مواعظ القديس مار يعقوب السروجي الملفان

مواعظ القديس

مار يعقوب السروجي الملفان

 

 

الميلاد: التجسد الآلهي

الدنح: الظهور الإلهي-عماد الرب

الجهاد الروحي في الصوم الكبير

أحد الشعانين المجيد

المأساة الكبرى في الجمعة العظيمة

فرح الفصح في القيامة الظافرة

 

 

الميلاد: التجسد الآلهي

نشيد واحد ومعان ثلاثة

يطيب لي اليوم أن أنشد بأصوات متميزة مع جموع العلويين قائلا ً: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر.

فاليوم سُمعت أنشودة الأناشيد، وفي أصوات ثلاثية من طغمات الروحانيين إذ أنهم يرسلون المجد إلى السماء بمعرفة إلهية، والسلام على الأرض، والرجاء لبني البشر، كان يؤدي السماويون بصوت عال نشيدا ً واحدا ً بثلاثة معان على باب المغارة، فلماذا على ثلاثة اشكال وزع الملائكة الترتيلة؟ ولم يقولوا نوعا ً واحدا ً؟ في الأعالي وعلى الأرض ولبني البشر، بل يرسلون المجد إلى جهة والسلام إلى جهة أخرى والرجاء إلى جهة ثالثة.

إن مقتبلي الحكم الأزلية رتلوا التهليل واجبا ً في الأعالي وعلى الأرض وللبشر، وكما يليق بطبيعتهم ركّبوا تسبحتهم، وكما حسن لإرادتهم الصالحة صاغوا ووضعوا النشيد بمعرفة لا تزول. فالمجد لله في العلى، الموطن السابق بالشعور الذي يسبق التمجيد، والملائكة الذين عوفوا السر أولا ً، هم أنفسهم يكونون السباقين بالتسبيح. إذ السلام في الأعالي، يرتلون هكذا وهم غير غاضبين.

السلام أولا ً

أما وحيث لا سلام على الأرض، فليكن السلام أولا ً، ثم المجد. فلو لم تُجتث لعنة الشوك من الأرض بالصليب، لما زُرع فيها تسبيح العلويين. وأما الآن فليكن فيها السلام المصالح الغاضبين، وفي البدء يستمد منه المجد، لتسبح الأرض كالسماء أيضا ً.

عندما نزل من عليائه ليحل في البتول، أعطي السلام للبتول، وعندما حان زمن الميلاد على الأرض، أعطي السلام للأرض حينما حل المسالم بها.

إذن ما أجمل قول الملائكة: وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر. فالبشر لم يكونوا مالكين الرجاء، وكانوا ساقطين من رتبة البنين، مطرودين من الانتساب إلى الله، لقد بكَّتهم العصيان، وأمسوا غرباء من بيت الآب، طُرحوا من سماء جنة عدن، وقبلتهم الهاوية هوة الموتى.

سقطوا من السماء العالية وصاروا مسحوقين في أعماق الجحيم. حُرموا من مائدة الملك وصاروا ترابا ً ومأكلا ً للتنين، نزعوا عنهم الجمالات الروحية، واتَّزروا الأوراق لباس الخجل. كشطت منهم حلة النور، وها إنهم مستترون في نسيج العنكبوت. سقطوا ومادوا، وبلعتهم الهوة، انتهوا إلى التراب، وغدوا بلا رجاء.

فيض المراحم الأزلية

وعندما شاء الآب أن يفيض مراحمه الأزلية التي فيه منذ البدء، أرسل ابنه إلى العالم، وجاء من امرأة، وعلى مدخل الخطيئة، انفتح باب التوبة، وشعر الملائكة أن يقولوا، والرجاء لبني البشر. غُفر السقوط، ونحل القضاء، وترك الذنب، وامّحى الصك، وفتح الفردوس، وصوف الكروب الحارس، وأعيد آدم المطرود، وخجلت حواء العارية، ورضّ الثعبان الأرقم، وتعرى الشيطان الماكر، وطاش سهم الموت الفتاك، وحطمه جنس البشر، ومن أجل كل هذه الأمور جاء بالرجاء الصالح لبني البشر.

يوم التسابيح الحافل

ما أجمل توزيع النشيد الذي رتله اليوم الملائكة-حكماء الدهر-في بيت لحم، يليق المجد لله في الأعالي، والسلام على الأرض المحتاجة إليه، والرجاء لبني البشر الذي فقدوا الرجاء. هذا هو العيد الفضيل الذي يوزع ويمنح الأكوان كل الثروة بحكمة، هذه الترتيلة التي تعطي لله مجدا ً، وللأرض سلاما ً ولبني البشر رجاء، هذا هو اليوم الحافل بالباهرات، وتضجّ به كل التسابيح، ويختال بالعجب، ويُسمع فيه صوت تهليل جمهور العلويين، وهم يعظمون بأجنحتهم الروحية رب الاعلين الذي رضي أن يكون صديقا ً للسفليين. اليوم نبت غصن من جذع يسَّى، ليكون عصا للعالم ليتوكأ عليها في شيخوخته. اليوم افترّ ثغر حواء وتكلمت بصوت عال ووجه سافر، إذ غُفرت خطيئتها بالبتول الثانية، التي دفعت دَين آبائها بغنى الكنوز التي ولدت للبرايا. اليوم تصمت الحية ويتكلم جبرائيل، ليخز الكذب، ولينطق الحق. لتمر الأمور الأولى من البدء المتجددة بمولود البتول. اليوم ترفع يد الكروب عن رمح النار، فلا حاجة لحراسة شجرة الحياة فها هي قد وضعت ثمرتها بالمذود. لتصير طعاما ً للناس الذي تشبهوا بالحيوانات بملء إرادتهم.

أي يوم هذا؟

اليوم بدّل آدم أوراقه بألبسة النور، وأخزى بمجده الحية التي عضته، وانتزع حلته منها، اليوم يلتحف رب عدن بالقماطات بدل أوراق الشجر مبدّلا ً العار بالمجد، وتعود الكرامة لآدم الأول. فليكفّ الباحثون وليصمت الفاحصون عن الاستقصاء عن شأن البتول، التي حملت ولم تمسّ، وولدت وبكارتها قائمة وهي دائمة البتولية، ويثبت حليبها حق بتوليتها، اليوم يعزف أشعيا بقيثارته، ويحرّك أوتار الوحي بالروح قائلا ً: ليس فقط ها العذراء تحبل وتلد، بل ها العذراء حبلت وولدت كما قلت. إذن صوروا الشهادة واختموا العهد، فإنه قد ظهرت خفايا الأسرار علانية.

اليوم ولد لنا ولد

اليوم غدت المغارة خدرا ً للختن السماوي الذي شاء الانتساب إلى جنس الأرضيين، وسندهم ليصعدوا من العمق إلى العلى، اليوم فُرّ حلم يعقوب بوضوح حيث يقف الرب برأس السلم، وها هوذا نزل ليُصعد البشر إلى السماء، اليوم انبلج الصباح من المغارة، وبزغت الشمس العظيمة من الحجر الدقيق، لتنير بشروقها الأعماق المظلمة، إذ ليس من السهل أن تضيئها الشمس. اليوم رجع الظلام القهقرى في اثنتي عشرة درجة من الضوء، فاحتلته ووقفت على رأسه، ليتعظم بها نهار الحقيقة، الذي طرد وخنق بإشراقه ضلال الخطيئة. اليوم ولد لنا ولد، المولود من الآب قبل انشاء العالم. وليس للعقل أن يدركه. اليوم تفرح العفة، ويُقصى الزنى مادام فعل الزواج متوقفا ً محل الزنا. اليوم تهزج البتولات بالبتول التي ولدت، ولن ينتظرون لتلد أخرى، بل وهن مسبحات عجبا ً للذي أشرق من طغمهن، اليوم تطرب المنجبات اللواتي اختلطت بهن البتول، وبدت الدهشة في جموعهن، فغير المتزوجة تعطي حليبا ً وأختام بتوليتها قائمة.

يوم العجب

اليوم بلغ العجب يوسف ومريم، فالعذراء تعطي حليبا ً بغير زواج وتلد بلا زرع رجل، آية أخرى، رب السماء بمغارة، النار بالقماطات، السلهبة ترضع الحليب، الجمرة تعانق الصدر، حامل الكروبين يحمله الذراعان، رب المركبة تُزيّحه صبية، مفيض أمواج البحر العظيم يرضع القطرات من ثدي الشابة.

وصف مستمر

لم ينته فهل أهدأ؟ إن ما أقوله لا يوصف، لا يحتويه فم، ويفزع منه اللسان، ولا تستوعبه كلمة، فليفزع منه البحث، ليكرّمه السكون في أعماقه، ويسجد له دون فحص، أننا وببساطة المحبة نصفه، إلا فليتحدث عنه الحب بكل دالة، وبهذه الألفاظ الجميلة التي لفظتها اليوم طغمة جبرائيل المتقدة، فليتأمل بها جمهور الكنيسة قائلا ً: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر.

دويّ المجد

كان الملائكة وحدهم يشعرون آنذاك بالسر، وهم وحدهم كانوا يسبّحون عجبا ً، وأما الآن وبعد أن ظهرت الخفايا للعلن، وشعر بنو البشر بالرجاء، وامتلأت الأرض سلاما ً يليق بالأرضيين على غرار العلويين المجد لله من الأعماق، كما في الأعالي ولتكن مشيئته على الأرض كما في السماء، فلنتبارك بأحاسيس البشر كما من السماويين، ليدوِّ المجد في أفواه الترابيين كما في أفواه الروحانيين، لقد حلَّ السلام على الأرض، واجتُذّت لعنة الشوك بالإكليل، وكثر الرجاء للبشر، وأصبحت طريق الفردوس سالكة ليسير بها المخلصون غير وجلين من طعن سهامها، إذن المجد لله في الأعالي، المجد لله في الأعماق، المجد لله على الأرض كما في السماء، فقد تجدد كل شيء بالميلاد، تبارك الجميع، وخلص الجميع، له المجد من الجميع آمين.

 

 

 

الدنح: الظهور الإلهي-عماد الرب

بين عهدين

إن الحد الفاصل بين العهدين القديم والجديد هو مجيء ربنا إلى الأردن، إلى هناك سرى مفعول ناموس موسى، ومن هناك ظهر مشرقا ً حق تعليم المسيح الكامل، إن موسى بادئ الناموس ويوحنا مكمله، ومنذ نادى ربنا بالكمال الذي يعلو الشريعة، بعد أن أتم طريق العدالة بعماده.

فجّر موسى من سحابة سينا ينبوع الحياة مربي الأطفال، ليُرضع العالم وينمو بالمعرفة التي تؤدي إلى اكتفاء الكاملين بالطعام، أما يوحنا فقد فطم العالم من الحليب وأناره واضعا ً أمامه خبز الحق عندما أظهر للمسيح قائلا ً: أنا هو الخبز الذي ينفع الرجال البالغين. فالشريعة هي الحليب وأنا الخبز، أي، امتنعوا عن حليب الرضَّع وهلموا عيشوا بالخبز، طعام الأقوياء.

أما ما كان ينادي به يوحنا بصوت عال علنا ً وأمام أعين الجمع قائلا ً: أنا أعمدكم بالماء، مثلا ً، أنا أعطيكم الحليب مما هو في ناموس موسى، ولكن سيأتي بعدي من هو أقوى مني وهو يعمدكم بالروح القدس والنار، يظهر لكم الكمال، ويمتعكم برتبة ذخيرة البنين، يلدكم من البدء لتدعوا الله أبانا الذي في السموات.

ومن أجل هذا اختير يوحنا ليكون مكملا ً الناموس وبادئا ً بالبشارة، لقد حلَّت فيه نبوة موسى، وقوة وروح إيليا الغيّور، ليكون قادرا ً على خدمة العهدين، فينهي العهد الواحد لترتاح النبوة، ويدعم العهد الثاني لتتنعم.

الروح القدس مربي يوحنا

إن الروح القدس صار مربيا ً ليوحنا، لا صوت بلا روح يغذّيه، حكمة الله يردد الصوت ليكون سفيرا ً للكلمة. أما بعدي فيأتي الرجل وكان قبلي، الكلمة قبل الصوت وبعده، أما قبل الصوت ففي نفس مرسلها، وبعد الصوت فبعقل قابلها، فالصوت يخرج من الفم ليبلغ الأذن ويتلاشى، ينقل الكلمة ويرسّخها بالسمع ويفارقها. فالصوت لا يخرج من النفس، وكذلك يوحنا لم ينزل من السماء، أما الصوت فهو الكلمة، التي ينقلها الريح، فيرن ليسمع كما يوضح جمال الكلمة، فيحلها بحركته في سمع من ينصتون ويصغون.

الصوت الصارخ في البرية

لقد خرج يوحنا كصوت صارخ في البرية، وكان يدعو الجمهور بقوة الروح ليمسكوا عن الحليب، ويقبلوا القوت الصحيح المانح متقبليه قوة وقامة كاملة.

كان يوحنا إذا ً يقف عند حدود العهد القديم ويبشرهم عجبا ً على جمال العهد الجديد الأخَّاذ، وكان نشيطا ً في تسليم الخدمة الظلية، ويكرز هوذا قد دنا الجسم العظيم ليتراءى ممسكا ً عقب الليل ليبرهن أيا ً هو رأس النهار، ظهر في البرية مثل كوكب الفجر ليعلن عن قرب شروق الشمس.

اشتاقت العروس للعراب الحقيقي، وحسبت أنه هو العريس المعزي نظرا ً إلى جمالاته الروحانية، وهو المؤمن الكبير نديم الختن، يحرس العروس بعفة، وكان يبشرها بالحق بأنني لست أنا المسيح، بل أنا رسول أمامه، وعندما سألته من أنت؟ اعترف ولم ينكر، وقال للجموع علانية: أنا هو الصوت ليدركوا من حركة الصوت خروج الكلمة، فالصوت إذن هو الشاهد للكلمة، وسفيرها وواعظها ورسولها.

الذي جاء من فوق

ومن أجل هذا عندما سئل يوحنا من أنت؟ اعترف بأنه صوت صارخ للكلمة. المنتظر بشوق من الجموع. ذلك الذي يملك العروس حقا ً، وليربط العروس بجمال العريس ويلهبها بحبه، ويضرم بها محبته، وبنقيها باتّباعه، ويثبتها بعهده بنشاط. كان يسكب بمسامعها عظمة ربها وتواضعه وعندما ظننته كبيرا ً كشف لها كم هو بسيط، لتعرف عظمة سيده بضعته، لأنني لست مستحقا ً أن أحل سيور حذائه، فقد شاء أن يبرهن للعروس سمو هيئة الختن وهو يعلمها قائلا ً: إن حذاء خطّيبك أرفع من رأسي. وإذا بسطت يدي لا أبلغ سيوره، ولئن كنت عاليا ً فلا أستحق أن أقبّل أقدامه. إن جمال قامته من رأسي فما فوق، هكذا هو أرفع مني كارتفاع العلى من العمق، وكالسماء من الأرض وكالكلمة من الصوت، وكالروح من النبي، وكالإله من الإنسان، فالذي جاء من فوق هو فوق الكل، والذي من الأرض هو أرضي، فذاك عال ٍ وأنا منخفض، ذاك عظيم وأنا ذليل، ذاك هو الجسد وأنا الظل، ذاك من الآب وأنا من زكريا، ذاك من العذراء وأنا من المتزوجة، ذاك إله جبار العوالم وأنا عشب الحقل نبت اليوم إنسانا ً.

هذا هو حمل الله

من هذه الألفاظ المضرمة بالمحبة، كان يُنعش الختن العروس بحبه، حيث خطبها يوحنا من الماء، وعندما سمعت صدقت وأحبت، وكانت تشتاق إلى رؤية الختن يوما ً بعد يوم. كان يخفي ربنا نفسه لئلا يعرفه العالم، إلى أن كشف يوحنا معه الآب والروح القدس أيضا ً، وعندما اتكأ مع الشعب ولم يعرفوا من هو، وكان يكرز به في الأردن كل يوم، ولم يعرفه العبرانيون، وهو الشهير في الجموع، وأين ومن هو ولا يدرون، عندئذ جاء العريس المسيح إلى يوحنا الخاطب، إلى المياه التي أعدت للعروس ليعتمد فيها.

ولما رأى يوحنا يسوع، اضطرب متعجبا ً، وأشار بأصبعه للجموع قائلا ً: هوذا حمل الله بدل حمل موسى، هوذا حامل خطيئة العالم بدلا ً من ذبائح اللاويين، وكنت أبشّر في هذا كل يوم: إنه يأتي بعدي من كان قبلي، لأنه أقدم مني، هوذا حمل الله، وقد صوّره موسى بالخروف وطهَّر بدمه خطايا العبرانيين.

الغافر لا يحتاج إلى مياه الغفران

لقد اقترب ربنا من يوحنا ليعتمد، وأحجم المعمدان برعشة قائلا ً له: سيدي، إنني محتاج أن اعتمد منك، وكيف تريد أنت أن تعتمد مني.

لا تحمل النار بلا ممسك لا يسع الأردن بحرا ً يعتمد فيه، لا يليق بالغافر أن يدنو من مياه الغفران كمستغفر. ولا بالطاهر أن يطلب التطهير، ولا لمانح القدس للأحبار أن يأتي للعماد مع الذين يطلبون الأقداس.

جئت للميلاد وأتيتي للعماد

قال له ربنا، دع الآن، ولا تمنعني أن اعتمد بالأردن، فلم تمنعني من أن أحل بالبتول شئت وجئت للميلاد، وحسن لي وأتيت للعماد، فالبطن أصغر من النهر، والرحم أضيق من عبر الأردن، فحملني البطن لأن الآب ارتضى، والآن لأنه حسن لديه يكفيني النهر، ولدت من امرأة من أجل خلاص العالم، لا تحدني عن الطريق المرسومة لي ولا أميل حتى أكمل الخلاص، ولجت من الباب الشرعي إلى حظيرة الغنم، وهكذا ينبغي لي أن أكمل عدالة الناموس الموسوي بحذافيره، ثم ابدأ بالظهور في العالم. فكمال بيت ملكيصادق الحبر الأعظم رمز أسراري أن أتمم البر، ثم اكشف الكمال، واختم خدمة الناموس، وعندئذ ابدأ في طريق الصليب، دع الآن ولا تناد بعظمتي فإنه زمن ضعفي.

ما أجمل العريس الغني الذي قبل أن يستحم بالمياه التي مزجت للعروس المتواضعة، كان يجب على العراب الحقيقي أن يبين أمام العروس بأنه هو المحتاج والناقص والمتوسل بأن يسدّ العريس مرسله احتياجه من غناء الكامل.

عرف المسيح وعرّف به

عرف العالم ربنا بأنه المسيح من شهادة يوحنا، ومن أجل هذا يسمى عماده ظهورا ً، لأنه اشتهر وتجلى في اليوم الذي أتى به للعماد، وذاع خبره وتناقله هذا وذاك قائلين: ذاك الذي كتب عنه موسى والأنبياء وجدناه أنه يسوع ابن يوسف من الناصرة، مدينة الجليل.

فقبل أن يأتي للعماد انطلقت الكلمة وهي تحسّ بأن المولود هو المسيح، فمن بشارة المجوس، إلى قصة النجم، من ذلك الحوار الذي جرى بين الملائكة والرعاة، إلى ذاك الحاقد أيضا ً ضابط السلطان، أن يقتل الأطفال غيرة. من هذه ومن أمثالها، شعر الكل بميلاد المسيح الذي منذ البدء لم يفسح المجال أن يعرفه الشعب من هو وأين هو الحسد القاتل.

إنه معكم وأنتم لا تعرفونه

ظهر يوحنا في البرية ممتلئا ً بكل الحسنات، ومزَّينا ً بالفضائل الروحانية الرفيعة عن العادة، حيث المقتنى محتقر لديه، ومحبة العالم مرذولة منه وبعيدة عنه، وهاربة وخارجة من لدنه، الهمة مفسدة للنفس، ويحتقر ببطء الشراهة، ويربط ويقيّد ويخنق محبة المال، ويومض به العفاف، ويرتسم عليه الطهر، وتضطرم بشخصه البتولية، ويعانق بشغف ملء القداسة، ولا عيب في جماله ولا علة شك بتصرفه، وقد بشر به الكثيرون بأنه المسيح، حتى لجَّ الكهنة واللاويون بالطلب ليتعلموا منه أن كان هو بالذات ذاك الذي نودي به أن يأتي، أما هو فانتهرهم قائلا ً: إنني لست أنا، بل القائم بينكم ويتردد في مجتمعاتكم، وإنه معكم وأنتم لا تعرفونه.

الآتي هو المخلص

ومن كلمات يوحنا التي أضيفت على هذه الأسباب والتي تمت قبل الزمان في خبر المسيح، فتحقق كل شعب العبرانيين أن الآتي هو المخلص، ولا يعرف ذاك أي إنسان ما عدا يوحنا، ولأجل هذا خرجت أورشليم وكل اليهودية إلى الكاروز المتلألئ بالمحاسن. لا ليعتمدوا فقط، ولكن ليسألوه أين هو المسيح، إذا أنت لست هو مثلما ظن الكثيرون.

هو يعمدكم بالروح القدس والنار

ولما كان كل امرئ مضطرا ً بهذا البحث أن يوجد، أتى الرب إلى يوحنا مع الجمهور وهم لا يعرفونه، وعندما رأى العبد سيده قال: هذا هو الذي قلت لكم عنه، هو يعمدكم بالروح القدس والنار، وفجأة انتشر خبر ربنا معروفا ً من شهادة يوحنا، ولأجل هذا سُمّي عماده ظهورا ً وإذ كان البحث عنه فوجدوه، كان يقول الأخ لأخيه لقد وجدنا المسيح أيضا ً.

تواضع فارتفع

أما يوحنا إذ كان يردد يوميا ً: إنني لا أستحق أن أحلّ سير حذائه، لم يشأ أن يضع يده على رأسه كما يستحق بصمت. ولكن لما رآه يسألونه كضعيف، وحتى لا تنقص ربوبية سيده ولا تتغير كلمته. لأنه قال إنني غير مستحق، كان يسأل ألا يعمّد.

وعندما سمع من ربنا، أن يتم العمل الذي أراده الرب، دنا ليكمل الأمر، وليس كمن يستحق وينكر أنه قال لست مستحقا ً بل كمن يؤمر ويسمع له، وليبين أيضا ً أن الطاعة أسمى من البرارة.

إن كلمات الرب ملؤها النور، وتظهر حقيقتها بالعمل، فقد قيل: أن كل من يضع نفسه يرتفع. وقد ظهرت هذه في يوحنا بجلاء، تواضع عندما كرز أنه غير مستحق لحذاء العريس وهكذا ارتفع حتى وضع يده على رأسه.

خفض يمينه لتمسك الأحذية، فحملته النعمة ووضعته على الرأس، فلو كان محلا ً أدنى من الحذاء كان يهبط بإرادته أيضا ً، ولو كان أعلى من الرأس، مرتفعا ً كان يصعد بالتدبير أيضا ً، فلا محل أدنى من الحذاء، ولا مكان أرفع من الرأس، فنزل ما استطاع نزولا ً وصعد إلى حيث لا علو ليصعد، نزل وجس عمق المسيح، وصعد ورأى سمه مسك سيور حذائه غير مستحق، ووضع يديه على رأسه وهو مستحق، ولأجل هذا طأطأ نفسه وهو يكرز فارتفع بهذا القدر وهو يعمد.

فلو كان الاقتداء بالعلويين، لاقتدى الساروف بيوحنا الذي بلغ عظمة ما بعدها عظمة. ذاك بمقبض النار خفيا ً كان يحرك السر، وحيث أنه كان طلق الوجه يمسك الجمرة بإصبعه.

رأتك المياه فتراجعت

أيها التواضع إلى أين ارتفعت، يا للطين اليابس المتشقق الضعيف الذي أمسك الرب ولم يتلاش، نتيه عجبا ً ونقول: من حيث أن العماد بالمياه فالنار ملتحفة بالجسد نازله لتستحم بالأردن، أيتها الشعلة السنية التي تبهر بشعاعها الساروفيم الذين لا يتجاسرون أن ينظروا إليها.

نزل الرب إلى الأردن، وارتعش طبع المياه كله بفرح، فقد حلّ فيه مقدّس الينابيع، وانشد بهذه المسيرة داود النبي المرنم الروحاني بمزموره قائلا ً: رأتك المياه وتراجعت، وكذلك ارتجت الأعماق وشعرت بنزولك، ورشت السحب المياه. لتشترك هي أيضا ً بعمادك أي أن كل عنصر المياه العلوية والسفلية ازدحم ليتبارك من عمادك.

ظهور الثالوث الأقدس أثناء العماد

وصرخ الآب بصوته من سماء السموات ليشهد عليك، بأنك أنت هو الوحيد ولا سواك، ظهر الثالوث على الأردن بظهور الابن، وقبل يوحنا ثلاثيا ً ذلك السر الذي كان مخفيا عن العوالم والدهور. وشعر بالأقانيم الثلاثة، حيث وعد أن يكون أيضا ً شاهدا ً للثلاثة. مع الآب والروح على الابن، ظهر الثالوث هناك بالحواس الثلاثة، الآب بالصوت، والابن باللمس، والروح بالنظر، كان الآب يتكلم، والابن كان يعتمد، وكان الروح ظاهرا ً، كان يقف يوحنا ويسمع بأذنيه ويقبض بيديه ويرى بعينيه. كان يملأ الآب سمعه، والابن لمسه والروح أبصره. كنت تسمع وتلمس إلها ً واحدا ً في ثلاثة أقانيم، معروفة ومذاعة ومسجودة لها، لا آب غيره إلا الذي رنّ صوته في سمع يوحنا على النهر، وليس ابن سواه إلا الذي أمسكه يوحنا واحسّ به، ولا روح آخر سوى ذاك الذي نزل مثل حمامة أمام ناظري يوحنا، ففي أذنيه ويديه وعينيه، سمع ولمس ورأى الآب والابن والروح. فلو كان آخر من اعتمد، كان على عبده أن يعلنه مثل الآب والروح، فالآب لكونه شاهدا ً لوحيده أسمع صوته قائلا ً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. وليعلن الروح أيضا ً الحق مع الآب، نزل شبه حمامة ليؤكد بحلوله ما قاله الآب بالصوت، أما الابن الذي اعتمد ولا آخر سواه البتة عرف أنه هو الوحيد وذلك من شهادة الآب والروح.

 

 

 

 

الجهاد الروحي في الصوم الكبير

محبة الصوم

ما أجمل الحديث عن الصوم، إذ وجدت محبة الصوم آذانا ً صاغية، فلنتناول الكلام الذي سنقوله بمحبة. أما البرهان على محبة الصوم فهو: عندما تستقر المحبة في نفس السامعين يتوقعون لتكميلها بالأفعال، هذه التي ترنّ بالصوت كلاما ً الآن، فما أعظم وما أرفع أن يصوم المرء من أن يتكلم عن الصوم بإسهاب.

فالقول والفعل كلاهما يتمان بحب مسترسل، فإذا وصلت إليه النفس لتتكلم بما عندها، وبه تفعل ما تفعل، فالحب هو الأساس، تقوم عليه كل الفضائل، ويكون مسبوقا ً للقول والفعل بالنفس ضرورة، فإذا كان الحب لا يستفز المتكلم بالكلام، فباطلة كلمته، وبلا أجر وتعب، وإن كانت مرتدية جمالا ً. وإذا لم يحث الحب النفس على الأعمال، فالباطلة أجمل من عملها. وفعلها بدون أجر، وتعبها باطل كمن يصارع الهواء.

أكل فسقط وصام وقام

فليُحَب الصوم ثم يوصف خبره، فلتهيم به النفس ثم تهدس في محمله فهو موضوع كدواء أول، ليضمد الجرح الأول، فالسقوط في الأكل، والقيام في الصوم، فالوصية الأولى هي أن لا تأكل، وذلك الذي لم يطعها وأكل داهمه الموت، وحيث أن الأكل غلبه، خاب وزل وسقط ووجب أن يفي دينه بالصوم، ويصلح هفوته، وينهض من سقطته.

عندما أراد الرب يسوع المسيح آدم السماوي أن يبرئ جرح آدم الأرضي، ابتدأ ممارسا ً الصوم، الأمر الذي لم يفعله آدم فسقط، فلو عمله لم يكن ليسقط أبدا ً، لقد تجدد عصر آدم بتجربة ربنا. وكمن يقبض خواصر عدوه ويحاربه، لذا قاتل الاركون بالصوم، فوهن المغرور في النهاية بالعلة الأولى التي انتصر بها، فشمر ربنا للجهاد لا لينتصر عليه بل ليبرهن كيف كان يجب أن ينتصر آدم.

وعندما قاتله القائد الشرير، فلم يبتدئ في الغلبة عليه بشيء إلا بخبر الطعام، معثرة أقدام الجبابرة ليهووا من علياء ذخيرة البنين، رآه واقفا ً في مسلك قوي وخبير وطاهر، يحتقر الشهوات ولا يهتم بالأكل طارحا ً الشراهة كلها وراءه، وجيد وحن في عينه ما قيل أن لا تأكل. وهو يقف على المنبر العالي الذي سقط منه ذلك الآكل. وحمي غضب قاتل الناس، ودنا إليه عندما جاع بعد أربعين يوما ً، وبدأ يشوّش، لينزله إلى ذلك الدرك الرخو والضعيف والبطال. الذي انحدر إليه آدم عندما أكل وسقط. بعد أن قيل له: إن أكلت تموت. إن المحتال كان عارفا ً أن باب الخطيئة انفتح على الدهور بسبب الأكل. ولأجل هذا كان يقول للذي رآه قويا ً بالجهاد وممسكا ً بالصوم قائلا ً للحجارة أن تصير خبزا ً، حرَّض الصائم بالخبز، ليدخل الضعف بواسطة الطعام، لينتصر كالعادة على من يسمعه فيأكل بدون تمييز.

إن أكلت تموت

أما الرب فاحتفظ بالغلبة، كي لا يداهمها الغدَّار، وثبت صائما ً وهو جائع. ليعوض بتجربته ما كان مدينا ً به آدم ليحفظ عندما جرب ولم يحفظ، فمنع المقاتل الذي أراد إيقاع القوي والمتواضع في الرخاوة والكبرياء. إن ليس بالخبز والمياه يحيا الإنسان فقط بل بكل كلمة من الله. وبهذه القوة التي أفلتت من الأكل، ومن التواضع السامي عن العظمة تجرأ ذلك الممجد منحدرا ً وعانق السقوط، الذي كانت إرادته قد صنعته في رخاوة آل آدم. وجازى إثم تلك الشراهة في احتمال الزهد، وانتصر ذاك الذي قيل له ألا تأكل وأكل. بالصوم الطاهر للذي جرب أن يأكل ولم يشأ، وشفي الجرح الكبير نتيجة الدواء الماهر.

فبماذا إذن كان يجب أن تقهر الشراهة؟ أليس بالصوم إذا ً! أو أي سلاح يشهر ضد الرخاوة؟ أليس القوة! أكل آدم وسقط وقهر، نزل الرب فصام وأقامه وحيث أنه في ساعة واحدة عوقب وكبرت بلواه، صام أربعين يوما ً لتعاود الصحة.

معاني عدد الأربعين

أما بالنسبة لعدد الأربعين فوافر لدينا القول: وأظنكم تعيرونني سمعكم، فإننا نجد هذا العدد تمجده الكتب وتناغيه كثيرا ً. ويتشبث به العهد القديم، ويجلّه العهد الجديد أكثر من جميع الأرقام. ضربت الأرض أربعين يوما ً بقضيب الغمر الرهيب، وهي منبسطة أمام الديان العادل للجلد، يؤدبها بقسوة لأنها تجاسرت بظلم ضربت أربعين مرة حتى لا تضرب أيضا ً.

فذاك الذي يُجلد أربعين جلدة تحرره الشريعة من الجلد مثل الأرض المحررة التي لم تعد ترى الطوفان أيضا ً، لأنها تعذبت بقسوة أربعين يوما ً بالينابيع والميازيب السفلية والعالية، وكان ديّانها رحيما ً ولهذا ضربها أربعين (يوما ً). وحتى لا يضربها أبدا ً، فإن نظام المذنبين في الناموس ينص: أن يضرب حتى الأربعين. إن حكام بولس غير الرحومين، كلما كانوا يجلدونه، في المرات الخمس التي قاساها منهم كان يضرب أربعين جلدة إلا واحدة، حتى يضرب أيضا ً.

كانت الجلدات تعرج وتقف عند الأربعين، وتمنع العقاب من فاعلي الشرور، وهي الحدود التي يضرب المذنب أربعين ضربة فقط، لأجل كرامة سر العدد، فيحرر النفس من قصاص شرورها.

مكث نوح أربعين يوما ً عندما حطّ الفلك على جبل قردو، وعندئذ فتح الكوة وأرسل رسولا ً ليرى هل حلّ الأمن على الأرض، لتقبل ساكني رعب الطوفان.

هذا ما أقوله لك أيها الحبيب لتفهم مقدار شهرة العدد أربعين في الكتب المقدسة، فموسى كاتب الأسرار، هو الذي سطّر ذلك، ومدح هذا العدد ثلاثيا ً، وحددت به وحسبت سنوات حياته، أربعون في مصر، وأربعون في مديان، وأربعون في حوريب، صام الأربعين في جبل سينا، واستضاء وكمل، وعلّم الخليقة كيف وبمن تنال الشفاء، من الضربة التي لاقتها من الحية العدوة في الجنة.

شريعة الأربعين في الكتب المقدسة

أمر بالناموس أيضا ً. أن من تلد ولدا ً ذكرا ً، تغدو طاهرة في ختام الأربعين يوما ً، وتجلب قربانا ً للرب في باب قبة العهد، هكذا أيضا ً من تلد أنثى، تكون طاهرة بعد أربعين وأربعين يوما ً ونقدم قربانا ً. إذ بهذا عدد الأربعين مكثت بالطمث مرتين، ويعد أربعين يوما ً رجع الجواسيس من أرض الميعاد إلى موسى، وهم حاملون ثمارا ً شهية من وادي العنب.

حكم الفلسطيني أربعين يوما ً بالعزلة على محلة المختونين، وفي نهاية هذا العدد، نال داود نصرا ً وحرر العبرانيين من عبودية الظالمين إثر اندحار الفلسطيني الهائل الذي رسم له ضابط العالم ذلك السقوط، وبعد نهاية الأربعين لما جرّب أيضا ً ابن داود سقط كالبرق من السماء.

صام إيليا الفائق بالأنبياء أربعين يوما ً أيضا ً، وبعدئذ وصل إلى مغارة موسى، ليكمل مثل ابن عمرام أيضا ً في الوعي العظيم.

صنعت توبة نينوى مأثرة في أربعين يوما ً عندما حتم القضاء: من الآن وإلى الأربعين يوما ً تنقلب. اتكأ حزقيال أربعين يوما ً على جنبه، لما حمل إثم بني شعبه بناء على كلمة فم الرب.

أما ربنا سيد العتق والجدد، فليس لأنه سار في أعقاب هؤلاء صام الأربعين أيضا ً، بل لينظروا إليه ويتمثلوا به، ليحذوا هم حذوه. إن عين النبوَّة بصيرة، تنظر بما سيأتي كما فيما عبر، وحيث أن أعمال الرب كانت ظاهرة لأنبيائه قبل مجيئه إلى العالم، سبقوا فتنبأوا على سر صومه الأربعيني إذ يشتد سقوط الشيطان مثل البرق من السماء. ولهذه الأربعين لربنا هام ومدح وناغى الآباء العظام والأنبياء ناظروا الخفايا، ومن أجلهم اشتهر ورسم عدد الأربعين هذا المحبوب في الكتب المقدسة. من أولئك الذين استحقوا وحي الروح ليدركوا الأمور المستقبلة.

أما المسيح فقد نبَّه وأفهم بروحه المنسكبة فيهم ما هو عتيد أن يفعل، ولهذا اجتهدوا وصوّروا للخليقة الرموز العظيمة لأعماله المجيدة.

ويعلم الرب أن طبيعة الأربعين في حكمته الأزلية هي التي خلقت الطبيعة، وعندما أراد أن يكمل الذي جبله من الأربعة (العناصر) بالأربعين، رضي أن يرحض ويحرر وينقي العناصر جواهر الطبيعة، وأن يردها إلى جمالها الأول الذي لا عيب فيه الذي كان لها قبل الانحراف، وهو يعظم الطبيعة بالزهد ليعزلها ويخرج منها ما دخل فيها من الخارج بتوسط الحية، فتتعلم التأديب بمشورة المخدوعين والغرباء عن الله.

إن الرب يحدد إذا ً الصوم إذ يضعه كما بالميزان مقابل الطبيعة، ليعمل تطهيرا ً للأربعة بأربعين ويقدم ملء الغفران للذين تنجسوا بكسر الوصية، عندما يضاعف الرقم (أربعة) عشر مرات، إذ أن العدد العاشر هذا هو حلقة الأعداد، تثبت عليه وتبدأ به، لما يضاعف رباعا ً، فتصير واحدا ً.

فإذا ما قُتلت ودحرت بالصوم الشهوة الغريبة التي دخلت الجسد لتحله من نير الألفة مع الله، فحينئذ يؤدي بهم الفساد إلى الموت. هؤلاء الذين كانوا موثوقين لينطلقوا معا ً في طريق البر المؤدي إلى ميناء الخلود.

الالتزام بالصوم غلبة

أما الشيطان فنشر هذا عندما خدع وأغرى، وهو يحرض على الفساد بحسده تلك الصورة التي أقامتها الحكمة على الخليقة، فتنحل وتصير ترابا ً، تلك الصورة الناطقة التي صاغها الخالق بعد الانتهاء من أعماله، فامتلأ حسدا ً إذ ح=جبل آدم بحكمة، وبأية معرفة واسعة كوّنه، وكيف أن أربعة أضداد تآلفت، لتتقن صورة مختومة بالحكمة. واحتال ليدخل تلك الخطيئة التي فتحت بها ثغرة للموت فتنحل عن بعضها ولا تعد الحكمة ترى في الصورة المشوهة.

أما ربنا فكان يهتم طالبا ً أن يجد ما كان هالكا ً ونزل إلى حومة الجهاد، وعلم الطبيعة الصوم، ومنعها من الشراهة المبيدة، وأعلن لها كيف ينتصر ويقتل في الشهوة الغريبة، التي دخلتها لتفسد جمال خلقتها. وفي الصوم الأربعيني هذا تتآلف العناصر الأربعة وكأنها ربطت منذ الأزل، لتسرع حتى النهاية. وهي لا تقبل الحل بالرخاوة التي دخلت من كسر الوصية، ولا تتركها أن تنحدر من سموها السامق الذي يحفظ تلك اللفظة القائلة: لا تأكل وإلا تموت.

أي التزام كان على ربنا لو صنع الخبز من الحجارة كما قال له المتسلط الأثيم أن يعمل؟ أو كيف كان يغلب العدو لو اجترحت الأعجوبة التي تعلنه بوضوح؟ ما أقوى عدوّه! أو من سأل الشيطان أن تكون الحجارة خبزا ً؟ أم هو ربنا من سأله أن يعمل الشيء الذي كان باستطاعته أن يعمله؟

وإِن كان إدراك هذه الأمور خفيا ً عنا لسمو روحانيتها، فيجب علينا أن نعرف بوضوح أن الشيطان كان ينتهز الفرصة ليغلب، والرب لا يُغلب ويعطي الغلبة لعدوه الذي كان يحتمل، وهذا ما قاله الشيطان ليكون، فلو كان له الغلب، ولكن الرب لم يشأ أن يفعل ذلك، فلو فعل ذلك، كان يظن كمبدد الغلبة، إذا كنت ابن الله، فقل لتصر الحجارة خبزا ً، وكانت تطلب الاثنتان ليعرف الرب بأنه الابن، ويكون خبزا ً للصائم، ولأنه جاع أيضا ً، ابتعد الرب من كلتيهما لئلا يفعل برغبة ما كان ممكنا ً أن يحدث بعد زمن دون ألم.

صام وجاع ولكنه أشبع الألوف

وعندما جاع الرب لم يشأ أن يصنع خبزا ً، لئلا يبطل صومه بالتجربة، ولكيلا يعرف أنه ابن الله عنوة، وعندما جاع الآخرون في البرية ولم يكن المجرب قريبا ً منهم صنع خبزا ً وأشبع الألوف، وهو يستخدم الرحمة كمقيت للجياع، إذ ليس وهو يهتم لاجتراح المعجزة كمن يرغب في أن يظهر بعزّ ابن من هو؟ فلم يكن بعيدا ً من الرقم الذي قيل بهذه إذا كنت أنت ابن الله فقل: ليكن خبز؟ من تلك اللفظة الأولى، إذا تأكلون من الشجرة تصيرون كآلهة تعرفون الصالحات والشرور. أما الرب فلأنه سحق خداع المحتال فمن أين حملت الإشارة التي رذلها في احتمال صومه، وهو يعلن من الكتب، أنه يوجد حياة بلا خبز تلك التي لم يشأ آدم أن يبقى فيها لأنه أسرع للأكل الذي قدمه له المجرب دون وقته.

الصوم يعلم الصبر في التجربة

من الممكن إذن صوم ربنا أن يكون معلما ً للطبع أنه كيف يجب البقاء في الصبر، وإن صادفته التجربة، وما أجمله أن يمكث في التواضع من حيث أن العظمة في طبعه، وكان باستطاعته أن يحيا في مناجاة الله، كمن بخبزٍ مغذ ّ. تلك التي حدثت لشيوخ إسرائيل أيضا ً عندما دعوا في جبل سينا للغذاء بدون خبز، وظهر ومتّعهم الشراب بلا خمر، فقد كتب أنهم رأوا الله وأكلوا وشربوا وغدا واضحا ً وجليا أنه يوجد طعام وشراب بلا خبز وماء، فالصوم ذاته يغذّي النفس المتميزة التي كانت تنظر إلى الله، أفضل من مائدة الملك السخية بأنواع الأطعمة.

الانشراح لحديث الله

وهذا كان هدف صوم ربنا، لما انتقم من ذلك المضاد ليصنع خبزا ً، ولم يشأ وهو القادر وببرهان يدعمه الحق وذل الاركون قائلا ً: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلام الله، كان يجب على آدم أن ينشرح لحديث الله، أفضل من أكل الشجرة، وكانت بإمكان رؤياه أن تحييه خالدا ً، أكثر من الثمرة المغذية. ولأنه أكل ومات، أصوم لأحييه، أجدد عصره وأدفع دَينه، وأصنع بذاتي ما كان مدينا ً له أن يعمله ولم يفعل.

بماذا أكافئك يا رب؟

ولما رأى العدو، أن تلك الفتنة الأولى التي افتعلها مع رئيس جنسنا، انقلبت عليه صراعا ً، وكان يتحين الفرصة للهروب ولم يستطع، وعندما أقلقه الصراع صار يغيّره لينتصر ولم يفلح، وحدث سقوطه العظيم والسريع كالبرق من السماء.

وصنع الرب نصرا ً للطبيعة بدون غلبة أقنومه وأدّى دين أكله بصومه الأربعيني، لذا فإن آدم مدين أن يقول: بماذا أكافئ الرب فإن كل مكافآته عليّ، فإن مراحمه أفضل من حياتي، له التسبيح والبركات في كل أوان. آمين.

 

 

 

أحد الشعانين المجيد

الاقتراب من الله

لو لم تغشِ محبة العالم أنفسنا، لئلا ترى غنى تدبير المسيح، لكانت الكنوز العظيمة الدفينة بأخبار الكتب المقدسة تظهر لنا بوضوح، أن جمال العالم كدخان كثيف، انتصب أمام نفسنا وحجب نورها كي لا ترى الكنوز الخالدة جيدا ً تلك التي تطل من تعليم الحياة نورا ً وألقا ً.

فلو وقفت النفس عارية في رقة طبيعتها، وغير مرتدية محبة غريبة، يسهل عليها أن تنظر شاخصة وتطلب فتجد، وتسرع وتصل، فتأخذ ما تسأل، وتصنع ما تشاء، وتتكلم ما يفيد فيجب علينا إذن أن ندنو إلى كل شيء يماثله، ونلتقيه بماله، ونفرح به حسب فائدته، ونتكلمه بلغته، كما يعلمنا الكتاب أيضا ً أن نكون كلا ً للكل، لنستفيد من الكل، وأن نقترب من كتاب الله بفكر دنيوي ولا نعطي العالم محبة الله، بل نلتقي العالم برأي يشوبه الشك، كمن نعرفه كاذبا ً وغاشا ً وغير مغن، ونقترب من الله بنفس مليئة بالحق حيث يظهر لنا أنه وحده حقيقي فقط وكل إنسان كاذب.

كيف تقرأ الكتب المقدسة؟

لا نقرأ الكتب المملوءة تواضعا ً ونحن في كبرياء، إن لم تغص النفس بتواضع في أعماق التراب لا ترى جمال الكتاب، لأن جماله هناك حيث يظهر تواضعه، إن كتب الابن تعلمك أن تتواضع. أريدك ألا تقرأها وقد نفختك الكبرياء، ابن العلي ذاك الذي نزل من السماء وهو فوق الكل، دعي وضيعا ً ومرذولا ً من الناس، لأنه بالحقيقة كان متواضعا ً. وهو القائل لك، تعلم مني فإني وديع ومتواضع القلب.

تأمله وهو يجدد مملكة آل داود على جحش ذليل عريان يحتقره كل الركاب، كان يجلس ليدخل مدينة الملوك. وقد فقد الحصان من افريم، والمركبة من إسرائيل، وينطق بالسلام مع الشعوب، وترذل التيجان الأصيلة بتواضعه، هؤلاء الذين لم يستطيعوا بمركبات الذهب وبعربات مشدودة بالاندهاش أن يصنعوا خلاصا ً للعبيد.

رب الكاروبيم على ابن اتان

أما وقد شاهدت تواضع رب الملوك بالفعل، ورفعت ووضعت بساطك الزاهي على ظهر البغال الأصيلة العالي لتطل على أقرانك كإله من السحابة، خف أيها التلميذ واخفض كبرياءك عندما ترى معلمك في أية حالة من التواضع فإذا كان رب الكروبيم على ابن اتان دون فراش، فأنت كيف تسير بما يوافقك؟ كيف تستطيع القول بأنني لم أسلك لأنها أعظم مني.

انحدر وانزل من كبريائك يا تلميذ المسيح، ثم اهتف بتواضعه، ادخل وتمرغ بالتراب وعندئذ تقدر أن ترى رب المجد. تواضع إلى الذل والإهانة من أجلك لأنك ارتفعت فسقطتّ، فلم ينزله إثمه إلى الحضيض، ففي تواضعه يفي دين ذاته. فإذا كنت أنت صاحب الإثم ولم تندم فماذا أفادك الدائن الذي قبل عليه أن يكون مذنبا ً! ويعلمك الندم ولم يتعلم ها إن كتبه تفيض بتواضعه، وأفعاله مرتسمة بوداعته، ومذلته تنقلها البشارة، وبشاشته تنطلق بها أقواله، ونحن في كبرياء عنيف نلتقي أخباره متشامخين متعظمين.

وجاء وعد الآب بالابن

أيها المتكلم تواضع بحزنٍ، ثم ارفع صوتك ثائرا ً على انذهال تواضعه. تضع أنت أيها السامع أيضا ً، عندئذ أمل أذنك لخبر حنانه، وقد عظمت مملكة آل داود بربنا، وجاء وعد الآب بظهور حبيبه.

أعلن نفسه تاجا ً خالدا ً من عشيرة يهوذا، أن تقوم مملكة غير فاسدة من داود. لا تفسدها الدهور، ولا تسلّم العرش لآخرين، ولأجل هذا امتلأ داود عزاء ً عظيما ً بالروح القدس قائلا ً: إن كرسيك يا الله إلى أبد الآبدين. فلم تأخذ كرسيك من أحد ولم تسلمه لآخرين، ولم تأخذ العرش مثلي من شاول، لأعطيه إلى سليمان، بل أنت أنت هو، وسنوك لا تنتهي. لا سلطان أمامك ولا مَلك بعدك لأن لك الملك، لا يزول الملك من يهوذا حتى يأتي من له المملكة. فليس ملك له المملكة إِلا واحد، وهو ذلك الذي لم يتسلّم ولم يسلّم، وهو الملك منذ الأزل، الذي قال عنه يعقوب أبو الآباء الغني بالرؤى، إنها له، ولم يطلب منه أن يملك كالآخرين. بل إن مملكته هي وجوده، وعرشه ملك له إلى أبد الدهور.

يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد

إن هذا الملك الأزلي نزولا ً عند وعد أبيه، جاء مترأفا ً على مملكة آل داود، آخذا ً صورة عبد بأقنومه، من ذرية الملوك، لتثبت مملكة داود إلى الأبد. لأن له الملك، ولم يصله بالتسلسل ليملك. وله السلطان أن يقول: لم يكن قبلي ولا يصير بعدي. ونسمع منه وجوبا ً (أنا هو الأول وأنا هو الآخر)، وعليه ارتفع صوت الإرسالية مبشرة أن يسوع المسيح هو بالأمس واليوم وإلى الأبد.

مبارك الآتي باسم الرب

تعال وانظر وهو يدخل مدينة الملك بمركوب ذليل. وتدوي إزاءه التماجيد بألفاظ سامية، وتتبع العظائم تواضعه. وتطل تسابيحه من إهانته، ويطلع سلطانه من مذلته وحيثما بشر به بأنه إنسان اعتقد بأنه إله أيضا ً. ولما نراه متواضعا ً يشتهر بأنه سام هكذا هنا أيضا ً، مرذول مركوبه، وعزيز جانبه، كانوا يصرخون وراءه وأمامه، الشعانين في العلى، مبارك الآتي باسم الرب، سألت المملكة مالكها، أن تدخل المدينة بوقار لائق.

أطفال وشعانين

الثياب في الطريق، والمجد في طيات الهواء، الأغصان من النخيل، والشعانين من الأطفال أعطت الأشجار أفنانها والجموع أرديتها، والأطفال أصواتهم، والأفواه تماجيدها. وعجَّت طريق الملك، أغصانا ً وثيابا ً ومجدا ً، الشعانين في السماء والثياب على الأرض، تنطلق البركات والأهازيج من كل فم، يرفعون أصواتهم ويرمون ألبستهم، يفرشون ثيابهم، ويرتلون بأفواههم، أنكر الشيوخ التسبيح، وكافأ الأطفال بالبركات، رذل علماء الناموس رب الناموس، وكرّمه الأطفال الذين لم يقرأوا كتب موسى. أصوات ناعمة من أفواه سوية وبأفكار طاهرة لرب المجد، لم يكن حسد في الرضَّع ولا غضب وغيرة في الأحداث، وفّى التلاميذ السذج والأطفال البررة مجد الملك. العلماء والمحتالون ممتلئون غيظا ً، والودعاء يحيونه بمحبة.

نبوة زكريا

رفضت أفواه الشيوخ المجد، فأعدّ في فم الشباب والأطفال كما هو مكتوب، نبذه الشيوخ بالصمت، وهيأه الأطفال بالهتاف، أخمد الحسد الشيوخ، وأيقظ الحب الأطفال.

كان الملك متواضعا ً، ولكن مجده كان عاليا ً، كان مركوبه حقيرا ً ومرذولا ً، ودخوله المدينة باحتفال مهيب. نظر ليدخل أورشليم فأسرع النبي أمامه ليخرج العبرانيين لاستقبال ملكهم، كان زكريا يطوف أسواق صهيون كارزا ً: افرحي يا ابنة صهيون، واهتف يا إسرائيل… إن ملكك يأتيك راكبا ً على حمار، وعلى جحش ابن أتان، انظره كم هو متواضع واستقبله بمحبة. ابتهجي واخرجي من كل قلبك يا ابنة أورشليم، فإن الرب قد أزال عارك ورفع عقبك على رأس أعدائك.

البسي العزّ يا ذراع الرب

يعلن النبي: أما أورشليم فغافلة، قرع أبوابها بألحانه، وهي تغط في نوم عميق، رفع أشعيا صوته قائلا ً: استيقظي استيقظي والبسي العز يا ذراع الرب، أفزعها الأنبياء بكلامهم لتنهض من نومها، وتبتهج بملكها ولم تفعل، كانت العروس تضاجع الآخرين، ولهذا لفَّها خجل الاستيقاظ، يعمل الأنبياء على إيقاظها ولم تفعل وكان فكر العاهرة غارقا ً في سبات الأوثان العميق، ولهذا لم تستنر بالمحبة، وعندما عاودها الإحساس أن الختن قد جاء ليدخل الخدر كانت معانقة العجل مدنسها، وحاملة تابوت ملكوم، ومضطجعة مع كوكب زحل (كيوان) مقبّلة ً الصنم ذا الأربعة وجوه، كانت مهانة في أوثان يوربعام غارق في سبات الوثنية، ولم تشأ أن تستيقظ وتخرج للقاء العريس.

قومي استنيري

صرخ أشعيا: قومي استنيري فقد جاء نورك المسيح، وابنة راحيل مخبأة وجالسة في ظلام القذارة على أصنامها.

أيتها الشقية من أسكرت بشهوتك؟ لماذا تغتلمين مع أصنامك؟ لماذا عشاقك الفاسقون الدخلاء هم أحب إليك أكثر من الختن الملك؟ هوذا قد جاء من خطبك في سيناء، قومي وافرحي للقائه، هوذا الذي مدّ إليك خاتما ً من النار، يريد أن يعمل لك عرسا ً، اطرحي الوثن من حضنك، وانهضي وافرحي بوليمتك، فإن خطوبتك رضيها أبوه، لا تحجبي وجهك عن الوارث، إن مصاغ أوامره بين يديك، ومهر وصاياه في أذنيك وطوق حبريته على عنقك، لباس خدمته على جسدك، افتحي خدرك بهيام فإنه خطيب طفولتك من البرية.

دخول الملك المتواضع

لما دخل ربنا أورشليم استنفرت المدينة كلها كما هو مكتوب، فعلى من هاجت؟ اضطربت العروس العاهرة لأنها شعرت بمجيء الختن القدوس الذي طلب منها أن تظهر له الحق بيوم عرسها. استقرت صائغة الأصنام التي رأت وصول من يبيد الأوثان من الأرض نهائيا ً. نفرت عاشقة المسبوكات لأنه شوهد معرّي المصنوعات، شعرت صديقة الظلمات بالنور وتحركت من أمامه لأنها علمت بأنه سيفضح مكامن قذارتها واستنفرت كل المدينة، لأنهم كانوا يتساءلون من هو هذا؟

هلموا اسمعوا استهتار العاهرة، تعالوا ابكوا على هزيمة الصالبة، انهضوا يا عابري الطريق، واندهشوا بالعروس التي تسأل عن الختن، من هو هذا؟ أيتها اللعوب بهواها لماذا لم تعرفي من هو؟ هوذا الأنبياء ينادون أمامه كالهدير في أسواقك، ألم تتعرفي عليه من أصواتهم من هو؟ ألم تسألي عنه الآخرين؟ لو لم يكن من ذرية يهوذا، أليس لك الملك، إن كان غريبا ً من شعب يعقوب، أليس هو الكوكب الذي بدّد الأوثان بشروقه من قدامه كجبابرة موآب؟ لكن أتانه كانت مربوطة بالجفنة التي خرجت من مصر واقتيد ابن اتان لمركوبه من ذرية يهوذا. ألم يكتب عليه يعقوب في رؤياه، أن له ملك إسرائيل؟ بل متواضع وراكب على حمار، وعلى جحش ابن اتان كما علمكِ زكريا؟ لم تفتحي أبوابك له، أليس هو الملك المتواضع؟

هذا هو الوارث

أما الآن فيظهر لك أنه ذليل ومتواضع البشر، كما يتنبأ عنه أشعيا، حُلّ الأتان وجاء كمركوبه من الجماعة التي خرجت من مصر. وهي الجفنة بالذات التي رُبط بها ابن الاتان في عهود يعقوب، حقير وذليل مركوبه كما قال زكريا، فلمن السؤال بعد هذه الحقائق؟ كأنك لم تسمعي خبره أبدا ً، فتبحثين عنه جاهلة من هو هذا؟

إن سؤال العروس باطل، ارادت أن تعطي للختن كتاب الطلاق وتهجر فتابعته، ولهذا انكرت معرفته، والآن تتساءل من هو هذا؟ وكانت تدري من هو؟ وتسأله وهي مقيدة وتعلم من مثل الكرمة بوضوح، لما رأى العمال الابن، قالوا هذا هو الوارث، وحيث عرفوا أنه هو هذا، فلمن كانت تلك المقولة من هو هذا؟

تجار الخطيئة

دخل الرب هيكل أبيه ووجده مملوءا ً بتجار الخطيئة، رأى الخدمة وقد توقفت، والقدس محتقرا ً والناموس مهانا ً، ولا فضيلة في قوم موسى، ولا عادات آل لاوي الحسنة، بل أن الهيكل انقلب إلى مبارزة، وامتلأ من الباعة عوضا ً عن المرتلين، ولصوصا ً بدلا ً من القديسين، ولا صلاة ترفع فيه، ولا طلبة تقدم، ولا عظيم الأحبار برتبته، ولا كهنة بدرجاتهم، ولا لاويين بخدمتهم، ولا شعب بزيه الحسن، بل الحبرية عاثرة والكهنوت مشوشا ً، وابن العفة مطرودا ً، والنهم ينتصب متغلغلا ً، والطمع يعمل بإرادته، والهيكل شبيه بمغارة لصوص. فلو كانت الجماعة تهتم في خدمة آل موسى، وتتأمل كتب الأنبياء روحيا ً، وتفعل إرادة الآب تماما ً، كانت ستقبل الابن عند مجيئه بفرح أيضا ً، ولكن عندما سقطت من رتبة المتحررات، مصطفة في صف الزانيات، فلهذا كانت تسأل أيضا ً من هو هذا؟

طوفان الخطيئة

لا زانية تهيم ببعلها، لأن لها رجالا ً! وليس رجل. لم تكن تنتظر الله خاطبها بل كانت تسجد للآلهة الباطلة، فلو كانت حريتها عليها، وكانت غير كاشفة وطارحة قداستها من تفكيرها، وكما خطبها موسى ومكثت بطهرها وهي تنتظر ظهور الوارث، وحالما سمعت بمجيئه على جحش ابن اتان كانت ستفرح وستبتهج، وتصرخ من صميم قلبها وتمجد وترفع صوتها مرنمة، وتثير الشعب برمته لإكرام الملك وتخرج مؤلفة الأجواق وناشرة الصفوف، وتُلبس رئيس الكهنة غفارات وتغطيه بقميص الحرير وتمسك بيده سفر زكريا، ويسير أمام الملك كداود قدام العجل، وهو يهدد بصوته ويُسمع الشعب كلام النبي، ويتلو من السفر أن ابتهجي يا ابنة صهيون ورنم يا إسرائيل، أتى الذي بشر به الأنبياء، ووصل الذي تنبأ عنه الناظرون، ذاك الذي أعطى يعقوب وزكريا عجائبه، هذا الذي يدخل مدينتنا بمركوب حقير.

غيرة بيتك أكلتني

وحيث أنها كانت سكرى بهيامها، وفاسد رأيها بأجرائها، وأدخلت الفائدة للهيكل، وطردت منه البهاء، فإنها لم تبتهج بالملك فقط بل اكتأبت من أنغام المرتلين أيضا ً.

دخل الختن فوجد خدره وقد استمال إلى سوق للصيارفة، أكلته غيرة بيت أبيه الذي أهين، والمقدس الذي احتقر، والهيكل الذي ديس، وصنع له سوطا ً من الجبال وبدأ يخرج أولئك الذين كانوا يشترون ويبيعون في بيت الصلاة، وتلا عظة النبي في توبيخ الكهنة الذي منذ عهد أبيه يبغي إكرام مقدسه. وليس من قوة غريبة، لأنه مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى، فلماذا ادخلتم عوضا ً عن الصلاة تجارة الإثم؟ فكان الأجدر به وهو يبكت الوقحين من أقوال الأنبياء الذين كانوا يماحكون كل يوم بأنه كان يناضل ضد الناموس، فرذلهم لأنهم لم يسمعوا إياه ولأجل هذا لم يستقبلوا، وأعلن لهم أنهم يرفضون آدوناي حقيقة، ولأجل هذا يحتقرون مسيحه أيضا ً. انَّبهم عندما استهزأوا به، وهو شامت وصابر كوالده، ولم يتشبه بأحد إلا لأبيه الذي أرسله، قال لكم أبي في النبي: إن بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص. فلم تسمعوا لأبي ولم يقبلوني، فإن من يقبلني، يقبل أبي الذي أرسلني.

توبيخ الكهنة وعلماء الناموس

استخف الرب بطمع المشترين والبائعين غير البعيد من سرقة اللصوص، فإن ما يريد السارق أن يحصل ويخطف ما ليس له، هكذا يريد البائع أيضا ً. فيطلب ثمنا ً باهظا ً ليقوى على صاحبه أيضا ً، هكذا أيضا ً من يشتري يتحين فرصة إن كان بسيطا ً، ويخطف البضاعة من بين يديه بنصف الثمن. وهو يدنّي الثمن ويغلط القسم، فيرتاح في الغدر كاللص في السرقة. ولأجل هذا طردهم من هيكله كاللصوص، وليس كمن يتحيّن الفرصة بعضهم بعضا ً ومن أجل هذه الأعمال كان يرذل الكهنة، ويبكت علماء الناموس وينحي باللائمة على مدنِّسي بيت المقدس، وكان يبرز حقيقة أقواله مبرهنا ً على ذلك من أنبياء أبيه.

حسد رؤساء الشعب هيأ المجد في فم الأطفال

وعندما رأى الوقحون غيرته الوقادة وتأنيبه الفاضح، وكلمته السامية وتعليمه المنير، وسمعوا ألحان الشعانين يؤديها الشباب، ويستفزّ الأطفال ضجيج المجد، أكلهم الحسد ليعرقلوا العمل الصالح، لم يكن يطيب لهم التمجيد الصادر من أفواه الأطفال، وكان يقول المرتلون: مبارك الآتي باسم الرب بينما الصالبون كانوا يكرهون الرب، ولأجل هذا، لم يرق لهم ذاك الآتي باسم الرب، لقد أتيت باسم أبي ولم تقبلوني، وإذا أتى آخر باسم نفسه فإنكم تقبلونه، لأن الابن مباركا ً، واسم أبيه ممجدا ً، حسده رؤساء الشعب أولئك الذين كانوا يبغضون الآب، ويحقدون على الابن، وارادوا اسكات صوت المرتلين الطيِّب، الذين يتباركون من الابن، ويحترمون اسم أبيه في مجيئه، ودنوا منه قائلين: ألا تسمع ما يقوله هؤلاء؟ قال لهم، إنني سامع، ألم تقرأوا النبوءات أبدا ً: من فم الأطفال والرضّع هيأت مجد الرب.

إن سكت هؤلاء فالحجارة تنطق

ما أجمله وهو يبين لهم أن طريق وحيه ممهدة للأنبياء، سالكا ً حسب الوعود التي رسمها أيوه، مسلّما ً إرادته لوالده الممجد. قالوا له: قل لهم أن يسكتوا. قال: إن سكت هؤلاء فالحجارة تنطق.

لم يعظم الرب كلمته هنا، ولم يشأ أن يتكلم ضد اليهود، بل كشف كعارف تلك التي كانت بالوجود. فلو سكت المرنمون بدخوله إلى أورشليم، فمن أجل الدخول كان يستوجب له المجد، ولم يتخيلَّ دون أن يمجده الناطقون أو الصامتون، ولأنه وجد له جمع الأطفال والتلاميذ الذين يدفعون للملك الجزية التي يستحقها جمال تواضعه، قبل المجد منهم، ولم يطلب من الطبائع الخرساء أن تسبحه، فإن جوق الأطفال ملأ مكان المرتلين كلهم.

الشعانين في الأعالي

أما أنا فسمعت هكذا: لو سكت هؤلاء فالحجارة كانت تنطق، ومثل ذاك يرن في مسمعي صوت نطق الحجارة، اسمعه كرعد عظيم، فلو لم يخطف الأطفال المجد بلجاجتهم لنطق المتكلمون لا الحجارة. أما بالنسبة إليّ فلا يلزمني برهان آخر مع كلام ربنا على حقيقة هؤلاء، بل صدقت كقوله، فلو سكت الأطفال فسوف تنطق الحجارة. أما بالنسبة إليك فلو احتجت إلى برهان فأسرع عند المصلوب حيت سكت المرتلون هناك وهرب التلاميذ، وكمّ المتكلمون أفواههم كي لا يتباركوا بالشعانين، وكيف أمرت العناصر الصامتة حالا ً أن تحلّ مكان المرتلين، ولأن الأطفال سكتوا نطقت الحجارة. وإذ هدأ صوت الشعانين، سمع صوت القبور وتشققت الصخور، وإذ لا أغصان تتدلى من علو الأشجار، فقد استلت أشعة الشمس من أعالي الرقيع، كي لا تتهادى الشمس اختيالا ً، لما رأت ربها عريانا ً.

هذه كلها عند الصليب من البرايا الصامتة، هي برهان لك أن طلبت حجة. فلو سكت الأطفال عن التسبيح فالحجارة تنطق بالمجد، كما قال الحق للكاذبين. إذن ونحن نمجد بالضرورة كي لا تأخذ الحجارة الصامتة مكاننا لدى الله، فننشد بلا هوادة. الشعانين في الأعالي، مبارك الآتي باسم الرب، المجد له والسجود لأبيه إلى أبد الآبدين. آمين.

 

 

 

 

المأساة الكبرى في الجمعة العظيمة

غاية العيد

باحتفالك بأعياد الرب دائما ً، تنتصب أمام نفسك غاية العيد، وينطلق من الغاية امتياز لتعطي ما يستحقه العيد من الاكرام، لا شيء يفيد النفس كتحريك الفطنة في عملها. أما الأعمال فكثيرة بفعل العادة، وليس بفعل الحكمة، أما أنت يا محب الفوائد الروحية، فلتحفزك الفطنة لا العادة في عملك.

المحاكمة الجائرة

تأمل بعين النفس النيّرة في هذا العيد اليوم، حيث يسهل عليها أن ترى الغيبيات كمن القرب، فمثل هذا اليوم كان يمثل ماضي القضاة كمذنب أمام القاضي ليدان. تعجّبي أيتها السموات في هؤلاء، وتحركي أيتها الأرض من مكانك، فالعشب يجلس على الكرسي، وتقف النار بالمحاكمة.

ويسأل الهشيم الضعيف، وتدخل الشعلة للسؤال، تعانق السلهبة العمود ويجلده القش بالسياط، يجلس بيلاطس ويقف ربنا.

دخل المحكمة فاحص الكل بحكمه، وصادفته خطايا العالم واقفة أمامه كطود شامخ كما هو مكتوب، ان الرب وضع عليه إثم جميعنا، كما وضع عليه خطايا آدم عندما دخل إلى المحكمة، فحملها ووضعها على رأسه، فمن يستطيع أن يحمل الثقيل عوضا ً عن الكثيرين، كان صك حواء يحمل العدالة، وتريد أن تثار وليس من وارث.

حامل خطايا العالم

سقط آدم رئيس جنسنا في هاوية الموتى، وظنَّ معه جميع بنيه من بعده أن الذنب كبير والعدل مهيب والنقمة جبارة، ولا مسعى قدم، أما المسيح فدخل وقبل الذنب ووضع الخطايا على نفسه، ليمحو الصك بشخصه قائلا ً: أنا هو الوارث، أنا من يدفع دية من أغرقت الجبابرة، وأعثرت الراكضين (المتسابقين) وكبَّلت الأقوياء، وخرَّبت كل العصور، وأصعدت عتبات أجيال العظام، ولم يستطع أنوش ونوح وملكيصادق وإبراهيم من الوقوف أمامها.

أخطأت حواء ودفع الثمن ابن العذراء

ماذا تطلب حواء ليقرأ صكها، أخطأت البتول ودفع الثمن ابن العذراء، لسعت الحية الصبية، وأعطت الصبية دواء لشفائها، وصل إليّ ارث الأنقاض وسأبني بيت آدم. وسأدفع كوارث، ولأجل هذا أرسلني الآب لأصير ابنا لآدم، لأنه رآه ألا وارث له، وليس باستطاعته أن يدفع دينه، ويعمّر خرائبه، لا أدع مثالنا أن يفسد في الهاوية، ولا أترك صورتنا يمرّغها جبابرة الهلاك في الوحل، أنا هو الوارث وسأدفع كل دين آدم بذاتي.

صك الخطيئة = الموت

تُلي صك آدم، ووجد أنه مستحق الموت، لأنه أكل من شجرة المعرفة، وكانت تتردد على مسامعه تلك اللفظة القائلة: إنك تراب وإلى التراب تعود. وحيث أذنب آدم هكذا خطيئته عظيمة. أهان ربه وسمع رأي امرأته، مدَّ يده للثمرة، ووضع رجله في الفخ، وثلم سياج الشريعة، وكسر نير الوصية، وعمق وحفر القبر، وفتح باب الموت ليدخل ويفسد الخليقة.

فأي تأديب كان يستحق من فعل هذا؟ إنه يستحق الهوان بشخصه، والجلد بجسده والسياط بظهره، والصليب لقامته، والمسامير في يديه، والقيود برجليه، اكليل الشوك على رأسه، والبصاق في وجهه، والخل والمرارة في فمه، يُطعن بالحربة، ويُطرح في الهوة.

آلام المسيح حررت الإنسان

قال ربنا، إنني أتحمَّل هذه كلها، حتى أصنع له تحريرا ً من كل هذه، احتمل آلامه، واصبر على أوجاعه، واحمل ضرباته، وارفع لعنته بصليبي، اخضد شوكه بإكليلي، واجتاز سقطاته بتعييري، أحل قيوده بمساميري، اسلّم جسدي للضربات، وخدّي للناتفين، ولا أرد وجهي من خجل البصاق، أجرع الخل وأغوص في بحيرة الأموات وأطلب وأجد هناك ما كان ضالا ً من أبي في الجنة بخداع الحية العدو، وارفع وأصعد المثال المحبوب من قعر الهوة الذي أطال في السقوط منذ ستة آلاف سنة ولمَّا يصعد.

أعداء الحق

قبل ربنا عليه دين الأجناس، وحمل خطايا الكثيرين، ودخل واقفا ً أمام بيلاطس الحاكم، أما اليهود الصالبون أعداء النور وباغضو النهار العظيم فلم يفهموا بعماهم أن البار كان قد دين عوضا ً عن الأثمة. ولم يلحق به عمل الأشرار، وبدأ مثير شكوى الإثم يلعنون فاعل الخيرات بألفاظ بذيئة، فغروا أفواههم بالهزء، وبسطوا ألسنتهم بالإهانة، قذفوا المرائر من قلوبهم، ورمت شفاههم عكر التنين.

شر الصالبين

وزع الشيطان العبيد ممسكا ً بهم، ليجتهد كل منهم بالشر كخبير، استعد من جانبه وأعطى الحسد للكتبة. والغيرة للشيوخ، والعار للفريسيين، واللعنات للصدوقين، مزج الغضب لقيافا، والسخط لحنان، والحيلة ليهوذا، والبغضة لهيرودس، ومحبة السلطة لبيلاطس، ووقف الطاهر في الوسط كحمل وديع في وكر الذئاب الخاطفة، ويجدّ كل واحد منهم كخبير بالعمل الذي سلّمه لهم أبوهم ابليس. واحد يقذف العار والآخر يكيل اللعنات، قبّله صديقه وخدعه، وهناك من كان يبصق عليه وهناك من كان يضربه بالقصبة وآخر كان يطعنه بالحربة، وآخر يحمل السياط، ذاك يجلب الخل وهذا يعدّ المرارة، ويضفر الخبيث الإكليل، ويركِّب الحقود خشبة الصليب.

التهم الثلاث

وقد اعدّوا وبأشكال مختلفة شرا ً واحدا ً، كانوا يريدون شهود زور أيضا ً ليفتروا على ربنا فلم يجدوا، وللجماعة-أخت ايزابيل-شهود أبناء الإثم مهما طلبت، وكما تطلب وأينما وحيثما تريد هكذا هم أبناء المعصية، فلماذا لم يجدوا الشهود؟ عندما شاءت أن تشتكي إِفكا ً وزورا ً على البار، ومن أجل من سمع. أما الأسباب التي كان الشعب يشتكي بها على ربنا فهذه هي أنه يحلّ السبت، أو أنه يقول عن نفسه أنه ابن الله، أو يعد ببناء الهيكل بثلاث أيام.

حلّ السبت

ولما جلبوا الشهود، بدأوا يتعلمون منهم كيف يشعرون ليشهدوا على اتهامه قائلين: إننا نشهد بأنه حلّ السبت مرات عديدة، قيل لهم كيف؟ يقول الواشون، جبل طينا ً في أحد السبوت وطلى به عيني الأعمى فأبصر، وفي سبت آخر أيضا ً، دعا من كانت يده يابسة وأبرأها أمام أعين الجموع الغفيرة، وفي سبت آخر أيضا ً، أطلق من كانت معذَّبة بمرض محدقا ً به رئيس المجمع. وفي وسعنا أن نبرهن مثل هذه أمورا ً كثيرة، إذا تأنى الحاكم وسمعنا بإسهاب.

إنه ابن الله

يقول الكهنة: ليس من الضرورة دخول هؤلاء الشهود، وليس عندما يدّعون ما هو ضده يكونون بدلا ً منه. كان يجب أن يقال، لولا اختلاط الأمر بين أنه فتَّح الأعمى مع جبل الطين. أما الآن والأعجوبة مرتبطة بلومه فيبطل الأمران، وليس بسبب الآية الصغرى يسمع الحاكم الأعجوبة الكبرى فلربما لم يسمعها، فلنجلب الشهود وندخل قائلين: يبصّر العميان فنُذهل الحاكم، فينظر عدونا كمن بأمر خطير، ولأجل هذا فقد كتب: إنهم طلبوا شهود زور على ربنا ولم يجدوا، لم يجدوا شهودا ً كما شاؤوا، لأن كل من قدم ليشي كان يروي أخبار الانتصارات والقوات التي صنعها ربنا، وهو يريد أن يريد أن يبرهن أنه حلَّ السبت بأعماله.

وعندما على الحق بداخلهم، وتأججت البغضة بهم، والتهبت أنفسهم بمحبة القتل، اتقدوا سخطا ً ليسفكوا الدم الطاهر، فتشوا عن السبب فوجدوه في دهاء الحية الأولى، وتآمروا بمكر قائلين هكذا: نطرح عليه أردية المقدس، لأنه كتب بالناموس، من يدنو من ميناء المقدس يُقتل قتلا ً، ويستوجب الموت من جراء هذه العلة، حتى ولو أراد الحاكم أن يطلقه، ويتحين الفرصة لينجّيه من الموت.

وعندما فرحوا بسفك الدم هذا، الذي هو أحد أعماق التنين، جلب الكهنة منديل المقدس وصنعوا قميص الأرجوان وألبسوا ربنا هزءا ً، وارتاحت نفسهم المحبة للقتل، إذ قد رأوا كما في الشريعة أملا ً لهم في التفسير صارخين، أنه مستوجب الموت، وتعرف أن الأمر كذلك من أسئلة الحاكم ومن صرخة الشعب.

يبني الهيكل بثلاثة أيام

ولما مثل أمام بيلاطس، وكان يسأل قائلا ً: أي شر صنع؟ وكانوا يصرخون جميعهم قائلين: أنه مستوجب الموت، وليس الشرور التي أرادوا أن يظهروها برهنوا عليها، ولكن إنه مستوجب الموت كانوا يصرخون بكل ما أوتوا من قوة في نفوسهم، وهم يستندون على وجود الإثم الذي أوجده كهنتهم المضلون، وكلما كانوا ينظرون الرب وهو لابس لباس القدس، كانوا مستندين على ما جاء في الشريعة أنه يستوجب القتل، ولا شيء آخر يقولون سوى أنه مستوجب الموت. وكانوا يعلمون بمن يصرخون، أمام الحاكم فخفي عنه ذلك، لأن سر مكرهم كان مخبأ في سويداء قلبهم، وكانت ألفاظ الإثم تستفز مسامع الحاكم الذي كان يسأل أمرا ً وكان الصالبون يصرخون شيئا ً آخر، كان يسأل أن يبرهنوا له عن أعمال الذي أسلموه، وما هي لتدينه حسب أعماله، أما هم فكانوا يقولون إنه مستوجب الموت فقط، لقد عبر صراخهم حدّ الفريضة، وكانوا يقولون ما ليس هو لهم، أنه كان مستوجبا ً الموت أو غير مستحق الموت، كان على الحاكم أن يفحص وليس الذين شكوا ذاك الذي قد دين.

أسكرهم الحسد، ولأجل هذا فإنه من الواجب أن صراخهم وكلامهم كان مؤذيا ً، يليق برب المقدس وهو متشح مناديل القدس، ففي أية علة وفي العيد الكبير، صنعت الثياب للوارث من كروم أبيه، كان الكهنة يعرون المذبح ويلبسون ربنا، لقد جاء زمان خراب قرية المقدس، ولهذا أعطيت أوعية رب القدس، ليبقى البيت خرابا ً.

انتزاع الكهنوت الموسوي

أما عظيم الكهنة فكان يحلّف ربنا قائلا ً: اقسم عليك بالله الحي أن نقول لنا إن كنت أنت المسيح، ولما أجاب الرب بالحقيقة، هاج ومزّق ثيابه، كان الكهنوت سجين ذلك الدنس وعندما رأى القدوس شق الكهنوت، وغادر ملتجئا ً بربه.

أما أنا فأؤكد هذا، فلو لم يشق عظيم الأحبار رداءه في تلك الساعة، كان سيتمزَّق من نفسه، دون أن يدنو منه، فانتزع الكهنوت من لاوي، ليقوم الحبر بدلا ً منه على مثال ملكيصادق، وإذ مزَّق الكاهن ثوبه، فقد تمزقت وانتقلت حبريتهم.

 هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ً

وهكذا كانت هذه، ويشهد لي أن حجاب الهيكل انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل فلو مزق الكاهن رداءه بيده، فإن حجاب الهيكل بأية أيدٍ تمزّق؟ أليس بالروح القدس؟ الذي تركهم وخرج، هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ً، هرب الكهنوت، وانتزعت الحبرية، وانتقلت المسحة، واستراحت قرية المقدس في الفساد.

تأمل فتجد، المذبح معرّى، وحلّة الكاهن ممزقة، وحجاب الهيكل شق إلى اثنين، رب الهيكل حاملا ً أوعية خدمته التي رمتها العبرية الخاطبة، التي عندما تريد أن تفسخ خطبتها، ترمي له أغراضه. هكذا المجمع أيضا ً، فإنه قد تشتت فكره من القدوس، فإن كل الخدمة والحبرية التي أعطاه، طرحها وألبسه منديل الذبح.

قميص الأرجوان رمز إلى الجلدات والدم

يقول أحد الإنجيليين: ألبسوا ربنا قميص الحرير، وأما الآخر فيقول، قميص الارجوان، وإن كلمات الرسل لا تناقض بعضها بعضا ً، بل تدعم بعضها بعضا ً، بل تدعم بعضها بعضا ً. واحد يقول: إن أوعية الخدمة هي من خيوط الحرير ونسيج الارجوان، وهذا ما ألبسه الكهنة ربنا، ولهذا قال أحد المؤرخين، أنه كان من لون واحد، وقال رفيقه أنه من لون آخر، لكي يظهر أن الواحد نسيجه والآخر لوحاته، ومن أجل هذا قال الإنجيلي، ألبسوه قميص الأرجوان، وقال آخر قميص الحرير إذ كان أيضا ً أرجوانا ً حريرا ً، فإن هذه الألوان تشير بمنظرها إلى الجلدات والدم أيضا ً إلى من يدرك أمور الطبيعة، وإنها ليست ببعيدة من الرموز الروحية.

أما تلك البدلة المخضبة بالدم المليئة بصور الآلام فقد سبق عرابو الهاوية وألبسوها للختن، أولئك الذين أرسلهم الموت ليدخلوا الحياة بين الأموات، ومن شدة غضبهم الذي كان متعطشا ً للقتل، أسرعوا مصورين بالأرجوان لون الجلدات وبالحرير لون الدم، ولما أهين اتشح الآلام بالاسم، وعندئذٍ قبلها بالفعل.

اكليل الشوك صورة لأوجاعه وموته

وكانوا قد ضفروا أيضا ً إكليلا ً من العوسج، ووضعوه على رأسه، وكانت ضرباته مرسومة بإكليله أيضا ً. لا تحصى أشواك إكليله، ولا تحسب نهاية ضرباته. فمن حزمة الأشواك إكليل واحد، أي من الآلام الكثيرة موت واحد، طافوا والتقطوا الأشواك، وتذكروا فجبلوا الآلام، واعطوا ربنا إكليلا ً من أشواكهم، وموتا ً من آلامهم.

يا للصناع الماهرين بالشرور، المكارين للفساد، المحتالين للضربات، الأغنياء بإيجاد القتل، الخبراء بالدم الثمين، يا محبي الشيطان وأبناء سر الموت، تأمروا وجدلوا الاكليل، ورسموا الموت بالتاج، ووضعوه على رأس الملك، فسبقوا وصوّروا هذه الرموز التي ستحدث له، قبل إدخاله للمحاكمة، وصوّروا جلدات البار بالأرجوان، ودمه بالحرير وأوجاعه بالأشواك، وموته بالإكليل، ونصبوا تمثال ضرباته قبل معاناته، ليرى موته بالصورة قبل أن يموت.

كانوا قد ركعوا على ركبهم أمامه وهم يستهزئون به قائلين: سلام لك يا ملك اليهود، إنني سمعت أنهم ركعوا على ركبهم، وأما أنهم يستهزئون به فهذه ميزتهم، فإنه مكتوب أن تجثو له كل ركبة مما في السماء وعلى الأرض. وسجد له الصالبون المستهزئون بإرادة شريرة. له السجود، ولهم الإرادة الشريرة، لأنه بالحقيقة هو ملك عالمه، لم يختف اسم المملكة ولم يحتقره أعداؤه، وكل مقومات المملكة اشتق لها اسما ً من أعدائه، القميص والإكليل، والسجود والسلام واسم الملك، وعندما كان أعداؤه يجثون أمامه على ركبهم ويعطونه السلام وينادونه يا ملك اليهود، كانوا يفعلون ذلك بسخرية، أما هو فقد نال ما كان له منهم.

انتزاع الملك أيضا ً

أي ملك قام في شعبهم منذ ذلك الإكليل وإلى الآن؟ أو أي كهنوت مكث عندهم منذ أن رموا منديل القدس على سيده. فكهنوت ومملكة اليهود انتزاعا ً منهم بثوب الاستهزاء وبإكليل الشوك، وأعطوا ذلك لمن له، وانتهوا فارغين.

ادخلوه فمثُل أمام الحاكم وكان كلهم يصرخون أن يصلب، أيها السقماء الحمقى يا من حسدتم الطبيب الذي حمل أوجاعكم، أيها المنكسرون يا من أبغضتم المجبّر الذي شفى كسوركم الكبيرة مجانا ً.

أطلق لنا بارابا

سألت ربيبة الشرور أن يطلق اللص، ويصلب ابن الخير الذي آساها. أجابها الحاكم من تريدين أن أعطيك، فكشفت خفاياها: أحب اليّ اللص أكثر من طبيب المرضى، فقال الحاكم: من تريدون أن أطلق لكم بارابا أم يسوع الذي يدعى المسيح. فصرخ جميعهم قائلين: بارابا. ونطقت النبوءة في الأثمة، وغنّى الحق في الكذبة، نادوا بما سيكون وهم لا يدرون ماذا كانوا يقولون، أن يسوع صلب بدلا ً من بارابا وقد جاء من أجله ليطلقه من قيوده.

فلماذا ربط ربنا؟ أليس ليطلق آدم؟ يا لعظمة هذا السر، إن في ذلك العي يطلق الأسير أليس ذلك رمزا ً لآدم؟ أنه أطلق من وثقه في عيد الصليب، لقد جعل الآب الرحوم آدم ابنا ً بنعمته ليكون وارثا ً لثروته. ولأجل هذا فإن بارابا هو آدم. ولما أخطأ أوثق في الهاوية ولما قرب العيد الكبير الذي أطلق فيه اللص من أغلاله ذاك الذي كان محبوبا ً عند العبرانيين، وكان يدعى بارابا أيضا ً.

وعندما سألهم بيلاطس، من تريدون أن أطلق لكم؟ قالوا: بارابا. إنهم كانوا يحبون السارق. أما النبوءة التي كانت تتردد على أفواههم فهي أن يطلق سراح آدم.

أما يسوع فصلب

كان محرر الأسرى قد دخل السجن، وضجّ الشعب بالصراخ أن يطلق ذلك الذي كان أسيرا ً بذنبه، فمن قاوم اسم ذلك المحبوس في ذلك الزمن المدعو بارابا، أليس التدبير الغني بالتمييز؟ الذي شاء أن تكون الصرخة في فم الشعب كله على آدم ثم يتخلّى؟ من تريدون أن أطلق لكم. فصرخ كلهم قائلين: بارابا، فالإرادة شريرة أما الصرخة فجيدة.

تجديد الخليقة بالآلام

قُيّد يسوع، وأطلق بارابا، دين البريء، وأطلق المذنب، سُجن البار، وخرج الأثيم، جلد ربنا، وانحسر الجلد عن آدم. عانقت الشمس العمود، وجلدت الشعلة بالسياط، حمل الجبار ثقل العالم، كما حمل أوجاع الخطاة بآلامه، دفع الغني دَين الفقراء، ومحا صك جميع الدهور التي لم تستطع دفعه، جدد المصلوب الخليقة بآلامه، وأقام عالما ً غير فاسد بضرباته. ولأجل هذا تصرخ الكنيسة بأعلى صوتها، حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، له المجد دائما ً وإلى أبد الآبدين. آمين.

 

 

 

فرح الفصح في القيامة الظافرة

هلموا نفرح

إن فرحا ً عظيما ً ملؤه الفطنة يحفزني اليوم لأتلو آية النبي القائل: هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فهلموا نفرح ونسر به، هذا هو اليوم الذي لم يسبق له مثيل ولن يشبهه يوم آخر بعده، هذا هو العيد الكبير إكليل سائر الأعياد وفخرها، هذا هو بهجة الأفراح لأن اليوم تلقت العروس بشرى جديدة بقيامة خطّيبها، في هذا اليوم المحبوب أقول وجوانحي تهتز طربا ً.

أهلا ً بك يا أحد القيامة

أهلا بك أيها النهار الجديد الذي أبطل بسلطانه الليل البهيم، أهلا ً بك أيها النهار المنير الحامل أحسن البشائر، مرحبا ً يا معزيّ الأبيلين ومبهج الحزانى وجامع المشتتين وكاشف غم المتضايقين ومشجع الخائفين وناشرا ً أخبارا ً سارة في مسمع التلاميذ، أهلا ً بك أيها النهار الذي لا يعقبه مساء، والذباح المتلألئ الذي لا يغشاه زوال، مرحبا ً أيها البعث الذي لا يدركه موت والقيامة التي لا يطرأ عليها سقوط. أهلا ً بك يا بكر الأيام الذي ازدان بمواهبه العالمان، أهلاً وسهلا ً بك يا أحد القيامة الذي ننسى به سقطة الجمعة، مرحبا ً أيها اليوم الذي لا يشبه نهار أمس الذي أحاطت به عجلة الآلام فجعلت الأمور السفلية علوية.

بين الأمس واليوم

لقد تبدلت الأيام السيئة، زال سلطان الآلام، سقط الموت وارتفعت الحياة، أغلقت الهاوية وفتحت المعمودية، اقفرت الجهة الشمالية وهتف أهل ايمين: البارحة ضُرب الراعي فتبددت أغنامه واليوم هربت الذئاب فاغتبطت الرعية، بالأمس تناول يهوذا الفضة وكان قيافا يدلي برأيه فيسمع له، حنان يشكو والكتبة يضطربون، بيلاطس جالس وربنا معلق على العمود، سمعان ينكر واندراوس هارب، قد ابتعد يوحنا واختفى توما، يعقوب ليس بموجود وفيلبس لم يوقف له على خبر، متى مختبئ وبرثلماوس صار غريبا ً وسمعان الغيور منذهل وتشتت التلاميذ في سائر الجهات.

بشائر المهمات

واليوم التحف قيافا بثوب الخزي وخجل حنان واختنق يهوذا ورُذلت الفضة وأبكم الكتبة وأخفى رؤساء الجماعة وجوههم وبكى اللاويون بعضهم بعضا ً وتعجب بيلاطس، واختفى المشاغبون، وتبددت زمرة الذئاب وأخذ الراعي يتحدث إلى نعاجه، فتنسم القطيع رائحته واحتواه، ابتهجت مريم وتهللت سالومي، وحملت مرتا البشائر وأتى يوحنا بأخبار السلام فرفع التلاميذ رؤوسه واجتمع الرسل من مخابئهم، أسرع سمعان ويوحنا إلى المقبرة، وسرى عن متى وبرثلماوس كربهما وأندراوس ويعقوب اغتبطا واستبشرا فشكر توما وسبَّح فيلبس ، غص طريق القبر بالناس وأقفر سبيل الجلجلة، انتقلت الكآبة إلى الشمال وأحاط العزاء يمين القبر، احتشد التلاميذ والملائكة في خدر القتيل وهم يبشرون بعضهم بعضا ً فرحا ً، سحق الموت في باب الهاوية كالجبار على أبواب السامرة.

أين سلطان الموت؟

ازدرت النبوءة بالموت مستبشرة وقائلة: أين سلطتك أيها الموت وأين شوكتك أيها الجحيم، دخل المصلوب متلفا ً خزائن الموت بآلامه طارحا ً إكليل المنية على الأرض صارخا ً في الهاوية فكسرت شوكتها وتداعت أسوارها إلى السقوط، وليهتف اليوم الراعي قائلا ً: سقطت سقطت بابل مدينة الموتى، وتهدمت المدينة التي في الأرض وليس من ينهضها.

يحاولون إخفاء الحق

اليوم أعطى الكهنة المنافقون حراس القبر فضة يهوذا الخائن الفائضة، بالأمس سرق يهوذا، واليوم ارتشى الحراس أعداء الحقيقة الذين مزقوا أكياسهم بالرشوة. وحاولوا إخفاء الحق ولم يستطيعوا. أسلم الجبار نفسه وقيّده الضعفاء وجلسوا يحرسونه لئلا ينطلق وينتقم منهم، لمَ يا ترى شُدّدت الحراسة على القبر، أليس من رهبة الجبار؟ الذي وهو السجين كان يفزع أعداءه؟

كانت الظلمات تحرس الصباح كي لا يشرق، وعندما انبلج النهار، تبددت سجف ضلال أعداء المنبر، وتراءى للحراس شعاعا ً أشرق مجدا ً يزهر، وجوقة الملائكة الرهيبة تشق أصواتها الأثير. والسلّم النورانية التي لبيت أيل شاهدها يعقوب ممتدة من القبر إلى السماء والرب يقف، وليس فوقها لينزل، بل تحتها ليصعد.

شاهد الحراس مجد الرب

رأى الحراس وخافوا، وانسلت الرجفة في عظامهم وغدوا أمواتا ً من الرعب، وبينما هم منذهلون بالحدث، أسرعوا إلى القبر ووجدوه وقد فكت أختامه، فاليهود ختموا القبر بالصخر مع الجنود كما يعلمنا الكتاب، وأمرهم بيلاطس أن يحرسوا القبر نزولا ً عند توسل اليهود، وعندما شاهد الحراس مجد الرب وقد أشرق عليهم، والخارج من الهاوية دون فساد طاهرا ً وملائكة النور وهم ينزلون ويصعدون، ويسبحون ساجدين بفرح لرب القدرة الذي رجع ظافرا ً من محنة الأعداء الكبيرة، كان الحراس قد تأكدوا من هذا المشهد على القيامة، إذ رأوه وجها ً لوجه، حيث شاهدوا الحجر المختوم، وأختام القبر محلولة دون فساد، خيّم عليهم العجب، وأحاطتهم الدهشة المثيرة. عندما تأكدوا صحة النشور الذي أبصروه بأم أعينهم، وأذهلهم الختم العديم الفساد بخروج الجبار.

من يستطيع منع الملائكة

وبينما هم متعجبون أسرعوا إلى رؤساء الكهنة قائلين: هلموا انظروا أختامكم المنحلة، وقيود الخجر العديمة الفساد، وأطلقونا دون لوم، فإن الذي وضعتموه بالقبر صعد إلى السماء، وأننا مدينون لكم بأن نسلمكم أختامكم المحفوظة، تعالوا واستلموا الأختام، ولا تطلبوا منا الجثة، فإن القبر فارغ، وأختامه غير فاسدة، فنحن الذين حرسنا القبر كي لا يقرّ به التلاميذ كما أُمرنا، وقد قمنا بعملنا بيقظة، لنمنع عنه الملائكة، وإنه واضح أن لا علاقة لنا بما صار. فالأرضيون لم يدنوا من هناك، أما السماويون فإنهم لم يهدأوا داخلين إليه وخارجين منه، وإنه لم يُرَ واحد من التلاميذ. أما الرجال النورانيون وهم متسربلون بثياب بيض، فقد رأيناهم ينزلون من السماء، راكضين ساجدين للذي وضعتموه داخل القبر، وحيث أنهم كانوا يسجدون له بكل وقار انتقل معهم، وحاولنا الاقتراب منه فلم نتجاسر.

رشوة الحراس

ولما سمع الصالبون هذا، اغتاظوا واضطربوا، ولفَّهم الخجل قائلين للحراس: لقد دعوناكم لمساعدتنا، وليس ضدنا، خذوا الذهب واخفوا السر، استفيدوا أنتم ونحن لا نفضح. فإن ما حدثتمونا به ليس بإمكان أحد أن يسمعه. غير أنكم كونوا على استعداد للقول إن تلاميذه سرقوه ونحن نيام.

قَبل الحراس الرشوة، وسكتوا عن الحق لأجل الذهب، واختفى الحق، واشتدت محبة المال، وتردّد الخبر بفهم الحراس، وقبلوا أن يكذبوا، لأجل محبة المال التي هاموا بحبها على الرشوة، وانتصب العدل، وظهر الذهب، وقوي الكذب، وغذا الحراس محتقرين من المشهد، فكما لقنوهم قالوا: إن تلاميذه أتوا ليلا ً وسرقوه ونحن نيام.

تناقض فاضح

يا للرجل المشتكى منه دون شهود غرباء، إن تلاميذه سرقوه ونحن نيام. يا مراؤون! هكذا تكون غفوتكم بمكر لتعرفنا من هم اللصوص؟ وأنتم دون حس قد سُرقتم. غطوا وجللوا كذبكم أيها الأشقياء، فإنه قد انفضح، ورذله كل إنسان، فإذا كنتم بالحقيقة نائمين كقولكم، فإنكم لا تعلمون هل سرقه تلاميذه أو غيرهم؟ وإذ تأكدتم بأن تلاميذه سرقوه، فإنكم لم تكونوا نائمين؟ فاتضح كذبكم، فإنكم إما كنتم يقظين وشاهدتم، أو كنتم نائمين ولا تدرون؟ فإن كلامكم غير صحيح. إذ إن كلماتكم تناقض بعضها بعضا ً ولو قلتم إنه سرق ونحن نيام، ولا نعلم من سرقه؟ يخفى كذبكم الدنيء، أما الآن فإنكم تقولون: كنا نياما ً وسرقه تلاميذه، انكشف واتضح خداعكم. ولا غطاء لكذبكم. فإن من كان نائما ً لا يعرف من سرق شيئا ً منه. وإذا عرف وهو يقظ لا يترك أحدا ً يسرقه، فإن عرفتم من سرقه؟ فلمَ لم تقبضوا على السراق؟ وإن لم تشعروا إذ كنتم نائمين، فلماذا تظلمون التلاميذ؟

الحراس شهود القيامة

إن كل الأمور الموضوعة لتحارب ضد الحق، تغدو مع الحق، فضح الصالبون إذ جلبوا حرسا ً للقبر، واستطاعوا أن يكونوا شهودا ً للقيامة، رغم إعلانهم أنهم قبلوا على أنفسهم ليقولوا إن تلاميذه سرقوه، وأنهم لا أصدقاء ولا تلاميذ ولكنهم أبناء أفكار الصالبين. وحيثما ينشرون الخبر بين هؤلاء وأولئك، كان خبر القيامة يذيعه الحراس أمام الصالبين. وهم غير مرتابين من كلامهم، كونهم شاهدوهم أنهم قبلوا عليهم أن يكذبوا قائلين للشعب شيئا ً بدل آخر، إذ كانوا يتجاذبون أطراف الحديث بينهم سرا ً.

ومن خفايا السر الذي كان يذاع بينهم يوميا ً، فإن قيامة ربنا كانت تنتشر أخبارها أمامهم لتبكيتهم، وليس من سمعان ويوحنا حبيبيه، بل من العسكر الذين ظلموا التلاميذ، بأنهم سرقوه فلا تقوم له قائمة، ليكونوا شهودا ً لبعثه، فلم يكن يرسل أحباءه إلى أعدائه لئلا ترذل العداوة كلامهم وهم يظنون رياء ً.

رسل القيامة وقبر القتيل

لم يكن ينصت قيافا إلى كيفا! وحنان لم يكن يخضع ليوحنا، ومن أجل هذا أظهر قيامته للجند، الذين كانوا يتحدثون عنها بعجب. وهؤلاء الذين علَّقوه، سبقوا الذين أسلموه لحكم بيلاطس وزمر الصالبين، إن الجند أصبحوا رسلا ً على قيامة المسيح وبالكاد كانت تقبل شهاداتهم، لأنهم كانوا أصدقاء الصالبين وليسوا رفاق المصلوب. وكان يجتمع عندهم كل أعداء ربنا بالخفاء ليتعلموا منهم، ماذا شاهدوا عند قبر القتيل وكانوا يخبرون بما شاهدوه سرا ً، وهم يحذرون بعضهم بعضا ً ألا يسمع أي أمرئ سوى الذين يكتمون السر حتى لا يشعر به الغرباء.

ابتهاج التلاميذ وكآبة الصالبين

زعلى أثر ذلك توضحت معالم القيامة. وشعت أنوارها للأعداء والأصدقاء، وتأكدت حقيقة البعث للصالبين كما هي للتلاميذ. ليبتهج الأصحاب، وليعصر قلب الأعداء، فإن سحابة ضيقات الأمس كانت تشرد التلاميذ بمرزبة آلامها. واليوم بهبوبها وتلاطمها بقوة خبطت بل سحقت الصالبين. إن الأوقات قد تغيرت، فاليوم طلع على التلاميذ صحو مبهج يحمل الأفراح، وعلى الصالبين شتاء كئيب مليء بالضيقات، وإن دورة الجمعة المخضبة بالدم لتنزل القتيل إلى الهاوية، ها هي اليوم تحمل الحياة ويديرها البعث لترفع الحياة من القبر إلى السماء.

أرادوا إِخفاء أشعة الشمس بالغربال

تعب الصالبون في إخفاء الحق ولم يستطيعوا. أعطوا رشوة كبرى ليستمروا في الكذب فلم يثبت، أضاعوا ذهبهم ولم تخفَ الحقيقة. أراد اللصوص البُله أن يسرقوا النهار ويخفوه. ولم يفهموا أن لا مكان لإِخفائه، حسب السراق الجهلة أن يضعوا الشمس بأحضانهم ويهربوا، وأن يمنعوا البرايا من التمتع بأنوارها، فقد أشرق النهار إلى أقاصي الأرض، واستأجر العميان فعلة لينطلقوا قائلين للعالم: إنها لم تشرق بعد. تلألأت قيامة الابن، وابتهجت بها الأعالي العالية والأعماق الأرضية. ومنح الصالبون الرشوة، ليذيعوا أخبارا ً باطلة، بأنه سرق سرقة ولم يبعث بعثا ً، ففي وضح النهار المشرق، استأجروا أناسا ً ليقولوا إن الشمس لم تبزغ، وبينما هم يتآمرون أن يخفوا نورها، انكشف باطل كذبهم، ولا من يسمع كلمتهم.

ليس هو ههنا لقد قام

وبينما هم يهمون بقولهم أنه سرق سرقة، تحققت القيامة لمريم وأظهر نفسه للتلاميذ أيضا ً، وسار في الطريق مع قليوفا وأخيه، وازدحمت الأخبار بعضها ببعض، فكل من رأيناه يبشّر صديقه بسرعة، جلس الملائكة على باب القبر، يبشرون بالحقيقة لكل آت ٍ، نما الحققبر وزهق الباطل، ازداد النور فلم يحتمله الظلام. لماذا يجلس الملائكة بين القبور؟ أليس لكي يبشروا التلميذات على القيامة؟ قيل للتلميذات إننا عارفون أنكن تطلبن يسوع المصلوب. ليس هو ههنا، فقد قام، فلماذا تطلبن الحي بين الأموات؟

ظهور الملائكة بأنواع خدماتهم

اليوم ظهر الملائكة عند القبر، فبالأمس لماذا لم يظهروا عند الجلجلة؟ فالآب أسلم ابنه ليكون ذبيحة، ومنع العبيد من الاقتراب عند الصليب لئلا يروا ربهم مهانا ً فلتلتهب غيرتهم ويصلوا الصالبين نارا ً، ويبقى المصلوب بعيدا ً عن طريق الآلام.

وعندما أهين لوط في سدوم، صفقوا أجنحتهم وأصلوها جمرات وأحرقوها. وفي أورشليم قاتلة ربها، لو شاهدوا إهانة الابن، كيف كانوا يحتملون دون أن يظهروا غيرتهم بالقضاء المرير على الصالبين.

تم طريق معيريه، عندئذ أمر العبيد أن ينزلوا لإكرام ابنه، خرج الرب من القبر، وعندئذ فتحه الملائكة، وليس من أجل أن يخرج فتحوه. ولكن ليجعلوا التلاميذ أن يروا أن ربنا ليس داخل القبر. فإنه مكتوب أن ملاك الرب دحرج الحجرة وجلس عليها. فلو كان ربنا داخل القبر، لم يجلس الملاك فحالما دحرجها، مكتوب أنه جلس عليها ليكشف ما سيأتي، أن ربنا خارج من القبر بدون أن تشكوا في قيامته، وأنهم كانوا قادرين على ضبط القبر وبقاء أختامه.

المسيح قام، حقا ً قام

أما أبناء القيامة، فإنهم لا يخرجون من الباب بل يجتازون بالطبائع الشفافة. فخرج الرب من القبر كما دخل العلية، فقد اضطر الملاك أن يدحرج الحجر عندما بدأ التلاميذ والتلميذات يتوجهون إلى القبر. فهم بحاجة أن يروا ما في داخله. ومحل الجثة وأكفان الدفن، حتى تتحقق القيامة في كل البراهين الساطعة والقاطعة، ابتهج التلاميذ بالبعث واكتأب الصالبون بالقيامة، وقال الرسل ورؤوسهم مرفوعة: اننا على معرفة أن المسيح قام من بين الأموات ولا يموت أيضا ً، ولا سلطان للموت عليه، له التسابيح إلى أبد الآبدين. آمين.