المقال 98 عن نبوة أشعياء النبي التي ذكرها متى البشير

المقال 98

عن نبوة أشعياء النبي التي ذكرها متى البشير

هوذا فتاي الذي اخترته

 

 

المقدمة

تمهيد

القضية الأولى

موضوع التساؤل الأول

عدم مهادنة من يلزمهم التوبيخ

ما معنى هذا؟

دينونة الغاضبين

ترفق المسيح:

القضية الثانية

عدم امتداح المعجزة باب للتجديف

تجديف اليهود

التجديف ضد معجزات المسيح لا مغفرة له

الحكم على المجدفين

التفسير الأول

عقوبة من يجدف بعد تمام التدبير الإلهي

بين المغفرة والحكم

التفسير الثاني

الهراطقة مجدفون

التفسيرالثالث

إدانة من يخطئ بعد تذوق التعاليم كمجدف

اشتراط الندامة والتوبة

عقوبة الارتداد

 

 

المقدمة

 

أقوال القديس أنبا ساويرس عن نبوة أشعياء النبي التي ذكرها متى البشير:

“هو ذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ حتى يخرج الحق إلى النصر. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (نت 12: 18- 21).

وعن قول مخلصنا يسوع المسيح:

“لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يفغر للناس. ومن قال كلمة ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 31- 32). مترجم عن الفرنسية من الكتاب الأول من الجزء الخامس والعشرين من مجموعة.

 

 

 

 

 

 

 

تمهيد

يقول القديس ساويرس: إني أيقنت أنكم ما كنتم تستمعون إلى الكتاب الإلهي بإهمال. بل بعناية عظمى، وبألأخص الأناجيل المقدسة، ولم يكن لا تقبلون التعبير الظاهري للكلمات ذاتها بدون فحص، إنما تبحثون أيضاً عن الحكمة الكامنة فيها. وإن الروح القدس يعرف الذين يستمعون هكذا ويبحث عن الآذان التي لها هذه الصفة  ويمتدحها قائلاً: “قلب الفهيم يقتني معرفة أذن الحكماء تطلب علماً” (ام 18: 15).

لذلك أريد الآن أن أعرض علناًً لما كان للبعض فيما مضى موضوع شك بعد قراءته، حتى سألني قوم عنه. وليتكم تصيرون أذكياء. لتسمعوا الكلمات الإلهية . فإنه من المستحسن أيضاً أن تكون المنفعة التي تحصل من ورائها مشتركة بين الذين يشتركون في الخبز الواحد وفي الكأس الواحد، لأنه أيضاً بالحقيقة نحن الذين للمسيح كلنا جسد واحد. “كأس البركة التي تباركها أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح. فأننا نحن الكثيرين خبز واحد وجسد واحد لأننا جميعاً نشترك في الخبز الواحد” (1كو10: 16- 17).

 

 

 

 

 

 

القضية الأولى

 

يجب إذاً أن قول فيم كانت الكلمات موضع شك. قال متى البشير في الفصل لذي قرأ حينئذ: “فعلم يسوع وانصرف من هناك. وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً. وأوصاهم أن لا يظهروه. لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل هوذا فتاي الذي أخبرته. حبيبي الذي سرت به نفسي أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصبح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ حتى يخرج الحق إلى النصر. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (نت 12: 18- 21).

إن هذه العبارة: ” هوذا فتاي الذي أخبرته. حبيبي الذي سرت به نفسي”، من ناحية قيلت عن الابن باسم الله الآب. وفي قوله: “الذي سرت به نفسي”، وقوله: “أضع روحي عليه” ما يليق بالتدبير الإلهي وبأساليب التجسد المتواضعة.

حقاً لقد أخذ الله الكلمة الوحيد هذه الأقوال على نفسه حينما جعل نفسه باكورة كل الجنس البشري، باكورة طاهرة خالية من الخطية؛ وحينما اختير بسببنا نحن الذين كنا مرفو      ضين ولسنا اخياراً؛ إذ صارت المسرة  من أجل ابن الله بسبب الذين كانوا مكروهين، وكان محبوباً؛ أخذ الروح كإنسان بسبب الذين كانوا فارغين من الروح، وهو بالحقيقة الذي له الروح بالجوهر كإله.

وهذا واضح، فإن الذي أنبأ بوضوح جداً في اشعياء النبي قال: “روح السيد الرب على لأن الرب مسحني لا بشر المساكين وأرسلني لا عصب منكسري القلوب لأنادي السببين بالعتق والمأسورين بالإطلاق” (اش 61: 1).

أليس القول واضحاً معروفاً لدى الكافة؟ ألا تلمع معاني الكلمات مثل البرق المضى؟ أنه يقول: “إن الروح الذي في كإله كان على حسب التدبير إلهي، لأني تنازلت لأدعو نفسي المسيح بما إني مسحت لأجل العالم كله.

 

موضوع التساؤل الأول

 

هنا أمر يستحق التقصي: كيف قال عنه هذه الكلمة بالنبي اشعياء: “ولا يصيح” (مت 12:  19) بينما يقول يوحنا البشير بوضوح: “وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً أن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؟ (يو 7: 37). وكيف قال : “ولا يسمع أحد في الشوارع صوته” (مت 12: 19)، بينما قال مخلصنا الصالح بوضوح للذين أمسكوه وقت الآلام، بالحري للجموع –لأنه يجب ألا تخرج في شيء عن الكلمات الملهم بها من الله- : “في تلك الساعة قال يسوع للجموع كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني” (مت 26: 55)؛ وبينما كان الرسل يقولون له: “يا معلم الجموع يضيقون عليك ويزحمونك وتقول من الذي لمسي” (لو8: 45)، “وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز وببشارة الملكوت. ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب” (مت 4: 22)؛ وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يعلم في مجامعها، ويكرز  ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب (مت 9: 35) وكان يجول في الجليل وفي اليهودية حتى ذاع خبره في جميع سورية، كما هو مكتوب في (مت4: 24). كيف إذاً حسب كلمة اشعياء النبي لم يسمع أحد في الشوارع صوته؟

ومن ناحية أخرى كيف لم يكسر القصبة المرضوضة وهو الذي بكلمة واحدة جعل شجرة التين تجف؟ كيف يتفق ذلك مع النبوة؟

التفسير

تأمل المعنى إذا أردت، وسوف ترى الاتفاق العظيم في كلمات الروح. في الواقع أن هذه الكلمة “لا يصيح” لا يجب أن تفهم أنها قيلت عن صيحة القانون والتعليم؟

فأحياناً يقال بطريقة لائقة بالله أن المسيح يبدو بالحقيقة أنه يصرخ أو يصيح كثيراً. ولكن عبارة “لا يصيح” قد قصد بها الضجة أو الصيحة التي تكون نتيجة المرارة والمخاصمة وتكون غريبة عن كل عذوبة.

لذلك فإن البشير فعلاً حينما كان يشرح فكرة النبي اشعياء قد وضع أولاً هذه العبارة: “لا يخاصم”، وتلا ذلك: “لا يصيح” (مت 12: 19) مبيناً بذلك أنها صحيحة التي تأتي عن الخصام والتي قيل عنها مخلصنا الصالح لا يصيح بها.

يذكر ذلك اشعياء النبي بأسلوب مختلف وبطريقة غامضة. فيقول أولاً: (لا يصيح) بدلاً من قوله: “لا يخاصم” نجده يقول: “لا يكل” (اش42: 4) أي لا يتوقف عن الصياح .

هكذا الحال الذبن يصيحون بسبب المخاصمة والمناقشة، أنهم لا يتوقفون ولا يتساهلون ولا يتنازلون عن صراخهم، بل يصيحون بضجيج بدون توقف وبدون ترتيب في الهواء بلا فائدة.

وقد كتب بولس الرسول إلى أهل أفسس بخصوص هذا الضرب من الصياح: “ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث” (أف 4: 31).

هي أيضاً صرخة أهل سدوم؛ فكان الرب يقول عنهم : “إن صراخ سدوم وعمروة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جداً” (تك 18: 20).

وأيضاً كان بينهم اسرائيل بالنبي اشعياء قائلاً: “إن كرم رب الجنود هو بيت اسرائيل وغرس لذته رجال يهوذا. فانتظر حقاً فإذا سفك دم وعدلاً فإذا صراخ” (اش 5: 7).

كيف إذاً يصرخ صرخة لك تكن أدعى للشتاء بل نابعة من المرارة والخصام، وهو الذي يقول لتلاميذه: “احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 29)؛ وكان يقول بلطف لليهود الغاضبين الذين كانوا يريدون أن يقتلوه وهم أشبه بالحيوانات المتوحشة: “لماذا تطلبون أن تقتلوني” (يو 7: 19)؛ وأيضاً: “ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا انسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله ابراهيم” (يو 8: 40)؛ وهو الذي كان يود على خادم رئيس الكهنة الذي لطمه على خده بطريقة مهينة: “إن كنت قد تلكمت ردياً فاشهد على الرديء وإن حسناً فلماذا تضربني” (يو 18: 32).

إذاً كما أنه لم يثر ضجيجاًً، هكذا أيضاً لم يعلم في الشوارع الكبيرة باحثاً عن المجد الباطل . بل كان يعلم في الهيكل وفي أماكن العبادة حيث مكان التعليم, ويبدو أن معظم تعاليمه كانت في الأماكن المقفرة، على الجبل، وعند شاطئ البحيرة، فلم يظهر في أي مكان أنه كان يعلم في الشوارع.

وقد شهد مخلصنا نفسه أنه تحت كلمة “الشوارع” ينطوي معنى المجد الباطل، وذلك حينما قال بخصوص الفريسين المرائين: “فأنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا “الشوارع” وكلمة “المجامع” قريبتان.

وهكذا من ناحية، تحمل عبارة: “لا يخاصم ولا يصيح” معنى الحلم والسلام، كما تشير عبارة: “ولا يسمع أحد  في الشوارع صوته” (مت 12: 19) من ناحية أخرى، إلى أنه لك يكن يحب المجد الباطل والظهور والكبرياء والإباحية التي تأتي من المجد الباطل.

 

عدم مهادنة من يلزمهم التوبيخ

ومع أن المسيح إلهنا كان يلوم الفريسيين ويؤنبهم، إلا أن ذلك لا ينفي لطفه تعالى. فإنه في بعض الظروف يجب علينا أن نتيقظ ونقف بشدة ضد القساوة ولا نحتمل في مهادنة، أو بالحري بطريقة من فقد الإحساس، أولئك الذين يحتاجون  التي التوبيخ والتقويم.

ولهذه الكلمة أيضـاً: “ولا يسمع في الشوارع صوته” (اش 42: 2) معنى آخر رفيع جداً. لأن المسيح إلهنا كان يعرض كلمة التعليم بأمثال، وقس سرية، مثل شيء كثير الثمن؛ وهذا الأسلوب فيه تنويه، كيلا تعطي  الأشياء المقدسة للكلاب. “لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا دوركم قدام الخنازير” (مت 7: 6)؛ إذ أن هؤلاء هو الذين يبقون في الشوارع. وكذلك حينما سأله تلاميذه: “لماذا تكلمهم بأمثال” كان يقول لهم: “قد أعطي لكم أن تعرفوا أسار ملكوت السموات. وأما لأولئك فلم يعط” (مت 13: 10- 11).

أن المسيح إلهنا لم يقصف القصبة المرضوضة، أي ضعف اليهود، ولم يطفئ الفتيلة المدخنة، أي غضب اليهود المثار ضده الذي اشتعل وضعف وتحطم أيضاً في نفس الوقت الذي أثير فيه.

هذه هي الفتيلة التيل التي احترقت في نفس الوقت الذي اشتعلت فيه. فصارت بالأخص طعاماً للدخان وليس طعاماً للنار. فأن مخلصنا الصالح لم يطفئ هذا الغضب حين كان يحارب. فبينما هو يستطيع ذلك تحمله حتى يجعل الغاضبين بدون وجه حق الذين لا ينصلحون مستوجبين الدينونة. فلم تكون هناك حاجة إلى إطفائه، وقد أراد الرب تركه مشتعلاً أن يظهر عدله.

ولم يكتب البشير هذه الكلمة “قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا تطفئ. إلى الأمان يخرج الحق” (اش 42: 3) بينما توجد في نبوة اشعيا.

وتعبر أيضاً نفس هذه النبوة المتعلقة بالفتيلة المدخنة التي لم تطفأ والتي ترمز إلى غضب اليهود. عن شيء آخر، فهي تبين صبر من احتمل هذا الغضب. إن الفتيلة تحترق جون أن تلف “حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.

 

ما معنى هذا؟

من خواص الفتيلة التيل أن تشتعل فجأة ثم تتوهج وتحترق دفعة واحدة. ولم يطفئ السيد المسيح غضب اليهود، بل حينما احترق واشتعل ضده مراراً، لم يسمح أن يكظموه فيضيع، أخرجه محتملاً للصليب بإرادته وبعد قيامته، فكان للنصر وهو منفذ حكمهن هو الذي حاكمه لليهمود  حينما كان بياطس والياً. وهو نفسه الذي حاكم الوسواس حينما أتى إلى الآلام لأجلنا، إذ يقول: “وأما على دينونته فلأن رئيس هذا العالم قد دين” (يو 16: 11).

 

 

دينونة الغاضبين

وأيضاً: “الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع” (يو 12: 31: 32). وأن الأمم في الواقع قد ترجمت باسمه بعد أن أظهر الحق للنصر.

أرأيت كيف كلمات النبوة تتفق مع الأناجيل؟ ويجدر بنا أن نربط بين ترنيمة داود وبين هذه الكلمات. قال: “لكي تتبرد في أقوالك وتزكو في فضائلك” (مز 15: 4)

وقيل في اشعيا النبي بهذا المعنى: “حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته” (اش 42: 4). وقال متى البشير: “حتى يخرج الحق إلى النصرة” (مت 12: 20). وقد ذكر الكتاب الإلهي النصر في سفر هوشع إذ قال: “من يد الهاوية أفديهم من الموت أخلصهم. أين أوباؤك يا موت وأين شوكتك يا هاوية. تختفي الندامة عن عيني” (هو 13: 14)، وأيضاً: “أين شوكتك يا موت . وأين غلبتك يا هاوية” (1كو 15: 57).

ونستطيع ببساطة أن نفهم أيضاً قوله: “لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ حتى يخرج الحق إلى النصر”. (مت 12: 18- 20).

ففي زمن الألام الخلاصية، أخذ مخلصنا قصبة بوداعة من الذين كانوا يعذبونه ويستهزئون به، ولم يكسرها حينما اتكأ عليها كمن يحتمل الخزي بصعوبة. وكذلك بيلاطس حسب كلمة يوحنا البشير: “أخرج يسوع وجلس على الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية “جباثا” (يو 19: 13).

هذا البلاط كان الميدان، وفيه حسب النبوة: “ظلم هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (اش 53: 7)، فلم يسمع لأحد صوته في الشوارع.

هذه النبوة التي ناقشناها الآن قد ذكرها متى البشير لأنه قال قبلها أن يسوع شفى رجلاً كانت يده يابسة. “وإذا إنسان يده يابسة. فسألوه قائلين هو يحل الابراء في السبوت. لكي يشتكوا عليه” (مت 12: 10). ثم أضاف: “فلما خرج الفريسيون تشاوروا لكي يهلكواه. فلم يسوع وانصرف من هناك. وتبعه جموع كثيرة فشفاهم جميعاً. وأوصاهم أن لا يظروه” (مت 12: 14- 16).

 

 

 

 

 

ترفق المسيح:

إذاً فلأن ربنا يسوع مع أن الله بطبيعته وهو قسوة الآب الأزلي، قد تواضع حينما احتمل إهانات الفريسيين وكان حليماً إذ أتم التدبير الإلهي دون أن يرعد صوته، مع أنه كان في استطاعته أن يميت دفعة واحدة كل الذين يقومون ضده، لذلك أبرز البشير النبوة التي ذكرت القصبة المرضوضة التي لم تقصف والفتيلة المدخنة التي لم تطفأ مثالاً أكل هذا التنازل وهذه الوداعة، لكي يبين أن صبره كان يتخطى الصعوبات وفقاً للتدبير الإلهي، دون أن يظهر عظمة ألوهيته، كمن يرفق أن يلبس الفتيلة المدخنة فتطفأ في الحال، أو أن يتكئ على القصبة المرضوضة قتنكسر في الحال. أو أن يتكلم كلمة فمه فيسمعه أحد من الذين في الخارج. ويبدو أن هذا كله قد قيل مثالاً ليبين وداعته وسلامه.

 

 

القضية الثانية

علينا أيضاً أن نناقش السؤال الآخر الذي سألوه عما قرأ، بالإضافة إلى ما ذكر، وأن نجد له الحل الذي يناسبه. قال مخلصنا: “كل خطية وتجديف يغفرللناس. وأما التجديف على الروح القدس فلن يفغر للناس” (مت 12: 31).

هل فعلاً إذا جدف أحد ضد الآب أو ضد الابن قائلاً أن الأشياء الكائنة هي كائنة بذاتها، ولم تخلق، وليست العناية الإلهية التي تحكم الكون هي التي تدير الكائنات؛ أو إذا كان أحد يعترف بوجود الله ولكنه ينكر وجود أقنوم الابن، ويقبل أن يقول أنه لا يوجد على الإطلاق؛ فهل تنظر إلى تجديف هذا الإنسان كأنه تجديف محتمل يستحق المغفرة، مع أن الثالوث الأقدس مساو في الكرامة وفي الجوهر وفي الملك وفي المجد؟ أن ما قيل بطريقة غير محددة وبصفة عامة قد حدده مخلصنا الصالح فيما عقبه من البيان بعد. فبعد أن قال بطريقة بسيطة مرسلة: “كل خطية وتجديف يغفر للناس. وأما التجديف على الروح فإن يغفر للناس” (مت 12 :22).

 

عدم امتداح المعجزة باب للتجديف

فنحن نستخلص المعنى تبعاً لذلك حينما نقرأ الجملة كلها وليس جزماً منها فقط. وقد حدثت فعلاً علامة إلهية عجيبة من جهة السيد المسيح بواسطة الروح القدس الذي فيه بالجوهر وبالعطايا التي يهبها هو نفسه للآخرين. فحين كان يجب على اليهود أن يمتدحوا العجزة، تفوهوا بكلمات التجديف. فقد كان هناك رجل مجنون أعمى أخر، يكافح في نفس الوقت ثلاث عاهات، وفضلاً عن أنه كان ينقصه الحاستان الرئيسيتان، كان ينقصه أيضاً عمل العقل –وهكذا حال الذين يتملكهم الجنون الذي يأتي من الشيطان- فشفاه الرب بطريقة تليق بالله وبمحبة في نفس الوقت، حتى بالحقيقة تكلم هذا الرجل الأعمى الأخرس وأبصر. وأن جماعة اليهود الذين يحاربون نعمة الله المستعدون للتجديف قالوا: “هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24).

يجب أن …… ونتأمل الكتاب المقدس. فحينما كان مخلصنا يتكلم موبخاً هذا التجديف قال بعبارات خاصة أن الشيطان لا يخرج الشيطان، وأنه هو نفسه بروح الله يخرج الشياطين. حينئذٍ استعمل الكلمات المذكورة إذ يقول: “لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس. وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس” (مت 12: 31).

تجديف اليهود

فيما أن اليهود كانوا عمياناً فيما يختص بالحالة المتواضعة التي أتخذها الله الكلمة مخلصنا بسببنا ….، وإذ كانوا يتخبطون في الظلام كانوا يصطدمون بهذه الحالة، وكانت بالنسبة لهم “حجراً حجر امتحان حجر زاوية كريماً أساساً مؤسساً” (اش 28: 16). كما أعلنت النبوة سلفاً: “ويكون مقدساً وحجر صدمة وصخرة عثرة لبني إسرائيل وفخاً وشركاً لكان أورشليم” (اش 8: 14). وكانوا لا يتصورون أبداً الوجود قبل الدهور، والميلاد الغير جسدي من الآب، والمساواة وعدم التغيير فيما يتعلق بالمولود منه ولكن كان لهم رأي أرضي فكانوا يقولون: “أليس هذا ابن النجار. أليست أمه تدعى مريم وأخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا” (مت 13: 55)، وأيضاً: “ألسنا نقول حسناً أنك سامري وبك شيطان” (يو 8: 48)،و أيضاً: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف. فأنك وأنت انسان تجعل نفسك إلهاً” (يو 10: 33).

هذا إذاً مجمل ما كانوا يقولونه مجدفين ضد ابن الإنسان حينما أعثرهم التدبير الإلهي، ويقول ربنا أنه يغفر لهم حينما يكون عذرهم جهلهم بالسر ويتنازل ابن الله الكلمة وبتواضعه في التأنس.

 

 

 

التجديف ضد معجزات المسيح لا مغفرة له  

لذلك فعلاً قيل: “يغفر للناس” (مت 12: 31) ولم يقل: “لكم”، وكأنه يقول: “إني أغفر هكذا للناس الذين لا يعرفون عمق التدبير الإلهي”. أما الإهانات التي كانوا يصنعونها مجدفين ضد العلامات الإلهية وضد المعجزات العجيبة التي كان يتممها ويصنعها بالروح القدس الذي فيه من نفس الجوهر، حينما كانوا يقولون: “هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24). فهذه لأنها تتعلق بالتجديف ضد الروح القدس، ولها ما يليق بالله تبعاً للأحداث ذاتها، فهي لا تترك لهم منفذاًَ لعذر: ويقول السيد المسيح أنه لن تغفر لهم لأن ذلك لم يكن عن جهل يحجب رؤيتهم، لذلك أيضاً قال هذه الكلمة بوضوح: “فلن يغفر للناس” (مت 12: 31).

فكان يجب عليهم فعلاًً كعقلاء، ألا يتصرفوا بطريقة مجردة عن الفهم ولا يجدفوا بخصوص ما هو واضح وعروف.

الحكم على المجدفين

إن أعماله تعالى أمام أعيينا تذيع ما يليق بالله. لأنه في حالتين عرض مرة مغفرة ومرة أخرى الإدانة فحقق بذلك أن الغضب ليس بسبب الإهانة فحسب –لأنه في مكان آخر دعوه سامرياً وبه روح نجس- بل بسبب تجديفهم المتعلق بالمعجزات الإلهية وبسبب جهلهم أيضاً.

التفسير الأول

يجب أن نفهم أن هذا التجديف ضد ابن الإنسان، كان ليغتفر ويعتبر أقل من التجديف على الروح القدس، إلى زمان الصليب، لأنه بالحقيقة حتى ذلك الزمان كان المسيح يخفي رقعة إلوهيته بكلمات وبأعمال تتفق والتدبير الإلهي.

وبعد الصليب والقيامة من الأموات، لا يعرف بعد حسب الجسد، ولا يأتي مرة ثانية بأعمال وبكلمات متواضعة بشرية، بعد أن عمم التدبير الإلهي، كما يقول بولس الرسول: “إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن من الآن لا نعرفه بعد” (2كو 5: 16)، حينئذ لن يعطي أية حجة المغفرة للذين يجدفون ضده.

ولا يجدفون بعد ذلك هكذا ضد ابن الإنسان وقد تخطى ظروف إخلاء ذاته، وصعد في العلا، وهو متجسد، وجلس مع الآب عن يمينه، مع أنه بطريقة غير جسدية بالحقيقة يملأ الكون وقد كان وهو كائن بطريقة لا يستطيع أحد أن يفهمها، فوق كل شيء.

 عقوبة من يجدف بعد تمام التدبير الإلهي

لذلك فعلا قال: “ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. أما من قال الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 22).

فبالنسبة لمن يجدف ضده بعد تمام التدبير الإلهي، و كذلك بالنسبة لمن يغضب ضد الروح القدس ويهينه ويخط أبعد عن المغفرة، لن تكون له أية مغفرة؛ ونقول مع ذلك:

إذا أحد يبقى في نفس التجديف حتى آخر حياته. ويترك الحياة في هذه الحالة. لأنه إذا كان قد توصل إلى التوبة حين كانت أيام هذه الحياة معطاة له بوفرة. فمن الواضح والمؤكد أن التوبة نفسها تغلب كل خطية، فيكون مؤكداً أنه يمنح المغفرة للذين يتوبون حقاً كما يليق.

ولنضرب مثلاًً ليصبح قوله أكثر وضوحاً. نفترض أن اثنين قد جسدنا في هذا الوقت. الواحد من جهة قد اصطدم بالجسد وقال ليسوع: “فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً” (يو 10: 13)؛ والآخر من جهة أخرى، إذ كان غاضباً لدرجة التجديف ضد العلامات الإلهية التي كان تتم بالروح القدس، فقال: “هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24) وكلا الاثنين انقاذاً بالخطايا العظيمة نحو الطريق الذي يؤدي إلى الموت.

بين المغفرة والحكم

هناك من ناحية، مثلاً لمن جدف ضد ابن الإنسان، ويغفر له؛ وهذا الأخير من ناحية أخرى الذي أخطأ ضد الروح القدس، يحكم عليه، فإنه حتماً لن ينال المغفرة في هذا الدهر ولا في الدهر الاتي:

التفسير الثاني

والبعض يقولون أن ربنا قال هذا أيضاً: “وأما التجديف على الروح القدس فلن يغفر للناس” (مت 12: 31) ويجري مجرى النبوة.

الهراطقة مجدفون

فأنه في الواقع يعرف مقدماً، كما يقولون، أن بعض الهراطقة الكفرة، الذين كان مقدونيوس رئيساً لجماعتهم، كانوا سيقولون بأن الروح القدس غير مساو للآب والابن، لأن مخلصنا نفسه قال في الإنجيل بخصوص البارقليط: “لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آنية” (يو 16: 13)؛ وأيضاً: “ذلك يمجدني لأنه مما لي ويخبركم” (يو 16: 14) يقولون أنه لذلك استخدم طوعاً هذه الكلمة الشديدة. فتواضع مع الحرص وقال أن التجديف ضد الروح القدس يكون أفظع من التجديف ضده، مانعاً سلفاً الهراطقة من أن يقتحموا فهم المجدف ضد الروح القدس كأنه أصغر أو ليس من ذات الجوهر كالآب والابن.

التفسيرالثالث

إدانة من يخطئ بعد تذوق التعاليم كمجدف

وهناك من يعطي نفس هذا الفصل شرحاً ثالثاً أيضاً، ويأتي في ذلك بمعاني في غاية الارتفاع. فإن تأنس المسيح مخلصنا يشغل من التعاليم الصدارة؛ هي تلك التعاليم التمهيدية التي يسلمها المعلمون شيئاً فشيئاً، بشأن ما يتعلق بالله، المبتدئين الآن في الدين الذين يسلكون حسب الإرشادات الأولى، أما المعرفة المتعلقة بالثالوث الأقدس فهي منيعة بالنسبة للعامة ولا يستطيع أحد أن يصل إليها.

لكن المسيح الواحد من الثالوث، كلمة الله، بعد أن تجسد بدون استحالة، وتأنس وتنازل هو نفسه طوعاً، وفد لنا المعرفة المتعلقة بذاته وبالآب وبالروح القدس، حينما تكلم معنا كما يكلم الأطفال، لأنه شابهنا واشترك في نفس الجوهر معنا فيما خلا الخطية وتأنس طوعاً؛ لذلك فعلاً كان يدعو نفسه “الطريق” و “الحياة” “أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى” (يو 10: 9)، “أنا هو الطريق والحق ولحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب وإلا بي” (يو 11: 6). فبين لنا أنه قد أصبح الباب والبداية بالنسبة للفكر المتعلق بالثالوث الأقدس ومعرفة الله الذي على الكل.

اشتراط الندامة والتوبة

فإذا كان أحد، وهو يتذوق الآن تعاليم الدين، من الذين هم أيضاً في مدخل المعرفة، يخطئ ضد التأنس ويجدف ضد ابن الإنسان، فسوف يغفر له؛ وتكون له مغفرة إذا كان يتوب توبة جديرة بهذا الاسم، كما قلت سابقاً. في هذه الندامة يكون كل شيء؛ ولا شيء على الإطلاق غير خاضع لهذا العلاج. ومع ذلك فالنسبة لتلك الخطايا العظيمة جداً؛ فإن الشفاء ذاته يكون صعباً، ومؤلماً ومتعباً للغاية ويحتاج لدموع كثيرة وأتعاب وآلام.

عقوبة الارتداد

لكن إذا كان أحد، بعد أن ثابر طويلاً، وبعد أن تدرب تداريب الحكمة الإلهية ونال  بالتقدم في الفضائل والتأمل، المواهب الروحية التي يعددها بولس الرسول مثل كلمة المعرفة النبوة الأشفية وصنع المجزات (1كو 12: 8- 10)، ثم يضل بعيداً عن الحق ويسقط، فمن يكون هكذا لن تكون له بعد ذلك مغفرة، كمن جدف ضد الروح القدس.

فلا يخدع أحد نفسه أو ينخدع، لأن ربنا قال هذه التجاديف لن تغفر ال في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي، وهو يميز بين الخطايا ويتصور الأضداد فمن جهة لا توجد خطايا تغفر في هذا الدهر، وهي من جهة أخرى تغفر في الدهر الآتي. فمن المعروف جيداً أن هذه الكلمة: “لا في هذا العالم ولا في الآتي” لا تتعلق بالتمييز العكسي، لكن بالامتداد الزمني –لأنه لما كان يريد الأشعار بالموقف المخيف، فقد أضاف ما هو معترف بصحته وما تأكد بأنه لا يغفر في هذا الدهر ولا في الدهر الآتي أيضاً.

ومراراً نجد أن الله نفسه ….. في تهديد فيما يكون لا اعتراض عليه، لكي يعلم المخافة، فمثلاً حينما يقول بفم موسى النبي: “انظروا الآن. أنا أنا هو وليس إله معي. أنا أميت وأمي. سحقت وأني أشفي وليس من يدي مخلص” (تث 22: 39).

فإذا كان لا يريد، فمن ذا الذي يستطيع أن يخلص بالقور من بين يديه من سقط مرة بين يديه؟ أنه هكذا يقول هنا أيضاً، أنه لن يغفر له في هذا الدهر. ولن تقاومني في ذلك؛ وبالتالي، في الدهر الآتي، فاعتبر إلى أين ترسلك الخطية التي لا تغفر في هذا الدهر. ومن المؤكد حقيقة أنها تبعثك في الدهر الآتي إلى العذاب الذي لا نهاية له السكن هناك، وإلى الدينونة، حسب قول داود النبي في المزامير: “لأنه ليس في الموت ذكراك. في الهاوية من يحمدك” (مز 6: 5).

ولأننا بصفة عامة، ننتبه كلنا إلى الأشياء التي تسبب الحزن المليئة بالعمل، في هذا الدهر، بينما لا تهتم إطلاقاً بالدهر الآتي، لذلك فإن مخلصنا قال أولاً: “وأما التجديف على الروح القدس فإن يغفر الناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له. وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في العالم”. ثم أضاف ما يعترف به بالتأكيد أنه حقيقي لكي يلقى الخشية في القلوب، فقال: “ولا في الآتي” (مت 12: 31- 32).

لنخشن إذن، نحن أيضاً، من أن نفسي …. تقترف خطايا عظيمة بسبب الإهمال الكثير حينما لا تهتم بالخطايا الصغيرة الاهتمام الكافي، وكما قال بولس الرسول، حينما تحزن الروح القدس الذي به ختمنا
لأجل يوم الخلاص “ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختم ليوم الفداء” (أف 4: 30). ولكن في ساعة لتفتيش ذواتنا، معتبرين بعناية هل المسيح فينا بالأعمال. لأنه كما يقول الكتاب الإلهي “مخيف الوقوع في يدي الله” (عب 10: 31)، وفي الدهر الآتي النار لا تطفأ ليتنا تنجو منها جميعنا وتنال ملكوت السموات، بالنعمة   والمحبة التي لربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والسلطان مع الآب والروح القدس الآن وكل آوان وإلى دهر الداهرين آمين.