تجسد الكلمة تعريب مرقص داود

تجسد الكلمة

للقديس أثناسيوس الرسولي

 

تعريب مرقص داود

الفصل الأول

1- إذا اقتصرنا في بحثنا السابق على القليل من الأقوال الكثيرة مما يكفي لبيان ضلالة الأمم ([1])، بصدد الأوثان، وعبادة الأوثان، وكيفية اختراعها في بداية الأمر، وكيف كانت شرور البشر هي الباعث على تفكيرهم في عبادة الأوثان، وبعد أن عرفنا بنعمة الله أيضاً شيئاً عن لاهوت كلمة الآب وعنايته الشاملة وسلطانه، وكيف أن الآب الصالح ينظم كل الاشياء بالكلمة، وأن به تتحرك كل الكائنات وبه تحيا – تعال الآن أيها العزيز مكاريوس ([2])، يا خليقاً بهذا الإسم، ويا محباً للمسيح بالحق، ولنتتبع ايماننا المسيحي ([3])، ولنظهر كل ما يتعلق بتأنس “الكلمة” وظهوره الإلهي بيننا، الأمر الذي يسخر منه اليهود، ويهزأ به اليونانيون، وأما نحن فنعظمه ونبجله، وذلك حتى تزداد وتتضاعف تقواك نحو “الكلمة” على قدر ضعف مظهره.

فإنه كلما إزداد استهزاء غير المؤمنين “بالكلمة”، ازدادت الشهادة التي يعطيها عن لاهوته. لأن ما يعتقده البشر مستحيلاً يثبته الله ممكناً وسهلاً، وليس ذلك وحسب، بل أن ما يسخرون منه ويعتقدونه غير لائق، يلبسه بصلاحه ثوب اللياقة والجمال، وما يهزأون به بغرورهم وإدعائهم الحكمة، ويتوهمونه بشرياً، يظهره هو بسلطانه الهياً، وفي ذلك كله تتغلب على الإداعاءات والإفتراءات الوثنية بما يظنه العالم ضعفاً، أي بصليبه، ويقنع بطريقة خفية أولئك الهازئين وغير المؤمنين، ليدركوا لاهوته وسلطانه.

3- ولعلاج هذا الموضوع، أراه لزاماً عليَّ أن ألخص ما سبق أن قررته ([4]) حتى لا تفوتك معرفة سبب ظهور كلمة الآب الجليل القدر في الجسد، وحتى لا تتوهم انه كان من مستلزمات طبيعة مخلصنا أن يلبس جسداً، بل لكونه خالياً من الجسد بطبيعته، ولأنه هو الكلمة منذ الأزل. فقد ارتضى – بتحنن أبيه وصلاحه – أن يظهر لنا في جسد بشري لخلاصنا.

4- إذن فيليق بنا أن نبدأ بحث هذا الموضوع بالتحدث عن خلقة الكون وعن الله بارئه، وعندئذ يمكننا أن ندرك أن تجديد الخليقة كان من عمل نفس “الكلمة” الذي خلقها في البداية، اذ سوف يتضح أنه لم يكن أمراً مخالفاً أن يتمم الله خلاص العالم بذاك الذي خلقه به أولاً.

الفصل الثاني

1- لقد نحا الكثيرون مناحي مختلفة في صدد صنع الكون وخلق جميع الأشياء، ووضع كل منهم المبدأ الذي يتفق وأهواءه. فالبعض توهم أن كل الأشياء وجدت من تلقاء ذاتها وبمجرد الصدفة، كالأبيكوريين ([5]) مثلاً، الذين يدعون بغرورهم أن لا وجود لتلك العناية التي تهيمن على الكل، وهم في ذلك يناقضون الحق الواضح والإختبار الملموس.

2- فلو صح زعمهم بأن كل شيء وجد من نفسه، خلواً من أية غاية، لنتج من هذا أن جميع الأشياء لابد أن تكون قد خُلقت بطريقة واحدة في حال واحدة – متشابهة وغير متميزة عن بعضها. وبالتالي كان يجب، من جهة اتحاد الجسم، أن يكون الكل شمساً أو قمراً. وفي حالة الإنسان كان يجب أن يكون الكل عيناً أو يداً أو رجلاً. الحال غير هذا، بل العكس أننا نرى تمييزاً في الخليقة. فنرى الشمس والقمر والأرض، وفي الأجساد البشرية نرى الرجل واليد والرأس. فهذا التمييز يدل على أنها لم تبرز إلى الوجود من نفسها، بل يدل على أنه قد تقدمتها علة، ومن هذه العلة نستطيع أن ندرك الله كخالق وباعث للكل.

3- والبعض الآخر – وضمنهم “أفلاطون” ([6]) الذي ذاعت شهرته بين اليونانيين – يزعمون بأن الله صنع العالم من مادة موجودة من قبل لا بداية لوجودها ([7])، لأنه لم يكن ممكناً لله ([8]) أن يصنع شيئاً ما لم تكن المادة موجودة فعلاً، كالنجار مثلاً الذي لا يستطيع أن يصنع شيئاً ما لم تكن مادة الخشب متوفرة بين يديه.

4- على أنهم بقولهم هذا لا يدركون انهم ينسبون الضعف لله. لأنه لو لم يكن هو باعث المادة، بل يصنع الأشياء من المادة الموجودة من قبل، فهذا معناه انه ضعيف، لأنه اذ ذاك لا يستطيع ايجاد شيء بدون توفر المادة لديه. كما انه لا شك يعتبر ضعفاً من النجار أن لا يستطيع صنع أي شيء يحتاجه دون توفر الخشب لديه. لأنه يترتب على هذا الزعم انه لو لم تكن المادة قد توفرت لدى الله لما كان قد صنع شيئاً. وكيف يسوغ لنا في هذه الحالة أن ندعوه خالقاً وبارئاً أن كان يدين بقدرته على الخلق لمصدر آخر، أي المادة؟ فلو كان الأمر كذلك لكان الله حسب رأيهم صانعاً ميكانيكياً، ليس خالقاً من العدم، ما دام يصنع الأشياء من المادة المتوفرة لديه دون أن يكون هو الباعث للمادة، لأنه لا يمكن بأي حال أن يُدعى خالقاً ما لم يكن هو الخالق للمادة التي منها صُنعت جميع المخلوقات بدورها.

5- وأما المبتدعون فيتوهمون لأنفسهم خالقاً آخر لكل الأشياء، غير أبو ربنا يسوع المسيح، وهم بذلك يبرهنون على منتهى العمى. لا يرون حتى نفس الألفاظ التي يستعملونها.

6- لأنه أن كان الرب قد قال لليهود “أما قرأتم أن الذي خلقه من البدء خلقهما ذكراً وأنثى وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه يلتصق بإمرأته ويكون الإثنان جسداً واحداً”، ثم قال أيضاً مشيراً إلى الخالق “فالذي جمعه الله لا يفرقه انسان” ([9])، فكيف يسوغ لأولئك القوم أن يدعوا بأن عملية الخلق لا تُنسب إلى الآب؟ أو – حسب تعبير “يوحنا” الذي يتحدث عن جميع الكائنات بلا استثناء – “أن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” ([10])، فكيف يمكن أن يكون الخالق شخصية أخرى غير الآب؟

الفصل الثالث

1- وهكذا نراهم يتخبطون في أوهامهم وترهاتهم. أما التعليم الإلهي والإيمان بالمسيح، فإنهما يدمغان أقوالهم الغبية بوصمة العار، ويظهران أنها كفر وإلحاد. لأنه معلوم أن الكائنات لم تُخلق من تلقاء ذاتها، فإن خلقتها تستلزم وجود فكر سابق. كما أنها لم تُخلق من مادة موجودة من قبل، لأن الله ليس ضعيفاً. ولكن الله خلق الكون من العدم، ومن غير سبق وجوده مطلقاً، بكلمته، كما يقول (أولاً) على لسان “موسى” “في البدء خلق الله السموات والأرض” ([11])، (وثانياً) في الكتاب الباني جداً الذي يُسمى “الراعي([12])“. “وقبل كل شيء أؤمن بأن الله واحد، الذي خلق وصور كل الأشياء، وأوجدها من العدم”.

2- وإلى هذا يشير أيضاً “بولس” اذ يقول “بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكون ما يُرى مما هو ظاهر ([13])“.

3- لأن الله صالح، أو بالحري هو بالضرورة مصدر الصلاح، والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شيء. لذلك فإنه، اذ لا يضن بنعمة الوجود على أي شيء، خلق كل الاشياء من العدم بكلمته – يسوع المسيح ربنا. وفضلاً عن ذلك فإنه اذ أشفق بصفة خاصة على الجنس البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، وإذ رأى ضعفه – بطبيعة تكوينه – عن أن يبقى في حال واحدة، منحه نعمة أخرى، فإنه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان، كما خلق باقي المخلوقات غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيباً حتى في قوة “كلمته”، لكي يستطيع وله نوع من ظل “الكلمة”، وقد خُلق عاقلاً، أن يبقى في السعادة أبداً، ويحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس.

4- ولكن لعلمه أيضاً أن إرادة الإنسان يمكن أن تميل إلى إحدى الجهتين ([14])، سبق فدعم النعمة، المعطاة له، بالوصية التي قدمها اليه، والمكان الذي أقامه فيه، لأنه أتى به إلى جنته، وأعطاه وصية، حتى إذا حفظ النعمة، واستمر صالحاً، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا هم، فضلاً عن موعد عدم الفساد في السماء. أما إذا تعدى الوصية وارتد، وأصبح شريراً. فيعلم بأنه يجلب على نفسه الفساد بالموت الذي كان يستحقه بالطبيعة، وأنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد، بل يُطرد منه من ذلك الوقت، ولكي يموت ويبقى في الموت والفساد.

5- وهذا يحذر منه الكتاب المقدس قائلاً بفم الله “من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت([15])“. وماذا يعني بقوله: “موتاً تموت”. ليس المقصود مجرد الموت فقط، بل أيضاً البقاء إلى الأبد في فساد الموت.

الفصل الرابع

1- قد تدهش وتتساءل عن السبب في هذا البحث عن أصل البشرية، طالما كان القصد من هذه الرسالة التحدث عن تجسد الكلمة، ولكن اعلم أن هذا البحث ايضاً يتصل بالغرض من هذه الرسالة.

2- لأننا عند التحدث عن ظهور المخلص بيننا، يتحتم علينا التحدث عن أصل البشر، ولكي تعلم أن نزوله الينا كان بسببنا، وان عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكي يُسرع الرب في اغاثتنا والظهور بين البشر.

3- لأن اغاثتنا كانت هي الغرض من تجسده، ولأجل خلاصنا أظهر محبته العظمى إلى حد أن يظهر ويولد في جسد بشري.

4- فالله إذا خلق الانسان، وقصد أن يبقى في عدم فساد، أما البشر، فإذ احتقروا ورفضوا التأمل في الله، واخترعوا ودبروا الشر لأنفسهم، كما تقدم بحثه في الرسالة السالفة ([16])، فقد استحقوا حكم الموت الذي سبق تهديدهم به. ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خُلقوا عليها، بل فسدوا حسبما أرادوا لأنفسهم ([17])، وساد عليهم الموت كملك ([18]). لأن تعديهم الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما نشأوا من العدم، كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد الذي يؤدي إلى العدم مع توالي الزمن.

5- لأنهم إن كانوا بحضور “الكلمة” وتعطفه قد دعوا إلى الوجود، من الحالة الطبيعية الأولى، وهي عدم الوجود، فإنهم بطبيعة الحال متى تجردوا من معرفة الله عادوا إلى العدم ([19]) (لأن كل ما هو شر فهو عدم، وكل ما هو خير فهو كائن وموجود)، ويجب أن تكون النتيجة بطبيعة الحال الحرمان إلى الأبد من الوجود، طالما كانوا يستمدون وجودهم من الله الموجود. وبتعبير آخر يجب أن تكون النتيجة الإنحلال، وبالتالي البقاء في حالة الموت والفساد.

6- لأن الإنسان إذ خُلق من العدم فإنه فانٍ بطبيعته، على أنه، بفضل خلقته على صورة الله الكائن، كان ممكناً أن ينجو من الفساد الطبيعي، ويبقى في عدم فساد لو انه احتفظ بتلك الصورة بإبقاء الله في معرفته. وكما تقول الحكمة: “حفظ شرائعه تحقيق عدم البلى (الخلود)([20])“، ولكنه اذ كان في عدم فساد، كان ممكناً أن يعيش كالله منذ ذلك الوقت، والى هذا يشير الكتاب المقدس على الأرجح عندما يقول: “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون ([21])“.

الفصل الخامس

1- لأن الله لم يكتف بأن يخلقنا من العدم ولكنه أيضاً وهبنا مجاناً، بنعمة الكلمة، حياة منسجمة مع الله. ولكن البشر اذ رفضوا الأمور الأبدية، وتحولوا إلى الأمور الفاسدة بمشورة الشيطان، صاروا سبباً لفساد أنفسهم بالموت، لأنهم – كما ذكرت سابقاً – بالطبيعة فاسدون تعينوا للخلاص من حالتهم الطبيعية بنعمة اشتراكهم في “الكلمة” – أن استمروا صالحين.

2- ولأن “الكلمة” حل معهم، فحتى فسادهم الطبيعي لم يجسر أن يقترب منهم، كما تقول الحكمة ايضاً “لأن الله خلق الإنسان في عدم البلى ([22]) وصنعه على صورة أزليته، لكن الموت دخل إلى العالم ([23]) بسبب ابليس”. وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وساد عليهم الفساد من ذلك الوقت فصاعداً، وصار له سلطان على كل الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال عصيان الوصية.

3- لأن البشر لم يقفوا عند حد معين حتى في سوء أفعالهم، بل تدرجوا في الشر حتى تخطوا كل حدود، وأصبحوا يخترعون الشر ويتفننون فيه، إلى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، وبعد ذلك اذ توغلوا في الرذيلة، ولم يقفوا عند شر واحد، بل راحوا يخترعون كل جديد من الشر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبعة بالخطية.

4- فها هي خطايا الزنى والسرقة قد عمت كل مكان، وامتلأت كل الأرض بخطايا القتل والنهب، وأصبح البشر لا يرعون حرمة للناموس، بل صاروا يرتكبون الجرائم في كل مكان، سواء كأفراد أو كجماعات. فالمدن اشتبكت في الحروب مع المدن، والأمم قامت ضد الأمم، وتمزقت كل الأرض بسبب المنازعات المدنية والحروب، وصار كل انسان يتنافس مع أترابه في الأعمال القبيحة.

5- وأصبحوا لا يترفعون حتى عن الجرائم التي ضد الطبيعة، كما يقول رسول المسيح وشاهده: “لأن أناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور ايضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق ([24])“.

الفصل السادس

1- إذن فمن أجل هذا ساد الموت البشر وعمهم الفساد، وكان الجنس البشري سائراً نحو الهلاك، وكان الإنسان العاقل الذي خُلق على صورة الله آخذاً في الإختفاء، وكانت صنعة الله آخذة في الإنحلال.

2- لأن الموت، كما قلت سابقاً، صارت له سيادة شرعية علينا ([25]) منذ ذلك الوقت، وكان مستحيلاً أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي([26])، واصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقاً وغير لائقة.

3- لأنه (أولاً) كان أمراً مرعباً لو أن الله بعد ما تكلم يصير كاذباً، أن كان بعد أن أصدر حكمه على الإنسان بأن يموت موتاً إن تعدى الوصية لا يموت، بل تبطل كلمة الله. ولو كان الإنسان لم يمت بعد أن قال الله أننا نموت، لأصبح الله غير صادق.

4- (ثانياً) وكان أيضاً أمراً غير لائق أن الخليقة اليت خُلقت عاقلة، والتي شاركت “الكلمة”، يصبح مصيرها الهلاك، وترجع إلى عدم والوجود بالفساد.

5- لأنه مما لا يتفق مع صلاح الله أن تفنى خليقته بسبب الغواية التي أدخلها الشيطان على البشر.

6- وبصفة خاصة كان غير لائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بين البشر، أما بسبب إهمالهم، أو بسبب غواية الأرواح الشريرة.

7- ولو كان مصير الخليقة العاقلة قد بات إلى الهلاك، وصار مآل هذه المصنوعات إلى الفناء، فما الذي يفعله الله في صلاحه إذن؟ أيحتمل بأن يرى الفساد يسود البشر، والموت ينشب أظافره فيهم؟ وما الفائدة من خلقتهم منذ البدء؟ لأنه كان خيراً لهم لو لم يخلقهم من أن يُخلقوا ثم يهملون ويفنون.

8- لأن الإهمال لا يعلن صلاح الله بل ضعفه، إن كان يسمح لخلقة يديه بالفناء بعد أن خلقها، وكان بالأحرى يتبين ضعفه لو لم يكن قد خلق الإنسان على الإطلاق.

9- لأنه لو لم يكن قد خلق جنس البشر لما تجاسر إنسان أن ينسب إليه الضعف. أما وقد خلقه، وخلقه من العدم، فقد كان يُعد أمراً مشيناً جداً أن يفنى المخلوق على مرأى من الخالق.

10- لهذا أصبح أمراً محتماً ألا يترك الإنسان لتيار الفساد، لأن ذلك يعتبر عملاً غير لائق، ولا يتفق مع صلاح الله.

الفصل السابع

1- وإن كنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة فإننا من الناحية الأخرى نجد مطالب الله العادلة تصطدم بها، إذ يجب أن يكون الله أميناً وصادقاً من جهة حكم الموت الذي وضعه. لأنه كم يكون شنيعاً جداً لو كان الله أبو الحق يظهر كاذباً من أجلنا ومن أجل حياتنا؟

2- ومرة أخرى نقول: أي طريق كان ممكناً أن يسلكه الله؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم؟ – وهذا قد يُرى لائقاً بالله – لعلهم كما ورثوا الفساد بسبب التعدي ينالون عدم الفساد بسبب التوبة.

3- ولكن التوبة (أولاً) لا تستطيع أن توفي مطلب الله العادل لأنه أن لم يظل الإنسان في قبضة الموت يكون الله غير صادق (ثانياً) تعجز أن تغير طبيعة الإنسان، لأن كل ما تفعله هو أنها تقف حائلاً بينه وبين ارتكاب الخطية.

4- ولو كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان، ولم يتبعه الفساد، فقد تكون التوبة كافية. أما وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي انحرف في تيار الفساد، الذي كان طبيعة له، وحرم من تلك النعمة التي سبق أن أُعطيت له وهي مماثلة لصورة الله، فما هي الخطوة التالية التي كان يستلزمها الأمر، أو من الذي كان يستطيع أن يعيد إليه تلك النعمة، ويرده حالته الأولى، إلا كلمة الله الذي خلق كل شيء من العدم في البدء؟

5- لهذا كان أمام كلمة الله مرة أخرى أن يأتي بالفاسد إلى عدم فساد، وفي نفس الوقت أن يوفي مطلب الآب العادل المطالب به الجميع. وحيث انه هو كلمة الآب ويفوق الكل، فكان هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شيء، وان يتحمل الآلام عوضاً عن الجميع وأن يكون نائباً ([27]) عن الجميع لدى الآب.

الفصل الثامن

1- لأجل ذلك جاء إلى عالمنا كلمة الله، الخالي من الجسد، والعديم الفساد، وغير المادي، مع انه لم يكن عنا ببعيد ([28]). لأنه لم يترك شيئاً من البرايا خلواً منه، اذ هو يملأ كل شيء في كل مكان، وفي نفس الوقت هو كائن مع أبيه. ولكنه تنازل وأتى الينا لكي يعلن شفقته علينا ويفتقدنا.

2- وإذ رأى جنس الخليقة العاقلة في طريق الهلاك، وان الموت يسودهم بالفساد، وإذ رأى أيضاً أن التهديد بالموت في حالة التعدي، قد مكن الفساد من طبيعتنا، وأنه لأمر شنيع أن ينحل الناموس قبل أن يتم، وإذ رأى ايضاً عدم لياقة الأمر الراهن، وهو أن خليقته التي خلقتها يداه في طريق الفناء، وإذ رأى فوق هذا شر البشر المستطير، وأنهم يتزايدون فيه شيئاً فشيئاً، حتى أشرفوا على هوة سحيقة، وإذ رأى أخيراً أن كل البشر كانوا تحت قصاص الموت – لهذا أشفق على جنسنا، وترفق بضعفنا، ورثى لفسادنا. وإذ لم يحتمل أن يرى الموت تصير له السيادة، لئلا تفنى به الخليقة، وتذهب صنعة أبيه في البشر هباء، فقد أخذ لنفسه جسداً لا يختلف عن جسدنا.

3- لأنه لم يفكر في مجرد التجسد، أو مجرد الظهور ([29])، وإلا فلو انه أراد مجرد الظهور لإستطاع أن يتمم ظهوره الإلهي بطريقة أسمى وأفضل. ولكنه أخذ جسداً من جنسنا، وليس ذلك فحسب، بل من عذراء طاهرة بلا لوم، لم تعرف رجلاً، جسداً طاهراً وخالياً بالحق من زرع بشر. لأنه، وهو القادر على كل شيء، وبارئ كل شيء، أعد الجسد في العذراء كهيكل له، وجعله جسده بالذات، واتخذه أداة له، وفيه أعلن ذاته، وفيه حل.

4- وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسداً مماثلاً لطبيعتها، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضاً عن الجميع، وقدمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا. وذلك (أولاً) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضي بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم. (ثانياً) لكي يعيد البشر على عدم الفساد بعد أن عادوا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت ([30]) كإنقاذ القش ([31]) من النار.

الفصل التاسع

1- وإذ رأى “الكلمة” أن فساد البشرية لا يمكن أن يُبطل إلا بالموت كشرط لازم، وأنه مستحيل أن يتحمل “الكلمة” الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب، لهذا أخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت، حتى باتحاده “بالكلمة”، الذي هو فوق الكل، يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل، وحتى يبقى في عدم فساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه، وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات وإذ قدم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب عنهم، إذ قدم عوضاً عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم.

2- ولأن كلمة الله متعال فوق الكل، فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفي الدين بموته، وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية لأجل حياة الجميع ([32]). وإذ اتحد ابن الله عديم الفساد بالجميع بطبيعة مماثلة، فقد ألبس الجميع عدم الفساد، بطبيعة الحال، بوعد القيامة من الأموات. لأنه لم يعد ممكناً أن ينشب فساد الموت الفعلي أظفاره في البشر، وذلك بسبب “الكلمة” الذي جاء وحل بينهم بجسده الواحد.

3- وكما انه لو دخل ملك عظيم مدينة عظيمة ([33])، واتخذ اقامته في أحد بيوتها، فإن هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدو أو لص ينزل اليها لإخضاعها، بل على العكس، تعتبر مستحقة لكل عناية، لأن الملك اتخذ مقره في بيت من بيوتها، كذلك كانت الحال مع ملك الكل.

4- فإنه اذ أتى إلى عالمنا، واتخذ اقامته في جسد واحد بين اترابه، فقد بطلت كل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائداً عليهم من قبل. لأنه لو لم يكن الرب مخلص الجميع، ابن الله، قد جاء الينا وحل بيننا ليوفي غاية الموت ([34])، لكان الجنس البشري قد هلك.

الفصل العاشر

1- حقاً لقد كان هذا العمل العظيم متفقاً مع وجود الله بشكل عجيب. لأنه إذا أسس ملك منزلاً أو مدينة وأحدق بها اللصوص بسبب إهمال سكانها، فإنه لا يهملها أو يتغاضى عنها بأي حال، بل يقوم ويهتم وينتقم من العابثين بها لأنها صنعة يديه، غير مبالٍ بإهمال سكانها، بل يما يليق بذاته. وهكذا الله، كلمة الآب الكلي الصلاح، لم يهمل الجنس البشري صنعة يديه، ولم يتركه للفساد، بل أبطل الموت بتقديم جسده، وعالج إهمالهم بتعاليمه، ورد بسلطانه كل ما كان للإنسان.

2- وهذه كلها يمكن للمرء أن يتحققها من كتبة الإنجيل، الذين كتبوا بإلهام الروح القدس، إذا اطلع على كتاباتهم التي فيها يقولون “لأن محبة المسيح تحصرنا إذ نحن نحسب هذا أنه أن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي لا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام ([35])” ربنا يسوع المسيح. أيضاً “ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد ([36])“.

3- بعد ذلك يبين (في الآية التالية) لماذا لم يكن ممكناً لأحد سوى الله “الكلمة” نفسه أن يتجسد: “لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام ([37])“. وهو بهذه الكلمات يقصد أن يبين أنه لم يكن مستطاعاً لأحد آخر أن يرد البشر عن الفساد الذي بدأ غير كلمة الله الذي خلقهم أيضاً من البدء.

4- ولإمكان تقديم ذبيحة عن الأجساد أخذ “الكلمة جسداً مشابهاً”. والى هذا يشيرون ايضاً في الكلمات التالية: “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو ايضاً فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي ابليس. ويعتق الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ([38])“.

5- لأنه بذبيحة جسده وضع حداً لحكم الموت الذي كان قائماً ضدنا، ووضع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة من الأموات الذي أعطاه لنا. لأنه أن كان بإنسان قد ساد الموت على البشر، لهذا السبب أيضاً بطل الموت، وتمت قيامة الحياة بتأنس كلمة الله، كما يقول ذلك الإنسان الذي حمل سمات المسيح ([39]) “فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع ([40])“. وهكذا نحن الآن لا نموت بعد كخاضعين للدينونة بل كأناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميع، التي سيبينها في أوقاتها الله، الذي أتمها، والذي وهبنا اياها ([41]).

6- إذن فهذا هو السبب الأول الذي من أجله تأنس المخلص. على أننا سنرى أيضاً من الأسباب الأخرى التالية أن مجيئه المبارك بيننا كان لابد أن يتم.

الفصل الحادي عشر

1- وعندما خلق الله الضابط الكل الجنس البشري بكلمته، ورأى ضعف طبيعتهم، وأنها لا تستطيع من نفسها أن تعرف خالقها، أو تكون أية فكرة عن الله على الإطلاق، لأنه بينما هو (أي الله) غير مخلوق، فقد خُلقت الكائنات من العدم، وبينما هو روح لا جسد له فقد خلق البشر، بطريقة أدنى، في الجسد، ولأن المخلوقات لم تستطع بأي حال أن تدرك وتعرف خالقها – لهذا تحنن الله على الجنس البشري على قدر صلاحه، ولم يتركهم خالين من معرفته، لئلا يروا أن لا منفعة على الإطلاق من وجودهم في الحياة.

2- لأنه أية منفعة للمخلوقات أن لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة بدون معرفة كلمة و (فكر) الآب الذي أوجدهم في الحياة؟ لأنه أن كانت كل معلوماتهم محصورة في الأمور الأرضية فلا شيء يميزهم عن البهائم العديمة النطق. نعم ولماذا خلقهم الله لو كان لا يريدهم أن يعرفوه؟

3- وتفادياً لهذا أعطاهم الله بصلاحه نصيباً من صورته – ربنا يسوع المسيح – وخلقهم على صورته ومثاله، حتى إذا ما رأوا تلك الصورة أي كلمة الآب، استطاعوا أن يكونوا فكرة عن الآب، وإذا ما عرفوا خالقهم عاشوا الحياة الحقيقية السعيدة المباركة.

4- ولكن البشر، في ضلالهم وتمردهم، اذ تهاونوا – رغم كل هذا – بالنعمة التي أُعطيت لهم، تركوا الله كلية، وأظلمت أنفسهم لا بمجرد ترك فكرتهم عن الله، بل أيضاً بإختراعاتهم الكثيرة التي اخترعوها لأنفسهم الواحد تلو الآخر. لأنهم لم يكتفوا بأن يصوروا لأنفسهم التماثيل بدل الحق، ويكرموا المخلوقات – التي لم تكن من قبل – دون الله الحي، ويعبدوا المخلوق دون الخالق ([42])، بل والأسوأ من الكل، حولوا مجد الله إلى الخشب والحجارة، والى كل الأشياء المادية، وإلى الإنسان، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا كما بيننا في الرسالة السابقة.

5- ولقد بلغ بهم الفجور أنهم تقدموا لعبادة الشياطين، ونادوا بها آلهة، متممين بذلك شهواتهم. فإنهم كما ذكرنا آنفاً، قدموا محرقات من الحيوانات العديمة النطق، وذبائح من البشر كما يلائمهم، منحدرين بخطوات سريعة وراء نزعاتهم الجنونية.

6- من أجل هذا كثير بينهم تعليم فنون السحر، وأضلت العرافة البشر في أماكن متعددة، وأصبح كل البشر ينسبون سبب ميلادهم، بل وجودهم إلى الكواكب وكل الأجرام السماوية، إذ لم يفكروا إلا في المنظور.

7- وبالإختصار لقد أصبح كل شيء مشبعاً بروح الكفر والإستباحة، وصار الله وحده وكلمته غير معروف رغم انه لم يخف نفسه عن نظر البشر، ولا أعلن نفسه بطريقة واحدة فقط، بل على العكس أعلن نفسه لهم بأشكال منوعة وطرق عدة.

الفصل الثاني عشر

1- لأنه وإن كانت نعمة مماثلة الصورة الإلهية كافية في حد ذاتها لمعرفة الله الكلمة، ومعرفة الآب به، إلا أن الله، العارف ضعف البشر، أعد علاجاً شافياً لإهمالهم، حتى إذا كانوا لا يعنون بمعرفة الله من تلقاء أنفسهم، استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بالخالق ([43]).

2- وإذ تسفل إهمال البشر قليلاً فقليلاً إلى السفليات، أعد الله مرة أخرى علاجاً لضعفهم هذا، بإرسال ناموس وأنبياء، رجال معروفين لديهم، حتى إذا ما تغافلوا عن أن يتطلعوا إلى السماء ليعرفوا خالقهم، استطاعوا أن يتعلموا ممن يعيشون بينهم، لأن البشر يستطيعون أن يتعلموا من البشر بسهولة أكثر من السماويات.

3- وهكذا كان في استطاعتهم، إذا ما تطلعوا إلى السماء وادركوا جمال الخليقة وتناسقها، أن يعرفوا مدبرها – كلمة الآب – الذي يعرف الآب للجميع بسلطانه على كل الاشياء والذي يحرك كل الاشياء، لهذه الغاية عينها، حتى يستطيع الجميع أن يعرفوا الله.

4- أو – لم يكن ذلك في مقدورهم – كان ممكناً لهم أن يلتقوا على الأقل بالقديسين، وبواسطتهم يعرفون الله جابل كل الاشياء، ابا المسيح، ويعرفون أن عبادة الأوثان كفر بالله، ومملوءة من كل فساد.

5- أو كان يسيراً عليهم أن يعيشوا حياة فاضلة خالية من كل رجس وفساد لو عرفوا الناموس. لأن الناموس لم يعط لليهود فقط، ولا أرسل الأنبياء إلى اليهود فقط، ولكنهم ولو أنهم قد أرسلوا إلى اليهود واضطهدوا من اليهود، إلا أنهم كانوا بمثابة مدرسة مقدسة لكل العالم، لتعليم طريق معرفة الله وارشاد النفس.

6- ورغماً عن عظم جود الله ورحمته، فقد خدع البشر بالملذات العابرة والغوايات والإغراءات التي أرسلتها الأرواح الشريرة، ولم يقاوموا الحق فقط، بل ثقلوا نير أنفسهم بالشرور والخطايا، فلم يعودوا يظهرون بعد كخليقة عاقلة، بل دلت طرقهم على أنهم مجردون من العقل.

الفصل الثالث عشر

1- وإذ صار البشر مثل البهائم، وسادت غواية الشيطان كل مكان، حتى حجبت معرفة الإله الحقيقي، فما الذي كان يفعله الله؟ أيسكت أمام هذا الأمر الجسيم، ويدع البشر يضلون بتأثير الأرواح الشريرة، ولا يعرفون الله؟

2- ما هي الفائدة من خلقة الإنسان أصلاً على صورة الله؟ كان خيراً له لو أنه خُلق على صورة البهائم العديمة النطق، من أن يُخلق عاقلاً ناطقاً ثم يعيش بعد ذلك كالبهائم.

3- وهل كانت هنالك ضرورة مطلقاً أن يعطي الانسان فكرة عن الله في بداية الأمر؟ لأنه إن كان حتى الآن غير مستعد أن ينالها فكان الأولى أن لا تُعطى له من البداية.

4- وماذا ينتفع الله الذي خلقهم، وكيف يتمجد، أن كان البشر الذين خلقهم لا يعبدونه، بل يتوهمون أن بعض الخلائق الأخرى هي التي خلقتهم؟ لأنه بهذا يبرهن الله أنه قد خلقهم لا لنفسه بل للآخرين.

5- ومرة أخرى نسوق هذا التشبيه: إن أي ملك من ملوك الأرض – وهو مجرد انسان بشري – إذا امتلك بلاداً لا يتركها لآخرين لكي تخدمهم، ولا يتنازل عنها لغيره، ولكنه ينذر أهلها برسائله، ثم يتصل بهم بواسطة الأصدقاء مراراً، وإذا اقتضى الأمر يذهب اليهم بشخصه كآخر وسيلة يلجأ اليها لتوبيخهم – كل ذلك لكي لا يخدموا آخرين فيذهب عمله هباء منثوراً.

6- أفلا يشفق الله بالأولى على خليقته كي لا تضل عنه وتعبد الأشياء الباطلة التي لا وجود لها، ما دام تبين أن ضلالهم قد سبب تلفهم وخرابهم، ولم يكن لائقاً أن يهلك اولئك الذين كانوا وقتاً ما شركاء في صورة الله.

7- اذن فما الذي كان ممكناً أن يفعله الله؟ وماذا كان ممكناً أن يتم سوى تجديد تلك الخليقة التي كانت في صورة الله، وبذلك يستطيع البشر مرة أخرى أن يعرفوه؟ ولكن كيف كان ممكناً أن يتم هذا إلا بحضور نفس صورة الله – ربنا يسوع المسيح؟ كان ذلك مستحيلاً أن يتم بواسطة البشر لأنهم انما خلقوا على مثال، ولا بواسطة الملائكة لأنهم لم يخلقوا على صورة الله. لهذا أتى كلمة الله بشخصه لكي يستطيع – وهو صورة الآب – أن يجدد خلقة الإنسان على مثال تلك الصورة.

8- ثم أن ذلك لم يكن ممكناً أن يتم ايضاً دون القضاء على الموت والفساد.

9- ولذلك كان لائقاً بطبيعة الحال أن يأخذ جسداً قابلاً للموت، حتى إذا أباد الموت فيه نهائياً أمكن تجديد البشر الذين خلقوا على صورته. اذن لم يكن كفؤاً لهذه الحاجة إلا صورة الآب.

الفصل الرابع عشر

1- وإن تلطخت الصورة المرسومة على الخشب بالأدران من الخارج وأزيلت، فلا بد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يساعد الرسام على تجديد الصورة على نفس اللوحة الخشبية، لأنه إكراماً لصورته يعز عليه أن يلقي بتلك اللوحة، وهي مجرد قطعة خشبية، بل يجدد عليها الرسم.

2- وعلى هذا المثال عينه أتى إلى عالمنا ابن الآب الكلي القداسة، إذ هو صورة الآب، لكي يجدد خلقة الإنسان الذي خُلق مرة على صورته – ويجده كضال بمغفرة الخطايا، كما يقول هو نفسه في الإنجيل: “إني جئت لكي أطلب وأخلص الضال ([44])“. ومن أجل هذا قال أيضاً لليهود: “إن كان أحد لا يولد ثانية ([45])“. وهو لا يقصد بهذا – كما ظنوا – الولادة من إمرأة، وانما قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفس، وتجديد خلقتها على مثال صورة الله.

3- ولكن إن كانت العبادة الوثنية، والمعتقدات الإلحادية، قد سادت العالم، وإن كانت معرفة الله قد أُخفيت، فمن ذا الذي كان يقوم بتعليم العالم عن الآب؟ إن قال أحد إن هذه هي مأمورية الإنسان أجبناه انه لم يكن في مقدور الإنسان أن يجتاز إلى كل مكان تحت الشمس، لأنه ليس لديه القوة الجسدية التي تمكنه من أن يركض بهذه السرعة، ولا هو يستطيع أن يدعي القدرة على القيام بهذا الأمر، ولا هو يستطيع من تلقاء نفسه – مقاومة غواية الأرواح الشريرة وحيلها.

4- لأنه اذ انحرف الجميع في تيار غواية الشيطان وأباطيل الأوثان، فكيف كان ممكناً لهم أن يربحوا نفس الإنسان وعقله، وهم عاجزون حتى عن رؤية النفس والعقل، وكيف يتاح لشخص أن يجدد ما لم يبصره؟

5- ولعل أحداً يقول أن الخلقة كانت كافية. ولكن لو كانت الخلقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الجسيمة مطلقاً، لأن الخلقة كانت موجودة فعلاً، وكان البشر لا يزالون يتخبطون في نفس الضلالة عن الله.

6- فإلى من اذن كانت تدعو الحاجة إلا لكلمة الله الذي يبصر النفس والعقل، والمحرك لكل ما في الخليقة، وبها يجعل معرفة الآب ظاهرة؟ لأن الذي كان يعلم البشر عن الآب بأعمال عنايته وبتدبيره لكل الأشياء، هو الذي يستطيع أن يجدد ذلك التعليم عينه.

7- وكيف كان ممكناً أن يتم هذا؟ رب امرئ يقول انه كان ممكناً له أن يعلن الحق عن الآب مرة أخرى بنفس الوسيلة السابقة، أي بأعمال الخليقة، ولكن هذه لم تعد وسيلة مضمونة، بل بالعكس، أن البشر سابقاً رفضوا أن يبصروها، ولم يعودوا يشخصون بأبصارهم إلى فوق بل إلى أسفل.

8- لهذا اذ ابتغى منفعة البشر، كان طبيعياً أن يأتي الينا كإنسان آخذاً لنفسه جسداً كسائر البشر، ليعلمهم من الأمور الأرضية – أي بأعمال جسده – حتى يستطيع من لا يدرون أن يعرفوه من أعمال عنايته، وسلطانه على كل الاشياء أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده الفعلي، ويعرفوا كلمة الله الحال في الجسد، وفيه يعرفون الآب.

الفصل الخامس عشر

1- وكما أن المعلم الصالح – الذي يعني بتلاميذه – يتنازل إلى مستواهم، إن رأى البعض منهم لم يستفيدوا بالعلوم التي تسمو فوق ادراكهم، ويقدم اليهم تعاليم ابسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول “بولس” أيضاً “اذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بحكمته ([46]) استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة ([47])“.

2- لأنه اذ رأى أن البشر رفضوا التأمل في الله، وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في العمق، باحثين عن الله في الطبيعة وفي عالم الحسيات، ومخترعين لأنفسهم آلهة من البشر القابلين للفناء، ومن الجن – لهذا فإن مخلص الكل المحب، كلمة الله، أخذ لنفسه جسداً، وكإنسان مشى بين الناس، وقبل احساسات كل البشر في منتصف الطريق ([48])، وحتى يستطيع من يتخيلون الله هيولياً ([49]) أن يدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده، ويدركوا ([50]) الآب فيه.

3- وهذا لأن البشر هم بشر، ولأن كل أفكارهم أصبحت بشرية، ففي كل الأمور التي ركزوا فيها احساستهم وجدوا أنفسهم قد قوبلوا في منتصف الطريق وعلموا الحق من كل ناحية.

4- فإن نظروا إلى الخليقة بدهشة ورهبة رأوها تعترف بالمسيح رباً، وان اتجهت عقولهم نحو البشر ليتوهموا انهم آلهة وجدوا أن أعمال المخلص – إن قارنوها بأعمال البشر – قد أظهرته وحده ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط من استطاع أن يأتي الأعمال التي عملها كلمة الله.

5- وان انحرفوا إلى الأرواح الشريرة وجب أن يدركوا بعد أن رأوا “الكلمة” يطردها، انه وحده هو الله، وان تلك الأرواح لا شيء.

6- وإن انحدرت عقولهم فوصلت إلى الأموات، حتى عبدوا الأبطال والآلهة التي تحدث عنها الشعراء، وجب بعد أن رأوا قيامة المخلص، أن يعترفوا أن تلك آلهة كاذبة، وان الرب وحده هو الإله الحق، كلمة الآب، وهو رب الموت ايضاً.

7- لهذا السبب ولد وظهر كإنسان، ومات، وقام ثانية بعد أن غطى بأعمال كل أعمال البشر الذين سبقوه، حتى إذا ما اتجهت أفكار البشر إلى أية ناحية استطاع أن يستردهم من هذه الناحية ويعلمهم عن ابيه الحقيقي، كما يقول عن نفسه: “أنا قد جئت لكي أطلب وأخلص ما قد هلك ([51])“.

الفصل السادس عشر

1- لأنه إذ انحط فكر البشر نهائياً إلى الأمور الحسية فقد توارى “الكلمة” بظهوره في الجسد، لكي يستطيع كإنسان أن ينقل البشر إلى ذاته، ويركز احساساتهم في شخصه وإذ يتطلع إليه البشر كإنسان، فإنه يقنعهم بالأعمال التي عملها أنه ليس مجرد إنسان بل هو إله أيضاً، وكلمة الله الحق وحكمته.

2- وهذا أيضاً هو ما قصد أن يشير إليه “بولس” اذ يقول “وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو الطول والعرض والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله ([52])“.

3- لأن كل الاشياء امتلأت من معرفة الله بإعلان “الكلمة” نفسه في كل ناحية – فوق وتحت، في العمق والعرض. أما “فوق” ففي الخليقة، و”تحت” في التأنس، وفي “العمق” (بنزوله) إلى الجحيم، وفي “العرض” أي في العالم. لقد امتلأت كل الاشياء من معرفة الله.

4- ولهذا السبب ايضاً فإنه لم يتمم ذبيحته عن الكل بمجرد مجيئه مباشرة بتقديم جسده للموت واقامته ثانية، لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهرة. ولكنه صير نفسه ظاهراً جداً بالأعمال التي صنعها وهو في الجسد. بهذه الأعمال التي عملها، والعلامات التي أظهرها، لم يعد معروفاً بعد كإنسان، بل كالله “الكلمة”.

5- لأن المخلص بتأنسه تمم عمليتي المحبة (أولاً) برفع الموت عنا، وتجديدنا (ثانياً) بإعلان نفسه وتعريف ذاته بأعماله بأنه كلمة الآب، مدبر وملك الكون، اذ كان غير ظاهر ولا منظور.

الفصل السابع عشر

1- فلا يتوهمن أحد انه أصبح محصوراً ([53]) في الجسد، أو أن كل مكان آخر أصبح خالياً منه بسبب حلوله في الجسد أو أن العالم أصبح محروماً من عنايته وتدبيره طالما كان يحرك الجسد. ولكن ما يدعو إلى الغرابة والدهشة انه، وهو “الكلمة” الذي لا يحويه مكان، فإنه هو نفسه يحوي كل الاشياء، وبينما كان حاضراً في كل الخليقة فقد كان يتميز عن سائر الكون في الجوهر ([54])، وحاضراً في كل الاشياء بقدرته، ضابطاً كل الاشياء، ومظهراً عنايته فوق كل شيء، وفي كل شيء، وواهباً الحياة لكل شيء، ولكل الاشياء، مالئاً الكل، دون أن يُحد، بل كائناً في أبيه وحده كلياً.

2- وهكذا حتى مع حلوله في جسد بشري واهباً اياه الحياة، فقد كان يمنح الحياة للكون في نفس الوقت بلا تناقض وكان حاضراً في كل عملية من عمليات الطبيعة وهو خارج الكل، ومع انه كان معروفاً من أعماله التي عملها في الجسد، كان في نفس الوقت ظاهراً أيضاً في أعمال الكون.

3- والآن، أن كانت وظيفة النفس أن تدرك حتى الاشياء الخارجة عن جسدها بقوة الفكر، فإنها لا تستطيع أن تعمل خارج نطاق جسدها، أو تحرك بنفسها الاشياء البعيدة عن الجسد. أي انه لن يستطيع انسان أن يحرك الاشياء البعيدة، أو ينقلها من مكانها، بمجرد التفكير فيها. كما انه لن يستطيع انسان، وهو جالس في بيته أن يحرك الشمس، أو يجعل السماء تدور، بمجرد التفكير في الأجرام السماوية. ولكنه انما يراها تتحرك وتوجد دون أن يكون له أي تأثير عليها.

4- أما كلمة الله في طبيعة تأنسه، فلم يكن كذلك، اذ لم يكن محصوراً في جسده، لكنه كان بالحري يستخدم الجسد، ولذا فإنه لم يكن حالاً فيه فحسب، بل كان حالاً فعلاً في كل شيء. وبينما كان خارج الكون فقد كان في أبيه وحده مستقراً.

5- وهذا هو وجه الغرابة انه بينما كان يتصرف كإنسان، كان كلمة الله يحيي كل الاشياء، وكإبن كان قائماً مع أبيه. ولذلك عندما ولدته العذراء لم يعتره أي تغيير، ولا تدنس ([55]) بحلوله في الجسد، بل بالعكس انه قدس الجسد أيضاً.

6- وعندما كان في العالم لم يشاركه في طبيعته ([56])، بل بالعكس استمدت منه كل الاشياء الحياة والقوت.

7- لأنه أن كانت الشمس التي خلقها هو والتي نراها، وهي تدور في السماء، لا تتدنس بمجرد لمسها الأجساد التي على الأرض، ولا تنطفئ بظلماتها، ولكنها بالعكس تنيرها وتظهرها ايضاً، فبالأولى جداً كلمة الله الكلي القداسة، بارئ الشمس وربها، لم يتدنس قط بمجرد ظهوره في الجسد، بل بالعكس، لأنه عديم الفساد، فقد أحيا وطهر الجسد الذي كان في حد ذاته قابلاً للفناء، لأنه قبل: “الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر ([57])“.

الفصل الثامن عشر

1- لهذا فإن الكتاب الذين كتبوا بإرشاد الروح القدس عن هذا الأمر، عندما تحدثوا عنه بأنه أكل أو بأنه ولد، فإنهم يقصدون أن الجسد كجسد ولد، وهو الذي كان يقتات بالطعام المناسب لطبيعته. أما الله “الكلمة” نفسه، الذي اتحد بالجسد، فبينما كان يضبط كل الاشياء، كان أيضاً يظهر بأعماله التي عملها في الجسد انه لم يكن انساناً، بل كان الله “الكلمة”. أما هذه الأمور فإنها تُذكر عنه، لأن الجسد الفعلي – الذي أكل، وولد وتألم لم يكن إلا جسد الرب نفسه، ولأنه إذ تأنس، كان من اللائق أن تنسب هذه الأمور إليه كإنسان، لكي يتبين أنه أخذ جسداً بالحق لا بالخيال.

2- وكما انه بواسطة هذه الأمور عرف أنه حاضر بالجسد، كذلك أعلن نفسه بواسطة الأعمال التي عملها في الجسد أنه ابن الله. لهذا هتف لليهود غير المؤمنين “ان كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعملها فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بأعمالي لكي تعرفوا وتفهموا ([58]) أن الآب فيَّ وأنا في الآب ([59])“.

3- وكما انه يعرف من أعمال الخليقة ولو كان غير منظور، هكذا إذ تأنس يمكن أن يعرف من أعماله – وهو غير منظور في الجسد – بأن من يعملها لا يمكن أن يكون انساناً بل قوة الله وكلمته.

4- فطرده الأرواح الشريرة، وخروجها في الحال، لا يمكن أن يكونا عمل انسان بل عمل الله. ومن ذا الذي بعد أن رآه يشفي الأمراض، الخاضع لها الجنس البشري، يتجاسر ويقول أنه لا يزال انساناً وليس الهاً؟ فقد طهر البرص، وجعل العرج يمشون، والصم يسمعون، والعمي يبصرون، وبإجمال طرد من كل البشر كل مرض وكل ضعف. من كل هذه كان ممكناً لأبسط انسان أن يرى لاهوته. لأنه من ذا الذي يراه يرد للإنسان ما نقصه منذ ولادته، ويفتح عيني الأعمى منذ ولادته، ولا يدرك أن طبيعة البشر كانت خاضعة له، وانه هو صانعها وبارئها. لأنه واضح جداً أن من رد للإنسان ما كان ينقصه منذ ولادته، لابد وان يكون ايضاً رب ميلاد البشر الطبيعي([60]).

5- ولذلك فإنهن وهو نازل الينا، صور لنفسه جسداً من عذراء، لكي يقدم للجميع برهاناً قوياً على لاهوته، بإعتبار أن من صور هذا الجسد هو ايضاً مكون سائر الأشياء. لأنه من ذا الذي يرى جسداً يخرج من عذراء وحدها بدون رجل، ولا يدرك أن من ظهر فيه لابد أن يكون صانع ورب باقي الأجساد أيضاً.

6- أو من ذا الذي يرى مادة الماء تتحول خمراً ولا يدرك أن من فعل هذا لابد أن يكون هو رب وصانع مادة كل المياه؟ ولأجل هذه الغاية أيضاً مشى على المياه كسيدها؟ ومشى كما على أرض ناشفة، لكي يقدم لمن رآه برهاناً على سلطانه على كل الاشياء. وعندما أطعم جمعاً غفيراً من قليل، ومن تلقاء ذاته قدم الكثير من العدم، فأكل خمسة آلاف نفس من خمسة أرغفة وشبعوا وفضل عنهم الكثير، ألم يظهر ذاته بأنه هو الرب نفسه الذي يشمل كل الاشياء بعنايته؟

الفصل التاسع عشر

1- كل هذا قد سُر المخلص أن يفعله، حتى بعد ما عجز البشر عن إدراك عنايته المعلنة في الكون، أو عن ادراك لاهوته المعلن في الخليقة، يستطيعون على أي حال أن يستردوا بصيرتهم من أعمال جسده، ويحصلوا بواسطته على معرفة الآب. ويتبينوا – كما قلت – من بعض حالات خاصة، عنايته بالكل.

2- لأنه من ذا الذي يرى سلطانه على الأرواح النجسة أو من ذا الذي يرى الأرواح النجسة تعترف بأنه هو ربها، ويشك بعد ذلك في أنه هو ابن الله وحكمته قوته؟

3- لأنه جعل حتى الخليقة تخرج عن صمتها. أليس مدهشاً أن تذكر انه حتى في موته، أو بالحري في انتصاره الفعلي في الموت، أعني في الصليب، اعترفت كل الخليقة بأن من ظهر وتألم في الجسد لم يكن مجرد انسان بل ابن الله ومخلص الكل؟ فالشمس أخفت وجهها، والأرض تزلزلت، والجبال تشققت، وسادت كل البشر رهبة شديدة. كل هذه الأمور بينت أن المسيح الذي على الصليب هو الله، اذ صارت كل الخليقة خاضعة له خضوع العبيد، وشهدت برعبها وفزعها لحضور سيدها. وهكذا أعلن الله “الكلمة” نفسه وقتئذ للبشر بأعمال.

4- إن الخطوة التالية لنا في هذا البحث هي أن نتأمل ونتحدث عن نهاية حياته بالجسد، وعن طبيعة موت جسده، سيما وأنه في هذا يتلخص ايماننا، وهذا هو الشغل الشاغل لأفكار الجميع بلا استثناء، حتى يتضح لك يقيناً أن المسيح هو الله وابن الله.

الفصل العشرون

1- لقد أوضحنا جزئياً – على قدر الاستطاعة وعلى قدر ما امكننا فهمه – سبب ظهوره في الجسد، انه لم يكن ممكناً أن يحول الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه، الذي خلق من البداية كل شيء من العدم، ولم يكن ممكناً أن يعيد للبشر صورة الله ومثاله إلا صورة الآب، ولم يكن ممكناً أن يلبس المائت عدم الموت إلا ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة، ولم يكن ممكناً أن يعلم البشر عن الآب، ويقضي على عبادة الأوثان إلا “الكلمة” الضابط الكل، الذي هو ابن الآب الوحيد الحقيقي.

2- ولكن لما كان ضرورياً ايضاً وفاء الدين المستحق على الجميع، لأنه – كما بينت سابقاً ([61]) – كان الجميع مستحقين الموت، الأمر الذي من أجله – كسبب جوهري حقيقي – اتى المسيح بيننا، لأجل هذه الغاية. وبعد تقديم البراهين الكثيرة عن لاهوته بواسطة أعماله – قدم ذبيحة نفسه أيضاً عن الجميع اذ سلم هيكله للموت عوضاً عن الجميع، أولاً لكي يحرر البشر من معصيتهم القديمة، وثانياً لكي يظهر انه أقوى من الموت، بإظهاره أن جسده عديم الفساد كباكورة لقيامة الجميع.

3- ولا تتعجب أن كنا نكرر مراراً نفس الكلمات في نفس الموضوع ([62])، لأننا ما دمنا نتحدث عن مشورة الله، وجب علينا توضيح المعنى الواحد على وجوه مختلفة، لكي لا يظن بنا اننا تركنا ناحية من النواحي كأننا نتكلم عن عجز وتقصير لأنه خير لنا أن نعرض للوم الانتقاد بسبب التكرار من أن نترك ناحية من النواحي كان يجب تفصيلها.

4- وما دام الجسد قد اشترك في ذات الطبيعة مع الجميع لأنه كان جسداً بشرياً، وان كان قد أخذ من عذراء فقط بمعجزة فريدة، فكان لابد أن يموت ايضاً كسائر البشر نظرائه، لأنه كان جسداً قابلاً للموت. ولكنه بفضل اتحاده “بالكلمة”، لم يعد خاضعاً للفساد بمقتضى طبيعته، بل خرج عن دائرة الفساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه.

5- وهكذا تم عملان عجيبان في الحال: أولهما اتمام موت الجميع في جسد الرب. والثاني القضاء على الموت والفساد كلية بفضل اتحاد الكلمة بالجسد. لأنه كان لابد من الموت، وكان لابد أن يتم الموت نيابة عن الجميع، لكي يوفي الدين المستحق على الجميع.

6- ولما كان مستحيلاً – كما قدمت سابقاً أن يموت “الكلمة” لأنه غير قابل للموت، فقد أخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت، حتى يمكن أن يقدمه كجسده نيابة عن الجميع، وحتى إذا ما تألم نيابة عن الجميع بإتحاده بالجسد “يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي ابليس ويعتق اولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ([63])“.

الفصل الحادي والعشرون

1- والآن، إذ مات عنا مخلص الجميع، فإننا نحن الذين بالمسيح لا نموت بعد، كما كانوا قديماً حسب وعيد الناموس، لأن هذا الحكم قد بطل. وإذ بطل الفساد، وأبيد بنعمة القيامة، فإننا من ذلك الوقت إنما ننحل وفقاً لطبيعة أجسادنا الفانية، في الوقت الذي حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل.

2- لأننا – كالبذور التي تُلقى في الأرض – لا نهلك بإنحلالنا، بل نُزرع في الأرض لنقوم ثانية، إذ أبيد الموت بنعمة القيامة ([64]) للجميع “لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت، أين غلبتك يا هاوية ([65])“.

3- ولعل متسائلاً يقول: أن كان لابد له أن يسلم جسده للموت نيابة عن الجميع، فلماذا لم يضع هذا الجسد كأي إنسان سراً عوضاً عن أن يشهر به إلى هذا الحد ويموت مصلوباً، انه كان أكثر لياقة أن يسلم جسده بكرامة ووقار من أن يحتمل موتاً مشيناً كهذا.

4- ورداً على هذا أقول إن اعتراضاً كهذا، لا يمكن إلا أن يكون بشرياً، بينما ما فعله المخلص هو إلهي حقاً، ولائق بلاهوته لأسباب كثيرة. أولاً أن الموت الذي يصيب البشر يأتيهم لأنه يتناسب مع ضعف طبيعتهم، فإنهم إذاً لا يستطيعون البقاء على حال واحدة، لكنهم ينحلون مع الزمن، بسبب هذا أيضاً تنتابهم الأمراض ثم يموتون. أما الرب فإنه ليس ضعيفاً، بل هو قوة الله، وكلمة الله، وهو الحياة عينها.

5- ولو أنه أسلم جسده في مكان ما سراً، وعلى فراش كعادة البشر، لأعتبر بأنه فعل ذلك أيضاً نظراً لضعف طبيعته، ولأنه لم يكن فيه ما يميزه عن سائر البشر. أما وأنه أولاً كان الحياة وكلمة الله، وثانياً كان من الضروري أن يتم حكم الموت نيابة عن الجميع، لهذا نال الجسد منه قوة لأنه هو القوة، وهو الحياة.

6- هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، فما دام الموت لابد أن يتم، فإنه لم يسع بنفسه إلى الفرصة التي بها يتمم ذبيحته، بل قبلها من أيدي الآخرين. لأنه لم يكن لائقاً أن يرقد الرب في فراش المرض وهو الذي شفى أمراض الآخرين، ولم يكن لائقاً أن تنحل قوة ذلك الجسد الذي به قوى ضعفات الآخرين.

7- ولماذا لم يتجنب الموت كما تجنب المرض؟ ذلك لأنه لهذا اتخذ الجسد، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تمتنع القيامة أيضاً. كما أنه لم يكن لائقاً أن يسبق المرض موته لئلا ينسب الضعف لذاك الذي كان في الجسد. ولكن ألم يكابد الجوع؟ نعم انه جاع كما يليق بخواص جسده، على أنه (اي الجسد)، لم يمت من الجوع من أجل الرب الذي لبسه. لهذا فإنه وإن كان قد مات لفداء الجميع، لكنه لم ير فساداً. لأن جسده قام ثانية سليماً جداً، إذ لم يكن سوى جسد ذاك الذي هو الحياة ذاتها.

الفصل الثاني والعشرون

1- ولعل أحداً يقول: كان الأفضل أن يختفي من مؤامرات اليهود لكي يحفظ جسده بالكلية من الموت. فليسمح مثل هذا أن ذلك ايضاً لم يكن لائقاً بالرب. لأنه كما لم يكن لائقاً بكلمة الله – وهو الحياة – أن يوقع الموت على جسده بنفسه، كذلك لم يكن لائقاً أن يهرب من الموت الذي يأتي به الآخرون، بل بالحري أن يتابعه حتى النهاية. ولهذا السبب فإنه بطبيعة الحال لم يسلم جسده من تلقاء ذاته، كما أنه لم يهرب من اليهود عندما تآمروا ضده.

2- على أن ذلك لم يبين ضعف “الكلمة”، بل بالعكس أكد أنه هو المخلص وهو الحياة، لأنه أولاً انتظر الموت ليبيده، وثانياً عجل بإتمام الموت المقدم إليه لأجل خلاص الجميع.

3- وفضلاً عن ذلك فإن المخلص لم يأت لكي يتمم موته هو، بل موت البشر ([66]) لذلك لم يضع جسده بموت أتى به من نفسه ([67]) لأنه هو الحياة، ولم يكن قابلاً للموت، بل قبل الموت الذي أتاه من البشر، لكي يبيده نهائياً عندما يلتقي به في جسده.

4- ومما يلي أيضاً، يستطيع المرء أن يدرك أن جسد الرب كان يليق به أن يتمم هذه الغاية. فالرب كان مهتماً بصفة خاصة بقيامة الجسد التي كان معتزماً أن يكملها. لأنه كان يريد أن يقدمها كدليل على انتصاره على الموت، ويؤكد للجميع انه أزال كل أثر للفساد، ومن ثم منح أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين، ولهذا حفظ جسده غير فاسد كضمانة وبرهان على القيامة التي تنتظر الجميع.

5- ومرة أخرى نقول انه لو كان جسده قد تعرض للمرض، وانفصل عنه “الكلمة” أمام نظر الجميع، لكان غير لائق بمن شفى أمراض الآخرين أن يسمح لآنيته أن تموت بالمرض. فكيف يصدق اذن في شفائه الأمراض ([68]) لو كان هيكله قد تعرض للمرض ([69])” لأنه إما أن يهزأ به كأنه لا قدرة له على شفاء الأمراض، أو، أن كان قادراً ولم يفعل شيئاً (ليرد المرض عن جسده)، ظن به أنه عديم الشفقة على الآخرين أيضاً.

الفصل الثالث والعشرون

1- وحتى لو كان قد أسلم جسده سراً، ومن تلقاء ذاته بدون مرض ولا ألم، “في زاوية ([70])” أو في بيداء أو منزل أو في أي مكان، وبعد ذلك ظهر بغتة وقال انه قام من الأموات، لخيل للجميع أن كلامه كالهذيان ([71])، ولما صدقوا كلمة واحدة مما قاله عن القيامة، لأنه لم يكن هنالك من يشهد عن موته. والآن يجب أن يسبق الموت القيامة، لأنه لا يمكن أن تكون قيامة ما لم يسبقها الموت. ولو كان موت جسده قد تم سراً في أي مكان، ولم يكن ظاهراً ولم يتم أمام شهود، لكانت قيمته ايضاً قد اختفت ولم يقم لها دليل.

2- ولماذا يسمح أن يكون موته سراً إن كان بعد أن قام أعلن قيامته للملأ؟ وان كان قد طرد الأرواح الشريرة أمام الجميع، وفتح عيني الأعمى منذ ولادته، وحول الماء خمراً، حتى يؤمن الجميع بهذه الوسائط بأنه هو كلمة الله، فلماذا لا يعلن أمام الجميع عدم فساد جسده ليؤمنوا بأنه هو الحياة؟

3- وكيف كان ممكناً أن يجسر تلاميذه على التحدث عن القيامة إن لم يستطيعوا القول انه مات أولاً؟ وكيف كان ممكناً أن يصدق كلامهم بأن الموت تم أولاً ثم القيامة أن لم يوجد بين من يكلمونهم بجرأة من يشهد بموته؟ فرغماً عن أن الموت والقيامة قد حدثا أمام الجميع فإن الفريسيين في ذلك الوقت لم يؤمنوا بل أكرهوا حتى الذين شهدوا القيامة على إنكارها. ولو أن هذه الأمور تمت سراً، فما أكثر الحجج التي كانوا يخترعونها دفاعاً عن عدم ايمانهم.

4- وكيف كان ممكناً إقامة الدليل على تحقيق غاية الموت وغلبته، ما لم يكن قد تحداه أمام أعين الجميع، وأظهر بأنه ميت، وبأن شوكته في المستقبل قد أبطلت، وذلك بعدم فساد جسده؟

الفصل الرابع والعشرون

1- ونراه ضرورياً أن نرد مقدماً على ما قد يعترض به الآخرون، فقد يقول قائل: إن كان لابد أن يتم موته أمام الجميع، وبشهادة الشهود، لكي تصدق رواية قيامته، فكان الأفضل على أي حال أن يدبر لنفسه موتاً مجيداً تخلصاً من عار الصليب.

2- ولكن حتى لو فعل هذا، لأعطى فرصة للتشكك في شخصه، بأنه لم يكن يقوى على كل موت، بل على الموت الذي اختاره لنفسه ([72]) فقط، ولوجدت هنالك في نفس الوقت علة لعدم الايمان بالقيامة أيضاً، لهذا أتى الموت إلى جسده، ليس باختياره هو، بل بمشورة أعدائه، حتى إذا ما أتوه بأي شكل من الموت استطاع أن يبيده كلية.

3- وكما أن المصارع النبيل، مهما كان مقتدراً في الذكاء والشجاعة، لا يختار خصومه الذين يبارزهم، لئلا يشك في أنه يرهب اشخاصاً معينين منهم، بل يترك الإختيار للمشاهدين، سيما إذا اتفق بأن يكونوا اعداءه، حتى إذا ما اختاروا أياً كان استطاع أن ينتصر عليه، فيؤمن الكل بأنه قد بز الجميع، كذلك الحال ايضاً مع ربنا ومخلصنا يسوع المسيح حياة الجميع فإنه لم يختر لجسده موتاً معيناً، لئلا يظن بأنه خشى شكلاً آخر من الموت، ولكنه قبل موت الصليب، واحتمل الموت الذي أوقعه عليه الآخرون، سيما أعداؤه، والذي ظنوه مرعباً ومحقراً ولا يمكن التغلب عليه، حتى إذا ما أباد ذلك الموت ايضاً، آمن الجميع بأنه هو الحياة، وأبيد سلطان الموت نهائياً.

4- وهكذا تم أمر عجيب ومدهش، لأن الموت الذي اختاروه له، للمبالغة في تحقيره، كان بالذات علامة للإنتصار على الموت نفسه. ولهذا لم يمت موت “يوحنا” بقطع رأسه وفصلها عن جسده، ولا مات موت “اشعياء” بنشر جسده وشطره نصفين، وذلك لكي يحفظ جسده سليماً غير مجزأ حتى في موته، ولكي لا تعطي حجة للذين يريدون تجزئة الكنيسة وانقسامها.

الفصل الخامس والعشرون

1- وهكذا نستطيع أن نجد اجابات كثيرة رداً على الذين هم من الخارج، الذين يكدسون الاحتجاجات لأنفسهم. وان قام من شعبنا من يتساءل – ليس حباً في الجدل والمحاورة، بل حباً في العلم والمعرفة، لماذا لم يمت بأي شكل آخر غير الصليب، فليعلم بأنه لم تكن هناك طريقة أخرى أصلح لنا منها.

2- لأنه أن كان قد أتى ليحمل عنا اللعنة الموضوعة علينا، فكيف كان ممكناً أن يصير لعنة ([73])، ما لم يمت موت اللعنة الذي هو الصليب. لأن هذا هو المكتوب تماماً “ملعون كل من عُلق على خشبة ([74])“.

3- وأيضاً أن كان موت الرب قد صار كفارة عن الجميع وبموته نقض حائط السياج المتوسط ([75])، وصارت الدعوة لجميع الأمم، فكيف كان ممكناً أن يدعونا إليه لو لم يُصلب؟ لأنه لا يمكن أن يموت انسان وهو باسط ذراعيه إلا على الصليب. لهذا لاق بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط يديه، حتى باليد الواحدة يجتذب الشعب القديم، وبالأخرى يجتذب الذين هم من الأمم، ويتحد الإثنان في شخصه.

4- هذا هو ما قاله بنفسه، مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يفدي بها الجميع “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الي الجميع ([76])“.

5- ومرة أخرى نقول: هوى من السماء، الشيطان عدو جنسنا فإنه يجول في أجوائنا السفلية، وفيها يتسلط على الأرواح زميلاته التي اشتركت معه في المعصية، ويحاول لا أن يغوي الذين ينخدعون بواسطة هذه الأرواح فحسب، بل أن يعطل أيضاً الذين يريدون أن يرتفعوا إلى فوق. وعن هذا يقول الرسول “حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية ([77])” مع أن الرب جاء ليطرح الشيطان إلى أسفل، ويطهر الجو، ويهيئ لنا الطريق المرتفع إلى السماء “بالحجاب أي جسده” كما قال الرسول ([78])، وهذا يستلزم أن يكون بالموت. وبأي موت كان ممكناً أن يتم هذا إلا بالموت الذي يتم في الهواء، أعني بالصليب؟ لأن من مات على الصليب هو وحده الذي يموت معلقاً في الهواء. لهذا كان لائقاً جداً أن يموت المسيح هذا النوع من الموت.

6- وإذ رفع هكذا طهر الهواء من خبث الشيطان، ومن خبث الأرواح النجسة بجميع أنواعها، كما يقول “رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء ([79])“، وفتح طريقاً جديداً للصعود إلى السماء، كما يقول مرة أخرى “ارفعوا ايها الرؤساء أبوابكم وارتفعن ايتها الأبواب الدهريات ([80])” لأنه لم يكن “الكلمة” نفسه هو المحتاج لإنفتاح الأبواب، اذ هو رب الكل، كما أنه لم يكن أي شيء من خليقته مغلقاً في وجه صانعه، بل نحن الذين كنا في حاجة إلى ذلك، نحن الذين حملنا في جسده. لأنه كما قدم جسده للموت عن الجميع. هكذا بجسده ايضاً أعد الطريق للصعود إلى السموات مرة أخرى.

الفصل السادس والعشرون

1- إذن فقد اتضح أن الموت الذي تم على الصليب من أجلنا كان لائقاً وموافقاً، وأن الباعث له كان معقولاً من جميع الوجوه، ولعله من العدل أن نقرر أخيراً، أنه لم تكن هنالك طريقة أخرى يتم بها خلاص الجميع إلا بالصليب. لأنه حتى على الصليب، لم يترك نفسه مستتراً عن العيان. والأكثر من ذلك أنه بعد أن جعل الطبيعة تشهد بحضور بارئها، لم يترك هيكل جسده يبقى طويلاً، بل حالما أظهر أنه مات، بإحتكاك الموت به أقامه فوراً في اليوم الثالث، حاملاً معه – كعلامة للظفر والغلبة على الموت – عدم الفساد، وعدم إمكانية التألم اللذين حصل عليهما جسده.

2- لقد كان في استطاعته أن يقيم جسده بعد الموت مباشرة، ويظهره حياً. ولكن المخلص، بحكمة وبعد نظر، لم يفعل ذلك أيضاً، لئلا يقول أحد بأنه لم يمت على الإطلاق، أو أن الموت لم يمسسه كلية، لو أنه أظهر القيامة تواً.

3- ولو كانت فترة موته وقيامته يومين فقط، لما ظهر مجد عدم فساده هذا، ولكي يؤكد موت الجسد، بقى “الكلمة” يوماً آخر متوسطاً بين هذين اليومين، وفي اليوم الثالث أظهره للجميع عديم الفساد.

4- إذن فلكي يقيم الدليل على موت الصليب، أقام جسده في اليوم الثالث.

5- ولئلا يكذب إن أقامه بعد مدة طويلة، بعد أن يكون قد فسد كلية، كأن يظن بأنه استبدله بجسد آخر – لأن الإنسان بمرور الزمن قد يشك فيما سبق أن رآه، وينسى ما قد تم فعلاً – لهذا السبب لم يلبث أكثر من ثلاثة أيام، كما أنه لم يعلق طويلاً نفوس الذين سبق فأخبرهم عن القيامة.

6- ولكن إذ كانت أقواله ما زالت ترن في آذانهم، وكانت أبصارهم لا زالت شاخصة، وعقولهم مفكرة حائرة، وإذ كان الذين قتلوه لا يزالون أحياء على الأرض، وفي نفس المكان، ويستطيعون أن يشهدوا بموت جسد الرب، فقد أظهر ابن الله جسده – الذي كان قد مات – بعد فترة ثلاثة أيام غير مائت وعديم فساد، فتبين للجميع أن الموت لم يصب الجسد بسبب أي ضعف طبيعي “للكلمة” الذي حل فيه، بل لكي يُباد الموت فيه بقوة المخلص.

الفصل السابع والعشرون

1- فإن كان كل تلاميذ المسيح يحتقرون الموت، ويتحدونه، ولا يعودون بعد يخشونه، بل بعلامة الصليب، وبالإيمان بالمسيح يدوسونه كميت، كان هذا برهاناً غير يسير، بل بالحري بينة واضحة، على أن الموت قد أُبيد، وأن الصليب صارت النصرة عليه، وأنه لم يعد له سلطان، بل مات موتاً حقيقياً.

2- فقديماً – قبل الظهور الإلهي للمخلص – كان الموت مرعباً حتى للقديسين([81])، وكان الكل ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أما الآن، وقد أقام المخلص جسده، لم يعد الموت مرعباً بعد، لأن كل الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شيء، ويفضلون أن يموتوا عن أن ينكروا ايمانهم بالمسيح. لأنهم يعلمون يقيناً أنهم عندما يموتون لا يهلكون، بل يبدأون الحياة فعلاً، ويصبحون عديمي الفساد بفضل القيامة.

3- أما ذلك الشيطان، الذي بخبثه فرح بالموت قديماً، فإنه الآن، إذ انحلت أوجاعه، قد بقى هو الوحيد الميت موتاً حقيقياً. والدليل على ذلك أن الناس قبل أن يؤمنوا بالمسيح يرون الموت مفزعاً ومرعباً، ويجبنون أمامه. ولكنهم عندما ينتقلون إلى ايمان المسيح وتعاليمه، يحتقرون الموت احتقاراً عظيماً، لدرجة أنهم يسارعون اليه، ويصيرون شهوداً للقيامة التي انتصر بها المخلص عليه. وبينما تراهم لا يزالون في عنفوان الشباب، إذا بهم يسارعون إلى الموت، لا الرجال فقط، بل النساء أيضاً، ويدربون أنفسهم بأنظمة جسدية للجهاد ضده. ووصل الضعف بالشيطان لدرجة أن النساء أنفسهن، اللواتي قد خدعن قديماً، يهزأن به الآن كميت ومنحل القوى.

4- وكما أنه عندما يُغلب الظالم أمام ملك حقيقي، وتوثق يداه ورجلاه، يصبح هزأة لدى كل من يمر به، ويُحتقر ويُزدرى به، ولا يعود أحد يخشى غضبه أو وحشيته، بسبب الملك الذي ظفر به، كذلك الموت أيضاً إذ قهره المخلص وشهر به على الصليب، وأوثق يديه ورجليه، فإن كل الذين هم في المسيح يدوسونه إذ يمرون به، ويهزأون به شاهدين للمسيح، ويسخرون منه مرددين ما قيل عنه في القديم “أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية ([82])“.

الفصل الثامن والعشرون

1- هل هذا برهان تافه على ضعف الموت؟ أم هذا ايضاح ضئيل للنصرة التي نالها المخلص عليه، إن كان الشبان والشابات الذين في المسيح يحتقرون هذه الحياة ويرحبون بالموت؟

2- فالإنسان بطبيعته يرهب الموت، ويفزع من إنحلال الجسد. ولكن المدهش جداً أن من يتقلد الإيمان بالصليب يحتقر حتى ما هو مفزع بالطبيعة، ولا يرهب الموت إكراماً للمسيح.

3- النار بطبيعتها محرقة. فكما انه أن قال انسان هنالك مادة لا تخشى قوة النار المحرقة، بل بالعكس تبرهن أنها ضعيفة – كما يقول الهنود عن الإسبستوس – ولم يصدق أي شخص هذه الرواية، فما عليه إن أراد أن يختبرها إلا أن يأتي بهذه المادة ويضعها في النار، ليتأكد من الضعف الذي نُسب إلى النار ([83]).

4- أو إن أراد إنسان أن يرى الظالم قد أوثق، فما عليه إلا أن يذهب إلى مملكة ومنطقة قاهرة ومذللة، فيرى ذلك الظالم المفزع للآخرين قد تذلل وصار ضعيفاً، هكذا أيضاً إن وجد هنالك شخص مرتاب، حتى بعد تلك البراهين الكثيرة، وبعد استشهاد تلك الجماهير الغفيرة في المسيح، وبعد الاستهزاء بالموت الذي يبدو كل يوم ممن تلألأوا في المسيح، إن كان عقله لا يزال يشك في أن الموت قد أُبطل وأُبيد، فحسناً يفعل إن كان يدهش من أمر عظيم كهذا، ولكن يجب أن لا يصر على عناده في شكوكه، ولا يقسي قلبه ويغلق بصيرته أمام أمر واضح كهذا.

5- بل كما أن الشخص الذي لديه مادة الإسبستوس هو الذي يدرك أن النار لا تقوى عليها، وكما أن من يريد أن يرى الظالم العاتي قد تذلل وأوثق يذهب إلى مملكة مذللة، كذلك ليس على من يشك في حقيقة غلبة الموت، إلا أن يقبل ايمان المسيح، وينتقل إلى تعاليمه، فيتحقق من ضعف الموت ومن غلبته. فكثيرون ممن كانوا غارقين في شكوكهم مستهزئين آمنوا فيما بعد، فإحتقروا الموت لدرجة أنهم استشهدوا من أجل المسيح.

الفصل التاسع والعشرون

1- والآن إن كان الموت يُداس بعلامة الصليب وبالإيمان بالمسيح، فإنه يتبين أمام محكمة الحق أنه ليس أحد آخر سوى المسيح نفسه، قد أحرز الإنتصار والغلبة على الموت، وجعله يفقد كل قوته.

2- وإن كان الموت – بعد أن كان سابقاً قوياً ومفزعاً – يحتقر الآن بعد مجيء المخلص وموت جسده وقيامته، فإنه يتبين أنه قد أُبيد، وأن المسيح نفسه الذي صعد على الصليب قد قهره.

3- لأنه كما أن الشمس عندما تشرق بعد انتهاء الليل تستنير بها كل أقطار الأرض، فمما لا شك فيه أن الشمس هي التي أرسلت نورها إلى كل مكان، وهي التي بددت الظلام واضاءت كل شيء، هكذا أيضاً إن كان الموت قد احتقر وديس تحت الأقدام منذ ظهور المخلص في الجسد بخلاصه، وموته على الصليب، فيجب أن يكون واضحاً تمام الوضوح، أن نفس المخلص الذي ظهر في الجسد هو الذي أباد الموت، وهو الذي يظهر علامات الإنتصار عليه كل يوم في تلاميذه.

4- لأنه عندما يرى المرء أن البشر ضعفاء بطبيعتهم يصارعون الموت، ويتهافتون عليه دون أن يخشوا عوامله المفسدة، أو أن ينزعجوا من النزول إلى الهاوية، بل يتحدونه بحماس، ودون أن يجزعوا من التعذيب، بل بالعكس يصارعون الموت، مفضلينه على الحياة على الأرض، أو عندما يشاهد المرء بعينيه أن الرجاء والنساء والأحداث ([84]) يقفزون إلى الموت من أجل ديانة المسيح، فمن هو ذلك الغبي المتشكك، أو عديم العقل، الذي لا يرى ولا يدرك أن المسيح، الذي يشهد له البشر، هو الذي يعضدهم بنفسه، ويهب لكل واحد النصرة على الموت، ملاشياً كل قواته في كل من يتمسك بإيمانه، ويحمل علامة الصليب.

5- ومن ذا الذي يرى الحية مدوسة بالأقدام، سيما وهو يعرف بطشها السابق، ويشك في أنها قد ماتت وتلاشت كل قوتها، إلا إذا كان قد فقد توازنه العقلي، وعدم حتى حواسه الجسدية. ومن ذا الذي يرى أسداً يعبث به الأطفال، ولا يدرك انه إما أن يكون قد مات أو فقد كل قوته؟

6- وكما انه من الممكن أن نرى بأعيننا صدق كل هذا، هكذا أيضاً إن كان الموت يعبث به المؤمنون بالمسيح ويحتقرونه، وجب أن لا يشك أحد فيما بعد أو يبقى غير مصدق، بأن المسيح قد ابطل الموت وأباده وأوقف فساده.

الفصل الثلاثون

1- إذاً فإن ما قررناه إلى الآن ليس برهاناً هيناً على أن الموت قد أُبطل، وأن الرب هو علامة الإنتصار عليه. أما عن قيامة الجسد إلى عدم الموت، التي أتمها عندئذ المسيح مخلص الجميع، والحياة الحقيقية للجميع، فإن اثباتها بالوقائع أكثر وضوحاً من اثباتها بالحجج والبراهين، لمن سلمت بصيرتهم العقلية.

2- لأنه إن كان الموت قد أُبطل، كما بيننا في أدلتنا السابقة، وان كان الجميع قد وطئوه بأقدامهم بفضل نعمة المسيح، فبالأولى جداً يكون هو نفسه قد وطئه بجسده أولاً وأبطله. وإن كان المسيح قد قتل الموت ([85])، فماذا كان ممكناً أن يحدث إلا أن يقيم جسده. ويظهره كعلامة للنصرة على الموت؟ كيف كان ممكناً إظهار إبادة الموت ما لم يكن جسد الرب قد قام؟ وإن كانت هذه الأدلة على حقيقة القيامة تبدو لأي امرئ غير كافية لإقناعه، فليتحقق ما قلناه. أي مما يحدث أمام عينيه.

3- لأنه عند القبر. وإن كان الانسان بموته تبطل قواه وينتهي نفوذه وسلطانه عند القبر. وإن كانت الأعمال والنفوذ على البشر لا تخص إلا الأحياء، فلينظر كل من أراد، وليكن شاهداً للحق مما يبدو أمام عينيه.

4- لأنه إن كان المخلص يعمل الآن أعمالاً عظيمة كهذه بين البشر، ولا يزال كل يوم بكيفية غير منظورة، يقنع الجماهير العديدة من كل ناحية، سواء من سكان اليونان أو البلاد الغربية، ليقبلوا إلى ايمانه، ويطيع الجميع تعاليمه، فهل لا يزال يوجد من يتطرق الشك إلى عقله أن القيامة قد أتمها المخلص، أو أن المسيح حي، أو بالحري انه هو نفسه الحياة؟

5- وهل يتاح لشخص ميت أن ينخس ضمائر البشر، فيثوروا ضد نواميسهم الموروثة، ويخضعوا لتعاليم المسيح؟ وإن كان المسيح لم يعد بعد عاملاً متحركاً (كما يتفق مع خاصية الميت)، فهل يستطيع أن يصد الأحياء عن حركاتهم وأعمالهم، وحتى يكف الزاني عن الزنى، والقاتل عن القتل، والظالم عن الظلم والإغتصاب، وحتى يصبح الدنس فيما بعد متديناً ([86])؟ ولو أنه لم يقم. بل لا يزال ميتاً، فكيف يستطيع أن يطرد ويطارد ويحطم تلك الآلهة الكاذبة، التي يقول الملحدون أنها حية، والأرواح الشريرة التي يعبدونها؟

6- لأنه حيث ذكر اسم المسيح، ونودي بايمانه، انقشعت كل عبادة وثنية. وفضحت كل أضاليل الأرواح الشريرة. ولم يستطع أي روح أن يحتمل حتى الإسم، بل يهرب ويختفي بمجرد سماع الإسم، وهذا لا يمكن أن يكون عمل شخص ميت، بل هو عمل شخص حي، بل هو عمل الله.

7- ونحن بنوع أخص نقرر انه من الحماقة القول بأن الأرواح التي بددها، والأصنام التي أبطلها حية، وان من طاردها، وبسلطانه منعها حتى من الظهور، ومن شهد له الجميع بأنه ابن الله – ميت.

الفصل الحادي والثلاثون

1- على أن الذين ينكرون القيامة يقدمون حجة قوية ضد أنفسهم. إن كانت الأرواح والآلهة التي يعبدونها، بدلاً من أن تطرد المسيح الذي يدعون بأنه ميت، قد برهن المسيح على العكس بأنها كلها ميتة.

2- وإن كان حقاً أن الميت لا يستطيع أن يبذل أي مجهود، في حين أن المخلص يتمم كل يوم أعمالاً متعددة، جاذباً البشر إلى الديانة الطاهرة، ومقنعاً اياهم بضرورة التحلي بالفضيلة، ومعلماً اياهم حقيقة الخلود، وباعثاً فيهم الرغبة في الأمور السماوية. ومعلناً لهم معرفة الآب، نافثاً فيهم القوة لملاقاة الموت، ومعلناً ذاته لكل واحد، وملاشياً فجور العبادة الوثنية، بينما تعجز الآلهة والأرواح التي يعبدها غير المؤمنين أن تفعل شيئاً من تلك الأمور، بل بالعكس تظهر بأنها ميتة في حضرة المسيح، وتبدو عظمتها ضعفاً وباطل الأباطيل، بينما بعلامة الصليب يبطل كل السحر، وتتلاشى كل قوات العرافة، وتهجر كل الأوثان، وتبطل كل الملذات غير المقدسة، وتتحول أنظار الجميع من الأرض إلى السماء – فمن ذا الذي يستحق أن يُدعى ميتاً؟ هل المسيح الذي يتمم أعمالاً كثيرة كهذه ونعلم أن الميت لا يعمل؟ أم هو ذاك الذي لا يبذل أي مجهود مطلقاً، بل هو ملقى عديم الحياة، الأمر الذي ينطبق على الأوثان والأرواح الشريرة لأنها ميتة؟

3- لأن ابن الله حي وفعال ([87]) يعمل كل يوم، ويتمم الخلاص للجميع. أما الموت ففي كل يوم يبرهن انه فقد كل قوته، والأصنام والأرواح الشريرة تبرهن على موتها، وليس المسيح. لهذا لا يستطيع أي امرئ فيما بعد أن يشك في قيامة جسده.

4- أما من لا يصدق قيامة جسد الرب، فيظهر بأنه يجهل قوة كلمة الله وحكمة الله. لأنه إن كان قد اتخذ لنفسه جسداً، وهيأه بحكمته الفائقة ليكون لائقاً به كما بيننا فيما سبق، فما الذي كان يصنعه الرب بذلك الجسد؟ أو ماذا كان يمكن أن تكون نهاية الجسد اذ حل “الكلمة” فيه؟ لأنه لم يكن ممكناً إلا أن يموت، إذ هو جسد قابل للموت، ويقدم إلى الموت عن الجميع. ولأجل هذه الغاية صوره المخلص لنفسه، على أنه كان مستحيلاً أن يبقى مائتاً اذ صار هيكلاً للحياة، لهذا، فإذا مات كجسد مائت، عاد إلى الحياة بفضل “الحياة” التي فيه، وما الأعمال إلا علامة لقيامته.

الفصل الثاني والثلاثون

1- ولكن إن كان لا يُصدق أنه قد قام لأنه لا يُرى، الجاز لمن لا يصدقون أن ينكروا مجرى الطبيعة. لأن من خواص الله الغريبة انه لا يُرى، ومع ذلك فهو يُعرف من أعماله كما بيننا فيما سبق.

2- ولو لم توجد الأعمال لجاز لهم أن ينكروا ما هو غير ظاهر. أما إن كانت الأعمال تصرخ عالياً، وتوضحه ([88]) جلياً، فلماذا يحبون أن ينكروا الحياة الناجمة بجلاء عن القيامة؟ لأنه حتى ولو طمست بصيرة البشر فإنهم بحواسهم الظاهرة يستطيعون أن يدركوا قوة المسيح ولاهوته، اللذين لا يمكن أن يتطرق الشك اليهما.

3- لأنه إن كان الأعمى لا يرى الشمس، فإنه عندما يحس الحرارة المنبعثة منها، يدرك أن هناك شمساً فوق الأرض، هكذا أيضاً إن كان مقاومونا لا يؤمنون للآن لأنهم لا يزالون عمياناً عن الحق، فإنهم على الأقل، إذ يدركون قوة المسيح في الآخرين الذين يؤمنون، يجب ألا ينكروا لاهوته والقيامة التي أتمها.

4- وواضح انه لو كان المسيح ميتاً، لما استطاع أن يطرد الأرواح النجسة ويحطم الأوثان. إذ الأرواح لا تخضع لإنسان ميت، أما إن كانت تطرد جهاراً بمجرد ذكر اسمه، فإنه يتضح من ذلك انه ليس ميتاً، سيما وإن الأرواح – وهي ترى ما لا يراه البشر – تستطيع أن تخبر إن كان المسيح ميتاً، وترفض الخضوع له على الإطلاق.

5- أما والأرواح ترى – ما لا يؤمن به الملحدون – أنه هو الله، فإنها تطير وتجثو تحت قدميه، وتردد ما سبق أن نطقت به وهو في الجسد “نحن نعرفك من أنت قدوس الله ([89])“، “مالنا ولك يا يسوع ابن الله استحلفك أن لا تعذبني ([90])“.

6- فإن كانت الشياطين تعترف به، وأعماله تشهد له يوماً فيوماً، فقد اتضح جلياً – ويجب أن لا يتصلف أحد نحو الحق – أن المخلص أقام جسده، وانه هو ابن الله الحقيقي المولود منه كما من أبيه، وأنه هو كلمته وحكمته وقوته، الذي في الأزمنة الأخيرة اتخذ جسداً لخلاص الجميع، وعلم العالم عن الآب، وأبطل الموت، ووهب الكل عدم الفساد بموعد القيامة إذ أقام جسده كباكورة لذلك، وأظهره بعلامة الصليب كعلامة للظفر على الموت وفساده.

الفصل الثالث والثلاثون

1- إن كانت هذه الأمور هكذا، وإن كانت قد تبرهنت بوضوح قيامة جسده، والغلبة التي تمت على الموت بواسطة المخلص، فتعال الآن لكي نوبخ كلاً من عدم إيمان اليهود واستهزاء الأمم.

2- ولعل أهم ما يبعث الشك في اليهود، والإستهزاء في الأمم، أنهم يرون عدم لياقة الصليب، كما يرون عدم لياقة تأنس كلمة الله. على أننا لن نتأخر عن تقديم الحجج التي تدحض آراء كل من الفريقين، سيما وإن ما لدينا من البراهين ضدهما واضح كوضوح النهار.

3- فاليهود يوبخون على عدم ايمانهم من نفس كتبهم التي يقرأونها. فهذه الآية أو تلك أو بالإجمال كل الكتاب الموحى به، يطلق الصوت عالياً، منادياً بتلك الحقائق، كما تبين كلماته الصريحة مراراً كثيرة. لأن الأنبياء أذاعوا مقدماً عجيبة العذراء وولادتها قائلين “هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ([91])“.

4- أما “موسى”، العظيم حقاً، والذي يعتقدون فيه أنه ينطق بالصدق، فإنه إذ اعتبر ما قيل عن تأنس المخلص هاماً وجوهرياً، وإذ وثق من حقيقته، دونه في هذه الكلمات “يقوم كوكب من يعقوب وانسان من اسرائيل فيحطم رؤساء موآب ([92])“. وأيضاً “ما أحلى مساكنك يا يعقوب خيامك يا اسرائيلن كبساتين ظليلة، كجنات على نهر، كخيام ثبتها الرب، كأرزات على مياه، يخرج من نسله انسان يصير رباً على شعوب كثيرة ([93])“. ويقول أيضاً “اشعياء” “قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تحمل قوة دمشق ([94]) وغنيمة السامرة قدام ملك أشور ([95])“.

5- إذن فقد اتضح مما ورد في هذه الآيات، أنه سبق أن تنبأ بظهور إنسان. أما أن ذاك الذي كان سوف يأتي هو رب الكل، فقد تنبأ عنه ايضاً فيما يلي “هو ذا الرب جالس على سحابة خفيفة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر المنحوتة ([96])“، لأنه من هناك دعاه الرب أيضاً للرجوع قائلاً “من مصر دعوت ابني ([97])“.

الفصل الرابع والثلاثون

1- وأما موته فلم تتغافل عنه الكتب الإلهية، لكنها بالعكس أشارت إليه اشارات متعددة في غاية الوضوح. فإنها خوفاً من أن يخطئ أحد بسبب عدم توافر التعليم عن الحوادث الفعلية، خشيت أن لا تذكر حتى سبب موته، فهو لم يحتمل الموت من أجل نفسه، بل من أجل عدم موت الجميع وخلاصهم، وبسبب مؤامرة اليهود ضده، والإهانات التي وجهت إليه على أيديهم.

2- لهذا قالت “رجل ضربات يعرف كيف يتحمل الضعف لأن وجهه قد أقصى بعيداً، احتقر ولم يعتد به، خطايانا حملها، وتألم من أجلنا، ونحن حسبناه مصاباً ومضروباً ومذلولاً جرح لأجل خطايانا، سحق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا ([98])“. أفلا ندهش من رحمة “الكلمة” العجيبة إذ أُهين هو من أجلنا لكي نمجد نحن. ثم يقول الكتاب “كلنا كغنم ضللنا، حاد الإنسان عن طريقه، والرب أسلمه لأجل خطايانا، ولم يفتح فاه لأنه أُسيء اليه، سيق كشاة للذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه، وفي اتضاعه (أو بإتضاعه) رفعت عنه (او تعالت وارتفعت) دينونته ([99]) (أو حكمه).

3- ولئلا يستنتج أحد من آلامه انه انسان عادي، بادر الكتاب المقدس وأشار إلى أوهام البشر، معلناً قوته الفائقة، ومبيناً الفرق بين طبيعته وطبيعتنا قائلاً “ومن يخبر بجيله، لأن حياته انتزعت من الأرض، من شر الشعب سيق إلى الموت، سأعطي الأشرار عوض دفنه، والأغنياء عوض موته، لأنه لم يعمل شراً ولا وجد في فمه غش، وسيطهره الرب من جراحاته ([100])“.

الفصل الخامس والثلاثون

1- ولعلك بعد أن سمعت النبوات المتعلقة بموته، تطلب أن تعرف ما كتب عن الصليب، فالكتاب لم يغفل عن هذا ايضاً، ذكره القديسون بكل ايضاح.

2- فأولاً تنبأ “موسى” عنه بصوت عال إذ يقول “وترون حياتكم معلقة أمام عيونكم ولا تؤمنون ([101])“.

3- وبعد ذلك شهد عن هذا الأنبياء الذين بعده قائلين “وأنا كحمل بريء يساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم تآمروا عليَّ قائلين تعالوا نلقي في خبره شجرة ونقطعه من أرض الأحياء ([102]).

4- وأيضاً “ثقبوا يدي ورجلي، أحصوا ([103]) كل عظامي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا ([104])“.

5- فالموت الذي يرفع المرء إلى فوق، والذي يتم على شجرة، لا يمكن إلا أن يكون موت الصليب. وأيضاً لا يمكن أن تثقب اليدان والرجلان في أي موت إلا على الصليب.

6- ونظراً لأنه منذ حلول المخلص بين البشر، بدأت الأمم من كل جهة تعرف الله، فإنهم لم يتركوا هذه الناحية أيضاً دون الإشارة اليها، بل ذكروها في الكتب المقدسة، لأنه “سيكون أصل يسى الذي يقوم ليحكم الأمم، عليه يكون رجاء الأمم([105])” وهذه الأقوال كافية لإثبات ما حدث.

7- على أن كل الكتاب المقدس مشحون بالحجج التي تدحض عدم ايمان اليهود. لأنه مَن مِن الأبرار والأنبياء القديسين والآباء البطاركة الأولين، المدونة أسماؤهم في الكتب الإلهية، ولد جسدياً من عذراء فق؟ أو أية امرأة كانت كافية لحمل انسان بشري بدون رجل؟ ألم يولد هابيل من آدم، وأخنوخ من يارد، ونوح من لامك، وابراهيم من تارح، واسحق من ابراهيم، ويعقوب من اسحق؟ ألم يولد يهوذا من يعقوب، وموسى وهرون من عمرام؟ ألم يولد اسرائيل من القانه؟ ألم يكن داود من يسى؟ ألم يكن سليمان من داود؟ ألم يكن حزقيا من آحاز؟ أما كان يوشيا من عاموس([106])، أما كان أشعياء من آموص؟ أما كان ارميا من حلقيا؟ أما كان حزقيال من بوزي؟ ألم يكن لكل واحد أب كأصل لوجوده؟ إذن فمن ذا الذي ولد من عذراء فقط؟ لأن النبي شدد التأكيد جداً على هذه العلاقة.

8- ومن ذا الذي عند ميلاده سبق أن جرى كوكب في السماء ليعلن للعالم ذاك الذي ولد؟ فموسى لما ولد أخفاه أبواه، وداود لم يسمع عنه حتى جيرانه، حتى أن صموئيل العظيم نفسه لم يكن يعرفه بل سأل: ألم يبق بعد ابن يسى؟ وابراهيم ايضاً عرفه جيرانه رجلاً عظيماً ([107]) بعد ميلاده بزمن طويل. أما عن ميلاد المسيح، فإن الذي شهد له لم يكن انساناً، بل نجماً في السماء التي نزل منها.

الفصل السادس والثلاثون

1- وأي ملك من ملوك الأرض قاطبةن حكم وتم له الإنتصار على أعدائه، قبل أن يقدر أن يدعو أباً أو أماً ([108])؟ ألم يصل داود إلى العرش في سن الثلاثين، وسليمان لما كبر ووصل إلى سن الشباب؟ ألم يرأس يوآش المملكة في سن السابعة، ويوشيا – وهو ملك جاء بعده – قبل الحكم وهو في سن السابعة؟ ومع ذلك فإن هذين كانا – في تلك السن – يقدران أن يعدوا أباً وأماً.

2- اذن من ذا الذي كان يحكم ويهلك اعداءه، حتى قبل ولادته؟ ليخبرنا اليهود الذين فحصوا الأمر: أي ملك كهذا – وجد في اسرائيل أو يهوذا – وضعت عليه كل الأمم رجاءها ووجدت فيه سلاماً، بدلاً من أن يعاديها من كل ناحية؟

3- لأنه طالما كانت أورشليم قائمة كانت الحروب قائمة بينها بلا انقطاع. وكانت كلها تحارب اسرائيل. فالأشوريون ضايقوهم، والمصريون اضطهدوهم، والبابليون انقضوا عليهم. والأغرب من ذلك، أنه حتى الآراميين جيرانهم كانوا يحاربونهم. أما حارب داود أهل موآب، وضرب الأراميين؟ ويوشيا كان يحترس من جيرانه، وحزقيا خارت عزائمه أمام تعيير سنحاريم ([109]). بل أن عماليق حارب موسى، والأموريين قاوموه، وسكان أريحا قاوموا يسوع ([110]) بن نون. وبالإجماع فإن معاهدات الصلح والسلام كانت معدومة بين الأمم واسرائيل. إذن وجب أن نتأمل في من كان يجب أن تضع الأمم رجاءها عليه، لأنه يجب أن يكون هنالك شخص كهذا، إذ يستحيل أن يكون النبي قد نطق كذباً.

4- واي الأنبياء القديسين أو الآباء البطاركة الأولين، مات على الصليب من أجل خلاص الجميع؟ أو من ذا الذي جُرح وسُحق لأجل شفاء الجميع؟ أو مَن مِن الأبرار أو الملوك، نزل إلى مصر وسقطت أوثان مصر بمجرد مجيئه اليها؟ ([111]) فإبراهيم ذهب اليها، ولكن العبادة الوثنية ظلت منتشرة بها كما كانت، وموسى ولد فيها، ولم تنقص عبادة الشعب المضلة.

الفصل السابع والثلاثون

1- أو من ممن دونت سيرتهم في الكتاب المقدس ثقبت يداه ورجلاه، أو علق مطلقاً على شجرة، ومات على صليب لأجل خلاص الجميع؟ فإبراهيم ختم حياته على سرير، واسحق ويعقوب ماتا رافعين ([112]) أرجلهما على سرير، وموسى وهارون ماتا على الجبل، وداود في بيته دون أن يعرض لمؤامرة الشعب. صحيح أن شاول طارده، ولكنه لم يُمس بأذى. واشعياء نشر، ولكن لم يعلق على شجرة. وارميا أهين، إلا أنه لم يحكم بموته، وحزقيال تألم، لا من أجل الشعب، انما ليبين ما كان عتيداً أن يحل بالشعب.

2- وايضاً أن كانوا هؤلاء احتملوا الآلام، فإنهم كانوا جميعهم يشبهون بعضهم بعضاً في طبيعتهم المشتركة، أما ذاك الذين أعلن عنه في الكتاب أن يتألم عن الجميع، فإنه لم يدع مجرد انسان، بل “حياة” الجميع، ولو كان مشابهاً للبشر في البشرية. لأنه يقول: “وترون حياتكم معلقة أمام أعينكم ([113])“، وأيضاً “وجيله من يخبر به ([114])“. لأن المرء يستطيع أن يتحقق من سلسلة أنساب جميع القديسين، ويخبر بها منذ البدء، ويعرف من أي جيل ولد كل منهم. أما جيل ذاك الذي هو “الحياة”، فإن الكتب المقدسة تُشير إليه بأنه لا يخبر به.

3- فمن هو إذن هذا الذي تتحدث عنه هكذا الكتب الإلهية؟ أو من هو ذلك العظيم بهذا المقدار، حتى يتنبأ عنه الأنبياء بهذه النبوات العظيمة؟ لن يوجد أحد آخر في الكتب إلا مخلص الجميع، كلمة الله، ربنا يسوع المسيح، لأنه هو الذي ولد من عذراء، وظهر كإنسان على الأرض، وهو الذي لا يخبر بجيله حسب الجسد. لأنه لن يوجد من يستطيع أن يعين له أباً حسب الجسد، إذ أن جسده لم يكن من رجل بل من عذراء فقط.

4- لذلك لن يستطيع أحد أن يخبر عن تناسل المخلص بالجسد من رجل، بنفس الطريقة التي تذكر بها سلسلة أنساب داود وموسى، وجميع الآباء البطاركة. لأنه هو الذي جعل النجم أيضاً يشير إلى نوع ميلاد جسده. لأنه كان يليق “بالكلمة” النازل من السماء، أن تكون الإشارة إليه أيضاً من السماء، وكان يليق بملك الخليقة عند ظهوره للعالم، أن تعترف به كل الخليقة جهاراً.

5- ولماذا؟ لأنه ولد في اليهودية، وأتى رجال من بلاد الفرس ليسجدوا له، وهو الذي، حتى قبل ظهوره في الجسد نال الغلبة على الشياطين خصومه، والظفر على العبادة الوثنية. فالناس من كل لون، وفي كل قطر، هجروا تقاليدهم الموروثة ورجسات الأصنام، وتراهم يركزون رجاءهم في المسيح، ويلتفون حول رايته، الأمر الذي تستطيع أن تراه بعينيك.

6- فضلال المصريين لم يكف في أي وقت من الأوقات، إلا عندما جاء اليها رب الكل في الجسد، كأنه راكب على سحابة، وبدد ضلالات الأوثان، ونقل الجميع إلى نفسه، ثم إلى الآب عن طريق شخصه.

7- هذا هو الذي صُلب أمام الشمس وكل الخليقة كشهود، وأمام من أسلموه إلى الموت. وبموته صار الخلاص للجميع، والفداء لكل الخليقة. هو “الحياة” الجميع، الذي سلم جسده إلى الموت نيابة عن الجميع، ولأجل الجميع، ولو لم يؤمن اليهود بذلك.

الفصل الثامن والثلاثون

1- وإن ظنوا أن هذه الأدلة غير كافية، فليقتنعوا على أي حال ببراهين أخرى مستمدة من الأقوال الإلهية التي بين ايديهم. لأنه عمن يتحدث الأنبياء اذ يقولون “استعلنت للذين لم يطلبوني، وجدت من الذين لم يسألوا عني، قلت هأنذا للأمة التي لم تسم باسمي، بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم ([115])“.

2- ويحق للمرء أن يسأل اليهود: من هو اذن ذاك الذي قد استعلن؟ أن كان هو النبي، فليذكروا لنا متى اختفى حتى يظهر ثانية. وأي نبي هذا الذي لم يستعلن من الخفاء فقط، بل بسط يديه ايضاً على الصليب؟ يقيناً انه ليس بين الأبرار سوى كلمة الله فقط، الذي، وهو روح لا جسد له، ظهر في الجسد من أجلنا وتألم من الجميع.

3- وإن لم يكفهم هذا أيضاً، فلعلهم على الأقل يخرسون أمام هذا البرهان الآخر الواضح كل الوضوح. لأن الكتاب يقول: “تشددي ايتها الأيادي المسترخية والركب المرتعشة، تعزوا يا خائفي القلوب، تشددوا لا تخافوا، هوذا الهنا يجازي منتقماً، هو يأتي ويخلصنا. حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تسمع حينئذ يقفز الأعرج كالإيل ولسان العييين يصير فصيحاً ([116])“.

4- والآن ماذا يستطيعون أن يقولوا في هذا، وكيف يجرؤون على مواجهة هذا؟ على أي حال، فالنبوة لا توضح فقط أن يحل الله هنا. ولكنها تعلن ايضاً علامات ووقت مجيئه. فهي تقرن تفتيح أعين العميان وشفاء العرج ليمشوا، والصم ليسمعوا، ولسان العيين ليصير فصيحاً، بمجيء الله الذي كان مزمعاً أن يتم. فليقولوا اذن متى تمت هذه العلامات في اسرائيل، أو في أي مكان من اليهودية حدث أمر كهذا.

5- صحيح أن “نعمان” الأبرص تطهر، ولكن لم يحصل أن أصم سمع، أو أعرج مشى. وايليا أقام ميتاً، وكذلك فعل اليشع، ولكن لم نر انساناً أعمى منذ ولادته استعاد بصره. صحيح إن إقامة الميت أمر عظيم، ولكنه لا يمكن أن يشبه العجائب التي عملها المخلص. وإن كان الكتاب لم يغفل عن ذكر حادثة الأبرص، وحادثة ابن الأرملة، فإنه بلا شك لو كان حدث أن انساناً أعرج مشى، وأعمى استعاد بصره، لما أغفل ذكر ذلك ايضاً. وحيث انه لم يذكر شيء من ذلك في الكتب، فواضح أن تلك الأمور لم تحصل مطلقاً من قبل.

6- اذن فمتى حصلت هذه إلا عندما جاء كلمة الله نفسه في الجسد؟ ومتى جاء إلا حين مشى العرج، وتكلم البكم فصيحاً، والصم سمعوا، والعمي منذ ولادتهم استعادوا بصرهم؟ لأن هذا هو نفس ما قاله اليهود الذين شهدوا تلك الأمور اذ لم يسمعوا انها حدثت في أي وقت آخر: “منذ الدهر لم يسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً ([117])“.

الفصل التاسع والثلاثون

1- لكن ربما لعدم استطاعتهم الاستمرار في مقاومة الحقائق الواضحة يصرحون – دون أن ينكروا المكتوب، بأنهم ينتظرون هذه الأمور، وأن كلمة الله لم يأت بعد، لأن هذا ما يرددونه دوماً دون أن يخجلوا من مواجهته بالحقائق الواضحة.

2- وفي هذه الناحية بنوع خاص، يحق توبيخهم توبيخاً أشد، لا بواسطتنا، بل من قبل “دانيال” المتزايد في الحكمة. الذي حدد كلاً من التاريخ الفعلي لمجيء المخلص، وحلوله الإلهي بيننا، إذ قال “سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا وإبادة الآثام وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة لمسح قدوس القدوسين، فإعلم وأفهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس ([118])“.

3- لعلهم في النبوات الأخرى يستطيعون أن يتلمسوا المعاذير لأنفسهم، أو يحيلوا المكتوب إلى المستقبل. ولكن ماذا عساهم يقولون عن هذه النبوة، أو هل يستطيعون مواجهتها بأي حال من الأحوال؟ ففيها لا نجد اشارة إلى المسيح فحسب، ولكنها تعلن صراحة أن الذي سيمسح ليس مجرد انسان بل “قدوس القدوسين”، وأن الرؤيا والنبوة تبقى قائمة في اورشليم إلى مجيئهن ومن ثم تبطل النبوة والرؤيا من اسرائيل.

4- لقد مسح داود في القديم وكذا سليمان وحزقيا، ومع ذلك كانت اورشليم والموضع باقيين، وكان الأنبياء يتنبأون، جاد وأساف وناثان، ومن بعدهم اشعياء وهوشع وعاموس وغيرهم. ثم أن من كانوا يمسحون كانوا يدعون قديسين، ولكن أحداً منهم لم يدع قط “قدوس القدوسين”.

5- أما إن كانوا يحتمون في السبي قائلين أن أورشليم لم تكن قائمة بسببه، فماذا يقولون عن الأنبياء أيضاً؟ لأنه في الواقع عندما نزل الشعب في بدء الأمر إلى بابل كان فيها دانيال وأرميا، وكان حزقيال وحجي وزكريا يتنبأون.

الفصل الأربعون

1- إذن فاليهود يعيشون، والوقت الذي نتحدث عنه، والذي يحاولون أن يثبتوا أنه يشير إلى المستقبل قد حل فعلاً، لأنه متى بطلت النبوة والرؤيا من اسرائيل إلا عندما أتى المسيح قدوس القدوسين؟ لأنه من ضمن العلامات والبراهين القوية على مجيء كلمة الله أن اورشليم لا تكون قائمة فيما بعد، ولا يكون نبي قائماً فيهم، ولا تعلن لهم رؤيا، وهذا أمر طبيعي جداً.

2- لأنه إن كان الذي أُشير إليه قد جاء، فما هي الحاجة لأية إشارة تشير إليه بعد؟ إن كان الحق قد وافى فما هي الحاجة بعد إلى الظل؟ لأن هذا هو السبب الذي لأجله تنبأوا، أي إلى أن يأتي البر الحقيقي، المزمع أن يكون فدية عن الجميع، وكان هذا هو السبب في بقاء اورشليم إلى ذاك الوقت، أي حتى يتدربوا هناك في الرموز استعداداً للحقيقة.

3- فعندما جاء “قدوس القدوسين” كان طبيعياً أن تختم الرؤيا والنبوة، وتبطل مملكة اورشليم. لأن الملوك كان يجب أن يمسحوا بينهم إلى أن يمسح “قدوس القدوسين”. ويعقوب تنبأ بأن مملكة اليهود تبقى حتى مجيئه قائلاً “لا يزول حاكم من يهوذا ورئيس من بين أحقائه حتى يأتي المعد له وهو رجاء الشعوب ([119])“.

4- ومتى هتف المخلص نفسه ايضاً قائلاً “الناموس والأنبياء إلى يوحنا تنبأوا([120])“. فلو كان لليهود الآن ملك أو رؤيا، لجاز لهم أن ينكروا المسيح الذي أتى. أما أن لم يوجد ملك ولا رؤيا، بل من ذلك الوقت إلى الآن ختمت كل نبوة، وأخذت المدينة والهيكل، فلماذا يجحدون ويتمردون لهذا الحد، إذ وهم ينظرون ما حصل ينكرون المسيح الذي تمم كل شيء؟ ولماذا وهم يرون حتى الأمم يهجرون أوثانهم، ويركزون رجاءهم في اله اسرائيل بالمسيح – ينكرون المسيح الذي ولد من أصل يسى حسب الجسد، والذي صار ملكاً من ذلك الوقت إلى الآن؟ لأنه لو كانت الأمم تعبد الهاً آخر، ولا تعترف باله ابراهيم واسحق ويعقوب وموسى، لجاز لهم مرة أخرى أن يدعوا بأن الله لم يأت.

5- أما إن كان الأمم ([121]) يكرمون نفس الإله الذي أعطى الناموس لموسى، وقرر الوعد لإبراهيم، والذي احتقر اليهود كلمته، فلماذا يجهلون، أو بالحري لماذا يتجاهلون، أن الرب الذي تنبأت عنه الكتب قد أشرق على العالم، وظهر له متجسداً كما قال الكتاب “الرب الإله أنار علينا ([122])” وأيضاً “أرسل كلمته فشفاهم ([123])“، وأيضاً “لا رسول ولا ملاك بل الرب نفسه خلصهم ([124])“.

6- ويمكن تشبيه حالتهم بإنسان غير متزن العقل يرى الأرض تضيئها الشمس. ولكنه ينكر الشمس اليت تنيرها. لأنه ماذا بقى لكي يفعله ذاك الذي ينتظرونه عندما يأتي؟ أيدعو الأمم؟ لقد تمت دعوتهم فعلاً. أيبطل النبوة والملك والرؤيا؟ وهذا ايضاً تم. أيفضح فساد العبادة الوثنية؟ لقد فضحت وشجبت فعلاً. أيبيد الموت؟ لقد أُبيد فعلاً.

7- إذن فأي شيء لم يفعله المسيح ولم يحصل؟ وأي شيء لم يتم حتى يصر اليهود على عدم ايمانهم؟ أقول لأنه إن كان – كما نرى فعلاً – لم يبق بعد ملك ولا نبي ولا أورشليم ولا ذبيحة ولا رؤيا بينهم، بل امتلأت الأرض كلها من معرفة الله، والأمم تركوا فساد عبادتهم الوثنية، والتجأوا الآن إلى اله ابراهيم “بالكلمة” ربنا يسوع المسيح، فيجب أن يكون واضحاً حينئذ – حتى لأشد الناس عناداً – أن المسيح قد أتى، وأنه أنار الكل اطلاقاً بنوره، وأعطاهم التعليم الصحيح الإلهي عن أبيه.

8- هكذا يستطيع المرء أن يوبخ اليهود بحق بهذه الحجج وبغيرها من الكتب الإلهية.

الفصل الواحد والأربعون

1- لا يستطيع المرء إلا أن يعجب غاية العجب من الأمم ([125])، الذين بينما يضحكون على ما لا يدعو إلى الاستهزاء، لا يحسون بخزيهم، ولا يرون أنهم أقاموا لأنفسهم آلهة من خشب وحجارة.

2- ومع أن حجتنا لا تحتاج إلى زيادة في البرهان والايضاح، لكن تعال بنا نخجلهم بالبراهين المقنعة، وبنوع أخص مما نراه نحن أنفسنا، لأنه أي الأمور ترى من جانبنا سخيفة أو غير معقولة أو تدعو إلى السخرية؟ أهو مجرد قولنا أن “الكلمة” ظهر في الجسد؟ أنهم لو كانوا أصدقاء للحق، لإشتركوا معنا هم أيضاً في الإعتراف بحدوث هذا، دون أن يروا في القول سخفاً.

3- وإن كانوا ينكرون وجود كلمة الله كلية، فإنه لا أساس لهذا الإنكار ([126])، إذ هم يستهزئون بما يجهلونه.

4- وأما إن كانوا يعترفون بوجود كلمة الله، وأنه هو مدبر الكون، وأن الآب خلق به كل الكائنات، وأن الكل بعنايته ينالون النور والحياة والوجود، وأنه يملك على الكل، ولذلك فإنه يُعرف من أعمال عنايته، وبه يُعرف الآب، فأتوسل اليك أن تُمعن التأمل فيما إذا كانوا يهزأون بأنفسهم وهم لا يدرون.

5- ففلاسفة اليونانيين ([127]) يقولون أن الكون جسم ([128]) هائل، وهذا حق لأننا نراه، ونرى أجزاءه واقعة تحت حواسنا فإن كان كلمة الله في الكون الذي هو جسم، وإن كان قد اتحد ([129]) بكل الكون وبكل أجزائه، فما هو وجه الغرابة أو السخف إن قلنا إنه اتحد بالإنسان أيضاً؟

6- لأنه لو كان حلوله في جسد أمراً سخيفاً وغير معقول، لكان أمراً سخيفاً أيضاً أن يتحد بكل الكون ويعطي ضياء وحركة لكل الأشياء بعنايته، لأن الكون أيضاً جسد.

7- أما إن كان قد لاق به أن يتحد بالكون، وأن يعرف في الكل، وجب أن يليق به أيضاً أن يظهر في جسد بشري، وان يستضيء به ذلك الجسد ويعمل، لأن البشرية جزء من الكل كسائر الأجزاء. ولو كان أمراً غير لائق أن يتخذ جزءاً كأداة يعلم البشر بها عن لاهوته، لكان أمراً في غاية السخف أن يعرف بواسطة كل الكون أيضاً.

الفصل الثاني والأربعون

1- نعلم أن الجسد كله يحيا ويستنير بالإنسان. فإن قال أحد أنه من السخافة أن تكون قوة الإنسان في أصبع رجله أيضاً، حسب ذلك المرء غبياً وعديم التمييز، لأنه وهو يسلم أنه يسود كل الأجزاء، ويعمل فيها كلها، ينكر وجوده في الجزء أيضاً، هكذا يجب على من يسلم ويؤمن أن كلمة الله في كل الكون، وأن الكل يستضيء ويتحرك به، أن لا يحسبه سخافة أن ينال منه جسد بشري واحد حركة ونوراً.

2- أما إن كانوا يتوهمون أن ظهور المخلص في الإنسان – الأمر الذي نتحدث عنه – غير لائق، لأن الجنس البشري مخلوق، ومخلوق من العدم، فإنه يجب عليهم أن يخرجوه من الخليقة أيضاً، لأنها هي أيضاً وجدت من العدم “بالكلمة”.

3- أما إذا لم يكن من السخافة أن يكون “الكلمة” في الخليقة، رغم أنها شيء مخلوق، فإنه ليس من السخافة كذلك أن يكون هو في الإنسان. لأن أية فكرة يكونونها عن الكل، يجب أن يطبقوها على الجزء بطبيعة الحال. والإنسان أيضاً جزء من الكل، كما بينت سابقاً.

4- إذن ليس في ذلك شيئاً من عدم اللياقة على الإطلاق، أن يحل “الكلمة” في إنسان، طالما كانت كل الأشياء تستمد منه نورها وحركتها وحياتها، كما يقول كتبتهم “اننا به نحيا ونتحرك ونوجد ([130])“.

5- واي شيء يوجب الاستهزاء فيما نقوله، إن كان “الكلمة” قد استخدم ذلك الجسد الذي حل فيه كأداة ليعلن ذاته فيها؟ لأنه لو لم يكن حالاً فيه لما أمكن استخدامه. وإن كنا قد سبق فسلمنا بوجوده في كل الكون وفي أجزائه، فما الذي لا يُصدق في اظهاره ذاته فيما هو حال فيه؟

6- لأنه بسلطانه متحد بكل شيء وبكل الأشياء، ويضبط كل الأشياء بقدرة لا حد لها. فلو أراد أن يتحدث ويعلن ذاته وأباه بواسطة الشمس أو القمر أو السماء أو الأرض أو المياه أو النار، لما تجرأ أحد أن يقول أن ذلك في غير محله، اذ هو ممسك الكل في وقت واحد، وهو في الواقع ليس موجوداً في الكل فحسب، بل موجود أيضاً في ذلك الجزء الذي نتحدث عنه، والذي فيه أظهر ذاته بطريقة غير منظورة، هكذا أيضاً لا يمكن أن يكون سخيفاً إن كان – وهو ضابط كل الاشياء ومانح الحياة لها أجمع، وأراد أن يعلن نفسه في البشر – قد استخدم جسداً بشرياً كأداة ليعلن فيه الحق ومعرفة الآب، لأن البشرية هي ايضاً جزء فعلي من الكل.

7- وكما أن العقل، وهو يتخلل الإنسان بكليته، يعبر عنه جزء واحد من الجسم، أعني اللسان، دون أن يقول أحد بإحتقار جوهر العقل لهذا السبب، هكذا إن كان “الكلمة” وهو يتخلل كل الأشياء قد استخدم أداة بشرية، فلا يمكن أن يكون ذلك غير لائق به، لأنه كما قلت سابقاً، لو كان غير لائق أن يتخذ جسداً كأداة، لكان غير لائق به أيضاً أن يكون في الكل.

الفصل الثالث والأربعون

1- والآن إذا سألوا قائلين: لماذا لم يظهر بواسطة أجزاء أخرى من الخليقة أشرف وأسمى، ويستخدم أداة أشرف كالشمس أو القمر أو الكواكب أو النار أو الهواء، بدلاً من مجرد الإنسان؟ فليعلموا أن الرب لم يأت لكي يتظاهر ويتباهى بل لكي يشفي أولئك الواقعين تحت الآلام ويعلمهم.

2- فالطريق لمن يريد أن يتظاهر هو أن يظهر ويبهر الناظرين ويذهل عقولهم. أما من يطلب أن يشفي ويعلم الطريق، فعليه أن لا يكتفي بمجرد حلوله هنا، بل يقدم نفسه لمساعدة المحتاجين، وأن يظهر في الشكل الذي يحتمله من هم في حاجة اليه، لئلا – إذا أفرط في سد حاجة المتألمين – يزعج المحتاجين اليه، وبذلك يجعل ظهور الله عديم الجدوى لهم.

3- والواقع أنه لم يصل أحد من الخليقة عن الله إلا الإنسان وحده. فلا الشمس ولا القمر ولا السماء ولا الكواكب ولا الماء ولا الهواء انحرفت عن نظامها، ولكنها إذ عرفت صانعها وضابطها – “الكلمة” – فهي باقية كما صنعت. أما البشر وحدهم، فإذ رفضوا ما هو صالحن اخترعوا اشياء من العدم عوض الحق، ونسبوا الكرامة المستحقة لله، ومعرفتهم له، إلى الجن والبشر في شكل حجارة.

4- وإذ لم يكن لائقاً بصلاح الله أن يتغاضى عن أمر خطير كهذا، ولأن البشر كانوا لا يزالون عاجزين عن أن يدركوا انه هو ضابط ومدبر الكل، لذلك أن صواباً أن يتخذ لنفسه جزءاً من الكل كأداة، أي جسده البشري، ويتحد به ([131]) حتى لا يعجز البشر عن أن يدركوه في الجزء، وبعد أن عجزوا عن أن يتطلعوا إلى سلطانه غير المنظور يستطيعون على أي حال أن يدركوه ويتأملوه فيه فيما يشبههم.

5- لأنهم، وهم بشر، يستطيعون أن يعرفوا أباه مباشرة وبأوفر سرعة في جسد مماثل لهم، وبالأفعال الإلهية التي تتم به، إذ يحكمون بالمقارنة أن هذه الأعمال التي يعملها ليست أعمالاً بشريةن بل هي أعمال الله.

6- ولو كانت سخافة، كما يدعون، أن يعرف “الكلمة” بأعمال الجسد، لكان سخافة ايضاً أن يعرف بأعمال الكون، لأنه موجود في الخليقة ومع ذلك لا يشترك في طبيعتها بأي حال من الأحوال، بل بالحري أن كل الاشياء تشترك في سلطانه، كذلك عندما اتخذ الجسد أداة له لم يشترك في خواصه الجسديةن بل هو بالعكس قدس الجسد.

7- وحتى “أفلاطون” – الذائع الصيت بين اليونانيين بهذا المقدار – يقول أن منشئ الكون إذ رآه مضطرباً كإضطراب السفينة وسط البحر، وفي خطر أن يغرق في الهاوية السحيقة، جلس على دفة النفس، وأتى لينجيها من كل مصائبها. فأي شيء لا يصدق فيما نقول أن البشرية إذ أخطأت استقر عليها ([132]) “الكلمة”، وظهر كإنسان حتى يخلصها – بإرشاده ([133]) – وصلاحه – من العواصف والإضطرابات.

الفصل الرابع والأربعون

1- ولعلهم – إذ يخجلون عن الموافقة على هذا – يفضلون أن يقولوا أن كان الله قد أراد أن يصلح البشرية ويخلصها، وجب أن يتمم ذلك بمجرد نطق ملكي كريم، دون حاجة إلى تجسد “الكلمة”، أي بنفس الطريقة التي اتبعها سابقاً عندما أوجدها من العدم.

2- أما عن اعتراضهم هذا فنجيبهم جواباً معقولاً قائلين: سابقاً لم يكن شيء موجوداً على الإطلاق، فالذي كان مطلوباً لخلقة كل شيء هو النطق الملكي، ثم مجرد الإرادة لإتمام ذلك. أما وقد خُلق الإنسان، وأصبح الأمر يحتاج إلى علاج ما هو موجود ووصل إلى تلك الحال، لا ما هو ليس موجوداً، لهذا السبب، ولكي يبرئ الموجود، دعت الضرورة بطبيعة الحال أن يظهر الطبيب، والمخلص تأنس، واستخدم جسده أداة بشرية.

3- وإن لم تكن هذه هي الطريقة المثلى فكيف كان ممكناً “للكلمة” – وقد اختار أن يستخدم أداة – أن يظهر؟ ومن أين كان ممكناً أن يتخذها سوى من الموجودين فعلاً، الذين هم في حاجة إلى لاهوته بواسطة شخص مشابه لهم؟ لأن الخلاص لم يكن مطلوباً لما ليس له وجود حتى كان يكفي مجرد صدور أمر، ولكن الإنسان الذي كان موجوداً فعلاً، كان منحدراً إلى الفساد والهلاك ([134]). لهذا كان طبيعياً وعدلاً أن يستخدم “الكلمة” أداة بشرية، ويعلن نفسه في كل مكان.

4- ثم يجب أن تعلم أيضاً، أن الفساد الذي حصل لم يكن خارج الجسد بل لصق به، وكان مطلوباً أن تلتصق به الحياة عوض الفساد، حتى كما تمكن الموت من الجسد، تتمكن منه الحياة أيضاً.

5- والآن لو كان الموت خارج الجسد لكان من اللائق أن تتصل به الحياة من الخارج. أما وقد صار الموت ممتزجاً بالجسد وسائداً عليه، كما لو كان متحداً به، فكان مطلوباً أن تمتزج الحياة ايضاً، حتى إذا ما لبس الجسد الحياة بدل الموت، نزع عنه الفساد. وفضلاً عن هذا فلو افترضنا أن “الكلمة” جاء خارج الجسد وليس فيه، لكان الموت قد غُلب منه (من المسيح) وفقاً للطبيعة، إذ ليس للموت سلطان على “الحياة”، أما الفساد اللاصق بالجسد فكان قد بقى فيه رغم ذلك.

6- لهذا السبب كان معقولاً جداً أن يلبس المخلص جسداً، حتى إذا ما اتحد الجسد “بالحياة”، لا يبقى في الموت كمائت، بل يقوم إلى عدم الموت اذ يلبس عدم الموت. وما دام قد لبس الفساد، فما كان ممكناً أن يظهر الموت إلا في الجسد وفقاً لطبيعته، لهذا لبس (المسيح) جسداً لكي يلتقي بالموت في الجسد ويبيده. لأنه كيف كان ممكناً إقامة الدليل على أن الرب هو “الحياة”، لو لم يكن قد أحيا ما كان مائتاً([135]).

7- والمعلوم أن القش ([136]) تفنيه النار بطبيعة الحال. فلنفرض (أولاً) أن انساناً أبعد النار عن القش. فإن القش ولو لم يحترق، يبقى رغماً عن ذلك مجرد قش يخشى خطر النار، لأن للنار خاصية احراقه. (ثانياً) بينما لو أحاطه بمادة الاسبستوس – التي يقال عنها ([137]) انها تصمد أمام النار – فإن القش لا يرهب النار فيما بعد، إذ قد تحصن بإحاطته بمادة غير قابلة للإحتراق.

8- كذلك أيضاً بنفس هذه الطريقة يستطيع المرء أن يقول عن الجسد والموت، أنه لو كان الموت قد أُبعد عن الجسد بمجرد إصدار أمر من الله، لبقى – رغم ذلك – قابلاً للموت والفساد حسب طبيعة الأجساد. ولكن، لكي لا يكون هذا حال الجسد، فقد لبس (الجسد) كلمة الله الخالي من الجسد، ولذلك فإنه لا يعود يرهب الموت أو الفساد، لأنه لبس الحياة كثوب، ولأن الفساد قد أُبيد فيه.

الفصل الخامس والأربعون

1- إذن اقتضى الحال أن يأخذ كلمة الله جسداً، ويستخدم أداة بشرية، لكي يحيي الجسد أيضاً. وكما انه معروف في الخليقة بأعماله فيجب أن يعمل في الانسان ايضاً، ويظهر نفسه في كل مكان، لكي لا يترك شيئاً من لاهوته ومن معرفته.

2- وأعود فأكرر ما سبق أن ذكرته، أن المخلص فعل ذلك، حتى، كما يملأ كل الاشياء في كل الجهات بوجوده، كذلك أيضاً يملأ كل الاشياء من معرفته، كما يقول الكتاب المقدس ايضاً “الأرض كلها امتلأت من معرفة الرب ([138])“.

3- لأنه إن تطلع الإنسان فقط إلى السماء فإنه يرى مدبرها، أو إن كان لا يستطيع أن يرفع وجهه إلى السماء بل للإنسان ([139]) فقط، فإنه يرى سلطانه ([140]) – الذي لا وجه لمقارنته بسلطان البشر ظاهراً في أعماله، ويدرك انه وحده بين البشر هو الله “الكلمة”. وإذا ضل انسان بين الشياطين وارتعب منهم، لإستطاع أن يرى هذا الانسان يطردها، ولأيقن انه هو سيدها. وإذا غرق انسان في المياه وتوهم انها هي الله، كما كان المصريون القدماء مثلاً يعبدون الماء، لإستطاع أن يرى طبيعتها تتغير بسلطانه، ويدرك أن الرب هو خالق المياه.

4- أما إذا أنزل امرؤ حتى إلى الهاوية ([141])، ووقف خاشعاً أمام الأبطال الذين نزلوا اليها، معتبراً اياهم آلهة، فإنه لا يزال يستطيع أن يرى حقيقة قيامة المسيح وغلبته على الموت، ويتيقن أن المسيح بينهم أيضاً هو وحده إله حق ورب حق.

5- لأن الرب لمس كل أجزاء الخليقة، وحررها كلها من كل خداع كما يقول بولس “إذا نزع عن نفسه الرياسات والسلاطين ظفر بهم على الصليب ([142])” لكي لا يعود أي انسان ينخدع، بأي حال من الأحوال، بل يجد في كل مكان كلمة الله الحق.

6- وهكذا إذ أغلق على الانسان من كل ناحية ([143])، وإذ يبصر لاهوت الكلمة معلناً في كل مكان، أي في السماء، وفي الهاوية، وفي الإنسان وعلى الأرض، لا يصير بعد معرضاً للخداع والضلال عن الله، بل يعبد المسيح وحده، وبه يأتي مباشرة ليعرف الآب.

7- بهذه البراهين المعقولة لا شك في أننا نخزي الأمم بدورهم. وأما أن رأوا البراهين لا تكفي لتخجيلهم، فليصدقوا على أي حال ما نقدمه من وقائع ظاهرة أمام أنظار الجميع.

الفصل السادس والأربعون

1- ومتى بدأ البشر يهجرون عبادة الأصنام إلا عندما حل الله – كلمة الله الحقيقي – بين البشر؟ ومتى بطلت استشارة الأوثان بين اليونانيين وفي كل مكان، وصارت نافلة، إلا عندما أظهر المخلص نفسه على الأرض؟

2- ومتى ظهرت حقيقة من دعاهم الشعراء آلهة وأبطالاً، واتضح بأنهم مجرد بشر يفنون، إلا منذ أتم الرب نصرته على الموت، وحفظ الجسد الذي اتخذه غير فاسد، إذ أقامه من الأموات؟

3- ومتى احتقرت غواية وجنود الشياطين، إلا عندما تنازلت – من أجل ضعف البشر – قوة الله، “الكلمة”، سيدها كلها، وظهر على الأرض، ومتى ابتدأت فنون السحر ومدارسه تُداس إلا عندما صار الظهور الإلهي “الكلمة” بين البشر؟

4- وبالإجمال متى صارت حكمة اليونانيين جهالة، إلا عندما استعلنت حكمة الله الحقيقية على الأرض؟ فقديماً ضل العالم بأسره، كل مكان فيه، بعبادة الأوثان، ولم يعتقد البشر إلا في الأوثان كآلهة. أما الآن ففي العالم كله تجد البشر يهجرون خرافة الأوثان ويلجأون للمسيح، وإذ يعبدونه كإله يعرفونه به أيضاً الآب الذي كانوا يجهلونه.

5- والأمر المدهش أنه بينما تنوعت المعبودات وتعددت، وصار لكل مكان وثنه الخاص، وذاك الذي كان يعتبر الهاً بينهم لم يكن له سلطان على المكان المتاخم ليقنع الشعوب المجاورة بعبادته، بل كان بالجهد يعبد بين شعبه، لأنه لم يعبد أحد قد اله جاره، بل بالعكس كان كل واحد يتمسك بوثنه، معتبراً اياه سيد الكل – ترى المسيح وحده يعبد بين كل الشعوب الهاً واحداً متساوياً، وما لم يستطع أن يعمله ضعف الأوثان، أي اقناع حتى من يعيشون بينها، فعله المسيح، إذ أقنع، ليس من يعيشون بين يديه فقط، بل كل بلاد العالم ليعبدوا رباً واحداً، وفيه يعبدون الله أباه.

الفصل السابع والأربعون

1- وبعد أن امتلأ كل مكان في القديم بغواية التنجيم والعرافة التي اشتهرت جداً في دلفي ودونا، وفي بوتيا وليكيا وليبيا ومصر، وامتلأ بعبادة الكابيريين ([144])، وغواية آلهة النبوءة ([145])، قد بطل الآن جنونهم، ولم يعد أحد منهم ينجم بعد، وذلك منذ بشر بالمسيح في كل مكان.

2- وبعد أن أضلت الشياطين عقول البشر قديماً، إذ احتلت الينابيع والأنهار، والأشجار والحجارة، وهكذا أثرت على البسطاء بشعوذتها، بطلت الآن غوايتها بعد الظهور الإلهي للكلمة، لأنه بعلامة الصليب يستطيع حتى الإنسان العادي أن يفضح ضلالاتها.

3- وبعد أن كان البشر سابقاً يعتقدون في زفس ([146]) وكرونوس ([147]) وأبولو ([148]). والأبطال المدونين في أشعارهم أنهم آلهة، وانخدعوا في عبادتها، فإنه الآن – بعد أن ظهر المخلص بين البشر – افتضح أمر أولئك، وظهر أنهم ليسوا سوى بشر يفنون، وعرف المسيح وحده بين البشر أنه هو الإله الحقيقي كلمة الله.

4- وماذا يقول المرء عن السحر الذي انتشر بين البشر؟ فإنه قبل حلول الكلمة بيننا كانت له قوته وتأثيره بين المصريين والكلدانيين والهنود، وكان يبعث الخوف والرهبة في كل من شهده. أما بعد حضور “الحق” وظهور “الكلمة”، فقد دحض كلية وأبطل بالتمام.

5- أما عن حكمة الأمم، وادعاءات الفلاسفة الجوفاء، فلست أظن أن أحداً يحتاج إلى براهيننا، ما دام العجب العجاب أمام أعين الجميع. إذ بينما كتب حكمات اليونانيين كثيراً جداً، وعجزوا حتى عن اقناع نفر قليل من جيرانهم بحقيقة الخلود وضرورة الحياة الفاضلة، فإن المسيح وحده، بلغة عادية، وبأشخاص غير فصيحي اللسان، أقنع كنائس برمتها ممتلئة من البشر في كل العالم، أن يحتقروا الموت، ويتأملوا فيما يتعلق بالخلود، ويتغاضوا عن الزمنيات، ويوجهوا أنظارهم إلى الأبديات، وأن لا يفكروا في المجد الأرضي، بل يجاهدوا فقط لأجل المجد السماوي.

الفصل الثامن والأربعون

1- على أن هذه البراهين التي قدمناها لا تستند إلى مجرد حجج كلامية، ولكن هناك اختبارات عملية تشهد لصحتها.

2- فليذهب من أراد ويعاين دليل العفة في عذارى المسيح، والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة، أو دليل الثقة في الخلود في ذلك العدد الجم من شهدائه.

3- وليأت من أراد أن يختبر عملياً أقوالنا السابقة. وليستعمل – وسط خداع الشياطين وخزعبلات العرافين وأعاجيب السحر – علامة الصليب المستهزأ به بينهم، فيرى كيف تهرب الشياطين بواسطته وتبطل العرافة، ويُباد السحر والتنجيم.

4- فمن هو المسيح هذا وما أعظمه، الذي – بإسمه وبحضوره – يطرح كل الأشياء في الظلام ويبيدها، والذي يقوى وحده على الكل، والذي ملأ كل العالم بتعليمه؟ ليخبرنا اليونانيون الذين يسرون بالإستهزاء ولا يخجلون.

5- لأنه لو كان انساناً فكيف أتيح لإنسان واحد أن يتفوق على قوة كل من ادعوا في أنفسهم بأنهم آلهة، وأن يفضحهم بقوته ويظهر بأنهم لا شيء؟ وإن دعوه ساحراً فكيف يمكن أن يُباد كل سحر على يد ساحر واحد بدلاً من توطيد دعائمه؟ لأنه لو كان قد قهر سحرة معينين، أو غلب مجرد ساحر واحد فقط، لجاز لهم أن يدعوا بأنه فاق الباقين بمجرد الحكمة الفائقة.

6- أما إن كان صليبه قد حاز الإنتصار على كل سحر على وجه الإطلاق، وعلى اسم السحر نفسه، فيتضح من ذلك أن المخلص ليس ساحراً، إذ أن الشياطين نفسها – التي يستدعيها باقي السحرة تولي هاربة منه كسيدها.

7- من هو اذن؟ فليخبرنا اليونانيون الذين حصروا كل همهم في الإستهزاء. لعلهم يقولون أنه هو ايضاً كان شيطاناً ومن هنا كانت قوته. ولكن ليقولوا ما شاءوا. فإن استهزاءهم يرتد عليهم، إذ من الممكن تخجيلهم مرة أخرى ببراهيننا السابقة لأنه كيف يمكن أن يكون شيطاناً من يطرد الشياطين؟

8- ولو كان قد اكتفى بأن يطرد شياطين معينة، لجاز القول أنه برئيس الشياطين غلب الشياطين الأضعف، كما قال له اليهود عندما أرادوا اهانته. أما إن كان بمجرد تسمية اسمه قد استؤصل كل جنون الشياطين وطردت بعيداً، فقد اتضح هنا ايضاً انهم على ضلال مبين، وان ربنا ومخلصنا المسيح ليس قوة شيطانية كما يتوهمون.

9- وإن كان المخلص ليس مجرد انسان، ولا ساحراً، ولا شيطاناً، ولكنه بلاهوته أباد وطرح في الظلمات تعاليم الشعراء، وضلالات الشياطين، وحكمة الأمم ([149])، فإنه يتضح جلياً ويجب أن يعترف الجميع، أن هذا هو ابن الله الحقيقي، كلمة الآب، وحكمته وقوته – منذ البدء. وهذا هو السبب أيضاً في أن أعماله ليست أعمال انسان، ولكنها تسمو فوق أعمال الإنسان، وأنها بالحقيقة أعمال الله سواء كان من جهة الوقائع نفسها أم من مقارنتها بأعمال سائر البشر.

الفصل التاسع والأربعون

1- أي انسان ولد قط واتخذ لنفسه جسداً من عذراء فقط؟ أو أي انسان شفى أمراضنا كتلك التي شفاها رب الكل؟ أو من ذا الذي رد للإنسان ما كان ينقص طبيعته، وجعل الأعمى منذ ولادته يبصر؟

2- لقد اعتبر اسكولاب ([150]) عندهم الهاً لأنه مارس الطب واكتشف للأجساد المريضة حشائش لم يخلقها من الأرض، بل اكتشفها بالعلم المستمد من الطبيعة. وأين هذا مما فعله المخلص الذي بدلاً من شفاء الجرح أصلح طبيعة الإنسان الأصلية وأعاد الجسد سليماً؟

3- وهرقل ([151]) عبده اليونانيون كإله لأنه حارب بشراً مثله، وفتك بوحوش برية بخداعه. وأين هذا مما فعله “الكلمة” إذ طرد من الإنسان الأمراض والشياطين، بل الموت نفسه؟ وديونيسيوس عبدوه لأنه علم الإنسان شرب المسكرات، أما المخلص الحقيقي ورب الكل، فإنه يهزأ به من هؤلاء القوم لأنه علم العفة والإعتدال.

4- لكن دعنا من كل ذلك. فماذا يقولون عن معجزات لاهوته الأخرى؟ أي انسان أظلمت الشمس وتزلزلت الأرض عند موته؟ هوذا إلى هذا اليوم يموت البشر، بل ماتوا أيضاً في القديم – فمن منهم حدثت عند موته عجيبة كهذه؟

5- أو دعنا من الأعمال التي عملها في جسده، ولنذكر تلك التي تمت بعد قيامته: فأي انسان ساد تعليمه في كل مكان بشكل واحد من أقاصي الأرض إلى أقاصيها حتى أن عبادته امتدت إلى كل صقع؟

6- أو أن كان المسيح انساناً، كما يزعمون، وليس الله “الكلمة”، فلماذا لا تمنع آلهتهم عبادته من أن تنتقل إلى نفس البلاد التي تحتلها؟ ولماذا نرى – على العكس – من ذلك – أن “الكلمة” نفسه، وقد حل هنا، أوقف بتعليمه عباداتها وفضح ضلالها؟

الفصل الخمسون

1- لقد جاء قبل هذا الإنسان (المسيح) كثيرون، ممن صاروا ملوكاً وطغاة في العالم، ولقد سجلت في التاريخ أسماء الكثيرين من الحكماء والسحرة بين الكلدانيين والمصريين والهنود فمن منهم استطاع، لا بعد موته بل حتى في حياته، أن ينجح في أن يملأ الأرض بتعليمه، ويهذب مثل تلك الجماهير الغفيرة، وينقلهم من أباطيل الأوثان، كما فعل مخلصنا، إذ نقل إلى نفسه الكثيرين من عبادة الأوثان؟

2- لقد سطر فلاسفة اليونانيين مصنفات كثيرة بحكمة ومهارة. فأين هي النتيجة التي أحرزها بإزالة ما فعله صليب المسيح؟ فثقافتهم التي علموها كانت مقبولة حتى وفاتهم فقط، ولكن حتى النفوذ الذي كان يبدو أنهم أحرزوه في حياتهم، كان خاضعاً لمنافساتهم المتبادلة، إذ كانوا يغارون بعضهم من بعض، كما كانوا يلقون الخطابات المثيرة بعضهم ضد بعض.

3- أما “كلمة” الله، فالعجيب جداً، انه مع تعليمه بلغة أبسط، قد غطى على أفضل السفسطائيين. وبينما نراه يبطل مدارسهم فقد ملأ كنائسه، وذلك بجذبه الجميع إلى نفسه. والأمر العجيب أنه، بنزوله إلى الموت كإنسان، بدد أصوات الحكماء، ولاشى بتعاليمهم عن الأوثان.

4- ومن ذا الذي بموته طرد الشياطين قط؟ ومن ذا الذي ارتاعت الشياطين من موته كما فعلت عند موت المسيح؟ لأنه حيث سمى اسم المخلص، هناك طرد كل شيطان. ومن ذا الذي خلص البشر من شهوات وضعفات الإنسان الطبيعية، حتى صار الفجار عفيفين، والقتلة لا يحملون السيف فيما بعد، والذين تملكهم الجبن والخوف قديماً تشجعوا؟

5- وبالإيجاز من ذا الذين اقنع البشر في البلاد الهمجية، وجماعة الوثنيين في الأماكن المتنوعة، ليتخلوا عن جنونهم ويعملوا للسلام، غير الايمان بالمسيح وعلامة الصليب؟ أو من ذا الذي أكد للبشر حقيقة الخلود، كما فعل صليب المسيح وقيامة جسده؟

6- فرغماً عن أن اليونانيين نطقوا بكل نوع من الأساطير الكاذبة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يدعوا القيامة لأوثانهم اذ لم يخطر ببالهم قط أن يتاح للجسد الوجود ثانية بعد الموت. وهنا لا يسع المرء بصفة خاصة إلا أن يقبل شهادتهم، لأنهم بذلك كشفوا عن ضعف عبادتهم الوثنية، بينما يعترفون بالقدرة للمسيح، حتى بذلك ايضاً يعرف عند الكل كإبن الله.

الفصل الواحد والخمسون

1- وأيضاً مَن مِن البشر علم بعد موته، أو حتى في حياته، عن حياة البتولية، وأثبت أن هذه الفضيلة ليست مستحيلة بين البشر؟ أما المسيح مخلصنا وملك الكل، فكانت له قوة عظيمة في تعليمه عنها، حتى أن الأحداث الذين لم يصلوا بعد سن البلوغ، كانوا ينذرون أنفسهم ليعيشوا حياة البتولية التي تفوق الناموس الطبيعي.

2- أي انسان استطاع بأي حال أن يبسط نفوذه إلى أبعد مدى، فيصل إلى السكيثيين والأحباش، أو إلى الفرس والأرمن والغوطيين، أو إلى من نسمع عنهم فيما وراء البحار، أو الذين وراء بلاد أركانيا ([152])، بل إلى المصريين والكلدانيين، هؤلاء الذين يهتمون بالسحر والخرافات التي وراء الطبيعة، المتوحشين في طرقهم – ثم نادى بالفضيلة وضبط النفس، وندد بعبادة الأوثان، كما فعل رب الكل، قوة الله، ربنا يسوع المسيح؟

3- الذي لم يكرز بواسطة تلاميذه فقط، بل حمل الإقناع أيضاً إلى عقول البشر ليتخلوا عن فظاظة طباعهم، ويكفوا عن عبادة آلهة آبائهم، بل ليتعلموا أن يعرفوه، وأن يعبدوا الآب عن طريقه؟

4- فاليونانيون والبرابرة اعتادوا قديماً – إذ كانوا في عبادتهم الوثنية – أن يحاربوا بعضهم بعضاً، وكانوا فعلاً قساة على بني جنسهم، إذ كان مستحيلاً أن يعبر الواحد منهم بحراً أو أرضاً، دون أن يسلح نفسه بالسيوف، بسبب الحروب التي كانت قائمة بينهم بغير انقطاع.

5- لأنهم كانوا يقضون كل حياتهم شاهرين السلاح، وكان لهم السيف عوض العصى، يعتمدون عليه في كل الطوارئ مع أنهم كانوا لا يزالون، كما قدمت، يعبدون الأوثان، ويقدمون الذبائح للشياطين، ولم يستطيعوا التخلص من هذه الروح، رغم كل أباطيل عبادتهم الوثنية.

6- ولكنهم عندما انتقلوا إلى تعاليم المسيح – كان من الغريب جداً أن ينخسوا في ضمائرهم حقاً، ويتخلوا عن وحشية القتل، ولم يعودوا يفكرون في الحرب، بل صاروا في سلام تام، وأصبح أحب شيء اليهم منذ ذلك الوقت، كل ما يؤول إلى المودة والوئام.

الفصل الثاني والخمسون

1- إذن من ذا الذي فعل هذا، ومن ذا الذي وحد المتغاضبين، وجعلهم في سلام تام، إلا ابن الآب المحبوب، مخلص الكل، يسوع المسيح، الذي بمحبته احتمل كل شيء لأجل خلاصنا؟ لأنه منذ القديم تنبئ عن السلام الذي كان مزمعاً أن يأتي به، حيث يقول الكتاب “فيطبعون سيوفهم سككاً ([153]) وحرابهم ([154]) مناجل، لا تشهر ([155]) أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد ([156])“.

2- وهذا على الأقل أمر لا يقبل أي شك، فإنك حتى الآن تجد هؤلاء البربر، ذوي الأخلاق الوحشية بفطرتهم، عندما يكونون لا يزالون قائمين بتقديم الذبائح لأصنام بلادهم، يقومون ضد بعضهم البعض بحالة جنونية، ولا يحتملون البقاء ساعة واحدة بدون سلاح.

3- ولكن عندما يسمعون تعليم المسيح، فإنهم في الحال يلتفتون إلى الفلاحة عوض الحروب، وبدلاً من تسليح أيديهم بالأسلحة، فإنهم يرفعونها في الصلاة. وبالإجمال، فإنهم بدلاً من أن يحاربوا بعضهم بعضاً، يتسلحون ضد الشيطان والأرواح الشريرة، ويخضعونها بكبح جماح النفس وبفضيلة الروح.

4- وهذا بلا شك دليل على لاهوتية المخلص، لأن ما عجز البشر عن أن يتعلموه من الأوثان، قد تعلموه منه، كما انه افتضاح شديد لضعف الشياطين والأوثان، ودليل على أنها لا شيء، لأن الشياطين اذ عرفت ضعفها حرضت البشر قديماً على أن يحارب بعضهم بعضاً، لئلا ليتفتوا إلى محاربة الشياطين أن كفوا عن محاربة أنفسهم.

5- أما الذين يتتلمذون للمسيح، فإنهم لا يحاربون بعضهم بعضاً، بل يتجندون ضد الشياطين بأخلاقهم الفاضلة، وأعمالهم المجيدة، فيهزمونها ويهزأون بالشيطان رئيسها. لهذا نجدهم في شبابهم يكبحون جماح أنفسهم، وفي التجارب يحتملون، وفي الأتعاب يثابرون، وان شتموا يصبرون، وان صلبوا يستخفون بالأمر. والمدهش أنهم يحتقرون حتى الموت، وفي سبيل المسيح يستشهدون.

الفصل الثالث والخمسون

1- ولنذكر برهاناً واحداً – عجيباً جداً – على لاهوتية المخلص فنقول: هل استطاع مجرد انسان، أو ساحر، أو طاغية، أو ملك، أن ينازل بنفسه كل هؤلاء، ويحارب ضد كل عبادة وثنية، وكل جنود الشياطين، وكل سحر، وكل حكمة اليونانيين إذ كانت في شدة القوة والإزدهار، باسطة نفوذها على الجميع، واستطاع أن يوقفها كلها عند حدها بضربة واحدة، كربنا كلمة الله الحقيقي، الذي، إذ يفضح خطأ كل انسان بشكل غير منظور، يختطف بنفسه كل البشر منها كلها، حتى أصبحوا الآن يدوسون الأوثان، بعد أن كانوا يعبدونها، والذين اشتهروا بسحرهم يحرقون كتبهم، والحكماء يفضلون تفسير الأناجيل على كل دراسة؟

2- وتلك التي اعتادوا عبادتها صاروا الآن يهجرونها، وذاك الذي اعتادوا أن يهزأوا به كمصلوب، صاروا الآن يعبدونه مسيحاً، معترفين به الهاً. وتلك التي كانت آلهة بينهم صارت تُغلب بعلامة الصليب. والمخلص المصلوب صار يُنادى به في كل العالم الهاً وابن الله. والآلهة التي كان يعبدها اليونانيون قد أنتن صيتها بينهم على مرأى أو مسمع منهم، ككائنات شائنة. أما الذين يقبلون تعليم المسيح فإنهم يعيشون حياة أكثر عفة منهم.

3- فإن كانت هذه وأمثالها أعمالاً بشرية، فليبين لنا – من أراد – أعمالاً مماثلة صنعها البشر في سالف الزمن، وبذلك يقنعنا. أما إذا ثبت انها ليست أعمال البشر بل أعمال الله – وهي كذلك فعلاً – فلماذا يضل غير المؤمنين، ولا يدركون السيد الذي عملها؟

4- لأن مثلهم مثل انسان عجز عن أن يعرف – من أعمال الخليقة – الله خالقها. لأنهم لو عرفوا لاهوته من سلطانه على الكون، لأدركوا أن أعمال المسيح التي عملها في الجسد، ليست بشرية، بل هي أعمال مخلص الكل، كلمة الله. ولو عرفوا “لما صلبوا رب المجد” ايضاً، كما قال بولس ([157]).

الفصل الرابع والخمسون

1- وكما أنه إن أراد امرؤ أن يرى الله، غير المنظور بالطبيعة، الذي لا يُرى قط، فيمكنه أن يعرفه ويدركه من أعماله، كذلك يجب على من يعجز عن رؤية المسيح بعقله وفهمه، أن يدركه على الأقل من أعمال جسده، ويفحص إن كانت أعمالاً بشرية أم أعمال الله.

2- فإن كانت بشرية جاز له الإستهزاء، أما إن لم تكن بشرية، بل أعمال الله، فليعرف ذلك، ولا يستهزئ بما لا يستحق الإستهزاء، بل بالحري ليدهش لأنه بوسائل عادية كهذه أعلنت لنا الإلهيات، ولأنه بالموت وصل عدم الموت إلى الجميع، ولأنه بتأنس الكلمة عرفت العناية العامة، كما عرف واهبها وبارئها، كلمة الله نفسه.

3- لأنه (تأنس) صار انساناً لكي نصير نحن الهاً ([158])، وأظهر نفسه في جسد، لكي يعطينا فكرة عن الآب غير المنظور، واحتمل من البشر الإهانة لكي نرث نحن عدم الموت. لأنه إذ لم يمسسه أي ضرر، إذ هو غير قابل للألم أو الفساد، وهو ذات “الكلمة” وهو الله، فإن البشر الذين كانوا يتألمون والذين لأجلهم احتمل كل ذلك، قد خلصهم وحفظهم مثله في حالة عدم التألم.

4- وبالإجمال أن اعمال المخلص، التي نشأت من تأنسه، جليلة جداً في نوعها، وعظيمة المقدار في عددها، حتى أنه أن أراد أحد احصاءها، لصار مثله مثل الذين يحدقون في سعة البحر ويحاولون احصاء أمواجه. لأنه كما أن المرء لا يستطيع أن يحد كل الأمواج ببصره، إذ الأمواج القادمة تبلبل ذهن كل من يحاول ذلك، هكذا من يحاول أن يحيط بكل أعمال المسيح في الجسد، لأنه من المستحيل أن يدركها كلها حتى بإحصائها، إذ انها تفوق ذهنه أكثر من تلك التي يظن انه قد استوعبها.

5- إذن فالأفضل أن لا تفكر في التحدث عنها كلها ما دام المرء يعجز عن أن يوفي جزءاً بسيطاً منها. على أنني اكتفي بذكر عمل واحد آخر من أعماله، تاركاً لك التأمل في الباقي والتعجب منه، لأنها كلها عجيبة على السواء، وأينما وجه الإنسان بصره اليها استطاع أن ينظر إلى لاهوت “الكلمة”، وتملك عليه الذهول الشديد.

الفصل الخامس والخمسون

1- إذن يحق لك أن تتحقق مما قلناه إلى الآن، وتتعجب جداً من خلاصة ما سبق أن قررناه – وهو، أنه منذ مجيء المخلص الينا، لم يبطل نمو العبادة الوثنية فحسب، بل أن ما كان موجوداً منها فعلاً بدأ يتناقص، وبالتالي يتلاشى تدريجياً، ولم يبطل تقدم الحكمة اليونانية فحسب، بل أن ما كان موجوداً منها الآن يذبل. والشياطين لم تعد بعد قادرة على خداع أحد بالتخيلات والنبوات والسحر، وإن تجاسرت وحاولت ذلك أخجلت بعلامة الصليب.

2- ولتلخيص الموضوع نقول: أنظر كيف أن تعليم المخلص يزداد انتشاراً في كل مكان، بينما كل عبادة وثنية، وكل ما يناقض ايمان المسيح، يتضاءل كل يوم، ويضعف، ويتلاشى. وأنت اذ تنظر ذلك، أعبد المخلص الذي هو فوق الكل، المقتدر أي الله “الكلمة”، واشجب تلك التي غلبها وأبادها.

3- لأنه كما أن الشمس اشرقت لا تستمر الظلمة بعد، وإن بقى منها شيء في أي مكان تتبدد، هكذا الآن إذ حل الظهور الإلهي لكلمة الله، فإن ظلمة العبادة الوثنية لا تستمر بعد، وصارت كل أرجاء العالم في كل جهة تستنير بتعليمه.

4- وكما أنه إن كان ملك يحكم على مملكة ما دون أن يظهر لشعبه بل يلازم بيته، فإن الأشخاص المشاغبين كثيراً ما ينتهزون فرصة عزلته، ويعلنون عن أنفسهم، ويظاهر كل منهم بصفات الملك، محاولاً التأثير على البسطاء واقناعهم بأنه ملك، وهكذا ينخدع الناس بإسمه، لأنهم إن كانوا يسمعون أن هنالك ملكاً، فإنهم لا يرونه لعدم استطاعتهم الدخول إلى بيته أو لأي سبب آخر. ولكن عندما يخرج الملك الحقيقي ويظهر، فحينئذ يفتضح أمر أولئك المشاغبين بظهوره، وإذ يرى الناس الملك الحقيقي، يهجرون أولئك الذين سبق أن أضلوهم.

5- هكذا الحال ايضاً، فإن الأرواح الشريرة اعتادت سابقاً أن تضل البشر، منتحلة لنفسها كرامة الله. ولكن عندما ظهر كلمة الله في الجسد، وعرفنا بأبيه، حينئذ بطلت وتبددت غواية الأرواح الشريرة أخيراً، وإذ بدأ البشر يحولون انظارهم إلى الإله الحقيقي، كلمة الآب، صاروا يهجرون الأصنام، وبدأوا الآن يعرفون الإله الحقيقي.

6- والآن هذا برهان على أن المسيح هو الله “الكلمة” وقوة الله. لأنه إن كانت الأمور البشرية تبطل وكلمة المسيح تثبت، فواضح لكل الأنظار أن ما يبطل وقتي، أما من يثبت فهو الله وابن الله الحقيقي، كلمته الوحيد.

الفصل السادس والخمسون

1- إذن لتكن رسالتنا هذه هي تقدمتنا اليك ايها الانسان محب المسيح، كبيان أولي موجز عن الايمان بالمسيح، وعن ظهوره الإلهي لنا، ولكنك، إذ تنتهز فرصة هذه الرسالة، وتقف على نص الكتب المقدسة، بالتعمق بفكرك فيها بإخلاص، فإنك تتعلم منها، بأكثر استيفاء ووضوح، التفاصيل الكاملة لما قلناه.

2- لأن الله نطق بها ودونها على أيدي أناس مسوقين من الله. ونحن بدورنا نبلغك ما تعلمناه من المعلمين الملهمين الذين كانوا يعيشون معهم، والذين استشهدوا ايضاً من أجل لاهوت المسيح، وذلك لكي تزداد غيرة في الدرس والإطلاع بدورك أنت ايضاً.

3- ولكي تتعلم انت ايضاً عن ظهوره الثاني الإلهي الحقيقي المجيد لنا، حيث لا يظهر بعد في اتضاع بل في مجده، ولا يظهر بعد متخفياً متواضعاً بل في عظمته. وهو سيأتي، لا لكي يتألم ثانية، بل ليقدم للجميع ثمار صليبه، أي القيامة وعدم الفساد، ولا لكي يحكم عليه بعد، بل لكي يحكم على الجميع حسبما صنع كل واحد في الجسد، خيراً كان أو شراً، حيث أعد للصالحين ملكوت السموات، أما للذين عملوا السيئات فالنار الأبدية والظلمة الخارجية.

4- لأنه هكذا يقول الرب نفسه أيضاً “من الآن تبصرون ابن الانسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء في مجد الآب([159])“.

5- ولهذا السبب عينه نجد أيضاً كلمة للمخلص تعدنا لذلك اليوم اذ يقول “كونوا مستعدين واسهروا لأنه يأتي في ساعة لا تعلمونها ([160])” وكما قال المغبوط “بولس” “لابد أننا جميعاً نقف ([161]) أمام كرسي المسيح لينال كل واحد بحسب ما صنع في الجسد ([162]) خيراً كان أم شراً ([163])“.

الفصل السابع والخمسون

1- على أن تفتيش الكتب، ومعرفتها المعرفة الحقيقية، يتطلبان حياة فاضلة، ونفساً طاهرة، والفضيلة التي بالمسيح. حتى إذا ما استرشد بها العقل، وأنار بها طريقه، استطاع أن يصل إلى ما يصبو اليه، ويدركه حسبما تستطيع الطبيعة البشرية أن تتعلمه عن كلمة الله.

2- لأنه بدون الذهن النقي. ومماثلة سيرة القديسين، لا يستطيع الإنسان أن يدرك أقوال القديسين.

3- إذا كما انه إن اراد أحد أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه، ويجليهما، مطهراً نفسه على مثال ما يبتغيه، حتى إذا ما استنارت العين استطاعت أن تبصر نور الشمس، أو كما أنه إن أراد أحد أن يرى مدينة أو قرية، وجب عليه أن يأتي اليها لكي يراها، هكذا ايضاً يجب على من يريد أن يدرك فكر الذين يتكلمون عن الله، أن يبدأ بغسل وتنظيف نفسه، بتغيير مجرى حياته، ويقترب إلى القديسين أنفسهم بالإقتداء بأعمالهم، حتى إذا ما اشترك معهم في السلوك في الحياة المشتركة، استطاع أن يفهم هو ايضاً ما أعلنه الله لهم، ومن ثم – إذ يكون قد ارتبط بهم ارتباطاً وثيقاً – ينجو من خطر الخطاة ونارهم في يوم الدينونة، وينال ما أُعد للقديسين في ملكوت السموات “ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال انسان ([164])” ما أُعد للذين يعيشون حياة فاضلة، ويحبون الله الآب في المسيح يسوع ربنا، الذي به ومعه يليق للآب نفسه، مع الابن نفسه، في الروح القدس، الكرامة والقوة والمجد إلى أبد الآبدين، آمين.

 

الهوامش :


([1]) أي الوثنيين.

([2]) أنظر الرسالة ضد الوثنيين فصل 1. قد يكون هذا الإسم مستعملاً هنا رمزياً فقط، كما ورد في بعض الترجمات التي جاء بها عوضاً عن ذلك “أيها المغبوط والمحب للمسيح بالحقيقة”. ولكن وروده في كلتا الرسالتين يدل على أن المقصود به شخص معين، ويغلب على الظن أن يكون المقصود به شخصاً مسيحياً له دراية بالكتاب المقدس.

([3]) أنظر 1 تيموثاوس 3 : 16.

([4]) في الرسالة السابقة.

([5]) هم أتباع “ابسيكروس” الفيلسوف الوثني الذي ولد سنة 341 ومات سنة 270 ق.م.

([6]) أحد فلاسفة اليونان أيضاً عاش من سنة 427 إلى سنة 347 ق.م.

([7]) أو غير مخلوقة كبعض الترجمات.

([8]) حسب ادعائهم.

([9]) متى 19 : 4-6.

([10]) يوحنا 1 : 3.

([11]) تكوين 1 : 1.

([12]) لمؤلفه “هرماس” أحد مؤلفي الأجيال الأولى للمسيح.

([13]) عبرانيين 11 : 4.

([14]) أي الخير والشر.

([15]) تكوين 2 : 16 و 17.

([16]) أنظر الرسالة إلى الوثنيين فصل 3 – 5.

([17]) جامعة 7 : 29، رومية 1 : 21 و 22.

([18]) رومية 5 : 14.

([19]) أو “الى ما لا وجود له”. ولعل أثناسيوس يقصد العدم جسدياً.

([20]) سفر الحكمة 6 : 19.

([21]) مزمور 82 : 76.

([22]) أو “خالداً” حسب ترجمة اليسوعيين.

([23]) حكمة 2 : 23 و 24.

([24]) رومية 1 : 26 و 27.

([25]) تكوين 2 : 25.

([26]) غلاطية 3 : 19.

([27]) أو “شفيعاً”، أو “سفيراً” كبعض الترجمات.

([28]) أعمال 17 : 27.

([29]) أنظر فصل 43 : 7.

([30]) الترجمة الأصح “ويبيد الموت عنهم”.

([31]) أو “القصب” كبعض الترجمات، والمعنى أن الناس هم القش، والموت هو النار.

([32]) أو “فداء عن الجميع”.

([33]) لعله يشير إلى ما كان يحدث عند زيارة الأباطرة للبلاد. وقد تشرفت القسطنطينية بعد ذلك (سنة 326) بزيارة الملك العظيم قسطنطين لها واقامته فيها.

([34]) أو “ليضع حداً للموت”.

([35]) “كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام”. 2 كورنثوس 5 : 14 و15.

([36]) عبرانيين 2 : 9.

([37]) عبرانيين 2 : 10.

([38]) عبرانيين 2 : 14 و 15.

([39]) غلاطية 6 : 17.

([40]) 1 كورنثوس 15 : 21 و22.

([41]) 1 تيموثاوس 6 : 15.

([42]) رومية 1 : 25.

([43]) أو “ان يعرفوا الخالق”.

([44]) لوقا 19 : 10.

([45]) يوحنا 3 : 3 و 5.

([46]) “بالحكمة”.

([47]) 1 كورنثوس 1 : 21.

([48]) أو “وجذب نحوه احساسات كل البشر” حسب النص الحرفي، أو “وأحس بما يحس به كل واحد” حسب رأي البعض.

([49]) أي “ذا جسد”.

([50]) أو “يستنتجوا” حسب النص الحرفي.

([51]) لوقا 19 : 10.

([52]) أفسس 3 : 17 – 19.

([53]) أو “مغلقاً عليه” حسب بعض الترجمات.

([54]) أي انه إذا كان موجوداً في الخليقة كان موجوداً متميزاً ولم يكن من الخليقة ويمكن التمييز بينه وبين الكون الذي يملأه.

([55]) وفي بعض الترجمات “احتجب مجده”.

([56]) “لم يستمد منه شيئاً” حسب بعض الترجمات.

([57]) 1 بطرس 2 : 22.

([58]) “وتؤمنوا”.

([59]) “وأنا فيه” يوحنا 10 : 37 ، 38.

([60]) “رب تكوين البشر” حسب بعض الترجمات.

([61]) أنظر الفصل السابع.

([62]) انظر فصل 8 : 4 و 10 : 5 الخ. قال أحد الكتاب: “من خواص اثناسيوس أن يكرر الكلام وان يعتذر عن التكرار”.

([63]) عبرانيين 2 : 14 و15.

([64]) أو “صار كفيل (أو ضامن) القيامة”.

([65]) 1 كورنثوس 15 : 53-55.

([66]) أي الموت عن البشر.

([67]) انظر يوحنا 10 : 17 و18.

([68]) متى 27 : 42.

([69]) أي مع انه مدعم باتحاده به.

([70]) أعمال 26 : 26.

([71]) لوقا 24 : 11.

([72]) “أختير له” حسب بعض الترجمات.

([73]) غلاطية 3 : 13.

([74]) غلاطية 3 : 13، تثنية 21 : 32.

([75]) أفسس 2 : 14.

([76]) يوحنا 12 : 23.

([77]) أفسس 2 : 2.

([78]) عبرانيين 10 : 20.

([79]) لوقا 10 : 19.

([80]) حسبما ورد بالترجمة السبعينية. أما الترجمة العادية “ارفعن ايتها الأرتاج رؤوسكن، وارتفعن ايتها الأبواب الدهريات” مزمور 24 : 8 (الرتج = الباب العظيم).

([81]) أنظر مزمور 55 : 4، 89 : 47، أيوب 18 : 14.

([82]) “أين شوكتك يا موت، أين غلبتك يا هاوية” 1 كورنثوس 15 : 55، هوشع 13 : 14.

([83]) أو “ليتأكد من ضعف النار أمام مادة الإسبستوس” كبعض الترجمات الأخرى.

([84]) قرئت “والأطفال”.

([85]) “قهر الموت” كبعض الترجمات.

([86]) “والمنافق عن نفاقه” كبعض الترجمات.

([87]) عبرانيين 4 : 12.

([88]) أي توضح ما هو غير ظاهر.

([89]) لوقا 4 : 34.

([90]) مرقس 5 : 7.

([91]) متى 1 : 23 ، اشعياء 7 : 14.

([92]) يلاحظ أن معظم أو كل الإقتباسات التي يستشهد بها اثناسيوس مأخوذة عن الترجمة السبعينية، وأما نص هذه الآية حسب ترجمة بيروت فهو “يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من اسرائيل فيحطم طرفي موآب” عدد 42 : 17.

([93]) “ما أحسن خيامك يا يعقوب مساكنك يا اسرائيل، كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود غرسها الرب، كأرزات على مياه” عدد 24 : 5 و6 أما الجزء الأخير “يخرج من نسله الخ” فليس له وجود في النسخ التي بين أيدينا لكنه موجود بالترجمة السبعينية.

([94]) “تحمل ثروة دمشق”.

([95]) اشعياء 8 : 4.

([96]) هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر” اشعياء 19 : 1.

([97]) هوشع 11 : 1.

([98]) قارن ذلك بما هو وارد في اشعياء 53 : 3-10.

([99]) قارن بما هو وارد في اشعياء 53 : 3-10.

([100]) قارن بما هو وارد في اشعياء 53 : 3-10.

([101]) “وتكون حياتك معلقة قدامك ولا تأمن على حياتك” تثنية 28 : 66.

([102]) وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليَّ أفكاراً قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء، أرميا 11 : 19.

([103]) “أُحصي”.

([104]) مزمور 22 : 16 – 18.

([105]) “ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب اياه تطلب الأمم” اشعياء 11 : 10.

([106]) “آموص”.

([107]) أو “لم يعرفه جيرانه رجلاً عظيماً إلا بعد أن صار رجلاً عظيماً”.

([108]) اشعياء 8 : 4 “لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور” أما في الترجمة السبعينية فقد وردت هذه الآية هكذا: “لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أمي يحمل انسان قوة دمشق وغنائم السامرة قدام ملك الأشوريين”.

([109]) سنحاريب.

([110]) يشوع.

([111]) أنظر رسالته الحادية والستين الموجهة إلى مكسيموس حوالي سنة 371م.

([112]) تكوين 49 : 33 “ولما فرغ يعقوب من توصية بنيه، ضم رجليه إلى السرير وأسلم الروح”. ووردت هذه الآية بالترجمة السبعينية كالآتي “وفرغ يعقوب من توصية بنيه. وإذ رفع رجليه إلى السرير مات”.

([113]) أنظر فصل 35 : 2.

([114]) فصل 34 : 3.

([115]) “اصغيت إلى الذين لم يسألوا، وجدت من الذين لم يطلبوني، قلت هانذا لأمة لم تسم باسمي، بسطت يدي إلى شعب متمرد” اشعياء 65 : 1و2 أنظر أيضاً رومية 10 : 21.

([116]) “شددوا الأيادي المسترخية، والركب المرتعشة ثبتوها قولوا لخائفي القلوب تشددوا ولا تخافوا. هوذا الهكم، الانتقام يأتي، جزاء الله. هو يأتي ويخلصكم. حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تنفتح. حينئذ يقفز الأعرج كالإيل وألسنة العييين تبادر إلى التكلم فصيحاً” اشعياء 35 : 3-6، 33 : 4 (تتفقح أي تنفتح).

([117]) لوقا 9 : 23 و 33.

([118]) دانيال 9 : 24 و 25.

([119]) “لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الشعوب” تكوين 49 : 10 (شيلون فسرت بمعنى “من له الحق”. أنظر قاموس الكتاب المقدس).

([120]) “الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا” متى 11 : 13، لوقا 16 : 16.

([121]) الوثنيون.

([122]) “الرب هو الله وقد أنار لنا” مزمور 18 : 37، أنظر ايضاً عدد 6 : 25.

([123]) مزمور 107 : 20.

([124]) “فصار لهم مخلصاً. في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم بمحبته ورأفته هو فكهم” اشعياء 63 : 8 و 6 أما في الترجمة السبعينية فقد وردت هذه الفقرة هكذا “فصار لهم مخلصاً من كل ضيقهم. لا سفير ولا رسول بل خلصهم بنفسه لأنه أحبهم ونجاهم، هو بنفسه فداهم”.

([125]) وفي بعض الترجمات “اليونانيين”.

([126]) يسلم اثناسيوس هنا جدلاً – لإثبات قضيته – بمبادئ التعاليم الأفلاطونية الحديثة. وقد كانت هذه التعاليم تدين بآراء “فيلو” فيما يختص بالكلمة (Logos) ولكن حتى في هذه الناحية كان يشتم في هذه التعاليم رائحة تعاليم أفلاطون.

([127]) وخاصة أفلاطون.

([128]) أو جسد.

([129]) أو “يسكن في كل” حسب بعض الترجمات.

([130]) أعمال 17 : 28.

([131]) أو “ويسكن فيه”.

([132]) أو “جلس عليها” أو “جلس على دفتها” حسب الترجمة الحرفية.

([133]) “بتدبيره” كبعض الترجمات.

([134]) لو إن الخلاص قد تم بمجرد صدور أمر لكان هذا دليلاً على قدرة الله، أما التجسد فهو دليل محبته.

([135]) أي قابلاً للموت.

([136]) أو القصب.

([137]) انظر فصل 28 : 6 ويظهر انه لم يشهد تلك المادة.

([138]) “الأرض تمتلئ من معرفة الرب” اشعياء 11 : 9.

([139]) أي الله الذي ظهر كإنسان.

([140]) أي سلطان الله.

([141]) الجحيم.

([142]) “إذ جرد الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (أي في الصليب)” كو 2 : 15.

([143]) أن التجسد يكمل دائرة شهادة الله نفسه ومسئولية الإنسان.

([144]) عبادة قديمة كانت تُمارس في كثير من المقادس وبنوع خاص في ساموثراكي ولمنوس.

([145]) في الأصل اليوناني “بيتيا” أي ربة النبوة.

([146]) زحل.

([147]) “عطارد” في الأصل اليوناني.

([148]) إله الجمال والرجولة والموسيقى عند اليونانيين قديماً.

([149]) اليونانيين.

([150]) إله الطب عند اليونانيين.

([151]) إله القوة والحرب.

([152]) أركانيا اسم قديم لمقاطعة في آسيا ما بين بلاد الفرس وبحر قزوين (حدود روسيا).

([153]) المقصود بها أسلحة المحراث.

([154]) رماحهم.

([155]) ترفع.

([156]) اشعياء 2 : 4.

([157]) 1 كورنثوس 2 : 8.

([158]) وردت بصيغة المفرد في معظم النسخ وبصيغة الجمع في نسخ قليلة (أنظر 2 بطرس 1 :4، عبرانيين 2 : 9، مزمور 82 : 6.

([159]) “في مجد الآب” زيدت متى 26 : 64.

([160]) “اسهروا اذاً لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” متى 24 : 42 ومرقس 13 : 35.

([161]) “نظهر”.

([162]) “لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع”.

([163]) 1 كورنثوس 5 : 10.

([164]) 1 كورنثوس 2 : 9.