نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية والسلام بالرب إلى اخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الأجلاء، وأبنائنا الروحيين الكهنة الموقرين والرهبان والراهبات والشمامسة الأتقياء، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المباركين، شملتهم العناية الربانية بشفاعة سيدتنا العذراء مريم والدة الإله ومار بطرس هامة الرسل وسائر الرسل والشهداء والقديسين آمين.
أيها الأحباء: كان مجمعنا الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي المقدس المنعقد برئاستنا في التاسع وحتى الثاني عشر من شهر أيلول في العام المنصرم 2003، قد قرّر اعتبار العام الجاري 2004 عام الكتاب المقدس، تجاوباً لما دعت إليه جمعيات الكتاب المقدس في العالم. والغاية من ذلك هي حثّ المؤمنين على استمرار التمسّك بالإيمان بأن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم بلغاته الأصلية، هو هو كما دوّنه الأنبياء والرسل وتسلّمه آباؤنا الميامين منهم وسلّمونا إياه سليماً صحيحاً دون زيادة أو نقصان. وقد أجمع المسيحيون على اختلاف مللهم ولغاتهم وحضاراتهم على أن الكتاب المقدس موحى به من اللّه أي هو كلام اللّه الحي، وبهذا الصدد قال الرسول بولس: «كل الكتاب هو موحى به من اللّه ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان اللّه كاملاً متأهباً لكل عمل صالح» (2تي3: 16 و17)، ومعنى عبارة «موحى به من اللّه»، أنه تعالى أرشد أذهان الأنبياء الصادقين ورسل الرب يسوع الأطهار على نوع خاص، ولقّنهم أوامره الإلهية وما يجب أن يؤمنوا به من عقائد دينية، فبلّغوا إرادته الإلهية إلى البشر. كما أمرهم تعالى أيضاً بأن يدونوا هذه الحقائق التي أوحاها إليهم في كتاب ليكون مناراً للهدى ليس لجيلهم فقط بل لسائر الأجيال والدهور وإلى أبد الآبدين، ومما لا يختلف فيه مؤمنان وقد أجمعت عليه الكنائس كافة أن مركز الدائرة في الكتاب المقدس هو المسيح يسوع مخلص العالم، والغاية القصوى من تدوين الوحي الإلهي هي إبلاغ العالم العقائد الإيمانية التي يجب أن يؤمن بها، والوصايا الإلهية التي عليه أن يلتزم بممارستها، والفضائل المسيحية السامية التي يجب أن يتحلى بها، لينال الخلاص بالإيمان بالرب يسوع مخلص العالم والسير بموجب وصاياه، والرسول يوحنا يوضح ذلك في خاتمة الإنجيل المقدس بقوله: «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللّه ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه» (يو20: 31).
أجل إن للكتاب المقدس مكانة سامية في كنيستنا السريانية المقدسة لأنه كلام اللّه الحي، وهو المصدر الأول والأهم لعقائدنا الإيمانية والشريعة السماوية. كما يشهد على ذلك الكتاب المقدس ببعض آياته حيث جاء في سفر إرميا قوله: «هكذا تكلم الرب قائلاً: أكتب كل الكلام الذي تكلمت به إليك بسفر» (إر30: 2) وقال الرسول بولس: «وأعرِّفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشَّرت به إنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح» (غلا1: 11 و12). ويقول الرسول بطرس: «لأنه لم تأتِ نبوّة قط بمشيئة إنسان بل تكلّم أُناس اللّه القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21).، ويقصد الرسول بطرس بكلامه هذا أن اللّه سبحانه وتعالى اختار أناساً أتقياء أوحى إليهم ما أراد أن يبلغه البشر عن ذاته الإلهية وشريعته السماوية. كما أعلن بوساطتهم وعده الإلهي بإرسال ابنه الوحيد لخلاص العالم فأعلنوا ذلك ودونوا نبواتهم الصادقة في أسفار الكتاب المقدس، وقد تمت بحذافيرها بالرب يسوع في كل مراحل تدبيره الإلهي بالجسد. وبهذا الصدد قال الرسول بولس: «اللّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب1: 1ـ3).
فالكتاب المقدس وهو مصدر الحقائق الإيمانية للدين المسيحي المبين، ذو سلطان كامل فيما يتعلق بالإيمان، وعلى المؤمنين أن يخضعوا لتعاليمه الإلهية ويلتزموا بحفظها بأكملها من ناحية الإيمان والأعمال الصالحة أي التمسك بالعقائد الإيمانية والسيرة الفاضلة.
أجل إن آباءنا القديسين استندوا في كل تعاليمهم على الوحي الإلهي المدون في أسفار الكتاب المقدس، وغاصوا في أعماق الكتاب المقدس والتقطوا الدرر الثمينة واللآلئ النفيسة في إثبات صحة عقائدنا الإيمانية، واقتبسوا من آياته المقدسة في مؤلفاتهم الروحية عدداً لا يحصى، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قيل إذا افترضنا افتراضاً مستحيلاً أن الكتاب المقدس بالسريانية قد فقد في العالم أجمع، لتمكنّا من جمعه مما اقتبسه منه القديس مار أفرام السرياني في القرن الرابع في مؤلفاته.
ويشهد التاريخ الكنسي أن آباءنا نالوا قصب السبق في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره وشرحه ونقله إلى لغات عديدة وامتلأت الأديرة والكنائس من نسخه التي كتبها الرهبان والكهنة وغيرهم باللغة السريانية المقدسة وأقدم النسخ وأهمها الموجودة اليوم في المتاحف العالمية هي بهذه اللغة، وليس هذا فقط بل حمل آباؤنا مشعل الإنجيل المقدس إلى مناطق عديدة في العالم، وعينوا فصولاً خاصة من أسفار الكتاب المقدس يتلونها أيام الآحاد والأعياد في الكنيسة في بدء القداس الإلهي، كما وضعوا صلوات خاصة يتلونها قبل البدء بقراءة الإنجيل المقدس في تأملاتهم الخاصة والعائلية والطقسية وهي أدعية فيها يطلبون من الرب أن ينير أذهانهم لفهم معاني كلمة الحياة ذلك أن للكتاب المقدس كما ذكرنا آنفاً مكانة سامية في كنيستنا المقدسة، وبموجب طقسنا السرياني يُنصب في وسط باب المذبح المتوسط في كل كنيسة منبر صغير من الخشب ويصمد عليه كتاب الإنجيل المقدس ويكون ظاهر الإنجيل مغشى بصفيحة من الذهب أو الفضة المذهبة موسوماً عليها صورة الإنجيليين الأربعة والصليب المقدس ليقبّله المؤمنون تبركاً عند دخولهم الكنيسة قبل البدء بالصلاة ومغادرتهم إياها في ختام الصلاة، وبذلك يكرمون كلام اللّه أي الإنجيل المقدس وينالون بركة المسيح يسوع الذي هو كلمة اللّه الذي كان منذ البدء «والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو1: 14) على حد قول الرسول يوحنا في الإنجيل المقدس. كما خصصت الكنيسة مناداة يرتلها الشماس قبل قراءة الإنجيل المقدس في الكنيسة خلال الخدمات الطقسية، يدعو بها المؤمنين أن يقفوا منتصبين، ويصغوا بخوف وحكمة لسماع كلام بشارة الخلاص، ويعبق البخور أثناء ذلك. وقارئ الإنجيل في خدمة القداس الإلهي بحسب الطقس السرياني عندنا، هو مقرّب الذبيحة الإلهية بطريركاً كان أو مطراناً أو كاهناً.
أجل! إن كنيستنا المقدسة تحثّ الإكليروس والمؤمنين عامة على دراسة الكتاب المقدس وتلاوته في الصلوات الجمهورية والفردية العامة والخاصة، وعليهم أن يأخذوا لهم الدرس والعبرة مما جاء في المزمور الأول حيث يعطي كاتبه الطوبى للإنسان الصالح الذي في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً (مز1: 2)، وقول صاحب المزامير أيضاً وهو يناجي اللّه قائلاً: «سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي حلفتُ فأَبرُّه أن أحفظ أحكام برك» (مز119: 105 و106).
أجل إن الصالحين يواظبون على قراءة الكتاب المقدس ودراسته، ويطبقون شريعة الرب بأفكارهم وأقوالهم وأعمالهم عاملين بوصية الرسول بولس القائل: «فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح» (في1: 27).
أيها الأحباء: إنها لفرصة ذهبية سنحت لنا الآن، فرصة قدوم موعد الصيام الأربعيني المقدس فعلينا إلاّ نضيعها، وأن نسعى إلى التقرب إلى الرب يسوع بالإيمان المتين والأعمال الصالحة مقتدين به في تدبيره الإلهي بالجسد، حاملين صليبه المقدس وتابعين إياه، ولنتعلّمن منه الصوم والصلاة، فقد صام من أجلنا أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وسمح أن يجرب من الشيطان، واستشهد بآيات الكتاب المقدس داحراً إبليس اللعين، وكشف لنا سر النصر على الشيطان بقوله: «وأمّا هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم» (مت 17: 21)، فعلينا أيها الأحباء أن نواظب على الصلاة، ونتمسّك بفريضة الصيام، ونوزع الصدقات على المحتاجين خاصة في هذه الأيام المقدسة التي خصصتها الكنيسة بالصوم الأربعيني. والكنيسة أمنا ومعلمتنا تعلمنا وترشدنا لنجلس إلى أسفار الكتاب المقدس جاعلين إياه موضوع تأملاتنا وخاصة في هدوء الليل وسكينته. فإذا كنا بالصلاة نناجي اللّه تعالى ونشكره على ما يسبغه علينا من النعم الغزيرة الروحية والجسدية، علينا خاصة أن نشارك الملائكة بتسبيحه وتمجيده، وعلينا أن نُنصت باهتمام وإيمان ورجاء ومحبة إلى كلامه الإلهي المقدس الذي دوَّنه الأنبياء والرسل والآباء القديسون في أسفار الكتاب المقدس. فهو تعالى بعد أن كلّم الآباء بالأنبياء كلّمنا بابنه الوحيد الذي هو كلمته الإلهية، الذي كتب عنه يوحنا الإنجيلي بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللّه وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل فينا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو1: 1و14). فعلينا أن نؤمن به ونطيعه فقد شهد له الآب السماوي بالصوت الذي جاء من السماء في حادثة تجلي الرب يسوع على الجبل قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا». (مت17: 5).
فلنسمع الرب يسوع ابن اللّه الوحيد الذي أمرنا أن نصوم ونصلي وأن نرحم أخانا الإنسان الفقير والمعوز والمحتاج لنستحق أن نرث معه ملكوته السماوي.
بارككم الرب الإله أيها الأحباء، وأهّلكم لتجدّدوا علاقتكم الروحية به تعالى وتواظبوا على سماع صوته الإلهي ومعرفة إرادته السماوية بدراسة الكتاب المقدس الذي عن طريقه يخاطبنا الرب ويرشدنا وينير طريقنا فهو سراج لأرجلنا نتخذه بإيمان لكي لا نعثر في طريقنا. تقبّل الرب صومكم وصلواتكم، وأهّلكم لتحتفلوا بعيد قيامة الفادي من بين الأموات بطهر وقداسة وبهجة وسرور، والنعمة معكم ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية
في اليوم الثلاثين من شهر كانون الثاني سنة ألفين وأربع
وهي السنة الرابعة والعشرون لبطريركيتنا