اللآلئ المنثورة في الأقوال المأثورة الجزء الثاني

اللآلئ المنثورة

في الأقوال المأثورة

الجزء الثاني

 

ܒܖ̈ܘܠܐ ܒܕܝܖ̈ܐ ܒܡܓܒܝ̈ܐ ܕܡܐܡܖ̈ܐ

ܡܢܳܬܐ ܬܪܝܢܝܬܐ

وهي منتخبات من الأدب السرياني

انتخبها ونقلها من السريانية إلى العربية

إغناطيوس يعقوب الثالث

عضو مجمع اللغة العربية في دمشق

نشرت تباعاً في المجلة البطريركية – دمشق

1976

 

 

 

من حكم الفيلسوف الموسيقار برديصان

في الحرية

في الحرية الذاتية

من أقوال نبي السريان مار افرام

في عدالة الله ونعمته

في قوة الله

في رحمة الله وعدالته

في الحرية

في الحرية

في الحرية

في حرية الإنسان

في حرية الانسان

في تصرفات الانسان

في سلوك المؤمن

في المسامحة

في المسامحة

في محبة القريب

في أنّ الكفاح هو علّة الإكليل

في البتولية

في التجارب

من أقوال إكليل الملافنة مار يعقوب السروجي

في رحمة الله ونعمته

في وجوب الافتخار بالرب وحده

في أنّ الله لا يغضب

في ثروات الله

في شروط الحظوة بملكوت الله

1 – في مطالعة الأسفار الإلهية

2 – في مطالعة الأسفار الالهية

في الدرس الذي تلقّنه آدم

في السيد المسيح والشعب اليهودي الكنود

في النصح

في الكنز المخفيّ

في أنّ غنى العالم فقر

في ان الألباء أحسّوا بالثراء الحقيقي

في أنّ الذهب والفضّة ليسا بثراء

في أنّ المال وقرٌ لقانيه

في العالم

في أنّ العالم يشبه العشب والزهر والظل

في الاهتمام بأمورٍ لا طائل فيها

في بطلان الافتخار

في القربان المقدس

في الصدقة

في حرية من يختاره الله

من أقوال الملفان مار شمعون الفخاري المعروف بالقوقاي

من أناشيد مار شمعون الفخاري

في عبادة الله والصوم والصدقات

من أقوال بعض الملافنة

في الكنيسةِ

 

 

 

 

 

من حكم الفيلسوف الموسيقار برديصان

(222+)

 

في الحرية

 

ورُبّ قائل، إن الأراذل أيضًا يشعرون بالارتياح حين يأتون أفعالاً دنسة، فنقول:  إنّهم لا يشعرون بالارتياح لا حين يأتونها ولا حين يُـمدَحون. بل إنّهم لايأتونها على رجاءٍ صالح. كيف لا وإنّ اللذّة نفسها لا تدوم لديهم. ذلك بأن اللذة التي تحصل بالصحة على رجاءٍ صالحٍ هي شيء، واللذّة التي تحصل بالمرض وعلى رجاء طالح شيء آخر. كما أنّ الشهوة شيء والحبّ شيءٌ آخر. والصداقة شيء والرفقة شيء آخر. ومن السهل أن نفهم أنّ زيف الحب يدعى شهوة. وهذه ولئن تخلّلتها لذّةٌ وقتية، ألا أنّها بعيدة جدًّا عن الحب الحقيقي الذي لذّته أبدًا لا تزول ولا تحول.

 

 

في الحرية الذاتية

 

… واذ قال عويدا: لِـمَ لَم يصنعنا الله ألا نُخطئ ونُشجَب؟

أجاب برديصان قائلاً:

لو صُنِع الإنسان هكذا، لما كان لنفسه بل آلةَ من يُـحرّكه. والأمرُ واضح، إنّ الذي يحرّك أيضًا كيفما شاء، إنّما يحرّكه إمّا للخير أو للشرّ. فَبِمَ إذاً كان الانسان ليتميّز من الكنّارة التي يعزف عليها آخر، أو من المركبة التي يقودها الغير؟ كيف لا وإنّ المدح والقدح يحقّان للصانع. فلا الكنّارة تعرف ما يُعزَف عليها، ولا المركبة إذا كانت تُجرّ وتُقاد جيّدًا أم لا، لكنّهما آلتان صُنِعتا لاستعمال من فيه المعرفة.

فالله بلطفه، لم يرَ أن يصنع الانسان هكذا، لكنّه ميّزه بالحرية عن أشياء كثيرة، وساواه بالملائكة.

تأمّلوا الشمس والقمر والفلك والأشياء الأخرى – التي هي أعظم منّا بشيء – كيف أنّها لم تُعطَ الحريّة الذاتية، بل كلّها مرتبطة بالأمر، أي أن تعمل فقط ما أُمِرَتْ بعمله لا غير.

 

 

من أقوال نبي السريان مار افرام

(373+)

في عدالة الله ونعمته

مُحاسبة العدالة من يقوى على احتمالها

فإنّها تحاسب حتى على غمز العينين

بل لا يفوتها أو يُفلت منها ولا نظر عينيك

هلمّ اسمعوا وارهبوا يا رفاقي، إنّه لَمُنجَزٌ ومهيَّأٌ أمامها كل شيء

أي كيف سمعت الأذنان، كيف رأت العينان

ماذا فعلت اليدان، وأين خطت الرجلان

إنّ العدالة لا تسهو عن شيء في محاسبتها

فإنْ فاتها شيء، دلّ على أنّها ناقصة

ولكنّها كاملة في كل شيء، بحيث أنّها لا تسهو عن شيء

وكذلك النعمة أيضًا، إن فاقها إثمنا،

دلّ على أنّ حنانها ناقص، إذ عجزتْ عن أن تغفر

ولكنّها بالحقيقة أعظم من الكل، إذ تغفر الكل

هلمّ اسمعوا وتشجّعوا. فمع أنّ محاسبة العدالة صارمة،

إلا أنّه إذا تاب أحدٌ، نقطةٌ واحدة من الرحمة تمحو صكّ آثامه

هلم اسمعوا وافزعوا. فمع أنّ بحر النعمة مملوء رحمة، إلا أنّ الذي لا يتوب، لن يُقطِرَ له أحد رأفةً في يوم الدين.

تعجّبوا من العدالة وادهشوا من النعمة

فإنّهما قاسيتان وليّنتان، وهادئتان وشديدتان

إنّهما قاسيتان على الوقِحين وهادئتان للتائبين.

 

 

في قوة الله

إنّ الله الذي هبط على جبل سيناء إنّما بالقوة المنبثقة منه حمله الجبل

ذلك أنّ الجبل كان قد ذاب امامه فشدّدتْهُ قوّةُ خالقه.

حقًّا إنّ الخلائق لتستطيع أن تسبح الخالق، بذات القوّة المنبثقة منه.

فالسماوات مثلاً، بقوته تحمل مجده.

كيف لا وهو الّذي يحملها ولِذا فهي حاملة إياه.

هو الّذي منح الكروبيم أيضًا قوّةً لذلك حملته المركبة (مركبتهم) لرفده إيّاها بالقوّة.

لقد حلّ أيضًا في القدس (الهيكل)، إذ شاءت رحمته أن يوافي إلى هناك لمن يطلبه.

أجل، إنّه حلّ في القدس، لئلاّ يتحيّر طالبه، في حين أنّه (حالٌّ) في الجميع.

إنّ الغَمام الّذي حلّ فيه، منه أصاب القوّة الّتي مكّنَتْهُ من أن يصير له خدرًا

بل إنّ الرّسل الصيادين أنفسهم من زُيوتِه استطاعوا أن يرسموا شكل أسراره.

 

 

 

في رحمة الله وعدالته

إنّ مجد اللّبيب، هو في عدم إذنابه،

رغم إحساسه بوجود الرحمة الّتي ستقف شفيعةً في ذنبه

فمع أنّ هنالك رجاءٌ، فهو بالنسبة إليه شبه يأسٍ.

فتى أبصرَ الرحمة، فمضى يُكثِرُ من ارتكاب الذنوب،

ولأنّه رأى أن هنالك دواءً يشفيه مجّانًا

لم يُشفِقْ على جسده ليُلطِّخَهُ بالْـحُبُرِ (بالجروح).

المجد لمن أعلن للمتمرّدين أمرين

هما الرّحمة الليّنة والعقوبات الصارمة

حتّى إذا تمرّد أحدٌ اغترارًا منه بالرحمة، رُدِعَ بالتهديد

إنه حَـمَلَ البشريّة، وجعلها في ميزانِهِ

فحيثُ غرقتْ، انتشلها بنعمته،

وحيث شالت، أصلَحَها بعدله.

فلترتعد البشريةُ من العدالة،

فتلك ثَغرُها مفتوح، أمّا هذه فقلمها حاذق.

تلك تخطئ في كلِّ آنٍ، أمّا هذه فتسجّلُ في كل آن.

إنّه لأمرٌ يدعو إلى الدهشة والتوجّع! إذ من حيث لا يشعر المرء،

يقف دومًا إلى جانبه كاتبٌ خفيٌّ

يسجّل أقوالَه وأفعاله ليوم الدين.

 

 

 

 

في الحرية

ربوةٌ من انفخاخ، لم تستطع أن تصطاد أيوب الذي قهر مجرّبَهُ

فقد ولول صيّادُ الكثيرين (إبليس) حين قُهرِتْ غلبتُهُ بواحدٍ وهنا العجب.

إذ صار المال كورًا لقانيه.

فبالأموال الفانية أضحى هو (أيّوب) أبديًّا.

أجل، إنه فقد أموالاً ولكنّه وجد أمجادًا.

فخُذْ يا ربّ الأموال وهَبْنا الأمجاد.

أمّا اليوم فيتباهى ذلك الصياد الذي خجل من واحد

لأنّه يصطادنا بفخاخٍ أليمةٍ ونحن فرحون

فما أشدّ عمانا!

فإنّ الفخّ قاتِلَنا صار تعزيةً لنا

وإذا حاول أحدٌ إنقاذَنا منه،

حَسَسْنا وكأنّ الخروجَ من الفخ ألمٌ شديدٌ لنا.

وهكذا فقد استبدَلْنا خِدرَ الابنِ بالفخ.

* * *

إنّ الأفعال الرديئة لأشدّ مرارةً من فخاخِ المالِ والكبرياء والشهوة والطمع.

للهِ مِنْ وُثُقٍ حلوةٍ ومُرّةٍ

فمن كُبِّلَ بها، يُفرِّحُه ويُريحه ألَـمُ المكبِّلِ

وبالعكس يُؤلِمُهُ ويحزنه حلُّ هذه الوُثُق.

يا الله، إنّ حريَّتَنا تتضايق في حلِّ قيودنا

إنّه لأمرٌ عظيمٌ أحبّاءَنا، أن يَطيبَ لنا موتُنا.

 

 

 

 

في الحرية

إنّ جميع الناس واقعون في جهادٍ.

فمن كان منهم مجتنبًا الغضب، كان مرتبكًا في الطمع.

ومن كان مفطومًا عن الكبرياء، كان متعبّدًا للمال.

فمن تغلّبَ على العثار الواقع فيه، استطاع هو ذاته أن يوبّخ من تراخى.

بل لو شاء للَجَمَ لهُ أعضاءَهُ أيضًا.

إنّ مُـختَبَرَ (كور) الخاطىء، يودَعُ فيه زيفٌ

ففي حين أنّه دنِسٌ بمشيئتِهِ، إذا به يُنحي باللاّئمة على خالقه.

بَيْدَ أنّ الندامة الكامنة فيه، تكفي لتقريعه.

فإذا كان طبعُه رذيلاً، فكيف إذن تكمن فيه الندامة الحسناء، وبها يحسن الأراذل؟

فالحسن إذن الكامِنُ فيه، يُكذِّبُ رذالته.

حين يذوقُ أحدٌ (ماءَ) البحر بطرف خنصره،

يُدركُ أنّ كلَّه مرٌّ مهما ترامتْ أطرافُهُ.

وعلى هذا المنوال، يمكن أن يُختبَرَ في إنسانٍ واحدٍ جميعُ الناس.

لا تتعنَّ لتخْتَبِرْ جميعَ الناس، لمعرفة ما إذا كان في استطاعتهم قهرُ الشرّير في الجهاد أم لا.

فإن استطاعَ واحدٌ منهم قهره، استطاع كلّهم قهره.

 

 

 

في الحرية

إنّنا قساةٌ بعضنا على بعضٍ، دون هوادةٍ.

فمن عَظُمَ منّا حسدْناه، ومن هوى هلَّلْنا له.

ومع أنّ حياتنا قصيرةٌ، فإنّ آثامنا طويلة!

إنّ طبيعة حريتنا، هي واحدة في جميع الناس.

فإن كانت قوّتها ضعيفةٌ في أحدٍ ما، كانت كذلك ضعيفة في كل أحدٍ.

وإن كانتْ قويةً في أحدٍ ما، كانت كذلك في كلّ أحد.

إنّ طبعَ الحلاوة، هو حلوٌ لمن كان سليمًا، بَيدَ أنّه مرٌّ لِمَن كان سقيمًا.

وكذلك الحرية أيضًا فهي سقيمة للخطأة، وصحيحة للصدّيقين.

فحين يختبرُ أحدٌ طعمَ (طبعِ) الحلاوة، فإنّه لا يختبره بفمِ السّقام.

ذلك أنّ الفمَ السليم وحده، هو كورٌ لاختبار الطعوم.

وكذلك حين يختبرُ أحدٌ قوةَ الحرية

فإنّها لا تُختبر في الأدناس السقام في الرذائل،

بل ليكن الطاهر السليم كورًا لاختبارها.

فحين يقول لك المريض إنّ طعمَ الحلاوةِ مرٌّ، تبيّنْ كم اشتدّ مرضه.

إذ ظَلَمَ الحلاوةَ معينَ اللذّاتِ.

وكذلك حين يقولُ لك الدنس، إنّ قوةَ الحريةِ ضعيفةٌ، تبيّنْ كم اشتدّ يأسُه،

إذ أفقَرَ الحريةَ كنزَ البشرية.

 

 

 

 

في حرية الإنسان

فإذا تحرّك أيضًا (صاحبُكَ) ليسأل عمّا إذا كانت هنالك حريّة أم لا، فالجواب نفسه الذي أُعطيتَ أنتَ سيُعطى هو.

أي أنّه يجب أن يفهم من نفس سؤاله أنّه يملك السلطة الذاتية في طبعه،

فالقضيّتان اللّتان بُحثتا هنا، تتضمّنان خلاصَةَ الأقوال.

أي إذا كان لك سلطانٌ أن تسأل، فلستَ أيضًا بحاجةٍ إلى السؤال.

أما إذا كُنتَ عديم السؤال، فأنتَ عديمُ الحرية كذلك.

ذلك أنّ الكائنَ المقيّدَ لا يسألُ، فالسؤال إنّـما هو لمن كان طليقًا.

أما الكائن الطليق فيسألُ، لأنّ إرادتَهُ حرّةٌ.

أقدّم لك برهانًا من الجانبين وعلى الجانيبين

لكي بالأمور التي هي سهلةٌ بالنسبة اليك، تنقادُ لك الصعبة.

إنّ الأبكمَ لا يستطيع ان يسأل، لأنّ لسانَهُ معتقلٌ.

أمّا الناطق فيستطيع أن يسأل، لأنّ لسانه طلق.

فبالأبكم المعتقل إذًا تبيَّنْ ماهيّةَ الكائنِ المقيّد

وبالناطق الطلق فمه، تعلَّمْ ماهيةَ الحرية.

فكما أنّ كلمةَ الفم طليقةٌ، هكذا والحرية طليقة.

وكما أنّ لسانَ الأبكم معتقلٌ، كذلك والكائن المقيد.

فلا لذاك كلمةُ الفم، ولا لهذا حرية.

دَعْ جانبًا ما ذكرتُهُ لَكَ، واختبِرْ الحريةَ في ذاتك.

جرِّبْ في ذاتِكَ سلطانَ نفسِكَ، وانظُرْ إذا كان لك هذا السلطان أم لا، فمنكَ وفيكَ تستطيعُ أن تتعلّم عن الحرية.

 

 

 

 

في حرية الانسان

إذا كانت خلقتُنا رديئةً، فالملامة إنّما هي على الخالق.

أمّا إذا كانت حريّتُنا رذيلةً، فالملامة تقع على عاتقنا.

إذا كنّا عديمي الحرية، فلِمَ إذن تُحاسَبُ إردتُنا؟

أجل، إذا كانتْ الحريةُ مفقودةً فينا فقد دانها ظلمًا،

وإنْ هي موجودةٌ فقد حاسَبَها بالحقّ.

فما بين المحاسبة والحرية، ترتبط الشريعة بكليهما.

ذلك أنّ محاسبة الحرية إنّما هي لتجاوزها تحديد الديّان.

فماذا تُرى ينتفعُ الخالقُ الصادقُ بخدعِهِ إيّانا،

إذ أعطانا الشريعة في حين أنّه لم يعطِنا الحرية؟

فلو أنّه لم يعطناها، لَـحقَّ لنا أن نسأله لِـمَ لَـم يعطها

بل لو أنّ الحرية مفقودة فينا، لَـحقَّ لنا أن نقول فقط إنّه لم يعطناها

ذلك أنّ الأسئلة والمباحثات، إنّـما تتولّد من الحرية.

أجل، إنّ الحوار وأخاه الاستقصاء، هما ابنا الحرية.

فقبل أن نبرهن، اتّضحَ لنا أنّ الحوار هو وليد الحرية.

فلا معنى بعد هذا للتساؤل إذا كانت هناك حريّة أم لا.

فإذا تساءَلْتَ، اعترفتَ بوجودِ الحرية.

تُرى من الذي يسألك، أهي إرادتُكَ أم قوّة أخرى؟

 

 

 

 

في تصرفات الانسان

زِدْنا يا ربّ فهمًا لأنّ فهمَنا قد خنقتْهُ الآثام.

فقد جبلتنا يارب من التراب، ولذا فبالتراب يهذّ قلبنا.

فمهما غسلْتَ جسدَنا من الطين، فإنّه الى الحمأة يُغذّ (يُسرع).

ومهما سموتَ بقلبِنا نحو الملائك، فإنّه الى العمق، إلى الفخاخ، يسرع في الهبوط.

فاخلُقْنا ربي من جديد آنيةً لتسبيحِكَ.

* * *

لقد شطر الشرّير ألفتَنا،

إذ لم يكن ليقوى على وحدتنا، فقد ألقى بيننا ما هو خاصّ به (الانقسام).

فأوقعنا من ثمّ بعضنا ببعض.

هذا هو الذي احتال فألقى بيننا، حسدًا مُعكِّرَ صفوَ كُلِّ شيء، ومن لا يكتئب؟

إذ أنّ مُعكِّرَ صفوِنا هادئ، أمّا نحن فقد اشتبكنا في الحرب مع نسيبنا.

أجل، لقد تَرَكْنا قاتِلَنا، وَضرَبْنا أعضاءَنا.

هوذا مُعكِّرُ صَفوِنا صافٍ، أما فكرُنا فمضطربٌ.

 

 

 

 

في سلوك المؤمن

صالِـحـْهُ (اي الله) في المتخاصِمين، فرِّحْهُ في المكتئبين.

عُدْهُ من خلال المرضى، قُتْهُ في الجياع.

اُدعُهُ ومَتِّعْهُ، قَبِّلْهُ وَاصرفْهُ.

افرِشْ لَهُ ليِّنًا، عَن طريقِ ضيفٍ تَعِبٍ.

اِغسِلْ رجلَيهِ. أتكِئْهُ في صَدرِ سريرِكَ.

اكسِرْ خبزَكَ وأعطِهِ، وأمسِكْ كأسَكَ أمامه.

فإنّ له عليك مِنَّةً أعظمَ من هذه.

فقد صبَّ ماءً وقدّسَهُ، وغسل به إثْـمَكَ

وكسر لَكَ جسدَهُ، ومزج دمَهُ وأعطاكَ.

فلو طالَتْ حياتُكَ، يا جاهل، ربوةً مِنَ السنين

لن تستطيعَ أن توفِيَهُ ولو واحدةً من هذه الامور.

فمهما تعبتَ وأجهدْتَ نفسَك، فإنّكَ ستكون مقصِّرًا.

الحمدُ لِمَن وَعدَ بما هو أعظم من هذا

وهو أنّكَ إذا كنتَ ساهرًا، وجاءَ ووجدَكَ هكذا

فإنّه سيُتْكِئُكَ برأس غلمانه ويقف هو ويخدمُك.

فاترِكوا إذن أيُّها الضعفاء، أعمالَ الفحشاء،

الّتي تسبِّبُ انكسارَ القلب، وتُكسِبُ اسمًا عاطِلاً

في حين أنّ الآب صرخ مناديًا: هلمّوا وكونوا سماويّين.

 

 

 

 

 

في المسامحة

إنّ ربوبيّتَكَ لأحكمُ منّا نحن البشر

فقد أحضرتَ خصومَنا إلى النعمة، حتّى إذا استغفَرْنا، غَفَرْنا أوّلاً كي يُغفَرَ لنا

إنّ جلالَك لحاذقٌ، إذ وضع إضبارَةَ (سجلّ) ذنوبِنا لدى العدالة

حتّى إذا مضى أحدٌ يتظلّم كي يُقتصَّ له من خصمه، اقتُصَّ منه أوّلاً ثمّ له.

دخلَ أحدٌ يستغفرُ فأرسلوه إلى النعمة حيث خصومه،

ولكن إن دخلَ يتظلّمَ أرسلوه إلى العدالة حيث رهائنُهُ.

أجل، دخل يستغفرُ فأدخلوه إلى النعمة حيث خصومه وذلك كي يُسامح ويُسامحوه.

فبالشيء ذاته الذي فكّ به نفسه، فكَّ خصومَه أيضًا.

وعلى هذا المنوال دخل أحدٌ للتظلّم فأرسلوه إلى العدالة حيث رهائنُهُ.

من هنا إحراجٌ له في كلا الأمرين:

فإنْ قرَّفَ خصمَهُ، قرّفوه بذنوبه.

هكذا يدخل مع الشخص عدوُّه أيضًا في طلباته،

بل إنّ نصفَ ما يطلبه هناك (في الصلاة) هو لقريبه.

حقًّا إنّه يصلّي من أجل قريبه في الوقت الذي يصلّي فيه من أجل نفسه.

 

 

 

في المسامحة

إذا كنتَ يا هذا توبّخُ قريبَكَ الذي أذنب اليكَ

فستُتَّهَمُ أنت أيضًا بنفس الشيء الّذي أذنبَ به اليكَ.

فبإمكانِكَ إذن ألا  تُذنبَ إلى قريبك ولا إلى إلهك.

إنّ لساننا كمشيئتنا، يغيّرُ ألفاظَهُ

فإذا زلَّ وأذنَبَ، تذرّعَ بالضعف.

ولكن إن زلّ قريبُه، نطق بالأهوال.

فإذا أصغيت إلى صلاته، لألفَيْتَها منطويةً على نقيضَين:

فهو يبيّنُ من جهةٍ أنّ قوّتَهُ ضعيفة، ومن الجهة الأخرى أنّ قريبَهُ قويٌّ.

وهكذا فإنّه يصلّي من أجل ذنوبه، وفي الوقت نفسه يتظلّم من غريمه.

ولنفرضْ أنّه راعى أحد هذين النقيضين،

فإن راعى الضعف، صلّى من أجل قريبه،

وإن راعى الزهو، أجّج ديّانَه.

بل إن راعى أحدٌ أحدَ هذين الأمرين،

كان الأمرُ مُشاعًا بينه وبين غريمه.

فالضعف مثلاً مُشاعٌ وكذلك القوّة أيضًا

وهكذا يَضطرُّ اعوجاجُنا أن يستقيم.

فإذا طلبَ أحدٌ (في الصلاة)، الغافر، كان ذلك من أجل قريبه،

وإذا دعا المنتقم (المعاقِب)، صار له خصمًا.

 

 

 

 

في محبة القريب

إنّ الصالح (الله) رَبَطَ الإعانات بعضها ببعض،

حتى إذا طلب المرءُ خيرًا، طلبَهُ لرفيقه أيضًا.

وإذا التمس صَرْفَ شرٍّ عنه، التمس كذلك صَرْفَهُ عن صاحبه.

إنّك إذا صلّيتَ من أجل صاحبِكَ، فتكون قد صلّيتَ أيضًا من أجل نفسِكَ.

ولكنّكَ إذا صلّيتَ من أجل نفسِكَ، فقد أضعفْتَ طلبتَكَ.

فإذا بيّنْتَ أن قد أُذنِبَ إليكَ، فقد دللتَ بذلك على أنّكَ مُذنب.

تَقِفُ خارجَ الباب، الصلواتُ التي لم تَسْتَصْحِبْ عند تَصاعدِها، المحبّةُ التي تفتحُ البابَ أمامَها.

أجل، تقفُ عند فم المصلّي، الصلاةُ التي لم تحجز أجنحة الى العلاء.

فهو يظنُّ أنّها حلَّقَتْ، ولم يشعرْ بأنّها ظَلَّتْ.

قَدِّمْ مع قربانِكَ مِلحًا كما هو مكتوب، وليكن الملحَ لذبائحك، محبَّةُ ربِّنا.

فإنّ الذبيحةَ غير الْمُمَلَّحة بمحبَّتِهِ، مرذولةٌ.

فإن كُنْتَ غاضبًا على صاحبِكَ، فإنّكَ إنّما على ربِّكَ غاضبٌ.

وإن صالَـحْتَ صاحبَكَ تحتُ (على الارض)، فقد صالحْتَ ربَّكَ في العلى.

وإن كان صاحِبُكَ مشكوًّا منك، فربُّكَ هو الْمَشكوُّ منكَ.

 

 

في أنّ الكفاح هو علّة الإكليل

إنّ الحربَ تُنشئ النصرَ، والكفاحُ هو علّة الإكليل.

بل من الجهادِ تُعرَفُ بسالة الشجعان.

فكلّما لا تكونُ الحربُ قائمةً، لا يكون هنالك نصرٌ أيضًا.

وكلّما النضالُ ساكنٌ، لا يُعرَف الأبطال!

ذلك أنّ الإنسانَ يحارِبُ أوّلاً ثمّ ينتصر، وينتصرُ أوّلاً ثم يشتهِرُ.

فكيف إذًا يندحِرُ أو ينتصر، مَن لا يُـحارِب؟

أجل، في فتنة الملوك تُعلَن بسالةُ القوّاد

وفي القتال الشاجر بينهم، يشتهر ذوو البأس.

فإذا ما أمطروا السهام في الحرب، بَعُدَ صوتُ الرماة.

ومتى سبحت السيوف في الدم، ظهرَ البواسل.

متى هبَّ فريقٌ على صاحبه، عُرِفَ من هو الأقوى.

ومتى اشتبك الفرقاء في حربٍ، انخذلَ الأضعفُ.

حقًّا إنّ الحربَ تسبّبُ فائدة للظافر،

والجهاد الذي تجبَّرَ فيه، يخلَعُ عليه اسمًا صالِـحًا.

إنّ الجبّار الذي لا يحارب، تُفضَّلُ عليه المرأة

إذ ما معنى لجبروته، إن كان لا يتمرّس بالحرب؟

 

 

في البتولية

أيّها الجسد، اخلع الانسانَ العتيق الكليَّ السماجة،

فقد يُبلي من جديدٍ الجدَّةَ التي اعتمدتَ فلبسْتَها.

فإنّ عقابَه لأليم. ذلك أنّه إن تجدّد انقلب ليُبلِيَكَ.

فاسمعْ إذًا مشورتي أيها الجسد، واخلَعْهُ بالفعل لئلاّ يلبسك ذاتَه بالعبادة.

ها إنّ ربَّنا قد جدّدَ عتقَكَ بالمعمودية.

أجل، إنّ الجسد الحي قد جَبَلَ بدمه وخلقَ له مقصورةً لسكناه.

فلا تُسكِّنَنَّ إذًا بدلاً منه ذلك الإنسان العتيق في المقصورة التي جدّدها.

أيّها الجسد، إن كُنتَ تُـحِلُّ الله في مقصورتك،

فسَتُضحي أنت أيضًا هيكلاً لِملكوته.

هوذا الكتابُ الذي يعلِّمُ والطبيعة التي تنادي يوبّخان الإنسان.

فقد وضع إثمَه بين الاثنين. فإن أخطأ بلا ناموس، وبَّختْهُ الطبيعة، وإن أخطأ بالناموس، قرّعَهُ الكتابُ.

فالشيطانُ يضرب أمّا هما فيشفيان. وفي أعقابِ ارتكابِ الإثمِ، تندسُّ ندامةُ النفس.

لقد تغفَّلَ الضعفاءَ وصدّهم عن الزواج باسم الرهبنة. فلمّا صاروا إلى منتصف الطريق، تركوا وراءهم خجلَ المعثرة ووضعوا أمامهم الْـجَمالَ الذي هو فخّ الشهوة السمجة.

وإذ يخجلون من الرجوع إلى حالة الزواج، يهوون في فخاخ الخطيئة.

 

 

 

 

في التجارب

أيها اللّبيبُ اقتَدِ بأيّوب الّذي ظفر في الشدة.

ولا تغمُّكَ التجارب، لأنّها ستوصلك الى الخير (النفع).

فكلّ تجربةٍ تُبتلى بها، احتملْها بهدوءٍ دون تذمّرٍ.

فإنْ تجلَّدْتَ على البلوى، انطبعتْ صورتُكَ في أيّوب.

فإذا جُرِّبْتَ من الشرير، أصبْتَ شرفًا إذا ما ظَفِرْتَ به.

بل فُزْتَ بالثّراء كما جرى لأيّوب المظفَّر.

وإذا جُرِّبْتَ من ربِّكَ، تحقّقَ لك أحد الأمرين:

فإما أنّك ستتشدّد لأنّك تراخيتَ، أو تتمجّدُ لأنّك صِرتَ كاملاً.

فالله لا لأنّهُ أبغض أيّوب، أهملَهُ في يدَيْ الشيطان،

ولا لأنّه مقتَ إبراهيم، جرّبَهُ بوحيده.

فكلا حبيبَـيْ الله أثريا واشتهرا بواسطة التجارب.

فقد جُرِّبَ الواحدُ من ربِّهِ والآخرُ من الشيطان.

أجل، إنّ الربَّ جرَّبَ إبراهيم لا ليتفهّم رأيه بل ليعلِنَ للأجيال اللاحقة مدى حبِّهِ له.

كذلك ترك أيّوب ليُجَرَّبَ لا لأنّه لم يكن يعرفه،

بل ليلتفّ الشيطانُ بأذيال الخجل، ويتمجّدَ الصدّيق.

 

 

 

 

 

 

 

 

من أقوال إكليل الملافنة مار يعقوب السروجي

(520+)

في رحمة الله ونعمته

 

بالرحمة قام العالم كلّه من لا شيء، ليكون شيئًا يثير الحمد لخالقه، ذلك أنّ النعمة أُمّ الرحمة هي التي شيّدت العالم وهي التي تحمله. فلو تركَتْهُ إذن لسقط.

إنّ الدجاجة تنشر جناحيها على فراخها وتجمعها وتحتضنها وتحرص عليها، فتمثّل بذلك الألوهة التي بسطَتْ رحمتَها كجناحيها، على الكائنات وسترتها. وصوّرتْ وجبلتْ واحتضنتْ وربَّتْ وحملتْ وسندتْ، وها هي ذي تحرص بالرّحمة على العالم كما بالجناحين.

فلولا وجود هذه الرحمة لله، إذن لَما خلق ولما حمل الخليقة التي هو حامل إيّاها.

إنّ رحمة الأمّ المربّية سابقة للجنين التي تلده والذي لا يتربّى إلا بالرحمة، والله أيضًا برحمته هذه الأزليّة، يحمل العالم إذ هي سابقة للعالم. وقد تكفَّلَ بثقل العالم قبل أن يخلقه ثمّ خلقه بالرحمة وحمله لأنّه خلقه.

 

 

في وجوب الافتخار بالرب وحده

 

أيُّها الغني، إنّك من جنسنا فلا تخدعنا. وفي جبلة واحدة جُبِلَ ترابك وترابنا. وأنت أيُّها الحكيم فلا تترفّع على الأُميّ، لأن الله إنّما من طينة واحدة خلق كليكما.

إنّ حكمة العالم مرذولة كلّها، لأنها ليست بشيء. وكذلك الثراء يخزى لأنّه هنا يبقى وأصحابه. فمن جعل الله عِمادَه، هو الحكيم. ومن عيناه شاخصتان إلى الرب، كلّه ثراء.

إنّ المريض غير المرذول من عدل الله، هو شديد البأس ومثله مثل حزقيّا (الملك) الذي صدَّ الموت بالطلبة.

والساذج المتنكّب عن الإضرار بالآخرين، هو فيلسوف ذلك أنّ رأس الحكمة مخافة الله كما هو مكتوب. وإذا كان المسكين أيضاً من أهل الصلاح، عظيمٌ ثراؤه فهو لعازر، ينتظره حضن ابراهيم لذلك حسنًا كتب لنا النبّي ألاّ نفتخر إلاّ بالرب لأنه ديّوم لا يزول.

 

 

في أنّ الله لا يغضب

 

إنّ الربّ حين يؤدّب، لا يكون ذلك ناجمًا عن غضبٍ ما. فلو غضب، إذًا لما أطاق العالم كلّه غضبه. إنه يضرب برحمة إذ من قضبيه ترشح الرأفة، بل يثير التأديب لإصلاح العصيان

ليس إلاّ. ذلك أنّه ليس من شأنه أن يضطرب، لأنّه كائن رائق، بل إنما يستعير استعارةً قناعَ

الغضب حين يغضب.

إنّ غضب الأسد يُبيد (يسحق حتى الإبادة)، فكيف إذاً يمكن للخليقة أن تطيق غضب الربّ؟ إن كان حقًّا يغضب كما اتُّهِم، إذن لأباد بغضبه جميع الكائنات ولما كفتْهُ أنّه لا يغضب. فلا ينخدعنّ أحدٌ بالأمور المجازية.

إنّه بقناع الغضب يخيف الإنسان، في حين أنّه رائق بل يبيّن أنه غَضِبٌ كي يفزعوا إليه للمصالحة. يتظاهر بأنّه مضطرب لنروق نحن ونروّقه. إنّه يؤدّب الأرض لتفزع من تأديبه، فتدخل من خلال التأديب ندامة الى الـجُناة.  أجل، إنّ له قضبانًا، بيد أنّ جميع قضبانه هي للرأفة. فمن ضُرب بها أفاد فائدة حين يُجلد. بل إنّ السيور التي يَضرب بها مضفورة برحمة

غزيرة، فحيثما استقرّت نبعَ رجاءٌ من ضرباتها.

 

 

في ثروات الله

 

كلّ من أحسّ بعظمة ثروات الله لا يتنازل إلى اقتناء الثروات الزائلة. فمتى انكشف للنفس مكانُ هذا الكنز، مقتَتْ للحال وازدرتْ الثروات والقِنى، وهجرتْ المال (الذهب) بل راحت تُعطي كلَّ ما لها كي تسطيع أن تقتني ذلك الكنز الذي أحسّتْ به. فحيثما وجدْتَ من يوزّع ثروتَهُ وينثرها على المساكين، فاعلمْ أنّه قد أحسّ بالكنز كحكيم. ولذا فهو ينفض يديه من القنية التي ليست بشيء، كي يقتني تلك التي بواسطتها يملك. إنّ طبيعة البشر عامّةً تحبّ الغنى، وليس من يبغي أو يحبّ المسكنة. فمن ازدرى إذن الغنى هنا ونفض يديه منه، فلأَنّ نفسَهُ تصبو إلى غنى آخر أعظم من هذا. وقد عارض الغنى الزائل بالغنى الأبديّ وقوّمهما، فنبذ اليسير منهما وألقى بنفسه على الكثير. وها هو يهفو ويلجّ في الخروج عريانًا من قِناه كي يمضي ويحظى بغنى عظيم لا نهاية له.

 

 

 

 

في شروط الحظوة بملكوت الله

 

يريد الملك (الله) أن يجرّد الناس أوّلاً من كلّ شيء ومن ثم يرافقونه إلى الملكوت.

وكأنّي به يقول، هلمّ يا هذا واملك وانفض يديك من الفقر كلّه. دع في العالم كل ما لك وتعال كن معي. فإنّك إنّما إليّ قادم، فلا تستصحبنّ شيئًا البتّة.

هلمّ عرياناً مجرّدًا وادخل والبس النور العظيم. ذلك أنّ ثياب العالم لا تُلبَس في الملكوت. فسأُخرج لك من سفطي ثيابًا فاخرة.

ألقِ لُبْسَ هذا الدهر لتتمزّق على المساكين فسأسربلكَ بالبهاء والسناء إذا ما قَدِمْتَ.

إلبَسْ حلّةً واحدة فقط حتى تبلغ الملكوت، على أنّ تلك أيضًا لن ترافقك إلى القديسين. ذلك أنّهم ملتحفون بالنور ومتمنطقون بالبرق. فالبَسْ مثلهم بردة المجد إذا قدمْتَ.

أعطِ المعوزين كلَّ ما لك وهلمَّ انعَمْ. فإنّ ما لكَ لا يصلُح للعالم الجديد.

فإنّ بني الملكوت يطأون الذهب كالتراب، فلا تحمِلَنَّهُ أنت الآن كربٍّ.

اشترِ لكَ الكنزَ الذي هو ملكوت الله، واترك الثراء فإنّه هو الذي سيتركك وإن أبَيْتَ.

 

 

 

1 – في مطالعة الأسفار الإلهية

 

تُحرز النفس ثراءً عظيمًا من الأسفار الالهية إذا ما ما لقِيَتْها بشغفٍ. ذلك بأنّها جُعلَتْ ينبوعًا

حيال ظمأ العالم. وكلّ ظمآن يشرب منها حياةً كلَّ يوم. إنّ الأسفار الإلهيّة أوراد (آبار) مباركة، فهلمّوا أيها العطاش واشربوا ماءَ الحياة. إنّ الأنهار إنّما هي لشرب الأجساد والعجماوات (الحيوانات) أمّا لشرب النفوس فالأسفار الإلهية.

أيّها اللبيب، أعطِ الجسدَ ماءً ليشرب وناول النفس سفرًا لتقرأ وتتمتّع به. إنّ النفس الظمأى تضع فاها على الينبوع الّذي في الأسفار وترتشف منه حياةً كلّ يوم.

إنّ النفس مُجْهَدَةٌ من عِشَرِ العالم الشرّير، ومملوءةٌ أهواءً وشهواتٍ رديئةً، كما أنّ ضلالاً جسيمًا ينتصب أمام وجهها كالدخان، ويجعلها كمهاء ولا يُفسِحُ لها أن تبصر جيّدًا.

وكذلك محبّة العالم تراود النفس لتُظلم فتُضحي من ثمّ عمياء متى ارتطبَتْ بالشهوات. فإذا

ما فتحَتْ سفرًا وقرأتْ برغبةٍ مُلحّةٍ استنارتْ للحال وأبصرتْ محاسن لا تُدرَك.

 

 

 

2 – في مطالعة الأسفار الالهية

 

وينفُذُ النور من السِّفْرِ إلى الفكر نفاذَ الشعاع من الشمس إلى بؤبؤ العين. وتهبّ ريحُ الكتاب من بين السطور، وتقشَعُ عن الفكر دُخانَ الضلال. وكلّما كان حبُّ (النفس) مرتبطًا هناك بالسِّفر، كلّما كانت النفس صافيةً مملوءةً نورًا وبعيدةً عن الاضطراب. لذلك يغار الشرّير فيسارع قارعًا كمنتقم، كي تبطل المطالعة بالأمور العالمية المضطربة. فإذا كان حبُّ النفس مرتبطًا بالسِّفر، احتقرَتِ (النفسُ) من أجله وازدرَتْ كلَّ الأمور. ولكن إذا تفاقمتْ محبةُ العالم، بَطُلَتِ المطالعة لتحلّ الأمور التي يؤثرها العالم ولا تنتهي. فَوَثِّقِي إذًا حبَّكِ بالسِّفر الإلهيّ أيتها النفس التي تبغي حسنَ العيش على الله. واعزفي عن المعاشرات العالمية الرديئة وأبعديها واصرفيها عن فكرِك. وأنصتي للكتاب الذي يبضع القرحة ويشفي المرض ويعتني بالنفس ويضمّدها ويرفدها بالعافية.

 

 

في الدرس الذي تلقّنه آدم

 

من خلال موت هابيل علم آدم ما هو موته هو، بل فيه رأى أن أصله ترابٌ وفقًا لما قيل له. أجل، بالجسد المقتول الذي رمّ في الأرض، فُسِّرَ الصوتُ الخفي القائل له إنّك تعود الى أرضك. لقد عاين هابيل الصّرح الرائع مقوّضًا ومنهارًا، فأدرك منه ماهية بناء جسمه هو. أجل، عاين تركيب الجسد وقد حلّه الموت، ففهم أنّه هو أيضًا سيُضحي ترابًا بالموت. بمقصورة الجسم التي نُسفت، استطاعَ أن يعرف أنّ هيكل جسده إنّما شيّده صانعه من التراب. وفهم بدم الجسد المقتول الْمُهرقَ أنّ النطق إنّما بالنعمة لَزِم طبعه. وتعلّمَ بالفم المطبق الذي رآه وقد بكم، أنّ ذلك اللسان المتلوّن إنّما بالرحمة يتحرّك. وتفقّهَ بالعينين النيرتين اللتين بليتا في الظلام، أنّ ذلك البصير إنّما بالنعمة أبصر النور، وتبيّن في الجسم الذي بعث رائحة كريهة أنّه هو أيضًا حمأة، وأنّ تحسُّسَه إنّما هو بالنفس التي تسوسه.

 

 

في السيد المسيح والشعب اليهودي الكنود

 

كان هو يُطلق ألسنَ البُكمِ رأفةً منه، أمّا أولئك الملاعين فبصقوا في وجهه.

كان هو يُخرج الشياطين، أمّا هم فسمّوه رئيس الشياطين.

كان هو يشفي المرضى أمّا هم فكانوا يشتمونه مجدّفين!

***                 ***                     ***

حَوّلَ الماء خمرًا جيدة في العرس، فشربوا خمره وعادوا فأعطوه خلاًّ فوق ذروة الصليب.

كثّر لهم الخبز، فجازوه هم بالمرارة بدلاً من خبزه.

وهكذا بعد تمتّعهم بخيراته، أذاقوه كلّ الشرور!!!

****                 ****                      ****

لقد لاح تعليمُه كالمطر في أيّام نيسان، فأبى ذلك الشعب أن يستضيء به ما دام معهم.

أجل، إنّ الأرض اللّعينة اقتبلتِ المطر الذي هطل عليها، فأنبتَتْ أشواكًا لعينةً لربِّ الحقل!!!

 

 

في النصح

 

إذا التقاكَ جمالٌ فازدرِهِ. وإذا لقيتَ مالاً فطَأهُ، أو قنيةً فانبُذْها خلف ظهرك.

لا تطمحْ إلى السلطة. اعزفْ عن المكان والسكن والجنس، لأنّ الجنّة مفتوحةٌ تنتظرك.

بادرْ مسرعًا إلى الخدر الجميل. لا تكنزْ لك كنزًا في الأرض، لأنّ الأرض ستستحيل فسادًا.

لقد دُعيتَ يا هذا إلى السماء، فلا تكلَفْ بالأمور الأرضية. إنّ الفردوس ينتظرُكَ، فماذا تطلب بين الأشواك؟ لقد ولدَكَ الله من الماء والرّوح وربّاك بدمِ ابنه، ودعاكَ لتصير له وارثًا.

إنّ طبعَكَ بالذات يحفزك إلى أن تحبّ الآبَ الذي أحصاكَ بين البنين. وإلاّ فاعملْ كأجيرٍ وتقاضَ أجرًا ملكوت السماء، أو خَفْ كعبدٍ واهرُبْ من النار التي تتوعّد المذنبين. وهكذا فإمّا أن تخدم الآب بمحبّة البنين أو تعمل الصالحات لترث الملكوت، أو تكره الطالحات لتنجو من النار.

 

 

 

في الكنز المخفيّ

 

لقد تبيّن ابن الله نفسنا بأنّها تبغي المرابح، وتريد أن تقتني بل تجدّ كثيرًا في طلب المزيد وترغب في أن تحصل على الشيء الكثير بشيءٍ زهيد. وتتحيّن الفرصة لتجد وسيلةً للاستزادة.

لذلك اعتبر ربنا ملكوت (السماء)، في مثلٍ، كنزًا، وأعلن للعالم أنّه إذا ما ابتاعه ربح كثيرًا، كي لا يُشفق أحدٌ على ماله حين يُباع من أجل الكنز الذي يريد أن يبتاعه إن كان بصيرًا. هكذا فإنّ ملكوت الله كما قال ابن الله كنزٌ عظيمٌ مخفى عنّا.

أجل، إنّ الكنز مخفى لدى الله. أما محبّو العالم فلم يحسّوا حتّى بوجوده. ولأجل هذا يجدّون كثيرًا في اقتناء الأموال والصروح وما إليها من الأمور التي لا يُحتاج إليها.

هكذا فإنّ العالم ممعنٌ في اقتناء الثروة الزائلة. أمّا الذين أحسّوا بذلك الكنز قليلون.

ومن أحسّ به تراه جادًّا في بيع كلّ ما له دون أن يشفق على الأموال الزائفة.

فمن ذا الذي لا يسعى سعيًا حثيثًا لابتياع ذلك الكنز، اللهمّ إلاّ الذي لم يحسّ به ولم يعرفه؟

 

 

في أنّ غنى العالم فقر

 

إنّ الثروات والكنوز والخيرات بل مال العالم كله، كلّ ذلك فقر. فإذا كان لا يلبث الثراء والمال لدى ملاّكه، فما بال الانسان يُسمّي ثروةً، المالَ الذي ليس مُلكَ يمينه؟ إنّ مال العالم يحلّ ثم يرحل. هو ضيفٌ يأتي ليبيت ثم ينصرف. فلا يُضِلَّنَّكَ ولا تصدِّقْهُ أيها القاني، لأنّه صديقٌ خؤون كثيرًا ما أضلّ من أحبّه. لقد غرّر هكذا بالأوائل والأواسط، ثمّ فارقَهم وانتهى إليك ساخرًا منكَ. تأمَّلِ الأثرياءَ الّذين ذهبت لهم في العالم شهرةٌ طائلة، كيف سقطوا وانقرَضَ ذكرُهم واسمهم معًا. أجل، إنّ المياسير ازدهروا ثم انتثروا كالزهور. وهبطوا شوارعَ الهاوية حيث غدوا حمأةً نتنةً. كذلك والشرفاء والعظماء الّذين ظنّوا أنّهم سيفوزون بالعالم، قد أفسدتهم الأرض والسّوس في الجحيم.

 

 

في ان الألباء أحسّوا بالثراء الحقيقي

 

وهكذا فإنّ الألباء بني الملكوت أيضًا، يحبّون الثراء وفقًا لما يتطلّبه الطبع البشري.

وقد أحسّوا ورأوا أيًّا هو الثراء الحقيقي بل اكتشفوا أين الكنز مطمور وموضوع.

فسارعوا من ثمّ في بيع مقتناهم كحكماء وأحرزوا الملكوت بتوافِهِ الزمان.

إنّهم لم يعطوا شيئًا، لكنّهم ابتاعوا الملكوت بأشياءٍ بخسة وعرفوا أن يقتنوا بدون شيءٍ شيئًا عظيمًا، وذلك حين كانوا يمدّون الجائع بكِسَرِ الخبز، كأس الماء التي كانوا يوصلونها الى الظمآن، الثياب البالية التي كانوا يكسون بها العريان، ويقوتون المريض من فضلات الأعشية. أجل، إنّهم بالأشياء الفانية والبخسة والهزيلة، همّوا فابتاعوا ملكوت الله وأضحوا أثرياء بحسب ما يحبّ الطبع الثراء. وعظموا وملكوا وصاروا ورثةً في بيت الله.

 

 

في أنّ الذهب والفضّة ليسا بثراء

 

ليس إنّه يكره ثراءه كرهًا من يوزّعه وينثره على المساكين وأهل الفاقة. ولا هو يبغي بذلك أن يزهد في القنية بل أن ينمّيها، حكمةً منه، وكأنّي به وقد أحسّ ورأى أنّه إذا ما أعطى يسيرًا أخذ كثيرًا. بل لولا علمه بأنّه سينتفع انتفاعًا، إذًا لَما أعطى. تبصَّرْ كيف أنّ العالم بأسره يبغي أن يُثري، وكيف أنّ كلّ واحدٍ يسعى في الهرب من الفقر. ها إنّ أثرياء العالم يسعون وراء الثراء، بيد أنّهم ضلّوا سواء السبيل، ولم يدركوا مكان الثراء. وإذ ظنّوا أنّ الذهب هو الثراء، أكبّوا على جمعه في أكياسهم بجميع الوسائل. إنّ طبعنا لَيحدونا أن نسعى كلّ يومٍ وراءَ الثراء، بيد أنّ الأثرياء لا يدرون أيًّا هو الثراء. فقد تخلّوا عن الجسم واحتضنوا الظل، وسمّوا ثراءً، الذهبَ والفضة اللذين سيبقيان هنا. أجل، لقد تمسّكوا باسم الثراء وحَسْب كالبُلُه، أمّا بالفعل فإنّ آخرتهم فقرٌ لا محالة.

 

 

في أنّ المال وقرٌ لقانيه

 

من يسعى في اقتناء المال يضلّ ضلالةً بل قد ضلّ الطريق وهو يحاول اقتناء الثراء. أجل، لقد قاده سبيل محبة العالم والأموال، فتاه في مفازة مملوءة فقرًا. وفيما هو يجهد في اقتناء الثراء، إذا به يفقد الثراء لانخداعه بالمال (بالذهب) وهو يخالُه أنّه الثراء. وإذ انخدع الناس هكذا بالثراء الْـخُلَّب، نهج ربُّنا طريقَ الحياة لمن يودّ سلوكَهُ وأوضحَ للعالم أنّ الذهب والفضة ليسا بثراء، وحذّر تلاميذه من اقتنائهما. لقد سنَّ شريعة لخاصّته الّذين نبذوا العالم من أجله مفادها، ألاّ يقتنوا ولا كيسًا للذهب. فعلم العالم أنّه لو نفع المال (الذهب) شيئًا، إذن لأكثَرَهُ ربُّنا لأحبّائه وتلاميذه. ولكن بما أنَّه وقرٌ لقانيه، جرَّدهم منه إذ أحبَّهم كثيرًا ولم يُفسح لهم في اقتناء أيّ شيءٍ على الأرض مُعِدًّا إيّاهم ليرثوا معه الملكوت.

 

 

في العالم

 

إنّ العالم لَمشوّشٌ ومضطربٌ وقلقٌ بأعماله بل إنّ عملَهُ سُخْرٌ وأجرَهُ هوانٌ، أمّا هو فخسارةٌ في إطلالته، إغراءٌ في تصرّفاته، رباءٌ لزيزةٌ عشرتُه، ورديءٌ تفكيرُه، وغاشٌّ حبُّه. في مناصبِه إثمٌ وفي سلطاتِه جرمٌ؛ يظلِمُ وهو غاضب، وفي جميع الأهواء ينصِبُ فخاخًا. يشتم الأنقياء وهم في نظره وضعاء في حين أنّهم شرفاء. يُبغض الفضلاء ويهينهم رغم كونهم فضلاء. إنّ العالم لأعمى وفي الظلام يرسم صورًا، ولا يُنظِّمُ بالترتيب لا الفضلاء ولا الرذلاء. فهو يمزج بعماه ألوانًا بدون تبصّر ويرسم في اضطرابه صورًا مشوّشةً لجميع الناس. فلا الفضلاء منهم يخل عليهم جمال أشخاصهم ولا الرذلاء يُلبسهم عيوب ذواتهم. وكم لصق عيوبًا بالفضلاء وكم خلع فضائل على الرذلاء. فهو من عادته أن يهجوا الصالحين حين يدخلونه، ويكيل المديح جزافًا للطالحين لأنّه كاذب.

 

 

في أنّ العالم يشبه العشب والزهر والظل

 

إنّ الّذين عُقدت لهم التيجان وسطعوا في الأرض كالأنوار، ها إنّهم صرعى وطرحى في الظلمة وكأنّهم لم يكونوا. كذلك والسادات الّذين جَرَتْ أوامرُهم وشَرُفَتْ، ها إنّ فمَهم مُطبَقٌ بالرميم وممتلئٌ ترابًا. إنّ كراسي السلاطين وعروشهم الرفيعة دكَّها الموت فأضحتْ نفاية في الهاوية. إنّ قوافل الأجيال التي كانت عزيزةً في دهرها قد أفسدتها الأرضَةُ، فبلِيَتْ الواحدةُ تلو الأخرى. والعالم كلّه يشبه العشب والزهر، والظلّ الذي يسارع للفرار من وجه النهار. فأزْهِرْ أنت أيضًا الآن في يومك أيّها القاني لأنّك إذا مال العصرُ، ستتناثر كالزهرِ. فلن يخلّيَكَ الدهرُ عند مقتناك. ومَن ذا الذي خلاّه ليكون في العالم وارثًا؟ لقد أصابَكَ وقتٌ يسيرٌ من العالم، ثمّ تنصرفُ. ولن يأذنوا في أن يرافقَكَ ما لك. فاشترِ إذن كنزًا من مقتناك ما دُمتَ ههنا، وما زالتْ أموالُكَ ملكَ يمينِك وفي تصرفّك. أجل، وَزِّعْ كلَّ ما لك ما دام لك، واشترِ وادَّخِرْ لؤلؤةً وكُنْ ثريًّا.

 

 

في الاهتمام بأمورٍ لا طائل فيها

 

وربُّنا أيضًا فيما كان يعلّم قال: إن هنالك كنزًا مُخفى لا يُحسّون به. ذلك أنّ العالم بأسره  نسي ملكوت العلى وغاب عن باله بمختلف الأسباب. فقد استحوذ على النفوس الاهتمامُ  بأمورٍ لا طائل فيها، فقبض عليها وحبسها وخنقها. هكذا انتصبتْ محبّةُ المال شبه جبلٍ عالٍ فوق رأسنا، يقرِّعُنا الثقلُ الباهظ. كما أنّ محاسن العالم الزائفة أضحَتْ ضبابًا، لا تُفسح لنا رؤيةَ ثرواتِ الله. وكذلك التفكّر في الغنى وفي كلّ ضلال الباطل قد حجبَ عنّا كنوزَ الله الخفيّة. فقد أحبَبْنا الْـحُلَلَ واشتهينا المقتنيات، أمّا ملكوت العلى فنسيناه بالشهوات ولذا قال ربُّنا وهو يعلّم: إنّ الكنز مخفىً إخفاءً ولا يُحسّون به.

 

 

 

 

 

 

في بطلان الافتخار

 

واحدٌ هو موت الفلاسفة والأميّين. فلا يفتخرنّ والحالة هذه من كان حكيمًا. إنّ الغني والمسكين لمتساويان في الجحيم، فكيف إذًا يفتخرُ بالغنى صاحبُه؟ على دربٍ واحدٍ يسير الضعيف والجبّار، فلا يحقّ إذن للقوّة أن تفتخر. فلو استطاع القويّ أن يُفلِتَ من الموت، إذن لَـحقَّ له أن يفتخر، بل لما كان ذلك أمرًا إدَّا (فظيعًا). فلو أنّ الغني لا يلج القبرَ، فمهما افتخر، للاقَ به أن يزيد على ذلك أيضًا. فلو تمكّن الجبّار من قهر الهاوية، فمن تُرى كان سيجرؤ على صدّه عن الافتخار؟ فلو أفلتَ حكيمٌ واحدٌ من ذلك الباب لَـحقَّ له أن يفتخر متبخترًا. فلو أنّ ذا الغِنى لا يَفسد في مسكن الهاوية، لكانَ جميلاً به أن يتعالى ما شاء نحو الافتخار فلو كان الموت لا يُفرِثُ (يفتّت) الحاذقَ بعقبه، إذن لَـحَقَّ للحكيم أن يفتخر جهارًا ولكن إذا كانت هنالك مساواةٌ في جميع هذه الأمور، فَلِمَ يفتخر الحكيم أو الغني أو الجبّار؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في القربان المقدس

 

إن ذاك الذي ينكص النورانيّون عن الإحداق به فرقًا منه، إيّاه ترى في الخبز والخمر على المائدة. إنّ الملتحفين بالبروق يتّقدون منه إذا ما رأوه، أمّا الترابيّ الحقير فسافِرٌ وجهه حين يتناولُه. إنّ سرّ الابن هو نار لدى العلويين، يؤيّدُ قولَنا أشعيا (النبي)  نفسه الّذي رآه. إنّ هذا السرّ الذي كان في حضن الألوهة، ها هوذا يُوزَّعُ فوق المائدة على أولاد آدم. لقد جُعِلَ المذبحُ نظيرَ مركبةِ الكاروبيم التي يُحيط بها جنودُ السماويّين. فها قد وُضِع على المائدة جسدُ ابن الله، وأبناءُ آدم يزيّحونه على أيديهم. وبدلاً من الرجل اللابس البوص، يقفُ الكاهن ليخرج ويوزّعَ جسدَ المسيح على المفتقرين. فلو كان ثَمّة حسدٍ بين الملائكة، إذن لَـحَسَدَ الكاروبيم البشر لأنّهم أقرب منهم (إلى هذا السر). حيث غرسَتْ صهيونُ الخشبةَ لتصلُبَ عليها الابن، هناكَ كانت قد نبتَتْ تلك الشجرةُ التي ولدتِ الكبش. وحيثُ غُرِزَتِ المساميرُ في يدَي الابن، هناك بالذات كانت قد قُدِّمَتْ وُثُقُ اسحق. تعالَ بالسلام أيّها الكاهن الحاملُ سرّ سيدِهِ وبيمينه يوزّعُ الحياةَ على البشر. هلمَّ بالسلام أيّها الكاهنُ الحاملُ الجمرةَ النقية، ويُفيحُ نشوَتَها ويلذِّذُ بها العالم. أقبِلْ بالسلام أيّها الكاهنُ الذي ربّاهُ الروحُ القدس والذي يحمِلُ بلسانِهِ مقاليدَ بيتِ الله. تعالَ بالسلام أيّها الكاهن الذي يَربِطُ الناسَ في العمق في حين أنّ الربَ نفسَه يربطُهُم في العلى هللويا. هلمّ بالسلام أيّها الكاهن الذي يحلّ الناسَ على الأرض في حين أنّ الرب نفسه يحلّهم في العلى قورياليسون. للرب المجد وعليكم الرحمة إلى الأبد وليكن ذكرٌ لمار يعقوب الملفان.

 

 

في الصدقة

 

إنّ المسيح واقفٌ على أبوابكم مع المعوزين، فتمسّكوا به ليدخل ويغسل غباره ثم يخرج. هوذا الله يقرعُ بابَك مع المسكين، فلا تزجُرْه لئلاّ يقصيكَ بعنفٍ عن ملكوته. هوذا إخوتُكم جياعٌ ومُلتَأون في شوارعكم. فاخرجوا أيها الفُطُنُ وتفقّدوا برفقٍ أعضاءَكم. هوذا يسوع قد بسطَ يدَه إليك يستعطي، فاحمِلْ هبتَكَ كباكورةٍ وقدِّمْها له. هوذا ابنُ الملك حافٍ وعارٍ في العراةِ، فأعطِهِ ليَلبَسَ إنْ كُنتَ تَسَعُ ذلك فهو يكافِئُكَ. هوذا المقيتُ الوَرَى جائعٌ في المعوزين وهو يسألُكَ، فأخرِجْ وأعطِهِ من فُتاتِ عشائك. هوذا ابنُ الله مريضٌ طريحٌ بين المساكين, فادخُلْ وعِدْهُ بلُطفٍ كفَطِنٍ. إنّ ربَّ الينابيعِ عطشانٌ في العطاش ويريد أن يرتوي، فامزُجْ له كأسًا واشفِ غليلَه إن كنتَ فَطِناً. إنّ الْـمُغْني الكلَّ يتلوّى من الفاقة، فاكْفُوا أنتم حاجتَهُ في شخص المساكين.

 

 

في حرية من يختاره الله

 

يختارُ الربّ من يختارُ ويمجّدُهُ ويكرِّمُه ليكونَ نافعًا لأترابه، وبالهبات التي يُزلّها إليه حين يختارُه، يقيمُه مدبّرًا على الكثيرين. إنّه لا ينزعُ منه الحرية حين يختاره، بحيث أنّ المختارَ إذا شاء أن يزِلَّ ليس طليقًا، فلو أنّه قيَّدَ حريةَ الذي يختاره، إذن لما كان مجالٌ قط ليتمجَّدَ المختار بل لقالوا إنّه من المحال أن يزلّ المختار، وليس في وسعه أن يزلّ ولئن شاء، لأنّه مختارٌ. وهكذا يُنزعُ التمجيدُ عن المختارين. ذلك أنّه إذا كان جمالهم ليس من عندهم، فليس ذلك مجدًا. فالشمس مثلاً، هذا الْـجِرمُ الثابت والمملوء نورًا، جميلةٌ بيد أنّها لا تُمجَّد لانتزاع الحرية منها، ذلك أنّها لو أرادتِ (الشمسُ) أن تظلم لما كان ذلك في وسعها. لذلك لا يمجّدُها الناظرون، علماً منهم بأنّها ليست لها، لا أن تنير ولا أن تظلم. كذلك والمختار لو أمسكه الله لئلا يزلّ متى شاء، لحرمه التمجيد.

 

 

من أقوال الملفان مار شمعون الفخاري المعروف بالقوقاي

(+ 514)

 

من أناشيد مار شمعون الفخاري

أيّها المجبول من الترابِ لا  تتكبّر فإنك تراب، والأرض أمّك، غدًا تعود إليها.

هلمَّ وادخل القبور وتبصّر فيها المتكبّرين كيف أضحوا فُزعة للناظرين.

وانزلْ من ثم قليلاً من الكبرياء، لأنّ المتكبّرين يتّضعون، وتسربَلْ بالتواضعِ الذي يَرفعُ

إلى العلاءِ وبهِ تَسمو.

لو كان للذهب أو الفضة فمٌ، لقال لمقتنييه لا تقربوا إليّ.

فقد خطفتموني من الأيتامِ والبائسين ومن الأرامل وحقول المساكين.

فالويل لكم متى وافى الموت وأخذَ نُفوسَكمْ. عندئذٍ سأبقى أنا هنا، أمّا أنتم فقد حُفظت لكم الدينونة والنار التي لا تُطفأ.

إنّ الله عزّ وجلّ يحلُّ في القلبِ الخالي من الغشّ.

والروح القدس يسكُنُ في النفسِ النقية الصافية. فالصوم حسنٌ، والصلاة نافعة.

بَيْدَ أنّ القلب الصافي يفوق كليهما، فبالقلبِ النقيّ عَمِلَ الأبرارُ في كرمِ الرب.

فلتكن لنا صلاتُهم سوراً يكلأنا من الشرّيرِ ليلَ نهار.

 

 

في عبادة الله والصوم والصدقات

1

منْ أهمل عبادة الرب (في الكنيسة) وتجوّل خارجًا، حاكى الخروف الذي خطفه الذئب من الغنم. فأنتم خراف الله الحي أمّا الذئب الخاطف فهو الشرير. فهلمَّ إذن أيّها الذين هم في الخارجِ واختلطوا بالذين هم في الداخل حتى إذا رآكم العريس فرح وفتح لكم بابه لتَلِجوا خدره.

2

إذا زرع أحدٌ صدقاتٍ وانصرف عن العالم كان يوم المعاد وقت حصادها.

فطوبى إذن لمن زرع صدقات وصوماً وسهراً وما إليها من خيرة الأعمال.

أجل، وهما هم ينتظرون المسيح ليأتي ويهبهم، ما لم تسمع به إذن ولم يخطر على القلب.

3

إنّ الصوم عن الخبز والماء هو صوم بسيط. فإذا ما تخلّلته صدقاتٌ كان عظيمًا أمام الرب.

فمن صام ونفح (أعطى) المعوزين عَظُمَ أجره وقُبِلَ صومه. ومن ليس له ما يعطي وقد امتزجت المحبة بصومه، فسيختلط هو الآخر بالروحيّين وسيؤَهَّلُ للخدر يوم المعاد.

 

 

 

من أقوال بعض الملافنة

في الكنيسةِ

تقول الكنيسة، إنّني لن أخشى الشرّير لأنّ أسوارًا تكتنفني، والله حالّ فيَّ.

وقد أُنشِئ فيّ مذبحٌ مقدّس وأودِعَتْ فيّ رفاتُ الشهداء، كما أن الصليب أيضاً الذي أسجد له يحرسني.

***         ***       ***

تقول الكنيسة، إنّ ثلاثة أسوارٍ تكتنفني، فلن يقدر السارق أن يدخل أسواري ويهلكني.

ذلكَ أنّ ثلاثتَها لا ينفصل قط بعضها عن بعض. وليس هنالكَ فجوة بين سور وآخر.

إنّ هذه الأسوار الثلاثة هي الآب والابن والروح القدس أمّا أنا فواقفة في الوسط كعروسٍ حسناء.

***      ***        ***

ما أجملكِ يا ابنة الأمم وما أبهاكِ. إنّكِ أشبه بالشمس التي تُشرق وتنير العالم.

على جبينكِ مرسومةٌ علامة الصليب، وفمكِ النقيّ يرتّل تسبيحًا. وشفتاكِ مضرجّةٌ بدم ابن الله وأولادكِ يرتّلون حمداً ليل نهار.

***       ***       ***