باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل

إغـنـاطـيـوس زكـا الأول عـيـواص

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع

سر الكهنوت المقدس

نهدي البركة الرسولية والدعاء والسلام بالرب يسوع إلى نيافة أخينا الحبر الجليل المطران مار اقليميس أوجين النائب البطريركي لأبرشية غربي الولايات المتحدة الأميركية، وأبنائنا الروحيين الأفاضل الكهنة، والشمامسة وأعضاء المجالس الملية والمؤسسات الكنسية وسائر أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرّمين، حرستهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم وسائر الشهداء والقديسين آمين.

بعد تفقد خواطركم العزيزة نقول:

نشكر لكم شعوركم البنوي النبيل بدعوتكم إيانا لترؤس مؤتمر النيابات البطريركية الثلاث في الولايات المتحدة الأميركية وكندا لكنيستنا المقدسة، كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية، الذي سيعقد في هذا العام في مدينة لوس أنجلوس ـ كاليفورنيا. وتستضيفه أبرشيتكم العامرة، في الفترة الواقعة ما بين 31 تموز و3 آب من العام الجاري 1997، فيسرنا أن نلبي دعوتكم هذه الكريمة، إن شاء اللّه تعالى، لنجتمع معاً باسم ربنا يسوع المسيح الذي وعدنا قائلاً: «لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»(مت 18: 20) فأملنا أن يبارك ربنا يسوع جمعنا بحضوره، فنمجّده ونشكره على عطاياه الكثيرة التي لا يعبّر عنها، فـ «كلّ عطية صالحة وكلّ موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران»(يع 1: 17) على حد قول الرسول يعقوب.

أيها الأحباء: نِعمَ ما فعلتم باتخاذكم سر الكهنوت المقدس شعاراً لمؤتمركم المبارك، فلنتناول موضوعه بالدرس في اختصار، ملقين عليه نظرة سريعة خاطفة.

لقد أسس الرب يسوع سر الكهنوت المقدس مباشرة بعد تأسيسه كنيسته المقدسة على صخرة الإيمان القويم الذي أعلنته السماء على لسان هامة الرسل بطرس الذي قال للرب يسوع: «أنت هو المسيح ابن اللّه الحي فأجابه يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يَونا. إنّ لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات. وأنا أقول لك أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكلّ ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات»(مت 16: 16 ـ 19).

ومنح الرب يسوع جميع الرسل هذا السلطان عندما ظهر لهم عشية يوم قيامته من بين الأموات وهم مجتمعون في العلية وكانت الأبواب مغلقة، فوقف في وسطهم وقال لهم يسوع: «سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أُمسكتْ» (يو 20: 21و22) فرسمهم بذلك كهنة كما يعلمنا آباؤنا القديسون، كما أنه رسمهم أساقفة عندما «أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء. فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم»(لو 24: 50 ـ 52) هكذا أقام الرب يسوع لكنيسته رعاة ومدبرين ومعلّمين ومرشدين ووهبهم الروح القدس روح الحق ليصونهم في الحق وليذكّرهم بكل ما قاله المسيح لهم، صيانة لجوهرة الإيمان القويم الثمينة وحفاظاً عليها سليمة. وجعلهم وكلاء له أمناء وأشركهم بسلطان رعاية أغنامه الناطقة على مروج تعاليمه الإلهية، وجداول مياه إنجيله المقدس الحية، وليوزعوا على عبيده طعامهم في حينه. ويقول الرسول بولس بهذا الصدد: «ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من اللّه كما هرون أيضاً» (عب 5: 4) فالكهنة والأساقفة بمختلف درجاتهم يفرزهم اللّه من بين المؤمنين ليتقدموا الشعب ويقدموا القرابين لمغفرة خطاياهم وخطايا الشعب، ويُنعم عليهم الرب الإله بحمل رسالة الكهنوت فينالون السلطان الإلهي الخاص بمن ينتخب لهذه الوظيفة السامية وما يتبعها من امتيازات وحقوق روحية وما يلحق بها من واجبات وأعباء يقومون بها، من ذلك التفتيش عن الخروف الضال وحمله على المنكبين والإتيان به إلى حظيرة الخراف ومنها انتظار الابن الضال والفرح بعودته وإعادة الثقة به. ومن الواجبات تفقد أبناء الرعية وإنذار الخطاة ليتوبوا وإلاّ فالرب يعاقب رعاتهم كقوله تعالى للنبي حزقيال: «إذا قلتُ للشرير موتاً تموت وما أنذرْتَه أنت ولا تكلمْتَ إنذاراً للشرير من طريقه الرديئة لإحيائه فذلك الشرير يموت بإثمه، أما دمه فمن يدك أطلبه»(حز 3: 18). وفي مضمار استعراضنا واجبات الكاهن وامتيازاته ندرك أن الكاهن الذي مهمته الرئيسة أن يوصل صوت الشعب إلى اللّه ويرفع صلواته إليه تعالى، هو في الوقت ذاته يمارس وظيفة النبي بإيصاله صوت اللّه إلى الشعب، فعلى الكهنة أن ينذروا الخطاة بالوعظ والإرشاد وبإطاعة الأوامر الإلهية وأن يقيموا من أنفسهم مثالاً لهم، وبهذا يصير الكهنة نوراً للعالم وملحاً للأرض.

كان الرب يسوع قد اختار رسله الأطهار وتلاميذه الأبرار، ودعاهم بنفسه، فلبّوا الدعوة وتبعوه بملء إرادتهم، تاركين كل شيء في سبيله، فخرّجهم في مدرسته الإلهية، وكان ينفرد بهم بين الفينة والفينة ويشرح لهم أمثاله وتعاليمه الإلهية ليدركوا ما كان يقصده من مواعظه النفيسة ومنحهم أيضاً مفاتيح المعرفة وإدراك فحوى وصايا اللّه تعالى ونواهيه كما أنعم عليهم بسلطان التعليم والتهذيب والتأديب والتبرير والتقديس لأجل بنيان جسد المسيح المقدس الذي هو الكنيسة. وكانت الشياطين تخضع لهم باسمه كما أخبروه فرحين بعد عودتهم من جولة كان قد أرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتي… وقال لهم: «أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضرُّكم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات» (لو 10: 19و20) من هنا نعلم أن أجر كهنة الرب هو في السماء لا على الأرض التي أرسلهم ليكرزوا فيها ببشارة الخلاص ولم يعدهم بتوفير الراحة الجسدية والهناء، بل على العكس فقد طالبهم بنكران ذاتهم وحمل صليبه واتّباعه في طريق الآلام والتضحية في كل الأمور والشؤون الدنيوية وقال لهم: «لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا لأن الفاعل مستحق أجرته… ها أنا أرسلكم كغنم في وَسْطِ ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام… وتكونون مبغضين من الناس من أجل اسمي ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص… ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنم…» (مت 10: 7 ـ 28)… بهذا أنبأهم الرب عمّا سيصادفهم من المشقات في الحياة طالما اختاروا أن يدخلوا من الباب الضيق ويسلكوا الطريق الصعبة الموصلة إلى الملكوت. ولكن في الوقت نفسه أكّد لهم حمايته لهم، ومكانتهم الرفيعة لديه بقوله: «وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. فلا تخافوا… فمن يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني. فمن يقبل نبياً باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل باراً باسم بار فأجر بار يأخذ…» (مت 10: 30 ـ 41).

والرسول بولس يوصي المؤمنين بإكرام الإكليروس بقوله: «ثم نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبّرونكم في الرب وينذرونكم وأن تعتبروهم كثيراً جداً في المحبة من أجل عملهم» (1تس 5: 12).

أما المكافأة الأفضل والأسمى فينالها الرعاة الصالحون في السماء وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديّان العادل»(2تي 4: 7) فالذين دعاهم الرب في هذه الحياة فلبّوا الدعوة وأرسلهم فجاهدوا في سبيل  خلاص نفوسهم وخلاص الآخرين سيدعوهم في اليوم الأخير ليدخلوا ملكوته السماوي ويرثوا النعيم الأبدي متوّجين بإكليل البر مع الأبرار والأتقياء والقديسين، ويكونون جميعاً مع الرب يسوع الذي وعد قائلاً: «إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي وإن كان أحد يخدمني يكرّمه الآب»(يو 12: 26).

أيها الأحباء: لننتهز فرصة وجودنا مجتمعين معاً إكليروساً وشعباً في هذا المؤتمر المبارك لنجدد عهدنا مع اللّه بإطاعة أوامره وتجنب نواهيه ونجدد أيضاً عهدنا بعضنا مع بعض لنتعاون على ما فيه خلاص نفوسنا وتقدم كنيستنا السريانية الأرثوذكسية المقدسة وازدهارها. وننال بذلك مكافأة الرب الإله في الأرض والسماء ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا

في اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وسبع وتسعين

وهي السنة السابعة عشرة لبطريركيتنا