علاقة المؤمن بالرب الإله
«آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم،
وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (أش 59: 2)
يكشف النبي أشعيا النقاب عن سرّ غضب الله على الخطاة الذين «أعمالهم أعمال إثم، وفعلُ الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشرّ تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم، في طرقهم اغتصاب وسحق، طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل»(أش 59: 6 ـ 8). فلا شركة لهؤلاء مع السماء التي أوصدت أبوابها في وجوههم فلا تسمع طلباتهم ولا تستجيب لهم لأن آثامهم قد صارت فاصلة بينهم وبين إلههم «لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة»(2كو 6: 14) فإن الله لا يستجيب الخطاة، إلا عندما يطلبون منه تعالى الغفران عائدين إليه بتوبة صادقة، نادمين عمّا اقترفوه من آثام، عازمين على إطاعة وصايا الرب.
شكراً لله الذي أرسل الأنبياء ليبلغوا إرادة السماء للبشر، وبوساطتهم هيأ الله عقول المؤمنين في القديم لتقبل حقيقة محبة الله للناس وإرادته خلاصهم، حيث أرسل ابنه الوحيد إلى عالمنا هذا متجسداً، وفدانا بدمه الكريم، وصالحنا مع أبيه السماوي، وبهذا الصدد يقول له المجد: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16) وقد أوضح لنا الرب يسوع، بأقواله، وأمثاله، وأفعاله، أنه هو الراعي الصالح الذي ترك التسعة والتسعين خروفاً على الجبل، وجاء يفتش عنّا نحن الذين مثّلنا بالخروف الضال، وعندما وجدنا تائهين في بيداء الخطيئة، خابطين خبط عشواء في الليلة الظلماء، رحب بنا وحملنا على منكبيه، وأتى بنا إلى حظيرته المقدسة، وهو أيضاً يمثل الأب الذي استقبل ابنه الشاطر العائد إليه بأسماله المتسخة، بعد أن بدد أموال أبيه في أرض الغربة في أعمال الإثم والخطية. ففرح بعودته، وضمّه إلى صدره، وأعاد إليه خاتم العهد، وألبسه الحلة الثمينة الجديدة، وذبح له العجل المسمن ودعا الأهل والأصدقاء ليفرحوا معه لأن ابنه هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد، وأعلن الرب أنه «يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب»(لو 15: 10)، بل هو السامري الصالح الذي ضمّد جروحاتنا، وحملنا على دابته، وأتى بنا إلى الفندق، رمز كنيسته المقدسة، ودفع عنا دينارين إشارة إلى بذله، لأجل خلاصنا، جسده ودمه الأقدسين، وهكذا رأينا الرب يسوع، في ميدان دعوة الخطاة إلى التوبة، وخلاص النفوس الهالكة، يدعو زكا العشار من على الجميزة، ويبيت في داره، ويعلن زكا توبته الصادقة، فيعلن الرب قبوله إياها بقوله: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت»(لو 19: 9) ويغفر الرب للخاطئة، ويقبل توبة بطرس هامة الرسل، ويعيد علاقته الإلهية معه. ويظهر للرسول توما ليزيل شكوكه وليثبته على الإيمان به. هؤلاء جميعاً تاقوا إلى الحصول على علاقة شخصية مميزة مع الرب الإله فأنعم الله بها عليهم، وشابهوا بذلك الآباء الأولين الذين ساروا مع الله كما فعل أخنوخ البار (تك 5: 24) ونوح المختار (تك 6: 9) ويوسف الصديق وسائر الأتقياء في العهدين القديم والجديد، فأنجح الله طرقهم إذ كانوا مع الله فكان الله معهم.
أجل لقد جاء الرب يسوع إلى عالمنا هذا ليطلب ويخلص ما قد هلك (مت 18: 11) وليدعو الخطاة إلى التوبة (مت 9: 13) فأعاد إلينا العلاقة الروحية مع أبيه السماوي، علاقة المحبة الإلهية، بل علاقة الأبوة والبنوة، فقد ولدنا من فوق، من السماء ميلاداً ثانياً جديداً، لا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله (يو 1: 13). فصرنا أخوة للرب يسوع، وأبناء لله بالنعمة، وحق لنا أن نقف أمامه ونخاطبه بدالة البنين قائلين: «أبانا الذي في السموات» (مت 6: 9) ، وصرنا أغصاناً حية في الكرمة التي هي المسيح، وأعضاءً حية في الكنيسة المقدسة التي هي جسد المسيح السري، فالمسيح رأسها، وأساسها، وحجر الزاوية فيها، فإذا شئنا أن نقوي هذه الصلة الروحية، والعلاقة السامية بالمسيح يسوع ربنا، علينا أن نغلق كوى حواسنا الجسدية ونجرد قلوبنا من كل تعلق دنيوي ظاهر وخفي، ونترجى رؤية المسيح بأعين ضمائرنا، فسنراه لا محالة، ونشعر ببهجة عارمة، إذ تقوى محبتنا لله الذي نحبه لذاته لا طمعاً بجنّته، ولا فزعاً من ناره. هكذا يحيا المؤمنون بالمسيح، ويحيا المسيح فيهم (غل 2: 20) ويقضون في عشرته وقتاً طويلا كل يوم عن طريق التأمل في حوادث الإنجيل المقدس وتعاليمه، وينمون في المسيح بتناول القربان المقدس باستمرار فقد وعدنا الرب بالنعم العظيمة التي ننالها بالمواظبة على تناول جسده ودمه الأقدسين بقوله: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه… من يأكلني يحيا بي» (يو6 : 54 ـ 57).
أجل إننا ننال هذه النعم السماوية، والعطايا الإلهية، من السماء مجاناً بوساطة الكنيسة المقدسة، أمنا ومعلّمتنا، فهي التي تلدنا من جرن المعمودية أناساً جدداً، وتمسحنا بالميرون المقدس ليحل علينا الروح القدس فنغدو له هياكل طاهرة نقية، وهو الذي يرشدنا إلى الحق، ويذكرنا بكل ما قاله المسيح لتلاميذه الأطهار ورسله الأبرار ووصل إلينا عن طريقهم. والكنيسة أيضاً توفر لنا الأجواء الصالحة لنمونا روحياً وتقوية علاقتنا بالرب الإله، فتفرض علينا الأصوام المقترنة بالصلوات والصدقات، لنبتعد عن اهتمامات الجسد والانهماك بالأمور الدنيوية، ونكون قريبين من الله، كما فعل الآباء والأنبياء الصادقون في العهدين القديم والجديد. فبعدما صام النبي موسى أربعين يوماً وأربعين ليلة استحق أن يوصل إلى الشعب لوحَي الوصايا العشر المكتوبة بأصبع الله كما يقول الكتاب المقدس، وبعدما صام إيليا النبي أيضاً أربعين يوماً وأربعين ليلة تمكن من دحر أعداء الله وجذب الشعب إلى الشريعة. وحتى الرب يسوع الإله المتجسد الذي لم يكن بحاجة إلى أن يصوم، صام في البرية أربعين يوماً وأربعين ليلة، وجاع، وجرّب من إبليس وظفر به، وعلّمنا بعدئذ أن هذا الجنس جنس الأبالسة، لا يخرج إلاّ بالصوم والصلاة (مت 17: 21).
أيها الأحباء: إنها فرصة ذهبية سانحة، فرصة قدوم الصيام الأربعيني المقدس، وعلينا أن نغتنمها، فنجدد علاقتنا بالرب الإله بعودتنا إليه بالتوبة النصوح، وبتجنبنا أسباب الخطايا والمعاصي التي تفصلنا عن إلهنا، وتبعدنا عنه، وتستر وجهه عنا. ولنمارس أعمال البر، متحلين بالفضائل الإلهية، مُطيعين أمنا الكنيسة المقدسة بالتمسك بفريضة الصوم الأربعيني المقدس.. منقطعين عن الطعام والشراب، متناولين الطعام الصيامي بحسب العادة المتبعة في كنيستنا المقدسة. وفي الوقت ذاته لِنَصُم عن الآثام، وعما لا يليق من الكلام، ولنواظبن على الاشتراك بالصلوات الجمهورية، وكذلك القيام بالصلوات العائلية والفردية مكملين وصية الرب القائل: «وأمّا أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية»(مت 6: 6) وقوله أيضاً: «وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية»(مت 6: 17 و 18).
بارككم الرب الإله، وأهّلكم لتجددوا علاقتكم الروحية به، وتقبّل تعالى صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، وأمدّ بعمركم، لتعيّدوا عيد قيامة الفادي من بين الأموات بطهر وقداسة وبهجة وسرور والنعمة معكم ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلاّيتنا البطريركية بدمشق ـ سورية
في اليوم السابع من شهر شباط سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين للميلاد
وهي السنة الثانية عشرة لبطريركيتنا