العودة إلى الله
قال النبي أشعيا: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين الهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (اش 59: 2).
ما أسعد الإنسان الذي يحب الله من كل قلبه، ومن كل نفسه، ومن كل فكره، (مت 22: 37) ويهذّ في ناموسه نهاره وليله، ويسجد له بالروح والحق، متحداً به تعالى في الفكر والعقل والقلب والإرادة، وبذلك يكون الإنسان قد أكمل الغاية من خلق الله إياه على صورته كمثاله فمنحه عقلاً راجحاً، ووهبه ضميراً يقظاً، وأنعم عليه بإرادة حرة ليعرفه ويمجده. وإذ خلق اللّه الإنسان لذاته فلا يرتاح هذا الإنسان إلا في اتحاده به تعالى وبدونه يغدو في ضياع مخيف وفراغ مرعب، ويتيه في بيداء الخطية، ويجوع مع الابن الضال في أرض الغربة النائية القاسية.
أيها الأحباء:
كنا يوم خلقنا الله تعالى ننعم في حياة البر والقداسة، سعداء في شركتنا المقدسة مع بارينا (تك 2) إلى أن برزت خطية الكبرياء فهدمت أركان هذه الشركة، وفصمت عرى علاقتنا الروحية الشخصية مع الهنا، إذ ساورتنا الشكوك بصدق محبته تعالى لنا، وهيمنت على أفكارنا محبة الذات، وظنّنا واهمين أن بإمكاننا أن نصير مساوين لرب العالمين بالسلطة، والقدرة، والمعرفة، فسقطنا من علياء مجدنا، وطُردنا من دار سعادتنا، إلى أرض الشقاء «وصارت آثامنا فاصلة بيننا وبين الهنا، وخطايانا سترت وجهه عنا حتى لا يسمع»(اش 59: 2).
ولكن مهما تعاظمت الخطايا وتفاقمت الآثام، فهي لا تساوي نقطة في بحر رحمة الله الواسعة ومحبته العميقة لبني البشر، الأمر الذي يعبر عنه الإنجيل المقدس بقوله: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»(يو 3: 16) فقد فدانا ابن الله الوحيد بدمه الكريم، وبرّرنا وقدسنا، وصالحنا مع أبيه السماوي، فحق للرسول بولس أن يقول عنه: «الذي هو سلامنا الذي جعل الأثنين واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط أي العداوة…»(أف 2: 14 و15). فنحن في سلام مع الله طالما قد تبررنا من خطايانا، وبما أننا معرضون دائماً في الحياة الدنيا، لغواية ابليس، والسقوط في وهدة الخطية، فقد نهج الله لنا سر التوبة والاعتراف، سبيلاً نسلكه لنعود إلى الله نادمين على تعدينا وصاياه الالهية، هذا ما عناه الرب يسوع بدعوته إيانا إلى التوبة قائلاً: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات»(مت 4: 17) «لأني لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة»(مت 9: 13). فالإنسان الخاطئ هو دائماً موضع اهتمام السيد المسيح، لأن الهدف الأسمى من سرِّي التجسد والفداء هو إرجاع هذا الخاطئ إلى الله تعالى، ليستحق أن يرث ملكوت الله، وذلك عن طريق التوبة الصادقة بخضوع النفس للّه، فالتوبة هي الوسيلة التي يُعلن فيها الخاطئ التائب بإرادته الحرة قبول نعمة الله المجانية التي أعدها الله لخلاصه، ويعترف بأن المسيح يسوع هو المخلص وهو «الطريق والحق والحياة وليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاّ به»(يو 14: 6).
ان الخطية ظلمة وعبودية «وان كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية»(يو 8: 34) على حد قول الرب يسوع. ويقول الرسول يوحنا: «وان قلنا ان لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق، ولكن ان سلكنا في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح يطهرنا من كل خطية ان قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا، ان اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل أثم»(1يو 1: 6 ـ 9) إذن قد أعتقنا الرب يسوع من ربقة الخطية، وحررنا من نيرها الثقيل، وقال لنا: «فان حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحراراً»(يو 8: 36) ويوصينا الرسول بولس قائلاً: «فاثبتوا إذاً في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبودية»(غلا 5: 1).
وإذا كانت عواقب الخطية عبودية لإبليس، وخوفاً، وقلقاً، واضطراباً، وعذاب ضمير، وهروباً من أمام وجه الله، وانفصالاً عنه، فثمار التوبة هي الفوز بالمغفرة بالمسيح يسوع، وإعادة الشركة مع الله وبالتالي فهي سلام، وطمأنينة، وراحة بال، وهي أيضاً نكران الذات، أي الاعتراف بأن الله قد خلقنا لذاته، وعلينا أن نكون دائماً له، لا لذواتنا، فلا حق لنا بالوجود إلا بقدر ما يهبه لنا خالقنا. كما أن التوبة تعني الهروب من أسباب الخطية والالتجاء إلى الله، وبهذا يوصي الرسول بولس تلميذه تيمثاوس قائلاً: «أما أنت يا إنسان الله، فاهرب من هذا (أي من الحسد والخصام والافتراء والظنون الردية والمنازعات ومحبة المال وغيرها من الرذائل) واتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة»(1تي 6: 11)
أيها الأحباء:
لا يكفي أن يحصل المؤمن على حسن السيرة الظاهرة، كالشرف الموهوم، الذي كان الكتبة والفريسيون المراؤون يظهرون عليه، الذين قرّعهم الرب يسوع قائلاً: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، هكذا أنتم أيضاً من الخارج تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من الداخل مشحونون رياء وإثماً»(مت 23: 27 و 28) فإذا كان الرب قد أعطى الفريسيين الويل لريائهم، فهو يعطي الطوبى لأنقياء القلب الذين يعاينون الله (مت 5: 8) الذين تفوح منهم رائحة المسيح الذكية وتكون حياتهم الداخلية حياة برٍ وتقوى وقداسة، وعبادة الله بالروح والحق، حياة خالية من الكذب والنفاق والرياء والكبرياء، الأمور المكروهة لدى الله تعالى القائل على لسان النبي أشعيا: «لأن هذا الشعب قد اقترب إليَّ بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عني»(اش 29: 13). لذلك يعلمنا الرب يسوع ألا تكون الغاية من صلواتنا وأصوامنا وصدقاتنا، الفوز برضى الناس ومديحهم، بل أن نسعى لنيل رضى الله تعالى، ونقوم بالفروض الدينية، ونمارس الفضائل المسيحية، ونتحلى بالمزايا السامية، في الخفاء، وأبونا السماوي الذي يرى في الخفاء يجازينا علانية (مت 6).
أيها الأحباء:
ان عودة العلاقة الروحية التامة مع الله تعالى تعني عودتنا إلى بيت الآب السماوي، واشتراكنا في مائدته الالهية بتناول القربان المقدس عن استحقاق، مثلما تنعّم الابن الشاطر بالاشتراك في أكل الكبش المسمن الذي ذبحه له أبوه فرحاً وابتهاجاً بعودته إليه سالماً نادماً، تائباً.
أجل ان عودة الشركة مع الله تعني أيضاً عودة حقنا في البنوة الروحية له، فنخاطبه بالصلاة التي علمنا إياها ابنه الحبيب قائلين، بدالّة البنين: «أبانا الذي في السموات» (مت 6: 9 ـ 13) «فان كنا أولاداً فاننا أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح، إن كنا نتألم معه لكي نتمجد معه أيضاً»(رو 8: 17) على حد قول الرسول بولس.
لنفحص اذن قلوبنا، ولنندم على ما اقترفناه من آثام، ولننصت إلى النبي يوئيل القائل: «ولكن الآن يقول الرب ارجعوا اليَّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزّقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب الهكم لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة» (يوئيل 2: 12 ـ 15). ويقول النبي حزقيال على لسان الرب «توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الاثم مهلكة، اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها واعملوا لأنفسكم قلباً جديداً وروحاً جديدة فلماذا تموتون… لأني لا أسرُّ بموت من يموت يقول السيد الرب، فارجعوا احيوا»(حز 18: 30 ـ 32). فيجدر بنا أيها الأحباء، ونحن نستقبل الصيام الأربعيني المقدس، أن نمتثل لأوامر الرب الهنا المدونة في أسفار الكتاب المقدس، فنقوم بفريضة الصيام الأربعيني كما تسلمناها من آبائنا الميامين، قارنين الصوم بالتوبة الصادقة، والاعتراف القانوني أمام الكاهن الشرعي، وتناول القربان المقدس، راجعين إلى الرب الهنا، الذي وعد أن يقبلنا، ويسمع لنا، لأنه يستجيب الخطاة إذا ما تابوا وآبوا إليه طالبين مغفرة خطاياهم.
تقبّل الرب الاله توبتكم الصادقة، وتغمَّد ذنوبكم وخطاياكم، واستجاب دعاءكم وصلاتكم، وارتضى بصومكم وصدقتكم، ورحم موتاكم المؤمنين، وأهّلكم للاحتفال بعيد قيامته المجيدة وأنتم بأحسن حال، وأنعم بال، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين. ܘܐܒܘܢ ܕܒܫܡܝܐ ܘܫܪܟܐ
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سوريا
في 5 شباط سنة 1988 م
وهي السنة الثامنة لبطريركيتنا