الذكرى المئوية الثامنة للقديس البطريرك مار ميخائيل الكبير (+1199م)
أما بعد: فقد أطلّ القرن الثاني عشر للميلاد على بلاد سوريا وما بين النهرين العليا والسفلى فرآها في حالة بائسة لا تحسد عليها، فقد كان الفرنجة المحتلون يعيثون فساداً وقتلاً ونهباً وتخريباً في طول البلاد وعرضها، ويؤسسون الدويلات المتناحرة، فكنت لا تسمع إلا أخبار فتن وحروب وقتالات. وكانت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية جزءاً لا يتجزّأ من ذلك المجتمع الفاسد وغير المستقر. فنتيجة لذلك قلّ إيمان بعض المؤمنين، واضطربت أفئدتهم، وتبلبلت أفكارهم، ويئس من الخلاص عدد كبير منهم من شدة الضيق وتقلّب الأحوال السياسية والاجتماعية بل أيضاً الكنسية.
في تلك الفترة الزمنية ولد مار ميخائيل الكبير عام 1126 للميلاد في مدينة ملاطية إحدى الأبرشيات السريانية الشهيرة اللائذة بالكرسي الرسولي الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي، على عهد البطريرك مار أثناسيوس السابع أبي الفرج ابن كامور (1091 ـ 1129م) الذي وُصف بأنه كان كاملاً في جميع الفضائل وعالماً كبيراً، ولمحبته العلم والفضيلة رسم العلامة الملفان سعيد ابن الصابوني مطراناً على ملاطية الذي لم يمضِ أربعون يوماً على رسامته مطراناً حتى استشهد بيد جبرائيل البيزنطي حاكم ملاطية الغاشم الظالم الذي لصق فيه تهمة سياسية كان بريئاً منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. كما أن البطريرك أثناسيوس نفسه تحمّل ضيقات شديدة في الإدارة الكنسية من الداخل والخارج.
نشأ الفتى ميخائيل في دار سريانية تتضوّع في جوانبها رائحة المسيح الزكية. فقد كان أبوه القس إيليا الملطي كاهناً فاضلاً تقياً وهو سليل أسرة قنداسي، التي أنجبت العديد من خدام الكنيسة: منهم المطران أثناسيوس زكا مطران عين زربة (+1166) عم البطريرك ميخائيل الكبير، ومنهم المفريان غريغوريوس يعقوب، والبطريرك ميخائيل الثاني المسمىّ الصغير ابن أخي مار ميخائيل الكبير وهو يشوع الشفهي (ܣܦܬܢܐ).
ترهّب الشاب ميخائيل في دير مار برصوم بجوار ملاطية ورسم كاهناً ثم عيّن رئيساً للدير. وأثناء فترة رئاسته جلب الماء إلى الدير. ولما فرغ الكرسي البطريركي بوفاة البطريرك أثناسيوس الثامن اجتمع المجمع الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي المقدس المؤلّف من ثمانية وعشرين مطراناً، في دير فسقين في ناحية كركر، في أحد العنصرة، وبإرشاد الروح القدس انتخبوا بالإجماع الربان ميخائيل بطريركاً للكرسي الرسولي الأنطاكي. ولما علم الربان ميخائيل بذلك هرب واختفى، معللاً هروبه بعدم استحقاقه لهذه الرتبة السامية، ولما وجدوه لم يطاوعهم حتى عاهدوه على التقيد بالقوانين البيعية. وساعده على تنفيذ ذلك الواجب مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي مطران آمد (+1171) أحد أعضاء المجمع المقدس. ويوم الثلاثاء 18 تشرين الأول سنة 1166 رُسم بطريركاً في دير مار برصوم بوضع يد المفريان ومعه اثنا عشر أسقفاً. ووضع البطريرك الجديد في دير حننيا واحداً وثلاثين قانوناً.
من أجلّ أعمال البطريرك مار ميخائيل الكبير الرعوية، نقله الكرسي البطريركي الأنطاكي من آمد إلى دير مار حننيا المدعو بالزعفران، ويوم وصوله إلى الدير والاحتفال بطقس تجليسه على الكرسي البطريركي في مقره الجديد، ارتجل المطران مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي خطبة شيقة مطلعها: (حبيًبي يومنا روزا يومنا ديأا). أحبائي اليوم يوم البهجة والسرور. وعدَّد بخطبته هذه النفيسة مزايا البطريرك ميخائيل الحميدة. وقام البطريرك ميخائيل بزيارات رسولية لأبرشياته الواسعة عصرئذ، ثم توجّه عام 1168 إلى أورشليم القدس ونزل في دير مريم المجدلية بالقرب من باب العمود، واحتفل فيه بتقديس الميرون المقدس، ورسم في عيد القيامة يوحنا مطراناً لدمشق، ثم رجع إلى مقر كرسيه الرسولي في دير الزعفران حيث وضع مجموعة من القوانين البيعية ذكرها العلامة المفريان مار غريغوريوس ابن العبري، كما عقد مجمعاً بدير مار برصوم سنة 1169. وفي السنة التالية بعث مانويل الامبراطور قاصداً رسولاً اسمه ثاوريانس إلى السريان والأرمن وجاوبه البطريرك مار ميخائيل بواسطة يوحنا أسقف خيزوم والراهب ثاودورس بن وهبون، وسنة 1180 عقد مار ميخائيل مجمعاً حرم فيه ثاودورس ابن وهبون الملطي الذي ولئن كان عالماً ولكنه كان متكبراً وخالياً من التقوى ومخافة اللّـه فتمرّد على رئيسه وسامه أربعة أساقفة مشاقين منبوذين بطركاً دخيلاً ومع أنه كان تلميذاً للبطريرك ميخائيل الكبير وتربّى في قلايته ولكنه جحد فضله فكانت نهايته الحرم والتشرد ومات سنة 1193. ووضع مار ميخائيل كتاباً في الرتب الكهنوتية وطقوس الكنيسة وفي الاستعداد لتناول القربان المقدس، وفي واجبات الإنسان وكيف يكون تلميذاً ليسوع، وفي لزوم الاعتراف والتوبة. ومن أجلّ مؤلفاته كتاب التاريخ الديني المدني العام من أول الخليقة وحتى سنة 1193 ألّفه بالسريانية ويقع في ثمانمائة صفحة بالقطع الكبير والخط الدقيق، ولهذا السفر الجليل نسخة فريدة محفوظة اليوم في خزانة كنيسة مار جرجس بحي السريان في حلب.
وعلى أثر رسامته، وجريا على العادة القديمة المتبعة بين الكنيستين السريانية والقبطية، بعث برسالة الشركة إلى البطريرك الإسكندري يومئذ البابا يوحنا الخامس ابن أبي غالب المسمّى أبا المجد، ضمّنها صورة إيمانه. كما دبّج رسالة ثانية إلى خلفه البابا الإسكندري مرقس الثالث ابن زرعه في موضوع سر الاعتراف الذي رفضه المبتدع مرقس بن قنبر الضرير، مشوّشاً بتعليمه الزائف عقول أبناء الكنيسة القبطية الشقيقة زمناً طويلاً بتجديد بدعة الأوريجانيين والمصلين، ففنّد البطريرك مار ميخائيل الكبير آراءه الفائلة وتعاليمه الباطلة، وأثبت وجوب ممارسة سر الاعتراف المقدس، كما أوجب حرم المبتدع ابن قنبر وبدعته الشنيعة.
ورسم البطريرك ميخائيل مفرياناً وأربعة وخمسين أسقفاً.
وانتقل إلى الخدور العلوية يوم الإثنين الواقع في السابع من شهر تشرين الثاني سنة 1199 عن عمر يناهز الثالثة والسبعين سنة قضى منها في البطريركية ثلاثاً وثلاثين سنة. ودفن في البيعة الجديدة بدير مار برصوم في الضريح الذي هيأه لنفسه في حياته.
أجل كانت حياة صاحب الذكرى البطريرك مار ميخائيل الكبير حياة بر وقداسة، فقد عاش حياة المعترفين الصالحين المضطهَدين من أجل البر، أسوة بأغلب بطاركة كنيستنا المقدسة وبعض أساقفتها الأبرار. كما كان عالماً فاضلاً وبحاثة شهيراً، يصفه العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم بقوله: «من أحبار بيعة اللّـه العظام وصفوة بطاركة أنطاكية، العالم والمؤرّخ المشهور، الخالد اسمه، الجميل سعيه، المحمودة طرائقه، الذائعة فضائله الصالحة أعماله» كما أنه يناجيه بقوله: «ألا يحق لتاريخ العالم العام تخليد اسمك الشريف بعد أن وضعت تلك المجلدات الحافلة بأحداث العصور من أولها حتى عهدك السعيد إذ أحييت منها ما كان لولاك نسياً منسياً؟ بلى يجدر ذلك بالعالم عامة وبأمتك خاصة. ولم تبدُ عظمتك في هذا وحسب بل وكنت كبيراً في فضائلك وجَلَدك ونفسك الأبية، عظيماً في أعمالك البطريركية فلا غرو أن ينعتك التاريخ بالكبير.»
أيها الأحباء بمناسبة الذكرى المئوية الثامنة لانتقال البطريرك القديس مار ميخائيل الكبير إلى الخدور العلوية، نأمر بسلطاننا الرسولي أن تحتفل كنيستنا المقدسة في العالم أجمع بإحياء هذه الذكرى يوم السابع من شهر تشرين الثاني من هذه السنة 1999 التي نعتبرها سنة البطريرك مار ميخائيل الكبير، وأن يُفتتح الاحتفال بإحياء هذه الذكرى السعيدة بالقداس الإلهي الذي سنحتفل به إن شاء اللّه في دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا، ويحتفل به أحبار الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأجلاء وكهنتها الأفاضل في العالم أجمع في اليوم ذاته الذي يجب أن يكرّس ويخصّص لعبادة الرب الإله وطلب شفاعة القديس مار ميخائيل الكبير، وليتناول الوعاظ سيرة صاحب الذكرى المبجل في مواعظهم، وليُتلَ منشورنا هذا الرسولي مرة ثانية بعد أن كان قد تلي على مسامع المؤمنين للمرة الأولى في قداس يوم الأحد المصادف لـ 23 أيار من العام الجاري، كما نأمر أن يتقدم الإكليروس والشعب إلى منبر سر الاعتراف القانوني مقدمين للّه توبة نصوحاً صادقة وأن يشتركوا بتناول القربان المقدس، بإيمان وتقوى ومخافة اللّـه لنيل بركة الرب، فإن «ذكر الصديق للبركة»(أم 10: 7) كما يقول صاحب الأمثال. وأن تقام في أبرشياتنا احتفالات تكريمية وندوات علمية وحلقات دراسية تتناول بالدرس سيرته الطاهرة النقية ومؤلفاته النفيسة. وفي مقدمة ذلك مؤتمر الباحثين والمستشرقين الذي كان مقرراً أن يعقد في مدينة حلب، ونقل إلى كليتنا اللاهوتية في دير مار أفرام السرياني في معرة صيدنايا في الفترة الواقعة بين 1 ـ 8 تشرين الأول 1999. وأوكلنا إدارته إلى نيافة أخينا الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا ابراهيم مطران حلب وتوابعها.
أيها الأحباء:
عندما نتأمل بسيرة البطريرك القديس مار ميخائيل الكبير ومجريات الحوادث المدنية والدينية التي واكبت مراحل حياته منذ ميلاده وحتى انتقاله إلى الخدور العلوية في القرن الثاني عشر للميلاد، نرى أن كنيستنا السريانية الأرثوذكسية كانت في تلك الفترة الزمنية العصيبة من تاريخها تشابه السفينة التي يذكر الإنجيل المقدس أن الرب يسوع أخذها مساء أحد الأيام وكان تلاميذه معه لتجتاز بهم إلى العبر، فحدث نوء ريح عظيم وكانت الأمواج تضرب إلى السفينة حتى صارت تمتلئ، وكان الرب يسوع في المؤخرة على وسادة نائماً، فأيقظوه وقالوا له يا معلم أما يهمّك أننا نهلك. فقام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت ابكم فسكتت الريح وصار هدوء عظيم. وقال لهم ما بالكم خائفين هكذا؟ كيف لا إيمان لكم؟ فخافوا خوفاً عظيماً وقالوا بعضهم لبعض من هو هذا فإن الريح أيضاً والبحر يطيعانه (مر 4: 35 ـ 41).
أجل، إن قلّة الإيمان في ظروف صعبة كهذه تنتج الخوف والفزع، أما المؤمنون الحقيقيون بالمسيح يسوع ربنا، الواضعون ثقتهم التامة بمقدرته الإلهية وعنايته الربانية باتباعه، فلا تضطرب قلوبهم ولا يرتاعون مهما جرى في الكون طالما أن المسيح وعدهم أن يكون معهم حتى انقضاء الدهر، فعليهم أن يثبتوا على الإيمان به لأنه إله قدير، فلا يخافون «ولا تضطرب قلوبهم»(يو 14: 1). طالما المسيح معهم في كنيسته، فمهما اشتدت الضيقات وأثيرت الاضطهادات ضد كنيسة المسيح فهي ثابتة ولن تتزعزع لأن اللّه في وسطها (مز 46: 5) ويوم أسسها الرب يسوع على صخرة الإيمان الذي أعلنته السماء على لسان هامة الرسل بطرس وعدها قائلاً: «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت 16: 18) ولئن كان إبليس اللعين ما يزال يحاول أن «يضل لو أمكن المختارين»(مت 24: 24) ولكنه يُدحر أمام قوة المسيح يسوع وأتباعه الصالحين، وعلينا ألاّ نستغرب إذا وجدنا أحياناً بعض الذين اختارهم الرب ليكونوا نوراً للعالم يتبعون غواية إبليس فيصير النور فيهم ظلاماً، ويسببون متاعب لرعاة الكنيسة الصالحين. فإن الرب في معرض كلامه عن الأيام الأخيرة قد أنبأنا قائلاً: «لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (مت 24: 12و13).
نشكر اللّـه تعالى الذي يرمق كنيسته بعين رحمته ويحتاطها بعنايته ويقيم فيها رعاة صالحين كصاحب الذكرى البطريرك القديس مار ميخائيل الكبير ليرعوا خرافه ونعاجه وكباشه الرعاية الصالحة ويعطوا عبيده طعامهم الروحي في حينه. أولئك الآباء القديسون الذين يعيشون كما يحق لإنجيل المسيح ويعملون بشريعة الرب يسوع وناموسه وفرائضه وقوانين بيعته المقدسة التي افتداها بدمه الكريم ويتحمّلون في سبيل ذلك المشقات وهم يجاهدون الجهاد الحسن ويكملون السعي ويحفظون الإيمان كالرسول بولس فيحفظ لهم الرب الديان العادل إكليل البر في السماء الذي يهبه لكل واحد منهم، وليس لهم فقط بل لكل الذين ينتظرون مجيئه الثاني (2تي 4: 7و8).
فما أسعدنا رعاة ورعايا إذا جعلنا البطريرك القديس مار ميخائيل الكبير قدوة لنا بالتمسك بالإيمان والعمل بناموس الرب واللهج فيه نهاراً وليلاً والحفاظ على قوانين الكنيسة التي إنما وضعت بإرشاد الروح القدس لتصوننا ضمن حظيرة المسيح يسوع ربنا.
جعل اللّـه تعالى هذه الذكرى السعيدة سبب بركة لكم جميعاً بشفاعة السيدة العذراء مريم والقديس البطريرك مار ميخائيل الكبير والشهداء الأبرار والقديسين كافة، ونعمة الرب تشملكم دائماً أبداً آمين. ܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية
في اليوم الرابع عشر من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وتسع وتسعين
وهي السنة التاسعة عشرة لبطريركيتنا