الصدقة

«صالحة الصلاةُ مع الصوم، والصدقةُ خيرٌ من ادخار كنوز الذهب. لأن الصدقة تُنجي من الموت، وتمحو الخطايا، وتُؤهل الإنسانَ لنوال الرحمة والحياة الأبدية» (سفر طوبيا 12: 8 و 9)

 

يا لها من حكمة سامية، جاءت على لسان الملاك رافائيل وهو يخاطب طوبيا البار وابنه طوبيا. ملخصاً لهما أركان الديانة الثلاثة: الصوم، والصلاة، والصدقة، هذه الفرائض التي على المؤمن أن يمارسها لينجو من الخطية، وينال غفران الذنوب والحياة الأبدية. ويكون كالرجل العاقل الذي عناه الرب يسوع بقوله: «فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبّهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر، فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه مؤسس على الصخر» (مت 7: 24 و 25).

لقد ظهرت حكمة هذا الرجل، وبانت رجاحة عقله بترجمة وصايا الرب إلى العمل، فإنه لم يكتف بأن يكون مؤمناً سامعاً بالكلمة، بل قرن ايمانه بأعماله. وبهذا الصدد يقول الرسول يعقوب: «أنت تؤمن أن الله واحدٌ حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون ولكن هل تريد أن تعلم أيها الإنسان الباطل أن الإيمان بدون أعمال ميت» (يع 2: 19). ويقول الرسول بطرس: «بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة… عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح» (1بط1:15و18و19). بهذا الدم الكريم نلنا مجاناً نعمة التبرير والتقديس والتبني بوساطة الكنيسة المقدسة التي أسسها الرب يسوع وأقامها كسلم تصل الأرض بالسماء ومنحها السلطة الالهية، وائتمنها على وسائل النعم السماوية التي تمنحها أولادها بممارسة الأسرار السبعة المقدسة.

أجل ان الكنيسة المقدسة هي أمٌ لنا جميعاً ومعلمة. وهي تسترشد بالروح القدس الحالّ فيها وقد أوجبت علينا أن نمارس الفرائض الدينية الثلاث: الصوم والصلاة والصدقة. كما جاء بالسريانية على لسان أحد ملافنة الكنيسة قوله في الطلبة الأفرامية التي تتلى في صلاة المساء أيام الصيام الأربعيني المقدس:

ܨܘܡ ܨܘܡܐ ܕܐܪܥܒܝܢ ܝܘܡܝ̈ܢ܆ ܘܗܒ ܠܚܡܟ ܠܐܝܢܐ ܕܟܦܝܢ

ܘܨܠܐ ܒܝܘܡܐ ܫܒܥ ܙܒܢܝ̈ܢ܆ ܐܝܟ ܕܝܠܦܬ ܡܢ ܒܪ ܐܝܫܝ
وتعريب ذلك: صم (أيها المؤمن) الصوم الأربعيني، وتصدّق بخبزك على (الفقير) الجائع، وصلِّ سبع مرات يومياً، كما تعلمت من (النبي داود) ابن يسى.

«فصالحة اذن الصلاة مع الصوم. والصدقة خير من ادخار كنوز الذهب لأن الصدقة تنجي من الموت وتمحو الخطايا وتؤهل الإنسان لنوال الرحمة والحياة الأبدية».

أيها الأحباء: يطيب لنا أن نقصر كلامنا الآن على الصدقة فنقول:

ان فعل الرحمة مع القريب تلزمه الشريعة الطبيعية، وتوجبه الشريعة الالهية فالناس جميعاً أبناء آدم وحواء، اخوة مشتركون في خيرات هذه الأرض. وعليهم أن يحب بعضهم بعضاً، وأن يسد الموسرون فيهم عوز الفقراء المدقعين مما يفيض لديهم من خيرات بعد أن يكونوا قد أخذوا لمتطلبات الحياة قسطهم الكافي الوافي، هذا ما تلزمهم به الشريعة الطبيعية. أما الرب يسوع ففي شريعته الالهية يوجب علينا أن نحب قريبنا كنفسنا (مت 22: 29) وقريبنا هو كل إنسان يحتاج إلى معونتنا. ويضع الرب في شأن الرحمة قاعدة سامية بقوله: «اني أريد رحمة لا ذبيحة» (مت 9: 13) وفي عظته على الجبل قال: «طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون» (مت 5: 7). بل بحسب تعاليمه الالهية، أن ميراث الملكوت السماوي يتوقف على فعل الرحمة، واننا جميعاً سنقف يوماً أمام منبره السماوي لنحاكم بموجب قانون فعل الرحمة. فالأبرار الذين سيدعوهم إلى ملكوته ليرثوه معه إلى الأبد، لن يستحقوا هذا الملكوت لأنهم نشروا بشارته الإنجيلية، أو تحملوا الضيقات واستشهدوا في سبيل الإيمان به، أو اجترحوا المعجزات باسمه، أو زهدوا في الدنيا عابدين إياه ليل نهار، بل سيقول لهم: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. لأني جُعت فأطعمتموني، عَطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم اليَّ… الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (مت 25: 31 ـ 40). «فمن يرحم الفقير يقرض الرب وعن معروفه يجازيه» (أم 19: 17) وان ما نتصدق به على الفقراء والمعوزين، انما هو دَين على الرب يسوع نقرضه إياه بالأقساط عن طريق أخوته الصغار الفقراء المحتاجين في الأرض، لنسترجعه منه جملة في السماء مع الفائدة الجزيلة. لذلك أوصانا قائلاً: «اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوسٌ ولا صدأ، وحيث لا ينقبُ سارقون ولا يسرقون» (مت 6: 20).

أما أغنياء الدهر، القساة القلوب، الغلاظ الرقاب، المتكلون على الغنى غير الثابت (1تي6: 17). الذين يرون أخوتهم وقد عضهم الدهر بنابه، ولا يشفقون عليهم، فسيصيبهم ما أصاب الغني الذي لم يشفق على لعازر الفقير، في المثل الذي ضربه الرب يسوع وأظهر فيه لعازر الفقير، يتنعم في السماء مع ابراهيم، والغني يتعذب في النار الأبدية ويتشفع بأبيه ابراهيم قائلاً: يا أبي ابراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف أصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال ابراهيم يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب» (لو 16: 19 ـ 31).

ان هذا الغني الغبي وأمثاله سيسمعون يوم الدين صوت الرب القائل: «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لابليس وملائكته. لأني جعت فلم تطعموني، عطشت فلم تسقوني، كنت غريباً فلم تأووني، عرياناً فلم تكسوني، مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني… الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا. فيمضي هؤلاء إلى عذابٍ أبدي، والأبرار إلى حيوة أبدية» (مت25: 41 ـ 46).

فمن كان قلبه قاسياً على أخيه الإنسان، لا يجد رحمة في يوم الدين الرهيب. «لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحكم. ما المنفعة يا أخوتي ان قال أحدٌ ان له إيماناً ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلصه. ان كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدهم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة؟. هكذا الإيمان أيضاً ان لم يكن له أعمال ميت في ذاته» (يع2: 13 ـ 17). «فتصدق من مالك ولا تحول وجهك عن الفقير حينئذ فوجه الرب لا يحول عنك» (طوبيا 4: 7).

ان الكتاب المقدس، بعهديه، مليء بالآيات الكريمة الموجبة علينا عمل الرحمة والمبينة كيفية ذلك، والفوائد التي نجتنيها منها. نكتفي بما ذكرناه ههنا، لضيق الوقت، موجهين انتباهكم أيها الأحباء، إلى التأمل بسيرة ربنا يسوع المسيح على الأرض. فهو الغني الذي افتقر بارادته فولد فقيراً، وفي سبيل فداء البشرية مات على الصليب فقيراً، وهو مغني المعوزين. وقيل عنه في الكتاب انه «جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم ابليس لأن الله كان معه» (اع 10: 38) وفي جولانه كان يجمع الصدقات ليسد حاجاته وحاجات تلاميذه الجسدية، كما كان يوزع على الفقراء أيضاً (يو 13: 29).

وقد حارب الرب رذيلة الرياء. وهو يهاجم الرياء الذي يمارسه العديد من المؤمنين في الصوم والصلاة والصدقة. ويريد الرب أن يقتلع جذور هذه الرذيلة من قلوب أتباعه، والاّ فإنها تفسد تلك القلوب ولا تدع بذرة الإنجيل تنمو فيها. وبشأن الصدقة قال له المجد: «احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم. والاّ فليس لكم أجرٌ عند أبيكم الذي في السموات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية» (مت 6: 1 ـ 4) ومن تعاليم الرب أيضاً نرى ضرورة التضحية في عمل الرحمة، فهو يريدنا أن ندعو إلى الولائم الفقراء والمعوزين (لو 6: 24) والرسول بولس يوصينا أن نعطي بفرح وسخاء بقوله: «ان من يزرع بالشُّح فبالشح أيضاً يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الله… كما هو مكتوب فرّق أعطى المساكين. برُّه يبقى إلى الأبد» (2كو 9: 6 ـ 9) وقال أيضاً: «في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون وتعضدون الضعفاء متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع 20: 35).

أيها الأحباء، لقد علمنا آباء الكنيسة الميامين، أن أعمال الرحمة لا تقتصر على الأمور الجسدية من توزيع الصدقات على المعوزين وعيادة المرضى ودفن الموتى وغيرها، بل أيضاً تشمل الأمور الروحية مثل الصفح عن المذنبين، والصلاة لأجل الأقرباء والأعداء، وارشاد الخطاة إلى طرق الفضيلة والإتيان بهم إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، وتعزية الحزانى وغيرها من الأعمال التي تؤول إلى خلاص الإنسان،  ليتمجد اسم الله القدوس.

فيجدر بنا، ونحن نستقبل الصيام الأربعيني المقدس أن ننقي قلوبنا من شوائب الخطية بتوبة صادقة، واعتراف قانوني أمام كاهن الرب، وتناول القربان المقدس، ليثبت المسيح في قلوبنا، ونكرس أيام الصيام المقدس كما حددته الكنيسة المقدسة، حباً بالمسيح يسوع ربنا، وطاعة لوصاياه الالهية، وأن نمتنع عن الخطية وأسبابها، وأن نواظب على الصلاة ساكبين بذلك أنفسنا أمام الله طاهرة نقية لتصعد صلواتنا كبخور طيب الرائحة أمام منبره الإلهي ونقرن الصلاة والصوم بتوزيع الصدقات على الفقراء والمعوزين لنكنز لنا بذلك كنوزاً في السماء ولنستحق أن نكون في عداد من سيدعوهم الرب إلى ملكوته لإيمانهم به، ولخدمتهم أخوته الصغار بأعمال الرحمة.

بارككم الرب الاله وتقبل صومكم وصلواتكم وصدقاتكم، وضاعف من أجركم، ولينعم عليكم بأيام طيبة لتبتهجوا بالاحتفال بعيد قيامته المجيدة من الأموات بطهر ونقاء ورحم موتاكم المؤمنين.

هذا ما اقتضى والنعمة معكم.

صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق

في اليوم العشرين من شهر شباط سنة ألف وتسعمائة وست وثمانين

وهي السنة السادسة لبطريركيتنا