المدارس السريانية
ودور المترجمين السريان في نقل الفلسفة اليونانية
بقلم الأب الفاضل القس جوزيف شابو ـ حلب
كثيرة هي المصادر التي تناولت دور الفكر السرياني في بناء الحضارة المشرقية، وقد أسهب العلماء في الغرب بصورةٍ خاصة، بلغاتهم المختلفة في الحديث عن نشأة دور المراكز الفكرية لدى السريان، وقاموا بدراسات معمقة تناولت جوانب مهمة من هذا العطاء الفكري الذي أسهم في بناء حضارة منطقتنا، ولا سيما الحضارة العربية في عصرها الذهبي في القرون الثامن والتاسع والعاشر للميلاد. وأكَّد أولئك العلماء بأن الفكر السرياني ليس دخيلاً على آداب منطقتنا المشرقية، بل هو أدب أصيل نابعٌ من تراب هذه المنطقة وليس دينياً مسيحياً فحسب، وإنما مجالاته غطّت مساحات واسعة من صفحات الفكر والأدب والفن، وخاض أيضاً أبواب الفلسفة والعلوم على إثر نقل الفكري اليوناني القديم إلى اللغتين السريانية والعربية.
وكل الباحثين الكبار من أمثال: نولد كه، وموسكاني، وروزنثال، ورينان، وويلفنسون، وبروكلمان، وشابو وغيرهم أجمعوا على أن اللغة السريانية هي سامية، مَثَلُها مثل العربية، وأن التلاحم بين اللغتين الشقيقتين العربية والسريانية أدّى إلى تمتين أواصر الأخوّة بين الناطقين بهما، يقول البطريرك يعقوب الثالث عن العلاقة بينهما:
إنهما اللغتان العريقتان اللتان تفرعتا عن الدوحة السامية الكبرى لكي تظل الواحدة في معزل عن الأخرى دهراً طويلاً، ثم تصبُّ الواحدة في الأخرى فتلتقيان لتعيشا متعانقتين متآزرتين متقارضتين([1]).
وبنفس المعنى يقول المسعودي في مروج الذهب عند حديثه عن أهل نينوى: وكان أهل نينوى ممن سُمِّينا نبيطاً وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بانَ النبط عنهم بأحرف يسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة([2]).
وغنيُّ هو الأدب السرياني بصفحات العطاء الفكري فإلى جانب التعليم الديني واللاهوتي وشروحات الكتاب المقدس والقوانين والطقوس والموسيقى الكنسية، نرى فيه صفحات هامة في الخط، والصرف، والنحو، واللغة، والمعاجم، والفصاحة، والشعر، والتاريخ، والقصص، والفلسفة، والطب، والعلوم الطبيعية، والفُلُك، والهيئة، والجغرافيا، والرياضيات، والكيمياء. هذا بالإضافة إلى الترجمة من لغاتٍ أخرى إلى السريانية ومنها إلى العربية. كل هذه العطاءات أخذت شكلها في مراكز فكرية أُنشئت في مراحل مختلفة من الزمن، وقد شكلت هذه المراكز مدارس ضمّت عدداً كبيراً من طلاب المنطقة، وأصبحت ظاهرةً هامةً في تاريخ منطقتنا بشكل عام وتاريخ الفكر السرياني بشكل خاص، وكل مدرسةٍ أصبحت مركزاً من مراكز إشعاع فكري وثقافي وديني. وبعد عهد الانشقاقات في المسيحية، لعبت دوراً مهماً في إظهار حقيقة الإيمان المسيحي من خلال العقيدة التي تبنتها كلُّ مدرسة. وهنا برزت المعارك الفكرية التي خاضتها المدارس السريانية ضد خصومها، وفتحت صفحة جديدة من صفحات الجدل الذي مثّل التيارات المسيحية المختلفة، ودخلت هذه الصفحة في تراث الأدب السرياني الزاخر. ولعل أهم معالم هذه المدارس الفكرية هو الدور الذي قامت به من خلال حركة الترجمة والنقل التي بدأت على يد خالد بن معاوية، ومرّت في كل العصر الأموي، إلا أنها نشطت نشـاطاً واسعاً في أيام الرشيد والمأمون، وبهمتهما أنشئت المدارس والمكتبات ومراكز الثقافة وقلَّد الناس رؤساءهم فشاع حب العلم وأخذ الناس يقتنون الكتب ويقرؤونها. ويقول أحد علمائنا السريان وهو العلاّمة يوحنا ابن العبري (1286+) عن هذه المرحلة أن المأمون كان يحب العلماء والفلاسفة ويرعاهم ويأنس مجالستهم ومذاكرتهم([3]). وفي زمن أولئك الخلفاء، تمت ترجمة كتب أرسطو وأفلاطون والفلاسفة الآخرين، وكتب ابقراط وجالينوس الطبية، وكتب غيرهم من العلماء الرياضيين والفلكيين وحكماء اليونان والحكمة الفارسية والهندية.
هذه المراكز والمدارس الفكرية، لم تستأثر حتى الآن بدراسات الباحثين، وما كُتب عن بعض منها مازال يحتاج إلى عمـق في البحث، ليس فقط من حيث تاريخُ إنشائها وعددُ طلابها وزمنُ تأسيسها وإغلاقها، وإنما العودة إلى ما تركته من مآثر قلمية في مجالات فكرية متعددة تستحق الدراسة والكتابة عنها، لأنها حلقة من حلقات التواصل الفكري في منطقتنا. ربما من المفيد أيضاً أن نعود إلى عوامل نشأة هذه المدارس الفكرية وعلاقتها بالتيارات الفكرية التي سبقت المسيحية وهذا ربما يظهر بشكل خاص في الحديث عن المدرستين الإسكندرية والأنطاكية.
لا نستطيع في وقت قصير مثل هذا، أن نأتي على ذكر جميع مواطن التعليم التي هي بالتالي المدارس الفكرية أساس كل هذه العطاءات، لأن عددها يفوق المئة ولكل مدرسة نظامُها وخصوصيتُها وسـماتُها خاصة من حيث المنهج الفكري الذي سارت عليه.
وشكَّـل نهر الفرات، عند السريان، خطاً جغرافياً بارزاً. فالسريان المغاربة وكل ما لهم وعندهم من ثقافة وتراث ومدارس فكرية هم السريان الذين عاشوا غربي نهر الفرات، والسريان المشارقة هم السريان الذين عاشوا شرقي الفرات، ومواطن التعليم والمدارس الفكرية عند السريان عُرفت بنفس الصفة. هنالك مدارس سريانية شرقية، كما توجد مدارس سريانية غربية.
أما أشهر المدارس ما بين القرن الرابع والعاشر للميلاد فهي مدارس أنطاكية، والرها، ونصيبين، ومدرسة دير زوقنين، ومدرسة قرتمين، ومدرسة دير قنسرين، إزاء مدينة جرابلس اليوم، ومدرسة دير العامود بالقرب من رأس العين في الجزيـرة السورية، ومدرسة دير قرقفتا، بين رأس العين والحسكة اليوم، ودير مار حنانيا، وهو دير الزعفران، ومدرسة دير مار برصوم القريب من ملاطية، وقد اكتشف بعض الآثاريين مكان هذا الدير التاريخي المهم في مطلع العام 2004، ومدرسة أخرى في ولاية ملاطية عُرفت بمدرسة دير «ايليا ابن جاجي»، ومدرسة دير «البارد»، ومدرسة دير «سرجيسيا» أيضاً في أطراف ملاطية. ودير «أوسيبونا» القريب من قرية «تل عادة»، ودير «تلعدا» ويبعد بحدود (2 كم) عن دير «أوسيبونا»، ومدرسة «دير الجب الخارجي» ويقع بين حلب وسميساط، ومدرسة دير «مار زكا» بجوار مدينة الرقة، وكلها من المدارس الفكرية المهمة التي تركت أثراً كبيراً في موضوع التلاحم الحضاري بين الشعوب والأقوام التي عاشت في منطقتنا.
تتناول مداخلتي الأثر الذي تركه السريان في مسيرة الحضارة العربية لبلاد الشام، فإذا كنا نتحدث عن قراءة في تاريخ هذه المسيرة لا بد وأن نعطي كلَّ ذي حق حقه، إذا أسهم في بناء هذه الحضارة. ولا أريد أن أدخل في تفاصيل تحرك الشعوب والقبائل في المنطقة، أو أن استرسل في كل ما قامت هذه الشعوب التي عاشت جنباً إلى جنب وهي تتفاعل حضارياً، ولكل منها مساهمة فعّالة في بناء هذا الصرح الذي ندعوه الحضارة العربية. ولكي يكون كلامي واضحاً أكثر أشير إلى أن تسمية هذه الحضارة بـ«العربية» تصحُّ أكثر من أن يطلق عليها اسمٌ آخر، لأننا هكذا لا نجزئ حضارتنا التي كانت قبل نشوء الأديان في المنطقة، وتواصلت حتى بعد انتشارها. وهذه الشعوب والقبائل في كل الأحوال هي أجزاء حضارية صغيرة من مجتمع حضاري كبير.
إن إسهام السريان في مسيرة الحضارة العربية منها دور المترجمين السريان في نقل الفلسفة اليونانية إلى السريانية فالعربية مرت في مرحلتين:
المرحلة الأولى: قبل ظهور الإسلام وحتى عند فجر الإسلام.
والمرحلة الثانية: بعد نشوء الدولة الأموية. فالدور الذي لعبه السريان في الحياة الفكرية والعلمية في بلاد الشام في المرحلة الأولى، لا ينكره الباحثون والمؤرخون الثقاة، ورغم أن المسيحية كانت في حالة تنظيم ذاتها من الداخل، على أثر ظهور البدع والهرطقات التي بسببها انعقدت المجامع لمناقشة الآثار السلبية التي تركها أصحاب هذه البدع، ثم لوضع حد لها بسن قوانين وأنظمة ودستور للإيمان، وهذا ما حدث في المجامع الأربعة الأولى المنعقدة في نيقية (325م)، والقسطنطينية (381م)، وأفسس (431م)، وخلقيدونية (451م)، ورغم كل ذلك استطاع السريان أن يزرعوا في المنطقة مدارس فكرية متعددة تخرّج فيها عدد كبير من العلماء والأدباء. وبسبب ظهور البدع التفت المفكرون السريان إلى الفلسفة، وتعمّقوا فيها فكان لهم شأن كبير في المدرسة الرواقية التي أسسها زينون Zeno (335 ـ 264ق.م). والفلسفة بالنسبة للرواقيين هي: محبة الحكمة ومزاولتها، هي العلم بالأمور الإلهية والإنسانية والسعي وراء الفضيلة، والعلم ليس الغاية إنما الفضيلة التي نتوصل إليها بالعلم.
صحيح أن الرواقية ظهرت قبل الميلاد وازدهرت في العصر الروماني على يد سرياني هو بوزيدونيوس الأفامي Posidonios (153 ـ 51ق.م)، ولكن وصلت الرواقية إلى العرب والمسلمين عن طريق شرّاح ارسطو مثل: اسكندر الأفروديسي، ويحيى النحوي، ويرجّح عدد من الدارسين أن الديصانية التي كانت منتشرة في حران، ومؤسسها برديصان الرهاوي كانت السبيل في وصولها إلى العرب. وبرديصان الفيلسوف الذي ظهر في النصف الأخير من الجيل الثاني للميلاد في الرها، ترك بعلمه الواسع بصمةً في تاريخ الفكر النهريني، وتحديداً في الرها عاصمة الآداب السريانية في بلاد ما بين النهرين، رغم أن الكنيسة نبذته، فلقد أصبح أساساً للمدرسة الفكرية التي نشأت في مدينة الرها وأصبحت من أهم المراكز والمعاقل الأدبية مستقبلاً.
ومذهب الرواقيين ترك أثراً خطيراً ليس فقط في بلاد الشام، وإنما في كل العالم الإسلامي، ويكفي أن أشير هنا إلى كتاب الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، فالملاحظة التي تظهر في هذا الكتاب، تبيِّن بأن كثيراً من الخصال التي يتصف بها الحكيم والصفات التي ينسبها الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة هي قريبة جداً من صفات الحكيم الرواقي الحائز لجميع الفضائل.
والمدرسة الأخرى التي كان للسريان شأنٌ كبير في تطورها هي الأفلاطونية المُحدثة. وهنا أيضاً نذكر بأن هذا الفكر الجديد أسسه Plotinus أفلوطين، وكان مصرياً ولكن من زرع بذورها هو نومينيوس الأفامي Numenius of Apamea، الذي اشتهر في منتصف القرن الثاني للميلاد، وفورفوريوس Porphry وكان أيضاً من بلاد الشام. ونومينيوس هو صاحب كتاب: مذاهب أفلاطون السرية، وإذا كان نومينيوس قد وضع أسس الأفلاطونية المُحدثة فإن شارحها الأفضل أيضاً كان من السريان، ونعني به فورفوريوس الصوري توفي سنة (304م)، وهو صاحب كتاب: المدخل إلى المقولات، بل هو أول من وضع حجر الزاوية في الفلسفة العربية الإسلامية، والفلسفة الاسكولاستيكية، فقد أثار مشكلة الأجناس والأنواع وهل هي حقائق تقوم بنفسها خارج العقل؟. هذه المحاولات الفلسفية ذات الخط غير المسيحي، أدت إلى ظهور مدارس ذات اتجاهات فكرية ضمن الخط المسيحي، وباختصار شديد أقول بأن المدارس الفكرية التي ظهرت في كل من: قيصرية، وغزة، وبصرى اسكي شام، وبيروت، وأنطاكية، وحران، وقنسرين، والرها، قد لعبت دوراً مهماً في انتشار الفكر الفلسفي، ليس فقط في بلاد الشام بل في كل أنحاء العالم وقتئذٍ. على سبيل المثال لا الحصر سأتناول واحدة من هذه المدارس وهي: مدرسة أنطاكية التي تأسست سنة (290م)، وأفَلَ نجمها بحدود سنة (430م). فبعد أن أصبحت أنطاكية عاصمة الشرق القديمة نظراً لأهمية موقعها الطبيعي، ومركزها الجغرافي من جهة، وانتقال الرسل من أورشليم إليها وتأسيس الكرسي الأنطاكي فيها من جهة أخرى، أصبحت أنطاكية من أهم المراكز المسيحية يومئذٍ، وكان من الطبيعي أن تحتضن هذه المدينة مدرسةً تَجْمَعُ فيها عدداً كبيراً من طلاب العلم تنافس المدارس الأخرى، التي كانت معروفة في: أثينا، والاسكندرية، وطرسوس. فتأسست هذه المدرسة بفضل العالمين القسيسين لوقيانوس ودورثاووس، وانضم إليها عددٌ كبير من علماء المسيحيين منهم: أوسابيوس أبو التاريخ الكنسي، والقس آريوس وأوسطاثاوس أسقف أنطاكية.
وفي الحقبة الثانية وتبدأ من سنة (370م) ظهر ديودوروس ويوحنا الذهبي الفم وثاودوريطوس ونسطور وكثيرون غيرهم. وأهم ما امتازت به المدرسة التي كانت بمثابة جامعة أو مجمع علمي مقاومة الطريقة الرمزية التي انتشرت في مدرسة الإسكندرية. وفي كل الأحوال كان من أهم اهتمامات الفكر في هذه المدرسة هو التوفيق بين العقل والإيمان، أو العلم والدين.
وقد أسهمت هذه المدرسة بنشر الفكر في كل بلاد الشام، وهكذا الحال في بقية المدارس التي جمعت بين الفكر اليوناني قبل المسيحية، والآخر الذي اصطبغ بالمسيحية، وبعض هذه المدارس الفكرية أصبحت مراكز علمية مهمة مثلاً: مدينة حران القريبة من الرها وكان أهلها من عبدة النجوم، عاش فيها عدد كبير من الصابئة حتى في أيام المأمون الخليفة العباسي، وعرفت المدينة إلى جانب السريان من السكان الأصليين عدداً من المقدونيين واليونان والعرب، وتفاعلت ثقافات هذه الأمم مع بعضها بعضاً، وازدهر فيها الفكر حتى العصر العباسي، وكان لكتابات ثابت بن قرة، وسنان بن ثابت، وجابر بن حيان، الأثر الكبير الذي يُـقال إن بعض المعتزلة من إخوان الصفا، والفيلسوف الشهير الكندي، قد أُخذت من الفكر الحراني. وإلى جانب الفكر هنالك الأسلوب الإداري والتنظيم في هذه المدارس. فمدرسة نصيبين مثلاً عرفت نظاماً فريداً من نوعه، ودخلت قوانينها إلى بقية المدارس الفكرية. فكان في المدرسة رئيس يدعى ربان ربن Raban أي معلم، ومفسر مفشقونو مــفَشقُنُا، ومُقَرِّئ ومُهَجِّئ مقريونو ومهجينونو مقَريُنُا و مؤَجـــــيُنُا، ووظيفة المقرئ كانت أن يعلم الطلاب صناعة النحو والألحان الكنائسية، أما المهجئ فكان يعلم التهجئة والقراءة الفصيحة، والوكيل راب بيتو أي رب بيةا رئيس البيت. وفي قوانين المدرسة يأتي اسم سوفرو الكاتب سُفرا، والأخ المعروف آحا يديعا والمفتش بودوقو بُدٌوقُا، وكانت هناك أسس للانتساب إلى هذه المدرسة منها أن يوافق على قوانينها، وأن يلتزم بالسكنى في الأمكنة المخصصة للطلاب. وللطلاب زي خصوصي، وطريقة خاصة أيضاً لشعر رؤوسهم، هذا النظام كان له دور كبير في التربية المدرسية التي انتشرت في أكثر مدارس المنطقة.
وسيطول الشرح إذا تناولت كل مدرسةٍ من المدارس الفكرية المعروفة، ولهذا سأتناول مدرسة واحدة منها وهي: مدرسة قنسرين، وقد تأسست حوالي سنة (530م)، وأصبحت بعد القرن السابع للميلاد من أهم المراكز الفكرية عند السريان، واستطاع طلابها أن يخوضوا موضوعات مهمة أثرت كثيراً في المسيرة الفكرية التي هي جزء من الحضارة العربية لمنطقتنا.
ومن طلاب هذه المدرسة ساويرا سابوخت، الفيلسوف والعالم الرياضي الذي خاض في كتاباته العلوم الفلكية والطبيعية، فهو من طلاب هذه المدرسة، ثم من أساتذتها، وقد دلت كتاباته على باعه الطويل في العلوم، والفلسفة، والفلك والرياضيات، وهو الذي كتب في الأنالوطيقا أي تحليل القياس، وشرح بعض نقاط من كتاب: الفصاحة لارسطو، وله أيضاً شرح للعبارة، والحساب، والمساحة، والفلك، والموسيقى، ومقالة مهمة في الاصطرلاب، وفي صور البروج، وفي مسائل فلكية ورياضية، وكرونولوجية، وإلى جانب مؤلفاته تخّرج على يديه عدد كبير من التلامذة وبعضهم خدم الحضارة بعلمهم الواسع، وقد شهد المستشرق الألماني أنطون بومشترك على تفوقه في علم الفلك على اليونانيين أنفسهم ومن أشهر الذين ارتووا من منهله البطريرك مار أثناسيوس الثاني البلدي المتوفى سنة (686) الذي أخذ عنه كثيراً ونسج على منواله في العلوم الفلسفية، ومار يعقوب الرهاوي أحد علماء السريان السوريين وهو صاحب كتاب انشريدون المختصر في العبارات الفلسفية، الجوهر والذات والطبيعة والأقنوم والشخص وهذا العلاّمة ولد في نحو سنة (633م)، في قرية عين دابا ومعناها عين الذئب، القريبة من بلدة عفرين، ومازالت هذه القرية قائمة، وكانت قديماً تابعة لولاية أنطاكية، وفي ريعان شبابه توجه إلى دير قنسرين أي عش النسور، حيث تابع دراساته العالية على يد أساتذة الدير، وخاصة الفيلسوف والعالم مار ساويرا سابوخت. ولمار يعقوب الرهاوي فضل كبير على الأدب السرياني الذي هو جزء من هذا الفكر الذي نتحدث عنه، ولكي لا أتوسع في نتاجه الفكري نظراً لضيق الوقت، أشير إلى أن مار يعقوب الرهاوي يُعتبر أول مؤلف للنحو عند السريان، الذي من خلاله وضعت القواعد، والضوابط للغة السريانية، وإليه تنسب الحركات الخمس المعبر عنها بأحرف يونانية صغيرة وهي ( َ ُ ِ ٍ ٌ )، ويُقال إنه حاول إدخال أحرف جديدة على اللغة السريانية ولكن محاولته باءت بالفشل بعد موته. وربما إليه يُشير بعض المؤرخين العرب بقولهم: والغالب في ظننا أن أبا الأسود الدؤلي المتوفى سنة 688 ميلادية لم يضع النحو والتنقيط من ذات نفسه وإنشائه، وإنما يظن أنه ألمَّ بالسريانية أو اتصل بقساوستها وأحبارها فساعده ذلك على وضع ما وضع. ويؤسفنا أن نقول إنه وضع كتاباً في التاريخ من السنة العشرين لقسطنطين الملك وحتى سنة (692م)، ولكن لم يفضل منه سوى ست وأربعين صفحة. ولو كان في متناول اليد لبقي وثيقة هامة تتحدث عن الفتح الإسلامي لهذه البلاد، ولا سيما أنه كان شاهد عيان. ومؤلفاته كثيرة وهي تفسيرية للكتاب المقدس ولاهوتية وتاريخية ونحوية وقانونية وفلسفية. وكتاب الأيام الستة يعتبر أعظم كتاباته، ويعد أول محاولة عند السريان لوصف العالم وظواهره الطبيعية في إطار قصة الخليقة بحسب ما ورد في التوراة، يقع في سبعة أبواب وهي: في الخلقة الأولى العقلية وغير الجسدية للقوات السماوية الملائكية، في تكوين السماء والأرض وما فيهما وما معهما، في الأرض الظاهرة بفضل انحسارها عن المياه وظهورها يابسة بأمر اللّه لسكنى البشر، في الأنوار التي خلقها اللّه في فلك السماء، في الحيوانات والزحافات التي أمر اللّه أن تحركها المياه وفي الطيور التي أمر فخلقت هي الأخرى من طبيعة المياه، في البهائم والوحوش وكل زحافات الأرض، في الإنسان الذي خلقه اللّه على صورته ووضعه كعالم كبير وعجيب وسط هذا العالم الصغير. وفي الفصل السابع وقبل الحديث عن الدينونة فاجأ الموت مار يعقوب. وقد نشرنا هذا الكتاب في سلسلة التراث السرياني تحت رقم (4) باللغة العربية التي تصدر عن دار الرها بحلب (1990).
بعد أن تعرفنا إلى بعض مدارس السريان ودور الفلسفة اليونانية فيها نشير إلى أن المصنفات اليونانية التي نقلها علماء السريان إلى السريانية يصعب تحديد عددها، يقول في هذا المجال أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام: «كان في الأديار السريانية شيء كثير لا من الكتب المترجمة في الآداب النصرانية وحدها بل من الكتب المترجمة من مؤلفات أرسطو وجالينوس وأبقراط، لأن هؤلاء كانوا محور الدائرة العلمية في ذلك العصر، وكان السريان نقلة الثقافة اليونانية إلى الامبراطورية الفارسية». وهذا يعني أن العلماء السريان اهتموا بالفلسفة اليونانية وأدخلوها كمادة مهمة في مدارسهم وصفوة القول أنهم نقلوا إلى السريانية أمهات الكتب اليونانية في المنطق والفلسفة والطب والرياضيات والفلك وما إليها، مما فاضت به قرائح أفلاطون وأرسطو وبرفيريوس وأبقراط وجالينوس واقليدس وبطليموس وارشميدس. كما نقلوا العبارات الأدبية والمبادئ الصوفية والحِكم السياسية والاجتماعية المأثورة عن رجال الفيثاغورية والأفلاطونية الحديثة، ومؤلفات فيثاغورس وسقراط وبلوترخس، ونصائح الفيلسوفة تيانو، وحكم مناندرس وسكسطس، وأمثال أوزيب (لقمان) وأبولونيوس التياني([4]) وكتاب التاريخ لبرفيريوس([5]).
ولم يكتفِ السريان بنقل هذه العلوم الفلسفية إلى اللغة السريانية بل نقلوها إلى العربية فالفيلسوف حبيب أبو رائطة التكريتي (828م) كان له باع طويل في العلوم الفلسفية والمنطق وتشهد له بذلك مقالاته العربية التي تعتبر من أقدم النصوص العربية لأحد علمائنا السريان ولا غرو فإن العصر العباسي الأول يعد العصر الذهبي للإسلام وقد دام مئة عام من سنة (132 ـ 232هـ)، وكما يقول محمد لطفي جمعة (وكانت بغداد في ذلك العهد أشبه بباريس في عهد لويس الرابع عشر) فكانت قصور الخليفة آهلة بالعلماء والأطباء والسفراء، ومن أشهر الأطباء السريان في أيام العباسيين جورجيوس بن جبرائيل بن بختيشوع وتلميذه عيسى بن شهلاثا اللذان خدما المنصور في صدر خلافته عندما اختط بغداد، وتاوفيل بن توما ناقل الالياذة الذي أقامه المهدي بن منصور رئيساً على منجميه، وبختيشوع بن جورجيوس الذي جعله الرشيد رئيس الأطباء في بدء خلافته آثر ابنه جبرائيل الذي ذاع أمره، وأبو زكريا يوحنا بن ماسويه الذي ولاه الرشيد نفسه ترجمة الكتب الطبية القديمة، فخدمه ومن بعده إلى أيام المتوكل، وكان معظَّماً ببغداد، جليل القدر، وله تصانيف جليلة([6]). ويؤثر عنه أنه فتح أعظم مدرسة في بغداد حيث ازدحم الطلاب على أبوابها([7]).
وكان حنين بن اسحق الشهير ممن قرأ عليه. وكان يعقد مجلساً للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة([8]). أما سلمويه طبيب المعتصم فقد عاده المعتصم في مرضه وبكى عنده ولما مات امتنع عن الأكل في ذلك اليوم وحضر جنازته([9]). وبختيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل كانت له منزلة لطيفة عنده حتى أضافه([10]). وأما البطريرك الحكيم المؤرخ مار ديونيسيوس التلمحري (845+) فقد انتدبه المأمون إلى مهمة سياسية كبرى نظراً إلى مقدرته وسمو منزلته([11]).
ومن التراجمة السريان إلى العربية في هذه الفترة، يوحنا بن البطريق واسطيفان بن باسيل وقسطا بن لوقا وحنين وابنه اسحق واسطاث وعبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي وابراهيم بن بكوس وابنه علي([12]).
وأختم كلامي بذكر بعض علماء السريان الذين أصبحوا أساتذة للعلماء العرب فعلى سبيل المثال لا الحصر الراهبان السريانيان روبيل وبنيامين اللذان تصدرا للتعليم في بغداد حيث قرأ عليهما المنطق بشر بن متى بن يونس([13])، الذي قرأ أيضاً على الطبيب أبي يحيى المروزي السرياني([14])، وإليه انتهت رئاسة علماء المنطق في عصره، فجاء أبو نصر الفارابي يدرس عليه الفلسفة، ويتمرس على يد يوحنا بن حيلان بالمنطق، وكلاهما من علماء العصر البارزين([15]). فألمّ الفارابي بالسريانية([16])، وبرّز على أقرانه، وأظهر الغوامض المنطقية في كتب صحيحة العبارة، منبهة على ما أغفله الكندي من صناعة التحليل([17]) فقرأ عليه وعلى بشر ابن متى يحيى ابن عدي التكريتي السرياني نزيل بغداد، الذي انتهت إليه رئاسة أهل المنطق في زمانه، وكان أوحد دهره([18])، أخذ عنه في بغداد أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني المنطقي([19])، كما قرأ عليه الحكمة الشيخ أبو الخير الحسن بن سوار السرياني المعروف بابن الخمار، وكان من أفاضل المنطقيين، ووصل بالطب إلى أن قبّل له محمود الملك الأرض، وكان الملك محمود عظيماً جداً([20]). وعن ابن الخمار أخذ الفيلسوف الإمام العالم أبو الفرج عبد الله بن الطيب([21])، وأبو الفرج علي بن الحسين بن هند والذي ضرب في الآداب والعلوم بالسهام الفائزة([22]).
ومن أشهر نقلة الكتب الفلسفية والطبية من السريانية إلى العربية في القرن العاشر، الفلاسفة السريان البغداديون والتكريتيون، أبو زكريا دنحا الجَدِلُ النظّار (925م) ويحيى بن عدي الآنف الذكر (974+) وأبو علي عيسى بن زرعة (+1008) البغدادي، أحد المتقدمين في علوم
المنطق والفلسفة، وأبو الخير الحسن ابن الخمار، وإسحق بن زرعة (1056+)([23]).
([1]) ـ اغناطيوس يعقوب الثالث: البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية، دمشق 1969، ص 9. (والتقارض هو تبادل النظر أو الرأي وهو أن يثني كل فرد منهما على صاحبه والقوم تناشدوا الشعر).
([2]) ـ أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 1، دار الأندلس، ط 6، /1984/، ص238.
([3]) ـ المفريان ابن العبري: مختصر تاريخ الدول، طبعة بيروت، /1890/ ص 226.
([4]) ـ اللؤلؤ المنثور ص160 و161 والآداب السامية للابراشي ص70 و73
([5]) ـ الفهرست لابن نديم ص342
([6]) ـ تاريخ مختصر الدول ص227
([7]) ـ فيه ص 227 والآداب السريانية تأليف روبنس دوفال ص272 و286
([8]) ـ مختصر الدول ص 227 و250
([11]) ـ التاريخ الكنسي لابن العبري مج 1 ص 373
([12]) ـ الفهرست لابن النديم ص 348-352 وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة 244 ومختصر الدول ص 239
([14]) ـ الفهرست لابن النديم ص 369
([15]) ـ فيه وفي مختصر الدول ص 295 ومعالم الفكر العربي للدكتور كمال اليازجي ص 178
([16]) ـ معالم الفكر العربي ص 178
([17]) ـ طبقات الأمم الصاعد ص 84. ومختصر الدول ص296
([18]) ـ الفهرست ص 369 ومختصر الدول ص 297
([20]) ـ فيه 321:2 والفهرست ص 370
([23]) ـ طبقات الأطباء 322:2 والفهرست ص349 و350 و369 ـ 370 ومختصر الدول ص 93 و297 واللؤلؤ المنثور ص 356 و358 و359 و362 و365.