بعد تفقد خواطركم العزيزة نقول: يطيب لنا ونحن نستقبل الصيام الأربعيني المقدس، أن نبعث اليكم بمنشورنا هذا الرسولي مصدرين إياه بقول الرب يسوع:

«لا يقدر خادم أن يخدمَ سيدين لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحبَّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (لو16: 13)

بهذه الآية المقدسة، يقرّع الرب يسوع الكتبة والفريسيين، ومن نسج على منوالهم، بمحبة المال والاتكال عليه. ويفضح له المجد مراءاتهم الدنيئة، وما يبطنونه من نيّات خبيثة، وهم يحاولون اخفاء عبادتهم للمادة وراء ستار التظاهر بالتدين، فباءوا بالفشل الذريع إذ انكشفوا وانفضحوا فعنّفهم الرب لأنهم يسعون للجمع بين الضدين، والتوفيق بين النقيضين، ووبخ الرسول بولس أمثالهم قائلاً: «لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب، وكأس شياطين، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب ومائدة شياطين» (1كو10: 22). فلا يستطيع الإنسان أن يقبض على العالمين الزائل والأبدي بيد واحدة ووقت واحد، ولهذا قال الرب «لا يقدر خادم أن يخدم سيدين… لا تقدرون أن تخدموا الله والمال». ويقول البشير لوقا «وكان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كلّه، وهم محبون للمال، فاستهزأوا به. فقال لهم أنتم الذين تبررون أنفسكم قدّام الناس، ولكن الله يعرف قلوبكم إنَّ المستعلي عند الناس هو رجسٌ قدام الله» (لو16: 14و15).

ان الغني الغبي الذي يعبد المال دون الله، يهتم ليلاً ونهاراً في ابتكار الوسائل الناجعة لجمع المال بطرق مشروعة ومحرّمة، لأن المال أمله الوحيد في الحياة بل هو كنزه «وحيث يكون كنزكم هناك تكون قلوبكم» (لو 12: 34) قال الرب. لذلك قد وهب الجاهل للمال قلبه، وفكره، وإرادته، ومشاعره كرّس له ذاته. ويرسم لنا الرب صورة لغني أخصبت كورته، فبدلاً من أن يشكر ربه على ما أنعم به عليه من خيرات، وأن يوزع الصدقات على الفقراء والمعوزين، ويسدد أجور العمال الذين يعملون في حقوله، ويعطي حقوق الفلاحين الذين يتعبون في حرث الأرض وزرعها وسقيها وحصد الغلات وخزنها وحراستها ولم يأخذوا عن ذلك سوى اليسير اليسير مما يستحقونه من تعبهم الجم، أجل بدلاً من أن يفي ذلك الغني أولئك الناس حقوقهم ويشركهم  معه بالخيرات التي كانت ثمرة أتعابهم وعرق جبينهم، ينسى الغني الغبي الجاهل، الجانب الإنساني، والجانب الروحي السامي من الحياة، وينسى أن الزمن هو بيد الله، ويظن أنه بجمع المال وتكديسه قد أمن الموت ولم يعلم أن نفسه بيد الله تعالى، فيتكبر الغني الجاهل ويتعجرف ويناجي نفسه قائلاً: «يا نفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، فاستريحي وكلي واشربي وتنعمي» (لو12: 19) فيأتيه حكم الله العلي القدير قائلاً: «يا جاهل في هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذا الذي أعددته لمن يكون؟» (لو12: 20).

هذه هي الحقيقة الأليمة التي يتجاهلها الإنسان الجاهل، أن كل ما يملكه الإنسان في الحياة، حتى نفسه، هو من اللّه وللّه وهو أمانة لدى الإنسان ومتى شاء الله تعالى استرجع أمانته.

ولا تنتهي مأساة الغني الغبي عند باب لحده، بل هناك حساب عسير في العالم الآتي، فالذي لا يحول أطماعه عن الفانية إلى الباقية، والذي لا يستغني بالله، ولا يكنز له كنوزاً في السماء، يحكم عليه بالعذاب الأبدي. هذا ما نفهمه من مثل الغني ولعازر الذي ضربه لنا الرب يسوع. وفيه رأينا الغني القاسي القلب، والغليظ الرقبة، الذي لا يعرف الرحمة، كما رأينا لعازر الفقير المسكين الذي طُرح عند باب الغني مضروباً بالقروح، رأينا هذا المشهد في هذه الحياة الزائلة، ولكن الرب يكشف لنا عن مشهد آخر لهذين الشخصين في الحياة العتيدة الأبدية، فقد مات لعازر المسكين وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم، ومات الغني أيضاً ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ورأى ابراهيم من بعيد ولعازر في حضنه فنادى وقال يا أبي ابراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبلَّ طرف أصبعه بماء ويبرّد لساني لأني معذب في هذا اللهيب فقال له ابراهيم يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزّى وأنت تتعذّب… (لو16: 16ـ31).

أجل لقد حكم على هذا الغني الغبي بالعذاب الأبدي، لأنه عبد المال دون الله، وسيحكم على أمثاله كذلك ممن لا يسخّرون ما رزقهم الله من مال في خدمة الله والإنسان، ويظنون أن بإمكانهم أن يربحوا الدنيا والآخرة وهم يعبدون ربين والرب يحذرنا بقوله: لا تقدرون أن تخدموا سيدين، وجاء فعل خدم «شمش» بالسريانية بمعنى فلح، وخدم، وخضع، وعبد، وسجد، وتجند، فلا يستطيع الإنسان اذن أن يعبد ربين الله والمال.

والعبادة هي الإيمان بمقدرة المعبود، والاتكال عليه، ومحبته من كل القلب، وكل النفس، وكل الارادة. وان إلهنا اله غيور، يريدنا أن نعبده وحده ولا نشرك به كائناً بقوله: «أنا الرب الهك… لا تكن لك آلهة أخرى أمامي» (خر20: 2و3) وان محبتنا إياه تدفعنا إلى الامتثال بأوامره، وتجنب نواهيه، والاستناد بكل تصرفاتنا إلى المبادئ التي وضعها لنا. أما إذا تجاهلنا قدرته تعالى وقوّته، وعدله، ورحمته، ومحبته لنا، وعنايته بنا، واتكلنا على المال، فإننا بذلك نشرك به الهاً آخر، ونشابه أولئك الذين وصفهم النبي هوشع بقوله: «وفضتهم وذهبهم صنعوا منهما لأنفسهم أوثاناً ليهلكوا» (هوشع 8: 4) والرسول بولس يقول: «ان كل زانٍ أو نجس أو طمّاع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله» (اف 5: 5) «لأن محبة المال أصلٌ لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الايمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة» (1تي 6: 10).

فكما أن أصول الشجرة وجذورها تكون عادة خفية في الأرض متشبثة بها، وتتعمق فيها متوغلة مع تمادي الزمن، كذلك محبة المال تكمن في أعمق أعماق القلب وتهيمن عليه مع الأيام والسنين وتنشئ بالخفاء سائر الرذائل ويعسر استئصالها لأنها الأصل، والخطايا كافة فروع لها.

ان الرذائل والخطايا التي ترتكب في سبيل الحصول على المال لا تحصى. فمحبة المال تبعد الإنسان عن طريق الرب، وعن الامتثال بأوامره تعالى، ومُحب المال يعبد المال دون الله، ولا يحفظ يوم الرب طمعاً بالحصول على المال، ويسرق ويزني ويشهد بالزور ويشتهي مال القريب ويأتي الكبائر بأنواعها مسوقاً بمحبة المال.

فمحبة المال والطمع والجشع دفعت جيحزي ليطلب من نعمان السرياني فضة وثياباً باسم سيده النبي اليشع. وكذب على النبي فدعا النبي عليه بأن يتلبسه ونسله برص نعمان، وهكذا كان.

وكانت محبة المال سبباً لعمى بصيرة بلعام بن بعور فرأى النور ظلاماً، والحق باطلاً، وأراد أن يلعن من باركهم الرب، فدفع الرب الأتان، فنطقت موبخة إياه.

وكانت محبة المال سبباً لهلاك يهوذا التلميذ الخائن، فبعد أن دخل الشيطان قلبه اتفق مع اليهود وباع سيده بثلاثين من الفضة اشترى بها حبلاً وخنق نفسه.

وأمثال هؤلاء كثيرون في الماضي والحاضر ونهايتهم جميعاً الهلاك، لأن محبة المال تورط الإنسان في سائر الآثام، لأنها أصل كل الشرور وكقول الحكيم ابن سيراخ «لأن حب الفضة ليس شر منه» (10:10).

جاء مرة إلى الرب يسوع شاب غني (لو18: 18ـ 30) وصف بأنه «رئيس» ولعله كان عضواً في مجلس السنهدريم أو كان رئيس أحد مجامع اليهود. وكان غيوراً يسعى للحصول على ملكوت الله، لذلك جاء «راكضاً» وجثا للرب يسوع (مر10: 17) وقال له أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ قال له الرب: «أنت تعرف الوصايا لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك» أجاب الشاب وقال هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فنظر إليه يسوع وأحبه وقال له: يعوزك شيء واحد، اذهب بع كل مالك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب. فاغتم على القول، ومضى حزيناً، لأنه كان ذا أموال كثيرة فنظر يسوع حوله وقال لتلاميذه «يا بنيَّ ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله» (مر 10: 17ـ27) وقال أيضاً «لأن دخول جمل في ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت الله. فقال الذين سمعوا، فمن يستطيع أن يخلص، فقال: غير المستطاع عند الناس مستطاعٌ عند الله» (لو18: 25ـ27).

لقد ادعى ذلك الشاب بأنه حفظ الوصايا، فلعله حاول ذلك ولكن لم يفلح، وربما ظن بأنه قد فعل لأنه كانت له صورة التقوى ولكنه منكر قوّتها (2تي3: 5). فطلب منه الرب أن يتخلى عن هذه الرذيلة ويتخلص منها بالدواء الناجع الذي هو نكران الذات بقوله له: «بع كل مالك» وحيث أنه يطلب الكمال يصف له دواء آخر هو التضحية بقوله: «تعال اتبعني حاملاً الصليب» وهذا هو تكريس النفس لله والتجرد عن الأنانية وطلب الخلاص للعالم أجمع. ولكن ذلك الشاب رغب في أن يعبد ربين، وأن  يربح الفانية والباقية معاً، ففشل، وذهب حزيناً لأنه كان ذا مال كثير، يقول الإنجيل المقدس لذلك قال الرب «ما أعسر دخول المتكلين على المال إلى ملكوت السموات».

اننا نفهم من عبارة «المتكلين على المال» أن المال بحد ذاته ليس شراً، واذا حصل عليه الإنسان بعرق جبينه بطرق مشروعة قد يكون بركة له ولغيره، بل أيضاً لامتداد ملكوت الله. وقد يصير سلّماً يصعد عليها الإنسان إلى السماء. ولكن الاتكال على المال وتفضيله على الأمور الروحية، وعبادته دون الخالق، هذه الأمور تبعد الإنسان عن الله.

ألم يكن ابراهيم أبو الآباء غنياً، لكنه كان أيضاً سخيّاً كريماً فاستحق أن يستضيف ملائكة.

ألم يكن أيوب الصدّيق غنياً ولكنه كان تقياً يوزع الصدقات ويعضد الفقير واليتيم والأرملة. حتى استحق أن يحوز على شهادة الرب اذ قال تعالى: «لأنه ليس مثل (عبدي أيوب) في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشرّ» (أي1: 8).

ألم يكن زكا رئيس العشارين غنياً، ولكن لما دخل الرب إلى بيته وقف وقال للرب: «ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين وأن كنت قد وشيت بأحد أردّ أربعة أضعاف، فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت لأنه هو أيضاً ابن ابراهيم» (لو19: 1ـ 10).

ألم يكن نيقوديموس ويوسف الرامي غنيين؟ ولكنهما استحقا أن يشتريا المر والأطياب ويكفنا جسد الرب ويدفناه في قبر جديد يخص أحدهما.

ألم يكن برنابا ـ أحد التلاميذ السبعين ـ غنياً ولكنه باع قريته ووضع ثمنها عند أقدام الرسل لتصرف في سبيل نشر بشارة الخلاص. فهؤلاء الأغنياء بالمال الذين كانوا أغنياء بالرب، والذين استخدموا المال لمجد اسم الرب، وأمثالهم من الأغنياء الصالحين المذكورين في الكتاب المقدس والتاريخ الكنسي في الماضي والحاضر استحقوا أن يخدموا الرب بأموالهم، ويكنزوا لهم كنوزاً في السماء، حيث لا يفسد سوس ولا ينقب سارقون ويسرقون، فسجلت أسماؤهم في سفر الحياة، في السماء لأن الرب يسوع لا ينسى أصغر التقدمات حتى فلسي الأرملة، بل لا ينسى كأس ماء بارد يقدم باسمه أو باسم أحد تلاميذه، إلى طفل صغير.

ولذلك فالرسول بولس يكتب إلى تلميذه تيموثاوس قائلاً: «أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبدية» (1تي6: 17ـ19).

فهذا ميدان الصيام خير فرصة لنا جميعاً لنمارس الفضائل كافة وخاصة فضيلتي الرحمة والمحبة، فمحبتنا للقريب خير وازع لنا لتوزيع الصدقات على المحتاجين والمعوزين، وتفقد الأرملة واليتيم والفقير في ضيقتهم، وتعشير أموالنا وعضد مشاريع الكنيسة المقدسة ليتمجد اسم الرب القدوس في كل مكان. ولنذكر «أن الصدقة تستر كثرة من الخطايا».

فلتكن سيرتكم أيها الأحباء خالية من محبة المال عالمين أن همّ الغني كهمّ الفقر يخنقان بذرة الإنجيل في قلب المؤمن كما يظهر ذلك من مثل الزارع أو البقاع الأربع الذي ضربه الرب يسوع (مت 13: 3 و مر4: 3 ولو8: 5) وبه يظهر لنا استحالة ممارسة الإنسان حياتين في آن واحد، فيحيا للرب ويعيش لابليس. وعدم امكانية نمو الحنطة الجيدة إلى جانب الشوك في بقعة أرض واحدة وتربة واحدة فإن الشوك أخيراً، كقول الرب، ينمو فيخنق الحنطة. لأن محبة العالم، واهتمام الجسد، عداوة لله (يع4: 4 و رو8: 7) فلا تتكلوا على المال، بل ألقوا على الرب همكم وهو يعولكم (مز55: 22). ولا يريدنا الرب أن نكون متواكلين، كسالى، بطالين، فان العبد البطال والكسلان يلقى في الظلمة الخارجية، ولكن الرب يريدنا أن نتكل عليه مجتهدين عاملين ساعين للحصول على قوتنا وحاجاتنا في هذه الحياة غير مهملين الروحيات فان «العامل بيد رخوة يفتقر أما يد المجتهد فتغني» (أم10: 4).

لترتح قلوبكم اذن لا إلى الخيرات الأرضية الزمنية، بل إلى الخيرات السماوية الأبدية، و «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم» (مت6: 33).

بارككم الرب الاله وتقبل صيامكم، وصلواتكم، وصدقاتكم، ولينعم عليكم بأيام طيبة لتبتهجوا بالاحتفال بعيد قيامته المجيدة بطهر ونقاء، ورحم موتاكم المؤمنين آمين.

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية

في السابع والعشرين من شهر شباط 1984 م

وهي السنة الرابعة لبطريركيتنا