القيم الدينية وتنظيم الأسرة

القيم الدينية وتنظيم الأسرة

 

بقلم قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص

 

  • السيد المسيح يهتمّ برفاهية الإنسان:

من الحقائق الجلية أن السيد المسيح قد اهتم بتوفير الرفاهية والسعادة للإنسان، وكما يعلّمنا آباء الكنيسة أن الله قد خلق الأرض وما عليها والجنة بما فيها لإسعاد الإنسان ككل روحاً وجسداً، لذلك يقول الرسول بولس: «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس»(1كو 6: 19).

  • السيد المسيح يهتم بالأسرة:

وقد شمل هذا الاهتمام الإنسان فرداً وجماعة، فرأينا السيد المسيح يكلّم السامرية على البئر ليمنحها الخلاص، ويخاطب زكا العشار وهو على الجميزة ليدخل بيته ويعطي الخلاص لذلك البيت بقوله لزكا: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت» (لو 19: 9). ولم تخرج الأسرة من دائرة اهتمامه الإلهي، فقد تحدّث عن الروابط بين المرأة والرجل وأكّد أنهما بالزواج يصيران جسداً واحداً (مت 19: 5) كما أعطى مكانة مرموقة للمرأة وأزال عنها الغبن الذي كانت تعيش فيه في اليهودية، فقد كان اليهودي يقف أمام ربه في كل صباح مصلياً قائلاً: «أشكرك اللهم لأنك لم تخلقني بهيمة ولا امرأة» وأقام المساواة بين الرجل والمرأة «ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع»(غل 3: 28) إن اللّه خلق حواء واحدة لآدم واحد لتكون معينة له، لذلك فإن الكنيسة شددت على قصر الزواج بواحدة، وهذا ما أكّده السيد المسيح حيث قال: «أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكراً وأنثى وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الإثنان جسداً واحداً» (مت 19: 4و5) كما صان حقوق المرأة بقوله لليهود «إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا وأقول لكم إن من طلّق امرأته إلاّ لسبب الزنى وتزوّج بأخرى يزني»(مت 19: 8و9). وقال الرسول بولس: «فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فإذاً ما دام الرجل حياً تدعى زانية إن صارت لرجل آخر ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى أنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر»(رو 7: 2و3).

وقد شارك السيد المسيح الناس في مشاعرهم فحضر عرس قانا الجليل وقدّس الزواج كما حضر إلى قرية بيت عنيا ليعزي مريم ومرتا وأقام لعازر أخاهما من الموت. واهتمّ بالجماهير الجائعة فقدم لها طعاماً بمعجزة تكثير الخبز ووصفه الكتاب بقوله: «الذي جال يصنع خيراً» (أع 10: 38) وأخيراً فدى البشرية بتقديم نفسه كفارة عنها، وأطاع حتى الموت موت الصليب «لأنه هكذا أحبّ اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16).

  • الكنيسة الاولى تهتم بالإنسان:

وقد حملت الكنيسة الأولى صليب الرب يسوع وتبعته في طريق نكران الذات والتضحية في سبيل الآخرين، لذلك أرسلت كنيسة أنطاكية إسعافاً مادياً إلى كنيسة اورشليم التي كانت تعاني المجاعة مثلما يذكر سفر أعمال الرسل.

ويثبت التاريخ الكنسي أن الكنيسة في كل أجيالها كانت تشيد دوراً لإيواء الغرباء وتضميد الجرحى والاعتناء بالمرضى والشيوخ، مثال ذلك ما فعله مار أفرام السرياني (373+) في الرها أثناء المجاعة التي اجتاحتها وانتشار مرض الطاعون الوبيل. كما اهتمّت بتعليم الناس وتثقيفهم ليس بالثقافة الدينية وحسب بل أيضاً بالعلوم العامة كالطب والفلك والفلسفة والتاريخ واللغة وغيرها.

فالدين المسيحي لا يقتصر على خلاص الروح، إنما يتعداها إلى الاعتناء بالجسد لأنه يعتني بالإنسان ككل.

وفي عصرنا هذا، تواجه الكنيسة مشكلة ما يسمى «بتنظيم الأسرة» ويبرز أمامها هذا السؤال الكبير: أيهما أفضل للأسرة أن تضم عدداً كبيراً من الأفراد يعجز حياله الأبوان عن توفير الحياة المريحة لهم، أم تكتفي بعدد قليل منهم تعتني بتربية أجسادهم ونفوسهم تربية سليمة… ولا بد للكنيسة من أن تحدد موقفها من ذلك، فدورها الفعّال في تكوين الأسرة المسيحية يلزمها الشعور بالمسؤولية لإسعاد أفرادها قدر المستطاع. وهنا يجب أن نشير إلى الغاية الاولى للزواج.

  • الغاية المنشودة من الزواج المسيحي:

إن الجواب المتوقّع هو أن الزواج يهدف إلى حفظ النوع، كما أن الكتاب المقدس يقول عن آدم: «فلم يجد معيناً نظيره» (تك 2: 20) فخلق له اللّه تعالى حواء معينة له. فحواء خلقت لإعانة آدم، وبعبارة أخرى لإسعاده. كما إننا نفهم من آية الرسول بولس القائلة: «لأن التزوّج أصلح من التحرق» (1كو 7: 9). أن الغاية من الزواج ليست فقط إنجاب النسل بل هي أيضاً الحفظ من الخطيئة وهذا ما أوضحه الرسول في قوله: «ولكن لسبب الزنا ليكن لكل واحد امرأته وليكن لكل واحدة رجلها ليوفِ الرجل المرأة حقها الواجب وكذلك المرأة أيضاً الرجل، ليس للمرأة تسلط على جسدها بل للرجل، وكذلك الرجل أيضاً ليس له تسلّط على جسده بل للمرأة. لا يسلب أحدكم الآخر إلاّ أن يكون على موافقة إلى حين لكي تتفرغوا للصوم والصلاة ثم تجتمعوا أيضاً معاً لكي لا يجربكم الشيطان لسبب عدم نزاهتكم»(1كو 7: 2 ـ 5).

كما يجب ألاّ ننسى أن الزواج المسيحي يسمو عن الجسد فهو شركة روحية بين الرجل والمرأة مبنية على المحبة المسيحية الخالصة لذلك يوصي الرسول بولس قائلاً: «أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف 5: 25) وأوصى المرأة قائلاً: «أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب»(أف 5: 22)

والحب في الزواج الناجح أمر لازم وهو مصدر التضحية ونكران الذات في الأسرة.

  • وجوب اهتمام كنيسة اليوم بالأسرة:

انطلاقاً من هذا المبدأ، وشعوراً منا بالمسؤولية الروحية والاجتماعية، من مسألة تنظيم الأسرة، ولتوفير المناخ الملائم لراحة ضمير الوالدين وحتى لا يقفا موقفاً سالباً تجاه المسؤولية الوالدية الخطيرة، نقول أن على الكنيسة أن تتمثّل بالسامري الصالح فتنقذ الساقط بين اللصوص وتضمد جراحاته وتحمله إلى الفندق وتعتني به ولا تكون كالكاهن واللاوي اللذين رأياه يتخبّط في دمائه ويئن من شدة آلامه ولكنهما تركاه دون أن يمدا له يد المساعدة. فإذا عانت الأسرة الآلام والمتاعب والضيقات نفسياً وجسدياً ووقفت الكنيسة إزاء ذلك موقف المتفرج تكون قد شابهت الكتبة والفريسيين الذين قد أعطاهم السيد المسيح الويل لأنهم يضعون أحمالاً ثقيلة على كواهل الناس ولا يزيحونها بأصبعهم.

إن سعينا واهتمامنا في موضوع تنظيم الأسرة، لا يعنيان عدم إيماننا بقدرة اللّه سبحانه وتعالى على سد اعواز البشرية، فقد اوصانا قائلاً: «لا تهتمهوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون… أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس» (مت 6: 25) ولكننا لا بدّ من أن نفرّق بين اتكالنا على اللّه وبين التواكل، فإن الاتكال على اللّه يرتبط بالسعي والجهد الإيجابي من قبل الإنسان.

  • المسؤولية الوالدية وتنظيم الأسرة:

إننا نقصد بتنظيم الأسرة إتاحة الفرصة للوالدين ليلدوا اولادهم ليس بالجسد فحسب «المولود من الجسد جسد هو» بل بالروح أيضاً «المولود من الروح هو روح» (يو 3: 6) لكي يصيروا اولاد اللّه وليخدموا وطنهم مثلما يليق بالمؤمن الصالح، ولكي يقولوا بالشكر«ها أنا والاولاد الذين أعطانيهم اللّه» (عب 2: 13).

  • تنظيم الأسرة ووسائل منع الحمل:

وحيث أن الزواج لا يهدف إلى إنجاب النسل فقط، بل أيضاً إلى الحفظ من الخطيئة كما قلنا سابقاً، وحيث أننا نسعى إلى إيجاد الاسرة السليمة الصالحة والأسرة هي خلية المجتمع، لذلك لا نرى أي حرج على الزوجين من استعمال وسائل منع الحمل عند الضرورة سعياً إلى تنظيم الأسرة.

إن بعض السلطات الروحية، تجيز أن يمتنع الرجل عن الاجتماع بالمرأة في الأيام التي تكون فيها المرأة مهيأة للإخصاب ليتحاشى إنجاب النسل حيث تموت البويضة المهيأة للإخصاب. فإذا كان ذلك كذلك فما هو المانع من استخدام وسيلة أخرى لبلوغ هذه الغاية بالذات أي جعل البويضة غير قابلة للإخصاب؟ عجبي لاولئك الذي يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ضد استعمال موانع الحمل معتبرين ذلك تدخلاً في أمور اللّه وهم في الوقت نفسه يسمحون بل يوصون باستعمال الأدوية التي تعالج العقم وتقوي الغريزة التناسلية، ولا يعتبرون عملهم هذا تدخلاً في شؤونه تعالى. فإذا سمحنا لأنفسنا بوصف أدوية تقوية النسل جاز لنا حتماً وصف أدوية مضادة أي لمنع الحمل وبعبارة أفضل لتنظيم النسل من أجل صحة الأم وصحة الطفل نفسه بتوفير فترة متباعدة بين المواليد لتتاح الفرصة للوالدين لتربية الطفل جسداً وروحاً «لينمو بالقامة والنعمة لدى اللّه والناس».

  • الإجهاض قتل:

أما فيما يتصل بموضوع الإجهاض، فإن الأمر يستلزم معرفة بدء تكوين الجنين في بطن أمه باتحاد الروح فيه. فقد قال أرسطو: «إن الروح تدخل الجنين الذكر حين يكون عمره أربعين يوماً، وفي الجنين الأنثى حين يكون عمره تسعين يوماً» وإلى ذلك استند الشرع في أسفار العهد القديم بقوله: «من صدم امرأة حبلى يدفع إذا حدث إجهاض ولم تحصل أذية، وأما إذا حصلت أذية فيجب أن تؤخذ نفس بنفس»(خر 21: 22و53) ففسّر آباء الكنيسة وحدّدوا «الأذية» بأن يكون الجنين كاملاً أثناء الصدمة والإجهاض، وعدم الأذية هو عدم تكامل الجنين.

  • الجنين في بطن أمه نفس حية:

ونحن نرى أن هذا من اختصاص الأطباء فهم أقدر على تحديد الزمن الذي فيه يتكوّن الجنين في بطن أمه نفساً حية، فالكتاب يشير إلى بعض الأنبياء بأنهم امتلأوا بالروح القدس من بطون أمهاتهم. فقد قال الملاك لزكريا عن يوحنا المعمدان «ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس» (لو 1: 15) إن اليصابات أم يوحنا قالت للعذراء مريم عندما زارتها «فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني» (لو 1: 44) فارتكاضه دليل على أنه إنسان كامل التكوين روحاً وجسداً، ودليل على انفعاله بالبهجة، وكان عمره في أحشاء أمه يومئذ ستة أشهر فقط. من هنا نرى أن الإجهاض يعتبر قتلاً طالما كان الجنين مكتملاً وذا نفس حية([1])، ولا يجوز الإجهاض إلا في حالة تعرض الأم لخطر الموت بسبب وجود الجنين في أحشائها. وتقرير هذا الأمر نضعه بين أيدي الأطباء. أما السماح بالإجهاض في هذه الحالة، من الوجهة اللاهوتية، فيدخل في باب الدفاع عن النفس حيث أن الأم تدافع عن نفسها إزاء جنينها الذي انقلب وجوده في أحشائها إلى خطر يهدد حياتها، علماً بأنها إن لم تتخلص منه تعرضت وإياه للموت.

  • اتخاذ الكنيسة موقفاً إيجابياً:

وفي الختام لا بد من أن نشير إلى الدور الذي يجب على الكنيسة أن تمارسه في موضوع تنظيم دراسات دينية علمية وافية مستعينة بذوي الاختصاص كما فعل مجلس كنائس الشرق الأوسط في حلقته الدراسية هذه لكي تتخذ موقفاً إيجابياً صريحاً يريح ضمائر المؤمنين ويسعدهم في حياتهم الزوجية، كما تحتاج إلى حملة إعلامية مكثّفة هادفة، عن طريق الإذاعة والوعظ والكتابة والنشر، وإلى تعليم النشء وتبصيره بضرورة تنظيم الأسرة تحقيقاً لرفاهيتهم وشعوراً منهم بالمسؤولية إزاء المسالة السكانية في العالم.


([1]) ـ جاء في جريدة البعث الدمشقية الغراء 4/11/1997 ما يأتي:

«أكّدت دراسة أعدتها الكلية الملكية لأمراض النساء أن التطور العصبي للجنين لا يتيح له الإحساس بالألم قبل الأسبوع السادس والعشرين. وعليه أوصت الدراسة الأطباء بتخدير الجنين بعد الأسبوع الرابع والعشرين لدى إجراء عمليات إجهاض، مع الأخذ في الاعتبار ترك هامش الخطأ في تقدير عمره. ويعتبر عمر 24 أسبوعاً الحد الأقصى لإجراء عمليات الإجهاض في بريطانيا. أما الحالات التي تتعدى ذلك فهي لأجنة تعاني من تشوهات خلقية لا سيما في القلب. وتزامن نشر هذه الدراسة مع اقتراب الذكرى 30 للسماح بالإجهاض في بريطانيا التي شهدت في العام 1996 أكثر من 177 ألف عملية إجهاض بزيادة 8 % عن 1995، وهي أول زيادة تسجل بعد خمس سنوات من الانخفاض المستمر في عدد هذه العمليات.اهـ»

إذن، مما يزيد الطين بلة أن الجنين الذي بلغ عمره كما ذكرت المعلومة الأسبوع السادس والعشرين يشعر بالألم، فالإجهاض في تلك السن للطفل يكون قتل الطفل بعد تعذيبه، فيا للجريمة الشنعاء.