المنشــور البطريــركي

نهدي البركة الرسولية والأدعية الخيرية إلى اخوتنا الأجلاء صاحب الغبطة مار باسيليوس بولس الثاني جاثليق المشرق، وأصحاب النيافة المطارنة الجزيل وقارهم وحضرات أبنائنا الروحيين نوّاب الأبرشيّات والخوارنة والرهبان والقسوس والشمامسة الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا لسرياني الأرثوذكسي المكرمين. شملتهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم والدة الإله وسائر الشهداء والقديسين. آمين.

بعد تفقد خواطركم العزيزة نقول: شاءت العناية الربانية أن ينتخبنا آباء المجمع الأنطاكي المقدس بالإجماع بطريركاً على أنطاكية وسائر المشرق ورئيساً أعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم، خلفاً لسلفنا المثلث الرحمات العلاّمة البطريرك مار اغناطيوس يعقوب الثالث. وكان مجمع الانتخاب هذا قد التأم في دمشق برئاسة صاحب النيافة مار اوسطاثيوس قرياقس مطران الجزيرة والفرات والقائمقام البطريركي الجزيل الاحترام الذي دبّر شؤون الكرسي الرسولي في فترة شغوره بإدارة حكيمة. وحدّد المجمع يوم الجمعة المصادف الحادي عشر من شهر تموز سنة 1980 موعداً لانتخاب البطريرك الجديد وقد اشترك فيه صاحب الغبطة مار باسيليوس بولس الثاني جاثليق المشرق ممثلاً الكنيسة في الهند وصحاب النيافة مار اقليميس ابروهوم مطران أبرشية الكناعنة في الهند الذي يحق له بموجب قوانين أبرشيته كما اشترك في الانتخاب أصحاب النيافة مطارنة الأبشريات السريانية الخاضعة لكرسينا الرسولي الأنطاكي مباشرة في الوطن والمهجر. وكان عددهم خمسة عشر مطراناً وتغيّب سيادة مار إيوانيس أفريم أسقف طورعبدين لشيخوخته فأرسل صوته بظرف مختوم. وبعد صلاة دعوة الروح القدس واستلهامه وطلب إرشاده، جرى الانتخاب بروح المحبة والشعور بالمسؤولية. وكانت النتيجة أننا انتخبنا بالإجماع لرتبة البطريركية السامية، فشكرنا الله تعالى على اختياره ضعفنا لتحمّل هذه المسؤولية الجسيمة، كما شكرنا صاحب الغبطة الجاثليق وأصحاب النيافة المطارنة الأجلاّء على وضعهم الثقة بضآلتنا، وعاهدنا الله على التمسّك بالإيمان المستقيم الرأي والالتزام بقوانين الكنيسة.

وفي عيد الصليب المقدس المصادف يوم الأحد الرابع عشر من شهر أيلول عام 1980 جرت حفلة تنصيبنا بطريركاً على الكرسي الرسولي الأنطاكي، وذلك في كاتدرائية مار جرجس في دمشق بمهرجان روحي اشترك فيه أصحاب الغبطة والنيافة جاثليق المشرق واثنان وعشرون من أحبار الكنيسة في الوطن والمهجر والهند. كما أمّ دمشق الفيحاء آلاف من السريان قادمين من جميع أنحاء العالم ليشهدوا هذه التظاهرة الروحية الكبيرة كما حضر الحفلة ممثلون عن صاحب السيادة رئيس الجمهورية العربية السورية وصاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس مجلس الوزراء السوري وعن الرئاسات الروحية المسيحية العليا الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية والبروتستانتية في العالم، وعن مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، والمؤسسات المسكونية والعلمية واعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في دمشق، كما حضرها صاحبا الغبطة بطريرك الروم الأرثوذكس وبطريرك السريان الكاثوليك. ورؤساء الطوائف المسيحية والمطارنة الجزيلو الوقار ولفيف من الآبءا لكهنة المكرّمينز وقد تسلّمنا مئات البرقيّات ورسائل التهنئة من ملوك ورؤساء عديدين ومسؤولين روحيين ومدنيين، ومؤسسات كنسية مختلفة.

وفي الخطاب الذي ارتجلناه في هذه المناسبة أعلنا بأن شعارنا هو ما قاله الرب عن نفسه: «إن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت20: 28).

أجل لقد تسلمنا عصا الرئاسة، وجلسنا على كرسي الرسول مار بطرس، بالنعمة لا بالاستحقاق، لنرعى خراف المسيح ونعاجه وكباشه بروح الخدمة اليت اتّصف بها الرب وتنهض لخلاص النفوس في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الكنيسة، فهجرة عشرات الآلاف من أبنائها من تركيا وغيرها من منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا والأميركتين واستراليا قد أضعفها كثيراً وضعضع مركزها في موطن نشأتها حيث نمت وتأصّلت جذورها، وصمدت كالدوحة السامقة عشرين قرنا، ولكن إعصار الهجرة اليوم يهز أغصانها بعنف، ويهدده ابخطر قلع جذورها من أرضها الطيبة التي غُرسَت فيها. فلنحذر من الهجرة التي تضعفنا كشعب وككنيسة وتهدد كياننا بالتلاشي، ووجودنا بالفناء.

أما أبناؤنا في المهجر فإننا نؤكّد لهم بأننا سنبذل قصارى جهدنا لتوفير الجو الروحي لهؤلاء ولأولادهم ونوصيهم بالتمسّك بعقيدتهم الدينية ووطنهم الأم، وطقوسهم السريانية المقدسة، وأن يربّوا أولادهم التربية المسيحية الشرقية النقية الصالحة، متمسّكين بتقاليد آبائهم وتراثهم الثمين.

أجل في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الكنيسة، وفي هذه الفترة الصعبة التي تمر بها الكنيسة، علينا أن نعود إلى ينابيع عقيدتنا الروحية وتراثنا الديني وقوانيننا الكنسية، فالعقيدة ثابتة ومبنية على أساس الكتاب المقدس. وما نحتاجه الآن هو تقديم كل ذلك بلغة العصر الحديث لإنسان الربع الأخير من القرن العشرين، وطقوسنا الدينية تحتاج إلى تهذيب وترتيب، لأنها فقدت تأثيره الروحي لجهل الغالبية العظمى من الكهنة والشعب اللغة السريانية، لغة السيد المسيح المقدسة ولغة الطقس، فعلينا أن ننهض لإنمائها ونشرها عن طريق مدارس التربية الدينية التي تُدعى أيضاً مدارس الأحد، وفتح الدورات التعليمية للفتيات والفتيان، في كنائسنا في كل مكان. ليتعلّموا مبادئ الإيمان وأصوله ولغة الطقس الديني.

لا بدع إذا قلنا أن كنيستنا اليوم بأمس الحاجة إلى كهنة مثقّفين ثقافة روحية. وأن أديرتنا تكاد تكون خالية من الرهبان والراهبات بعد أن كانت في الماضي السحيق تعجّ بالعلماء منهم، بل كانت مراكز للعلم والمعرفة تتبعها المدراس الدينية والعلمية، ونحن اليوم نفتقر إلى كادر كهنوتي يكون على مستوى المسؤوليّة الروحية والاجتماعية، ومعاهدنا الكهنوتية يعوزها الطلبة النابهون. فإلى العائلات السريانية الكريمة نوجّه نداءنا ليهتموا بتربية أولادهم التربية المسيحية الصالحة متعاونين مع الكنيسة في هذا الميدان، كما نحثّهم على انتخاب الأذكياء الصالحين منهم لينضمّوا إلى تلامذة معهد مار أفرام الكهنوتي في العطشانة الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، ليحيا بعد موات، وإلى مدرستي دير الزعفران ودير مار كبرئيل في تركيا، ومدرسة دير مار متّى في العراق التي سنؤسسها قريباً إنشاء الله. ليتخرّج لنا في هذه المدارس كهنة ورهبان يخدمون كنيسة الله بروح نكران الذات والالتزام بالقوانين الكنسية.

ولا بدّ أن نذكر في منشورنا الرسولي هذا بأن كنيستنا المقدسة في الهند هي الأخرى بحاجة ماسة إلى كادر كهنوتي جيد يتعمّق بدراسة أصول الإيمان المستقيم الرأي وتاريخ الكنيسة وقوانينها ويرتبط بكرسينا الرسولي بعروة وثقى. وكنيستنا في الهند هي جزء لا يتجزّأ من كنيستنا السريانية الأرثوذكسية الجامعة وكانت في العقد الأول من هذا القرن قد انقسمت إلى فرقتين على أثر تمرّد بعضهم ثم اتّحد الطرفان سنة 1964 وقبل عشر سنوات دبّ الخلاف ثانيةً في صفوف الكنيسة هناك. وسنة 1975 انفصل قسم كبير من الاكليروس والشعب عن الكرسي الرسولي الأنطاكي، الأمر الذي لم يُعلَن لكم رسمياً في حينه، أمّا القسم الذي بقي موالياً للكرسي الرسولي، فقد رسم لهم سلفنا المثلث الرحمات مار اغناطيوس يعقوب الثالث جاثليقاً وهو الرئيس المكاني الأعلى للكنيسة في الهند، وهذا الجاثليق هو غبطة مار باسيليوس بولس الثاني الذي اشترك في حفلة تنصيبنا يرافقه ثمانية من مطارنتنا في الهند كما ذكرنا آنفاً. ولابدّ أن نوضح هنا أيضاً بأن هؤلاء السادة الأجلاّء بالرغم من إجماعهم على الولاء للكرسي الرسولي الأنطاكي فإنهم بحاجة ماسّة إلى دستور كنسي يحدد علاقتهم بكرسينا الرسولي وعلاقة بعضهم ببعض ليوفّق بينهم ويلمّ شعثهم ويجمع شملهم، وإننا نسعى لوضع هذا الدستور مستندين بذلك إلى قوانين الكنيسة العامة والقوانين الخاصة بالأبرشيات في الهند، والنظم المتبعة هناك، أجل كان لابدّ لنا أن نكشف النقاب عن هذه الحقائق المرّة ليعلم الشعب السرياني المبارك صعوبة المهمة الروحية التي أُلقيَت على عاتقنا وقد تقبلناها بروح الإيمان والثقة بالرب الذي وعد قائلاً: «تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل» ونحن واثقون بأننا سنلقى الدعم من اخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الأجلاّء وأبنائنا الكهنة الموقّرين والشمامسة المكرّمين والشعب المبارك بكل مؤسساته من المجالس المية واللجان الاستشاريّة والجمعيّات الخيرية وغيرها. نناشدهم جميعاً اكليروساً وشعباً شيباً وكهولاً وشباناً نساء ورجالاً بأن يسعوا إلى ما فيه خير الكنيسة وازدهارها وتمجيد اسم الرب القدوس. ونسأل الرب الإله أن يبارك آمالنا وأعمالنا، ويهبنا قوّة وحكمة لنرى كنيسته المقدسة التي افتداها بدمه الكريم، وأن يحفظكم تعالى ويوفّقكم ونعمته تشملكم آمين.

صـدر عن قلاّيتنا البطريركية في دمشق

في السابع من شهر تشرين الأول سنة ألف وتسعمائة وثمانين

وهي السـنة الأولى لبطريركيتنــا