الكنيسة

الـكـنـيـســــة

بقلم مار طيمثاوس يعقوب موصلية مطران دير مار متى (+1966)

 

 

الفصل الأول في الكنيسة

الفصل الثاني في تطور الكنيسة

الفصل الثالث في علامات الكنيسة

الفصل الرابع في الكنيسة من حيث هي بناء

الفصل الخامس في ترتيب بناء الكنائس

الفصل السادس في كيفية الوقوف في الكنيسة

الفصل السابع في تسمية الكنائس بأسماء العذراء والرسل والشهداء والقديسين

الفصل الثامن في الناقوس وقرعه

 

 

الفصل الأول

في الكنيسة

الكنيسة هي جماعة من الناس مجتمعين في محل واحد لغرض واحد، ومرؤوسين برئيس واحد، وذلك إما دينياً أم مدنياً. وقد أطلق اليونان هذا الاسم قديماً على النوادي العمومية أو المحافل المدنية، ثم أطلقوه على جماعة مجتمعين معاً لغرض واحد، وخصوصاً على جماعة الساسة المجتمعين للنظر في القضايا المدنية.

وقد جاء في الكتاب المقدس على كلتا الحالتين، فإذا كان مدنياً قيل محفلاً (أع19: 41) وإذا كان دينياً قيل كنيسة (أع2: 47). واسم الكنيسة في العهد الجديد يدل على معنيين: الأول: على جماعة المؤمنين بالمسيح إيماناً واحداً في كل أقطار الأرض، (أع5: 11) و(رو16: 16) و(2كو8: 19) و(كو1: 18)، أو على جماعة واحدة من المؤمنين (رو16: 5) و(1كو16: 15) و(كو4: 15)، أو على جماعة المؤمنين الموجودين في مدينة واحدة أو أبرشية واحدة ككنيسة أورشليم مثلاً (أع15: 4) وأنطاكية. الثاني: على محل الاجتماع، أي المكان الذي يجتمع فيه المؤمنون لتأدية الشعائر الدينية (1كو11: 18) و(2كو8: 18). وهناك ما قاله عنها الآباء في مؤلفاتهم، قال مار سويريوس يعقوب البرطلي: الكنيسة لفظة عبرية تترجم سريانياً جماعة الله، وليس كل جماعة كنيسة، بل كل كنيسة جماعة لأنها مجتمعة بالله أو باسم الله.

قال القديس كيرلس الأورشليمي: «إذا قلت كنيسة اعلم أنك قلت جماعة القديسين، وتدعى بالإجمال لأنها مؤلفة من أنفس المؤمنين». وقال آخرون: «الكنيسة هي اتحاد المؤمنين برباط السلام».

هذا وإذا عنينا بالكنيسة جماعة المؤمنين فهي تقسم إلى قسمين: معلمة ومتعلمة. فالمعلمة هي الأساقفة والكهنة الذين يعلمون الناس أصول الديانة وقواعدها. والمتعلمة هي جماعة المؤمنين والعوام الذين يتلقون العلوم الروحية من الكنيسة المعلمة.

وتقسم الكنيسة أيضاً إلى منتصرة ومجاهدة، فالمنتصرة هي جماعة القديسين الذين نزلوا إلى ميادين الوغى مع الملوك والقواد وخرجوا منتصرين، وخاضوا المعامع مع الشيطان فظفروا به وغلبوه بقوة سيدهم الذي قهره قبلهم، هؤلاء هم الذين «جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا السعي وحفظوا الإيمان وحُفظ لهم إكليل البر» (2تي4: 7و8)، وهم الذين رآهم يوحنا اللاهوتي فقال: «بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعدّه، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة واقفون أمام العرش وأمام الخروف متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل» (رؤ7: 9)، وقال الرسول بولس: «بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي في أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين» (عب12: 22و23).

والمجاهدة هي جماعة المؤمنين العائشين على الأرض الذين يجاهدون ليل نهار ضد إبليس ومكائده (أع9: 31).

 

الفصل الثاني

في تطور الكنيسة

قلنا سابقاً أن الكنيسة هي جماعة المؤمنين في الأرض كلها، ولا نقصد بذلك المؤمنين بالمسيح بعد ظهوره فقط، بل الذين كانوا يترجونه قبل ذلك كإبراهيم واسحق ويعقوب، وغيرهم من الآباء الأولين والأبرار والصالحين والأنبياء لأن كلهم كانوا يطلبون مجيئه (حج2: 7) و(ملا3: 1). والشاهد الأعظم على ذلك قول السامرية للسيد له المجد: «إننا نعلم أن مشيحا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء» (يو4: 25).

ولم تكن الكنيسة منذ بدايتها على حالتها الحاضرة بل تطورت ثلاثة تطورات، وذلك لأن الناس كانوا قبلاً أطفالاً بالنعمة لا يفهمون ولا يتصورون الأشياء الروحية الغامضة بل أعطيت لهم تلك المواهب رويداً رويداً ليستطيعوا أن يفهموها ويصدقوها ويؤمنوا بها. فأعطي مثلاً للأطفال حليب لأنهم لا يقدرون أن يأكلوا الخبز، وللشبان وغيرهم خبز لأنهم قادرون على مضغه كقول الرسول بولس: «وأنا أيها الاخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضاً لا تستطيعون لأنكم بعد جسديون» (1كو3: 1ـ3)، وقال أيضاً: «ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة..» (1كو2: 14). فلما ترعرع الإنسان بالنعمة ونشأ بالروحيات أضاف الله له تلك المواهب حتى انتهت عند حد وهو عهد الكمال والنعمة وسيدوم هذا إلى انقضاء الدهور.

وسنتكلم في ما يلي عن كل من هذه التطورات الثلاثة:

  • أولاً: الدور الطبيعي أو ناموس الضمير

هذا الدور هو بداية الجنس البشري ويعد الإنسان فيه طفلاً في مهد الطفولة، فأعطاه الله غذاءً ليناً يشبه الحليب للأطفال، أي أنه أعطاه شريعة سهلة الحمل وطريقاً واسعاً يقدر أي كان أن يسلكه، وهو ما يسمى بـ«ناموس الضمير».

في هذا الدور خلق الله الإنسان وأوجده من العدم ليعرفه ويعبده ويسجد له، وأخيراً ليرث ملكوته بدلاً من الملائكة الساقطين، ويشارك الملائكة بالترتيل والتمجيد للعزة الإلهية، ولذلك أعطاه ضميراً ليكون حاكماً عليه وعقلاً ليميز به الخير من الشر، وهذا ما يسمى بناموس الضمير.

كانت الكنيسة تساس في هذا الدور بالناموس الطبيعي «الضمير» وكانت هذه الشرائع الطبيعية تنتقل من السلف إلى الخلف تقليداً شفهياً وتسليماً طبيعياً، فحكم ضمير أدم ودرى بنور العقل الطبيعي أنه أغضب الله وسيبقى غاضباً عليه إن لم يستعطفه بشيء ويصالحه معه، فأومأ إلى ولديه ليقربا لله قرباناً علّه يتنسم رائحة الرضى فيعيدهم ثانية إلى الفردوس، فامتثل الشابان الحدثان أمر والدهما وقربا قربانين كل منهما ما كان له وما أوحى إليه به ناموس الضمير، فاختار الله قربان هابيل الأخ الأصغر لأنه كان من أبكار الغنم وسمانها، ورذل قربان قايين لأنه كان من ثمار الأرض الهزيلة. وهكذا تنوقلت هذه السنة من السلف إلى الخلف. فبنى نوح مذبحاً للرب وقدّم عليه تقدمة (تك8: 20) ومثله إبراهيم (تك12: 7و8) واسحق (تك26: 25) ويعقوب (تك33: 20) وغيرهم وبحسب هذا العهد قدمت العشور (تك 14: 20) ونذرت النذور (تك 28: 22) وحفظ يوم الرب الذي باركه وقدسه (تك2: 3). وظل الناس يسوسون أنفسهم في هذا الدور إذ حفظت الكرامة لمن له الكرامة والسلطة لمن له السلطة والبكورية لمن له البكورية، راض كل إنسان بحقه لا يتعدى على حقوق غيره حتى إن الذي يتعدى ذلك ضربه الله فارعوى عن غيّه وأرجع ما اغتصبه لصاحبه (تك 12: 5 ـ 20) و(تك 20: 2 ـ 18) ومكث هذا الناموس سائداً في الكنيسة حتى ظهور النبي موسى.

  • ثانياً: الناموس المكتتب أو ناموس العدالة

إن الله لما رأى الإنسان قد شذّ عن جادة الحق، وضل طريق الصواب ولم يعد يراعي ناموس ضميره ولم يسر وراء نور عقله، همّ فأنزل الناموس المكتتب على موسى النبي، ذاك ما يسمى بـ«ناموس العدالة» أي العين بالعين والسن بالسن، فلم يقدر الإنسان عهدئذ أن يتعدى على حقوق غيره، وإلا لاُهين ورجم أو قتل أو حرق بالنار لأجل ذنبه. ومع هذا كله لم يقدر هذا الناموس الصعب أن يردع الإنسان ويرجعه عن غيّه، بل لم يقدر على كبح عاداته البهيمية (رو8: 3) فلو أعطي ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس، «لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذا مات بلا سبب» (غل2: 21) و(غل3: 21)، فكان ذلك الناموس تأديباً للبشر (غل3: 24)، لقساوة قلوبهم (مر10: 5) وكان في هذا الناموس أيضاً طقوس وكهنة ورؤساء كهنة وغير ذلك من النظم التي سنّها الله وأنزلها على موسى. وظلّ هذا الناموس في الكنيسة حتى ظهور السيد الذي كان الناس يطلبونه (ملا 3: 1).

  • ثالثاً: دور الكمال أو دور النعمة

«لما جاء ملء الزمان أرسل اللّه ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل4: 4 و5)، أعني لما صار الوقت الذي وعد به الله الناس أن نسل المرأة يسحق رأس الحية القديمة التي هي الشيطان (تك3: 15)، وانتهت الأسابيع السبعون التي حُددت لدانيال النبي (دا 9: 24) جاء الكامل (1كو13: 10) وقطع لنا عهداً أبدياً (اش 55: 3) كاملاً. وهو عهد النعمة والكمال، عهدٌ صار به البشر أبناء الله الحي وأخوة للكامل كقول الرسول بولس: «ثمّ بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب، إذاً لست بعد عبداً بل ابناً وإن كنت ابناً فوراث لله بالمسيح» (غل 4: 6و7)، وقال: «إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب، الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله» (رو 8: 15 ـ 16)، أشرق نور في الظلمة للمستقيمين فهرع الناس إليه وقبلوه «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو1: 12).

أكمل الكامل دورته في الأرض وختم سر الفداء بدمه الأقدس، ثم صعد إلى أبيه بقوة ومجد عظيم وأرسل الروح القدس فحلّ على الرسل الأطهار في العلية، ومذ ذاك تأسست الكنيسة المسيحية الكاملة (نش6: 9)، «وبعد ذلك النهاية متى سلّم الملك لله الآب، متى أبطل كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة» (1كو15: 24).

 

الفصل الثالث

في علامات الكنيسة

لابدّ أن يكون لكل جماعة أو لكل دولة علامات أو سمات مختصة بها لتميزها عن غيرها من الجماعات أو الدول، فلكنيسة المسيح أربع علامات خاصة بها، تتميز بها عن غيرها من الجماعات الخارجة عنها التي بُنيت على الرمل، وليس على صخرة الإيمان القويم الذي هو ابن الله المتجسد. وهذه هي علامات كنيسة المسيح منذ نشأتها إلى الآن وستبقى كذلك مهما كرّت السنون وتعاقبت الأجيال وتبدلت الأحقاب، ولا تعرف غيرها من سمات وقد ثبتت سنة 381 في المجمع المسكوني القسطنطيني المقدس هكذا: «نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية»، وسنتكلم عن كل منها فيما يلي:

أولاً: واحدة

إن العلامة الأولى والمهمة لكنيسة المسيح هي أنها واحدة إذ لها «رب واحد إيمان واحد معمودية واحدة إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم» (اف4: 5و6) ويستنتج ذاك من البراهين التالية:

1ـ قال الحكيم: «واحدة هي حمامتي كاملتي الوحيدة لأنها هي» (نش6: 9)، وهذه أيضاً كما يقول الآباء هي عبارات حب بين السيد المسيح وخطيبته الكنيسة فسماها واحدة. ووحيدة لأنه اشتراها بدمه وخلصها من ضلال الخطيئة، وأولدها ثانية من الماء والروح القدس (يو3: 5) فصارت من ثم جسداً واحداً وروحاً واحداً (اف4: 4).

2ـ من غاية التجسد والفداء، لأن كان قصد الله أن يعيد الناس طراً من الضلال إلى النور الحقيقي ليكونوا أمة واحدة وكنيسة واحدة.

3ـ من أقوال الرب له المجد قال: «كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب وأنا أضع نفسي عن الخراف، ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعيةً واحدة وراع واحد، لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً» (يو10: 15ـ 17). وقال أيضاً: «ولست اسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب فـيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو17: 20ـ21).

4ـ أقوال الرسل، قال الرسول بولس: «هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر» (رو12: 5)، وقال: «لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد كذلك المسيح أيضاً لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سقينا روحاً واحداً» (1كو12: 12و13)، وقال: «ليس يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع» (غل3: 28)، وقال: «لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط» (اف2: 14).

5ـ من أقوال الآباء: قال القديس اقليميس الإسكندري: «وبما أن الكنيسة مختصة بواحد فهي بالطبع واحدة، وإن ثارت عليها الهرطقات لتجزئتها، وهي كما تقول كنيسة واحدة قديمة جامعة بحسب الأقنوم وبحسب الاعتقاد وبحسب الأصل بحسب السمو» (ستروماتيس 7 صفحة 765). وقال القديس باسيليوس الكبير: «كل الذين رجاؤهم بالمسيح هم شعبٌ واحد، والمسيحيون الآن كنيسة واحدة ولئن كانوا ينسبون إلى بلدان مختلفة» (رسالة393). وقال القديس يوحنا الذهبي الفم: «إن الكنائس في المدن والقرى كثير عددها وإنما الكنيسة واحدة لأن المسيح الحاضر فيها كله واحد كامل غير منقسم» (م419 مجلد).

وقال مار سويريوس يعقوب البرطلي: «إن الكنيسة هي رمز الفردوس فكما أن ذاك فيه مختلف الأشجار، هكذا الكنيسة رتب متنوعة وهي: الأنبياء والرسل والشهداء والبتولون وغيرهم» (سيًمُةا الكنوز ركن 2 ف 39). نتج مما تقدم أن الكنيسة واحدة لا غير وإن كان أعضاؤها منتشرين في كل المسكونة.

ثانياً: جامعة

بما أن الكنيسة هي واحدة فهي جامعة أيضاً، لأن الوحدة لا تصير إلا بالاجتماع، فهي واحدة لكونها تجمع بين جدرانها من جميع الناس أي من كل القبائل والأجناس والنزعات «فليس فيها يهودي ولا يوناني ليس عبد ولا حر ليس ذكر وأنثى» فهي جامعة لا لأنها منتشرة في المسكونة كلها، بل لأنها تجمع جميع الأجناس والأقوام إلى حظيرة واحدة أي الإيمان الأرثوذكسي المقدس وهذه العلامة أيضاً لازمتها منذ نشأتها كما توضح البراهين التالية:

1ـ النبوات التي في العهد القديم قال الرب لإبراهيم: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (تك22: 18)، ويعني بذلك أن المسيح سيظهر من نسلك بالجسد وفيه يتبارك جميع الأمم والقبائل ويصيرون واحداً به كما هو والآب واحد، أي أنهم سيجمعون إلى بعضهم ليس بالجسد بل بالروح والإيمان والرجاء فيصيرون كنيسة جامعة، وهكذا ولئن كانت منتشرة في الأرض كلها إلا أنها واحدة بحسب الروح.

وقال المرتل: «تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم» (مز22: 27)، أعني أن الرب ينزل إلى الأرض ويصير إنساناً ويخلص الذين يؤمنون به ويجمعهم بالروح ويجعلهم كنيسة جامعة وجماعة متحدة برباط الروح وسيسجدون له كلهم لأناس مجتمعين في مكان واحد.

وقال النبي ملاخي: «لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم وفي كل مكان يقرب لاسمي بخوراً وتقدمة طاهرة لأن اسمي عظيم بين الأمم قال رب الجنود» (ملا1: 11)، أعني سيؤمن بي جميع الأمم، وباجتماع الرأي سيسجدون لي ويقربون لاسمي ذبائح وقرابين طاهرة.

2ـ أرسل الرب تلاميذه قائلاً لهم: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19) وحثّ «أن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أورشليم» (لو24: 47). وقال لتلاميذه: «وتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع1: 8) وقال لهم: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر16: 15). وكان قصد الرب من ذلك أن ينتشر اسمه في العالم كله فيصير جميع الناس واحداً تجمعهم أحضان الكنيسة الجامعة ووحدة الإيمان القويم ورباط السلام والألفة والمحبة.

والخلاصة إن الكنيسة تدعى جامعة لأنها تجمع في أحضانها من كل الشعوب والقبائل والأجناس، ورغماً عن كثرتهم فهم واحد «فلا فرق بين اليهودي واليوناني والعبد والحر والذكر والأنثى» (غل3: 28).

ثالثاً: مقدسة

تعتبر الكنيسة مقدسة بما أنها ولدت ولادة ثانية من الماء والروح (أع 15: 8 و9) وقد طهّرها الرب بدمه (غل1: 4) وقدّسها (يو17: 17) و«أسلم نفسه لأجلها لكي يقدّسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف 5: 25 ـ 27)، وهذه الصفة أيضاً لازمتها منذ نشأتها لأن الرب لم يشترِها بأشياء تفنى بفضة أو بذهب.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1بط1: 18و19) ولها على ذلك براهين بينة:

1ـ إن غاية الله من إرسال ابنه هي إرشاد الناس وتدريبهم ليسلكوا في طريق الحياة، وبذلك ينالون القداسة والبر، فأتى الفادي وقدّسنا وبرّرنا «لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا» (تي3: 5 و6)، «الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء» (1كو1: 30) و«بهذه المشيئة نحن مقدسون» (عب10: 10).

2ـ من أقوال الكتاب المقدس: قال الرب في صلاته الشفاعية: «قدّسهم في حقّك كلامك هو حق» (يو17: 17) وقال: «ولأجلهم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو17: 19)، وقال الرسول بولس: «لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وروح إلهنا» (1كو6: 11)، وقال: «…وتتجددوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (اف4: 23و24).

رابعاً: رسولية

تدعى الكنيسة رسولية لأنها تسلّمت من الرسل ما تسلّموه هم من الرب  نفسه (1كو11: 23) وهذه الصفة ضرورية جداً لكنيسة المسيح، وكل كنيسة ليست رسولية فلا تعد كنيسة مسيحية لأنها ليست مبنية على صخرة الإيمان الذي هو يسوع المسيح. فالكنيسة الأرثوذكسية إذن هي رسولية لأنها تسلمت الإيمان من الذين كانوا من البدء معاينين وخداماً للكلمة (لو1: 2) ولم تبدل منه شيئاً بل لم تعرف اسماً غير الرسولية المسيحية، وهي منذ بدايتها تعرف بهذا الاسم ولها عليه براهين دامغة لا تقبل النقض:

1ـ لأنها مبنية على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية (اف2: 20) ومؤسسة على ذلك الأساس العظيم والرأي القويم الذي أبداه الرسول بطرس نيابة عن الرسل (مت16: 16)، وهي المدينة العظيمة أورشليم المقدسة التي رآها يوحنا نازلة من السماء من عند الله التي لها سور ذو اثني عشر أساساً وعليها أسماء رسل الخروف الاثنيْ عشر (رؤ21: 10 ـ 15).

2ـ لأنها حافظت على هذا التسليم الذي استلمته من آبائها الرسل، واحترزت من البدع المختلفة التي كانت حرباً ضدها فقهرتها بقوة ربها وخرجت من جميع تلك الحروب ظافرة منتصرة، إذ حافظت على كل ما كان لها من الأسرار وغيرها التي استلمتها من الرسل مكتوباً كان أو غير مكتوب (2تس2: 15) لأن تعاليمهم هي تعليم المسيح نفسه (لو10: 16) و(1كو14: 37)، والإنجيل الذي بشرونا به ليس بحسب إنسان (غل1: 11) فحافظت على ذلك لأنها سمعت الرسول يقول: «ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما» (غل1: 8). فقد حاول الكفار والوثنيون والهراطقة والمبتدعون مرات عديدة أن يطعنوها، حتى ذهب كثيرون من أبنائها شهداء الحق لأنهم لم يبدلوا إيمانهم القويم بفضة أو ذهب أو منصب عال أو غير ذلك فكانت رغم ذلك في كل الأدوار تحافظ على كيانها دون أن تخاف من أعدائها أو ترهب، لأن ربها قد وعدها  أن يكون معها حتى انقضاء الدهر (مت28: 20) كما وعدته هي أيضاً أن تكون له (نش2: 16) ومحبتها نحو عريسها السماوي قوية جداً كقولها له في النشيد: «اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك لأن المحبة قوية كالموت الغيرة قاسية كالهاوية ولهيبها لهيب نار لظى الرب مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة  والسيول لا تغمرها، أن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقاراً» (نش8: 6 و7) فهم إذن لها وهي له ولن تبدل محبته بمال العالم كله ولن تفارقه أو تجحده ولو أذيقت الموت الزؤام.

3ـ لأن رعاتها متسلسلون من خلافة رسولية منوطة بالرأس الواحد الذي هو يسوع المسيح، وهم شرعيون لا تفنى رئاستهم أبداً أنهم أخذوا الرسامة الشرعية من الرسل أنفسهم ولا يأخذها لنفسه إلا المدعوون من الرب كهرون (عب5: 4) والمنتخبون من الكنيسة نفسها، فلذلك يدعون رؤساء رسوليين شرعيين لأن الرسل رسموا في كل كنيسة قسوساً (أع14: 23) و(تي1: 5) وأمروهم أن يقيموا رعاة للكنائس جميعاً (1تي5: 17) وهؤلاء أقاموا خلفاءهم نواباً عنهم وتسلسلت منهم الخلافة الرسولية حتى يومنا هذا وستبقى إلى انقضاء الدهر. فكنيستنا السريانية الأرثوذكسية إذن هي كنيسة المسيح الحقة التي اختارها أن تكون له وهو أيضاً لها إلى الأبد.

 

الفصل الرابع

في الكنيسة من حيث هي بناء

المراد بهذا النوع من الكنيسة هو البناء المشيّد المقدس لاجتماع المؤمنين لتأدية الشعائر الدينية وعبادة الله وما إليها من فروض التي فرضت عليهم للعزّة الإلهية. وهو يُبنى ويُكرّس ويُقدّس بصلاة خاصة ليكون حقيقياً لله وصالحاً لاجتماع المؤمنين لتأدية الصلوات والتسابيح للعزة الصمدانية.

وقد اعتاد المؤمنون أن يسموا محل اجتماعهم «كنيسة»، وهذا أيضاً من وضع الرسل أنفسهم، قال الرسول بولس: «ولكنني إذ أوصي بهذا لست أمدح كونكم تجتمعون ليس للأفضل بل للأردأ، لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أسمع أن بينكم انشقاقات وأصدق بعض التصديق» (1كو11: 17و18)، وقال: «لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهنّ أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً» (1كو14: 34). وقد سمي بيت الصلاة باسم «كنيسة» وذلك من باب تسمية المحل باسم الحال فيه كما سمي في الكتاب «بيت الله» (جا 5: 1) وذلك لأن الله حل فيه وقدسه قائلاً: «قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام» (1مل9: 3) هكذا يسمى بيت الصلاة كنيسة باسم الكنيسة أعني الشعب الذي يجتمع هناك لتأدية الفروض الدينية.

وفي الدور الأول من الكنيسة لم يكن لأبنائها مكان معين للاجتماع ولتقديم الذبائح لله بل كانوا يؤدون تلك الفروض حيثما حلوا وأينما وجدوا فقدم قايين وهابيل قربانيهما خارج الجنة بعد إخراج الله أبويهما منها (تك4: 3 ـ 5)، وقدم نوح قربانه في جبل أراراط حيث خرج من الفلك هو ومن معه (تك8: 20)، وقدم أبرام قرباناً في أرض كنعان مكان شكيم وبلوطة مورة (تك12: 7)، وقدم اسحق قربانه في جرار حيث ظهر له الرب (تك 26: 25)، وقدّم يعقوب قرباناً في سكوت في مدينة شكيم التي في أرض كنعان (تك33: 20)، وهكذا كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر ولم يصنعوا لهم محلاً معيناً لأداء الفروض الدينية لأنهم كانوا يسكنون الخيام في بعض المدن أو في البرية بعيدين عنها، واستمرت الحال كذلك حتى ظهور النبي موسى وابتدأ الدور الثاني من الكنيسة فعند ذاك لما خرج بنو إسرائيل من مصر أمر الله موسى أن يصنع مسكناً متنقلاً «كنيسة سيارة» لتأدية الواجبات الدينية وذلك لأن الإسرائيليين أو شعب الله الخاص أو الكنيسة كانت سائرة في البرية في التيه فلم يتسنّ لهم أن يصنعوا لهم محلاً ثابتاً لذلك بل كانت الكنيسة رحالة متنقلة (خر25: 27) وظلت الحال كذلك مع الإسرائيليين إلى سليمان حيث استتب الأمن لهم واستراحت آلات الحرب والقتال واطمأن الملك وجيوشه من مطاردة الأعداء من ملوك وقبائل أذاقوهم شتى صنوف العذاب في المهاجمات والغزوات فعندئذ بنى الملك سليمان بيتاً ثابتاً ونقل إليه تابوت عهد الرب وباركه الرب وقدّسه بعدما دشّنه الملك بالصلاة والدعاء (1مل 8: 11) (1مل9: 1 ـ 10) وذلك بوحي إلهي هبط على النبي داود حينما افتكر أن يبني بيتاً للرب (2صم7: 1 ـ 14) وظلّ الإسرائيليون يؤدون فروضهم الدينية في ذلك البيت حتى ظهور الرب وابتداء العهد الجديد أو الدور الثالث من الكنيسة ففي هذا الدور لم تشيد حالاً الكنائس بل كانوا يجتمعون للصلاة وكسر الخبز في بيوت بعضهم وأول مكان اجتمعوا فيه هو علية صهيون (أع1: 13) حيث تناول السيد المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه وغسل أقدامهم حيث قبلوا الروح القدس وتجلببوا قوة من الأعالي ونالوا موعد الآب (أع2: 2و3) وكانوا يجتمعون أحياناً في الهيكل بنفس واحدة (أع2: 46).

وبعد انتشار الإيمان وتوسع نطاق الكنيسة بنى المؤمنون في كل مدينة كنيسة أو أكثر، فأول كنيسة من هذا القبيل هي التي بناها القديس بطرس في أنطاكية على اسم العذراء مريم والدة الإله([1]) وذلك لأن المؤمنين دعوا مسيحيين أولاً في أنطاكية (أع11: 26)، وكان المؤمنون في هذه الأثناء في ضيقات كثيرة، ولم يقدروا أن يبنوا أكثر من ذلك كنائس بل كانوا يجتمعون في كنيستهم مع أسقفهم لتأدية الفروض الدينية، وظلّت حالتهم كذلك حتى تنصر الملك قسطنطين سنة 312م عندئذ استتبّ الأمن لهم فطفقوا يشيدون في كل مدينة عدة كنائس حتى في القرى أيضاً، ومذ ذلك الحين ملأت كنائس المسيحيين العالم حتى أصبحت أعظم صروح وأكبر قصور في جميع المدن فقلما تخلو مدينة في العالم من كنيسة.

 

الفصل الخامس

في ترتيب بناء الكنائس

دعا الله موسى وكلمه أن يصنع المسكن وآنيته وأراه شكلاً لم يذكره الكتاب المقدس، بل قال له: «انظر فاصنع على مثالها الذي اظهر لك في الجبل» (خر25: 40) وثبتها الرسول بولس قائلا: «الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحي إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن لأنه قال: انظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي اظهر لك في الجبل ولكنه الآن قد حصل على خدمة افضل بمقدار ما هو وسيط أيضاً لعهد أعظم قد تثبت على مواعيد افضل» (عب 8: 5 و6) إن ذلك المسكن كان منقسما إلى ثلاثة أقسام غير دار الأمم، أولاً الدار المختصة بالشعب، ثانياً الهيكل وهو مختص بقيام الكهنة اللاويين فيه إبان الخدمة، ثالثاً قدس الأقداس الذي لا يدخله إلا الحبر الأعظم مرة في السنة فقط (عب 9: 7) و(خر30: 10) أما هيكل سليمان فبناه على الشكل الذي أوحي إلى والده داود بالروح (1أي 28: 11). وفي العهد الجديد أيضاً رأى الرسل والآباء أن يبنوا الكنائس على شكل المسكن الموسوي فيقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام هي:

  • أولاً: الهيكل

وهو المحل المختص بالشعب، حيث يجتمعون معا بروح واحدة للصلاة
و تأدية الفروض الدينية والاشتراك في الأسرار المقدسة مع الكاهن وسماع قراءة الكتب المقدسة والوعظ و الإرشاد والتعليم و الترتيل وغير ذلك من الأمور التي تجري في الكنيسة، ويشير إلى الأرض.

  • ثانياً: الخورس

هو المحل المختص بالكهنة، ويشير إلى الفردوس ويجب أن يكون أعلى من الهيكل بدرجة واحدة وأوطى من المذبح بدرجتين، يقف الكهنة أعلى من الشعب ذلك يشير إلى سمو درجة الكهنوت، ولا يجوز لأحد من العلمانيين أن يقف عليه ابان الصلاة و القداس أبداً ويجوز أن يفصل بينه وبين الهيكل بدربزين (حاجز) ومكانه عندنا يلي المذبح الملوكي، وقد يوضع في الخورس (جودًا  الأكواد)  «فوجان» وهي عبارة عن منضدتين عاليتين من الخشب وفي بعض كنائسنا القديمة من الحجارة توضع عليهما كتب الطقوس البيعية حين الترتيل ويقف حولهما صفان من الشمامسة في أثناء التلاوة، يرتقي تاريخ الأكواد في كنائسنا إلى القديس مار اغناطيوس النوراني وهو ثالث بطاركة أنطاكية وهو أول من أقام الكودين في كنائس أنطاكية فانتشرت مذ ذاك الحين في كل الشرق وأمر أن يرتل عليهما صفان من الشمامسة، وظلّ هكذا مستعملا في كل أجيال الكنيسة السريانية حتى أن القديس مار أفرام نظم في كنيسة الرها صفين من الفتيات الرخيمات الأصوات للترتيل ناهجاً بذلك منهج القديس اغناطيوس ولكن لم يوقفهن في الخورس بل في ناحية مخصوصة من نواحي الهيكل. ويوضع أحد الكودين في الجهة اليمنى من المذبح ويشير إلى زمرة الأنبياء و الثاني في الجهة اليسرى ويرمز إلى زمرة الرسل.

وقد يقام في وسط الهيكل إزاء باب المذبح الملوكي مكان مرتفع يرقى إليه بدرج يسمى (بيم ـ البيم) وذلك لقراءة الإنجيل المقدس والوعظ في الأيام الحافلة. قال يعقوب البرطلي: البيم يشير إلى العلية التي أعطيت فيها الأسرار و إلى مرتفعة صموئيل التي كان مقاما فيها بيم وهناك كانت تكشف له الخفايا وقد وضع أيضاً جسد الأب القديس (آدم) في وسط الفلك كالبيم في وسط الكنيسة، ومن علو البيم تتصاعد الأصوات إلى السماء، وتقرأ الكتب المقدسة التي هي كلام الله كما صعد موسى إلى الجبل وتكلم مع الله تعالى (سيمًةا الكنوز، ركن 2 ف 39)

  • ثالثاً: المذبح

وهو المكان الذي يقف فيه الإكليروس إبان تقديم الذبيحة الإلهية وهو يشير إلى السماء ولا يجوز أن يدخله غير الإكليروس وإذا دخله أحد الخوارج عن الديانة المسيحية يجب أن يكرس ثانيةً. ويقام فيه الترونس الذي يجب أن يبنى مستطيلاً من الشمال إلى الجنوب لأنه يرمز إلى قبر المسيح (بركيفا) كما أنه يشير إلى عرش الله. ويجب أن يكون المذبح مرتفعاً عن الخورس بدرجتين، وقد يكون المذبح مفصولاً عن الهيكل بجدار في وسطه باب كبير إزاء الترونس الوسطي، له باب خشبي وستار يسدل في أوقات معينة ويسمى «الباب الملوكي» وبابان جانبيان إزاء الترونسين الجانبيين، وقد بدل ذلك الآن في بعض الكنائس الحديثة بقناطر تفصل بين المذبح و الهيكل وينصب في المذبح كرسيّ للأسقف يجلس عليه حين حضوره في الكنيسة ويخصص في أحد أطراف المذبح محل لوضع آنية القدس ويسمى عندنا (بية جزا ـ بية ديقون المخزن).

  • رابعاً: قدس الأقداس

وهو المحل الحاوي الترونس الذي تقدس  عليه الأسرار الإلهية ويجب أن يوضع في صدر المذبح متجها نحو المشرق مطلق الجهات، بحيث يدار حوله ويعمل وراءه قبر صغير لائق لدفن الصليب يوم جمعة الآلام. وليكن علو الترونس عن قاعدة المذبح الطبيعية ثلاث درجات وارتفاعه متراً واحداً وطول مائدته نحو مترين وعرضها ما يزيد عن نصف المتر وليكن فوق المائدة المبسوطة ثلاث درجات مرتفعة وفوق الترونس قبة إجلالاً للأسرار المقدسة و لعرش الله، وأما الترونس فليكن من حجر أو رخام مركزا في الأرض أو من الخشب وليعمل ترونسان أو اكثر في جانبي المذبح عدا الترونس الأوسط، والصعود إلى درجات الترونس هي المختصة بالمقدس فقط فلا يجوز البتة أن يرقى درجاته سواه الا الساعور ومن كان من درجات الإكليروس الأخرى الصغرى وذلك لأمر ضروري.

 

الفصل السادس

في كيفية الوقوف في الكنيسة

ليكن الوقوف في الكنائس بخشوع وورع، إذن لا يجوز فيها الضحك والكلام وغير ذلك من الحركات غير المرتبة حرمة لبيت الله «لأن بيتي بيت صلاة يدعى لكل الشعوب» (اش56: 7)، لئلا يأتي السيد المسيح ويصنع له قضيباً من حديد بدل سوط من الحبال ويخرجنا من بيته قائلاً لنا بغضب شديد: «بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت21: 13) إذن يجب علينا أن نقف في الكنيسة وقوفاً حسناً يليق بالله.

وقرر الرسل (دسق 10) ما نصه: «يجب أن تقفوا في الكنيسة بهدوء وعفاف ويقظة لسماع كلام الرب بانتصاب عظيم كل واحد في رتبته كاستحقاقه على مثال السماويين الأساقفة في صدر الهيكل كالمدبرين والقسوس بعدهم كالمعلمين وأرخدياقون إلى جانب الأسقف والشمامسة بعد القسوس كخدام، وسائر الشعب بعدهم الشبان في موضع وحدهم إن كان ثمّة موضع يسعهم والصبيان يقفون عند آبائهم، وكذلك النساء في موضع وحدهن المتزوجات في ناحية والفتيات في ناحية أخرى، وإذا لم يكن للفتيات موضع فليقفن خلف النساء وأما البتولات والراهبات والأرامل فليتقدمن كلهن في موضع وقوفهن وصلواتهن، وقرر الرسل أيضاً عن الملوك ما نصه: «فأما الملوك فليقفوا داخل المذبح مع الرؤساء والمدبرين» وليكن الوقوف كما قلنا بأدب وورع احتراماً وكرامة لبيت الله، فلا يجب على المؤمن أن يضحك أو يتكلم أو يخرج أثناء العبادة. وهاك ما قررته عن ذلك قوانين الكنيسة قال القديس باسيليوس الكبير أسقف قيسارية ما نصه: «ومن يضحك في القداس إن كان كاهناً فعقوبته أسبوع و إن كان علمانياً فليخرج في تلك الدفعة ولا يتناول الأسرار» (بس 69) وقال: «ولا يتكلم أحد بالجملة في المذبح خارجاً عما تدعو إليه الضرورة ولا حول المذبح أيضاً ولا يبصق أحد وهو على المذبح من دون ضرورة وجع» (96) وقال أيضاً: «ولا يخرج أحد من الكنيسة بلا ضرورة من بعد قراءة الإنجيل المقدس إلا بعد رفع القربان وتركه الكاهن والتسريح» (بس97).

ولا يقف أحد من الشمامسة في المذبح ما لم يكشف عن رأسه وأما القسيس فليكن له فير([2])  وليكن رأس رئيس الكهنة مغطى والرهبان لا يخلعون عن رؤوسهم الإسكيم.

وليقف الشعب في الكنيسة كما أمر الرسول بولس أي يقف الرجال في الصلاة ورأسهم مكشوف والنساء مغطى وهاك ما قاله: «كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه، وأما كل امرأة تصلي وتتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه إذ المرأة إن كانت لا تغطي رأسها فليقص شعرها وإن كان قبيحاً بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده» (1كو11: 4 ـ 7)، «احكموا في أنفسكم هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة، أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم أن الرجل إن كان يرخي شعره فهو عيب له» (1كو11: 13و14).

 

الفصل السابع

في تسمية الكنائس بأسماء العذراء والرسل والشهداء والقديسين

قلنا سابقاً أن الكنائس هي بيوت الله (مز27: 4)، وقد اختارها لسكناه في وسط شعبه (خر25: 8) وحل فيها (تث12: 11) ووضع اسمه فيها إلى الأبد وتكون عيناه وقلبه هناك كل الأيام (1مل9: 3)، وقصارى القول: «إنها محل بيته وموضع مسكن مجده» (مز26: 8)، وقد خُصصت لعبادته ولتمجيد اسمه فيها، وتعلّم شريعته لأن «من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب» (اش2: 3) بيد أن الكنيسة اعتادت منذ العصر الرسولي أن تدعو بيوت صلاتها بأسماء العذراء والرسل والشهداء والقديسين ليس كأنها لهم بل لله الحال فيهم ولها بذلك براهين قوية منها:

1ـ قال القديس يوحنا الرسول اللاهوتي: «وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر» (رؤ21: 14) فإذا كانت الكنيسة السماوية قد دعيت بأسمائهم بما أنها كتبت على أسوارها أفلا يجوز أن تكتب على أسوار الكنيسة الأرضية التي شيدوها بدمائهم الطاهرة وطردوا من داخلها عبادة الأصنام الرجسة؟ وإذا كان الله قد أكرمهم وجعلهم كنفسه (لو10: 16) وخصهم بما خصّ به ذاته من السلطان (مت19: 28) وذلك بما وهبهم من المواهب الجمّة (يو20: 21 ـ 23) وصنعه على أيديهم من المعجزات الباهرة (أع 5: 12) وهو ربهم وسيدهم أفلا يجب نحن جماعة المؤمنين أن نكرمهم ونحفظ ذكرهم في كنائسنا وبيوت صلواتنا؟ وإن كان الله قد كتب أسماءهم في السماء (لو10: 20) أفلا يجب علينا أن نكتب أسماءهم في كنائسنا؟ هل الكنائس أفضل من السماء؟ فما دامت السماء مسكناً لهم حيث ينالون الحظوة مع السيد المسيح أفما يجب أن تكون أسماؤهم محفوظة نصب أعيننا لنتذكرهم دائماً ونقتدي بهم وننسج على منوالهم؟ وإذا سماهم الرسول كنيسة أبكار مكتوبين في السموات (عب12: 23) أفلا يجب أن نسمّيهم كنيسة أبكار في الأرض أيضاً؟ فما داموا كنيسة في السماء أفلم يكونوا كنيسة في الأرض؟ فإذا كان مثلاً بطرس ويعقوب ويوحنا كنيسة، أفلا يجوز أن نقول إن الكنيسة بطرس ويعقوب ويوحنا.

2ـ قال الرسول بولس: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء» (اف2: 20) هنا أيضاً يوضح الرسول أن المؤمنين أعني الكنيسة الجامعة الناطقة وسمت بأسمائهم أفلا يجوز أن نسمي الكنيسة غير الناطقة أعني بيوت الصلاة بأسمائهم؟

وإذا كانت أسماؤهم وضعت على الحالّ في البيت أفما يجوز أن توضع أسماؤهم على البيت نفسه.

3ـ إن الرسول بطرس لما قدم أنطاكية وثبت فيها كرسيه البطريركي بني فيها كنيسة فخيمة على اسم العذراء مريم والدة الإله فإذا كان الرسول بطرس وهو الذي شرب من رأس ينبوع الحياة الذي هو يسوع واستمد النور من نوره الحقيقي وشمس البر، أفلا يجب علينا نحن أن نقتدي به في ذلك؟ فلو كان ذلك منافياً لروح الديانة المسيحية لما أقدم على أجرائه الرسول نفسه، ولما سارت الكنيسة عليه منذ تلك القرون إلى الآن والحق أقول لكم إنها ستبقى كذلك حتى انقضاء الدهر.

وللكنيسة في ذلك أغراض سامية مقدسة وهي: (أ) تخليد لأسمهم وذكر لعجائبهم وجبروتهم الذي أبدوه ضد أعداء الديانة المسيحية، «لأن ذكر الصديق للبركة» (أم10: 7). (ب) تكريم لضريحهم المقدس الذي يوضع في تلك الكنيسة كوديعة ثمينة وذخيرة نفيسة. (ج) ليقتدي بنو الكنيسة المقدسة بأعمالهم الصالحة وسيرتهم الحسنة.

 

الفصل الثامن

في الناقوس وقرعه

الناقوس آلة رنانة تقرع لاجتماع المؤمنين للصلاة، وإذا ما قرع مؤذناً بالصلاة هرع كل إلى الكنيسة ليؤدي واجبه الديني وليعبد الله تعالى، ويشارك الكاهن في الأسرار المقدسة وقد تعلمت الكنيسة أن تقرع الناقوس لما أمر الله نوحاً أن يبني السفينة، قال إبفولوطوس مفسّر الترجوم: «أمر الله نوحاً قائلاً اصنع لك ناقوساً من خشب الشمشار، وهو خشب الساج طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراع ونصف وأعمل مطرقة للقرع وأقرعه صباحاً وظهراً ومساءً، فعمل نوح ذلك وكان إذا ما قرعه اجتمع الناس جموعاً غفيرة فيرشدهم نوح ويعظهم وينذرهم أن يرجع كل عن طرقه مهدداً إياهم بالطوفان المهلك» (تفسير التكوين)، وقال آخر: «إن الله أمر نوحاً أن يصنع الفلك وأمره أيضاً أن يصنع ناقوساً فيقرعه فيجتمع العمال لعمل السفينة وظهراً لتناول الغداء ومساءً ليستريح العمال» (سيمًةا الكنوز).

وقد أهمل ذلك في الكنيسة الإسرائيلية وليس له ذكر في الكتاب المقدس غير أنه ظهر في الكنيسة المسيحية بشكل آخر وقد كان منذ القديم في كل كنيسة «منبّه» يدعو الشعب إلى ولوج بيت الله للصلاة بوساطة قرعه على أبواب بيوت الشعب، وبعد ذلك اختاروا البوق بدلاً من المنبه وفيما بعد استعملوا النواقيس، وكانت تصنع في الأديرة الغابرة العهد من الخشب أو الحديد بدق قطعة من الخشب على شكل مضرب ليدعو المؤمنين إلى الصلاة.

وقد استعملت النواقيس في الكنيسة بشكلها الحالي في القرن التاسع([3]) وذلك في الكنيسة اليونانية.

وكان قديماً في كنيستنا من الخشب أو النحاس ويشهد لنا بذلك مار سويريوس يعقوب البرطلي قائلاً: «يصنع من الخشب لأن صوته عال، ومن النحاس لأن صوته أقوى جداً» (سيمًةا الكنوز) ولقرعه أسباب شتى منها:

1ـ إذا سمعنا صوته نتذكر أننا بواسطة خشبة تجاوزنا الوصية وطُردنا من الفردوس وبواسطة خشبة الصليب خلصنا من خطية تجاوز الوصية ولذلك نرسم علامة الصليب على وجوهنا مسبحين الله قائلين: «افتح يا رب شفتي لاسبحك» (بركيفا).

2ـ وكما أن البوق يجمع الجنود لتبجيل الملك، هكذا الناقوس يجمعنا لتبجيل السيد المسيح ملك المجد (البرطلي).

3ـ وكما أن البوق أو المنادي يجمع الجنود ليعطيهم الملك هدايا، هكذا الناقوس يجمعنا إلى السيد المسيح ليعطينا غفران الخطايا (بركيفا).

4ـ وكما أن البوق أو المنادي يجمع الجيوش لمحاربة الأعداء ومنازلتهم، هكذا الناقوس يجمعنا للحرب والقتال مع الشيطان عدوّنا (سيمًةا الكنوز ركن 2 ف 39).

 

الهامش:

—————————————————————-

([1]) ـ تاريخ الكنيسة القبطية الجزء الأول «في ترجمة القديس بطرس صفحة 72»

([2]) ـ هو عبارة عن قبعة يلبسها الكاهن في رأسه ولا يجب أن يخلعها بتاتاً حتى وقت النوم أيضاً ويجب أن يصنع من صوف نقي بحيث يغزل غزلاً جيداً وتنسجه فتاة بتول أو رجل بتول (راهب) وليكن أعلاه مقسماً سبعة أقسام بخطوط بارزة من نفس الحياكة وذلك يشير إلى أنه مسؤول عن أسرار الكنيسة السبعة وهو خادمها ومكلف بخدمتها ووكيلها كقول الرسول: «هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ووكلاء سرائر الله» (1كو4: 1).

([3]) ـ مجلة الكرمة لسنتها السابعة عشرة الجزء السادس ص317.

 

للأعلى