسوع: «اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربّكم، واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أيّ هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب… لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان» (مت 24: 42 و 44). هكذا قد سبق الرب يسوع وأنذرنا لنكون مستعدّين للقائه بالسهر أي باليقظة الروحية والتوبة النصوح. وإذا كنّا نظن أن الرب قد أبطأ في مجيئه، فالموت لا يبطئ، وفي هذا المضمار يذكّرنا الرسول بولس بحقيقة الموت التي سارت بها الركبان ولم يختلف بصحتها إثنان قائلاً: «وكما وضع للناس أن يموتوا مرة، ثم بعد ذلك الدينونة»(عب 9: 27). وقد أخفى الله على الإنسان معرفة ساعة مغادرته هذه الحياة ليكون الإنسان دائماً في حالة النعمة، أي في عداد التائبين المنتظرين ظهور الرب ثانية. ونادراً جداً أن يحظى الإنسان بفرصة ذهبية للتوبة في آخر نسمة من حياته كما حظي اللص التائب الذي صلب مع الرب يسوع وتاب وطلب من الرب قائلاً: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» فقبل الرب توبته وقال له: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس»(لو 23: 43). فطالما لا نعرف زمن انتقالنا من هذه الحياة وكيفيته، ونحن معرّضون للموت في كل لحظة من لحظات حياتنا بالجسد، فعلينا أن نتوب حالاً لنستحق عند انتقالنا من هذه الحياة أن نرث الحياة الأبدية السعيدة، وليس من الحكمة أن نهمل أمراً كهذا يتوقف عليه خلاصنا الأبدي. إن توبتنا تقبل من الرب حالما نعود إليه بدموع الندامة الصادقة ونعده بأن نرضى بالموت أحرى من أن نقبل الخطية، معترفين بخطايانا اعترافاً قانونياً، فلنقدم على ذلك حالاً قبل فوات الأوان وطالما الفرصة سانحة ونحن في حالة صحية عقلية جيدة، ووعي تام، وإرادة حرّة لتقبل توبتنا النصوح، وفي هذا الصدد لنسمع الرسول بولس وهو يكرر ما جاء في سفر المزامير (95: 7) قائلاً: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر»(عب 3: 15 و 17)، ويردف الرسول قائلاً: «انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الإرتداد عن الله الحي. بل عظوا أنفسكم كلّ يوم ما دام الوقت يدعى اليوم لكي لا يُقسّى أحد منكم بغرور الخطية. لأننا قد صرنا شركاء المسيح إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية»(عب 3: 12 ـ 14). إن عمر الإنسان على الأرض يعدّ لحظة كئيبة من عمر الأزلية والأبدية، وإن الأزلية السرمدية خاصة بالله تعالى وحده لا شريك له فيها. وأما الأبدية فقد أنعم بها على الإنسان ليشاركه بها نسبياً فهو جسد خلقه الله من تراب الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة، وبذلك أعطاه الحياة ونعمة الخلود، والإرادة الحرّة ليقرر مصيره الأبدي!
فأين تقضي الأبدية؟ هل مع المسيح في الملكوت السماوي، أم مع إبليس وجنده لا سمح الله في جهنم وبئس المصير!؟
إن الصوم الإربعيني أيها الأحباء، فرصة ذهبية تتيحها لنا أمنا الكنيسة المقدسة لننتهزها ونعود إلى الله تائبين وتريدنا الكنيسة في هذا المضمار أن نطيع أمر الرب يسوع القائل: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(مر 1: 15).
أهَّلكم الرب الإله، لتكونوا في عداد القائمين عن جانب اليمين يوم الدين والسامعين صوت الرب القائل: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم»، وتقبّل تعالى صومكم وصلواتكم وصدقاتكم والنعمة معكم ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلاّيتنا البطريركية في دمشق ـ سورية
في اليوم السابع من شهر كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وست وتسعين للميلاد
وهي السنة السادسة عشرة لبطريركيتنا