باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل

يعلن

إغـنـاطـيـوس زكـا الأول عـيـواص

بطريرك كرسي انطاكيا الرسولي وسائر المشرق

الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع

الذكرى المئوية السابعة للقديس المفريان ابن العبري

 

نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى أخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم، وحضرات أبنائنا الروحيين نواب الأبرشيات والخوارنة والرهبان والقسوس والشمامسة الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي المكرمين. شملتهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم والدة الإله والشهداء والقديسين كافة آمين.

يسرنا أن نتفقد خواطركم العزيزة، أيها الأحباء، آملين أن تكونوا بفضل اللّه مشمولين برعايته تعالى، وسالكين في طريق البر والاستقامة، كما يليق بالمؤمنين الحقيقيين وبعد:

كان مجمعنا الأنطاكي المقدس الملتئم في مقر كرسينا الرسولي بدمشق في شهر تشرين الثاني من العام المنصرم 1985 قد قرر الاحتفال بالذكرى المئوية السابعة لانتقال العلامة المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري إلى الخدور العلوية، واعتبار سنة 1986 سنة «ابن العبري» في كنيستنا السريانية الجامعة.

وانطلاقاً من قرار مجمعنا المقدس نصدر منشورنا هذا الرسولي، متأملين بسيرة صاحب الذكرى، ملخصين ترجمة حياته المجيدة فنقول:

ولد في مدينة ملطية قاعدة أرمينية الصغرى، عام 1226م من أبوين مسيحيين سريانيين أرثوذكسيين، وسمي بالمعمودية يوحنا، وأحب العلم منذ نعومة أظفاره، وأكب على تحصيله بكل جوارحه، فأتقن اللغات السريانية والعربية واليونانية ثم الفارسية والأرمنية، وتبحر في علوم: الكتاب المقدس، واللاهوت، والتاريخ الكنسي والمدني، والطب، والهيئة، والشرع البيعي والمدني، والمنطق، والبيان، والنحو، والشعر وغيرها من العلوم التي دبجت يراعه فيها ستة وثلاثين كتاباً تعتبر جميعها في القمة مقاماً وأهمية.

وقد أُعجب المستشرقون المهتمون بالدراسات السريانية بنبوغه وعبقريته فلقبوه بدائرة معارف القرن الثالث عشر للميلاد.

رُسم ابن العبري أسقفاً لبلدة جوباس من أعمال ملطية وسُمي مار غريغوريوس وذلك عام 1246 ثم انتقل إلى أبرشية لاقبين فأبرشية حلب. وفي عام 1264 رسمه البطريرك اغناطيوس  يشوع مفرياناً على المشرق، فدبر كرسي المفريانية اثنتين وعشرين سنة متنقلاً بين نينوى ودير مار متى والموصل وبغداد ومراغة وتبريز، وازدهرت على عهده أبرشيات المشرق الواسعة.

وحظي بمكانته اللائقة لدى الرؤساء والعلماء فكرموا فيه العلامة القدير، والبحاثة الشهير، والطبيب البارع، والشاعر المبدع والخطيب المفوه، بل الرئيس الروحي الورع والناسك التقي الزاهد. وجاهد الجهاد المرير في خدمة الكنيسة، في فترة زمنية صعبة، لم يَجُد عليه الدهر خلالها بأيام سلام واستقرار، بل كانت حياته مليئة بالمشقات؛ فانقسامات من الداخل مصدرها الحسد والتنافس والتناحر بين أحزاب في الكنيسة، وحروب وغزوات من الخارج. وأنهى جهاده الحسن، وأكمل شوطه في الحياة، لما أدركته المنية في مدينة مراغة في الثلاثين من شهر تموز من السنة 1286م وهو في الستين من عمره. ودفن هناك ثم نقل رفاته الطاهر إلى دير مار متى في جبل الألوف الواقع شرقي مدينة الموصل.

كان ابن العبري وحيد دهره وفريد عصره، وهو ملفان الكنيسة السريانية الجامعة لكل العصور والأجيال والى الأبد. وهو فارسها المغوار الذي لا يبارى ولا يجارى في العلوم الدينية والمدنية كافة. وإننا إذ نحتفل اليوم بإحياء ذكراه المجيدة نقتبس العبر الثمينة بتأملنا بسيرته الطاهرة في جميع أدوار حياته، وبخاصة في دور الشباب إذ نراه، فتى الفتيان الذي جارى كبار العلماء وغاص في بحر العلوم المتنوعة، وصنوف المعرفة وخاض غمار هذا اليم الخضم بشجاعة فائقة، فاكتشف سر الحكمة الإلهية المكنون، والتقط الدرر الغوالي، باذلاً في سبيل ذلك التضحيات الجمة. وقد دوّن لنا ما عانته نفسه من أتعاب نتيجة التجربة القاسية التي دخلها عندما ساورته الشكوك وهو يتعمق في دراسة فلسفة الملحدين من الفلاسفة، فخبط في دياجيرها خبط عشواء في الليلة الظلماء وصار كريشة في مهب الريح، بل كادت سفينة حياته الروحية تتحطم قبل أن تبلغ ميناء الحكمة الإلهية، ولكن العناية الربانية افتقدته فأنقذته، وهو يقول بهذا الصدد: (لولا أن الرب أعانني وردّني من ضلال مختلف العلوم وأنواع الفنون إلى التأمل في كتب العارفين لتلبّستني العادات الرديئة تلك التي أراها تلازم الكثيرين) فابن العبري في حالته تلك خير عبرة للشباب المنكبّين على تحصيل العلوم في أيامنا هذه، ليقرنوا دراساتهم العلمية بدراسة الكتاب المقدس ومؤلفات الآباء الروحية فيصونوا بذلك نفوسهم من الخطل والزلل، ويضمنوا حياتهم الروحية لئلا يخسروا السعادة الأبدية.

وكان ابن العبري الأسقف ثم المفريان المثال الحي للراعي الصالح الذي ائتمنه الرب على رعاية خرافه، فأنكر ذاته، وكرّس حياته لخدمة الرب وكنيسة الرب بتواضع كبير وتضحية تامة، مترفعاً عن الدنيويات مبتعداً عن الأمجاد الباطلة، مهتماً ببناء النفوس وتأسيس المدارس والكنائس والأديرة. ويروى عنه أنه لم يأخذ درهماً بيده طيلة أيام حياته، فعندما كان المؤمنون المحسنون يأتونه بهداياهم كانوا يضعونها جانباً وكان أحد تلامذته الرهبان يجمعها، ثم تصرف في مشاريع تؤول إلى الكنيسة بالخير. فهو ولئن تبوأ رتبة دينية رفيعة، ولكن رتبته تلك لم تقف حائلاً دون التزامه جانب النسك والتقشف والزهد والتحلي بالفقر الأختياري. فهو الزاهد المتواضع الذي تسعى روحه إلى الاتحاد بالله كما يقول عن نفسه: (فكم أنا تائق إلى أن تشرق علىّ «شمسي» وتنفحني ولو نزراً يسيراً من نور الجميل الحقيقي لكي لا أسجد بعد الآن لمن لا أعرفه بل أسجد بالروح والحق لمن أعرفه إن اللذة التي تنتج عن معرفة ربّ الكائنات وإلهها تفوق كل اللذات). هذه كانت حياة صاحب الذكرى، حياة بر وقداسة، فيحق لكنيستنا السريانية أم العلماء، والفلاسفة، والرعاة الصالحين، بل أم الشهداء الأبرار، والمؤمنين الأتقياء، أن تفخر بإنجاب القديس المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري.

وإننا بسلطاننا الرسولي نأمر أن يُفتتح الاحتفال بإحياء الذكرى المئوية السابعة لانتقاله إلى الخدور العلوية صباح يوم الأحد المصادف 27 تموز 1986، ولئن تصادف ذكرى انتقاله في 30 تموز ولكننا نبتدئ بالاحتفال بإحياء ذكراه السعيدة يوم الأحد الذي هو يوم الرب بإقامة القداديس الإلهية في كل كنيسة من كنائسنا، وحيث يوجد كاهن سرياني في أي مدينة أو قرية في العالم. وأن يتناول الوعّاظ سيرة صاحب الذكرى المبجل في مواعظهم، إتماماً لوصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين القائل: «اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة الله. انظروا إلى نهاية سيرتهم، فتمثلوا بإيمانهم» (عب 13: 7). كما نأمر أن يتقدم الأكليروس والشعب إلى منبر الاعتراف، مقدمين للّه توبة صادقة، مشتركين بتناول القربان المقدس، لإحياء هذه الذكرى العزيزة بخوف اللّه تعالى ونيل بركة الرب. لأن «ذكر الصديق للبركة»  (أم 10: 7) وأن تقام في كلٍ من أبرشياتنا السريانية، احتفالات تكريمية، وندوات علمية، وحلقات دراسية تتناول بالدرس والتمحيص سيرته الطاهرة النقية، ومؤلفاته النفيسة.

جعل الرب الإله هذه الذكرى السعيدة سبب نعمة وبركة لكم جميعاً أيها الأحباء، بشفاعة السيدة القديسة العذراء مريم والدة الإله، والقديس المبجل المفريان مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري وسائر الشهداء والقديسين آمين.

صدر عن قلايتنا البطريركية بدمشق

في اليوم السابع عشر من شهر آذار سنة ألف وتسعمائة وست وثمانين

وهي السنة السادسة لبطريركتنا