المقال 71 عن الصعود

الصعود

 

 

قال القديس ساويرس:

اني احتفل بتقاليد الرسل القديسين التي سلمها لنا اعمدة هذه الكنيسة كميراث ابدي، بعد ان تسلموها كل واحد بدوره على نحو ما يتسلم الابن من ابيه، فتمت على ايديهم وكانت معرفة السر تزدهر في القلوب.

وقال داود: (عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا ايضا ببركات يغطون مورة. يذهبون من قوة الى قوة يرون قدام الله في صهيون) (مز84: 6-7).

ومن هذه التقاليد يدوي صوت الكنيسة عالياً اليوم، معلماً بذلك انه لأجلنا نح، صعد المسيح الى السموات.

حقاً كما تعمد المسيح لأجلنا، كان يطهّر المياه ويقدسها، ولم تكن ليتطهر بها. واني بكون ذلك لمن هي نور النور، الذي لا يعرف خطيئته. انه لأجلنا صُلب، كما هو مكتوب، انه ارتفع الى الكمال بالآلام، (مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به. واذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص ابدي). (عب5: 8-9).

ان ذلك الذي هو بطبيعته كامل في كل شيء يجعلنا نحن المحتاجين نكمل به بخلاص كامل وشفاء كامل، كان في الجسد يصارع الموت ويكسر شوكته وهو هو الذي يملأ السماء والارض، الاشياء المرئية وغير المرئية. صعد جسدياً فوق كل السموات، فحملنا معه نحن الذين كنا مطرودين من السماء او بالحري كنا غير مستحقين ان نطأ الارض.

وكما اننا حينما نبشّر بفضل القيامة نبيّن ان بها قمنا من سقطة الخطية القديمة. هكذا في اليوم الاربعين من قيامة مخلصنا من بين الاموات إذ صعد على عرش ملكه الموضوع فوق السماء تعلم اننا اصبحنا سماويين. ذلك الذي هو ( فوق كل رئاسة وسلطان وقوة) (اف1: 21). باكورة جنسنا. ( ولكن الان قد قام المسيح من الاموات وصار باكورة الراقدين) (1كو15: 20).

فبالفعل اتخذ كلمة الله نسل ابراهيم ( لانه حقاً ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل ابراهيم) (عب2: 16). حينما كان من المرأة وتحت الناموس. (ولكن لما جاء ملء الزمان ارسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً من تحت الناموس) (غل4: 4). حينما اشترك مثلنا في الدم والجسد اللذين نفس عاقلة، (فاذ قد تشارك الاولاد في اللحم والدم اشترك هو ايضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت اي ابليس) (عب2: 14). حينما شابهنا في كل شيء. نحن اخوته. ما خلا خطيئة. (من ثم كان ينبغي ان يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة امينا في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب) (عب2: 17).

فلا تتعجب إذا كان عمانوئيل باكورة جنسنا، قد صعد الى هذا الارتفاع، فإنه في الواقع لم يظهر اختطافا ان يكون مساوياً لله، يعني انه لم يكن كجبّار اقتحم الملكوت، ولم يكن اختطف العرش بغير حق، حينما قدر وحكم بأنه مساوٍ لله. مع انه كان في شكل الله. وفي جوهر الله، (لكنه اخلى نفسه اخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس. واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب) (في2: 7-8). لم يحتقر او يرفض رتبة العبد في شيء. بل حينما اخذ على عاتقه مرة واحدة ان يكون انساناً حقيقياً عاش كأنسان مع الناس، مظهراً الشبه معنا في كل شيء ما عدا الخطية وحدها.

لم يظهر رجلاً غريباً فهو يملك كأنه سمو الطبيعة. كان يعمل التدبير الالهي بحكمة وبنعمة نحونا، فكان وهو الكامل يرى وهو ينمو مع السن في الحكمة والنعمة، واما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والنعمة. ( واما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس) (لو2: 52).

جاع، عطش، وتحمل تعب الطريق، وكان يخضع ذاته بإرادته للآلام الاخرى. اعني الآلام البعيدة عن الخطية.

ان خطيئة آدم كانت العصيان وتعدي الوصية. بينما كان المسيح، آدم الثاني، يبذل نفسه فداء فيمحو الخطية. ان الوصية التي اخذها من الآب، كان يقدم لنا مثال الحياة الافضل، يشفي العصيان بالطاعة والعصيان مصر الشرور، منه خرج تيار الخطية الجارف فدخل الموت الى جنس البشر كله وتملك فيه. واصبح ضرورياً ان يقدم المسيح الطاعة بدلاً منّا، فيذهب حتى الى الموت الذي كان آدم يستحقه بعصيانه، وبهذا غرس نعمة الخلود بقيامته. وهذا ما كان بقوله بولس الرسول: (واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله ايضا واعطاه اسما فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الارض ومن تحت الارض. ويعترف كل لسان ان يسوع المسيح هو رب لمجد الله الاب) (في2: 8-11).

يا لعمق حكمة الله وعلمه!! يا لغنى التدبير الالهي!!

كيف ان ما يليق بالله المتعالى العظيم نجده في الاشياء المنفقة مع التدبير الالهي. لذلك رفعه الله ايضاً واعطاه اسماً فوق كل اسم.

اطاع حتى الموت، وتحمل موت الصليب. صلب وتألم حسب الجسد، الذي إذ كان في صورة الله……. اخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. (في2: 6-7).

معنى عبارة (اخذ شكل العبد) انه حسب معنا نحن اللذين نخضع لحاجة الجسد، وقد بذل ذاته فداء عنا لخلاص البشر.

لذلك مكتوب ايضاً ان اله اعطاه اسماً فوق كل اسم، لانه من نفس الجوهر كالآب وهو سيد الكون، واعطاه لأجلنا نحن الذين تعود علينا هذه العطية، ولنا ايضاً جعل نفسه باكورة ولو لم يكن هو نفسه بالجوهر انسان واله، بل كانت له طبيعتان، كما يزعم النسطوريون الجهلاء، لما كان ممكناً ان يعطي الاسم (الذي هو فوق كل اسم).

وفي الواقع يستطيع الله ان يفعل كل ما يريد. لكنه لا يريد سوى ما هو جدير، وما كان جديراً باسمه شيء غير منظم. لان الذي ابدع الترتيب فيما هو موجود، لا يمكن ان يريد شيئاً غير مرتب. لانه كما انه قدير، او قل القدرة ذاتها، فهو ايضاً الترتيب ذاته والانتظام.

وتوجد حالات يصنع فيها الله معجزات مختلفة تفوق الطبيعة، لكنها مع ذلك لا نكون ضد كلماته. فكيف إذن من يقول: ( من مشرق الشمس الى مغربها اسم الرب مسبّح) (مز113: 3). ويقول ايضاً على لسان في آخر: ( انا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر) (اش42: 8)، كيف يعطي اسماً فوق كل اسم لغير الله الكلمة؟

ان بولس الرسول يقول عنه: (رفع في المجد) (1تي3: 16) ويقول ايضاً: ( الذي نزل هو الذي صعد ايضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل) (اف4: 10).

فمن يتجاسر بعد سماع هذه الكلمات ان يقسم الرب الاله الوحيد يسوع المسيح؟ إذا كان الذي نزل هو ايضاً ذاته الذي صعد فوق كل السموات حتى الشرف الرفيع اللائق بالله، فكيف يؤمنون انه اثنان وليس واحداً؟

لهذا السبب إذا كان يقول هو نفسه الى نيقوديموس في الاناجيل: (وليس احد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الانسان الذي هو في السماء) (يو3: 13). فان ذلك الذي تجسد من والدة الاله مريم هو ذاته كلمة الكائن قبل الدهور، الكائن في السموات الذي يملأ الكل. وهذا لا يخالف قول بولس الرسول: ( يسوع المسيح هو هو امساً واليوم والى الابد) (عب13: 8).

ومع ذلك كان اليهود الذين يعلمون آراء كآراء الضلاله النسطورية وهم خصوم عميان، عندما كان الرب يسوع يصرخ: ( انا هو الخبز الذي نزل من السماء) (يو6: 4). كانوا يصرخون ضده مجدفين قائلين: (وقالوا اليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بابيه وامه فكيف يقول هذا اني نزلت من السماء) (يو6: 42).

والمسيح الذي يعلم افضل من اليهود ومن النسطوريين انه واحد وهو ذاته لا ينقسم الى طبيعتين بعد الاتحاد، والذي كان يرى ايضاً ان بعض المتصلين به شكوا فيما قاله بشأن الخبز وترددوا كان يقول: ( أهذا يعثركم. فإن رأيتم ابن الانسان صاعداً الى حيث كان اولاً (يو6: 62: 63) فإذا كان يملأ الكل، فكيف إذاً يقول: ( صعد ايضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل) (اف4: 10)؟

اذا نقول انه حينما تجسد ظهر الذين على الارض. وذهب الى الذين هم تحت الارض حينما نزل الى الجحيم. فبقى ان يذهب ايضاً الى الذين هم في السماء، بعد التجسد بخلاصة البشر من لعنة الخطية ورباطات الموت، وبإعلانه الآخرين يا عماق حكمته.

ولقد عرفت القوات السمائية ايضاً غنى الحكمة الالهية في كامل وفرته، ذلك الغنى المستقرّ بسبب التدبير الالهي، بما كان يردده اولئك الذين جعلهم ميلاد عمانوئيل في دهشة فظهروا مسيحيين الله قائلين: ( المجد لله في الأعالي وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة) (لو2: 14). وكتب بولس الرسول الى اهل افسس مؤكداً ذلك بطريقة واضحة جداً في هذه الآية: ( لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة) (اف3: 10).

(لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الارض ومن تحت الارض) (في2: 10) ويعترف الجميع بسلطانه: ( ويعترف كل لسان ان يسوع المسيح هو رب المجد الله الآب) (في2: 11). ولا توجد امة او لسان، إلا واعترف بضرورة الايمان بالمسيح، الذي به وفيه يعرفون الآب، لان الذي رأى الابن ورأى الآب (يو14: 9)، ومجد الابن هو مجد الآب.

وتدحض هذه الكلمات ايضاً حماقة اريوس وامونيوس اللذين قالا بأن ابن الله مخلوق وانه لا يساوي الآب. فإنه في الواقع ليس من العدل ان يعطي الاسم (الذي هو فوق كل اسم) لاحد المخلوقات او لاحد الذين ليسوا مثل الآب بالجوهر. لانه لو كان الابن مخلوقاً وكان واحداً من المخلوقات ومحسوباً منهم، لما كان اسمه فوق كل اسم. وانه اعلى من كل خليقة وانه بين الكائنات المخلوقات من يشبهه.

ولذلك فإن الاولين والقدماء واكثر العبرانيين فهماً للإلهيات، الذين بهم اعلنت الاقوال الالهية والنبوات الخالية من الخطأ، كانوا يدعونه ايضاً ( الذي لا يمكن ان يسمى) او ( من يسمو ويسبق ويرتفع فوق كل اسم، وبولس الرسول من ناحيته دعاء: ( ذلك الذي هو من فوق كل اسم).

ان عمانوئيل هو فوق كل خليقة، إله بطبيعته. كان الثلاثة فنية يمجدون الرب وسط اللهب ووسط نار مخيفة للغاية. وكانوا يقبلون معهم الملائكة والسلاطين وكل الخليقة الروحانية الحساسة في ذلك الخورس الروحاني، لكنهم كانوا لا ينسبون المجد والرفعة فوق الكل الا لسيد الكون فقط.

من ذا الذي يستطيع ان ينطق بالمديح الذي يليق بكرم وعظمة محبة المسيح وتنازله الغير محدود؟!!

قديما كان موسى يعد على جبل سيناء ويظل اربعين يوماً لا يتناول فيها اي طعام ويصوم عن الخبز والماء، لكي يرى فقط ظهور مجد الله، وكان هذا المجد له تحت شكل نار مختلطة بالظلام والدخان.

لكن المسيح، كلمة الله، النور الحقيقي بدون اختلاط، قد انطلق من العلا وتوغل في عمق الارض في المناطق السفلى من الارض واخرجنا من هنا واصعدنا نحن اللذين كنا غارقين في الخطية والموت.

بعد ان قام المسيح من الاموات، عاش اربعين يوماً مع التلاميذ واكل وشرب عدة مرات مؤكداً بذلك هذا التدبير الالهي حسب الجسد الذي يفوق التصور. وهكذا صعد الى السماء وهو يحملنا جميعاً في ذاته، لانه كان قد تجسد في طبيعتنا.

لمَ تشك ايها الانسان ولا تؤمن بقيامة الاموات وبملكوت السموات، بينما الذي يضمنها لك هو السيد المسيح الذي تجسد من جنسك وقام من الاموات وصعد الى السموات ودخلها؟

في الواقع، إن لم يكن قد تجسد بطبيعتنا، حسب غرور انتيخوس، لكان قد بطل رجاؤنا المستقبل، ولكنا نتحمل نفس ما تحمله الذين يخدعهم المرابون، اولئك الذين اخذوا عوضاً عن الدنانير الحقيقية من الذهب والفضة، ما يبدو كالذهب وهو من الداخل نحاس.

ولنسمع بولس الرسول يقول: (فانه اذ الموت بانسان بانسان ايضا قيامة الاموات. لانه كما في ادم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع) (1كو15: 21-22). وبينما كان السيد المسيح يصعد الى السماء، كان التلاميذ ينظرون اليه متعجبين. وكانوا متعلقين به بأرواحهم وهم يشخصون نحوه بأعينهم ويرفعون ابصارهم، يسمعون ما يقول الرجلان اللذان وقفا بهم بلباس ابيض: ( ايها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً الى السماء) (اع1: 11). ولم يتوقف التلاميذ عن النظر اليه وهكذا كانوا يحيون وكانوا يستعدون للرؤيا المستقبلة.

وان تلك الكلمات لم تكن موجهة اليهم فقط، بل الى كل المؤمنين ايضاً عن طريقهم، ونحن ايضاً ننظر اليه ونفكر في الشرف الذي اولانا إياه بفضل الباكورة التي فوق كل رئاسة وكل سلطان.

ويقول القديس ساويرس منذراً بعض قومه في ذلك الوقت: وانت لا تشعر بهذا الشرف وتجري الى مكان تدريب الحيوانات المفترسة لنرى اناساً من جنسك يصارعونها تمزقهم او بلا فائدة. اولئك الذين هم من نفس الطينة ولهم نفس الصورة العاقلة الالهية ولهم نفس التبني ومن نفس الخليقة الثانية. الذين يشتركون في الباكورة الوحيدة التي صعدت فوق السموات وتملكت على النفوس العلوية الروحانية غير المادية.

كيف اتكلم بدون دموع؟ كيف ابين لك جسامة الخطيئة؟ بعد ان اتى بنا من لا شيء الى الوجود، وشرفنا بالسلطان على الوحوش والطيور والحيوانات وعلى كل الارض حتى كانت الوحوش تخدمنا وخاضعة لنا، وكان الدب والذئب بكتان سلاماً نحو الانسان. فلتقنعك الوحوش نفسها، فقد كانت كسائر قطيع حيوانات المرعى تجتمع حول آدم، حينما كان يعطيها اسماء بطريقة خاصة وكان يميز كل نوع باسمه ولكن الآن بعد انتزع عنا هذا السلطان بسبب الخطية، لم نعد نحمل غي انفسنا السمة الطاهرة التي الصورة الالهية، فإننا نخشى قساوة الوحوش الضارية. نتذكر سلطاننا القديم فنكتشف خطية جنسنا.

فلننتظر الى الانسان الجديد الذي اعادنا الى ملكوت السموات بدلاً من السلطان الذي كان لنا على الارض والذي كنا فقدناه، وجعلنا مخوفين ليس لدى الوحوش الضارية فحسب، بل لدى الشياطين، وايضاً مكرمين عند الملائكة.

هذا ما يعلمه دانيال الذي اخزى امامه الاسود، عندما كان محبوساً في الجب. وهذا ايضاً ما تؤكده القديسة تكلا التي جازت التجربة وكانت صابرة جداً في البتولية وفي الايمان، وكذلك الجمع الغير محصى من الشهداء الذين اوقفوا الغضب الرهيب لمختلف الوحوش الضاربة. مترسمين المسيح باكورة جنسنا، وقد اقتبلوا القول الالهي مثل بولس الرسول الذي يقول: ( فاطلب اليكم ان تكونوا متمثلين بي كما انا بالمسيح) (1كو4: 16).

ويختم القديس ساويرس الخطاب فيقول: انه لا زال عندي اقوال كثيرة مؤثرة، فإني انهي المقال احتراماً لهذا العيد العظيم المحبوب، متضرعاً الى المسيح الذي رُفع لأجلنا، الذي صعد الى السماء. ان يرفع الى السماء عقولنا المتجهة الى اسفل، بنعمته ومحبته ورحمته، له يليق ايضاً المجد مع الآب والروح القدس الان ول اوان والى دهر الداهرين امين.