مقال القديس مار سويريوس عن أماكن اللهو ومداومة التناول من الأسرار المقدّسة

مقال القديس مار سويريوس

عن أماكن اللهو

ومداومة التناول من الأسرار المقدّسة

 

عن الذين يذهبون إلى المسرح بعد الصلاة

إنّ رؤية المسرحيات الهزلية مضادة للناموس. يجب أن نتّقي بأعمال التوبة، الغضب القائم؟ ونشترك في الأسرار المقدّسة مرّات كثيرة.

مرّة أخرى أتقدّم بينما تقصرني تمام المقدرة عن الكلام أو التعليم، وفيهما نفعٌ جزيل. أراني في ظلمة أدركتها سحابة الهموم المادية التي تربط الكنيسة المقدّسة غير المادية بطريقة غير لائقة. فبعض الأشخاص يحمّلونها أحمال غريبة لا علاقة لها بالخدمة الدينية. أفلا يضار رجال الدين بإثارة الاضطرابات الخارجية داخل الكنيسة؟ إنّي عن اضطرار أشعر أنّي مدفوعٌ عنوةً بهذه الضرورة الحاضرة. فمثلي مثل إنسان يحترق في النار. نعم، إنّي مجبر، ليس عن اختيار.

ما هو العجب إذا كنت وأنا أبرز من نفسي قروحًا عديدة لا تُحصى، أتحمّل هذا الألم ولا أستطيع إلى السكوت سبيلًا. إنّ إرميا النبيّ الذي تكرّس من بطن أمّه يرى أنّ شعبه يستهزئون بأقواله بدلًا من أن يحزنوا، وما كانوا يشعرون أو يرتجفون خشية الغضب الذي كان يتهدّدهم. كاد النبي يركن إلى الصمت، لكنّه اشتعل واحترق قلبه واضطرّ للكلام. لذلك كان يقول: “لأَنِّي كُلَّمَا تَكَلَّمْتُ صَرَخْتُ. نَادَيْتُ: ظُلْمٌ وَاغْتِصَابٌ! لأَنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ صَارَتْ لِي لِلْعَارِ وَلِلسُّخْرَةِ كُلَّ النَّهَارِ. فَقُلْتُ: لاَ أَذْكُرُهُ وَلاَ أَنْطِقُ بَعْدُ بِاسْمِهِ. فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي فَمَلِلْتُ مِنَ الإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ”[1].

كفى بذلك مثالًا. إنّ عقدة لساني ليست محكمة، تأتي زوبعة الحوادث، ويسود الاضطراب عند الذين يحاربون الكلمة المستقيمة. ولو أنّي أفكّر مثل إرميا، فإنّه بالنسبة إليّ أيضًا كانت كلمة الرب بابًا للإهانة والاستهزاء، وراودني القول ضرورة، كما قال النبي: “لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه”[2]. إنّي أصلّي لكي يوضع على شفتيّ باب فأضطرّ إلى الصمت الكامل، وإلاّ فإنّ الضحك والاستهزاء الظاهر على كلمات الرب لن يدعاني أعظ عن الصلوات في الكنيسة. والدموع والاعتراف بالخطايا والصوم، وبالاختصار وضع الأمور في نصابها وهو مترتّب على التوبة، يسبّب ما هذه تهدّدنا عن كثب ونراه فوق رؤوسنا، وإنّ سماعه لمرعب.

أتذهبون إذًا، أو بالحري كثيرون منكم، لأنّه لا يجب أن أتّهمكم جميعًا – لمشاهدة سباق الخيل وإلى أماكن التهريج ومسارح الترف، وتقولون إنّكم ما انقطعتم عن الصلوات وعن الاجتماعات في الكنيسة وأنتم تشتركون في مشاهدة المسرحيات؟ ألا سمعتَ بولس الرسول الذي كتب إلى أهل كورنثوس: “لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين، ولا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين”[3]. ألم يقل الحكيم حسنًا جدًا: “واحدٌ يبني وواحد يهدم فماذا ينتفعان بذلك غير التعب. واحدٌ يصلّي وواحدٌ يلعن، فصوت أيّهما يستمع السيد؟ من يغتسل من الميت ثمّ يمسّه ماذا ينتفع من غسله؟ هكذا الإنسان الصائم عن خطاياه ثمّ يعود يفعلها، ترى من يسمع صلاته وماذا ينفعه صيامه؟”[4]

هذا حال الذين يتصرّفون ضدّ الناموس وهم ممتلئون شرًّا. يتصوّرون أنّهم يشتركون في المائدة المقدّسة والكأس المقدسة وهم يأكلون ويشربون ويفعلون ما يحلو لهم. ويشهد الكتاب المقدّس عن أمثال هؤلاء الناس قائلًا: “لأنّهم يطعمون خبز الشر ويشربون خمر الظلم”[5].

ربما تقول: وأي شرّ في النظر إلى سباق الخيل؟

إنّه شرّ مستطير وإنّي آتٍ بالردّ صراحة.

أوّلًا: إنّ كل عرض قُصد به الولاء لأحد الآلهة الذين يُسمّون باسم كاذب، ويُقام تكريمًا له، فَلِنبتون Neptune عرض الخيول، ولمرقور Mercure عرض المصارعين الذين يُحاربون وحدهم، ولأرطميس Artémis عرض المصارعين الذين يُحاربون الحيوانات، ولباخوس Bacchus الروايات المسرحية. كيف يرتضي الله مسرّة الشياطين؟ كيف نركض نحو هذه المناظر التي أنكرناها وفقًا للأحكام حينما انخرطنا في خدمة المسيح؟

لنشترك في أعمال الطاعة له، ونكون مستعدّين لنستحقّ العماد الإلهي الخلاصي. هذه المناظر هي في الواقع من أعمال الشيطان وتكريم لأعياده التي جحدناها.

ثانيًا: حتّى إذا قلت: “إنّ المسرحيات ليس الغرض منها تكريم الشياطين، لكن لأجل سرورنا”، فإنّنا نُغضب الخالق إذا كنّا نستعمل الحيوانات غير العاقلة بطريقة مضادّة لوصاياه. لقد خُلق كلّ حيوان منها لكي يكمل احتياجاتنا في العالم. وليس لأجل نشوة زائدة وغير نافعة. فالحصان قد أُعطي للناس حتى يستطيع من يمتطيه أن يتمّ تنقّلاته بسرعة، فيخرجون ضدّ المحاربين الّذين يأتون إليهم. إنّه عون لهم يساعدهم في الحرب ضدّ الأعداء. هذا أيضًا ما قاله ذلك الذي كان يكلّم أيوب وسط الزوبعة والسحاب: “فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: هَلْ أَنْتَ تُعْطِي الْفَرَسَ قُوَّتَهُ وَتَكْسُو عُنُقَهُ عُرْفًا؟ أَتُوثِبُهُ كَجَرَادَةٍ؟ نَفْخُ مِنْخَرِهِ مُرْعِبٌ. يَبْحَثُ فِي الْوَادِي وَيَقْفِزُ بِبَأْسٍ. يَخْرُجُ لِلِقَاءِ الأَسْلِحَةِ. يَضْحَكُ عَلَى الْخَوْفِ وَلاَ يَرْتَاعُ وَلاَ يَرْجِعُ عَنِ السَّيْفِ. عَلَيْهِ تَصِلُّ السِّهَامُ وَسِنَانُ الرُّمْحِ وَالْحَرْبَةِ. فِي وَثْبِهِ وَغَضَبِهِ يَلْتَهِمُ الأَرْضَ وَلاَ يُؤْمِنُ أَنَّهُ صَوْتُ الْبُوقِ. عِنْدَ نَفْخِ الْبُوقِ يَقُولُ: هَهْ! وَمِنْ بَعِيدٍ يَسْتَرْوِحُ الْقِتَالَ صِيَاحَ الْقُوّاد والهُتاف.”[6]

ومكتوب أيضًا في الأمثال: “الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أمّا النصرة فمن الرب.”[7]

جُعل هذا الحيوان من أجل خدمة حياة الإنسان وليس لكي تهلكه بأن تجعله يدور حول السيرك سبع مرّات، وأنت تخرج العربة تلو العربة، وتسحق رجليه بسرعة العجلات؛ ولا لكي تتهلّل وتصفّق حينما يسقط سقطة بائسة مؤسفة. ليس هذا ما يأمرك به ويعلّمك إيّاه الكتاب الإلهي، بل العكس. حينما يفعل هكذا، تنطق عليك الكلمات المكتوبة الدالة على القسوة والظلم القائلة: “الصديق يراعي نفس بهيمته، أمّا مراحم الأشرار فقاسية”[8].

إنّ قول بولس الرسول: “ألعلّ الله تهمّه الثيران”[9] له معنى آخر. وفعلًا، حينما كان يكلّم أهل كورنثوس كان يقول إنّه يلزم: “أنّ الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون”[10]. “مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ؟ وَمَنْ يَغْرِسُ كَرْمًا وَمِنْ ثَمَرِهِ لاَ يَأْكُلُ؟ أَوْ مَنْ يَرْعَى رَعِيَّةً وَمِنْ لَبَنِ الرَّعِيَّةِ لاَ يَأْكُلُ؟ أَلَعَلِّي أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَإِنْسَانٍ؟ أَمْ لَيْسَ النَّامُوسُ أَيْضًا يَقُولُ هَذَا؟ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ مُوسَى: «لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا». أَلَعَلَّ اللهَ تُهِمُّهُ الثِّيرَانُ؟”[11].

هكذا إذًا ما تضمّنته الوصية القانونية التي تأمر بألاّ نكمّ ثورًا دارسًا. وما جعل الله الناموس لمجرّد العدل نحو الثيران. أيّ مكروه إذن وما يضيرنا لو نستبدل حلبة السباق بالخدمة الخاصّة بها بعناية ولا نسرف في الاهتمام بملء بطونها في غير مناسبة.

إنّه بهذه الوصية يعلّمنا أنّه من العدل أنّ الذين يعملون يتغذّون من نتاج تعبهم. لذلك يضيف بعد ذلك: “أَمْ يَقُولُ مُطْلَقًا مِنْ أَجْلِنَا؟ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِنَا مَكْتُوبٌ. لأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَرَّاثِ أَنْ يَحْرُثَ عَلَى رَجَاءٍ وَلِلدَّارِسِ عَلَى الرَّجَاءِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي رَجَائِهِ”[12].

من الواضح جدًّا أنّ الله يعتني بكلّ شيء ويهتمّ بكلّ شيء ويحبّ كلّ شيء. يقول داود النبي في المزامير: “تفتح يدك فتُشبع كلّ حيّ رضًا”[13]. ويقول الحكيم أيضًا: “وترحم الكلّ لأنّك قادر على الكلّ، وتعرض عن خطايا الناس متوخّيًا التوبة”[14]. وكُتب أيضًا: “رحمة الإنسان على قريبه وأمّا رحمة الرب فهي على كلّ ذي جسد”[15].

ليس لأنّ بعض أنواع الحيوانات قد أُعطِيت للناس لكي يقتلوها ويأكلوها، لا يلزمنا أن نعاملها برفقٍ في حياتها ونشفق عليها، ولا نجعل من تعب الجياد وإنهاكها وموتها تجارة باطلة، لأجل لذّة أو لعبة شيطانية. وعلينا نحن الذين يجب علينا أن نقتدي بالله أن نكون رحماء: “فكونوا رحماء كما أنّ أباكم أيضًا رحيم”[16].

إنّ عرض الجياد عن طريق التفنّن في المشاهد الماكرة من الشيطان، يُمارس فيه هذا التنافس الذي يشبه السحر وضرب من ضروب القتل القاسية غير القانونية، يقوم بها المحترفون الذين يُظهرون أنفسهم شجعانًا ضدّ الصغير الضعيف. هذه المناظر يمكن أن تغضب الله جدًّا. إنّها تستحقّ رعودًا عديدةً وبروقًا ملتهبة. حتّى إذا كان اللعب لا تشوبه مثل هذه الأشياء فإنّنا نحكم حسب ثماره “لأنّ من الثمر تُعرَف الشجرة”[17]. هذا قرار المسيح الربّ الصادق. ولكن ما هي ثمار معارك الجياد هذه؟ إنّها خلافات وتجديف، معارك واضطراب، ضجيج وهجمات بقذف الحجارة، حرب بين المواطنين، حريق وقتال. ولطالما سقط الأبرياء من المشاهدين في إحدى الخطايا. إمّا أن يصرخ أو يتشاجر أو يجدّف أو يترك نفسه يستبدّ به الغضب بما لحقه من الإهانة. فأيّ عقاب يكون لذلك؟ عندما يحيد الإنسان عن الله ويبتعد عنه، هل هناك من عقاب أشدّ؟

واسمع بخصوص الضوضاء التي تُعتَبر أقلّ الأشياء الأخرى: “وقال الرب إنّ صراخ سدوم وعمورة قد كَثُر وخطيّتهم قد عظمت جدًّا”[18]. هذا يكفي لكي يبيّن عاقبة الضوضاء يقول الرب أيضًا بواسطة النبي أشعياء: “إِنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَانْتَظَرَ حَقًّا فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ وَعَدْلًا فَإِذَا صُرَاخٌ”[19].

إنّ الصراخ موضوع الاتّهام. وهل يستحقّ التشاجر المديح؟ ليس هذا أبدًا. انظر كيف يضعها الله، بواسطة حزقيال النبي، موضع اللّوم الكبير حينما يقول: “لكن بيت إسرائيل لا يشاء أن يسمع لك. لأنّهم لا يشاؤون أن يسمعوا لي. لأنّ كلّ بيت إسرائيل صلاب الجباه وقساة القلوب”[20].

ربّما تتسائل لماذا تُحسَب المشاجرة من العصيان وقساوة القلب. إنّ بولس الرسول يضع كلّ هذه الرذائل معًا كأنّها من طبيعتها أن تُحزن وتُغضب الروح القدس. وهو يكتب فعلًا: “ولا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتِمتُم ليوم الفداء. ليرفع من بينكم كلّ مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كلّ خبثٍ”[21].

لماذا إذًا نذهب إلى عرض سباق الخيول؟ إنّنا نفعل ذلك لكي تحملنا كل هذه الرذائل أشبه شيء بتيار فاسد وسط بحيرة، ولا نذهب لكي نصلّي لله في هدوء أن يغفر لنا خطايانا. ننشغل بأمورِ العالم ونُجرَف ضدّ إرادتنا إلى الضوضاء أو إلى كلمة التجديف أو إلى الغضب.

لكن إذا سمحتم، لنفحص المسارح والأماكن المخصّصة للعرض، وسنرى أنّها ضارّة ومُفسدة، وليست كما يحسبونها موضوعَ لهوٍ ومرح. إنّي أترك جانبًا الفرقة الموسيقية والرقص الجماعيّ الصاخب الذي يُسيء إلى رجولة الرجال وتلك الأغاني التي تُعلّم الميوعة وتحلّ قوّة الروح وتزرع فيها سعير الأهواء، فتطوّقها حتّى تتوه تحت عبء المجون والملذّات. وماذا نقول عن المشاهدين للتمثيل الهزلي ومنهم المستهزئون؟ يثيرون سخط الله وغضبه. نضحك لدى رؤيتنا رجلًا يصفع آخر قد خلقه الله ونفخَ في وجهه نفخةَ الحياة، وقد شرّفه كلمة الله المتأنّس لأجلنا أيضًا، حينما قام من الأموات ونفخ في وجه تلاميذه قائلًا: “اقبلوا الروح القدس”[22]. وإنّ مَن كان موضع تكريمٍ كثيرٍ، يُضرَب ويُهان ويُزدرى به.

نعتقد أنّ ذلك يثير شيئًا كثيرًا من الرهبة والرعب حتّى عند القوّات السماويّة. ثمّ قُلْ لي، أتضحك على الأشياء التي يجب أن تبكي منها وتنتحب عليها؟

أين الاتّحاد المكرّم، أيُصبح موضع مزاح؟ أين المجتمع العفيف؟ إنّه مثل الزاني تسحقه السخرية. فهل تكون أعضاء الجسد وإنجاب الأطفال وبقاء جنسنا موضع استهزاء بطريقة مشينة كريهة؟ فأين السرّ المليء بالحياة والطهارة؟

احترمْ شكلَكَ الّذي خلقَهُ الله أيّها الإنسان. احترم شكلَكَ الذي خلقه الله الاحترامَ كلّه. احترم الخليقة الثانية الإلهية التي من أجلها شاركك كلمة الله باتّخاذه جسدًا من العذراء. لماذا تضحك من ذاتك، مثل أولئك المجانين الذين يمزّقون أجسادهم ويأكلون لحمهم بدون شعور؟

لماذا إذًا تنوح لدى سماع أخبار الجرائم وتودّ لو هلك المخطئ جزاءً وفاقًا لما ارتكبه من وزر، وتحزن وأنت ترى مطلع الشمس. إنّي أخالك تظنّ أنّ كلّ شيء قد انقلب رأسًا على عقب…

إنّك تكتب ضدّ الزواني حكمًا بالسجن وتقرّر أنّ الموت عقاب خفيف له… لكن حينما تشاهد المسرحيات الفاسدة في مسارح اللهو الممقوت، فإنّك تنفجر ضاحكًا، وتُظهر شعورك لاهيًا وتزعم أنّ هذا العرض باعث للسرور والمرح.

بأيّ عينٍ سوف تنظر إلى زوجتك حينما تدخل البيت؟ كيف تطالبها بالطهارة وأنت تشاهد الفسق الظاهر في تلك العروض الماجنة غير اللائقة. لقد جمعت العديد من الأهواء، وغذّيت عقلك بصور الرذائل وهي مثل النار المحرقة. ربما يقول قائل: “ماذا أعمل ومسرح الألعاب مفتوحٌ يناديني لمشاهدة العرض”.

لو كان مغلقًا ما لزم السؤال. إنّه بذلك تكون الضرورة أوجبت عدم الذهاب وليست الإرادة. وبما أنّ المسرح مفتوح، فمُرْ أمامه راكضًا بثبات وحزمٍ، ودَعِ اللاهين لا تزرهم وإن كانوا وقوفًا على قدم الاستعداد. أظهرْ أنّ كلّ هذا باطل وليس له منفعة. فإذا كانوا يعدّون المسرح ويجهّزونه ويجذبون من يأخذون مكانهم فيه بحمية ويخدعونهم، لا يكفي عذرًا. إنّ من يسرق الملابس يستطيع أن يقول أيضًا أنّه رأى الملابس والذهب وكان مجرَّبًا بالإغراء مخدوعًا. ومن ينظر نظرة الشهوة دون حذر، يعتذر بجمال النساء. أبذلك نعتبره غير مذنب؟ ولكنّنا لا نجهل أنّ من يبتعد بثباتٍ عن الإغراء ما استطاع إلى ذلك سبيلًا يستحقّ الإكليل ومجازاة النصر لأنّه يمارس الفضيلة. فاهربْ إذن بكلِّ قوّتك من مشاهدة العروض التي فيها اختناق الروح. إنّها هوة الشيطان بما يزيّنه من المكر ويدبّره من الخسارة التي نتحمّلها دون أن نشعر، وإنّ فيها الهلاك المؤكّد بسهولة.

إذا كان أحد يجرّك إلى ذلك، فجرّه في اتّجاه مضادّ إلى الكنيسة قائلًا له كلمة الكتاب المقدّس هذه: “لا تملْ يَمنةً ولا يَسرةً. باعدْ رجلَك عن الشر”[23]. أظهرْ له بفيض الكلام الفرقَ بين الطريقين، مبيّنًا نهاية كلّ منهما. ادحضْ الميل إلى هذا اللهو القصير المدى. إنّ حالته فانية. اجعل فيه المخافة، صِفْ له محكمة المسيح القادمة. وقُدْهُ إلى رجاءِ الحياة الأبدية السعيدة الْمُعدّة للصدّيقين. وأحطْه بعنايتك، لا تجعله يخسر خلاصه. من تراه يُقاوم كثيرًا في الجهاد، ويجتهد أن يكسب بمكر أو بعنف يحاول أن يجرّك إلى الرذيلة، حينئذ الجأ إلى الزجر وارفض بعض الصداقة أو بعض الصحبة الشرّيرة. أسرعْ بالهرب من الشرّير. تذكّر المشرّع الروحاني الذي يأمرك بأن تغضب وليس أن تُخطئ. هكذا غضب فينحاس، وعندما ضرب الزناة وطعنهم بحربته، حينئذ توقّفتْ الآفة.

“فَلمَّا رَأَى ذَلِكَ فِينَحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الكَاهِنُ قَامَ مِنْ وَسَطِ الجَمَاعَةِ وَأَخَذَ رُمْحًا بِيَدِهِ، وَدَخَل وَرَاءَ الرَّجُلِ الإِسْرَائِيلِيِّ إِلى القُبَّةِ وَطَعَنَ كِليْهِمَا الرَّجُل الإِسْرَائِيلِيَّ وَالمَرْأَةَ فِي بَطْنِهَا. فَامْتَنَعَ الوَبَأُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل”[24].

هكذا غضب موسى أكثر الناس وداعةً واتّضاعًا، ضدّ الذين كانوا يتعدّون وصايا الله، بينما كان يتحمّل بوداعة وتواضع إهاناته الشخصية. حينما قامتْ عليه عائلة داثان وأبيرام وجميع عائلة قورح بطريقة مهينة بسبب الحسد، سقط رئيس مشرّعي الشعب على وجهه على الأرض أمامهم، وهو يرجو شاتميه ألا يعرّضوا أنفسهم للغضب الآتي من فوق، ولما استمرّوا في عصيانهم وكبريائهم، أُرسِلوا في النهاية إلى جهنّم”[25].

يجب علينا أن نتحمّل باتّضاع وبنزعة فلسفية الإهانات والظلم الذي يصيبنا، أمّا تلك التي تكون موجّهةً ضدّ الله وضدّ مجده، فيجب علينا أن نكون متيقّظين لمحاربتها بأقسى ما يُمكن. لذلك قال أحد الأنبياء: “ليصبح الإنسان محاربًا شجاعًا”. إنّ التواضع والوداعة في غير فهمٍ هما من خواصّ الخراف وليس من خواصّ العقلاء. لذلك وُجد الغضب في نفوسنا، لكي يحثّنا نحو الشجاعة، لنستعمله ضدّ ميوعة الأهواء. ونجاهد به من أجل نواميس الله ومن أجل الحقّ أيضًا.

لكنّي لا أعرف لماذا أراني بعد العظة الّتي ألقيتُها عليكم في الكنيسة، وكنتُ أتوقّع أن أراكم تفعلون أعمالًا حسنة، لا أزال أتكلّم عن وسائل تجنُّبِ الشرّ، متحدّثًا عن الفضيلة والرذيلة. إنّنا نحتاج إلى أن نمارس الأعمال الحسنة كثيرًا لكي ننجو من ذلك الغضب العتيد الذي يتّخذ طريقه الآن إلى مدن أخرى، لم يبتعد بعد عن مدينة الإسكندرية ولا يزال يلتهم الناس الأصحّاء. إنّه يزداد وينتشر، لتعودوا إلى التوبة فتمقتون ليس فقط المسارح، بل الكباريهات ومتاجر الخمور، ومحالّ اللحوم النيئة والمطبوخة والأطعمة الفاخرة من كلّ نوع. وفي الحداد، تتغذّون فقط بالخبز والخضروات اليابسة، لا تفعلون شيئًا آخر سوى أن تتضرّعوا إلى الله كلّ الأيّام بصلواتٍ حارّة.

لنتمسّك إذًا بهذه الصرامة لكي تظهر التوبة عن طيب خاطر، وعلاوة على منفعةِ تجنُّبِ الغضب، ننال الثواب المجزى ونتجنّب الغضب الآتي. ولا اتّجاه نحو الخير إلاّ وله ثوابه. إنّ كنّا عرضةً لمثل هذه الأهوال تصيبنا، فماذا نحن فاعلون لكي نهرب منها؟ قبل أن تقع تلك الأهوال فلنعكف ساهرين في حكمة. فإنّه إذا كنّا بهذا التأديب والمخافة لا نتوب، أفلا نكون جهلاء وغرباء عن الله، ونُسلَّم للهلاك الكامل، ونسقط في الجب العميق؟

هذا نجده بديهيًّا في قول إرميا النبيّ، فهو يقول: “تأدّبي يا أورشليم لئلاّ تَجفُوَكِ نفسي، لئلاّ أجعلَكِ خرابًا أرضًا غير مسكونة”[26].

إنّي في رعبٍ وارتجاف أتوقّف عند هذه الكلمات، ناطقًا بصوتٍ عالٍ بهذه الآية من كتب بولس الرسول: “فإذًا حسبما لنا فرصة، فلنعمل الخير للجميع ولا سيّما لأهل الإيمان”[27]. إنّنا في حاجة شديدة لكثير من بُعد النظر. إنّنا نتوقّع صدمة الشياطين ضدّنا، لنتقوّى بجدار المعونة الإلهيّة التي هي مخافة الله. “ملاك الربّ حالٌّ حول خائفيه وينجّيهم”[28].

إنّ ملاكًا واحدًا حافظًا حولك لَهُوَ بمثابة قوّة جيش كبير، فهو يقوم مقام جمع من العسكر. وهناك أيضًا ملاكٌ حارسٌ موكلٌ بحفظ كلّ من يخاف الربّ. لذلك حينما نتكلّم عن أناس ذوي عفّة نقول: الملاك حينما قرع بطرس على باب البيت، وكان مقبوضًا عليه وموضوعًا في السجن بأمر هيرودس، قال الناس في الداخل للفتاة التي كانت تُنبئ بحضوره وهم غير مصدّقين وفي حيرة: إنّه ملاكه[29]. وما العجب في ذلك؟ إنّ لكلّ طفلٍ صغير، ملاكه الحارس المعيّن الخاصّ به. ويقول الرب في الإنجيل: “انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأنّي أقول لكم إنّ ملائكتهم في السموات”[30]. وليس وجه الله مرئيًا. كيف نرى الكائن غير المرئي؟ لكنّها عادة الكتاب المقدّس أن يدعو العمل الذي يعمله الله لأجلنا وجهًا. هكذا قال المرتّل: “وجهك يا ربّ أطلب. لا تحجب وجهك عنّي”[31]. “أضئ بوجهكَ على عبدك”[32]. إذًا الملائكة ينظرون أي يتأمّلون في أعمال الله وعنايته بالأطفال الصغار، فيحفظونهم بسهرهم بعنايةٍ ويقظة.

افهمن إذًا أيّتها النساء، أيّ ضررٍ لهؤلاء الأطفال الصغار تتسبَّبْنَ فيه حينما تُرسلنَهم إلى المسارح! أنتنّ تحرمنَ من تحببنَهم من المعونة والحفظ الملائكي، وتعددنهم لنصيبهم خسارة الخبيث. هذا من أعمال الأعداء وليس شأن الأمّهات. لنركض إذن كلّنا إلى الكنيسة، الشبّان والشيوخ والرجال والنساء، الجميع من كلّ نوع حتّى بذلك نجعل حفظ الملائكة لنا غير مضطرب، وبالأخصّ باشتراكنا في الأسرار المقدّسة التي نتطهّر بمقدرتها ونتقوّى. حينئذٍ يبقى الملائكة قريبين ليس فقط لأجل حفظنا، بل إكرامًا لسيّدهم: ويكونون ثابتين ومواظبين على حفظ أرواحنا وأجسادنا مثل مساكن ملائكية يسكن فيها ملك الملوك.

لا يقل لي أحد: “إنّي أخشى التناول من الأسرار المقدس وأفرز نفسي عنها”. إنّ بولس الرسول يستوقفني فعلًا حينما يقول: “لأنّ الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميّز جسد الرب”[33]. ولهذا السبب أتقرّب بحذرٍ مرّةً أو مرّتين في السنة من المائدة الرهيبة.

قلْ لي أهذا تعتبره مانعًا أن يقول بولس الرسول بأن تطهّر نفسك كلّ يوم فتتمتّع بهذا الطعام الخالد الذي يجب ألاّ تأكل وتشرب منه بدون استحقاق؟ إذا كانوا يذكّرونك حينما تذهب لمقابلة ملك بأنّه يجب عليك أن تدخل بطريقة لائقة وبمظهر متواضع، فإنّنا لا نقول إنّهم بذلك يُبعدونك عن مسكن الملوك، بل بالحريّ إنّهم يشجّعونك على الدخول والتمتّع بالكرامة بتقدّمك بطريقة لائقة.

وأيضًا حينما تتقرّب مرّة واحدة في السنة، فإنّك لا تتطهّر مُقدَّمًا لطول السنة، بطريقة لائقة بهذا اليوم الذي فيه تريد أن تتقرّب. وإن يكن الأمر كذلك، فما معنى تفكيرك الخاطئ؟ فإنّك حينما تكون قد جمّعتَ دنسَ شهور عديدة وكوّمتَ الخطايا، فإنّك بالأحرى تتقرّب بطريقةٍ غير لائقة. لأنّ من يتقرّب باستمرار، يعرف أنّه مستعدّ تمامًا لكي يتقدّم أمام ملك الملوك ويحيّيه ويقبّله في داخله. فهو يتجنّب خطايا كثيرة بكلّ قوّته وكلّ مقدرته. أمّا أنت بعد أن تحدّد مرّة واحدة تتناول فيها ثمّ تمتنع بعد ذلك، فإنّك تواجه مهلة طويلة، وفي اطمئنان بدون خوف تأتي ما تستمرؤه حتّى ذلك اليوم، فلا يكون مدخلًا لملك الملوك، إذ يجد مسكنك مُغلقًا.

يجب علينا إذن أن نتطهّر على قدر الإمكان ونتقدّم باستمرار من الطاهر وحده. إنّ الشمس تراها العيون السليمة، لكن هذا ليس عاصِمًا لمن كان نظرهم ضعيفًا، بل هم يحتقرون علاج أنفسهم ويُحرَمون كلّيًا من ضياء أشعّتها.

ألا تعرف أنّ هذه الذبيحة الروحانية غير الدموية كانت ترمز إليها الذبيحة التي كانت تتمّ قديمًا بواسطة الدم، حينما كانوا كلّ صباح وكل مساء يقدّمونها تكفيرًا عن الخطايا؟ فيجب أن تعرف أنّه لا يوجد سوى ذبيحة واحدة هي ذاتها التي كانت حسب الناموس تقدّم في الصباح وفي بدء معرفة الله، وهي حسب الإنجيل، قد ذُبِحَت حتّى نهاية العالم بطريقة روحية أكثر كمالًا. وكانت تُدعى أيضًا ذبيحة دائمة بدون انقطاع.

لو حذا الناس حذوك فتقدّموا مرّةً واحدةً في السنة، لكانت الذبيحة بلا تقدمة، ولانقطعت صفةُ الاستمرار. الكفّارة تتوقّف، والمذبح يظلّ بدون خدمة. من يحمل خطيّة العالم الذي يحتاج إلى التطهير في كلّ وقت؟ ترى في كمّ من الأمور غير المعقولة كنّا نسقط لو أطعنا ما تمليه عليه خواطرنا الداخلية بدلاً من أن نطيع الناموس.

إذن فلنشغل أنفسنا بالأعمال الحسنة بكلّ الوسائل ونشترك في الذبيحة المحيية، لأنّه لا يمكن لأحد أن يؤمن ولا يشترك فيها.

من يريد أن يحيا الحياة الحقيقية لا يستطيع أن يحيا بدون أن يستنشق الهواء. فإنّنا نحن الذين آمنّا بالمسيح نحيا به ونتحرّك. “فإن كنّا قد مُتْنا مع المسيح، نؤمن أنّنا سنحيا أيضًا معه”[34]، “لأنّنا إن عشنا فللرب نعيش، وإن مُتنا فللربّ نموت. فإن عشْنا وإن متنا فللربّ نحن”[35]. له المجد الدائم إلى الأبد آمين.

 

الهوامش :


[1] ار 20/ 8-9

[2] ار 20/ 9

[3] 1كو 10/21

[4] حك يشوع 31/23-26

[5] ام 4/17

[6] أي 39/ 19-25

[7] أم 21/31

[8] ام 12/ 10

[9] 1كو 9/9

[10] 1كو 9/ 14

[11] 1كو 9/ 7-9

[12] 1كو 9/ 10

[13] مز 145/ 16

[14] حك 11/ 24

[15] حكمة يشوع 18/ 13

[16] لو 6/36

[17] مت 12/33

[18] تك 18/20

[19] اش 5/7

[20] حز 3/7

[21] أف 4/ 30-31

[22] يو 20/22

[23] أم 4/27

[24] عد 25/ 7-8

[25] عد 16/24الخ

[26] ار 6/8

[27] غلا 6/10

[28] مز 34/7

[29] راجع أع 12

[30] مت 18/10

[31] مز 27/ 8-9

[32] مز 31/16

[33] 1كو 11/29

[34] رو 6/8

[35] رو 14/8