تربية الأولاد بتأديب الرب
قال الرسول بولس: «أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربّوهم بتأديب الرب وانذاره»(اف4:6).
أيها الأحباء: نعم ما فعلت بعض المنظمات العالمية بقرارها القاضي باعتبار سنة 1985 الحالية سنة دولية للشباب. فالشباب هم الحجارة الأكثر صلادة وصلابة في بناء صرح المجتمع، إذ يملكون طاقات هائلة، إذا وجهت توجيهاً سليماً تفجرت فيما يؤول إلى خير البشرية.
أما في مجتمعنا الكنسي فإننا نرى في الشباب المهذب، الجيل الطالع الذي له أن يلعب الدور الأهم في ميدان تقدم الكنيسة وازدهارها في الحاضر والمستقبل. ويهمنا جداً أن يتقدم بالحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس، كما كُتب في الإنجيل المقدس عن الرب يسوع في صباه (لو 2: 52). وأن ينشأ جيلاً ايجابياً، مؤمناً بربه، يشق طريقه في الحياة برجاء لا يخيب، ومحبة خالصة لله والقريب.
باطلٌ هو ادّعاء بعض الدول الكبرى بأن نظمها الاجتماعية تضمن للشباب عيشة سعيدة رغيدة. فهي ولئن ضمنت لهم سبل العيش الجسدي، ولكنها باهمالها العناية بهم روحياً وأحياناً باسم الحرية تشجع هيمنة الغرائز الحيوانية على العقل السليم، فيختل العقل، ويمرض، ويتخبط الإنسان خبط عشواء في غياهب ظلمة الأهواء، ويهوي في وهدة العادات الرديئة من ادمان على المخدرات وتمرّغ في الشهوات، وهكذا بانحرافه عن جادة الفضيلة، وابتعاده عن القيم الانسانية السامية يفتش عن السعادة، فلا يجدها الاَّ اذا عاد إلى أحضان الآب السماوي تائباً، كما عاد الابن الضال إلى أبيه في المثل الذي ضربه الرب يسوع بهذا الصدد.
أيها الأحباء: إن مناسبة الصوم الأربعيني المقدس، فرصة سانحة مباركة ننتهزها لنخاطبكم جميعاً شيباً وشباناً، كهولاً وأطفالاً، نساءً ورجالاً، ونخاطب بخاصة الآباء والأمهات، حاثين إياهم على القيام بواجبهم المقدس في الاعتناء بتربية أولادهم التربية الصالحة، روحياً وجسدياً، فيحيون حياة سعيدة في الدنيا وفي الآخرة.
فمما لا يختلف فيه اثنان، أنَّ الناموس الطبيعي يخلق في الإنسان رغبة جامحة في أن يرزق أولاداً، وكم من زوجين واظبا على الصلاة والصوم، وأكثرا من النذور، وتوزيع الصدقات ليرزقهما الله تعالى أولاداً، واستُجيبا. ولا غرو فولادة الأولاد هي الغاية الأولى من الزواج المسيحي. ولذلك فالوالدان يتحملان المشقات أحياناً في سبيل تربية أولادهما.
إنَّ سنّة تربية الأولاد جسدياً تعتبر غريزة طبيعية مغروسة في قلوب المخلوقات الحيوانية. أما الإنسان فلئن شارك تلك المخلوقات بهذه الغريزة، فهو يمتاز عنها جميعاً بالعقل الثاقب، والنفس الناطقة، اذ قد خلقه الله على صورته كمثاله، لذلك عليه أن يهتم أيضاً بتوجيه أولاده توجيهاً روحياً ليكونوا لا للأرض فقط بل أيضاً للسماء. فماذا ينتفع الإنسان لو قدم لأولاده المال الكثير والجاه الدنيوي والمركز المرموق ولم ينهج لهم سبل الخير، ويلقنهم الفضائل السامية، ويقرّبهم من السماء؟ ليحيوا بسلام مع الله تعالى، ومع أخيهم الانسان، بل أيضاً مع أنفسهم وضمائرهم؟.
قال الحكيم ابن سيراخ: «ان كان لك بنون فأدّبهم، وأخضع رقابهم من صبائهم» (7: 25). ويوصي الرسول بولس الآباء بقوله: «أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربّوهم بتأديب الرب وانذاره» (اف6: 4) ففيما يحث الرسول هؤلاء الآباء على أن يكونوا لطفاء مع أولادهم معاملين إياهم بالعدل والانصاف، لا بالظلم والطغيان، يوصيهم أيضاً بأن يربّوا أولادهم بتأديب الرب، وألاَّ يتغاضوا عما يصدر عنهم من أخطاء وخطايا بل أن يوبخوهم ويعاقبوهم وبذلك ينشؤون بحسب ناموس الرب وشريعته. ويقول ابن سيراخ: «من أحبَّ ابنَه أكثَر من ضربه، لكي يُسَرَّ في آخرته، من أدّب ابنه يجتني ثمر تأديبه، ويفتخرُ به بين الوجهاء» (30: 1و2) وقال صاحب الأمثال: «ربِّ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضاً لا يحيد عنه» (أم22: 6).
أجل، إن لم يكن الآباء والأمهات على مستوى المسؤولية الوالدية، في تربية أولادهم عرضوهم لسلوك مسالك الشر، وجعلوهم عالةً على المجتمع، وقادوهم إلى الهلاك الأبدي، وكان الأفضل لهم لو لم يرزقوا أولاداً.
إن الكنيسة المقدسة أيها الأحباء، تبذل قصارى جهدها لبذر كلمة الله في قلوب الشباب، كي تقدمهم ليسوع الذي أمر قائلاً: «دعوا الأولاد يأتون اليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله» (مر10: 14) ولكن بذرة الإنجيل لا تنمو في قلوب الشباب ما لم تُعدّ تلك القلوب إعداداً صالحاً منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها الأطفال عيونهم للنور، فيشعرون بدفء حنان الأم المؤمنة الرؤوم، وحرارة محبة الأب المؤمن، وحمايته، وعنايته، وجهده وتعبه في سبيل توفير الراحة لهم، ويتنعمون بنعمة السلام والقداسة التي تملأ أجواء دورهم بعبيرها العباق.
أما إذا أهمل الوالدون المسيحيون تربية أولادهم، وتركوهم للشارع حيث يعاشرون أصدقاء السوء، فتفسد ضمائرهم لأن «المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة» (1كو15: 33). في الوقت الذي كان عليهم أن يصحبوهم إلى بيت الله، ويتعاونوا مع الكنيسة في تقديمهم للرب، وتهذيبهم التهذيب المسيحي الضروري جداً لحياتهم الروحية والاجتماعية، وتلقينهم أصول الإيمان المستقيم الرأي. واذا لم يفعلوا ذلك يعرّضون أولادهم للتهلكة في الدارين، ويدانون عنهم أمام منبر المسيح ربنا. وبهذا الصدد يقول الحكيم ابن سيراخ: «الأب المنافق يتشكى منه بنوه لأنهم بسببه يلحقهم العار. ويل لكم أيها الرجال المنافقون النابذون لشريعة الاله العلي فإنكم اذ وُلدتم انما ولدتم للّعنة، ومتى مُتم فاللعنة هي نصيبكم» (41: 10ـ12). هكذا يشتكي الأبناء من آبائهم المهملين تربيتهم والمعرّضين إيّاهم للعار في هذه الحياة، وللعنة في الحياة العتيدة، فيلعنون البطون التي حملتهم، والأثدية التي أرضعتهم بل اليوم الذي ولدوا فيه.
قال السيد المسيح «من ثمارهم تعرفونهم» (مت7: 16) فالرجل يُعرف بأبنائه ولا يمكن أن ينال الوالدان الخلاص ما لم يسعيا إلى خلاص أولادهما، ولا يرثان ملكوت الله ان هما أهملا تربية أولادهما. تأملوا معنا عالي الكاهن الذي كان رجلاً فاضلاً، وقد خدم مذبح الرب، في النظام القديم، خدمة جيدة، ولكنه أهمل تربية أولاده، فخسرهم، وخسر نفسه، وهلك وإياهم. ولننصت جيداً إلى حكم الرب عليه بقوله تعالى: «في ذلك اليوم أُقيم على عالي كلّ ما تكلمت به على بيته، أبتدىء وأكمِّل. وقد أخبرته بأني أقضي على بيته إلى الأبد من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم ولم يردعهم. ولذلك أقسمتُ لبيت عالي أنه لا يكفِّر عن شر بيت عالي بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد» (1صم3: 12ـ14).
أيها الأحباء: إنَّ خير مثال لكم في تربية أولادكم هي العذراء مريم التي اهتمت بتربية الطفل يسوع بحسب ناموس الرب. كما أن الرب يسوع هو القدوة السامية للشباب الصالح بطاعة آبائهم وأمهاتهم في الرب.فقد ذكر عنه الإنجيل المقدس أنه كان خاضعاً للعذراء مريم ولخطيبها يوسف البار (لو 2: 51). كما اهتم الرب يسوع بيوسف البار وساعده في عمله حتى مماته، واهتم بأمه العذراء مريم ولم ينسها وهو في غمرة آلامه حيث سلّمها إلى تلميذه الرسول يوحنا ليعتني بها حتى انتقالها إلى السماء. لذلك وعلى هذا النهج المبارك يوصي الرسول بولس الشباب بقوله: «أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق، أكرم أباك وأمك التي هي أول وصية بوعد، لكي يكون لكم خير وتكونوا طوال الأعمار على الأرض، وأنتم أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربوهم بتأديب الرب وانذاره» (اف 6: 1 ـ 4).
فنناشدكم أيها الأبناء الروحيون، الآباء والأمهات، لتحترسوا بالحفاظ على أولادكم الذين هم ودائع الهية ثمينة قد عيّنكم الله تعالى وكلاء عليهم لتهتموا بتربيتهم التربية الصالحة، وتنهجوا لهم السبل المستقيمة للسيرة المسيحية الفاضلة الموصلة إلى ملكوت الله.
وفي مناسبة الصوم الأربعيني المبارك نحثّكم لتقيموا من أنفسكم قدوة صالحة لأولادكم بالتمسك بفريضة الصوم، والقيام بالصلوات وتقديم الصدقات، والتحلي بالمزايا الحميدة، ساعين لنيل الخلاص، لكم ولأولادكم.
ليتقبل الرب الاله صومكم وصلواتكم وصدقاتكم وتوبتكم، ويؤهلكم لتبتهجوا وأولادكم بعيد قيامته المقدس، ويرحم موتاكم المؤمنين، ونعمته تشملكم دائماً أبداً آمين.
صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق ـ سورية
في العاشر من شهر شباط سنة 1985 م
وهي السنة الخامسة لبطريركيتنا