تـفــســيــر الــقـــداس للعلاّمة مار ايوانيس مطران دارا

تفسير القداس للعلاّمة مار ايوانيس مطران دارا (+ 860)

 

 

نقله من السريانية إلى العربية الأب الفاضل كبرئيل خاجو

أحد خريجي كلية مار أفرام اللاهوتية ـ كاهن كاتدرائية مار جرجس ـ الحسكة

 

حياته ومؤلفاته:

من العلماء النحارير واللاهوتيين المشاهير الراسخين في علوم الدين. ترهّب في دير مار حنانيا بالقرب من ماردين، وأجاد اللغة وتوفّر حظّه من العلوم الفلسفية واللاهوتية فنال منها القسم الأكفى والسهم الأعلى، وفي حدود سنة 825 رسمه البطريرك ديونيسيوس التلمحري مطراناً لدارا، فدبّرها نحواً من خمس وثلاثين سنة. وجاور ربّه حوالي سنة 860 بدليل رسامة خلفه أثناسيوس حكيم حول هذا العام وهو الذي التمس من البطريرك المومأ إليه عمل كتاب التاريخ، وشهد له هذا في مقدمته بانصبابه على صنوف العلوم وشغفه بها منذ زهرة صباه حتى شيخوخته.

وصنّف اياونيس كتباً جليلة استشهد بها اللاّهوتيون الذين خلفوه، ابن كيفا وابن الصليبي وابن العبري، وفُرِضَت دراستها على الإكليريكيين وهي:

1ـ كتاب اللاهوت في الرتبة السماوية والرتبة الكنسيّة والكهنوت (ثلاث  مقالات) والكاهن (مقالتان) والقيامة والعقيدة المسيحية وتقدمة الأسرار الإلهية؛ وفي الأبالسة وقد عمل هذه إجابة إلى طلب أحد الأساقفة. وكسر الكتاب على اثنتي عشرة مقالة ومئة وتسعة وأربعين فصلاً ويقع في 490 صفحة بحجم كبير والمصحف الواتكاني يبدأ بالقيامة وهي أربع مقالات ثم الملائكة فالكهنوت.

2ـ كتاب في الفردوس والخليقة وقيامة ربنا والعنصرة، ووجود الصليب وأعمال فادينا وهو مجلّد كبير سبع مقالات يقع في 443 صفحة. يستشهد فيه بغالب الائمة ومنهم أوسابيوس ونيميسيوس مطرانا حمص، وتيطس مطران بصرى وسوريان أسقف جبلة، وإيليا أسقف سنجار وخصوصاً فيلكسينوس مطران منبج، منه نسخة عتيقة على رق في الخزانة الزعفرانية كتبت  بقلم اسطرنجيلي دقيق في القرن العاشر أو الحادي عشر، في أولها نقصان يسير؛ جاءت في 254 صفحة وعنها نقلت نسختنا ونسخة برمنكهام.

3ـ كتاب نفيس في النفس؛ وقد نقل فيه مقالة يوحنا الأثاربي برمتها كما تقدّم بيانه. منه نسخة عتيقة في خزانة بوسطن بخط دقيق بديع وحجم كبير 104 صفحات، مخرومة من أولها حتى الفصل الرابع، ونسخة في الواتكانية مخرومة قليلاً نقلت في أواخر القرن التاسع أو بعده بقليل.

4ـ تفسير العهد الجديد أو الإنجيل وحده. ذكره ابن الصليبي في مقدمة تفسير إنجيل متى. ولم يصل إلينا شيء منه.

5ـ رسالة حسنة بليغة في سياسة الكنيسة وإقرار السلام فيها، 39 صفحة. لها نسخة مغفلة في آخر كتاب اللاهوت للمترجم (في مصحف الموصل) ولا شك أنها مما دبّجته يراعة هذا الحبر الغزير المغترف البليغ الإنشاء المتين الحجة، وضعها في أيام البطريرك يوحنا الرابع حوالي سنة 850 وعندنا منها نسخة ثانية تسع عشرة صفحة خطت عام 1603 والأظهر أنه جاوب بها حبراً جليلاً أراه باسيليوس الثاني مفريان المشرق (848 ـ 858).

6ـ ليتورجية ذكرها شولتنجم والسمعاني ولم نقف عليها.

المقدمة([1])

1ـ بعون الله تعالى نبدأ بكتابة وتوضيح نشوء التقدمة أو القربان. فنقول:

إن ذلك معروف من الناموس الطبيعي حينما قدّم نوح من الطيور، وتنسّم الله رائحة البخور وقال: لا أعود وأضرب الأرض ولكن تسير كترتيبها ونظامها.([2]) وكذلك ابراهيم من بعده الذي قدّم ثلاثة ثيران وماعزاً ويماماً وفرخ حمام، حينذاك أظهر الله لإبراهيم […] ([3]) أنه عتيدٌ  […] الإلهيات. وكذلك وُجِد مليكصادق كاهن الله العلي الذي كانت ذبيحته لله خبزاً وخمراً، وكان كاهناً للمؤمنين من الأمميّين إذ أنه كان كنعانياً وليس من الشعب الإسرائيلي.

2ـ ومن ثم في الناموس الكتابي الموسوي إذ كانت تقدم الثيران والخراف والتيوس والحملان كإشارة إلى ذبيحة المسيح.

3ـ بعدئذٍ جاء الإله الكلمة بذاته وقدّم نفسه ذبيحة حيّة ومقدّسة لأبيه كي يُبطل بذبيحته جميع الذبائح غير العاقلة كما يشير سليمان الحكيم الإلهي أنه بدم وحيده يُبطِل جميع الذبائح وابنه أيضاً يؤخَذ منه. وكما أن الذبائح السابقة كان عملها ومفاعيلها التطهر من النجاسات، كذلك هو فعل وتأثير ذبيحتنا الإلهية إذ أنها ماحقة جميع الآلام القاسية والمؤلمة، ولم تكن ماحقةً للآلام التي أصابتنا سابقاً فحسب بل التي ستصيبنا أيضاً فتوقفها قبل حدوثها. ومن مفاعيل هذه الذبيحة أيضاً أنها تجعلنا قريبين من الله ومتحدين به، فنستحق بذلك أن نشارك الملائكة القديسين إذ كما أنهم يتناولونه روحياً نتناوله نحن أيضاً ولكن حسياً. ومن مفاعيلها كذلك أن نصبح غير متألمين ولا مائتين والقيامة من بين الأموات كما قام الله من قبل. وكما أرضى المسيح أباه، نرضيه نحن كذلك بتقديمنا لهذه الذبيحة ونرضي أباه وروحه القدوس وأجناد الملائكة الناقمة علينا منذ القِدَم. وتصير هذه الذبيحة سلاحاً لنا وترساً ضد القوات المعادية لنا والآلام وسلطانها جميعاً.

4ـ وقد مُنِح القربان من المسيح بالذات، وكان ذلك يوم العنصرة كما يخبرنا القديس باسيليوس والقديس أبيفانيوس، أنه في اليوم الثالث لحلول الروح القدس على التلاميذ، قام الرسل القديسون بتقديس الميرون في العلية التي فيها حلّ الروح القدس وكانت مُلكاً للعازر أحد المبشرين السبعين. فالقربان منح إذن في اليوم الثالث للعنصرة من الرب يسوع المسيح. ومُنِح أولاً ليعقوب ابن يوسف المدعو أخاً للرب نظراً لتطابق الاسم. وذلك كما يقول القديس إياونيس القسطنطيني أن الرب يسوع هو الذي منح هذا التعليم ليعقوب شفاهاً ويعقوب منحه ليوحنا الإنجيلي. وفي اليوم الرابع لحلول الروح القدس على التلاميذ قدّم يوحنا الذبيحة وشارك العذراء والدة الإله بالقداس (ناولها) بعد أن كان قد عمّدها في ذلك اليوم، فأقام الذبيحة كي يناولها لأنه كان أطهر الرسل القديسين. وقدَّم يوحنا الذبيحة الإلهية في العليّة لأن الميرون كان فيها وفيها أيضاً تمّت معمودية الرسل والعذراء مريم ومن ثم مريم أخت لعازر.

5ـ وهكذا اجتمع الرسل القديسون جميعاً في العليّة ولم يبتعدوا إلى أي مكان آخر، بل كانوا يتحركون بأمر الروح القدس وبإلهامه يتحدثون بالكلام الإلهي المتسامي عن أمور الدنيا بلغات جميع الأجناس والشعوب، وهكذا كان  حتى تمّ خمسون يوماً لحلول الروح القدس، وكانوا يصومون حينذاك من المساء إلى المساء وكان أحدهم يقدم الذبيحة من وقت لآخر.

6ـ وحينما أتمّوا صومهم، قطع الرسل القديسون عهداً أن يقصّوا شعر بعضهم البعض ويغسلوا جميعهم أرجل  بعضٍ. ووضعوا ألا يتناولوا شيئاً سوى هذه الأطعمة الأربعة: الخبز والملح والخضار والزيتون.  فكانوا يأكلون الخبز لأنه قُدِّس وتبارك من الرب يسوع الإله الكلمة حينما أخذه بيديه([4])، وكذلك ليتذكروا الرب في كل حين كان يأكل معهم. أما الملح لأن الروح القدس […] الغافر […] والخضار […] منذ القِدَم […] كنّا […] بهذا للأمم الذين كانوا محرومين منذ القِدَم وأصبحوا الآن ضد قوى الشر فمدة وعظهم كانت ستنتهي يصبحون بعدها أقوياء وبعيدين عن الضعف. والزيتون: لأن زيته ليس متوضّعاً في الثمرة فحسب بل وحتى في جذعه أيضاً، وهكذا كان لاهوت الإله الكلمة متوضِّعاً في ناسوته فلم يكن أي موضع من جسده يخلو من لاهوته. وكذلك كان الروح القدس في الرسل القديسين والمؤمنين القديسين الذين كانوا يقتبلونه في المعمودية. وكذلك حدّدوا هذه الأطعمة الأربعة إذ كان يوحَى إليهم بأنهم سيبشرون جهات المسكونة الأربع وهي رمز إلى جهات الأرض الأربع.

7ـ وبعد أن وضع الرسل هذا الأمر تفرّقوا في الأرض بأسرها، كل واحد إلى المكان الذي ألهمه إليه الروح القدس. وكانوا يلتقي بعضهم ببعض دائماً ويشجّع واحدهم الآخر كيلا يفتر ويضعف في الشدائد والتجارب إذ أنه عليهم أن يشابهوا سيّدهم. فيتقووا ويتشددوا في جميع الضيقات والعذابات وكانوا يؤمنون بأنه في اليوم الذي يتعذبون فيه تكون هذه الآلام والأوجاع من الله، ولهذا كانوا يفرحون بجميع التجارب والضيقات([5]) وأنهوا حياتهم وجهادهم بشيخوخة صالحة.

ومن الرسل مَنْ بشّر حتى سُبيَت أورشليم من الرومان فالمعروف عن يوحنا الإنجيلي أنه بشر لمدة خمسين سنة. أما باقي الرسل فلم يدركوا خراب أورشليم([6]) فقد تكلّلوا جميعهم قبل السبي، فيوحنا بشر عشر سنوات بعد غزو أورشليم من قِبل الرومان. وأنهى حياته في مدينة إفسس. وهكذا رحل جميع الرسل الإلهيين إلى ربهم وهم يحملون في جعبتهم جهادات مملوءة فخراً وانتصارات، وهم الآن يتضرعون لأجل الكنيسة المقدسة وأبنائها. ونحن نتضرّع إليهم كي يستمروا على هذا العمل مدى أيام هذا العالم، فيكون فرح الكنيسة عظيماً بأولادها حينما يكونون منزّهين عن الموت والألم ويرثون بالتالي الملكوت الأبدي، هذا الملكوت الذي هو متسام عن كل تصوّر بشري وسيكون من نصيب أبناء الكنيسة المقدسة لا سيما للذين يتعبون في حقلها ويتألمون بفرح لأجلها.

انتهــت المقدمة الســابقة للقداس

الفصــل الأوّل

الترتيب الواجب عمله قبل القداس

1ـ في كيفية وضع الكاهن والشماس عند دخولهم المذبح المقدس، وكيفية ارتداء ثيابهم، وكيفية دخولهم، وترتيب المذبح، ووضع الطبليث([7]) وتغطيته، وغطاء المائدة، وغطاءا الكأس والصينية([8]) وكيفية وضعها والعدد الواجب وضعه، ووضعية الكاهن أمام المذبح، وخدمة الشماس، وترتيب المذبح ليكون كاملاً بدون نقص، والكأس والصينية وغطاءهما، والفرش الموضوع على المذبح، وفي ألبسة الكهنوت والهرارات، وحضور كنائس الأمم وحضور جميع المستويات من الرجال والنساء والأطفال وكيفية قيامهم في الصلاة، فلا يسببون أثناء حضورهم فوضى تثير غضب الله كما غضب على عوزيّا وضربه بالبرص فحُرِم من المُلك.([9]) فمن الضروري إذن معرفة كيفية خلاصنا من العقاب الموضوع على غير المستقيمين.

2ـ متى أراد الكاهن والشماس أن يدخلا المذبح لا سيما وقت القداس أي ساعة تقديم الذبيحة عليهما أولاً أن يكونا أنقياء من نجاسة الليل حسياً وروحياً. حسياً إذ أن الشياطين قد تحتال عليهما في أحلام الليل فيخطأن حسياً، وعلى الذين يريدون دخول المذبح المقدس أن يكونوا في يقظة تامة ويتضرّعون إلى الله أن يحفظهم من جميع خطايا النفس والجسد. أما الروحية كالأفكار الباطلة التي تنجِّس النفس بشكل مستمر. كما كان موسى النبي الإلهي إله فرعون، وذلك أن لله سلطاناً على كل الأمور وله أن يحيي من يشاء ويُميته، هكذا كان موسى متسلّطاً على فرعون ليعذّبه ويميته، موسى هذا الذي ذكرناه منذ أن تكلّم الله معه لم يقرب المعاشرة الجسدية أو الروحية بل حفظ نفسه بحرص بعيداً عن زوجته صفورة في الوقت الذي كانت تلحّ عليه ليعاشرها، وكان يتعذب بسبب ذلك حتى أراد الله أن يقتل موسى([10]) وذلك لعدة أسباب: أولاً: لأنه أبطل الختان، ثانياً: تخويفاً لامرأته صفورة التي ألحّت على زوجها موسى ليجامعها في تلك الليلة. ولما علمت صفورة بالأمر كفّت عن ذلك وقطعت عهداً حقيقياً ألاّ تفكر بهذا الأمر إطلاقاً إذ علمت أن الله كان يكلّم موسى يومياً. وكان موسى لا يعطي عينيه نوماً خشية أن يُغلَب من الشرير إذا ما أخذه النوم فيجلب بذلك عقاباً على نفسه وعلى شعبه. ومكث موسى على هذه الحالة أربعين سنة وحتى نهاية حياته.

3ـ فهكذا يجب على الكهنة والشمامسة متى دخلوا المذبح المقدس أن يغسلوا رؤوسهم وأيديهم وأرجلهم في الأحواض العامة الموضوعة لجميع المؤمنين القديسين عند مدخل الكنيسة. فرأسهم أي العقل يغسل بمياه عامة هي مياه المعمودية العامة لكل من يريد التقرّب منها وذلك حينما يحفظون الروح القدس فلا يفسدون ويميتون أنفسهم بأنفسهم. وبهذا يحفظون العقل من غبار الجسد أي الأوساخ والخطايا. وأرجلهم التي هي إشارة لحياة النفس التي تعرف بثلاثة أمور: الغضب والشهوة والكلام. فالغضب يجب أن يكون ضد جميع الأمور الفاسدة والخطايا. وأن تكون الشهوة اشتهاء الفضائل والخيرات في كل وقت وحين. ويكون الكلام مختصاً بالأمور الإلهية وأن لا يحيد عمّا هو واجب ووظيفة.

4ـ وان يكون قلبهم بعيداً عن جميع الأفكار الدنيئة. ويكون دخولهم إلى مذبح الرب كما ذكرنا. ولكن إن دخلوا ببساطة واعتيادية وَجَب عليهم أن يعلموا أن دخولهم هو لدينونة نفسهم وجسدهم إذ لم يفرّقوا بيت الرب عن البيوت الأخرى البسيطة والاعتيادية وبذلك يجلبون الخسارة على المؤمنين أيضاً، ومن هنا يتم فيهم قول الرسول الإلهي بولس: إن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده اللّه([11]). فهياكل الله هي نفوس المؤمنين. ومتى دخل الكهنة والشمامسة الهيكل بغير لياقة وحشمة يجلبون دينونة على أبناء الكنيسة المقدسة، ومتى يفعلون ذلك يفسدهم الله إذ لم يشفقوا على اخوتهم فيجلبون عليهم العقاب وذلك لعدم طهارتهم، ويتم فيهم قول الرب: رجسة الخراب القائمة في الموضع المقدس، هذه الرجسة هي الكهنة والشمامسة متى دخلوا مذبح الرب وهم نجسون.

5ـ وكذلك ثيابهم تكون موضوعة على باب المذبح أو في بيت الشمامسة الذي هو بيت للكهنة والشعب وعندئذ يخلعون ثيابهم ويلبسون ثياب الخدمة الكنسية، وبهذا يظهرون تخلّيهم الكامل عن الدنيويات وابتعادهم عن الأرضيات والأمور الجسدية كلياً وإلى خلع الإنسان العتيق المركّب من جميع الأمور غير الناموسية.

6ـ وبارتدائهم ملابس المذبح فإنهم يشيرون إلى اللباس الطاهر والمقدس والممجّد الذي هو لباس الملائكة القديسين وهو لباس عدم الألم وعدم الموت واللا محدودية. فالمذبح الإلهي هو مسكن الله وكما أن الله غير متألّم هكذا كذلك يجب أن يكون الذين يريدون خدمته، إذ أنه لا يمكن لذي الجسم أن يخدم غير المجسّم الذي هو الله، فحينما نخدم الله علينا أن نتقدم إليه بأمور غير ماديّة أي قلوبنا وأرواحنا.

7ـ وكذلك عندما يلبس الكهنة والشمامسة ثيابهم فليعلموا هذه وليفهموا بأنهم يلبسون جسد الله الكلمة. فكما أن الله الكلمة أتّخذ جسدنا ومن ثم أدخله إلى الله الآب بصعوده، هكذا فإن الكهنة والشمامسة حينما يلبسون ثيابهم فإنهم كمن يدخلون جسد الكلمة إلى الله الآب ثانيةً. فكم بالأحرى يجب عليهم القيام بخوف وبرعدة، وعندما يدخل الكهنة والشمامسة إلى المذبح الإلهي غير طاهرين فإنهم يحملون علامة الألم الذين لأجل […] لم […] خرجوا من قدس الأقداس الذي هو غطاء وستار إلهي.

8ـ ويجب على الكاهن أولاً حينما يدخل قدس الأقداس أن تكون ثيابه مبيضّة أي أن تكون حواسه طاهرة من كل شيء نجس يضر ويؤلم، وبهذا تستنير جميع الحواس.

9ـ ويكون دائباً على الصوم فيصبح عديم الإحساس والشعور بما يؤلم أي بالدنيويات، وألا يجامع امرأة  وذلك كي يكون متحرراً من جميع الآلام القاسية والمزعجة. ومتى أتم هذه كلّها يدخل قدس الأقداس أي الجبل الروحي، ويهتدي بهذا إلى الجبال التي هي أجناد السماء المرتفعة فوق جميع الخلائق.

10ـ وعلى الشماس أن يعمل على تطهير الناس كما وضعت رتبته. فيكون عمله كاسمه مطهّراً وسلطانه يشمل الموعوظين والتائبين والواقعين تحت الآلام والعذابات والمأسورين بنير الشياطين.

11ـ بالنسبة للموعوظين عليه أن يواظب على التأنيب والتوبيخ بدون انقطاع. فمتى أتم حفظ جميع هذه ينقي جسده من جميع الآلام المهلكة، ليس نفسه فحسب بل الذين يستنيرون منه أيضاً.

12ـ وبالنسبة للتائبين: تكون بدعوة شفيع ما ليكون شفيعه في كل حين. أي بإنسانية الله الكلمة التي تشفع بها أولاً […] وأصبح […] يؤلمه […] الشيطان. والتائبين […] أي أن لا يكون في بدايته […] فقط بل في جميع أيام حياته ليكون كاملاً في تطهّره.

13ـ وعلى الواقعين تحت الآلام: أي يجب عليه حينما تشتد آلامه الجسدية أن يداوم على الأصوام والصلوات ليلاً ونهاراً. ويلقي نفسه أمام مذبح الرب وحينما يتقدم للآنية المقدسة يطلب العون والمساعدة من الذي يقدّم فيها.

14ـ وعلى المأسور بنير الشياطين: متى استولى عليه الشياطين بأي أمر كان سواء غضب أو حسد أو شهوة أو فتنة أو حلم ليلي نجس من واجبه أن يحارب جميعها، ومتى قاومها بصدق وأمانة تكون القوة الإلهية عوناً له في ذلك، فيكون باستطاعته أن يطهر جميع الأسقام. فيحارب الحسد بواسطة […] عدم تمالك […] جسده أو الروح فإن الذي يقتني غنىَ لا يحسد الذي يطلب الكل، وكذلك بأمور الروح، فمتى اعتبر نفسه أنه لا يعرف شيئاً أو لم يعمل شيئاً صالحاً لا يحق له أن يقاوم ذوي المعرفة أو من لهم أعمال صالحة. ومتى حاربته الشهوة في الأصوام والجهادات وهو مفترش الأرض […] له الحق في اختصارها.

15ـ […] والموعوظين أي […] الذين هم […] يتجاوز العمل الناقص إلى العمل الأكمل منه كقول داود: يذهبون من قوة إلى قوة([12])، أي من فضيلة إلى فضيلة أرفع منها.

16ـ وعلى الكاهن أن يكون نوراً في كل شيء ولا يُرى فيه شيء من الظلام بل يكون مثالاً مزيناً بألوان مختلفة وبهيّة فهكذا يسلك هو كذلك في أنواع الفضيلة المشابهة لأنواع قوّات السماء ولخاصيّاتهم لا سيما التي نعترف بها.

17ـ وليكن حاملاً خاصية السرافيم الذين يؤلّهون الثالوث الأقدس أولاً. وكما أن السرافيم يكونون ملتهبين وناريين كذلك يكون هو أيضاً بالنار الإلهية التي قال الرب لتلاميذه القديسين عنها: جئتُ لألقي ناراً على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت.([13]) فيدعو لاهوته ناراً التي كانت حقاً غافرة لخطيئة الجنس البشري بأسره وهي قد استطاعت أن تزيل الأشواك والحسك التي نبتت من الأرض والتي تشير إلى آلام النفس والجسد العتيدة والتي على رأسها أنواع المعصية والآثام، وكذلك بضوء النار، وهذا الضوء هو العطايا الممنوحة من الله لجميع الأنقياء كما تتراءى الأجناد السماوية كذلك وبها تبعد جميع تشعّبات الإنسان العتيق أي تشعّبات أعضاء اللحم التي يشير عنها الرسول الإلهي بولس: الزنى والفجور والآخر التي يشير إليها.

18ـ ويتصف كذلك بخاصية الكاروبيم أي اتساع الحكمة والمعرفة: فيكون حكيماً ولا يتهرّب مما هو مطلوب وتكون له معرفة لما هو عليه سواء بطبيعته أو برتبته. كطبيعته أي أنه من التراب ورتبته بأنه ملاك الرب وذلك يكون رمزياً إذ له أن يكشف الأسرار.

19ـ وأن يكون متشبهاً بالعروش: أي أن يكون مسكناً للروح القدس لا سيما للآب والروح القدس. وكذلك بأن يبعد عنه الأمور الحياتية الاعتيادية أي ما هو مختص بالأرضيات ومن ليس لهم ناموس.

20ـ ويكون كذلك كالسادات: وذلك بأن يبعد عنه كل عبودية أي خدمة البعيدين عن الله  فهذه الأعمال تُعَد باطلة حينما يكون لنا إيمان وثقة بأننا نعمل أعمال الله.

21ـ ويكون أيضاً متمثلاً بالسلاطين: أي متسلطاً على مستودع الأسرار الإلهية ويكون رئيساً لمن هم عبيد كما كان يعقوب رئيساً لعيسو الذي وُجِد عبداً.

22ـ ويكون كذلك كالقوّات: وذلك بأن يداوم على الثبات في القوة الإلهية التي منحها اللّه لرسله القديسين بأن يدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوة العدو.

23ـ وأيضاً يكون كالرئاسات: إذ أن الصورة الإلهية هي رأس لجميع الخلائق، كذلك يكون الكاهن رأساً لكل الهيئات السفلية أي الملائكة. وكما أن الرأس موضوع في القسم الأعلى من الجسم، هكذا يكون الكاهن في رأس  جميع أنواع الفضائل بالنسبة لجميع أبناء الكنيسة المقدسة ويكون مثالاً للمؤمنين حينما يتطلّعون إليه فيكون سبب فائدة كبيرة لهم.

24ـ وكذلك كرؤساء الملائكة: أي أن يكون متسلطاً على الرموز الممنوحة من الله للمؤمنين القديسين، فيكون متبحراً بالإشارات والرموز أكثر من الشماس.

25ـ ويكون أيضاً كالملائكة المتألّهين: إذ كما أن الملائكة قد وجدوا ليعتنوا بالبشر أكثر من الرتب السماوية الأخرى، فيجب على الكاهن أن يعتني بالمؤمنين الذين يقوم برعايتهم أكثر من جميع المستويات سواء كانوا من جنسه أو قبيلته أو أقربائه.

26ـ وحينما يقوم بجميع هذه الأمور تكون له حينذاك الثقة والجرأة عند وقوفه أمام الله وتقديمه تضرعات لأجل المؤمنين […] متى دخلوا إلى المذبح […] المسيحي […] أولاً أن يقدموا أمام الله تضرعات وطلبات بحزن وتنهدات، ويذكروا خطاياهم وتجاوزاتهم أمامه تعالى بأنهم كبشر أخطأوا وهم غير مستحقين أن يسيروا في الساحات المقدسة بل ورغم عدم استحقاقهم يتقدمون إلى الأسرار الإلهية وذلك لأجل أبناء الكنيسة المقدسة. ومتى فعلوا ذلك يطلبون المغفرة من اخوتهم وأقربائهم سواء كانوا أرفع أو أقل منهم شأناً، فيرضى الروح القدس حينما نرضي اخوتنا بروح السكينة والتواضع، ومتى رأى الملائكة القديسون أيضاً الكهنة والشمامسة يفعلون هذا يمجدون الثالوث الأقدس.

27ـ ويُعرَف الشعب كذلك بطرق مختلفة، حينما يعرف مستوى كل واحد منهم ويعرف أن لهم فائدة مضاعفة. فيستنير منهم كل […] فيكونون […] بواسطة […].

28ـ وكذلك الشبّان حينما يبتعدون عن كل ما يسيء للجسد […] فيعملون بقوة روحية.

29ـ والأطفال أيضاً حين يبعدون عنهم […] الطفولة وأعمالها فيتم فيهم القول الإلهي: كنتُ طفلاً مستنيراً واتخذتُ نفساً صالحة.

30ـ ويتدثّر البتولون بالعفة والطهارة وأنواع الفضائل كافة.

31ـ وعلى الآباء أن يربوا أولادهم على النظام والترتيب المفروض عليهم ليثبتوا في الكنيسة، ويكون ذلك حينما يثبتون نظرهم روحياً بمن أصبح صبياً أي الرب يسوع المسيح ويأسرونهم بالنير الإلهي منذ صغرهم وطفولتهم.

32ـ ويكون اقتداء النساء المتزوّجات بالنساء القديسات اللواتي يُكرَز بفضلهن في جميع العصور كسارة ورفقة اللواتي تركن أرضهن وجنسهن وتبعن رجالهن، اللواتي لأجل طهارتهن عظّم الله شأن أولادهن من بعدهن وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين أعطاهم الله مُلك الأمم وذلك احتراماً وتوقيراً لآبائهم.

33ـ وكذلك تكون العذارى في الكنائس كمريم ابنة يوياقيم التي ولدت الله، إذ كانت قائمة في هيكل الله ومثابرة على جميع أعمال الفضيلة فولد المسيح منها، ولا يكون ذلك أمام الكهنة فحسب بل أمام الله وملائكته أيضاً، لأنه بأعمال كهذه نزل الله وحلّ فيها. فكذلك البتولات حينما يتحلّين بالفضائل السّامية ينزل وحيد الآب أي الله الكلمة ويحلّ بهن.

34ـ وبعدما ذكرنا جميع الرتب المختلفة في الكنيسة المقدسة وكيفية وجوب القيام في الكنيسة نأتي الآن إلى أسرار الكنيسة فنكشف ونفسّر كل واحدة منها قدر المستطاع وهذا كله لأجل ترتيبها، كي تتوضّح الأسرار الكامنة في الأقداس كما منحنا الروح القدس أن نفهم ونُفهِم جميع محبي العلم والمعرفة.

الفصــل الثاني

[1] في تفسير القداس وترتيبه كاملاً ونظام المذبح وأشكاله جميعاً، فرشه وأغطيته، وأنواعه الخفيّة والظاهرة، وثياب الكهنة والشمامسة، وكذلك الهيكل وترتيبه وجوقات المرتلين والمسبحين، وكل ما يجب أن يظهر للعيان في الكنيسة المقدسة، بحسب بحوث الملافنة القديسين والقويمي الإيمان، الذين أصبحوا أعمدة ومنارات للكنيسة المقدسة وكانت نجاتها من الوحوش المفسدين على أيديهم وأسّسوها على صخرة الإيمان الثابتة، ربنا يسوع المسيح، فتشرّفوا وتكلّلوا به وانتقلوا إليه وهم يتنعّمون معه جزاءً صالحاً للحروب والمعارك التي أقاموها لأجل الكنيسة المقدسة.

[2] لماذا وضع في الكنيسة أن يكون المذبح والقسطروم([14]) الذي يتوسّط المذبح والهيكل وأيضاً أن يكون الهيكل؟. ذلك أن موسى كان قد أقام مسكن (شعب) إسرائيل بثلاثة أقسام: قدس الأقداس وهو المذبح. وبيت الخدّام وهو الهيكل. والساحة التي كانت تحيط بالهيكل وقدس الأقداس، وكان الشعب يقف في الساحة، والكهنة والشمامسة في بيت الخدّام أي الهيكل. أما قدس الأقداس وهو المذبح، فكان هرون وحده يقف فيه للخدمة. وعدا هرون، كان موسى أيضاً يدخل إليه وحده ليوحى إليه من الرب بشأن الشعب وإدارته.

[3] إن قدس الأقداس يشير إلى كنيسة السرافيم والكاروبيم والعروش، والقسطروم إلى كنيسة السادات والسلاطين والأجناد، والهيكل إلى كنيسة الرئاسات ورؤساء الملائكة والملائكة، أما الساحة فتشير إلى الكنيسة المقدسة. وإذ إن كل ما في الناموس الموسوي هو موجود في الكنيسة المقدسة فقد وُضِع أن تُرتَّب الكنيسة وتنظَّم في ثلاثة أقسام. وكذلك لأن في الكنيسة ثلاث مواهب روحية: الكمال والاستنارة والتطهير. فالكمال هو كقولنا أن الخليقة (البشريّة) كاملة أي أنها كاملة بأن خُلقَت على صورة الله وفازت بمواهب الروح القدس. والاستنارة هي الانفصال عن الجهل إذ أنه تمّ بواسطة المعرفة الإلهية. أما التطهير فهو أن (البشرية) تطهّرت من سائر خطاياها وأوساخها وذنوبها بوساطة المعمودية المقدسة. وأيضاً لأن الإنسان عندما ارتكب الخطية فعل ذلك ثلاثياً أي بنفسه وبجسده وبعقله، ولمّا جاء (تجسّد) اللّه افتداه ثلاثياً: بالعقل لأن الصورة (أي الإنسان الذي خلق على صورة الله) تبررّت، والنفس أيضاً تألمت وكَرُبَتْ لتصير بذلك وسيطة بين العقل والجسد، لأنه يستحيل أن تكون وحدة بين العقل والجسد بدون النفس، أما الجسد فقد تحمّل الضيقات لئلاّ يُرى اللاّهوت، فيضلّ إبليسُ بذلك ويتقدّم للحرب ضد اللّه فيؤسَر ويخلص الجنس البشري من قبضته. ولهذا وُضع أن تكون الكنيسة بثلاثة أقسام لأن الكنيسة نفسها وجدت من أجل الإنسان، ولأن خلاص الإنسان كان ثلاثياً، لذا يجب أن تكون الكنيسة بثلاثة أقسام.

[4] لماذا يوجد فَصْلٌ بين قدس الأقداس والقسطروم والهيكل والساحة المحيطة؟

ذلك لأن مخادع الكاملين مفصولة عن مخادع الأبرار، ومخادع الأبرار مفصولة عن مخادع الصديقين الذين هم أيضاً مفصولة مخادعهم عن مخادع التائبين، وهذا لأن الكاملين هم الذين لم يخطئوا ولم يتدنّسوا بالإثم مدى أيام حياتهم، أما الأبرار فهم الذين أعطوا الجسد حاجته أي أمّنوا له أسباب استمراره بأي نوع كان. والصديقون هم من الذين تبرّروا بأعمالهم الفاضلة وأيضاً من الذين تقدّسوا وتبرّروا بدمائهم. أم التائبون فهم الذين وضعت عليهم مشقات وأتعاب لأجل ما أصابهم من قبلُ بسبب الضعف (البشري).

[5] لماذا وضع أن تقبل الكنيسة كل من يصل إليها، وأن تقوم بجمع المشتتين أيضاً؟

ذلك لأنّها تتشبه باللّه. فكما أن اللّه يدعو الجميع إليه برحمته، وهذا معلوم من تمهّله على المارقين والخُطاة حتى نهاية العالم فلا يهلكهم بل يتوق إلى أن يعودوا إليه ويتوبوا، أقصد بذلك الأبرار والأشرار. وكما أن اللّه عتيد أن يجمع الكل إليه، الأبرار والأشرار، الأبرار إلى ملكوته والأشرار إلى جهنم حيث نهاية جميعهم، هكذا تتشبّه الكنيسة المقدسة باللّه فتجمع إليها جميع المشتتين.

[6] لماذا وضع باب للهيكل وآخر للمذبح، ولم يوضَع باب للقسطروم؟ ولماذا وُضِع أن يدخل من باب الهيكل جميعُ المؤمنين، أما باب المذبح فلا يدخل منه أحد من الناس سوى الكهنة وحدهم؟

إن باب الهيكل وضع للجميع أي لجميع المؤمنين، وبهذا بات من المعلوم المؤكد أن باب الهيكل يُشير إلى رحمة اللّه وخيره التي تقبل كلّ من يدنو إليها في هذا العالم، فلا تدينه على الأعمال التي يعملها بل يتمهّل الله في هذا العالم على جميع الفئات، سواء أكانوا الصدِّيقين الذين يُعذَّبون في هذا العالم من الأعداء، أم الطغاة الذين يكمّلون فيهم إرادتهم بكل أفعال الشر.

أما باب المذبح فقد وُضِع لأنه ليس لكل إنسان الحق في دخوله، وهو يشير إلى العالم العتيد ذاك أن المنازل السماوية التي لا ألم فيها ولا موت، لا تمنح سوى للذين كانوا مسيحيين بالفعل وليس بالاسم فقط، وللذين قضوا حياتهم بالإيمان القويم والبطولات حتى استحقوا أن يلمسوا أطراف المذبح الإلهي.

ولا يوضع باب للقسطروم إشارة إلى مرتبة الأطفال، التي لا ترقى إلى مرتبة الأبرار ولا تنحدر إلى درك الأثمة لأنهم لم يتعبوا في كَرْم الكنيسة الروحي، ولا أخطؤوا ليُحسبوا أشراراً لذا فإنهم يرثون ملكوت اللّه بالنعمة وحيث أن أبواب السماء لا توصَد لهذا جُعِل القسطروم بدون باب.

[7] في أن المائدة الموضوعة في المذبح مصنوعة من الخشب في الوقت الذي كانت فيه لدى الشعب اليهودي خشبية من الداخل ومغشّاة من الداخل والخارج بالذهب.

لدى الإسرائيليين كان الذهب والخشب يرمزان إلى اتحاد اللاهوت بالناسوت. وتابوت العهد المغشّى بالذهب من الخارج والداخل كان يشير إلى القديسة مريم والدة الإله. فكونه من الخارج مذهّباً إشارة إلى نزاهة العذراء التي كانت بعيدة عن نجاسة النساء. أما كونه مذهّباً من الداخل فهو رمز للروح القدس الذي كان عتيداً أن يحلّ في أحشائها. وكذلك الذهب الخارجي كان إشارةً إلى لاهوت اللّه الكلمة، الذي عند ظهوره (تجسده) لم ينفصل عنه اللاهوت، أما الذهب الداخلي: فهو إشارة إلى أنه عند نزوله إلى مثوى الأموات لم ينفصل لاهوته عنه كما يقول المارق نسطور أنه فارقه. والخشب المذهّب يشير إلى أن الخشب الذي يرمز إلى جسد آدم الذي أخطأ قد تغطّى بالذهب الذي يرمز بدوره إلى لاهوت آدم كلمة الآب الوحيد لأن اللّه قَبِل على ذاته أن يتألّم عوضاً عنه ويموت لأجله.

أما في الكنيسة المقدّسة فهو مصنوع من الخشب وحده وهو يشير سريّاً إلى أنّه كما يفنى الخشب بواسطة النار هكذا جسد اللّه الكلمة الذي يُقدَّم عليه سيزيل كل خطية وتجاوز يرتكبهما مؤمنو الكنيسة الحقيقيون. وكذلك وكما أن للخشب أن يورق وينمو، وأن يُسقى من الأعلى والأسفل، هكذا سيقيم اللّه من بين الأموات إلى حياة النعيم جميع أولئك الذين يتناولون جسده ودمه للمغفرة. أما سقاية الخشب من الأعلى والأسفل فذلك تفسيره أنّه مثلما الخشب حينما يُقطَع يحرم من السقاية من الأعلى والأسفل، كذلك الإنسان قديماً عندما أخطأ حُرِم من جميع النواحي، أي من مواهب الملائكة الذين هم فوق، ومن الأسفل أيضاً فقد حرم من أن تنبت له الأرض ثماراً وأن يأكل الخبز دون تعب وعرق. كما حرم من تسلّطه على الحيوانات وطاعتهم له. وحينما جاء الله وارتضى على ذاته كل ما كان الإنسان قد أذنب به، أعاد الخشبة المقطوعة إلى منبتها أي إلى الفردوس الذي كانت فيه سابقاً، وسقاها من الأسفل ومن الأعلى. أما من الأسفل فبمياه المعمودية التي نتربى فيها فنصعد إلى السماء ونثمر ثماراً إلهية هي الأخلاق الفاضلة التي يحبّها اللّه. وأما من الأعلى فبخبز الملائكة القدّيسين الذي يأكله البشر على حد تعبير داود: إن اللّه الكلمة الذي يتناوله الملائكة روحياً هو هو ذاته الذي نتناوله حسياً([15]). فحيث أن تناولنا حسّي وروحي لذا صارت السقاية ثنائية من فوق ومن أسفل.

[8] إلامَ تشير المائدة والطبليث والآنيـة الموضوعة عليها؟

أولاً يجب أن يوضع على المائدة غطاء خالٍ من الصوف، فيكون إما من القطن (الكتان) أو حريراً طبيعياً من نسج دودة القز. ثم يوضع الطبليث على هذا الغطاء ويوضع منديل على الطبليث فلا يظهر أي جزء منها. وتوضع من ثم على هذا المنديل الأواني التي يوضع فيها الجسد الإلهي والدم الغافر، وبعدئذ يوضع عليها جميعاً غطاء يسمّى الأنافورا، وكذلك توضع أغطية ثمانية على المذبح، اثنان في كل جهة، وتكون هذه الأغطية على أطراف المائدة الإلهية، ذلك أن المائدة ترمز سرياً إلى جسد آدم المجبول بيدَي الله. وتوضع المائدة في وسط المذبح ذلك أن آدم قد وضع في وسط جبل نبو أي أورشليم التي تتوسط العالم، ويجب كذلك أن تكون المائدة في وسط المذبح لأن آدم حينما خُلِق كان متوسطاً فكان كالملائكة نفساً بدون جسد، وكالخلائق المجسّمة إذ كان له جسم، وكذلك أيضاً لأن آدم الثاني كلمة اللّه كان متوسطاً بين الآب والروح القدس.

[9] أما قوله أن المذبح هو رمز للفردوس فلا يعني بذلك الفردوس المحسوس بل الروحي المتسامي عن كل إحساس وشعور.

أما الكهنة والشمامسة (الذين في المذبح) فيشيرون إلى الأجناد السماوية المحيطة بالله. وكذلك الكهنة المجتمعون في المذبح مع الكاهن الذي يقدم الذبيحة يشيرون إلى الملاك الذي ظهر للرب يسوع المسيح ليلة آلامه في البستان([16]) وكان يقوّيه، فالكهنة والشمامسة متى كانوا مجتمعين في المذبح مع الكاهن عند تقديم الذبيحة هم عونٌ له وسند.

[10] في وضع غطاء على المائدة المقدسة وخلوِّه من الصوف:

إن الغطاء الموضوع على المائدة يشير إلى عدم المعرفة التي وُضعَت على آدم لئلا يعرف ويلاحظ الخشبة أي الشجرة التي كانت في وسط الفردوس ذلك أنّ هذه المعرفة ما كانت لتفيده لأنه لم يكن بعد قادراً على الاستفادة منها بسبب طفولته.

أمّا أن يكون الغطاء من القطن (الكتّان) وليس من الصوف: فلأن القطن (الكتّان) على الأغلب لا إمكانية له أن يصطبغ ولا أن يأكله العث وذلك لبرودته وبياضه الذي يشبه بياض الثلج. هكذا كان الإنسان قبل أن يخطئ، ولم يكن من السّهل بحسب خلقته لا أن يصطبغ بالأفكار الشريرة ولا أن يُفسَد من الأهواء الرديئة. وسبب بياض القطن الذي يُشَبّه بالثلج: أن الإنسان كان في السابق بعيداً عن السواد الذي دخل إلينا بسبب الخطيئة، وكان عنصره (جوهره) يتجدّد بمواهب الروح القدس فيرى ويدرك الخفايا بوساطة استنارة عقله. والبرودة التي يمتاز بها القطن تشير إلى الحياة الإلهية التي كان يعيشها الإنسان قبل سقوطه في الخطيّة وكان قادراً بوساطتها أن يبعد عنه لهيب جميع الأهواء التي كانت تهاجمه. أمّا سبب عدم استعمال غطاء من الصوف على المذبح فلأن الإنسان حينما أخطأ أضحى لباسه من القمصان المحتوية على الصوف، وبعد أن أخطأ أصبح شبيهاً بالصوف أي أصبح عرضة لأن يصطبغ بجميع الخطايا وأن تفسده الأهواء الرديئة فينتن كالصوف وذلك بالموت لكيما تُعرف خطيته بانفصال النفس والجسد وتغفر للإنسان من الرب.

وكذلك يكون الفرش الموضوع على المائدة من الحرير لنفس الأسباب إذ لا إمكانية لفساده وله ديمومة زمنية طويلة. وكذلك لأن الحرير مصدره دودة القز فالدودة متى أخرجت الحرير لابدّ أن تموت، وهكذا أيضاً تفعل الدودة الروحية التي هي جسد الله الكلمة الذي أخرج الحرير الذي هو نفوس الآباء القديسين من أعماق الهاوية المظلمة، لأن جميع أنفس القديسين كانت موجودة في الهاوية والظلمة قبل الصليب وحينما جاء اللّه الكلمة الذي دعاه النبي داود([17]) دودة أخرجهم من موضع الهلاك الذي كانوا فيه، وهذا معروف وجلي في كتاب الأناجيل القائل: إنه كثير من أجساد القديسين الراقدين قامت ودخلت أورشليم([18]). وكما أن الدودة متى أخرجت الحرير تموت كذلك اللّه حينما أخرج الساقطين من ظلمتهم مات لكيما بموته يخلص جميع الأموات من الموت المهلك والساعي إلى هلاك النفوس.

وكذلك فهذه الدودة قبل موتها تلقي بزرعها فيُؤخذ ويحفظ في إناء بعناية، ومتى حلّ شهر نيسان وحمي الزرع بغتة يُخرج ديداناً بسبب الحرارة التي تتعرض لها. كذلك الآباء والقديسون والأبرار والصدّيقون، فإنهم قبل انتقالهم من هذا العالم تركوا فيه زرعهم عمليّاً ونظريّاً، عملياً بتقديسهم أبناءهم كما فعل إبراهيم واسحق ويعقوب وسائر أنبياء الله، أما نظرياً فبالاعتراف بالثالوث الأقدس. وهكذا رقدوا على ترابهم حتى مجيء شهر نيسان الذي تألّم فيه اللّه ومات ونزل إليهم في مثوى الأموات وعندما شعروا بحرارته، أي لاهوته انبعثوا بغتة وقاموا يسبحونه في قبورهم، لأن جميع الأموات أحسّوا به، ولكن من كانوا يترجون مجيء الرب في حياتهم نهضوا من رقادهم بنزوله إليهم وسبّحوه على مضاجعهم أي على ترابهم كقول النبي الإلهي داود.([19]) وبذلك تمجّدت هذه الدودة كما يقول شخص (فرصوف) كلمة اللّه على لسان النبي: «دودة أنا لا إنسان»، وكما أن الدودة تظهر من الخشب من دون زرع، كذلك ارتضى الله لذاته أن يكون دودة مبعداً عنه زرع الإنسان، أي أنّه لم يرتضِ اللّه أن يكون مولده من زرع بشر بل بواسطة الروح القدس.

أما وجود الغطاء القطني على المائدة وتحت الطبليث فهو يشير إلى الملاءة([20]) (الغطاء) المربوطة والمدلاة من السماء إلى الأرض وعليها حيوانات غير طاهرة وحشرات نجسة، وهي كذلك تشير إلى بشارة الأناجيل التي أنيطت بالإنجيليين الأربعة ليحملوها إلى جهات العالم الأربع. أمّا كون الطبليث إشارة للصليب فقد كانوا يحملون الصليب علناً ويزيّحونه أمام الأمم والملوك الطغاة وبني إسرائيل وهم غير خجلين بذلك.

[11] أما تغطيتها بمنديل فذلك إشارة للمنديل الذي وضعه موسى على وجهه([21]) إذ كان قد استنار من مواهب الروح القدس، ولم يكن بنو إسرائيل قادرين على التطلّع إليه ذلك أنه لم تكن لهم قداسةُ وطهارةُ موسى ليتمكّنوا من التطلّع إلى وجهه. وهكذا وضع في الكنيسة منديل على الطبليث لكي لا يعاين غير الطاهرين ما تحجبه الطبليث ويدركوه. ويرمز هذا الغطاء أيضاً إلى الغطاء الذي وُضِع على ثقوب يدَي ورجلَي الرب يسوع ومكان  طعنة الحربة في جنبه، لأنه حتى القوات السماوية سُتر وحُجب عنها أن تعاين الآلام التي قبلها اللّه على ذاته.

وكما أنه عندما يرفع الغطاء عن الطبليث لابدّ لها أن تظهر (للناظرين)، كذلك أيضاً الرب يسوع المسيح عتيد أن يزيل الغطاء عن آلامه أي عدم المعرفة بواسطة القيامة من بين الأموات، ويُظهِر جلياً للعالم بأسره ما تحمله من بني إسرائيل. وبنو إسرائيل سيدانون بحسب ذنوبهم ويُعذبون مع الشيطان وجنده، حينئذ يتم قول النبي الإلهي زكريا: «ينظرون إلى من طعنوا»([22])، وتتأكد كلمته في الأناجيل أيضاً: «وتنوح الأرض عشائر عشائر… عشيرة بيت ناثان…» (زك12: 12)، أي أن جميع عشائر إسرائيل سينوحون حينما يرون أن الذي صلبوه وثبّتوه بالمسامير هو اللّه بذاته وحينذاك لا ينتفعون شيئاً.

[12] أما قوله أن يوضع الكأس والصينية على المنديل فوق الطبليث فيقصد بذلك أنهما يشيران إلى الجوهر المتسامي للقوات السماوية التي تقدس اللّه وتمجّده.

وأما قوله أيضاً أن تكون آنية المذبح سريّة ومتنوّعة الأنواع، بعضها مصنوع من الذهب وبعضها الآخر من الفضة والأحجار الكريمة والزجاج والرصاص، فذلك إشارة إلى أن الذين يتناولون جسد الإله لا يتناولونه بسويّة واحدة، فمنهم من يتقدمون إليه كالذهب وهؤلاء هم الكاملون، وآخرون كالفضة مثل الأبرار والصدِّيقين، ومنهم كالزجاج وهؤلاء هم الذين حفظوا الروح القدس كما أخذوه من المعمودية ولم يعرّضوه للنجاسة واعتبروه مقدساً، وآخرون مثل الأحجار الكريمة كالعلماء الباحثين الذين (فسّروا الكلمات الإلهية) وأخرجوها من الظلمة إلى النور أي الفهم فاستناروا هم وأناروا الآخرين. أمّا الرصاص فهو رمز للذين يتناولونه وهم لا يزالون ضعفاء روحياً. ولهذا رُتِّب أن تكون هناك آنية متنوّعة وسرّية في الكنيسة المقدسة.

[13] إن البرشانات([23]) الموضوعة في الصينية تكون مفصولة عن بعضها وتقسم كل واحدة منها إلى أجزاء كثيرة لأن هذه البرشانات تشير إلى الخدور الطوباوية العتيدة أن يهبها الله لمختاريه. أمّا وجود رسوم عليها وفصلها جزءاً جزءاً فيشيران إلى المواهب المتعددة الموجودة في كل خدر من هذه الخدور وذلك لاختلاف رتب الناس القديسين إذ أن الله بعدالة يروم مكافأة جميع مختاريه.

[14] إن الصينية تشير ههنا إلى جنة عدن التي لكثرة نِعمها دُعيَت بـ(عدن) وهي متسامية ومملوءة من جميع أصناف النعم الروحية الشهية.

بينما تشير الكأس هنا إلى عمق الطبيعة الإلهية وعدم محدوديتها. والخمر يشار به إلى التنعّم والفرح وملء الصالحات التي سيهبها الله لجميع فَعَلَته. أمّا الخمر الموضوع في عمق الكأس فيشير إلى ما سيظهره الله قدر المستطاع لمختاريه في العالم الجديد عن خفاياه وما نعجز عن إدراكنا له لأن هذا هو الملكوت المتسامي عن النظر والقلب والسمع على حد قول اللّه لرسله القديسين.

[15] ما هي الأنافورا؟

إن الأنافورا الموضوعة فوق الأسرار تشير إلى الرموز والأمثال الموضوعة منذ القِدم عن التدبير الإلهي الذي كان قد أعدَّه لأجل خلاص البشر. وتشير الأنافورا كذلك إلى كلمة داود النبي الإلهي القائل: «جعل الظلمةَ سترَه حولَه مظلَّتَه»([24])، ويقصد بـ«الظلمة ستره» عدم المعرفة التي جُعلت على الجميع كي لا يعلم أحد من الخلائق كيفيّة تركيب اللّه الكلمة أي لاهوته مع ناسوته، وتشير الأنافورا إلى عدم القوة (في الإدراك) التي وُهبت من اللّه للجميع، وذلك كي لا يستطيعوا فهم كيفية تحوّل الخبز والخمر إلى جسد اللّه ودمه. وتشير أيضاً الأنافورا إلى الظلمة التي وضعت على الشيطان وجنده وجميع البشر، كي لا يعرفوا، إلى أن يحين الصليب، أن ربنا يسوع المسيح هو اللّه بالذات. وتشير كذلك إلى استتار الروح القدس وعدم ظهوره حتى وقت عماد الرب يسوع المسيح وحلوله عليه بهيئة حمامة. وتشير أيضاً إلى الجهل الذي وضع على الجنس البشري لئلاّ يعرف اللّه وبهذا سقط (الجنس البشري) وتعثّر في عبادة الأصنام. كما تشير أيضاً إلى الصخرة التي وضعت على باب القبر.

أما رفع الأنافورا عن الأسرار من ثلاثة أطراف بواسطة ثلاثة كهنة: أي من الكاهن الذي يقدم الذبيحة ثم من الجنوب والشمال، فذلك يعني أن الكاهن الذي يقدّس هو من يقوم بالرفع أولاً إشارة إلى الإله الكلمة الذي رفع بواسطة ذبيحته الرموز والأمثال عن جميع الخلائق، ورفع كذلك الجهل عن جميع البشر ليعرفوه أنه هو اللّه وهو حقّاً ابن الآب أزليّاً وليس شعب إسرائيل الذي كان يُظَن نفسه أنه هو ابن اللّه. وترفع كذلك من الغرب والجنوب والشمال. من الغرب إشارةً إلى مجيء اللّه إلى الغرب أي إلى جميع الذين في الظلمة، وأيضاً من الغرب لأن الظلمة رُفِعَت عن الرومان، ومن الجنوب لأن الحجاب رُفِع عن أبناء حام أي المصريين والهنود كقول النبي الإلهي داود: كوش تسرع بيديها إلى الله([25]). ومن الشمال رمزاً إلى الحجاب الذي رفع عن المجوس الساكنين في الشمال ومن المعروف أن فارس تقع شمال أورشليم، فهؤلاء استناروا بواسطة النجم، وإذ كان جبرائيل قائدهم فقد استناروا بواسطته وعرفوا أن الملك الذي هو اللّه قد وُلد في أورشليم.

أما عدم جواز رفع الأنافورا من الشرق: لأن جهة الشرق هي إشارة للملائكة القديسين الذين لم يوضع عليهم حجاب أي عدم المعرفة. وكما أن الشرق مضيء دائماً، كذلك الأجناد السماوية هم دائماً في النور ولم ينسوه ويكفروا إطلاقاً، بل مع الآب يعترفون بأن الابن مساوٍ لأبيه في السرمدية وكل شيء، خلا الخاصيّة والأقنوم، فخاصيّة الآب المعروفة بعدم الاتلاد هي ليست للابن، والاتلاد هو خاصية الابن وليس خاصية الآب، وأقنوم الآب ليس هو أقنوم الابن مثلما أن عدم الاتلاد ليس خاصية الابن. وكذلك أيضاً أقنوم الابن ليس هو أقنوم الآب مثلما أن خاصية الاتلاد ليست للآب. ويعترف الملائكة القديسون بأن الآب والابن والروح القدس متساوون في كل شيء عدا الخواص والأقانيم فلأجل ما ذكرناه لا يجب أن ترفع الأنافورا من الشرق.

[16] في وجود كهنة يرفعون الأنافورا من الجنوب والشمال مع الكاهن الذي يقدس.

إن الكاهن الذي في الجنوب هو رمز لميخائيل المتسلّط على إسرائيل  وهو الذي رفع الحجاب عن الذين آمنوا من بني إسرائيل كالرسل القديسين والمؤمنين الكثيرين من بني إسرائيل. ووجود كاهن في الشمال هو إشارة إلى جبرائيل المتسلط على الذين في الشمال أي المجوس إذ كان هدىً ورشاداً لهم كي يأتوا إلى اللّه.

وأما رفع الأنافورا ثلاثيّاً فهو إشارة إلى أنه بالناموس الكتابي زالت ظلمة عبادة الأصنام وعُرِف الآب بأنه أب وإله الجميع، وفي ناموس الأناجيل (العهد الجديد) عُرِف الابن على الصليب أنه الابن واللّه، وفي العنصرة عُرِف الروح بأنه منبثق من الآب وهو اللّه.

[17] في وقوف الشماس وراء الكاهن وخلف الشمّاس يقف الشّعب.

إن وقوف الشماس وراء الكاهن يشير إلى الملائكة القديسين القائمين وراء اللّه ولا يجرؤون على فحص وتعقب طبيعته وصنائعه.

أما قول الشماس «لنقف حسناً» فيرمز الشماس ههنا إلى الزمان الذي سقط فيه الشيطان وجميع قوّاته، أما جمهور المؤمنين الذين وراءه فيرمزون إلى الملائكة القديسين الذين لم يضلّوا مع الشيطان وقواته. لأن قوات الملائكة الذين ليسوا برؤساء ظنوا أن جميع الملائكة قد سقطوا، فابتدأ رؤساء الملائكة في كل كنيسة ينادون الذين لم يسقطوا: «فلنقف حسناً» أي ليكن وقوفنا حسناً في حضرة الجميل الذي هو اللّه. والمؤمنون الذي ينصتون يشيرون إلى جميع الملائكة الذي أطاعوا رؤساءهم ولم يسقطوا مع الذين تمرّدوا على الله.

وقوله لنقف برهبة يقصد به أن نهاب الخالق كي لا نبعد عن سكنى التألّه الطوباوي فنكون مثل الأجساد (الجسدانيين) نفكّر بالأمور الوضيعة والآثام.

وأن نقف بحشمة أي أن نقف بحياء أمام خالقنا إذ قد أتى بنا من العدم إلى الوجود، وحينما أتينا قرّبنا إليه بواسطة العقل.

وأن نقف بعفاف يعني أن نرتقي إلى خالقنا بعفيف الأمور أي بالمواهب الإلهية وبذلك نعرف ذاتنا ولا نسقط إلى الأسفل.

ونقف بمحبّة وبالإيمان الحق أي أن يكون وقوفنا بمحبة إذ أن اللّه هو المحبّة، فيكون ثباتنا في الطبيعة الإلهية، وكما أن اللّه لا يفتكر بما في الأسفل بل بما هو سامٍ هكذا نحن أيضاً متى ثبتنا باللّه حينذاك علينا أن نفكّر بما فوق.

وبالإيمان الحق أي أن نؤمن بأن اللّه هو العلي والأقوى من الجميع وهو رب ورأس كل الوجود وهو الحق والحقيقي وكل شيء عداه ضعيف ولا يُقارَن به تعالى.

[18] ولننظر روحياً إلى الأنافورا المقدسة التي أمامنا: أي ألاّ نظن أن سرّها هو كما نراه مادياً. ولكنها تشير أولاً إلى زوال الجهل الروحي بتجسّد الإله الكلمة. والمنديل الذي يُرفع للأعلى يشير إلى جسد آدم (جسد الرب يسوع) الذي رُفع فوق جميع قبائل البشر على الصليب. وأيضاً يشير المنديل (الأنافورا) الذي يرفع ثم يستقبل من الكاهن بقبلة، يشير إلى جسد اللّه الكلمة الذي صعد إلى السماء لعند الآب واستقبلته أجواق الملائكة السماوية بقبلة إشارة إلى اعترافهم به.

أمّا أن يطوى المنديل من قِبل الكهنة وليس من الشمامسة، فلأن الطيّ يشير إلى الاحتجاب والاستتار، وعندما ظهر كلمة اللّه للأجناد السماوية بالجسد الذي أخذه منّا أُخفي عنهم آنئذ وسُتِر بواسطة الكهنة والخدّام الذين هم الكاروبيم والسرافيم. وكذلك حينما رُفِع إلى الآب بواسطة السرافيم لم يظهر لهم بالجسد كما ظهر في السابق، لذلك يُطوى المنديل من قِبل الكهنة وليس من الشمامسة.

[19] في وجوب أن تكون على المذبح ثمانية أغطية للمائدة وفي كل جهة من المائدة توضع اثنتان وهي تشير إلى الكهنوت لأن من كان له هذا الغطاء كان كاهناً، وكذلك ربنا يسوع المسيح ظهر لدينا بأغطية أي صار كاهناً لنا.

الغطاء الأول يشير إلى الحبل به إذ بالحبل به قدّس جميع الذين يُحبل بهم.

والغطاء الثاني يشير إلى ميلاده الذي قدّس به جميع الذين يولدون.

والغطاء الثالث يشير إلى تربيته التي قدّس بها جميع المتربّين.

والغطاء الرابع يشير إلى تصرّفه وتجواله بين الناس وبذلك قدّس جميع الذين يجولون في العالم.

أما الغطاء الخامس فهو إشارة إلى عماده وقد أحضر الروح على جميع الذين كان الروح القدس غاضباً عليهم.

والغطاء السادس هو صومه الذي قدّس به العناصر الأربعة والحواس.

والغطاء السابع هو إشارة لآلامه وموته اللذين أبطل بهما الأهواء الرديئة من جميع المتألمين.

أما الغطاء الثامن فهو قيامته من بين الأموات التي تمّت بواسطتها المصالحة الإلهية بين الآب والبشر.

فحينما نفهم أن المائدة هي جسد آدم وجميع الأعمال التي ذكرناها تمّت لأجله نرى أنه من الواجب إذن أن توضع ثمانية أغطية على المائدة السرية.

[20] أمّا وجود رباط على المذبح وعلى آنيته من الأعلى، فيشير إلى الروح القدس الذي يحل على المعمودية الإلهيّة التي يُربَط بها جميع المؤمنين معه ومع بعضهم، وبالتالي مع الآب وابنه، إذ أنه من غير الممكن أن تكون هناك علاقة مع الآب والابن بدون الروح القدس. ويشير رباط المذبح كذلك إلى أن ارتباطنا مع اللّه يجب أن يكون بالموت وليس بالتنعّم والراحة بل بالآلام والضيقات. كما يشير أيضاً إلى أن الملائكة عند تقديم الإفخارستيا تجتمع إلى الذبيحة الإلهية.

[21] في أن البخور الموضوع على المائدة يشير إلى المفاعيل الإلهية الممنوحة لأبناء الكنيسة المقدسة فيزول بها عنهم دنس الخطية وأهواؤها.

حينما يقدم الأسقف الأفخارستيا يجب أن تكون مبخرة مغشّاة موضوعة على المائدة، وتكون من الفضة ومغشّاة بالذهب، وذلك إشارة إلى كون الأسقف خبيراً بأقوال الأنبياء التي تمثلها الفضة وبكلام الرسل المشار إليه بالذهب، وبواسطة هذه الكلمات استطاع أن يُدخل نفوس المؤمنين إلى سر اللاّهوت الذي يعطّر جميع الذين يقتربون منه. ويشير البخور كذلك إلى أن الأسقف سيحضر رعيته أمام المسيح بدالة في يوم الدين معطّرة برائحة الروح القدس الذي اقتبلته في المعمودية ولا يشوبها شيء من النجاسة، ويتكلّم بشرف أمام المسيح قائلاً: ها أنذا وأبنائي الذين أعطيتنيهم.

والنار الموضوعة في المبخرة والبخور تشير إلى الرسل القديسين: فالنار تشير إلى موهبة الروح القدس الموجودة بداخلهم، والبخور يشير إلى بشارة الإنجيليين الذين اقتلعوا بواسطة الإنجيل نجاسة عبادة الأصنام ولهذا يقول الرسول الإلهي: ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفيّة([26]) وهذا الكنز هو الروح القدس الموجود في أجساد الرسل القديسين.

[22] وكما كان في قدس الأقداس في خيمة إسرائيل قديماً كاروبان موضوعان على تابوت العهد، كذلك يجب أن تكون فوق المائدة الكهنوتيّة في الكنيسة مروحتان([27]) لا تفارقانه، لأن المروحتين هما رمز للكاروبيم والسّرافيم الذين لا يبرحون قربهم من الطبيعة الإلهية.

[23] ما الشموع الموضوعة في المذبح؟

تشير هذه الشموع إلى النور الممجد الذي لا ينطفئ ولا ينفد من القريبين من حضرة الله وهم أجناد النورانيين. وتشير أيضاً إلى الكهنة والشمامسة الذين ينبعث منهم النور الروحي لأبناء الكنيسة كافة.

[24] ما مغزى قراءات الأنبياء والرسل والأناجيل في الكنيسة؟

إن قراءات الأنبياء تشير إلى الأعمال والأتعاب التي قدمها الآباء القديسون والأنبياء كي يروا كلمة اللّه متجسداً، وأيضاً إلى التضرعات التي كانوا يقدمونها لأجل الجنس البشري ليأتي اللّه ويخلّصه من يدَي العدو.

وقراءات الرسل تشير إلى التضرّعات التي كانوا يقدمونها للسيد المسيح ليعينهم ويساعدهم في الجهادات والأخطار التي كانوا يتعرّضون إليها من الطغاة،  وكانوا كذلك يتضرّعون إلى سيدهم كي  يتمم وعده لهم القائل: ها أنا معكم حتى انقضاء العالم([28])، ولهذا فالرسل أي تعاليمهم متى تقرأ تترجّى الطلب ذاته من المسيح ليكون مع رؤساء الكنيسة وأبنائها حتى انقضاء العالم، وذلك لخوف الرسل على الكنيسة من ألاّ يكون فيها غفران من المسيح ويفنيها كما أفنى مجمع إسرائيل، ولهذا يقول النبي الإلهي داود: «قبّلوا الابن لئلاّ يغضب»([29])، فهو يتوجه إلى رؤساء وأبناء الكنيسة بأن تكون أعمالهم مستقيمة، وذلك بالإيمان المقدس واستقامة الأعمال وبهذا يصير لهم خلاص بدلاً من الابتعاد عن اللّه.

أما قراءة الإنجيليين التي تثير العجب فتشير إلى ما قاله الابن لأبيه حينما أراد الصعود إليه وذلك لأجل رسله القديسين: «احفظهم أيها الآب كما فعلتُ أنا وحفظتُهم»([30]). وكذلك تشير إلى قول ربنا يسوع المسيح: «حيثما أكون أنا فهناك يكون خادمي»([31]). وأيضاً حينما يُقرأ الإنجيل المقدّس يكون اللّه بذاته هو المتكلم مع كنيسته فيقول: ها إن رسومكِ موضوعة على راحتي يديّ وتتنعمين معي ومع ملائكتي. وكما أن الابن في تدبيره بالجسد كان يقدّس جميع الذين يأتون إليه كذلك كلماته أيضاً تقدّس جميع سامعيها. ويجب أيضاً أن يُقرَأ الإنجيل ليلة الأحد وصباحه لكي يعرف بوضوح أن اللّه هو الذي خلق المساء والصّباح، لأنه في يوم الأحد خلقت السماء والأرض وهو كذلك أول الأيام. فقراءة الأناجيل تشير بوضوح إلى أن الابن هو إنسان وهو إله الجميع.

[25] ومزامير داود تشير حينما تُرَتَّل في الكنيسة إلى الوصايا العشر المقدسة. لأن جميع كتب الأنبياء والرسل تتلّخص بالوصايا العشرة، أما داود فهو وحده منفرداً يتكلم عن الوصايا العشرة سوية فحينما تُرتّل المزامير كأنّما تُقرأ جميع الكتب الإلهية. ولهذا ترتّب أن تُرتَّل دائماً.

[26] ما هي المنشفة؟

المنشفة هي رحم العذراء مريم التي بواسطتها تطهّرت جميع الأرحام من الأوساخ والنجاسات.

وحينما يأخذها الكاهن وينشف أصابع يدَيه يشير بهذا إلى الحواس العشر التي طهّرتها العذراء من جميع النجاسات ففاق نقاؤها نقاء الجنس البشري بأسره.

[27] ما هي الإسفنجة؟

الإسفنجة تشير إلى جسد الكنيسة المقدس الذي يمتص المياه الروحية التي يحلّ عليها الروح القدس أكثر من جميع الأجساد. وتشير أيضاً إلى الأجساد التي كانت بعيدة عن اللّه، فكما أن الإسفنجة حينما تقترب من الماء تمتصه في الحال كذلك أجساد الآباء القديسين حالما شعروا باللّه الذي نزل إليهم آمنوا به إيماناً تاماً بأنه ابن اللّه واللّه المساوي لوالده.

وتشير الإسفنجة أيضاً إلى القيامة من بين الأموات، فكما أن الإسفنجة حينما تُقطَع من الماء تكون جافة، كذلك الأجساد حينما تفارقها النفس تتحوّل إلى تراب. وكما أنه حينما توضع الإسفنجة في المياه ترطب جفافها في الحال، كذلك أجساد الموتى حينما تسمع صوت الملائكة القديسين كلحظة وكطرفة عين تقوم جميعها. وكما أن الإسفنجة حينما تعصر تعود إلى طبيعتها، كذلك أجساد القديسين الذي عاشوا في هذا العالم بجهادات وآلام عظيمة وأُفسدَت بالسيف والنار والوحوش ومُزِقت أعضاؤهم من الوحوش، هناك في العالم الآتي حينما يجيز اللّه عنهم الآلام والأتعاب، لهم أن يفرحوا إذ أن أجسادهم تصبح روحيّة كالأجناد السماوية.

[28] لماذا توضع ملعقة على المائدة السرية؟

الملعقة تشير إلى الروح القدس الذي نتناول جسد اللّه الكلمة بوساطته. وتشير أيضاً إلى طبيعة الملائكة العالمين مسبقاً بخفايا وأسرار الله. وتشير الملعقة كذلك إلى يد اللّه التي أخذت التراب وجبلت الإنسان وأبدعته.

[29] إلامَ يشير حمل الكاهن للبرشانة في يده ومن ثم رسمها بعلامة الصليب وهو في ذلك كله لا يكسرها؟

إن إشارة الصليب هي علامة إلى نبوءات الأنبياء القديسين عن موت الرب يسوع المسيح. ورفع يديه إلى الأعلى وهو حامل البرشانة يشير إلى صعود اللّه الكلمة إلى أبيه.

أما عدم كسر الجسد من قبل الكاهن عند حلول الروح القدس رغم كماله، ذلك أن الروح القدس حينما حلّ على جسد اللّه الكلمة في الأردن لم يمت، وإذ كان كاملاً لم يشأ أن يسلم نفسه للصلب، وماذا كان السبب؟. ذلك أنه أراد أولاً أن يحارب الشيطان ويغلبه كما حارب الشيطان آدم وغلبه، وكان عليه وهو الإله المتجسد أن يغلب الشيطان ثانيةً في حربه معه وذلك على الصليب كيما يوفي دين آدم وحواء اللذين كانا مدينَين به.

ووجود فاصل زمني بين حلول الروح القدس ورتبة القصي يشير إلى الفترة التي اجترح فيها الرب يسوع المعجزات وبعدئذ سلّم نفسه للموت، ولذا آنذاك يقوم الكاهن بالقصي.

ويرسم الكاهن صليبين في وسط البرشانة ويوحّد من ثم قسميها ويدير بعدها النصف الذي رسم به إلى الجهة اليمنى ويأخذه ويرسم صليباً واحداً. إن تجزئة البرشانة رمز لانفصال نفس الرب يسوع عن جسده. ورسم الصليبين في الجزء الأول يشير إلى الخلاص الذي تم لشعب إسرائيل وباقي الأمم. أما رسم صليب واحد في الجزء الآخر فيشير إلى الخلاص الذي تمّ للموتى الذين أصبحوا واحداً في الموت لأن جميع البشر متساوون فيه بانفصال النفس عن الجسد سواء أكانوا صالحين أم طالحين فيعود الجسد تراباً ويستحيل رميماً. أما إدارة الجهة اليسرى إلى اليمنى فتشير إلى عودة البشر من اليسار إلى اليمين.

وأجزاء البرشانة التي توحَّد تعني: أن الأجزاء التي توحد وهي منفصلة تشير إلى اتحاد الملائكة مع البشر في مجيء الرب يسوع المسيح. وفصلها هو إشارة إلى أنه ولئن كان الملائكة متساوين ومتّحدين مع البشر في الإيمان بالآب والابن والروح القدس ولكنهم يختلفون عنهم بالطبيعة والخصائص. وتوحيد الأجزاء وإعادة فصلها فشيران أيضاً إلى وحدة الكاملين والأبرار والصديقين بالنعم الإلهية. أمّا تجزئتها أخيراً إلى أجزاء صغيرة فهي إشارة إلى أنه ولئن كانوا سيكونون جميعهم في الملكوت السماوي ولكن منازلهم منفصلة عن بعضها في ملكوت السماء([32]).

في الجمرة التي تؤخذ وتوضع في الكأس: تشير هذه الجمرة إلى الإله الكلمة الذي أُخذ من الملائكة والبشر لكي يموت لأن الكأس هنا تشير إلى الموت، ذلك أنه بإرادته شاء أن ينزل إلى الهاوية بموته كيما يخلص الموتى.

ونرى أيضاً أن الكأس والجسد مؤلّفان من ثلاثة عناصر لأن الكأس تحتوي مزيجاً من الخمر والماء والجسد هو واحد.  أما أن يحتوي الكأس على اثنين فذلك إشارة إلى اللاهوت والنفس فكلاهما بلا جسم بينما يشير الجسد إلى القيامة من بين الأموات لاتحاد الجميع معاً.

وإن كان هناك كاهن آخر حاضر وقت القداس يجب أن يناول الجمرة للكاهن الذي يقدم الذبيحة: ذلك أن الكاهن الذي يقدّس يشير إلى الإله الكلمة الذي قدم ذاته لأبيه. أما الكاهن الآخر الذي يناول الكاهن المقدم للذبيحة فيشير إلى الآب الذي مع إرادة الابن أقام ابنه من بين الأموات، كما يقول الرسول بولس: إنَّ اللّه أقام ربنا يسوع المسيح من بين الأموات، والرسول يشير هنا إلى أن تساوي الإرادة لدى كليهما قد انفصل لأن الابن هو من أقام ذاته من الموت، ولكن قيل
أن الآب أقام وحيده لأن الآب هو علة الابن ولذلك قيل: أنّ الآب أقام الرب يسوع من بين الأموات.

[30] لماذا تتم تغطية الجسد والدم بعد انتهاء القداس بالأغطية؟

لأنّه يجب أن تغطى الأسرار ومن ثم تمنح وهي مغطاة، وذلك إشارة إلى أن اللّه الكلمة كان مستتراً ومختفياً عند أبيه وحينما يرى الأرضيين يطلبونه بطهارة وقداسة، يظهر لهم برحمته الوافرة ويتفقدهم بوساطة منحهم جسده ودمه. وتغطية جسد ودم ربنا إنما هي إشارة إلى جسده الذي دُفن في القبر وإلى الدم والماء اللذين خرجا من جنبه على الصليب واختفيا  في الأرض، وهو بالدم النازل من جنبه أظهر أنه حي، وبالماء أنه ميت.

ما الذي جرى للدم والماء اللذين سالا من جنب الرب يسوع، هل سقطا على الأرض وضاعا وإلا ما الذي جرى؟

إن الرجل والمرأة حينما يتزاوجان يمنح كل منهما ما عنده فزرع الرجل هو ماء وزرع المرأة دم، ولأن كليهما اشتركا بالخطيئة أعدّ الله أن يخلصهما معاً فنزل الدم على جسد المرأة والماء على عظام آدم أي على ترابه كي يَخلُص الاثنان معاً. وخروج الدم والماء من جنب الرب كان إشارة إلى أنه جاء لخلاص الأحياء والأموات سويّةً. فبالدم يتفقّد الأحياء أي الآباء والأنبياء الذين كانت نفوسهم حيّة نظراً لأعمال الفضيلة التي عملوها في حياتهم، أما الماء فكان لأجل الذين ماتوا بالخطيئة ذلك أنهم وهبوا حياتهم وأنفسهم لارتكاب أعمال الشرّ كعبادة الأصنام فهؤلاء تمّ خلاصهم بواسطة الماء فالماء كان لخلاص الموتى.

[31] إلام يشير الستار الموضوع على المذبح؟ إذ يجب أن يكون هكذا في أثناء رتبة قصي الجسد الإلهي يجب أن يكون الستار مغلقاً ومتى انتهى القصي يُفتَح، ويُغلَق كذلك عند تناول الكهنة والشمامسة للجسد والدم الأقدسَين، وعند انتهاء الذبيحة الإلهية يغلق الستار أيضاً.

يشير الستار إلى الفاصل والبعد الموجود بين اللّه والملائكة وكذلك يشير إلى الفاصل بين طغمات الملائكة.

أما إغلاق الستار عند قصي الجسد الإلهي فهو كذلك: إن القصي هو إشارة إلى موت الإله على الصليب، وإغلاق الستار يشير إلى الحجاب الذي أسدل أمام أجناد السماء كيلا يروا اللّه وهو يتألّم إذ لم يكن بإمكان الملائكة القديسين أن يروا الإله متألماً ويحتملوا ذلك، فالذين لا شعور لهم ولا إحساس أي الشمس التي أظلمت والأرض التي تزلزلت والهاوية التي انفتحت والصخور التي تشققت، كل هؤلاء لم يحتملوا ذلك، فكم بالحري من هم روحانيون وقريبون من اللّه، كيف يستطيعون تحمّل هذا الأمر.

ورفع الستار بعد الانتهاء من القصي هو إشارة إلى رفع الحجاب عن الملائكة والبشر فعرفوا أن الذي صُلِب هو إله الجميع.

كما إن إسدال الستار عند تناول الكهنة والشمامسة للأسرار هو إشارة إلى أن الرب حينما منح رسله القديسين سر جسده ودمه للتلاميذ في العلية، منحه بشكل سري ولم يشعر به أحد من الناس. وإسداله عند تناول الكهنة يشير إلى أن اللّه الآب عندما أراد أن يرسل ابنه ليتجسّد لم يشعر بذلك لا أحد من الملائكة القديسين ولا أحد آخر من البشر سوى الملاك جبرائيل الذي حمل البشارة من عند سيده إلى العذراء مريم، وأيضاً البتول القديسة التي كانت عتيدة أن تلد اللّه الكلمة.

كما أن فتح الستار بعد تناول الكهنة الأسرار إشارة إلى أن الملائكة يتناولون الأسرار أولاً ومن ثم البشر فللأجناد الروحية الأسبقية في التناول لعلّة قربهم من الله.

[32] أما قوله ومتى أُخرِج الجسد إلى الشعب يجب أن يخرج الكأس أي الدم أولاً، فيقصد بذلك أن خروج الدم أولاً يرمز إلى موت الإله، ومعلوم أن من يموت يخرج دمه أولاً، ولأن اللّه قد مات لذ يجب أن يخرج دمه أولاً ومن ثم جسده.

ومتى أُخرِج الجسد والدم إلى الشعب يجب أن يُناوَل الذكور أولاً ومن ثم الإناث، وهذا إشارة إلى أن اللّه يفتقد ذوي الفضيلة أولاً ويجعلهم قريبين منه ومن ثم الضعفاء في عمل الفضائل وهؤلاء يمثّلون بالنساء.

[33] ورَفْعُ الأسرار إلى المذبح رمز إلى عدم انفصال الابن عن الآب، إذ ولئن شوهد وعاش معنا وأتمّ تدبيره الإلهي نحونا ولكنه في الوقت ذاته كان مع أبيه بدون انفصال.

في أن الجسد يمكن أن يبقى، ولكن إن فضُل دمٌ يجب أن يُتناول حتماً.

إن من غير الجائز أن تبقى الكأس أكثر من مبيت يوم واحد وتُخدَم في اليوم التالي. وبهذا يُشار إلى أن الإله الكلمة حينما عُرِف في عهد الظلمة لم يُعرَف سوى في الشريعة الموسوية بالرموز والأمثال. وحينما جاء النّاموس الإنجيلي أزال جميعها ربّانياً، وكذلك حينما وضع في القبر مكث ليلة السبت فقط وقام ليلة الأحد. ولا يجب أن يبقى الدم أكثر من ليلةٍ واحدة على المذبح لأن الرب أخذ منا جسداً واحداً وما تخلّى عنه ولن يتخلّى عنه (في الزمن الآتي). وكذلك كما أن الكأس حينما تتمَّم تكون غير مرئية هكذا كان اللّه الكلمة حينما جاء لأجل خلاصنا أخفى ذاته بالجسد ولم يُعرَف. وكان يظهر بالجسد وبالآلام غير المحتملة التي قبلها على ذاته لأجلنا ثم أزال هذه الآلام من الجسد الذي اتّخذه وذلك بعد قيامته. وبقاء الجسد على المذبح إشارة إلى مكوث جسد الإله الكلمة في القبر بغير فساد وذلك كقول النبي داود الذي يوجّهه إلى اللّه الآب: لن تدع تقيك يرى فساداً([33]). أما الأسرار التي تحفظ فتشير إلى العالم الجديد الذي يُبطل فيه كل أمر مادي من الكنيسة ويصبح الكل روحياً كما سيتحول البشر أيضاً إلى مخلوقات روحية.

[34] إنَّ البركة التي تُمنَح بعد تناول الأسرار تشير إلى أنه في كل مرة نتناول جسد الإله الكلمة نتبارك به ونسحق اللعنة الموضوعة علينا. أما أن يستودع الكاهن المؤمنين فذلك إشارة إلى أن الكهنة يستودعون نفوس المؤمنين بطهارة لدى الله.

[35] انتهى تفسير القداس وكامل ترتيبه وأشكاله والمواد التي تُرى به ومداخله ومخارجه وبداية تدابيره جميعها ونهايتها كي تُفهَم قدر المستطاع.

 

للأعلى

 

 

الهوامش :


([1]) ـ هذه المقدمة هي من وضع العلامة مار إيوانيس الداري كما وردت في كتابه.

([2]) ـ (تكوين 9: 11).

([3]) ـ […] حينما ترى مثل هذه الإشارة يكون هناك نقص في النص وذلك كما في ورد في النص السرياني الأصلي.

([4]) ـ (متى 26: 26).

([5]) ـ (أعمال 5: 41).

([6]) ـ تمّ خراب أورشليم كما تنبأ الرب يسوع سنة 70 م على يد القائد الروماني تيطس.

([7]) ـ الطبليث: لوح من الخشب مستطيل الشكل، يتخذ من الخشب إشارة إلى صليب المسيح وشجرة الحياة، يقدّسه الأسقف بتلاوة طقس خاص ويمسحه بالميرون، يوضع في وسط المائدة بحيث يغطّى كله بغطاء، ولا يجوز تقديم الذبيحة بدونه. (كتاب تفسير القداس للمطران اسحق ساكا ــ الطبعة الثالثة 2003ص76).

([8]) ـ غطاءا الكأس والصينية: يدعيان بالسريانية فـًِـةِِا ويشيران إلى الحجر الذي وُضِع على قبر الفادي وهما مصنوعان من النسيج في الغالب. (المصدر السابق ص 78).

([9]) ـ (ملوك 15: 5).

([10]) ـ (خروج 4: 24).

([11]) ـ (1كورنثوس 3: 16).

([12]) ـ (مزمور 84: 7).

([13]) ـ (لوقا 12: 49).

([14]) ـ القسطروم: وهو يلي المذبح وبيت الأقداس ومعناه المرتفع عن صحن الهيكل، وهو خاص بالكهنة والشمامسة وفيه المقرأتان لتلاوة الطقوس اليومية (تفسير القداس، المطران اسحق ساكا، الطبعة الثالثة 2003، ص70).

([15]) ـ (مز 78: 25).

([16]) ـ (لوقا 22: 43).

([17]) ـ (مز 22: 6).

([18]) ـ (متى 27: 52 و53).

([19]) ـ (مز 149: 5).

([20]) ـ (أع10: 11).

([21]) ـ (خروج 34: 33).

([22]) ـ (زكريا 12: 10).

([23]) ـ أي خبز التقدمة ويصنع على شكل قرص مستدير مطبوع في وسطه ختم مدوّر مقسَّم إلى اثني عشر جزءاً ويثقب بخمسة ثقوب وقت خبزه إشارة إلى المسامير الخمسة التي سُمِّر بها جسد الرب يسوع على الصليب وهي: الحربة وإكليل الشوك والمسامير الثلاثة في يديه ورجلَيه. (تفسير القداس، المطران اسحق ساكا، الطبعة الثالثة 2003، ص 95 و96).

([24]) ـ (مز 18: 11).

([25]) ـ (مز 68: 31).

([26]) ـ (2كورنثوس 4: 7).

([27]) ـ المروحتان: هما صفحتان مدوّرتان على وجهيهما صورة ملاك، ويحيط بها جلاجل صغيرة، ولكل منها قبضة طويلة كي يستطيع الشماس أن يقبض عليها بيديه، فيحرّك المروحة فوق الأسرار أو فوق هامة الأسقف في أوقات معيّنة  وتعلّقان إلى طرفـي المائدة. (تفسير القداس، المطران اسحق ساكا، الطبعة الثالثة 2003، ص 79 ).

([28]) ـ (متى 28: 20).

([29]) ـ (مز  2: 12).

([30]) ـ (يوحنا 17: 11 و12).

([31]) ـ (يوحنا 12: 26).

([32]) ـ هنا تضمين لقول الرسول بولس: “لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد” (1كو 15: 41).

([33]) ـ (مز 16: 10).

 

للأعلى