التتلمذ للرب يسوع والإعتراف به

«من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني… لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، فإن ابن البشر يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين» (مر 8: 34 ـ 38)

بهذه الآيات البيّنات، أملى الرب يسوع على أتباعه شروط التلمذة الحقيقية له. فبعد أن كان قد كشف النقاب عن هويته، على لسان سمعان بطرس الذي قال للرب «أنت هو المسيح ابن الله الحي»(مت 16: 16). حان الوقت كي يعلن الرب لتلاميذه الغاية القصوى من مجيئه إلى العالم، وضرورة موته الكفاري لأجل خلاص البشر. وفي هذا الصدد يذكر البشير مرقس في الإنجيل المقدس أن الرب يسوع ابتدأ يعلم تلاميذه «أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مر 8: 31).

لدى سماع التلاميذ هذه الحقيقة الإلهية، اختلط عليهم الأمر، وأُسقط في يدهم، ذلك أن صورة المسيح المنتظر، كما رسمها خيال آبائهم تظهره جباراً ترسله السماء من نسل داود، ليُخضع لهم الشعوب أعداءهم، ويغنم لهم الغنائم الدنيوية كي يتنعموا في حياتهم بالعيش الرغيد. فهل يعقل أن يتألم يسوع وهو المسيح، وأن يموت موت الصليب، موت اللعنة؟. ورأى بطرس أنَّ من واجبه أن يتدخل، فاختلى بالرب يسوع وابتدأ ينتهره، فوبّخ الربُّ بطرس بشدّة قائلاً له: اذهب ورائي يا شيطان لأنك لا تفكر فيما لله بل فيما للناس. لقد حاول الشيطان بشخص بطرس إغراء المسيح لتبديل وسيلة الخلاص التي أعدّها الله منذ البدء، بوسيلة تنسجم مع الأهواء البشرية، ولكن المسيح يرفض قبول طريق أخرى غير طريق الله، فقد جاء إلى العالم ليخلّص العالم، ولا يكون خلاص العالم إلاّ بإطاعة الله تعالى، وبهذا المعنى قال الرسول بولس عن الرب يسوع: «وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موتَ الصليب»(في 2: 8) افتداءً للبشرية. «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

وهكذا نُصب صليب المسيح في وسط العالم ليكون بمثابة شجرة الحياة التي غرسها الله تعالى في وسط الجنة، وعلى الصليب أكمل المسيح عمل الفداء بموته الكفاري الذي استحق لنا فيه الحياة الأبدية، فاستمد الصليب قوته الخلاصية من موت المسيح عليه. ونلنا نحن المؤمنين به النصر بقيامة المسيح من بين الأموات، كما يقول الرسول بولس «إنَّ كنّا نتألم معه لكي نتمجد معه»(رو 8: 17). فكلمة الصليب، تعادل في مضمونها الإيماني، إنجيل الخلاص كله، فهي تعني موت المسيح من أجل خطايانا، وتبريره إيانا، وقيامته من الأموات منتصراً، لنستحق أن نقوم معه في اليوم الأخير، حسب صادق وعده القائل: «تأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28 و 29) المسيح هو المحيي، وهو الديان، لأنه الألف والياء، البداية والنهاية. وقد جعل من الصليب شرطاً للتلمذة له، فقد دعا الجمع مع تلاميذه وقال لهم: «من أراد أن يأتي ورائي فلينكر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني فإنَّ من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها»(مر 8: 34 و 35 مت 16: 24) وإنَّ حمل الصليب هو إنكار الذات، أما السير وراء يسوع ربنا فيعني تسليم مشيئتنا له، فلا نعرف هذه الذات بعد تتلمذنا للمسيح، إنما نعرف يسوع المسيح مخلصنا الإلهي. وحمل الصليب هو الاستعداد التام لصلب الذات مع المسيح على الصليب، الأمر الذي يعبّر عنه الرسول بولس بقوله: «مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ»(غل 2: 20)، وهنا تبرز الشهادة لأجل المسيح التي ليست فقط الاعتراف بالمسيح والإقرار بأنه ابن الله الحي، مخلص العالم كافة، والمخلِّص الشخصيّ لكلِّ واحدٍ منّا، بل أيضاً الإقتداء بالمسيح بالسيرة الطاهرة، والسريرة النقية، إذ يحيا المسيح فينا وتكون حياتنا ممثلة حياة المسيح على الأرض. بهذا فقط نكون قد اعترفنا بالمسيح ولم ننكره. وقد سبق له المجد وحذّرنا بقوله: «لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، فإن ابن البشر يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين».

أيها الأحباء:

نحن جميعاً على موعد لمواجهة هذه الحقيقة المجردة والصريحة، فإن المسيح قد كشف لنا عن هويته، وأعلن لنا رسالته السماوية، بأقواله السامية وأعماله العجيبة، فهل آمنّا به؟. إن يوحنا الرسول وهو يختم كتابة الإنجيل المقدس يقول: «أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه»(يو 20: 31). فعلينا أن نؤمن بالمسيح كما أعلنه لنا الوحي الإلهي، ولا يجوز لنا التساهل في أمر الدين المبين، أو المساومة في العقائد الإيمانية، وقد أوصانا الرسول بطرس قائلاً: «كونوا مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف ولكم ضمير صالح لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يُخزون في ما يفترون عليكم كفاعلي شر»(1بط 3: 15 و 16). فعلينا أن نكون كمؤمنين فكراً وقولاً وعملاً، لأن الرب يرفض اللامبالين الذين هم مؤمنون بالاسم فقط، كرفضه الملحدين الكافرين. وقد جاء في سفر الرؤيا، أنَّ الرب يتقيأ الفاترين (رؤ 3: 14 ـ 18) فإن كنا مسيحيين حقيقيين علينا أن نكون حارّين بالروح، غيارى على التمسك بإيماننا بعروة وثقى، عاملين بفرائض ديننا المبين، وإلاّ فنكون قد أنكرنا مسيحنا من حيث ندري أو لا ندري، وتورطنا بخطية الخجل بإلهنا وبكلامه، في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، هذه الخطية الكبرى التي نتيجتها الهلاك الأبدي، ونحن بلا عذرٍ، لأن الرب قد سبق وحذرنا بقوله: «فكل من يعترف بي قدّام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السموات. ولكن من ينكرُني قدّام الناس أنكره أنا أيضاً قدّام أبي الذي في السموات»(مت 10: 32).

أجل إنَّ اعترافنا بالمسيح يسوع ربنا لا يكون بإقرارنا بقانون الإيمان وحسب، بل أيضاً بالقيام بالفروض الدينية والمواظبة على الصلاة، وألهج بشريعة الرب ليل نهار. مبرهنين بذلك على محبتنا العميقة للرب، وانتظارنا بشوق وتوق مجيئه الثاني ليأخذنا إليه ونملك معه إلى الأبد. وليس هذا فقط بل أيضاً بالعمل بشريعته الإلهية، فقد قال له المجد: «ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات»(مت 7: 21). «لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي»(مت 12: 50). وقد أجاد الرسول يعقوب بقوله: «لأنه كما أن الجسد بدون روحٍ مَيتٌ، هكذا الإيمان أيضاً بدون أعمال ميت»(يع2: 26).

فلننتهز أيها الأحباء فرصة الصوم الأربعيني المقدس، لنجدد عهد تلمذتنا للرب يسوع، حاملين صليبه المقدس ناكرين ذواتنا، معترفين به، عاملين بمشيئته، معلقين أنانيتنا معه على العود، متمسكين بفريضة هذا الصوم المبارك الذي ندعوه بالصوم الكبير لا لكثرة أيّامه، بل لأهميته الروحية، ومكانته العظمى في قلوب المؤمنين منذ فجر النصرانية، خاصة وهو الميدان المناسب الذي فيه نعدّ أنفسنا للجهاد الروحي ضدّ إبليس والخطية، لنستقبل ذكرى آلام الفادي المحيية وقيامته المجيدة من بين الأموات ببهجة روحية. وإنها لفرصة سانحة لنا للتوبة النصوح، والترفّع عن الدنايا، والتأمل بالإلهيات، والمواظبة على الصلوات، وتقديم الصدقات. فإلى هذا الميدان الروحي ندعوكم أيها الأحباء لتعلنوا فيه اعترافكم بالمسيح يسوع مخلص العالم، ليعترف هو أيضاً بنا يوم يأتي بمجد أبيه مع ملائكته القديسين، فنرث معه ملكوته السماوي.

بارككم الرب الإله وتقبّل صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، وأمدّ بعمركم لتعيّدوا عيد القيامة المجيدة من الأموات بطهرٍ ونقاء، ورَحِم موتاكم المؤمنين آمين.

صدر عن قلاّيتنا البطريركية في دمشق

في اليوم الخامس من شهر شباط سنة ألف وتسعمائة وتسعين

وهي السنة العاشرة لبطريركيتنا