منشور بطريركي 1988

نهدي البركة الرسولية والدعاء والسلام بالرب إلى إخوتنا المطارنة الأجلاء، وأبنائنا نواب الأبرشيات، والكهنة، والرهبان، والراهبات، والشمامسة والشماسات الموقرين، ولفيف أفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي، في جميع الأبرشيات الخاضعة لكرسينا الرسولي الأنطاكي المكرمين، شملتهم العناية الربانية بشفاعة السيدة العذراء مريم والقديس مار بطرس هامة الرسل وسائر الرسل، والشهداء والقديسين آمين.

بعد تفقد خواطركم العزيزة نقول: بعون الله تعالى، عقدنا مجمعنا الأنطاكي المقدس، في مقر كرسينا الرسولي في دمشق، لدورة عادية، بدءاً من صباح يوم الأربعاء المصادف في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني وحتى مساء يوم الخميس المصادف في السادس والعشرين منه، سنة ألف وتسعمائة وسبع وثمانين. وبهذه المناسبة دعانا الواجب الراعوي أن نبعث إليكم بمنشورنا البطريركي هذا، لنؤكد لكم أننا مع إخوتنا أعضاء السينودس المقدس الأجلاء ساهرون على رعايتكم، عملا بوصية الرسول بولس القائل: “احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.” (أ ع 20: 28)

أيها الأحباء،

حرصاً منا على نفوسنا ونفوسكم، لنتمكن من أن نظهر وإياكم، أما منبر ربنا يسوع المسيح، في اليوم الأخير، قائلين له: “ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله” (عب 2: 13).

رأينا أن ننبّه أبناءنا الروحيين الكهنة الموقرين ليكونوا قدوة صالحة للشعب المؤمن، عفةً، وتقىً، ووداعةً، واتضاعاً، ومواظبةً على الصلاة، والتزاماً بالأصوام، والوعظ والإرشاد، ليشجعوا المؤمنين الأتقياء على مواصلة التمسك بالإيمان بعروة وثقى، وممارسة الفرائض البيعية من أصوام وصلوات، والتحلي بالفضائل المسيحية، وليوقظوا الغارقين منهم في سبات الخطية العميق، والمنهمكين في هموم هذا العالم الزائل، وينبهوا المتغافلين عن واجباتهم الدينية والمتقاعسين عن أداء الفروض الملية، كي يهتموا بخلاص نفوسهم.

لقد كان روح القدس مرشدنا في كل أبحاثنا في المجمع المقدس، فتناولنا بالدرس موضوعات عديدة مهمة جداً لبنيانكم نستعرض فيما يأتي بعضاً منها: فلدى دراستنا الوضع الروحي في الكنيسة، رأينا ما صارت إليه حالة العالم في الأزمنة المتأخرة من التردي، والابتعاد عن الله. كما قد هبط بعض أعضاء الكنيسة من عز التقوى الشامخ إلى درك الإهمال الروحي المؤسف، مما لا ينطبق مع ماضينا الروحي المجيد، وإيمان آبائنا القديسين الذين يُضرب بهم المثل بطهر السيرة ونقاء السريرة، والاستقامة والصدق في القول والعمل، أولئك الذين اختاروا لأنفسهم الآخرة الصالحة. لذلك نحثكم على النسج على منوالهم والطبع على غرارهم، والتمثل بإيمانهم، بالتوبة الصادقة النصوح، والاعتراف القانوني الصادق، وتناول القربان المقدس جسد المسيح ربنا ودمه الأقدسين، فإن ذلك ضروري للخلاص، فقد قال الرب يسوع: “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد … الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” (يو 6: 51 و53 – 56).

لذلك عليكم أن تتقدّموا باستمرار إلى مائدة الحياة وتشتركوا بتناول القربان المقدس، واعلموا هذا أيها المؤمنون، أنّ أحد الأسماء التي أطلقها آباؤنا بالسريانية على القداس الإلهي هو وهذه اللفظة تعني الاشتراك. ويُعد الاشتراك بتناول القربان امتيازاً للمؤمن الصالح بنيله نعمة الشركة مع الثالوث الأقدس ومع القديسين أعضاء كنيسة الأبكار في السماء، ومع إخوته المؤمنين أعضاء الكنيسة المجاهدة على الأرض. كما أنّ هذا الاشتراك هو علامة فارقة للشركة مع هؤلاء جميعاً في وحدة الإيمان القويم. لذلك فإن أول تأديب صارم يُعاقَبُ به المبتعدون عن الله والمبتدعون والهراطقة هو حرمانهم من تناول القربان المقدس. فجدير بنا أن نبقى في شركة تامة مع ربنا يسوع المسيح كالأغصان في الكرمة، لنحيا فيه، ويحيا هو فينا. فبادروا إذن أيها الأبناء الروحيون إلى التقدم إلى منبر الاعتراف القانوني بتوبة صادقة، وتنقوا وتقدسوا وتناولوا القربان المقدس باستمرار لتنالوا غفراناً لخطاياكم وعربوناً للحياة الأبدية.

لقد أعار مجمعنا المقدس أيضاً أهمية بالغة لموضوع توجيه المؤمنين للمواظبة على الصلاة، ودراسة الكتاب المقدس، وتلاوته في دورهم العامرة بروح الصلاة والعبادة، مذكِّرين إياهم بقول أحد الأتقياء “أما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يش 24: 15) ووصية كاتب الرسالة إلى العبرانيين القائل: “اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14). ورؤية الرب هذه، هي السعادة الكاملة التي يتمتع بها المؤمنون الوارثون ملكوت السموات. وقد قال الرب “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8) فالكتاب المقدس خير وسيلة لنا لمعرفة إرادة الله، فلنجلس إليه وننصت إلى إلهنا باهتمام، لنسمع صوته تعالى ينادينا، لنحفظ وصاياه. بل أننا في رحابه ننال الثقافة الدينية العميقة التي نحتاجها كثيراً في أيامنا هذه خاصة، فإن أخطر ما يهدد إيماننا القويم وعقائدنا السمحة، إتماماً لوصية الرسول بطرس القائل: “بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف” (ا بط 3: 15). بهذا فقط نحوز على الثقة بالله. والثقة بأنفسنا، والإيمان بأن روح الله يتكلم فينا في الدفاع عن عقائدنا الدينية، ودحض أباطيل الفرق المستحدثة التي تدّعي المسيحية، وهي غريبة عنها وبخاصة الذين يسمون أنفسهم بالمسيحية بالمسيحيين الصهاينة وهم في الحقيقة صهاينة أعداء ألدَّاء للمسيحية الحقيقية، يحاولون هدم أركانها بتلاعبهم في تفسير نبوات أنبياء النظام القديم لأغراض سياسية دنيئة تخدم الصهيونية العالمية عدوة الإنسانية. فاحذروهم أيها الأحباء، بل انبذوهم نبذ النواة مع سائر من يماثلهم في ضلالاتهم كفرقة شهود يهوه. وتمسكوا بإيمان كنيستكم المقدسة الذي تسلمته من الرسل الأطهار، والآباء الميامين القديسين.

ودرس المجمع المقدس دراسة مستفيضة أيضاً موضوع التنظيمات العلمانية المشبوهة التي أخذت تظهر هنا وهناك بأسماء متنوعة، والتي تجرأت على إقامة نفسها ممثلة للشعب السرياني زوراً وبهتاناً، وتواقحت بالنطق باسمه، محاولة فصل الشعب السرياني عن الكنيسة السريانية المقدسة لتفرقة الصفوف، والهيمنة على الكنيسة. هذه التنظيمات ولئن كانت تتألف من أعضاء تابعين للكنيسة السريانية ولكنها غريبة عنها بل تستغل اسمها أحياناً لمصالح خاصة، وأهداف تتنافى ورسالة الكنيسة وأهدافها الروحية، وتعود أخيراً بالضرر الجسيم على الكنيسة. وقد رأى المجمع المقدس نبذ هذه المنظمات المشبوهة، وها نحن اليوم نأمر الأكليروس السرياني ليناهض كل فكرة، أو تعليم، أو تنظيم داخل الكنيسة لا ينسجم وعقائدها الدينية، وتقاليدها وتاريخها، ويلحق الضرر بهويتها، هؤلاء وأولئك هم أضداد المسيح كما يصفهم الرسول يوحنا الذي يقول أيضاً “منَّا خرجوا لكنهم لم يكونوا منَّا لأنهم لو كانوا منَّا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا” (1 يو 2:19).

وفي مجال التربية الدينية يسرنا أن نثني على مراكز التربية الدينية السريانية والندوات الروحية التي تضم نخبة طيبة من أبنائنا وبناتنا الأعزاء الذين يواظبون على دراسة الكتاب المقدس ولغة السيد المسيح السريانية الحبيبة، وعلى الصلاة، والترانيم الروحية، لتمجيد اسم الله القدوس. ويروق لنا أن نحث شبابنا من الجنسين على أن يشتركوا في هذه الفعاليات الروحية، وينضموا إلى مراكز التربية الدينية التي تُعد جانباً مشرقاً من جوانب الحياة الروحية في أبرشياتنا السريانية، لإعداد جيل صاعد مؤمن وواع ٍ يخدم الكنيسة والوطن بإخلاص ونكران ذات. وبهذه المناسبة نوصي المسؤولين الروحيين والاداريين في الكنيسة بأن يشجعوا هذه المؤسسات الروحية ويعضدوها مادياً ومعنوياً.

وقد درسنا كذلك أوضاع أديرتنا السريانية في تركيا والعراق وسوريا وغيرها من البلدان، وأولينا عناية كبرى بتنظيم شؤونها الروحية والإدارية لتزدهر الحياة الرهبانية فيها، كما تطرقنا إلى المعاهد الكهنوتية ورأى أباء المجمع ضرورة تشجيعها وتقويتها لترفد الكنيسة بكادر كهنوتي قدير. وركز آباء المجمع خاصة على كلية مار أفرام الكهنوتية في مقر البطريركية التي هي قلب الكنيسة النابض وعمودها الفقري إليها يتطلع السريان بأمل كبير، وفيها يتخرج الأكليروس المؤمن برسالته الروحية المقدسة، والمتفاني في سبيل الخدمة الدينية. وقد أبدى آباء المجمع ارتياحهم لوضعها الحالي من الناحيتين الروحية والتعليمية، كما استحسنوا ما نقوم به من تعزيز العلاقات مع كليات لاهوتية مماثلة في الشرق والغرب بالتبادل الثقافي اللاهوتي، لإعداد رجال روحيين مؤهلين، يتسلمون مراكز القيادة في الكنيسة مسقبلاً ولإبراز تراث كنيستنا الخالد بصورة لائقة. وبهذه المناسبة نناشد شبابنا الأعزاء الذين يشعرون بأن الله يدعوهم لخدمته، أن ينضموا إلى تلاميذ هذه المؤسسة الروحية، مقدمين طلباتهم عن طريق المطرانيات، ليكرسوا أنفسهم لخدمة الله وكنيسته المقدسة.

وفي مجال دراسة مشاريع البطريركية العمرانية في معرة صيدنايا، أوصى المجمع المقدس بالمزيد من الاهتمام بها ودعمها وعضدها مادياً ومعنوياً، لتتمكن البطريركية من الشروع بتشييد بناية لائقة لكلية مار أفرام الكهنوتية في القريب العاجل.

وأكد المجمع المقدس قراراته السابقة باستنكار هجرة بعض المؤمنين إلى بلدان غريبة، فقد أتعبت هذه الهجرة الكنيسة كثيراً، لذلك أوصى المجمع بالتثبت بأرض الوطن العزيز، كما حض على الاهتمام بالثبات في الإيمان القويم والمحافظة على التراث الروحي الثمين، واللغة السريانية المقدسة في الوطن والمهجر.

أيها الأحباء:

إننا، ثقة منا بإيمانكم النقي، رأينا أن نحثكم على العمل بموجب ما فرضته عليكم الشريعة الإلهية والقوانين الرسولية، والسنن والنظم التي وضعتها الكنيسة عمود الحق، في مجامعها المقدسةـ التي تجتمع دائماً بإرشاد روح القدس وقيادته، وذلك لنجاحكم وبنيانكم وعمرانكم الروحي والأدبي. مذكِّرين إياكم بوصية الرب يسوع لرسله الأطهار ولنا نحن خلفاءهم بقوله: “الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يُرذلكم يُرذلني، والذي يُرذلني يُرذل الذي أرسلني” (لو 10: 16).

فبادروا أيها الأبناء الروحية إلى طاعة أوامر الكنيسة أمكم الحنون، وتجنبوا نواهيها. ليحفظكم الله تعالى وأولادكم مزهرين بالفضائل وصوالح الأعمال، وينجيكم من التجارب الصعبة والمحن، ويقويكم على التمسك بالإيمان القويم، وتربية أولادكم تربية مسيحية صالحة، وتلقينهم محبة الكنيسة والوطن، لتمجيد اسمه القدوس.

ويسرنا أن ننتهز فرصة عيدَي الميلاد المقدس ورأس السنة الجديدة لنتمنى لكم جميعاً أعياداً مباركة ومواسم حافلة بثمار الروح، وعاماً جديداً مليئاً بالخيرات، وأن ينشر الرب الإله أمنه وسلامه في أرجاء العالم، ويمتعكم بالصحة التامة والتوفيق الجليل، ويرحم موتاكم المؤمنين، ونعمة يسوع ربنا تشملكم دائماً أبداً، آمين.

                                     صدر عن قلايتنا البطريركية في دمشق – سورية

                                            في 4 كانون الأول 1987 م

                                          وهي السنة الثامنة لبطريركيتنا