المقال 81 عن ضريبة الدرهمين

المقال 81

ضريبة الدرهمين

 

المعارف الروحية

مصدر ضريبة الدرهمين

ضريبة ابكار بني اسرائيل

فدية الضريبة

دلالة الدراهم

المسيح وضريبة الدرهمين

ضلالة اريوس وابولنير

اضواء الانجيل

لماذا دفع المسيح ضريبة الدرهمين

صيد الناس

كيف نسدد الدين

 

 

 

المعارف الروحية

قلب ان يشرع القديس في التفسير يسهّل المقال عن الكنوز الروحية المدّخرة في كلمة الله، تلك الكنوز التي يجدها من يبحث عنها بنشاط ويجّد في طلبها.

كثيراً ما اخذت بالكلمة المقدسة الواردة في الامثال التي تقول: ( مجد الله اخفاء الامر ومجد الملوك فحص الامر) (ام25: 2). فكيف يتمجد الله بأن تكون كلماته خفية وليست ظاهرة؟ سوف تعرف ذلك بوضوح متى علمت قوة الكلمة. فما هو خفي يدفعك الى البحث عن الغنى الذي تفيض به الكلمات الإلهية: فحينما تبرق الرمال الذهبية على الارض تثير بريق التربة ( تراب الذهب) في العلماء والخبراء الرغبة في القيام بالحفريات بحثا عما هو مخبأ، خلافا لما يكون مخفيا تماما وغير ظاهر يجعلنا نفقد الامل، او حتى لا يخطر ببالنا على الاطلاق البحث وراءه.

وهكذا الحال بخصوص الكتب المقدسة الملهم بها من الله. فمن ناحية بأسلوبها الواضح البسيط السهل الفهم وعانيها الظاهرة، فهي للذين يقابلونها مثل الذهب بدراسة اسرارها الغزيرة جداً تدفع الى البحث عن الغني بالحكمة وتلهب فينا الرغبة في تمجيد الله بما نكتسبه حتى ان من وجد بعض المعاني الالهية عن طريق رغبته في المعرفة ومحبته للعمل واستضاء حسب قوته بضوئها يصرخ مع النبي المرتل: (اغني للرب لانه احسن اليَّ) (مز63: 6) ويقول: (ها قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرفني حكمة) (مز51: 6). لذلك كان مخلصنا يقول لليهود الذين يتمسكون بالحرف: ( فتّشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية وهي التي تشهد لي) (يو5: 29). فيسبح الله إذ يجد الحياة المخبأة والحياة الابدية. هكذا يتمجّد الله في ان تكون كلماته مخفية. لان ما يكون سهل الفهم قد يترك بسهولة، ولكن ما تبذل فيه جهودات شاقة فذلك تحتفظ به بعناية لأنه مالنا الخاص ويحوي في ذاته جزاء محبة العمل، وبالحقيقة ان التمتع بالدراسة في العالم الحاضر والسعادة في الحياة المقبلة قد اختص بهما القاضي العادل من يحبوا هذه الحياة. لذلك كتب احد الانبياء معرّفا ان ذلك لا يحدث فينا تلقائياً. ولكنه بعد بحث جاد: اشعلوا لكم نور والمعرفة بينما يكون مازال هناك وقت، اطلبوا الرب حتى تأتي اليكم ثمار العدل. (ازرعوا لانفسكم بالبر احصدوا بحسب الصلاح احرثوا لانفسكم حرثا فانه وقت لطلب الرب حتى ياتي ويعلمكم البر) هو10: 12). واننا نشمل لانفسنا نور المعرفة بالتطهير الذي ينتج عن الاعمال الفاضلة، وبالمواظبة والتعوّد على التدريب بالكتب المقدسة، ان هذه الكتب بالحقيقة تخفي في ذاتها مجد الله واستعلانه، حتى لتبدو كأنها لم تتح للإدراك ولو يسيرا. ونقل بعض الفسرين هذا بالعبارة التالية: ان مجد الله يحجب الكلمة. فاليهود عندهم الكتب المقدسة ويعتقدون ان الحياة الابدية لهم، بينما هم لا يملكونها، ومن ناحية اخرى إن تبعنا الكتب المقدسة بالمعرفة التي في المسيح وننال بذلك الحياة الحقيقية التي لا نهاية لها لذلك يقول ربنا إذ يعرفنا بعمق الكلمة الانجيلية: (لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم امام الخنازير تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم) (مت7: 6).

ان الاشياء المقدسة لا يفهمها الكثيرون، وهي تظل مخفية ولا يراها الدنسون الذين ليسوا اطهاراً. هكذا اللؤلؤة تستخرج من قاع البحر ومن القوقع حيث تكون مجهولة، لكن حينما تكتشف ترسل اشعة وضوءاً على كل ما يحيط بها، ولها ضياؤها الذاتي. فهذه المعاني المقدسة تلهب الرغبة في تسبيح الله الخالق.

بعد هذا العرض الرائع يبدأ القديس تفسير الآية: (ولما جاءوا الى كفرناحوم تقدم الذين ياخذون الدرهمين الى بطرس وقالوا اما يوفي معلمكم الدرهمين) (مت17: 24). سنبحث اولاً ماذا كانت ضريبة الدرهمين هذه وماذا كان مصدرها التاريخي.

مصدر ضريبة الدرهمين

حينما كان فرعون يقاوم الوصية الالهية ويعارضها ولا يريد ان يعتق بني اسرائيل من العبودية القاسية، كانت مصر مضروبة بآفات مؤلمة متتابعة، دون ان يكون ذلك دافعاً لفرعون على تحسين معاملته او تغيير ميوله. واستمرت مصر في تقليد عادات من تولّوا الحكم تنفذ الاوامر البالغة القسوة. وكانت اخر النكبات قتل الابكار من البشر والبهائم والخراف، دون ابكار بني اسرائيل الذين لم يمسّوا.

ضريبة ابكار بني اسرائيل

قد امر الله ان يترك الابكار من بني اسرائيل ليكونوا مكرّسين له، حتى بذلك لا ينسى شعبه المعونات الالهية. فحينما امر بذلك بعد وقت قصير من اعطائه الناموس والقواعد المتعلقة بالذبائح وبالطقوس المقدسة، اعطى الامر لموسى النبي في الصحراء بأن يعمل تعدادا لمن كانوا تحت قيادته ويفصل الاسباط وينظم ويجدد الترتيب الذي يلزم ان يستأنفوا السير بموجبه وينصبوا الخيام، في الوقت الذي كانوا فيه يقطعون مرحلة في كل يوم. وافرز بالضبط في هذا الوقت سبط لاوي للكهنوت وسائر الخدمات الخاصة بخيمة الشهادة بدلاً من الابكار، ويجدر بنا ان نذكر كلمات الكتب المقدسة الملهم بها من الله التي تقول: (وكلم الرب موسى قائلا. وها اني قد اخذت اللاويين من بين بني اسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني اسرائيل فيكون اللاويون لي. لان لي كل بكر يوم ضربت كل بكر في ارض مصر قدست لي كل بكر في اسرائيل من الناس والبهائم لي يكونون انا الرب) (عد3: 11-13).

فدية الضريبة

لم يكتف بذلك لاجل هذه الوصية ولم يجعل من هذا البدل شيئاً عاماً. فقد امر ان تعّد الرؤوس واحدة واحدة، وبعد ان تم تعداد سبط لاوي ووجد 22000 واكانت ابكار بني اسرائيل تزيد بعدد 273، سمح بأن تقبل النقود فدية عنهم قائلاً: (واما فداء المئتين والثلاثة والسبعين الزائدين على اللاويين من ابكار بني اسرائيل. فتاخذ خمسة شواقل لكل راس على شاقل القدس تاخذها عشرون جيرة الشاقل. وتعطي الفضة لهرون وبنيه فداء الزائدين عليهم) (عد3: 46-48). ان الدرهمين والشاقل نفس الشيء، كما قال: ( عشرون جيرة الشاقل) وفي سفر الخروج حينما امر بني اسرائيل ان يقدموا مبلغاً ثابتاً من المال لصيانة وصنع الخيمة، ذكر ان الدرهمين عشرون جيرة: ( الشاقل هو عشرون جيرة) (خر30: 13) وقد الزم بدفع ضريبة الدرهمين التي كانت تُقدم لرؤساء الكهنة من اجل الزائدين عن اللاويين، وكان كل ابكار بني اسرائيل يدفعونها لأولاد هارون. وبعد ان تقررت عليهم الضريبة درهمين كأمر إلزامي رفعت عن كل رأس من الى خمسة دراهم.

دلالة الدراهم

ان هذه الضريبة تشير الى سر كبير الذين يستطيعون ان ينظروا ولو قليلاً في اعماق الروح. فإن كل مولود بكر هو صورة لآدم بكر جنسنا، الذي بعد ان خدعته الخطية وغلبه الغذاء الحر ثم سلّم نفسه للخطية بحواسه الخمس، البصر والسمع والشم والذوق واللمس. ومثل حواء رأى ان الشجرة كانت جيدة للأكل تسرّ العين عند النظر اليها، وانها رائعة وجميلة عند التأمل فيها، فأكل من ثمرها بعد ان اخذها من حواء وكانت اعطته إياها.

ويتبع ذلك ان في الكلمة المقدسة إياه ودرساً لنا نحن الذين يجب علينا ان نهتم بالخدمة المقدسة، بما اننا نقوم بما قام به الابكار الذين اعطوا عن انفسهم خمسة دراهم كانوا يقدمونها للرب، فيحفظ انفسنا ونكرّسها لله، ونعطي خمسة دراهم من النقود. وهذه الدراهم هي التجربة واعمال الفضائل التي تطهر النفس. ان امتحان الذهب والفضة إنما يكون بالنار. (البوطة للفضة والكور للذهب كذا الانسان لفم مادحه) (ام27: 21). يقول الكتاب المقدس، حتى ان من لا يكون في هذه الحالة، بالضبط مثل بكر المصريين، يقتله الملاك المهلك، لانه محكوم عليه بشباك الموت.

المسيح وضريبة الدرهمين

كانت هذه الضريبة القانونية مطلوبة من المسيح ايضاً لانه مولود بكر، ولو ان كثيرين كانوا يجهلون السر المتعلق بالعذراء امه سواء قبل الميلاد او بعد الميلاد. ومع ذلك فقد كان مستثنى منها لأسباب عديدة:

اولا: المسيح هو آدم الجديد، آدم الثاني، فمن ناحية هو من نفس جنس آدم الاول، ومن ناحية اخرى هو من السماء لأنه إله من إله، وليس من التراب، فلم يتواضع لدرجة تراب الخطية، ولم يسمع القول: (لانك تراب ومن التراب تعود) (تك3: 19). لكنه اظهر في ذاته طبيعتنا بلا عيب: (وجعل مع الاشرار قبره ومع غني عند موته على انه لم يعمل ظلما ولم يكن في فمه غش) (اش 53: 9). (الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر) (1بط2: 22). كيف إذن يكون من لم يكن خاضعا لضريبة الدرهمين المطلوبة من اجل خطية آدم ابينا الاول؟ (او اية امراة لها عشرة دراهم ان اضاعت درهما واحدا الا توقد سراجا وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده. واذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة افرحن معي لاني وجدت الدرهم الذي اضعته) (لو15: 8-9).

انه هو الذي كنّس البيت حسب المثل المذكور في الاناجيل، اي الذي طهر العالم بدمه. هو الذي اوقد السراج، اي جسده ذاته المضيء بالطهارة والقداسة. والوصايا المضيئة اكثر من الكل واردة في الاناجيل. هو الذي فتش بعناية ووجد الدرهم اي الصورة الالهية الملكية لروحنا التي كانت مدفونة في تراب الاهواء السميك. فالدرهم فعلا عملة نحاسية عليها صورة ملكية، ونظرا لان الناس يتداولونه كثيراً هنا وهناك قد يعلوه صدأ النحاس والقذارة.

انه هو الذي يدعو جيرانه، جيوش الملائكة الذين في السماء وهم قريبون منه يخدمونه. ( ثم تركه ابليس واذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه) (مت4: 11) فكيف يكون عدلاً ان يطالب بضريبة الدرهمين؟

ثانياً: كان غير خاضع لهذه الضريبة لأن الضريبة لان المال الذي كانوا يجمعونه من الابكار فعلاً كان يُعطى لرؤساء الكهنة، وقد اصبح المسيح إلهنا حسب التدبير الالهي، رسول اعترافنا ورئيس كهنته، كما يقول بولس الرسول، فهو كرئيس كهنة يكون لزاما ضمن الذين يأخذون وليس ضمن الذين يعطون الضريبة. ثم انه رئيس الكهنة الاعظم الكائن الى الابد على طقس ملكيصادق الذي اجتاز السموات الكائن والذي اصبح اعلى من الكل. (من ثم ايها الاخوة القديسون شركاء الدعوة السماوية لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع) (عب3: 1). (فاذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات يسوع ابن الله فلنتمسك بالاقرار) (عب4: 14). كذلك المسيح ايضاً يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة بل الذي قال له انت ابني انا اليوم ولدتك. كما يقول في موضع آخر. (انت كاهن الى الابد على رتبة ملكيصادق) (عب5: 5-7). (الذي ليس له اضطرار كل يوم مثل رؤساء الكهنة ان يقدم ذبائح اولا عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب لانه فعل هذا مرة واحدة اذ قدم نفسه) (عب7: 26).

كيف يُعطى ضريبة الدرهمين للذين يخدمون في هيكل مصنوع بيد إنسان، لخدام الظل الذين يباشرون الكهنوت لزمن محدود، للذين بابراهيم اعطوا العشور لملكي صادق؟

ثالثاً: كان عمانوئيل غير خاضع لها لسبب آخر، إذ كان مزمعاً ان يُعطى بموته عنا ضريبة اخرى ترمز الى الدرهمين الذين يشار بهما الى نفسه وجسده وان يمّر على الصليب ليمحو صك الخطيئة القائم ضد كل الجنس البشري، وان يكسر بموته الخاص الموت العام الذي وقع ثقله على كل العالم. لانه كان واحداً من اثنين، اي من اللاهوت ومن الناسوت، وهما كاملان، ولم يكن بعد الاتحاد منقسماً الى اثنين. بعد ان تألم بالجسد، ولم يزل غير قابل الآلام لانه الله، يهيئ لنا بالقيامة فيقول في الاناجيل تارة: (والخبز الذي انا اعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم) (يو6: 52) وطوراً: ( وانا اضع نفسي عن الخراف) (يو10: 15).

وقد فصل بإرادته الجسد عن النفس حينما ذاق الموت، وفي الموت انفصال النفس عن الجسد. ولكن نفسه لم تُترك في الجحيم، كما هو مكتوب، فهو يضعها وله ان يأخذها ولم يرً جسده فساداً. ( لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فساداً) (مز16: 10). ( سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح انه لم تُترك نفسه ولا رأى جسده فساداً) (اع2: 31).

يحق لنا ان نعتبر الروح والجسد ضريبة عقلية. فالروح فعلا على صورة الله تقبل العدل والحكمة والفضائل الاخرى، فهي تبين الصورة الملكية مثل الدرهم وحواس الجسد تخدم العمليات العقلية وتبيّن كما يبيّن الشمع ختم الصورة الملكية، وقد اكتسبت نوعاً من الاستعداد.

وشأن هذين العنصرين في الانسان الجسد والروح شأن قطعة عملة الدرهمين. خلق الله الانسان على صورة الله، وهو من الروح والجسد بدون اختلاط. انه شخص واحد، اقنوم واحد وطبيعة واحدة.

ضلالة اريوس وابولنير

بماذا يجيب على هذا اريوس وابولنير الذي كان مريضاً حقاً بنقص العقل؟ فقد زعم احدهما ان النفس لم تشترك في التجسد الالهي، والآخر ظنَّ ان العقل لم يشترك في التجسد الالهي، اين فعلاً فداء الصورة الملكية إذا كان الله قد اتحد فقط مع جسد او مع نفس بدون عقل؟ ومن ناحية اخرى كيف يُعقل ان الله الكلمة يترك جانباً ما هو عاقل ويعطينا ما ينقصه الاشياء الرئيسية؟

اضواء الانجيل

أرأيت كيف كان ذلك المجد مستوراً فأضاءته لنا كلمات الانجيل حينما فحصناها قليلاً، فلا نبتعد بل لنثابر على هذا الفحص. ومتى رأينا مجداً اعظم يفوق ويسمو على المجد الذي بحثنا عنه سابقاً، نقول مع بولس الرسول: ( فإن الممجد ايضاً لم يُمجد من هذا القبيل تسبب المجد الفائق) (2كو 3: 10).

لماذا دفع المسيح ضريبة الدرهمين

كان مخلصنا الصالح يستطيع ان يقدم الاسباب السابق ذكرها التي تبين انه لم يكن لزاماً عليه ان يدفع ضريبة الدرهمين لانه لم يكن خاضعأ لها، لانه آدم الجديد وباكورة جنسنا الذي بلا عيب، وانه رئيس الكهنة ليس الزمني بل الابدي، يفدينا من الخطية بآدائه ضريبة عقلية، لكنه لم يذكر هذه الاسباب وكتمها لانها تليق بالتدبير الالهي. ولما جاءوا الى كفر ناحوم، وكانت معروفة انها بلدته لانه كان يقيم ويبقى فيها كثيراً، لانه بعد القبض على يوحنا المعمدان، اختارها مقاماً بدلاً من الناصرة، ويقول متى الرسول: (ولما سمع يسوع ان يوحنا اسلم انصرف الى الجليل. وترك الناصرة واتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم) (مت4: 12-13). (تقدم الذين يأخذون الدرهمين الى بطرس وقالوا اما يوفي معلمكم الدرهمين) (مت17: 24). وهم يتقدمون بالأخص في مدينته عل ىسبيل الانذار. لقد اقتربوا بكل نوع من الاحترام والإكرام، لم يكلموه او يكلموه او يخاطبوه حالاً، لكنهم قالوا لبطرس ليس بعجرفة كجباة ضرائب قائلين: ( ليدفع معلمكم الدرهمين)، بل بالحري قالوا بوداعة واتضاع: (اما يوفي معلمكم الدرهمين) (مت17: 24).

وقد يكون فيها شيء من التهكم لانه كما ذكرنا، كانت ضريبة الدرهمين تُدفع لرؤساء الكهنة، وكان هؤلاء الكهنة مشاعر حسد نحو يسوع وكانوا يتهمونه بمخالفة الناموس وتعدّي السبت، فربما كان جباة هذه الضرائب، إذ يخدمون هؤلاء الحاسدين ويشتركون في الرأي معهم، يسألون السؤال بطريقة تهكنية كأنهم يقولون: ( لماذا في ذلك يتعدى الناموس ولا يخضع لأوامره؟ وبالفعل فإن هذه الكلمة ذاتها: (معلمكم) تبدو كأنها تحتوي على هذه الاشارة. فإذا افترضنا ذلك، فلماذا إذن قد رد بطرس الرسول وهو يعرف نيّة معلمه الذي ينادي بالحرية ويريد ان يدفع هذه الضريبة متمماً التدبير الالهي، على الذين سألوه.

وبعد ان دخل التلاميذ البيت، لم يتأخر ويتعلم لماذا حضر جباة الضريبة لمقابلة بطرس، وهو العارف بكل شيء، لكنه قال له اولاً: ( ماذا تظن يا سمعان ممن يأخذ ملوك الارض الجباية او الجزية امن بينهم ام من الاجانب) (مت17: 25). بين قوله: (ملوك الارض) انه هو نفسه بالأخص ابن ملك السماء، ويشترك معه في الملكوت ويأخذ نفس الكرامة، ومن ناحية اخرى، بيّن بقوله: امن بينهم ام من الاجانب) انه هو نفسه ابنه الحقيقي لانه مولود من الله الاب حسب الطبيعة والجوهر. فكيف إذن ندعو مثل اريوس وامونيوس خليقة او غير مساوٍ للاب، ومن يملك مع الاب، وهو ابن وليس غريباً، بل ابنه الذاتي الحقيقي؟ او كيف يعطى الابن، الاله من الاله، الضريبة للآب السماوي؟

من ذلك نعلم بوضوح ان ضريبة الدرهمين، حسب ما ذكرناه، ضريبة دينية وليست رومانية. وكانت تُدفع لله، وليس لقيصر، لانه لو كانت تُدفع لقيصر لكان يقول ضرورة: (اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (مت22: 21). وليس: (فإذا البنون احرار) (مت17: 26). بقوله هذا قد اكد ايضاً شهادة بطرس الرسول، حينما كان ملمساً من فوق من الله وصرخ قائلاً : انت هو المسيح ابن الله الحي) (مت 16: 16). بعد هذه الشهادة قد تزعزع بطرس وملأه الخوف بسبب النبوءة المتعلقة بالصليب والالام الخلاصية وقال: ( حاشا يا سيد لن يحدث لك هذا) وقد سمع المسيح يخاطبه بتأنيب شديد حي قائلاً ( اذهب عني يا شيطان) بهذا ارجعة الى الايمان الاول، قائلا هو نفسه انه ابن الله ومبيّناً ان هذا التأنيب انما كان حكماً لما اصابه من الخوف والوهن وليس على الشهادة الالهية التي لم يعلنها له لحم او دم، لكن الآب السماوي.

ومع ذلك يقول هو مستثنى من الضريبة، ابن الله الاب، الاله من الاله: (ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك) (مت17: 27). يعلمنا بوضوح الا نعثر إخوتنا فيما يختص بعطية الذهب، والا نحتقر الاموال إلا اذا لم يكن قد وكّل الينا العناية الحفاظ على الاموال المتعلقة بالفقراء واليتامى او الاخرين. لا يجب فعلاً ان نشرّع في ممارسة الكمال بأموال الغير، لكن يجب ان تحافظ على العدل حسب قواعد الحق، ولا يجب بحجة التقوى ان نتنازع وان نشتهي ما ليس لنا. ومن ناحية اخرى، نتعلم ايضاً، حسب قول بولس الرسول، ان نعطي لكل ذي حق حقه. ( فاعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية. الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف والاكرام لمن له الاكرام) (رو13: 7).

لكن اذا كان جباة الضريبة قد قالوا بشيء من التهكم وهم يخدمون افكار الحسد التي لرؤساء الكهنة، كما يقولون عن شخص يتعدى الناموس، اما يوفي معلمكم الدرهمين، فإن قوله: ( ولكن لئلا نعثرهم)، نطق به كيلا يعطيهم فرصة او سبباً للاتهام يقول: ( ما جئت لانقض بل لأكمل) (مت 5: 17). لهذا السبب كان يقول ايضاً ليوحنا المعمدان: (اسمح لانه هكذا يليق بنا ان نكمل كل بر) (مت3: 15). وقد اعتاد الكتاب المقدس ان يسمي حفظ الناموس برّاً، وهذا ما شهد به بولس الرسول إذ كتب عن نفسه: (من جهة البر الذي في الناموس بلا لوم) (في3: 6). وبنفس الطريقة حينما تذمّر الفريسيون باطلاً، امر المسيح باحتقارهم معلما ايانا الا نعطي اي اعتبار للذين يعارضون التعليم والقوانين الالهية، وألا نهتم الا بالله.

(اذهب الى البحر والق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك) (مت17: 27). بيّن انه مالك البحر وخالقه وسيده وكل ما فيه وكذلك كل شيء لانه ابن الله الاب. وفي هذا ايضاً نجد كلمة اسرارها مخفية، يتمجد بها قائلها الحكيم وحده، الذي يعطي الفهم بسبب نقطة صغيرة فهمناها، دون ان نصل الى غنى الدراسة التي تفيض به الكلمات المقدسة والمعروف لديه. فعلاً، لانه قال لبطرس ولأندراوس اخيه: ( هلم ورائي فأجعلكما صيادي سمك) (مت4: 19). ( هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس) (مر1: 17). وايضا لبطرس وحده: (لا تخف من الان تكون صياد الناس) (لو 5: 10).

صيد الناس

جعل المسيح من واقعة صيد السمك بتدبيره العجيب دعوه لنوع عجيب من الصيد. السمكة هي صورة الكنيسة. كانت تغشاهم فيما مضى قذارة وجحود عبادة الاصنام. الناس غرق في بحار الشك واضطراب الاهواء العالمية كأنهم في جب عميق لكنهم صعدوا بفضل سنارة الرسل، اي بفضل كلمتهم التي تعلم وتصيد وتمسك لاجل معرفة الله الذي دعانا: ( من الظلمة الى نوره العجيب) (1بط2: 9). وقد تنبأ ارميا ايضاً بخصوص صيد الرسل هذا قائلاً: (هانذا ارسل الى جزافين كثيرين يقول الرب فيصطادونهم ثم بعد ذلك ارسل الى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل اكمة ومن شقوق الصخور) (ار16: 16).

هؤلاء الرجال، بعد ان اصطيدوا وبعد ان تعلموا بكلمة الحق انفتحت افواههم، نبتوا واثمروا معلمي الكنيسة الذين كانت كلماتهم اثمن بكثير من الذهب والفضة. لانه لذلك قال: ( والسمكة التي تطلع اولا خذها، لكي يعلن عمق الضلال الذي صعدنا منه، ومن جهة اخرى يعلن البر في التعليم وخلو ممارسته من الصك. لانه في نفس الوقت الذي فيه القيت السنارة الروحية، حالا تبع الصيد من نفسه. فلكي يظهر فعلا ان صيد تلك السمكة كان سراً وإتماماً لرمز وليس فقط معجزة، لم يقل: ( سوف تجد في هذه السمكة استاراً كانت قد ابتلعته ووصل الى بطنها) لكنه قال: ( ومتى فتحت فاها تجد استاراً)، مبيّناً انه سيمسك الاستار في فمها بينما ينفذ الوصية الالهية، وانه ( عند الله كل شيء مستطاع) (مت19: 26). ويبين ايضاً موهبة التعليم التي يلزم ان يحملها هؤلاء الذين صادتهم سنارة الرسل الانجيلية.

والاستار نوع من الدينار من الذهب او من الفضة يقوم مقام الضريبة عن يسوع وعن بطرس. ويشبه تعليم كلام الله واحكامه الذهب والفضة، وهذا ما تعرفنا به الكتب الملهم بها من الله التي تقول تارةً: (خوف الرب نقي ثابت الى الابد احكام الرب حق عادلة كلها. اشهى من الذهب والابريز الكثير واحلى من العسل وقطر الشهاد) (مز19: 9-10). وطوراً: (لسان الصديق فضة مختارة) (ام10: 20). وايضاً: ( كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة في بوطة في الارض ممحوصة سبع مرات) (مز12: 6).

ويعرفنا قوله: ( فخذه واعطهم عني وعنك) ان بطرس ايضاً كان مولوداً بكراً يخضع كذلك لضريبة الدرهمين، وافسح المجال بهذا للتفكير في اشياء اعلى. فبيسوع المسيح ربنا بطبيعته كان معنى من الضريبة، لا يعرف الخطية، وكان بريئاً في كل شيء، لكنه دفع ضريبة الدرهمين مبيناً انه كان ينبغي ايضاً ان يتحمل الموت حسب الجسد، ليس لانه كان ملزماً بأن يموت، لكن لانه كان يتمم التدبير الالهي لأجلنا. من هنا ينتج انه ضمّ بطرس اليه قائلاً: ( خذه واعطهم عني وعنك)، يرمز الى دفع دين الخطية حسب التدبير وما حق على بطرس وعلى كل البشرية. ويعتبر الكتاب الالهي موته ديناً بالنسبة لنا، اذ يقول: (ولكن الانسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لانه عنده جهالة ولا يقدر ان يعرفه لانه انما يحكم فيه روحيا) (1كو2: 14). وثمناً بالنسبة للفادي المخلص. إذ يقول: لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في اجسادكم وفي ارواحكم التي هي الله) (1كو6: 20). (قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيد للناس) (1كو7: 23).

كيف نسدد الدين

يقول القديس: كنت اريد الآن ان آتي ايضاً الى كلمات الانجيل الاخرى، لكني ارى ان المقال يطول. وانتم لا تشبعون من الانصات، لكن المثل ينذرنا ان تعرف القياس حتى في الامور التي من هذا النوع حتى في الامور التي من هذا النوع فيقول: ( اوجد عسلاً فكل كفايتك لئلا تتخم فتتقيأه) (ام25: 16). واختم مقالي بتذكرتي إياكم بهذه الكلمة: ان المسيح وهو معني وغير ملزم قد دفع الدين من اجلنا، دفع الدرهمين، واظهر تدبير الالام الخلاصية، بينما نحن مديونون بآلاف الديون، ننساها جميعاً، فهلا ذكرت انه يجب ان ندفع لمن سدد الدين لأجلنا، الفادي المخلص؟ الا ترى ان مقرضينا نحن الذين نتصرف بلا امانة، يحوبون كل مكان من هنا ومن هناك، ومعهم إثبات قروضهم ليس في شكل كمبيالات مكتوبة، بل الكتب المقدسة السماوية التي لا يستطيع ان يقول احد ضدها شيئاً، وهي تصرخ: ( من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا) (لو3: 11). وانت يا من عندك اثواب كثيرة، لا تعطي للفقير ولا حتى قطعة بالية، وبالملابس المتنوعة التي تريدها بدورها وتظهرها مختلفة حسب الموسم، تريد ان يلاحظك الناس ويثنوا عليك، لان غرضك ليس مجرد ان تدفأ وتكتسي، لكن بالاكثر ان تكون مرموقاً. وحقاً يدعو الكتاب الالهي الملابس (كسوة) إذ يقول: ( فإن كان لنا قوتٌ وكسوة فلتكتفِ بهما) (1تي6: 8). لكي يعلمنا انها للضرورة فقط وليست لتستخدم للتباهي. لكنك لا تحسب للكلمات الالهية حساباً وهي ارفع بكثير وافضل جداً من الذهب والحجارة الثمينة او اكثر لمعاناً وبريقاً من الفضة، وهي التي اظهرت صفتها السمكة المذكورة في الاناجيل، وانت لا تعمل حسابها لا في القراءات ولا في الافكار ولا في الاعمال الصالحة.

ان يدك تتألق بخواتم الذهب، فكيف تخبئها امام محكمة المسيح الرهيبة، حينما تبكّت بخلك وحينما يتهمها المقترضون الذين تصرف وجهك عنهم الان، في حين انهم عراة؟ ان الاحسان نحو المحتاجين جميل، هذا ما لا تجهله. ومراراً عديدة ايضاً، حينما تميل نحو بعضهم فتأتي به اليّ وتقول لي: اعطه وقيّد اسمه في كشف الارامل او العجزة، أهذا هو طريق سداد الطريق؟ انك تعرف فيما يتعلق بالحصول على الدين، ولا تعرف ان تنصح نفسك ابداً إني كما ترى، لست في حاجة الى نصيحتك، كما يشهد بالفعل جمع الفقراء الذين يقفون في كل لحظة حولي. اما انت، فلا اعرف كيف تسد اذنك عن كلماتك ذاتها، وكيف تكون لنفسك مستشاراً او انت تميل الى البخل الممقوت والاقتصاد. واذا كان لك ان تشتري شيئاً مميتاً، فقبل كل شيء توجه إهتمامك  نحو نفسك خاصة، ولكن حينما يعرض عليك ملكوت السموات شراءه، فإنك  تذهب لتصبح آخر وتعمل نتيجة لنفسك.

اضطررت ان اقول هذا، لا لكي اثقّل عليكم، لكن بالاحرى كثيراً لكي اخلصكم من ثقل الغضب الآتي، ولكي الهب فيكم بمناخس الكلام الرغبة في الاستعداد، ولكي تعدوا انفسكم للحياة الابدية. ليتنا ننالها جميعاً بنعمة ومحبة الله العظيم مخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الاب والابن والروح القدس الان وكل اوان والى دهر الداهرين امين.