في سر مسحة المرضى لمار طيموثاوس يعقوب موصلية

في سر مسحة المرضى

بقلم مار طيمثاوس يعقوب موصلية

مطران دير مار متى (+1966)

 

 

استلمت الكنيسة من معلميها ومؤسسيها أن تقدس زيتاً وتمسح به من اعتراه مرض أو أصابه داء من بنيها، وذلك وقاية لحياتهم الروحية وحفظاً وصيانة لها من عدوها الألد. ومارسته في كل أدوارها وما زالت تمارسه إلى الآن وستبقى كذلك حتى انقضاء الدهر. ولها بذلك عدة براهين قوية لا تقبل النقض والاعتراض، منها:

لما خرج الرسل إلى البشارة وجابوا المدن والقرى، وهدوا الناس إلى طريق الحياة والتوبة الحقيقية، أخرجوا شياطين كثيرة ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم (مر6: 13) وبقي مستعملاً كذلك حتى أنّ القديس يعقوب أيّده وحث المؤمنين على ممارسته قائلاً: «أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه، وإن كان قد فعل خطية تغفر له» (يع5: 14 و15).

هذا ما أيّده وثبّته الكتاب العزيز عن هذا السر المقدس. فإن أساس الكنيسة هو ذلك الكتاب الإلهي الصادر عن فم اللّه بواسطة رجاله القديسين (2بط1: 21) فكل شيء ورد ذكره وتأييده في ذلك الكتاب لا يقبل النقض أبداً لأنه كلام اللّه نفسه، وكل شيء بشّرنا به آباؤنا الرسل والمبشرون لا نخالفه، ولو أدّى بنا ذلك إلى حالة الردى لأن الرسول المغبوط يحرّم من يبدّل قائلاً: «إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما» (غل1: 8) وذلك لأن «كل كلمة من اللّه نقية» (أم 30: 5).

هذا وإن كلام الرسول يحتوي على معانٍ جليلة وهي:

أولاً ــ أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه:

هنا يحثّ الرسول المؤمنين أن يدعوا قسوس الكنيسة وآباءها ليصلوا على مرضاهم ليشفوهم باسم الرب، ولكن بعض المؤمنين لا بل كلهم يخالون أن هذا السر لا يكمّل إلاّ للمشرفين على الموت، وهذا خطأ وخطل وجنون مطبق منشؤه الجهل وقلة الإيمان والتمسك بأباطيل هذا العالم الغاش والحياد عن طريق اللّه. آه، لو درى المؤمنون من سيدعون لشفاء مرضاهم لزال عن عقولهم ذلك الغشاء الكثيف، وهرعوا مسرعين إلى رجال اللّه ووكلاء سرائره، بل لحملوا مرضاهم إلى عندهم بإيمان صادق وحب حقيقي نحو اللّه وخدامه، بل لوضعوا مرضاهم تحت ظل رجال اللّه بالإيمان ليشفوا، كما كان يعمل المؤمنون القدماء (أع 5: 15). آه، لو عرفوا قدر رجال اللّه والقوة المجلببين بها «لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور ومن سلطان الشيطان إلى اللّه حتى ينالوا بالإيمان بي (أنا يسوع) غفران الخطايا ونصيباً مع القديسين» (أع 26: 18) ولكن مع الأسف البليغ إذا مرض أحد المؤمنين لا يتذكّر أهله رجال اللّه وقدرتهم الفعالة، بل يسرعون به إلى طبيب، وحسناً إذا اكتفوا بذلك لأن الطبيب أيضاً يعالج الجسد ويشفيه في بعض الأحيان، ولكن قد يتمسك بعضهم بحبائل الموت، والبعض الآخر يرمون بأنفسهم راضين في بحيرة النار (رؤ 20: 10) وفي الوقائد الأبدية (أش 33: 14) والبعض الآخر بكمال حريتهم، وإرادتهم وعقلهم يهتمون «لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشققة لا تضبط ماء» (أر 2: 13) وذلك بالتحاقهم إلى السحرة والعرّافين والمشعوذين والمنجّمين للسؤال عن مرضاهم. لعمري، كيف يرتضي أولئك الناس أن يتركوا الإله الحقيقي ويذهبوا إلى الآلهة الكذبة، وماذا يقول لأنفسهم أولئك الذين يهملون الالتجاء إلى اللّه والاتكال عليه ويلوذون بأعداء اللّه الذين قد طردهم من أمامه حنقاً وأبعدهم عنه زجراً وغضباً. حقاً قال الرسول: «ولكن الروح يقول صريحاً أنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحاً مضلة وتعاليم شياطين»(1تي4: 1). إنّا لا ندري حقّاً كيف يترك الناس الإله الحقيقي وطرقه السهلة، ويسيرون وراء الشياطين ويسلكون تلك الطرق الوعرة المؤدية إلى الهلاك «ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى أنهم يُجْرُون رأياً وليس منّي ويسكبون سكيباً وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة» (أش 30: 1). وقد نهى اللّه حنقاً عن استشارة الشياطين والجان بشدة في عدة أماكن من الكتاب المقدس منها قوله: «والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أجعل وجهي ضد تلك النفس وأقطعها من شعبها» (لا 20: 6) وقال: «لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع فتتنجسوا بهم أنا الرب إلهكم» (لا 19:  31) وقال: «وإذا كان في رجل أو أمرأة جان أو تابعة فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه» (لا 20: 27) وقال: «لا يوجد فيك… من يرقي رقية ولا من يسأل جاناً أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب» (تث  18: 10 ـ 12) وقد جازى اللّه فعلاً من تعدى هذه الوصايا المقدسة «فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه وأيضاً لأجل طلبه إلى الجان للسؤال ولم يسأل من الرب فأماته» (أخبار أول 10: 13 و14). وكذلك قاض أخزيا ملك إسرائيل حينما أرسل يسأل إله عقرون في حال مرضه هل يبرأ فحّرك الرب إيليا الغيور وأرسله أمام رسله وقال لهم: «أليس لأنه لا يوجد في إسرائيل إله تذهبون لتسألوا بعل زبوب إله عقرون، فلذلك هكذا قال الرب إن السرير الذي صعدت عليه لا تنزل عنه بل موتاً تموت» (2مل 1: 3 و4).

فالحذر ثم الحذر أيها المسيحي من ذلك لئلا يصيبك ما أصاب شاول وأخزيا الملكين الظالمين «فالقِ همّك على الرب فهو يعولك (مز 55: 22) ولذ به وهو يخلّصك، واتكل عليه وهو يساعدك وسل منه شفاء مرضك وهو يشفي إن كان ذلك لخيرك وصلاح نفسك، كما فعل مع حزقيا ملك يهوذا حين مرض فرفع يديه إلى اللّه وطلب منه بالبكاء شفاء مرضه فأجاب اللّه سؤله وزاد على عمره خمس عشرة سنة (2مل 20: 1 ـ 7) وما ذلك إلا لعلم اللّه أنها تزيد صلاحاً على صلاحه وبراً على بره. فثق وآمن بيسوع ربك، واذهب إلى وكيله ونائبه وقل له: يا أبتي تضرع لأجلي واطلب من السيد المسيح ليشفي مرضي هذا وليعيد لي صحتي الأولى، فيصلي لأجلك رجل اللّه بدموع حارة حتى يشفى مرضك فيكون ذلك بلا شك إن كنت مستحقاً وإن كان ذلك لصلاحك وخلاص نفسك، تذكر أخي أن الرب يسوع خوّل خلفاءه قوة عظيمة وأعطاهم سلطاناً ليشفوا كل مرض وكل ضعف (مت 10: 1). آمن فقط فتشفَ وادعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليك.

ثانياً ـ ويدهنوه بزيت باسم الرب:

كما نعلم إن الزيت مادة محسوسة منظورة ولكن فيها قوة روحية مجردة عن المادة، تلك هي قوة اللّه المستترة فيها اكتسبتها من التقديس باسم الثالوث الأقدس وصار فيها قوة خفية فاعلة تشفي الأمراض الجسدية والروحية. فالزيت لم تضعه الكنيسة كدواء كيماوي يصفه الطبيب للمرضى، بل وضعته كمادة محسوسة وادخرت فيه تلك القوة العظيمة الفعالة، ولا يتوهمن أحد أن الزيت يشفي الأمراض الجسدية، بل القوة الفعالة المستترة فيه هي التي تفعل في تلك الأمراض فتشفيها، وذلك لأن المريض يدهن بزيت باسم الرب، فاسم الرب هو القوة الفعالة القادرة على كل شيء التي لا يعسر عليها شيء لأنها الكل في الكل.

ثالثاً ـ وصلاة الإيمان تشفي المريض:

إن مفعول الصلاة قوي كقوله أيضاً «طَلِبَة البار تَقتَدِرُ كثيراً في فعلها» (يع 5: 16) والشاهد على ذلك أن أبرام صلّى لأجل أبيمالك، فشفى اللّه أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن (تك 20: 17) وصلّى موسى أيضاً لأجل مريم أخته فطهرت من برصها (عد 12: 13) وصلّى أيوب لأجل أصحابه (أي 42: 9 و10) وإيليا صلّى فمنع المطر (1مل 17: 1) ثم صلّى فأنزلت السماء غيثاً غزيراً حتى ارتوت الأرض وزال القحط المستولي عليها (1مل 18: 41 ـ 45) وصلّى فأقام ابن أرملة صرفة صيدون من الموت (1مل 17: 17 ـ 23) وصلّى أليشع فأقام ابن المرأة الشونمية وانتشله من مخالب الموت (2مل 4: 35). هذا وإن الكتاب المقدس مشحون بالنصوص الدالة على قوة الصلاة وفعلها ولا حاجة لنا أن نورد براهين أكثر مما تقدم لأن ذلك شيء مسلّم به عند جميع الكنائس المسيحية.

ورب معترض يقول: أنا لم أرَ مريضاً تعافى بصلاة الكاهن، أو بصلاة أحد رجال الدين.

فنقول: إن ذلك كذب وضلال مبين، لأن كل كلمة تقوم على فم شاهدين أو ثلاثة، وهنا مئات من الشهود على تلك القوة الفعالة المخولة للكهنة. وأما عدم الشفاء في بعض الأحيان فلا يستدل منه على ضعف قوة هذا السر وفاعليته، لأنه إن كان كل مريض يُشفى بالصلاة فما أكثر الذين لا يحبون الموت ولا يهوون الدنو منه، فإن كان لذلك سبيل كهذا بلا أجرة ولا ثمن لكانوا كلما يمرضون يدعون رجال الدين ليصلوا عليهم فيشفونهم من أمراضهم، وبالتالي لكان الموت بعيداً عنهم لشفائهم بقوة صلاة الكاهن، ولاختلّ نظام الطبيعة بعد ذلك لعدم موتهم، ولبطلت تلك الكلمة التي قالها اللّه لآدم «إنك تراب وإلى التراب تعود» (تك3: 19).

فشفاء المريض ليس بيد الكاهن بل بيد اللّه، وليس الكاهن إلا واسطة يتم به شفاء المريض، فإذا رأى اللّه شفاء ذلك المريض يؤول إلى خيره وخلاص نفسه شفاه وأنقذه كما مر بك (2مل 20: 1 ـ 7)، وإلا لنقله إليه بسلام كما قال ليوشيا الملك الصالح: «لذلك هأنذا أضمّك إلى آبائك فتُضم إلى قبرك بسلام ولا ترى عيناك كل الشر الذي أنا جاعله على هذا الموضع» (2مل 22: 20). وقال إشَعْيَاء النبي: «ورجال الإحسان يضمون وليس من يفطن بأنه من وجه الشر يضم الصديق» (إش 57: 1). فاللّه إذاً مهما حسن في عينيه يعمل (1صم 3: 18) وليس من يقول له لماذا تشفي أو لماذا تميت لأن «هل تقول الجبلة لجابلها لماذا جبلتني هكذا»(رو 9: 20).

وعدم الشفاء قد يكون لأسباب أخرى، وهي:

أ ـ إما لعدم إيمان المريض أو أهله، فالإيمان شرط مهم من شروط الشفاء وقد أيّده الرسول بقوله: «وصلاة الإيمان تشفي المريض»، ولأن أساس المراحم التي يجود اللّه بها علينا هو الإيمان والسيد له المجد أيضاً كان يطلب أولاً الإيمان من سائله لأجل الشفاء فقد قال للأعميين اللذين تقدما إليه لكي يشفيهما «أتؤمنان إني أقدر أن أفعل هذا، قالا له نعم يا سيد حينئذ لمس أعينهما قائلاً: بحسب إيمانكما ليكن لكما، فانفتحت أعينهما» (مت 9: 28 ـ 30) وقال للمرأة النازفة الدم التي لمست هدب ثوبه بالإيمان «ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك اذهبي بسلام» (لو 8: 48) وكان يطلب أيضاً الإيمان من أهل المريض فقد قال ليَايِروس «لا تخف آمن فقط فهي تشفى» (لو 8: 50)، وقال لمرتا أخت لعازر: «ألم أقل لكِ إن آمنت ترين مجد اللّه» (يو11: 40) وأما من غير الإيمان فلم يكن يشفي أحداً كما ولم يكن يصنع شيئاً من القوات (مت 13: 58).

إذاً، إذا دعونا أحد رجال اللّه كي يصلي على أحدنا ولم يشف فلا ننسب ذلك إلى ضعف فيه بل إلى عدم إيماننا وعدم استحقاقنا لتوغلنا في الخطايا وتمردنا على اللّه تعالى وعصياننا عليه ومخالفتنا شريعته الطاهرة كقول النبي: «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (إش 59: 2). وقد أوصى السيد له المجد تلاميذه عند إرسالهم للكرازة قائلاً: «وأية مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق» (مت 10: 11).

ب ـ إما أن يكون المرض تأديباً للمبتلى به، فيصلي عليه الكاهن ولا يشفى لأن وقت تأديبه لم ينته كقول الرب لموسى عن أخته مريم: «لو بصق أبوها بصقاً في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام، تحجز سبعة أيام خارج المحلة وبعد ذلك ترجع» (عد 12: 14). ولا بدّ أن يكون التأديب ناجماً عن كثرة الذنوب والتوغل في الرذيلة كقول هوشع النبي: «وقد توغلوا في ذبائح الزيغان فأنا تأديب لجميعهم» (هو 5: 2). وأما المريض فيجب عليه أن يصبر «لأن ليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن
الضيق ينشئ صبراً»(رو5 : 3) ويفرح لأنه «طوبى لرجل يؤدّبه اللّه» (أي 5: 17).

ج ـ إما امتحاناً لصبر الإنسان وتجربة له وذلك لأجل زيادة برّه كما حدث ذلك بتجربة أيوب (1: 13 و2: 1 إلخ)، فالممتحن يجب أن يصبر كما صبر أيوب وليحسب ذلك لأجل خيره وخلاص نفسه كقول الرسول يعقوب: «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً، وأما الصبر فليكن له عمل تام لكي تكونوا تامّين وكاملين غير ناقصين في شيء» (يع 1: 2 ـ 4).

د ـ إما لعدم إيمان المصلي نفسه كما جرى عندما قدم ذلك الرجل ابنه إلى الرسل فلم يقدروا أن يشفوه (مت 17: 16) ثم تقدموا إليه على انفراد وقالوا لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه فقال لهم لعدم إيمانكم (مت17: 19 و20).

هـ ـ إما لحكمة سرمدية لا يدركها عقل البشر ولا تتوصل إليها أفكارهم لأن قيل «يا لعمق غنى اللّه وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء لأن من عرف فكر الرب» (رو11: 33 و34) وأفكاري ليست أفكاركم يقول الرب (إش 55: 8)، وأحكام الرب كلها عجيبة لا تدرك بعيدة عن أفكار البشر القاصرة «فإن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا ولكن لم يرسل إيليا إلى واحدة منها إلا إلى امرأة أرملة إلى صرفة صيدا، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمن أليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني» (لو4: 25 ـ 27).

هذه أهم الأسباب التي تمنع نعمة الشفاء عن بعض المرضى، وقد زاد بعضهم سبباً آخر وهو عدم استحقاق المصلّي أن تظهر على يديه آيات شفاء الأمراض. وهذا السبب ليس هو من الأسباب الحقيقية التي يجب أن يعتقد بها لأن السر يكمل على يدي كل من كان من الذين نالوا موهبة الروح القدس بوضع اليد من أساقفة شرعيين وصاروا كهنة شرعيين.

رابعاً ـ والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطيّة تغفر له:

هنا أوضح الرسول أن المريض بعد دهنه بزيت باسم الرب، صلاة الإيمان تشفيه من أمراضه الجسدية والروحية لأن الرب يقيمه من مرضه ويغفر خطيّته.

 

للأعلى