مقال 97 عن أول شهيدة القديسة تكلا البتول

مقال

البطريرك الأنطاكي القديس الأنبأ ساويرس

عن أول شهيدة القديسة تكلا البتول

 

مقدمة

الجزء الثاني

مقدمة المخطوطة البرموس وما بعدها

القديسة تكلا البتول الشهيدة حياتها الأولى وإيمانها

رفضها الزواج واستشهادها

مخطوط دير البرموس

عرض موضوع شهادة القديسة ورأي القديس فيها

ماذا تتعلم فتياتنا من هذه السيرة

الميمر الثامن والثلاثون لمار يعقوب أسقف مدينة سروج على البتولية  والزيجة الفضل

شرف البتولية

البتولية والعفة

 

 

مقدمة

 

للقديس ساويرس البطريك الأنطاكي مقال رائع عن القديسة تكلا. إننا نرى بعد طول الإمعان أن القديس الذي لمع نجمه في اسقصاء البر المقدسة وأجهد فكره ليبرز لنا هذه السيرة بما هو جدير بها من التبجيل، خليق بأن يبرز تراثه فآثرنا أن نأتي للقارئ بترجمة السيرة التي دبجها القديس وذلك لفائدة القراء حتى بعد مضاهاة حوادثها واستجلاء محاسنها يتم النفع الكبير وتتضح في ذهن القارئ المعاني الرائعة التي كانت تمتاز بها هذه الشهيدة الفريدة أولى شهيدات المسيحية في العصور الأولى. وإليك السيرة وما تتضمنته من العرض والتمهيد.

 

حينما أسمع داود النبي يرمز النبوة إلى الكنيسة ويصوّرها مقدماً، ويوجه الكلمة إلى رئيسها، الذي هو المسيح، ويقول: “جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير” (مز 45: 9) ففي الحال وفي نفس اللحظة يتجه  عقلي نحو الشهيدة تكلا، وأراها مثل دعامة حية تصدر عنها كلمات النبوة تتلوها الحوا1ث نفسها، وكانت أيضاً تمتلك فضائل كل الكنيسة، إذ تسلمتها كلها جملة.

الكنيسة هي المجمع، هي اجتماع المؤمنين بالمسيح؛ تتكون من كل واحد منهم، وهم أعضاؤها ويكونون جسداً واحداً، رائعاً، عجيباً، عطظيماً للغاية، يصنعه ويرتبه العماد الإلهي والوصايا الإنجيلية، فيشغل المكان الأول من وجهة نظر الجمال.

قال حقاً بولس الرسول بشأنها حينما كتب مع داود النبي: “أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أف5: 25- 27).

أرأيت كيف يكون اتفاق الكلمات والأقوال؟ صرخ داود النبي قائلاً: “قامت الملكة عن يمينك”، فردّ عليه بولس الرسول صارخاً: “لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة”.

فإن عبارة “جعلت الملكة عن يمينك” تبين استعداد الكنيسة تهللها فيما يختص بالإيمان. لقد حضرت بسرعة ملبية دعوة الرب. وأي شيء أجدر بأن يكون أسرع تقبلاً من دعوة المسيح؟ يقول دعا أندراوس وبطرس الرسولين وللحال أطاعا. “هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس” (مت 4: 19). تركا السمك والشباك أيضاً وتبعاه. وهكذا ترك ابنا زبدي السفينة وأباهما عند عودتهما.

وإذ سمع متى بينما كان جالساً في مكان الجباية يتأهب للأعمال الصعبة وللأرباح المغتصبة وللضرائب الباهظة: “اتبعني” (مت 9: 9). نسي أيضاً كل شيء وتبعه، ونسى أنه كان عشاراً.

وسترى أيضاً، طبقاً لتعاليم الرسل، أن هناك أشياء أعظم من تلك، حدثت باسم يسوع المسيح الناصري. كان بطرس الرسول يتكلم في اليهودية بعد قيامة المسيح من بين الأموات، مع الذين صلبوه، وما زالت الآلام قريبة؛ فكان الذين يسمعونه يؤمنون حتى آمن ثلاثة آلاف دفعة واحدة.

كان بولس الرسول يخاطب شعب أثينا، وكان يجذب إليه الآريوباغيين، هؤلاء للقضاة الأشداء الذين كان من الصعب تغييرهم ولم يكن هناك في الحكم من أصلب عوداً أقوى مراساً كان ينطلق كالطائر فيأخذ المدن والأمم أيضاً بكلمة الإيمان وكان يصطاد كما بشبكة.

حينما اجتمع شمل الكنيسة هناك، قامت بالقرب من الملك، مثل شبكة سريعة جداً. ولم تتميّز بشدة السرعة فحسب ولكنها أيضاً كانت كاملة أنمت بلوغ الغاية اللائقة. كما يؤكد ذلك أيضاً ما جاء في المزمور: “جعلت الملكة عن يمينك” (مز 45: 9) فكان الملكة أيضاً أن تبقى بجانب الملك قريبة منه، وهي لا ينقصها شيء ما من أي نوع كان.

بعد أن كفت الكنيسة عن مشورة الآلهة الكاذبة والأهواء المخزية، وبعد أن تغييرت وأخذت حياة جديدة طاهرة، قامت بالكمال بعد السلوك القديم الدنس، واشتركت مع الملك في الكرامة وفي الاسم ودخلت معه قاعة العرس لأنها له إذ يقول في نشيد الأنشاد: “ادخلني الملك إلى حجاله” (نش 1: 4) واعترف  بها الملك وسمعت بدورها: “ياحمامتي ياكاملتي” (نش 5: 2) يقصد أنها كاملة وروحانية.

وفي هذه المعنى ظهرت الروح تحت شكل الحمامة ومن جهة أخرى كقول داود النبي التي تلبس الملابس الموشحة بالذهب “جعلت الملكة في خدرها، منسوجة بذهب ملابسها” (مز 45: 13).

وذلك بسبب مجموعة الفضائل المختلفة مثل العدل والشجاعة والطهارة والحكمة وما يتفرع منها من الفضائل التي تحلت بها كالثياب متنوعة الأشكال. ومن ناحية أخرى، فيما يختص بالجمال، فهي تمتاز بشكل واحد ولون واحد، منسوجة كلها من الذهب، فهي كاملة فيما يتعلق بذلتها عند الله وتعد أولئك الذين يجتهدون في الفضائل، وهكذا يتوهج النور فيمن يشتركون في النعمة ليس بدون جهد أو من غير ما هدف، كيفما اتفق. لم ترتفع الكنيسة كذلك إلى مثل هذا الجسد إلا حينما انضمت وأطاعت السيد المسيح، كما تفعل الفتاة لأبيها ولسيدها، حينما تعلقت به مثلما تتعلق بملكها، وسمعته منذ البدء يقول: “اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك وانسَي شعبَكِ وبيتَ أبيكِ (مز45/ 10)

ربما يقول لي إذ يسمع هذه الكمات لقد نسيت يا هذا أنك تمتدح الكنيسة ولست تمتدح القديسة تكلا. فليستمع بالحقيقة إلينا كما يليق في نفس الوقت.

انتظر حتى تتبين جمال الصورة الأصلية التي كانت رسمتها لك الكلمة صورة حية كأنها على لوحة. وحينئذ تدرك بالدليل أن صورة الشهيدة بهذا الرسم الجميل أشبه. أنك مقرع لا تعطي مكاناً للكلمة ذاتها، وتتابعنا في ذلك كأنك بموقف الانطلاق وتقاطع المسيرة ذاتها كمن تلهبه السياط فالخص ما قلته بخصوص القديسة تكلا تبيين ببساطة أن الشهيدة تمثل وترمز إلى الكنيسة وأن ما قيل سلفاً إنما هو تلميح واضح:

كان هناك بولس الرسول يعلم في أيقونية وهي المدينة التي لها المكان الأول في إيبارشية اليكازنيين، أو بالحري حيث كان المسيح يتكلم. وتكلا بجنسها وبغناها كانت تشغل المركز الأول في المدينة. وكانت تمتلك تلك الخيرات الميسرة، كانت تجلس خفية عند حافة نافذة في أعلى المنزل، وترى الحكيم نفسه وتسمع كلماته. وفوراً تتضح رؤية الكنيسة التي تنبأ عنها داود النبي. لقد استمعت بطاعة كفتاة. فانضمت ونسيت شعبها وبيت أبيها, وأعزها الملك وقامت عن يمينه في ثياب الفضائل الشاملة بسبب كلمات الحياة المقبلة وملكوت السموات. عندما مس شفتيها القول الحق القائل أن الأرواح الطاهرة هي التي تدخل متألقة مع العريس في نفس الوقت، وهي تشمل مصابيح الطهارة بالزيت، حينئذ أحبت البتولية وفازت بها فوق كل شيء.

اضطرت أمها إذ كانت مملوءة بالإعجاب بخيمة هذا العالم، تقيدها فتنته فيما يختص بالتدبير للجسد، فتتصور لابنتها خدر العرس، والراقصات، والحفلات الصاخبة التي اعتاد عبدة الأوثان إقامتها في الاستقبال وما إليها من الإغاني والعروض الترفه في مثل الحفلات، فكانت متهمة بزاوجها، وإنجاب الأطفال، وإعانتها في شيخوختها، لأن النساء اللواتي يحببن المرائي قد تعودن البكاء على ما هو متوقع، كأنهن بالفعل فيه، ويذكرن سلسلة الأحزان والطويلة والدموع في هذه المرائي.

ولما تعبت أم الشهيدة من محاولة تغيير الفتاة الشابة عن اهتمامها التقى بالدين، فأدت لجدتها خطيبتها ويدعى ثاميرييس. فجاء راكضاً تلهبه الرغبة وأخذ يحاول عن طريق الأطراء. في هواء المشبوب، أن يجعلها ترق بأغانيه. وكانت صامتة تنظر بصرامة في وهن كلماته تاركة إياها تذهب مع الريح. متجاهلة أمره، ومرتبطة حقاً بكلمات بولس الرسول. متعلقة في الإنسان الباطن بها تتصور الأمور المقبلة، وتفكر أنها لم عد تعيش لاهتمام الجسد أما ثاميريس الذي كان فريسة الهوى الشرير وخالياً من اليقين تحول عن حبه إلى الكراهية وهكذا يكون حال أولئك الذين يفقدون ما يؤثرون وما يكون عزيزاً لديهم.

كان بولس الرسول قد اقتيد وكانت هناك قوات كبيرة ومعدات حربية، فجاءوا به الوالي. ولما اقترب بولس من محكمة الأمير وتكلم عن الطهارة والإيمان كعادته، عمل ثاميريس الترتيبات لكي يزج ببولس الرسول في السجن. أما تكلا، من ناحية أخرى، فقد أتت ليلاً لتقف بجانب السجين الحكيم في قيوده –لأنها سمعته أيضاً يقول: “لكن كلمة الله لا تقيد” (2تي 2: 9). وكانت تغترف بغزارة من فيض تعاليمه التي تناب مواردها وتقبل قيوده التي تجري منها القداسة. جرها ثاميريس إلى القاضي، كما جر معها ذلك السجين المقيد في السلاسل والتبشير في نفس الوقت.

فجلد بولس الرسول ثم طرده، ومن جهة أخرى سلم تكلا – وقد عرفت من قيود معلمها كيف تتألم من أجل المسيح- إلى نار متقدة. ولم يصدر هذا الحكم ضدها من قبل القاضي وحده، ولكن قبل كل شيء كان المستول عنه والدة تكلا أيضاً وجمهور المدينة من الرجال والنساء، إذ يدعون عليها كسر الزواج ومخالفة قوانين الطبيعة.

أما هي قبلت الإله الذي تجسد من العذراء وتأنس بدون استحالة – ووهبت له بتوليتها وكرست نفسها له: رسمت علامته في مواجهة النار فسارت فوق الحطب، وتجرأت أن تواجه اللهيب وفي الحال حدث برق وزوبعة  زعزعت الأرض، وانفصلت سحابة من فوق هطل منها الغيث غزيراً، مخلوطاً بالبرد، فأطفأ النار، وكان بعض الذين حولها قد هلك والبعض الآخر هرب، وخلصت تكلا. لأن ما أراده الله فهو فاعله.

أترون كيف أن الشهيدة في نهاية الأمر شابهت الأم، أقول لا بل شابهت الكنيسة في رفعتها، ويقول مخلصنا “وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لتن تقوى عليها، (مت 16: 18). لذلك فإن اللهيب لم يغلب الشجاعة تكلا.

وربما يقول لنا أحد جهراً: “فيم كانت الفتاة صورة مصغرة من صورة الأم؟” نعم، كانت بجانب الملك وكان عملها كاملاً. ألم ترتد مثل الملكة؟ تنوعت محاسن ثيابها، فكانت مغطاة بكل ثياب وكل زينة الفضائل، وحينما سارت هكذا وسط النار، ألم يثبت أن كل ما لها من الذهب الخالص، وأن النار امتحنه وما هو بكاذب؟

وفي تمثل الفتيات بالأم اشتهت كثيرات بتولية القديسة تكلا وشهادتها، وأن قصرن عن أن يكن مثلها في كل شيء. ورنم داود النبي سلفاً وقال: “وفي أثرها العذارى صاحباتها. مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج. يدخلن إلى قصر الملك” (مز 45: 14 – 15). وقوله “في أثرها” يبين أنهن ذاهبين وراءه أمهاتهن؛ لأنه هكذا كان النبي داود يصرخ أيضاً لله: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله” (مز 42: 1) وفي قوله “صاحباتها” تبيان أقرب الشبه، فلم يأتين إلى هيكل بطريقة غيرها.

بعد أن رُفعت تكلا إلى هذا الشرف، وتحملت عذاب اللهيب وشهدت المسيح، كانت تسمع مع التلاميذ من جديد تعليم بولس الرسول، إذ كانت تريد أن تتعلم وتعرف أنه يجب أن تتألم كثيراًً من أجل عمانوئيل إلهنا. وفعلاً قصت شعرها بسبب الأذى الذي يأتيها من جمالها، فجعلت لروحها الشجاعة الهيئة الخارجية التي تتناسب معها. وكانت تتعلق بالحق وتعظ في نفس الوقت معه. وكانت هي أيضاً تلميذته، فكان لها استعداد المعلم.

لا يقل أحد: “وكيف كان بولس الرسول يكتب إلى أهل كورنثس “لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً” (1كو 14: 34). أوامر حكام الكنائس المقدسة قائلين: “لا يجوز للمرأة أن تقص شعرها ولا تلبس ملابس رجل؟، فإن هذه التوصيات وقد عملت بعناية قائمة بالنسبة للبعض القليل ولا تكون بالنسبة للآخرين. وأن القوانين يؤخذ بها عدد كبير، ولا تتقرر حسب فرد أو اثنين بل هي لكل الناس عامة. كانت تكلا تمتلك فعلاً القوة الواقعية قبل الشكل الخارجي؛ أما الآخرون فكان ينقصهم التدريب. وبعد الخطر، حتى بالنسبة لمن في استطاعتهن أن يتشبهن بالشهيدة، لا يكون بعد مسموحاً لهن أن يفعلن ما فعلته. لأن عليهن الخضوع للأحكام العامة. إذ أن وصية الناموس تأمرنا: “لا تنقل تحتم صاحبك الذي نصبه الأولون في نصيبك الذي تناله في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لكي تمتلكها” (تث 19: 14).

وافت القديسة الشجاعة في شكل رجل ثابتة من أجل الديانة إلى أنطاكية لم يستطيع أن تختبئ. لأن مطاردي جمالها ومضطهدي دينها هاجموها. الأولون يحاولون أن يدفعوها نحو النجاسة، والآخرون نحو عبادة الأصنام، وكانوا يختلفون لأجلها ولكن العذراء الشهيدة كان منيعة بالنسبة للفريقين على حد سواء.

وكان شخص يدعى اسكندر مريضاً بالهوى وكدأب تاميريس، جن جنونه بسبب جمال القديسة، وفشل ولم يصل إلى هدفها. أمر القاضي بأن تعطى تكلا طعاماً للوحوش وكان في ذلك متعنّتًا. أما ذلك الرجل الذي كان يتلقفه نوعان من الهوى ويحترق بالميوعة وبالقساوة معاً، وكان متردداً بينهما، فقد خاب فأله في حبه، فاندفع إلى القسوة وجمع من كل مكان أنواعاً من الحيونات المفترسة.

ولكن القديسة التي كانت مستعدة  تتحمل كل شيء لم تقهرها كل هذه الوحوش، وبالصلاة وبالتضرع قصرت عن القدرة على القطع بأنيابها، وكانت القديسة مضطجعة بين الحيوانات المتوحشة غير المستأنسة، بدون خوف.

فليسمع لك الكفرة الذين يغفرون أفوههم للآلة الموسيقية الأسطورية المليئة بالتفاهات، فيزعمون أنها تسكن الوحوش بأنغامها! ليتأمل اليهود كيف أطفأت قديسة واحدة النار المتأججة، كالثلاثة فتية، فمرت عبر اللهب دون أن تحترق، وظهرت متاعها. إنها تمثل دانيال: أرادوا إرهابها ليس بالأسود فحسب، بل بأنواع مختلفة من الحيوانات المتوحشة ليتعرفوا على أثر مثل هذه العجائب أن الله إله الناموس والأناجيل هو واحد فلا تخدعهم الآمال الباطلة وليفهموا بواسطة الأشياء الممتازة أن المسيح قد أتى، ولا ينظروا.

فإن إشعيا النبي، إذ كان في ألم صرخ قائلاً “أيتها النساء الممطئنات قمن اسمعن صوتي، أيتها البنات الواثقات اصغين لقولي” (إش 32: 9). لكن لا واحدة منهن سمعت لما يجب. أما تكلا وكانت غنية بكل الأشياء التي تجلب السعادة في الدنيا، الحسب والنسب، والجمال والغنى، فأنها ذهبت إلى أبعد من أقوال النبي، لأنها سمعت كلمات بولس الرسول دون أن يناديها برجاء. ونظير هذا الرجاء وحده، تركت كل شيء، متشبهة بالتاجر المذكور في الإنجيل: “فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له اشتراها” (مت 13: 46)، كما يقول مخلصنا الصالح.

وكما أن آدم الذي كان مخلوقاً على صورة الله، قبل أن يتعدى الوصية، كانت تحوطه الحيوانات الموحشة وكان كملك يعطي جمعيها أٍسماء، كصاحب القطيع؛ هكذا كانت أيضاً تكلا، إذ تجردت من الإنسان العتيق وتطهرت، فكانت الصورة الإلهية، كقول بولس الرسول: “إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو 5: 17).

فكانت الحيوانات المتوحشة في حكم المستأنسة بالنسبة لها. وبعد أن عبرت ذلك بدون أذى؛ وجاهدت في نفس الوقت ضد عذابات كثيرة وتزيّنتْ بالأكاليل المتنوعة، ذهبت إلى سلوكية. وأكملت فيها سعيها بسلام وحفظت الإيمان” (انظر 2تي 4: 7) ويرقد جسدها في هيكل مقدس وشهير وتجري بواسطتها أشفية وعجائب، اتخذت طريقها بروحها نحو صفوف الملائكة ونحو المساكن السمائية.

هي من هناك تنظر وتزور بفرح وسلام مدينة سلوكية، التي هي مدينتنا، من جهة بسبب جسدها، ومن جهة أخرى بسبب جهادها، لأنها في هذه المدينة جاهدت، وأني مقتنع أنها تساعد بصفة خاصة هذه المدينة وتعتني بها. وحتى الآن تميل نحو الجهاد الذي يقوم من أجل الدين، وبه تأتي الأكاليل وتعلن الانتصارات وتميل أيضاً إلى هذا المكان الذي فيه جاهدت فيهمثل المصارعين الذي تنتصرون، فإن المكان الذي كانوا يصطفون فيه بين الصفوف حتى بعد النصر يصبح عزيراً.

من أجل ذلك وضعنا هذا المقال وقدمناه للمسيح مخلصنا وكرسناه له تحت اسم اسطفانوس حقاً وتحت اسم تكلا. هذا أول الشهداء الرجال، وهذه أولى الشهيدات لمجد الله، لكي بذلك تكمل وصية معلمنا بولس الرسول: “لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله وأنكم لستم لأنفسكم” (1كو 6: 20). حقاً لقد مجته ببتوليتها و وبشهادتها.

فيجب عليكن أنتن أيضاً، إذ لكن بعد والدة الإله، صورة للكمال مثل هذه، أعني أولى الشهيدات، أن تنظرن نحوها، وأن تتشبهن بجمالها العقلي وأن تلون أرواحكن بألوان الفضائل. وأنتن أيضاً اللواتي تحت نبر الزواج، يمكنكن أن تعشن على نفس الصورة في حياة كريمة طاهرة. حتى حينما يتمجد اسم المسيح تنلن جميعكن الكرامة والنعمة التي تأتي من فوق، لأن الذي يقول: “فإني أكرم الذين يكرموني والذين يحتقروني يصغرون” (مل 2: 3) لا يكذب. له المجد والسلطان الآن وكل أوان وإلى أبد الدهور آمين.

 

 

 

 

 

 

 

الجزء الثاني

عن مخطوطات الأديرة “البرموس”

القديسة تكلا البتول

أولى الشهيدات

وفي نهاية السير ميمر عن البتولية عن مخطوطات الأديرة

 

 

 

 

مقدمة المخطوطة البرموس وما بعدها

هذه سيرة أولى الشهيدات في المسيحية العذراء السامية في طهارتها، المتألقة في قداستها القديسة البتول تكلا، في القرن الأول المسيحي. عاصرت بولس الرسول وسمعت بأذنيها تعاليمه ورأت عظمة أقواله بعينها: فبهرتها حتى استخفت بكل مجد العالم في سبيل عزمها ونذر بتوليتها، وقد كرست نفسها وجسدها للمسيح حتى لترتسم في سيرتها صورة البتولية الطاهرة، اقتداء بسيدتنا كلنا فخر جنس البشر القديسة والدة الإله السماء الثانية مريم العذراء.

أحرى بنا أن نطوّب في هذا المجال العذراء القديسة مريم التي من مجدها انتشر أزكى عبير أفاحه الله على صاحبة السيرة فتشبهت بها وأكرمت وسمت. يتبين لنا بين سطور هذه السيرة النقية نفحات طيبات ونسمات أرق من نسمات الصبح المنير تدفع البرء إلى النفوس وتبعث بالأضواء إلى القلوب النابضة بحياة المسيحية العارفة بالديانة النقية.

نعم، ياليت لنا لغة الملائكة حتى نفهم عظمة مجد البتولية. لك الله أنت أيتها القديسة تكلا! شابهت المصدر الصافي والمجمرة الذهبية حاملة العنبر ينبوع البركات ومعدن الطهر في الأرض والسماء. وقديماً أخذ القديسون مجد البتولية ويقربون إلى إفهام الناس صورتها النقية البارعة وسماتها الزكية التي لا تراها إلا النفس الطاهرة. وقد أتينا بآراء أئمة الدين من العلماء القديسين مما يختص بهذه القديسة.

ونظراً لأن القديس مار يعقوب السروجي العلامة صاحب التشبيهات الرائعة والصور الناطقة أخذ في ميمره الذي أتينا به في آخر السيرة يحلق في سماء مجد البتولية يقطف لنا من معانيها البعيدة المنال ما يقرب صورتها إلى وجداننا. ويتبنها في قرارة نفوسنا، مثل أريج طيب في ضوء خاطف تشمتّه الأنفس لكن لا يلبث أن يذهب عنا فيدفعنا الحنين إلى إجتلاء آثاره ومشاهدة أنواره. أنها نفحات طيبات إذا اجتمعت معانيها وانتظمت مع هذه السيرة ظهرت أبرع جمالاً أقل ما يتناسب مع طهارة صاحبتها. وفيها أجمل قدوة وأعز ذكرى للجميع بالأخص للفتيات يترسمون من بين السطور الخطى ويستلهمون البركة والنعمة من معطي النعم أبي الأنوار.

ولإلهنا المجد والعظمة إلى أبد الدهور آمين.

يوسف حبيب

 

 

 

 

 

 

 

 

القديسة تكلا البتول الشهيدة

حياتها الأولى وإيمانها

إن القديسة تكلا العذراء النقية التي تمدحها بيعة الله شرقاً وغرباً هي الأولى بين الشهيدات كما أن القديس استفانوس هو أول الشهداء. وهي قدوة الفتيات المسيحيات خصوصاً العذارى. ولدت بأيقونية. كان أبوها من عبدة الأوثان. وكانت ذات فكر ثاقب شديدة الرغبة في العلوم، فعين والدها لها معلمين ماهرين وكان علمها النادر مقترناً بجمال بارع، هكذا كانت القديسة تكلا حينما خرج بولس الرسول من أنطاكية ووصل إلى مدينة أيقونية وبشر هناك بالإنجيل المقدس. ولما تكاثر المؤمنون وانتشر اسم الرسول اشتهت أن تراه وتسمع تعليمه فمضت إلى حيث كان الرسول يعلم وكثيراً ما ابتهجت جداً عندما بين لها سمو النصرانية وأوضح عدل وصاياه الطاهرة. وتاقت إلى أن تخاطبه. فلما رآها عرف حالاً أن الله اختارها لخدمته وتقديس اسمه فاهتم بتعليمها زماناً طويلاً وآمنت بالمسيح إيماناً متيناً وارتاحت إلى البراري إرتاحياً فنذرت لله بتوليتها لكي تكون مبتعدة لسيدنا يسوع المسيح وشرعت تسلك في طريق الفضائل الإنجيلية. ولما رأت الرسول مرشدها مسجوناً لكونه مسيحياً باعت لساعتها ما لها من الحلى الثمينة لكي تغيثه في ضيقه. هذا ما رواه القديس يوحنا ذهبي الفم حيث قال للشعب القسطنطيني في مقالته الخامسة والعشربن على أعمال الرسل: “ها إن القديسة تكلا في ابتداء تنصرها قدمت ما عندها من الجواهر لإسعاف بولس الرسول، وأنتم القدماء في هذه الديانة والمفتخرين بالاسم المسيحي لا تساعدون المسيح بشيء تتصدقون به على الفقراء”.

وكانت القديسة تكلا تمضي زمانها منفردة في مناجاة الله جل شأنه متأملة قضايا الشريعة الإنحيلية، ولما كان التغيير الباطن لا بد أن يظهر سريعاً في الخارج سألتها أمها: “من أين لك هذا الاحتشام الجديد وكيف ترفضين التزيين بالحلي خلافاً لجميع العذارى. ألفت الوحدة والإنفراد والصلاة؟” فقالت لها تلك الآية الحكيمة: “لقد سمعت تعليم الديانة المسيحية واستنرت بأنوار حقائقها الساطعة وتحققت بطلان عبادة الأوثان فأسأل الله أن يصنع بك كما صنع بي ويمزّق عن عينيك برقع الغباوة وينجيك من هذه العبادة التي توصلك إلى جهنم وبئس العافية. ثم أعلمي يا أمي أني نذرت عفتي لله تعالى نذراً دائماً وبناء على ذلك فمن المستحيل أن أرتبط مع أحد بالزواج”.

رفضها الزواج واستشهادها

وكان قد خطبها رجل شريف الأصل، فلما سمعت والدتها هذا الكلام أخبرته بما قالت، فأخذ وكل الأقارب يبذلون كل جهد في أن يرجعوا القديسة عن عزمها بحفظ البتولية. وإذ كانوا كل يوم يضيقون عليها خرجت من بيت أمها لتذهب إلى القديس بولس فيجعلها في مكان أمين. إلا أن خطيبها لما عرف يهربها قبض عليها وأتى بها وبأمها إلى الحاكم طالبين أن يلزمها بالزواج وترك الديانة المسيحية.

ولما رآها الحاكم مصرّة على عزمها مع توعده لها قال لها: “اذهبي مع أمك إلى هيكل آلهتنا وقدمي ذبيحة للأوثان وإلا فتطرحين في النار”.

أجابت البتول بشجاعة مقرونة بالاحتشام: “إني لا أؤمن إلا بإله الواحد خالق الجميع ورب الكل لا إله سواء، وأما آلهتكم فما هي إلا أصنام شيطانية وحاشا لي أن أعبد هذه الآلهة الكذبة، فهل من إله غير المسيح؟ له ووحده وإياه أحب، أما آلهتكم فهي أعمال أيديكم. إني احتقرهم  وأرزلهم وأبغضهم، ويعجز أن ينقلني عن عبادة السيد المسيح الذي أحبه أكثر مما أحب نفسي كل عذاب مهما كان شديداً، فلا أخاف النار ولا السيف ولا بقية آلات العقوبات”.

فظن المغتصب أن كلام البتول إنما كان ناشئاً عن العجرفة والغباوة، وخطر له أنها تغير عزمها متى رأت النار متقدة. فأضرموا أمامها ناراً عظيمة ثم تقدموا ليلقوها وسطها. أما هي فرسمت علامة الصليب المقدس ودخلت من تلقاه نفسها وسط الهيب فلم تمسها النار البتة، وهطل بغتة مطر عزير مع أن السماء كانت صافية. وفر الناس هاربين ولم تحترق النار شيئاً من ثيابها حتى ولا شعرة واحدة من شعرها.

ثم دخلت بيت أحد المسيحين وأقامت زماناً تمارس رياضة العبادة أثناء الليل وأطراف النهار شاكرة الله جلت رحمته.

وفي تلك الأثناء جاء إلى المدينة حاكم جديد. فلما عرف ما كان من أمر تكلا أمربإحضارها، ولما مثلت أمامه سألها هي مسيحية فأجابته بطلاقة أنها مسيحية أمام أعيان الأمم واليهود. فأمر أن تقدم إلى ميدان الوحوش الضارية. واجتمع الشعب حول الحلية وأطلقت الوحوش تدنو منها ورسمت علامة الصليب المقدس فجلست جميع الوحوش عند قدميها كالكلاب المستأنسة تلحس قدميها بألستنها، تتعلقها بأذنابها، فلم يرعو من غيه بل أمر أن يعلقوا القديسة برجليها على ذنبي ثورين بريين مفترسين فلم أن يعلقوا القديسة برجليها على ذنبي ثورين بريين مفترسين فلم يتحرك الثوران مع أنهم كانوا ينخسونها بمنخس محمّى.

فاستولى حينئذٍ الذهول على الحاكم وقال للبتول بصوت لطيف: “أخبريني أيتها الفتاة ما الذي يرد هذه الوحوش المفترسة عن أن تؤذيك؟” قالت البتول: “إني أمة الإله الحي”. فوقع في قلبه خوف عظيم وطلب ورقة وكتب عليها: “إني أطلق تكلا النقية عبدة الإله الحي”. وسلم الورقة إلى البتول فذهبت بها سالمة.

وقضت بقية أيام حياتها في منزل منفرد بقرب مدينة سلوكية وآمن على يدها خلق لا يكاد يحصى له عدد، لأن استقامة سيرتها ولهذا لقبها بعض الآباء برسول سلوكية. ثم انتقلت إلى دار النعيم وهي في خلوتها في اليوم الثالث والعشرين من شهر توت بعد إنتهاء الجيل الأول للمسيح، وكان عمرها نحو ثمانين سنة. ودفنت في مدينة سلوكية وقد بني على قبرها في عهد الملوك المسيحين بعد الإضطهاد الكبير كنيسة على اسمها. وفي هذا اليوم تذكار هذه القديسة أولى الشهيدات التي تعادل الرسل. وقد ورد اسمها في السنكسار تحت هذا اليوم ولكنه لم تذكر سيرتها.

 

 

 

مخطوط دير البرموس

ويقول مخطوط دير البرموس: “أن اسم القديسة تكلا تلميذة القديس بولس الرسول وابنته الروحية شهير جداً في الكنيسة الجامعة”. ويشهد القديس ماتوديوس الذي عاش في أواخر القرن الثالث أنها ولدت في ليسكانويا، وكانت متعمقة في درس الفلسفة الدينية بارعة في الشعر: وكانت فصيحة اللسان ولم تكن جرأتها في الخطب لتخرجها عن حدود الاحتشام اللائق بجنسها. وحينما بلغت تلك الصفات التي تتحلى لها هذه الابنة التمام، أرشدها القديس بولس الرسول إلى ذلك درسها العلوم الإلهية. فاقتناع القديسة تكلا بحقائق الإيمان بالمسيح ودخولها في المسيحية كان في نحو السنة الخامسة والأربعين للمسيح، في الوقت الذي كان فيه القديس مبشراً بالإيمان في مدينة أيقونية رأس إقليم لكاؤنيا.

ويقول القديس أمبروسيوس إن هذه القديسة كانت وقتئذ فتاة حدثة وكانت موعودة بالزواج لشاب أممي من أشرف عائلات المدينة المذكورة. وكان غنياً باستحقاقات جزيلة من المال والعلم والكرامة، غير أنه حالما سمعت هذه الفتاة إنذار القديس بولس عن الحياة الأبدية وعن استحقاق حفظ البتولية الفائق الثمن، وقد رفضت تلك الزيجة واعتمدت على حفظ العذرية كي تتفرغ بأكثر إهتمام لعبادة الله راغبة عن كل الكرامات وعن التنعم الدنيوي بأسره فوالدها إذ كانا أممين ولم يعلما ما هو التزام ابنتهما نحو العريس السماوي الذي كانت قد كرست له بتوليتها سراً، قد شرعاً يحرضانها على إتمام وعد الزيجة المتفق عليه مع الشباب فرفضت رفضاً باتاً، بالإضافة إلى اجتهاد العريس وأهله وأقرباء الجهتين والمعارف والأصدقاء بل أيضاً واجتهاد  وإلى المدينة عينه الذي حينما رأى ثبات عزم هذه الفتاة على عدم قبول الزيجة قد عددها بالقصاص والعذاب، غير أن ذلك جميعه قد ذهب سدى من حيث أن القديسة استمرت على عزمها بثبات عجزت معه الوسائط. قد تفرغت مهتمة بالأعمال الصالحة التي تكسب بها رضا عريسها الإلهي يسوع الميسح، متعلمة من القديس بولس الرسول. فقد كانت تستخرج الجهن الزكي من زهرة الزئبق أي تضيف إلى حفظ طهارتها البتولية، كما يفسر هذا الكلام الاستعاري القديس أغريغوريوس أسقف نيصص، تلك الأمانة والتشققات، وقهر الإدارة وضبط الحواس باطناً وظاهراً بنوع يصيرها ميتة عن جميع الأشياء العالمية.

وقد استحال هيام الشاب إلى بغضة قتالة بعد أن تحقق له عدم الفوز بما كان يرجو، ومن ثم استعمل مقدرته التي تخولها له الوظائف التي تولاها في تلك المدينة، واستخدم سلطة القضاة أيضاً الذين كانوا أقرباءه وخلانه، في أن ينتقم لذاته من القديسة وتقدمت الشكايات أنها مسيحية وأحضرت أمام القضاة المغرضين وحكم بأن تطرح للوحوش الضارية لتفترسها، فسيقت إلى المشهد العام وهناك عريت من كل رداء ولكن إحتشامها البتولي وبرارتها كما يقول القديس أميروسيوس كانا لها في هذا الموقف نظير آزار يستر عريها، ثم أدخلت على هذه الصورة إلى الفسحة التي بها كانت السباع مطلقة من قيودها وأغلق وراءها، وكان وجهها باشاًً وبشجاعة فريدة وثبات تنظر الأسد الزائرة كي تأتي وتفترسها. ولكن الباري تعالى قد نزع عن تلك الوحوش الضارية القوة الغضبية فلم تسبب للقديسة الشهيدة أدنى ضرر. بل تقدمت تلعق قدميها بكل أنس.

إن القضاة لما رأوا نجاة هذه العذراء من الأسد أمروا بإخراجها من هناك وطرحها في موقد نار مضطرمة بشدة. غير أن الله الذي أنقذها من الوحوش قد أخمد عنها قوة النار أيضاً فلم تحترق بها حسب ما وأوضح القديس غرغوريوس النزينزي.

وعلى هذه الصورة لم تقدر أن تضرمها قساوة ذاك العريس المتقدة مع غضب والديها الذين قد استحالا حتى صارا جلادين لتعذيبها. ولكن العزة الضابطة الكل قد تنازلت لإنقاذها. حتى طُلب إليها أن تذهب إلى حيثما تشاء، الأمر الذي قد أعطاها الفرصة لتترك بيت أبيها وكل التنعم والعزة والشرف الزمني، فتذهب باحثة عن القديس بولس الرسول لتقبل منه الإراشادات الخلاصية. ثم سافرت إلى أمكنة منفردة حيث صرفت باقي أيام حياتها مباشرة أعمال الصلاح، واقتناء الفضائل السامية مثابرة على الصلاة ومناجاة ختنها السماوي.

 

 

عرض موضوع شهادة القديسة ورأي القديس فيها

 

في هذا الجزء نعرض أقوال القديسين العلماء المعترف بهم ويعتبرون من الحجج القوية. وهم مجموعة من الشخصيات المسيحية العملاقة ومن فطاحلها المنضلعين الثقاة. يقول القديس ماتوديوس: أنه كما أن القديسة تكلا قد فاقت على البتولات الأخريات في اتقان الفضائل، فهكذا قد سمت عليهن في احتمال الجهاد والمجاهرة التي كانت تظهر بها بأكثر إشراق وشجاعة فائقة. وعلى قدر ما كان جسمها رقيقاً لطيفاً ضعيفاً أكثر من ذلك كانت غيرتها وتضحيتها. هذا ما علمناه بالتحقيق مما يخص هذه الشهيدة وما احتملته أجل محبة المسيح يسوع.

وجميع الآباء القديسون وسائر الكتبة القدماء الذين تكلموا عن هذه العظيمة في البتولات قد مدحوها مشيرين إلى أنها قد نالت مع إكليل البتولية إكليل الشهادة أيضاً. لا بل اعتبروها أولى الشهيدات العذارى. كما أن القديس استفانوس هو أول الشهداء الرجال، وبهذا اللقب أي أولى الشهيدات تكرمها الكنيسة اليونانية، ولئن كان الرأي العام يحقق أن هذه القديسة لم تمت بين عذابات الاستشهاد، بل أنها قد أنهت حياتها المقدسة بسلام وبموت طبيعي في سلوكية، ولكن مع ذلك تضفي الكنيسة الجامعة عليها صفة الشهيدة كما تعطي هذه الصفة لكل من احتملوا عذاباً من أجل الإيمان بالمسيح تكفي لأن يعدمهم الحياة الزمنية، لكنهم نجوا بفعل فائق الطبيعة، عاشوا بعد ذلك، وأخيراً رقدوا بسلام، كما قد حدث لهذه القديسة. وتحتفل الكنيسة الرومانية بتذكارها في 23 ايلول، وتحتفل كنيستنا القبطية بعيدها في 23 توت كما و وارد  بالسنكسار.

وقد أضحى اسم هذه القديسة مكرماً معتبراً في كل الأزمنة. حتى أنه حينما تمدح قديسة ما في أجيال الكنيسة المزدهرة بأكثر جمال ويعطي لها ألقاب شريفة، كانت تدعى تكلا الجديدة مبالغة في مدحها. فهكذا أوسابيوس يدعو قديسة شهيدة كانت أخذت إكليل الشهادة في زمانه ومثله القديس ايرونيموس يعظم القديسة ملاني الرومانية بتسميته إياها تكلا الجديدة. ولأجل هذه الغاية نفسها قد اجتهدت القديسة اميليا والدة القديس باسليوس الكبير بأن تخص ابنتها القديسة ماكرينا بهذا الاسم، أي تكلا الجديدة.

والقديس ابيفانوس يشبّه القديسة تكلا بإيليا النبي، وبالقديس يوحنا الإنجيلي، وبأعظم القديسين الآخرين المكرمين. والقديس امبروسيوس يقدم القديسة تكلا لجميع العذارى المسيحيات كنموذج ومثال حي أكمل يجب إتباعه منهن بعد القديسة والدة الإله ملكة السماء والأرض الكلية الطوبى سيدة العذارى.

ماذا تتعلم فتياتنا من هذه السيرة

لتتعلم الفتيات البتولية من القديسة تكلا، وإن حفظ البتولية والطهارة تفضل أي نجاح آخر زمني. وليتعلمن الواسطة الملائمة التي تساعد على حفظ هذا الكنز. فمن القديسة يتعلمن أن حفظ البتولية إنما يكون بالإنفراد والأمانة والصلاة والتأمل المتصل بحقائق الديانة، وكانت القديسة تكلا تستمعها بشوق زائد من فم القديس بولس الرسول، ومسطرة في رسائل هذا القديس ومحررة في كتب أخرى كثيرة جيدة.

ليتعلمن أخيراً أن يجاهدن بكل شجاعة ضد أعداء غير المنظورين أيضاً. الذين يحاولون سليب هذه الذخيرة الثمينة منهن.

فالقديسة تكلا قد احتاجت إلى الجهاد ولم يثبط عزمها غضب الولاة والوحوش الضارة، والنار الآكلة والحديد أيضا. وبواسطة العون الإلهي قد خرجت منتصرة غير خائرة ـ ويلزم البتولات أن يحاربن أنواعا آخرين من الأعداء، يحاربن تعاليم العالم الفاسد والخداع والغش والمواعيد الباطلة والمثل المشككة الضارة التي يرونها في الكثيرات من بني جنسهن اللاتي يفكرن بأن يجمعن بين العبادة واجبات الديانة مع أباطيل العالم ورخاوة العيشة والاجتماعات العالمية والنزه الخطرة. فالانتصار على خداع العالم ليس بأقل شأناً من الانتصار على أسلحة العالم نفسها كما يرى القديس اغسطينوس. فإذاً ما من انتصرن على غش العالم ومواعيده الخداعة.

يقلن أيضاً عند نهاية حياتهن في … النعمة من الله إكليلاً مجيداً نظير القديسة البتول عروسة المسيح تكلا أولى الشهيدات مكافأة عن جهادهن تحت راية ختن أنفسهن الإلهي وهكذا يملكن معه في سعادته إلى الأبد.

ولم نر في كتابات الأقدمين والمحدثين ما هو أشد فعالية وتأثيراً مما كتبه القديس مار يعقوب في ميمره، وتنقله إليك بعد تنقيحه وتهذيبه في الجزء التالي.

الميمر الثامن والثلاثون لمار يعقوب أسقف مدينة سروج على البتولية  والزيجة الفضل

تصاعد اثم العالم في الأرض كمثل الدخان وتكاثرت رواسبه وعميت به الخليقة جميعها. العالم بحر وأمواجه المرتفعة هي الخطايا، تهب أعاصير الخطية وتحركه فتموج أمواجه. خطايا العالم لا تحد بأشكالها كما يرتطم النازلون إلى البحر بأمواجه هكذا ينغمس الداخلون إلى العالم بخطاياه. إن الخطايا في العالم والأمواج في البحر كثيرة جداً. إن فيها الموت الزؤام. في البحر الأمواج متعالية حتى أنها تٌغرق، وفي العالم الخطايا محيطة بالبشر لتُنجِّس. يتكدّر البحر على التجار فيغرقون ويضطرب العالم على داخليه ليخنقهم. وتشبه أنفس الناس في العالم الشرير السفينة التي تنزل إلى البحر وهي معرضة للغرق. كم من التجار غرقوا في اليم ؟. طوبى لمن أهلك الغنى في المد العظيم فأفلتت النفس وهي أكرم المقتنيات. إن النازل إلى العالم يعاني أكثر من النازل إلى البحر لأن الإنسان يختنق فيه والغنى قائم. الويل لمن يستفيد من غنى العالم الشرير يخنق نفسه بأثمه وشروره. كثيرة هي قروح النفس وجراحاتها، وأما الزنا فداء شرير أمرّ منها جميعاً. تعمل الخطايا جميعها خارجاً عن الجسد، وأما من يزنى بجسده فيخطئ. كما كُتِب أنه يهلك جسمه ويفسد نفسه، ويخطئ بجسده المشوب بالنجاسة. خارجًا عن الجسد السرقة والكذب ومحبة الغنى وشهادة الزور والظالم. وهي لا تفسد جسد الإنسان ما لم يختلط في النجاسة. وإن كانت هذه الخطايا الخارجة عن الجسد قاتلة، لكن من يزنى بجسده يخطئ : فبجسده يفسد، بجسده يزل وبجسده يهلك. خطايا العالم جميعها شريرة كلها قاتلة، بجميعها الموت، وطريقها جميعاً إلى الجحيم جميعها تقتل قتلاً لكن جسد الإنسان بالزنا يهلك.

لم يبغض الله شيئاً مثل الزنى من أجله أنزل الطوفان. أنظروا الفساد الذي كان في الأرض كم سجد البشر للأصنام أجيالاَ بعد أجيال وأقيمت التماثيل في الشعوب.

شرف البتولية

البتولية طريق مرتفعة. إنها شاهقة الارتفاع وليس شيئ أعلى منها ارتفاعاً في العالم. البتولية قوام جميع الحسنات. قياساَ على كل ارتفاع لنجدن البتولية أرفع منزلة إذ يليها جميع العالم. هي الرتبة الأولى التي أقام فيها آدم وتباهى بها قبل أن يأكل من الشجرة. بهذه الرتبة الممجدة المرتفعة الممثلة حسناً قامت حواء قبل أن تتكلم مع الحية. كان آدم قبل أن يأكل قائماً بدرجة الكمال، لأن البتولية هي الحسن الطبيعي ولا يقبل حسن البتولية زيادة. فهي تزهو مع الملائكة فوق العالم أتت من لدن آدم، وبلغت نوحاً وأظهرت حسنها لإبراهيم.

البتولية مرتفعة تسمو في العلاء وتجوز إلى مكان مركبة النور الإلهية. لم تنحنِ لآل ابراهيم، ولا لزواج نوح البار الذي عمّر الأرض، لأنها في آفاق غبريال كل يوم تتفرّس، وبغير التصاق تخدم اللاهوت مثل ميخائيل. تسير بالوحدة مصاحبة الملائكة، تنظر إلى القوات العالية الخفية. ليس ثمة التصاق أو زواج بينها.

أجنحة البتولية عظيمة بها تحلق فوق جام سمائي مرتفع بعيداً عن اهتمامات المسكن والأرضيات، ولا تطلب أن تقيم في العالم وتثبت فيه. لا تهتمّ قط بالبنين أو البنات بل تحب الاسم الحسن وتفتخر به.

هذا العالم ليس موضع البتولية فلا تقيم لها فيه ميراثاً بالياً. تولى وجهها المكان العالي بين الملائكة المرتفعين .

البتولية والعفة

الذي يثبت في البتولية هو من الروحانيين، والذي يتزوج ويسير في طريق الحق هو من القديسين، والذي يتنازل إلى الزنا هو الحيوان.

البشر حنس واحد في ثلاث طغمات. منهم من يسير بالبتولية مع الروحانيين بالطرق المرتفعة عن التدابير العالمية. ومنهم من يسير في الطريق الطاهرة الخالية من اللوم والهوان في الزيجة الصالحة. وهناك آخرون ينزلون إلى الزنا ريئست الحياة. فهم بالوحوش والحوانات أشبه.

وتمثل البتولية والعفة والزنا الملائكة والبشر والحيوانات. فالبتولية أصحابها من طغمة غبريال ومعهم تسرع في الطريق المرتفع عن الزواج. وفي طريق العفة الحسنة، نوح وابراهيم الممثلان حسناً إلهياً مع كل القديسين. ومع الزناة بنات قايين في الطريق الممثلة فخاخاً وهواناً.

يقوم البتول مع صفوف غبريال ويحظى بالمتكأ مع ابراهيم من في الزيحة كان عفيفاً. أما من كان زانياً فهو في الطريق التي للزناة. وإن طريق الزناة ظاهرة وكذا طريق القديسين فهي البتولية التي كانت مختلطة مع الملائكة.

إن حد حسن البتولية هو مريم التي صارت أمًّا للآله. في البطن حلّ في البتول وأعطاها إكليل البتولية. طريقها أرفع من كل الطرق، وليس ثمة حسن يبلغ حسن البتولية. ولا طهارة في العالم تعدلها من كل مساكن الأرض ومجالسه لم يحسن له أن يحل إلا في البتولية. حين وضع تدبيره لينزل إلى الأرض ويسكن فيها اختارها من أجل حسنها وحل فيها. وأرانا ظاهراً أنه يحب البتولية حتى تصير البتول أمه جسدانياً

حسن في عينيه أن يحل بالجسم الكلي الطهر الذي للبتول وفيها يأتي الميلاد الثاني جسدانياً. روح القدس جلاها وحسنها، أعنى البتول والرب القدوس نزل وحل فيها من أجل حسنها، ومن رام أن ينظر إلى حسن البتولية فبمريم يتأمل حملها لسيد الحسن تفرس فيها وأنظر إلى أي حد ترى السماء أوضع منها، نعم إلى أي حد ارتفعت الأم البتول عن كل المرتفعين، ومن ثم صور لك مثال البتولية. هوذا الحسن جميعه منها. الخليقة الأولى كانت ممتلئة حسناً إذ لم تفسد. البتولية بغير زواج هي الجوهرة. فتأمل مقدار رفعتها وأنظر إلى هوة الزنا. تلك في السماء بين الملائكة وهذه في الأعماق ، البتولية بين الملائكة يليها المتزوجون متكئون مع ابراهيم في الملكوت وفي أسفل هوة عظيمة ممتلئة ناراً يصلي فيها الزناة والفسقة.

لا يعلو ارتفاع البتولية إلا الأزلي أنها رأس جميع الحسنات لقد ورثت جنان شجرة الحياة، وأهلت لذلك الفردوس الممتلئ بالخيرات، اتكأت على صدر ابن الله وتعلمت منه الأسرار المخفية من التلاميذ هي عروس الملك: مخطوبة له لنفرح معه، يتطلع فيرى حسنها إنها تنتظر الله كل يوم ليكون ختنها. قد قبلت الخاتم وخطبت لغير المائت ، ومع الأموات لم ترتبط.

تتباهى بذلك النور العظيم. لا يدانيه العرش الزمني، لأن عرسها عندما تنحل السماء والأرض، ويدعو البوق وتقوم الموتى من قبورهم ويكون الصراخ:”هوذا العريس قد أقبل أخرجن للقائه” حينئذ ترفع البتولية رأسها لاستقبال العريس فهي تنتظر ذلك العرس لتفرح بالعريس المتكئ مع القديسين الذي تنتظره مع الملائكة، وبتبجيل عظيم يعقد فرحها في النور ويمتد بين الأشجار الروحانية في بيت الملكوت يسطع النور واليها وبأساس بينها تبرق اللهب. إنه مستقر متسع مرصوف ممتلئ نوراً عظيماً. في فرح العريس بالعروس إذ صعدت من الجهاد يوضع لها أكاليل النور العظيم فتتعزى بعد الانتظار وتفرح لأنها عبرت خوف السلاطين وازدادت بالعالم: العالم الشرير ذي الفخاخ والشهوات المؤدية إلى الهلاك. هناك تسر لأن جوهرتها لم تسرق في المكان الذي عاث فيه اللصوص والسراق فساداً. تفرح لأن سفينتها المتعبة لم تتأذ في العالم الشرير.

في العرس ترتفع رأس البتولية فهي تنتظره ولأجله إزدرت بالحسن الزمني لأجل هذا الحسن السمائي أبغضت كل حسن باطل وشبعت من خيرات العريس الملك. في النور رضيت أن تبغض اهتمام الجسد وهي بثياب تتباهى.

مبارك هو الذي أعطى إكليل المجد، ويتمجد اسمه القدوس إلى أبد الآبدين آمين.