«من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات»(مت 4: 17)
لا يقوى الإنسان مهما وُهب من ذكاء خارق على سبر غور محبة الله للبشر، وإدراك سرّها. فقد أحبّهم تعالى حتى الموت موت الصليب الأمر الذي أعلنه الإنجيل المقدس بقوله: «لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16). فالمحبة كانت الدافع الأول لإرسال الله ابنه الوحيد إلى عالمنا، فتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصُلب عوضاً عنا، ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما شاء، على حد تعبير دستور الإيمان النيقاوي. وهكذا فدانا نحن المؤمنين به، وغفر لنا الخطية الجدية التي ورثناها عن أبوينا الأولين، والخطايا الشخصية التي اقترفناها قبل أن اعتمدنا باسمه ونلنا به الخلاص إتماماً لوعده الإلهي القائل: «من آمن واعتمد خَلَص، ومن لم يؤمن يُدَنْ»(مر 16: 16). وباعتمادنا باسمه ولدنا من الماء والروح ميلاداً ثانياً، من السماء، فتبرّرنا وتقدسنا وصرنا أولاداً للّه بالنعمة وورثة لملكوته السماوي، وهذه هي الغاية القصوى من سرّي التجسّد والفداء. وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «صادقة هي الكلمة أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أوّلهم أنا»(1تي 1: 15). فلا غرو من ابتداء الرب يسوع تدبيره الإلهي العلني في الجسد بإعلان رسالته السماوية السامية، رسالة التوبة، قائلاً: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات»(مت 4: 17) ويقول أيضاً: «قد كَمَل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(مر 1: 15). ويقول الرسول بطرس للذين نخسوا في قلوبهم على أثر خطابه يوم الخمسين وقالوا له ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟ قال لهم: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس»(أع 2: 37و38). فرسالة الفداء التي جاء بها المسيح يسوع ربنا هي إعداد الإنسان للحياة الأبدية، بتوبته الخالصة، وإيمانه القويم بالرب يسوع المسيح، وقبوله إيّاه مخلّصاً له وللعالم، واعتماده باسمه وخضوعه لشرائعه الإلهية. وبهذا الصدد يقول الرب يسوع لأبيه السماوي: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»(يو 17: 3).
أجل إن الله تعالى يعرف أننا بشر ضعفاء، معرّضون دائماً للدخول في التجارب الصعبة والسقوط في وهدة الآثام، طالما نحن لابسون هذا الجسد البشري. ولئن اعتمدنا باسم الرب القدوس، وحلّ علينا الروح القدس، لذلك نهج لنا اللّه سبيل التوبة والعودة إليه تعالى بعد أن نعترف بخطايانا، نادمين على ما اقترفته أيدينا من الآثام. وقبيل صعود الرب يسوع إلى السماء منح رسله الأطهار وتلاميذه الأبرار سلطان ربط الخطايا وحلّها قائلاً لهم: «خذوا الروح القدس، من غفرتم خطاياهم تغفر لهم، ومن أمسكتم خطاياهم تمسك لهم»(يو 20: 22و23). بهذا السلطان السماوي ينعم الرب بمغفرة الخطايا على المؤمنين الذين قد قدّموا لله توبة خالصة، لأن الخطية هي التمرد عليه تعالى ومعصيته والابتعاد عنه وبهذا الشأن يقول النبي اشعيا: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع»(اش 59: 2). ويصف الرسول يوحنا الخطية بأنها التعدي بقوله: «من يفعل الخطية يفعل التعدي»(1يو 3: 4) وهذا التعدي هو عدم توافق أفكار الإنسان وأقواله وأعماله مع ناموس الله، فهو بذلك يتعدى الناموس ويتمرّد على الله ويطيع إبليس عدو الله والإنسان في آن واحد، وهو المجرّب الذي يحاول اصطياد الإنسان في فخه، وإسقاطه في شرك المعاصي. وأياً كان نوع الخطية فهي تعتبر تعديّاً على وصايا الله وأوامره ونواهيه، وكأنها وُجّهت إليه تعالى مباشرة. هذا ما حدا بالنبي داود الذي سقط في خطيته الشنيعة أن يناجي الله قائلاً: «إليك وحدك أخطأت والشرّ قدام عينيك صنعت»(مز 51: 8) ولكي يوضح أن تلك الخطية كانت شخصية، وأنه بالإضافة إليها قد ورث الخطية الجدية، يقول: «ها أنذا بالإثم صُوّرتُ وبالخطية حبلت بي أمي»(مز 51: 5).
أجل! إن الخطية خطيرة جداً وتؤدي إلى الهلاك الأبدي، حتى قيل عنها: «والخطية إذا كَملت تنتج موتاً»(يع 1: 15) «لأن أُجرة الخطية هي موت»(رو 5: 23) لذلك إذا ما تملّكت الخطية إنساناً هيمن عليه القلق والاضطراب وتأنيب الضمير، وعدم الاستقرار، وهو يتوقّع بخوف وفزع شديدين، العقاب الصارم، جزاء ما جنت يداه. شكراً لله الذي أرسل ابنه الوحيد فصار كفّارة عنا بموته على الصليب حيث أمات الخطية، وقيامته من بين الأموات، وهكذا صالحنا مع أبيه السماوي ويريدنا أن نبقى بسلام مع السماء، لنستحق أن نرث ملكوت الله. فقد تبررنا من الخطية الجدية ودفنا مع المسيح بالمعمودية للموت، وقمنا معه في الحياة الجديدة. وحيث أننا بشر معرّضون دائماً للسقوط في الخطية، فلن يسألنا الرب يوم الدين لماذا أخطأتم، بل لماذا لم تتوبوا؟ أما التوبة فهي العودة إلى الله والخضوع لأوامره الإلهية، بعد رجوع الخاطئ إلى نفسه متأملاً ملياً وبعمق وإيمان وصدق، حالته الحاضرة التعيسة البائسة حالة الخطية، وحالته السعيدة التي سبقت سقوطه في الخطايا والآثام، وما كان عليه في بيت أبيه من راحة بال وطمأنينة. ويعترف بخطاياه بانسحاق قلب نادماً على اقترافه الذنوب وتعديه ناموس الرب، وتائقاً إلى الرجوع إلى الله بالتوبة وعازماً على ذلك، ولا يكتفي بالعزم فقط بل يقتدي بالابن الشاطر الذي قال: «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً. اجعلني كأحد أجراك. فقام وجاء إلى أبيه»(لو 15: 18و19). أجل قام حالاً وجاء إلى أبيه بأسماله البالية ولباسه المزري وخطاياه الكثيرة، فوجد أباه ينتظره بفارغ الصبر ليعود إليه، فقال الابن لأبيه: «يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً. فقال الأب لعبيده أخرجوا الحُلَّة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتماً في يده وحذاءً في رجليه وقدّموا العجل المسمّن واذبحوه فنأكل ونشرب. لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد…»(لو 15: 11 ـ 32). كل هذا يرمز إلى محبة الله للخاطئ وانتظاره إياه ليعود إلى بيته سالماً، وليس هذا فقط بل إن الرب الذي هو الراعي الصالح الذي يخرج دائماً ليفتش عن الخروف الضال وعندما يجده يحمله على منكبيه ويأتي به إلى حظيرة الخراف. وهكذا أعاد الأب إلى ابنه الشاطر رتبته، ومكانته، وألبسه الحُلَّة الجديدة، ليصير إنساناً جديداً، في حياة جديدة. ووضع خاتم العهد بيده وبذلك جدد العهد معه والثقة به، وأقام مأدبة فاخرة لأهل تلك المنطقة ليفرحوا معه، ويقبلوا بفرح عودة الابن الشاطر إلى مجتمعهم. أما غضب الابن الكبير وحزنه لأن أخاه قد عاد، فيمثّل مراءاة الكتبة والفريسيين وعدم رغبتهم في خلاص العشارين والخطاة. فهم لا يدخلون ملكوت الله ولا يدعون الداخلين أن يدخلوا. وقد اعترض هؤلاء الكتبة والفريسيون على الرب يسوع لأنه عاشر العشارين والخطاة وجالسهم وفتح أمامهم باب التوبة ليخلصوا، فقال لهم الرب: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، فاذهبوا وتعلّموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آتِ لأدعوَ أبراراً بل خطاة إلى التوبة»(مت 9: 13). وبرهن الرب على ذلك بقبوله التائبين العائدين إليه بإيمان متين، وغفر لهم خطاياهم. هكذا غفر الرب لزكا العشار ومتى العشار ومريم المجدلية والمرأة الزانية، والسامرية على بئر يعقوب والرسول بطرس، واللص التائب وغيرهم، ولا يزال الرب يسوع يغفر لكل التائبين توبة صادقة خالصة. وبهذا الصدد يقول الرسول يوحنا: «يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عن الآب يسوع المسيح البار وهو كفّارة لخطايانا وليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً»(1يو 2: 1و2).
ما أعظم محبة الله للعالم ورحمته للخطاة ورغبته بعودتهم إليه تائبين ليقبلهم كما قبل الأب ابنه الشاطر. وما أشقى الخاطئ الذي لا يشعر بشقائه وهو في حال الخطية ولا يعزم على العودة إلى الله تائباً.
إن إصرار الخاطئ على خطيته، وخلق الأعذار الواهية لتبرير نفسه، هما إهانة لطول أناة الله وقدرته تعالى. أما التوبة النصوح، فتثمر فرحاً روحياً، حيث يمتلئ قلب الإنسان التائب بهجة بخلاصه، وبإقامة الصلح والسلام مع الرب الإله. وتشارك السماء التائب بهذا السرور فقد قال الرب يسوع: «أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة»(لو 15: 7). وهذا الفرح يدل على الإيمان الذي يعمر القلب والفكر وهذه هي الديانة الحقيقية.
أجل! على التائب الذي نال مغفرة خطاياه من الرب بوساطة الكاهن الشرعي الذي وهب له الرب يسوع سلطان مغفرة الخطايا، على ذلك التائب أن يواصل علاقته البنوية مع الآب السماوي بممارسته الفضائل السامية التي هي الثمار اليانعة التي تليق بالتوبة (مت 3: 8) هكذا أوصى يوحنا المعمدان الذين جاءوا إليه معترفين بخطاياهم، فعمَّدهم معمودية التوبة، وبشّرهم بقرب مجيء المخلص وقال لهم: أثمروا ثماراً تليق بالتوبة…
ويجب ألا يكتفي التائب بمغفرة خطاياه بل أيضاً عليه أن يطلب من الله ما طلبه داود النبي الذي أخطأ وتاب وناجى الرب متضرعاً قائلاً: «ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امحُ معاصيّ…، قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني. ردّ لي بهجة خلاصك وبروح منتدبة اعضدني فأعلّم الأثمة طرقك والخطاة إليك يرجعون» (مز 51: 1و10 ـ 13). فالتائب بحاجة إلى التجديد، تجديد القلب الذي هو الضمير أيضاً، وهو يصلي إلى الله لئلا ينزع منه روحه القدوس لأن الروح الصالح إذا غادر الإنسان حلّ محله روح إبليس كما جرى لشاول. وقد خبر داود ذلك، وهو يطلب ألاّ ينزع منه الروح القدس الذي يرشده إلى سواء السبيل ليبقى ثابتاً في حالة البر والتقوى، الحالة التي عادت إليه بعد عودته إلى الله بالتوبة الصادقة.
أجل لقد استشرى الشرّ في جيلنا هذا الخبيث، وتمرّغنا في الآثام، وأصبحنا بحاجة ماسة إلى أن نتوب توبة حقيقية التي هي الحزن والندامة على ما اقترفناه من الخطايا ونعزم على تجنبها وعدم السقوط فيها. فلنقتدِ بداود النبي في طلب المغفرة من الله والتوبة إليه تعالى، وبالابن الشاطر بالندامة والعودة إلى بيت الأب. ولنعترف بخطايانا أمام الكاهن الشرعي ليزودنا بإرشاداته الروحية كأدوية شافية وواقية، ثم يتلو علينا صلاة الحلة والغفران بسلطان الكهنوت الذي وهب له من السماء. وهكذا نستحق أن نعود إلى ما كنا عليه من حالة النعمة التي نلناها بالمسيح يسوع فادينا ومخلصنا.
أيها الأحباء:
في جيلنا هذا الشرير ونحن على وشك توديع القرن العشرين واستقبال القرن الحادي والعشرين، نرى الإنسان يخبط خبط عشواء في الليلة الظلماء، وقد تاه في دروب هذا العالم الملتوية، وأخضعته الخطية لنيرها الثقيل، وشابه الابن الضال في تركه بيت أبيه وتبذيره أمواله في عيش مسرف، فليت المؤمن الخاطئ يقتدي به بتوبته الصادقة وعودته الصالحة إلى بيت الأب ليقبله الأب بفرح. إن الكنيسة المقدسة بحاجة ماسة اليوم إلى نخبة من الشباب الناهض من الجنسين ممن يخاف اللّه ويعمل بوصاياه. وممن يثمرون ثماراً تليق بالتوبة، الذين قد تنقّت قلوبهم، وتجددت نفوسهم، وأقاموا من ذواتهم مثالاُ صالحاً للناس بالالتزام بشرائع الله وفروضه، وهم يعيرون آذانهم معنا إلى الرب يسوع فيسمعون صوته الإلهي ينادينا اليوم كما نادى الناس قبل عشرين قرناً وخلال العشرين قرناً على ألسنة كهنته قائلاً: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»(مر 1: 15) فإذا كان زمان مجيء فادينا يسوع المسيح قبل عشرين قرناً، قد كمل وتمت النبوات وتم الفداء، فإن زمان مجيئه الثاني آت حسب وعده الإلهي الصادق. وقد عيّنه من البدء فلنتب ونؤمن بالإنجيل المقدس كما أوصانا الرب. ولننصت أيضاً إلى صوت الروح القدس وهو يقول لنا منذراً ومحذّراً: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم»(مز 95: 8 وعب 3: 8) ولنتب حالاً لأننا لا نعرف متى يأتي الرب ثانية لدينونة العالمين، أو متى نغادر نحن هذه الحياة الدنيا إلى الآخرة. وما لم نكن في حالة التوبة سنندم ولات ساعة مندم. فلنكن مستعدين ساهرين منتظرين لقاءنا بالرب يسوع ليؤهّلنا إن كنا تائبين أن نكون مع اللص التائب في فردوس النعيم.
تقبّل الله توبتكم وصومكم وصلواتكم وصدقاتكم، ورحم موتاكم المؤمنين، وأهّلكم لتحتفلوا بعيد قيامته المجيدة ببهجة روحية وسرور، وأن تستحقوا بعد العمر الطويل أن تتنعّموا معه في ملكوته السماوي صحبة المؤمنين التائبين والأبرار والصالحين. آمين ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا
في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وسبع وتسعين
وهي السنة السابعة عشرة لبطريركيتنا