الله محبة ومحبة القريب
في فكر مار سويريوس الأنطاكي
بقلم المثلث الرحمة المطران مار سويريوس صليبا توما
مقدمة:
إذ كانت فكرة هذا المؤتمر العظيم إظهار ما فاض به التراث السرياني بخاصة، والتراث المشرقي بشكل عام عن موضوع «الله محبة، الله رحمة»، قادتني محبة الله للجوء إلى إخوة لي في المسيح مستفسراً منهم عن سبب اتهام البعض للقديس مار سويريوس الأنطاكي بقتل رهبان شرقيين، دون أن أجد جواباً أو دليلاً تاريخياً يثبتُ صحة اتهامهم. فطرقتُ باب البحث في غيض من فيض من مؤلفات وفكر هذا القديس الأنطاكي عن محبة الله ومحبة القريب، نزولاً عند رغبة أحبائنا منظمي مؤتمر التراث السرياني، لأُظهِرَ ما فاض به فكره عن محبة الله والقريب. تاركاً للسامع الكريم الحكم على هذا الإنسان انطلاقاً من فكره الذي سأبدأُ بسرد وشرح بعض نصوصه التي تتحدث عن محبة الله. النصوص التي استخدمتُها هي الترجمة السريانية للأصل اليوناني الذي قسا عليه الدهر والذي لا وجود لأغلبه اليوم، إلا ما ندر من النصوص التي نسبها خصومه إلى ذهبي الفم وبعض الآباء الأولين خوفاً من ضياعها لأهميتها الروحية والفكرية الكبيرة، واستطاع أن يتعرف عليها بعض علماء علوم الآباء في القرنين الماضيين لمعرفتهم بفكر مار سويريوس وطريقته في الكتابة.
1 ـ الله المحب البشر يُخَفِّف من حزن الكنيسة في الأوقات الصعبة([1]):
من عظته عن فهم السامعين وعن بشارة رئيس الملائكة كبرئيل الذي بشر والدة الإله دائمة البتولية مريم … يتكلم عن حفظ الله المحب للبشر معلمي الكلمة الإلهية في الكنيسة والمؤمن السامع فيقول:
هل يا تُرى هذا هو الجوع الذي أشار إليه عاموس النبي إذ قال: «هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أُرسِلُ جوعاً في الأرض، لا جوعاً للخبز ولا عطشاً للماء، بل لاستماع كلمة الرب» (عاموس 8: 11). وإشعياء أيضاً يهدد أورشليم بشكل لعنة فيقول: «سيُرفع منها النبي والمشير والمعتَبَر والماهر بين الصُّناع» (إشعياء 3: 2 ـ 3) وهذه الكلمات إنما تدل بوضوح على معلمي الكلمة الإلهية. مثلما أرسل بولس إلى الكورنثيين قائلاً: «حَسَبَ نعمة الله المعطاة لي كبنّاءٍ حكيم قد وضعتُ أساساً» (1كورنثوس 3: 10) ويضيف النبي على اللعنة قائلاً: «سيُرفع السامع الفاهم أيضاً عن أورشليم» (إشعياء 3: 3). لكن أشكر الله الذي بمحبته للبشرية يمزج الأمور المحزنة (ليُخَفِّفها) ذاك الذي مِن أورشليمي أنا وأعني بها كنيستي هذه لم ينزِع السامع الفاهم. فبفضل النعمة أنتم تسمعون التعاليم الرسولية وتتعرفون إلى صوت الراعي الحقيقي، وتنفرون من الكلمة الغريبة وتهربون. ولا يمكن أبداً أن تحيدوا عن الطريق الصائبة.
2 ـ عمّانوئيل خالق وطبيب طبيعتنا، لمحبته لجنسنا البشري نسبَ إليه عدم كمالنا، ليكملنا نحن به([2]):
مِن عظته البطريركية الثامنة عن الأطفال الذين قتلوا من هيرودس في بيت لحم، يقول:
أما أنا فأتعجب للمواهب الإلهية التي لمجيء المسيح بالجسد. الذي أيضاً بواسطة الأطفال الذين ذُبحوا يُظهِر بأنه رفع الجنس البشري الذي انحدر. رفعه من القامة غير الكاملة والطفولية إلى الكمال الذي كان له (للإنسان) في البداية.
فقد خلق الله آدم في البدء كاملاً ولم يجعله ينمو ويتربى بالقامة شيئاً فشيئاً، ولكنه ائتمنه فوراً للعمل في الفردوس والذي كانت أجرة عمله فيه عدم الموت. وإذ سقط وزل نحو الموت بواسطة الإضلال، وأصبح خارج الفردوس، نَزَع عنه الكمال ليحلّ مكانه شكل ميلادنا الذي بواسطة شركة الزواج. وإذ أصبح الإنسان يولَد طفلاً ظهرَ مدى ضعفنا وخسارتنا للكمال الذي كان لنا منذ البدء. وإننا إذ ننمو بواسطة التربية تدريجياً وبواسطة نمو القامة شيئاً فشيئاً، أظهر الله لنا أننا ننحدر آئلين إلى الفساد.
لكن عمّانوئيل خالق وطبيب طبيعتنا نسبَ إليه عدم كمالنا، ولمحبته لجنسنا البشري أصبح طفلاً دون أن يتغيّر ليمنح الأطفال والجنس البشري الكمال الذي كان لهم في البداية، لا بل ليمنحهم كماله هو ذاك الكمال الإلهي. ولهذا يدعوهم إلى ساحات الوغى والشهادة التي تليق بالرجال، ولهذا أيضاً ينادي بالإنجيل أنه من أجل هذا قد جاء، فيقول: «كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل» (متى 5: 48).
3 ـ يَدُ الله تُرسَل وذراعه السامية، قوة الآب المحجوب، الإبن الوحيد المتأهب للرحمة ولأجل محبته للبشر ندم على أحكامه فعدّلها وأغرق فيض الخطيئة وأنقذنا من المياه الكثيرة ومن أيدي الغرباء([3]):
استمع إلى المتأهب دائماً للرحمة والذي لأجل محبته للبشر طأطأ السماء ونزل، أي أنه أحنى مجده السماوي السامي ونزل بتواضعه الطوعي ليكون قريباً من الأرضيين، فلمس الجبال وتصارع مع رؤساء وسلاطين وولاة هذا العالم المظلم (إفسس 6: 12) وانحلوا جميعهم كدخان (مزمور 144: 5ـ7) «أبرقَ برقاً (لمجد الكرازة الإنجيلية) وبدّدَهم، أرسَل سهامه (لتتقدم كلمات النبوات هذه التي تبعتها فيما بعد أيضاً تعاليم الرسل) فأزعج بها أعداءه». وما كانت لتتحقق كل هذه لولا أن اليَدَ قد أُرسِلَت أولاً، ذاك الذراع السامي، قوة الآب المحجوب، الإبن الوحيد، الكلمة الذي تجسد من أجلنا، فبينما كان في وسط الأردن وقدّس ماءه أغرق فيض الخطيئة و«أنقذنا ونجّانا من المياه الكثيرة من أيدي الأبناء الغرباء» (مزمور 144: 7).
إن داؤد النبي قد وضع الإصحاح الخاص بالنِعَم (طبًةا) في النهاية، ومن هذا الإصحاح خرجت كل النِّعم، التي لكي تُعطى لنا نزل يسوع إلى الأردن، وبينما صعد من الماء فتح السماوات التي أغلقها آدم الأول ليُعلِن بأن قوة المعمودية هي الصعود إلى السماء، فمن أجلنا صنع ذاك السماوي كل هذه ولأجل تقديسنا وخلاصنا أصبح هو باكورةً. هكذا أيضاً الروح نزل عليه من أجلنا. والروح، ليس إحدى الأرواح الخادمة، ولكن روح الله المساوي له في الجوهر ويملك معه ومع الآب. فلذلك قال الإنجيلي: «روح الله» (متى 3: 16) ذاك الذي ترك الجنس البشري، ذاك الذي عنه يقول الرب الإله: «لا يَدينُ روحي في بني البشر إلى الأبد لزيغانهم وهُم بشر» (تكوين 6: 3). لكن ذاك محبّ البشر الذي لكثرة فيض صلاحه وكأني به يُعَدِّل أحكامه، حَلَّنا من هذا الحُكمِ أيضاً فصار جسداً دونما تغيير واجتذب الروح على الجسد إذ وحَّد لاهوته مع الجِبلة التي حُكِمَ عليها، وبذلك أعطى النعمة لكل جنسنا البشري. ويقول أنه رأى روح الله ينزل كالحمامة ليظهر جلياً بأن إله العهد القديم والعهد الجديد هو واحدٌ، وليُذكِّر بالطوفان الذي في أيام نوح، فكما بشَّرت آنذاك الحمامة بهدوء غضب الله، هكذا أيضاً شبه الحمامة تُعلن طوفان وغرق الخطيئة ومصالحة العالم.
4 ـ «الذي به سررتُ» أي أنني دعوتُه حبيباً يقول الله، ووضعتُ بذرة محبتي للجنس البشري الذي كان من العدل أن أكرهه([4]):
إن الأجمل هي عبارة «الذي به سررتُ» فهي تليق بالتدبير الإلهي الذي من أجلنا وتظهر محبة الله للبشر، لأننا إذ كنا مأسورين للخطيئة وُجِدنا محاربين لله وأصبحنا غرباء عن محبته وكنا بالطبيعة أبناءً للغضب لا رجاء لهم وبلا إله في العالم مرذولين نكره بعضنا البعض ولذلك كنا بعدلٍ مكروهين من الله. وإذ كان يحل تلك العداوة والحرب التي بلا محبة قال: «الحبيب الذي به سررتُ» وبهذا أسس حُبَّه لنا على عمّانوئيل. إنه من المعلوم بأن عمّانوئيل لم يكن بحاجة لكلمة كهذه لأنه الابن الحقيقي لله الآب، له محبة الآب وهو يُحبُّه أيضاً وخاصة وأنه والآب جوهر واحد.
«الذي به سررتُ» أي أنني دعوتُه حبيباً يقول الله، ووضعتُ بذرة محبتي للجنس البشري الذي كان من العدل أن أكرهه. لم أفعل ذلك لسبب موجبٍ لعدالة ولكن لأنه قد حسُن لي أن أُخلِّص بواسطتك (يخاطب الكلمة) أولئك الذين هلكوا ولم يكن لهم أي أمل للخلاص. فالإرادة الصالحة وبشكل أساسي هي المبدأ الأول والطوعي (لخلاص العالم) وليس هذا الخلاص لأجل سبب ما موجب له كي يتم، ولكنه يتم لسبب الصلاح. فليس هناك من شيء أو شخص صالح ويُحب الفرح والمساعدة والخلاص للآخرين مثل الله.
5 ـ بتنازله وبمحبته للبشر قَبِل المسيح أن ينسِب هذه الطبيعة له، (أيَّةُ طبيعة)؟ الطبيعة الزانية ليُطهِّرها، الطبيعة المريضة ليشفيها، الطبيعة التي سقطت ليقيمها([5]):
لقد قَبِل المسيح أن ينسِب هذه الطبيعة له، (أيَّةُ طبيعة)؟ الطبيعة الزانية ليُطهِّرها، الطبيعة المريضة ليشفيها، الطبيعة التي سقطت ليقيمها، بتنازله وبمحبته للبشر وأيضاً بما يليق للاهوته اتحد بالجسد المساوي لطبعنا بالجوهر، ذو نفس عاقلة، بلا خطيئة حيث تدخلت البتولية والقبول في البطن، والحبل الذي من الروح القدس، والميلاد الذي لم يعرف اجتماع الزواج، وحَفِظ ختم الطهارة البتولية بما يفوق الإدراك. والإنجيلي (متى 1: 6) يستخف ويفضح ضعفات جنسنا وأمراضه وعاره، هذه التي من أجلها نزل كلمة الله لشفقته، ومن أجل هذه نمجِّد أكثر سموَّه ومحبته للبشرية. فلا يخسر الطبيب أبداً إذا ما تنازل مع مرضاه. فإذ كان عليه (الإنجيلي متى) أن يقول «وداؤد ولد سليمان من بَثشبع» لأنها كانت تُدعى بهذا الاسم، وكأني به يستهزئ بالزنى، وصرخ بوضوح «مِن التي لأوريا» مُظهِراً أن المسيح إذ ينحدر من جنسٍ كهذا أخذ عليه ضعفاتنا وحمل أسقامنا كما قال أحد الأنبياء (إشعياء 53: 4).
6 ـ الله يُجلِسُنا معه في السماويات في المسيح يسوع([6]):
فأتعجب مع بولس بعظمة محبة الله للبشرية (إفسس 2: 4و6) «الذي أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع». فعنا نحن قد قال أقامنا وأجلسنا معه نحن الذين خلصنا بالنعمة بما أن المسيح قد اشترك بطبيعتنا.
7 ـ خاتمة كل عِظَة على الأغلب كانت تنتهي بطلب نعمة يسوع المحب للبشر:
لقد أنهى مار سويريوس عظاته على الأغلب بالعبارة التالية:
… لنستحق، بواسطة نعمة الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، ذاك الذي له يليق المجد مع أبيه وروحه القدوس الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين.
8 ـ محبَّة القريب([7]):
هنا أودّ أن أوضِّح بأن مار سويريوس كان يحارب الهرطقات، ولكن ليس بالسيف، بل بمحبة الله التي كانت تعمل فيه، فلا يستخف أو يستهزئ بخلاص أتباع أوطاخي أو نسطور أو أيٍ من الذين خالفوه العقيدة.
ولكنني أعلم جيداً بأن هؤلاء (أتباع أوطاخي) حينما يسمعون هذه الكلمات الإنجيلية يتضايقون جداً، وقبل قليل اختلطوا بين جمع الكنيسة وبدأوا يُحرِّضون أناساً علينا كما سمعتُ وفرحوا والتذّوا بالشتائم التي أثاروها علينا. أما أنا فلا أستخفُّ بخلاصهم من أجل هذه الأشياء. لأن الطبيب أيضاً حينما يُداوي إنساناً فيضربه المريض بيده أو برجله لا يتوقف الطبيب عن كيِّ الجرح أو عن اجتثاث ما قد فسد من الأعضاء ليشفيه.
وفي عظته التاسعة والتسعين([8])، يذكر أن على صانع السلام وبخاصة الأسقف أن يمد يده إلى مَن يخالفونه الرأي في الإيمان وألا يحتقر خلاصهم:
فليقترب أيضاً ويتّحد مع الكنيسة من قد ضلَّ وانتقل إلى مذهب نسطور، وليرَ بأن الله قد تألم بما كان يمكنه أن يتألم به، طبعاً بالجسد، وظلّ هو كما هو غير متألم. أمّا أن نحرم فقط وبدون تعقُّل وبجهل وتفكير قُرَويّ، ونصرخ بالتعظيم وتفخيم الكلمات بأننا أرثوذكسيون، وفي الوقت نفسه نتكلم بطغيان كمن يتكلم من فوق حصن مدينةٍ، ونحتقر خلاص هؤلاء الآخرين ولا نمد يدنا لمن ضلّوا لا نكون صانعي سلامٍ.
9 ـ معانيث مار سويريوس([9]) وهي أناشيد خاصة بالأعياد.
إن محوَر أغلب معانيثه الـ 295 كان «الله مُحبّ البشر» وأكتفي بوضع واحدة منها هنا في هذه العجالة:
- معانيث عيد حلول الروح القدس:
في وسط الكنيسة أُسَبِّحُكَ. إذ كان قد حلّ العيد، ذاك الوسيط بين الله والناس يسوع الإله، إذ كان واقفاً بين اليهود في حينه، أظهر بأنه إلهٌ من إلهٍ بالطبيعة، وبعد أن تجرَّد طوعاً بتدبيره وصار إنساناً حقاً، وقال بما أنه مساوٍ للآب وابن جوهره: إني أعرفه لأني منه، وكان يُضيف كإنسان بسيطٍ قائلاً: أنه هو أرسَلَني. ولهذا نُسَبِّحُه ذاك الذي بواسطة محبته للبشر ضمَّنا إلى لاهوته لكثرة غنى مراحمه الكثيرة.
([1]) Patrologia Orientalis, tome XXXVIII, fascicule 2 – No. 175, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie II p. 272. Editees et traduites en Français par M. Briere et F. Graffin, Turnhout/Belgique 1976.
([2]) Patrologia Orientalis, tome XXXVIII, fascicule 2 – No. 175, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie VIII, pp. 328-330
([3]) Patrologia Orientalis, tome XXXVIII, fascicule 2 – No. 175, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie X pp. 358 – 359.
([4]) Patrologia Orientalis, tome XXXVIII, fascicule 2 – No. 175, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie X, pp. 362
([5]) Patrologia Orientalis, tome vingt-cinquieme, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie XCIV, pp. 498-499. Editees et traduites en Français par M. Briere. Edition Original, Brepols/Paris 1935.
([6]) Patrologia Orientalis, tome Douzieme, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie LXX, pp. 326-327, Editees et traduites en Français par M. Briere. Edition, Brepols 1985.
([7]) Patrologia Orientalis, tome vingt-cinquieme, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie XCII, pp. 483-484. Editees et traduites en Français par M. Briere. Edition Original, Brepols/Paris 1935.
([8]) Patrologia Orientalis, Les Homiliae Cathedrales de Sévèr D’Antioche, Homelie XCIX, p. 229. Editees et traduites en Français par Ignazio Guidi, Paris 1929.
([9]) James of Edessa, The Hymns of Severus of Antioch and Others, Syriac Version Edited and translated by E. W. Brooks, Paris le 24 decembre 1909. p. 140.