مـار أفــرام الشــاعر مكانــة مـار أفــرام في المسيحيــة

مـار أفــرام الشــاعر

مكانــة مـار أفــرام في المسيحيــة

 

بقلم: الحبر الجليل مار سويريوس اسحق ساكا

النائب البطريركي العـام

 

المقدمة

مــار أفــرام والشــعر

شــاعريـة مــار أفــرام (الشعر الغنائي)

الأرض الظمــأى

السـحابــة والأرض في احتبــاس المطـــر

التــوبـــة

الســهر ينقّي النفــس

في الظـــلم

في الســهر والصــلاة وأيـوب الصدّيق

التــواضـــع

الميـــلاد في المـــذود

القــلب الجــديــد

 

 

المقدمة

القديس مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، إمام اللغة الآرامية، عملاق الأدب السرياني، قطب من أقطاب الفكر المسيحي على الإطلاق.

ترنّمت الأجيال باسمه منذ أن ألقت شمس القرن الرابع خيوط الفجر في أحضان وديان نصيبين وعلى أكتاف جبال الرها. وغدا نغمة عذبة في حاجر السريان، وشفاه بني آرام. وسيبقى ذكراه خالداً إلى الأبد.

ولد في نصيبين وقضى حياته كلها متردداً ما بين نصيبين والرها وديار بكر ومدن ما بين النهرين، معلماً، واعظاً، كاتباً، شاعراً، ناسكاً. وهو في رتبة شماس حتّى انتقاله إلى السماء عام 373+ حيث دُفن جثمانه الطاهر في مقبرة الغرباء طبقاً لوصيّته، وبُني فوق ضريحه دير بجوار الرها. ودُعي «نبي السريان» و«شمس السريان».

أكرمته المسيحية شرقاً وغرباً، وقيّمت جهوده في سبيل خدمة الإنجيل، وثمّنت مواقفه المشرّفة في خدمة الكنيسة الجامعة.

فالكنيسة السريانية تعيّد له في السبت الأوّل من الصوم الأربعيني، والكنيسة الكلدانية تقيم تذكاره في جمعة أسبوع صوم نينوى، والكنيستان المارونية، والملكية تحتفلان بذكراه في 28 كانون الثاني. والكنيسة الأرمنية في السبت الأوّل من كانون الثاني.

ونظراً لمكانة مار أفرام في العالم المسيحي، فإن البابا بندكتس الخامس عشر 1914ـ 1922 أعلن مار أفرام السرياني ملفاناً في الكنيسة الكاثوليكية شرقاً وغرباً، متجاوزاً آراءه الأرثوذكسية التي تتنافى والعقيدة الرومانية في مجالات عديدة، وقرّر أن يُقام له تذكاراً في 18 حزيران على توالي الأجيال. كما أن مجمع اللغة السريانية في بغداد أقام له مهرجاناً ضخماً في مدينة بغداد ما بين 4ـ7 شباط 1974.

 

مــار أفــرام والشــعر

مار أفرام من أقطاب النسك، وبلغ القمّة في الزهد، إنه خدن الجبال الجرداء، وأليف الصحارى القاحلة، وربيب الوحدة والانفراد، وعاشق العزلة والصمت. لكن قلبه لم يزهد في الشعر مطلقاً، وأحاسيسه لم تبتعد عن القصيدة شبراً. فبين القلب والشعر وشائج وثيقة لا تنفصم، وبين المشاعر والقصيدة روابط متينة قوية لا تتفكك. ففي سبيل الشعر تمرَّد مار أفرام على الوحدة، وهجر حياة الانفراد في الجبال، ومجَّ العيش معتزلاً في الصحارى، فاتّصل بالحياة، وبالمجتمع، وبالوجود، يجتمع مع الناس، يخوض معركة الحياة شعراً، يعلّم ويعظ شعراً.

لقد جثا عابداً في هيكل الشعر حياته، وقدّم نفسه قرباناً على مذبح القصيدة. قال سوزمين المؤرّخ اليوناني «إن مار أفرام صنّف أكثر من 300 مليار بيت شعر» وأكّد مار ايرنيموس «أن شعر مار أفرام بلغ ثلاثة ملايين بيتاً» وقال القديس مار يعقوب السروجي «إنه كان نبعاً غزيراً، وينبوعاً فيّاضاً» وقيل أن الموهبة الإلهية حلَّت على مار أفرام منذ نعومة أظفاره، وهيّأته ليكون ملفاناً في الكنيسة، وقد أشار إلى ذلك هو نفسه إذ قال «لمّا كنتُ طفلاً رأيتُ في الرؤيا كرمة نبتت في لساني وارتفعت في الفضاء وأينعت عناقيد جمّة وأوراقاً بلغت حدّ الكثرة، وامتدّت أفنانها وتبسطت حتّى كادت تملأ الأرض جميعها، وأقبلت طيور السماء فوقها وجعلت تلتقط العنب من عناقيدها. وكانت كلما التقطت منها ازدادت وكثرت». وذكر أيضاً أن مار أفرام نفسه كان يتضرّع إلى اللّه أن يوقف هذا الفيض الذي يرهقه في قوله «أوقف اللهم موهبتك عن كنارتك لترتاح قليلاً، لأنك أنت الذي علّمتني كل ما قلت، فأنت علّمني كيف أصمت».

 

شــاعريـة مــار أفــرام (الشعر الغنائي)

لا شيء يفجّر نبع الشعر في القريحة مثل الحب والجمال. ولا يمكن للشعر أن يكون غنائياً ما لم يَجْثُ في محراب هذين الإلهين. وأن أجواء الحب والجمال رحبة، وآفاقها واسعة، فهي لا تنحصر في القلب والجسم فقط، ولا تستقر عند الأمور الجسدية فحسب، فالشاعر يستقي مادة هذين العنصرين من جمال العزة الإلهية، ومن ذوبان المتصوّف في حب الذات الإلهية. وكما يستقيها من الطبيعة التي حباها الله جمالاً وفتنة، من الرياض الخضراء، من النسمات العليلة، ومن روعة التاريخ، وآثاره القديمة، بل من سموّ التضحية، من خلود العباقرة، من حب الوطن والأرض والتربة.

تناول شعر مار أفرام أغراضاً دينية متنوعة، وطرق مواضيع كنسية عديدة، وتخلل كل هذه الأغراض والمواضيع ألوان زاهية من الشعر الغنائي. فالذي يطّلع على شعره بتمعّن، يدرك تماماً أن مار أفرام غمس ريشته في محبرة مملوءة بالفن، والذوق، والجمال. فتراها كلها تتسابق في الحلبة الدينية في مجار عديدة من مقوّمات الأدب والشعر، ولو خلا شعر مار أفرام من هذا اللون الجميل من الفن الأدبي، لما تسلّم إمارة الشعر السرياني على مرّ العصور. ولو لم يرشّ هذا العطر في قصائده ويبلّلها بقطرات نداه لما عُدَّ مار أفرام أجمل زهرة في رياض الأدب الآرامي.

ودونك بعض نماذج من شعره:

 

الأرض الظمــأى

لو كان للأرض نطقٌ،

لصبَّت علينا جامات الغضب،

وقذفتنا بوابل من التوبيـخ والتأنيب،

وتقـــول:

ما أظلمكم أيها الناس([1])،

إن ملامح أبيكم الأوّل تظهر في جباهكم،

لقد لُعنت بسبب خطيئة أبيكم،

والآن تلاحقني اللعنة مرة أخرى بسببكم،

أنتم أيها الناس تخطئون،

وأنــا أُلعَـــن.

أخطأ أبوكم آدم، فنبت الشوك الرديء،

وأخطأتم أنتم فجفّ الزهر الجميل.

أنا أم لكل الناس

كان الأولى بكم أن تقدّموا لي الولاء،

فتكرموني وتهــابوني.

غير أنكم احتقرتموني، ودستُم كرامتي.

مزدرين بالقيم وبكل المثـل.

إنكـم أبنــاء عاقون.

أنتم تخطئون وتذنبون،

وتتنعّمون بعيش رغيد هنيء،

وأمّا أنا فرياضي الغنّاء انقلبت إلى قفار،

وحقولي النضرة، استحالت إلى صحارى.

أنتم تحتسون الخمور، وتشربون كل لذيذ وشهي،

أمّا أنا فقد جفّ قلبي عطشاً وظمأً.

أنتم تغسلون أجسادكم بالأطياب  والعطــور

وأمّا جسمي فقد علاهُ الغبار،

فامتقع لوني وتشوّه جمالي.

كم لقّنتكم دروساً وعبــراً،

وكم وجّهتكم نحو الخير،

ولكني بدون جدوى.

لم تتعلّموا التواضع من أحضان أوديتي،

ولم تستوعبوا الدرس من عزم صخوري،

ولم تدركوا هيبتي في أعماق بحاري،

ولا عرفتم قيمتي من قمم جبالي،

حقاً إنكم لجهلة أغبيــاء.

أنا شابـة وعجـوز في آن واحــد.

أنا أم عجــوز لآبائكـم وأجـدادكــم،

وأم شابــة لكــم ولأولادكــم،

فاحتـرموا شيخوختي ووقــاري،

وهابـوا قوّتي وشبابي.

 

 

 

السـحابــة والأرض في احتبــاس المطـــر

 

إن الماء قد تجمّد في السحب،

فلا ذوبان، ما دامت خطايانا مجمّدة في داخلنا،

أيتها السحابة: أنتِ عاقر،

الماء لا يجديك نفعاً،

لأنك لا تحسّين بالظمأ قط،

أمّا الأرض فإنها لاغبة ظمأ وعطشاً.

أيتهــا السـحابة:

ألا تشعرين أن عبئاً ثقيلاً على كاهلك؟.

اطرحيه عنكِ في أعماق الأرض،

إن الأرض مستعدّة لتتحمّله بسرور وشوق،

إن الأرض أم لها أطفال رضَّع،

وهؤلاء الأطفال بحاجة إلى حليب،

وإن الحليب قد انحبس فيكِ أيتها السحابة،

إنكِ عاقرة أيتها السحابة،

لا أطفال لكِ يطلبون الحليب ليرضعوا،

فامنحي حليبكِ أيتها العاقرة،

للأرض، المرضعة اليائســة،

فلا تدعي، أيتها العاقرة، حليبكِ يضيع سدى،

في رحم لا ينجب أطفـالاًَ،

ولا تدعي المرضعــة.

أم الأطفــال تتعــذّب.

فيمــوت الأطفـال ظمــأ في أحضــانهــا.

 

إن مار أفرام يعزو انحباس المطر إلى خطايا البشر الذين ابتعدوا عن اللّه، وحادوا عن شرائعه المقدسة. وإن هطول الأمطار مقترن بالتوبة، فإذا ما قدّم توبة نصوح وبدموع حارّة، وندموا على خطاياهم، فإن اللّه سيسكب عليهم الأمطار الغزيرة فاسمعه يقـول:

 

التــوبـــة

إن السماء عطشى إلى دموع التوبة،

بقدر ظمأ الأرض إلى مطر السحابة،

فما دامت الأرض تطالب السماء بالمطر،

فالسماء تطالب الأرض بالعبرات والدمـوع،

إن أصوات الرعود تبهج البشر على الأرض،

وأصـوات الاستغاثة تسـر الملائكـة في السـماء،

ويقـول أيضــاً:

إذا ما أوصد اللّه أبوابه بوجهنـا،

فلنفتح له أبواب قلوبنــا،

وإذا ما فطمت السماء من الأمطــار،

فليكن بكاؤنا قربانـاً وتقدمــة.

 

ثم يصف الشاعر مار أفرام شهر نيسان، ويعتبره شهر الأفراح والمسرّات، فإذا ما انحبس فيه المطر، سينقلب إلى شهر المأتم والحِداد، فيقول:

ربــاه!

لا تصنع حداداً في نيسان،

ولا تقم مأتماً في الربيع،

إنه شهر البهجـة والســرور،

وموسـم النور والورود.

إن أزاهيـر نيسـان، وورود الربيــع،

هي دومـاً رهن إشارتك،

تقدّم لك الولاء والطـاعــة،

عندما تبدو نضرة زاهيــة،

تجدها متّجهـة إليـك، وإشـراقة البسـمة على ثغرها،

لتعرب لك عن آيات الشكر والامتنان،

وكأنها استمدّت جمالها من فيض جمالك،

وأخذت نضارتها من نضارة بهائك،

وعندما تذبل تراها تحني هامتها باتّضاع،

وهي تبدو ساجدة معربة عن ولائها وخضوعها،

لأنك أنت غارسها ومقيتها،

 

ثم يستطرد واصفاً نفسيّة البشر الذين لا يذكرون الله إلا في وقت الضيق، ولا يصلّون إلاّ عند اشتداد المحن، فاسمعه يقول:

عندما يهطل المطر على الأرض،

وتتساقط قطرات الندى على الزهور والورود،

تكون الشفاه صامتة جافّة من تقديم الشكر للّه،

وعندما تجفّ الأرض،

وتـذبل الـزهــور،

تنـدى الشفاه بالطلبــة والاستغاثـة.

 

ثم يأخذ مار أفرام بالتركيز على عمل «إرادة الله» في البشر فيقول:

«إن عصا هارون، لم تُسقَ ماءً، ولم يداعبها النسيم، ولم تقاوم عواصف نيسان، ولكن هي إرادة الله جعلت أن تزهر تلك العصا اليابسة وتنمو تنبت بطريقة غير طبيعية» ثم يناجي الله قائلاً: «أعطنا ربنا إرادتك، التي هي مستودع كل الخيرات والعطايا والنعم، فإذا أردتَ فإن بيادرنا تفيض غلّة، وتمتلئ مخازننا كثيراً، وإن شئت فإن حزمة واحدة من القمح تسدّ جوع الآلاف، فاسكب اللهم خيراتك وبركاتك علينا جميعاً».

 

 

الســهر ينقّي النفــس

وفي حديث مار أفرام عن حياة الرهبانية، وما يمارس الناسك الزاهد من أنواع عديدة من هذه الحياة النسكية، يتحدّث عن السهر فيقول:

إذا لم يختفِ النور،

فالظلمة لا تقوى على الظهور،

وإذا لم يلم النـور أشعته،

فالظلمة لا تبسط جناحيها السوداوين،

ما دام الكرى بعيداً عن عينيك أيها الساهر،

فالظلام لا يمكنه أن يسود عليك.

وما دمت يقظاً أيها الجبّــار،

فالشر لا يستطيع أن ينشب فيك مخالبـه،

وما دام لسانك يلهج بالتسبيح،

فالعدو لا يقدر أن يتطاول عليك،

وما دامت شفتاك تترنّمان،

فقوى الشرير تبقى محطّمة.

***

خـلال سـاعة النـوم،

يزحف الشرير للغزو والاعتـداء،

حيث لا مقاومة، ولا قتال،

يتلاشى الضبـاب،

وينحرف مجرى الشتـاء،

تكثـر الثلوج بلا سحب،

ويتساقط البرد بلا بروق،

وتسفك الدماء، بلا سيوف،

وتتراكم الأشلاء بلا حروب،

فلتكن عينك حارسـة،

يــا رب.

 

 

في الظـــلم

أيهـا المسيح الإلـه:

يا من ظلمك الأشرار،

كن عزاء للمظلومين الأبرياء البررة،

هنيئاً لمن يتعرّض لجور الناس الأشرار،

فإنه يصبح من أبناء السماء،

ونعمّاً لمن يعاني من الظلم والطغيان،

فقد صار ملاكاً نورانيــاً،

من يتحمّل الظلم مثل المسيح،

فمن يقدر أن يقيّم جزاءه؟!

ومن يجار عليه كالمخلّص،

فمن بإمكانه أن يثمّن مكافأته؟!

من يحتمل الإهانة ظلماً كالأنبيـاء،

يصبح شريكاً معهم في المواعيـد،

ومن ظهرت عليه سيماء الرسـل،

فيقعد على مفرقه إكليل النصـر.

 

إن ضربت على خدّك،

فقد أصبحت زميلاً لميخـا النبي.

وإن قضيتَ رجمـاً بالحجـارة،

فأنت اسطيفانس جديد.

وإن طُرحت في حمـأة الأقـذار،

فأنت إرميـا ثانٍ.

وإن ربطـت بوثــق،

فيحق لك أن تدعى «بولــس»

وإن قُطع رأسـك،

فقد تشبّهت بيوحنـا المعمـدان،

وإن نُشرتَ بمنشـار،

فقد صرتَ ندّاً لإشعيا بن آمـوص.

وإن طُرحت في أتون نــار،

فقد أحصيت «الرابع» بين أولاد حنانيــا.؟

وإن طُرحت فريسـة للأســود،

فقد وضعتَ يـدك بيــد دانيــال.

وإن رفعت على المشنقة،

فهوذا المسـيح مرفــوع على الصليب.

 

 

في الســهر والصــلاة وأيـوب الصدّيق

 

لولا الحروب لما كان نصر

ولولا ساحة الوغى لما ضُفرَت الأكاليل،

فالجهاد هو الذي يُعلن شجاعة الشجعان،

وباشتباك الطرفيـن تُعرَف البســالة،

يشتهر القواسون، لدى تبادل رشق السهـام،

ويُشــار إلى الأبطـال، لما تسبح السـيوف بالدمـاء.

كان أمر أيوب مجهولاً، قبل نزولـه إلى سـاحة الوغى.

وبعد أن خاض غمـار الحرب، اشتهرت شجاعته بين الشـعوب.

إن تحمّـله إصابات السـهام، أعلن للملأ، محارباً فذّاً،

والسنان التي اخترقت شرايينه، سجّلت له نصراً مبينــاً.

ما دام المسيح والرماد متمسكين بأهداب التواضع،

«فرئيس السقاة» لا يتجاسر أن يتطاول.

ومتى ذرفت الدموع بغزارة،

فيعود «سنحاريب» على أعقابه فاشلاً مخذولاً.

ما دامت الأيدي مبسوطة إلى العــلاء،

فإن «عمـاليق» لا يقوى أن يرفع رأسه.

في الصلاة يُضرب الإبليس فيقع صريعاً،

كما وقع جلياد الجبار بحجر المقلاع.

وقوة العباد، توثق جبـروت شمشون ألاّ يتحرّك.

عندمـا يحلّق النسـر في السمــاء عالياً،

فمن المستحيل أن يدرك طيفه،

وما دام سابحاً في الجــوّ،

فلا يمكن أن يُصطـاد ظلّه،

وما دام الناسك محلّقاً في الصلاة،

فلا يمكن لقوّة العالم أن تُلقي القبض عليـه.

 

التــواضـــع

 

أشرقت شمس البر،

فذابت الجبال أمامــه،

بسط أشعّته المتواضعة على الرّبى فانخفضت،

رأته النجاد فتوارت حتّى تساوت مع السهول.

أبصرته الأعماق فامتلأت حتّى وازت مستوى الأرض.

تطلّعت إليه الأودية، فأضحت سُبُلاً ممهّدة إلى ملكوته.

تأمّل الطريق الوعر في سلامه وبساطته، فاستحال سهلاً أخضــر.

استوعب الأعداء الحاقدون محبتــه،

فأحبــوا بعضهم بعضـاً.

رآه الأسد والثـور، فربطا تحت نير واحد.

لاقاه الذئب والحمل، فصارا جسداً واحداً.

حملقت البواشق بالنسـر الشاب،

فعقدت صلحـاً مع الطيـور، ونزعت مخالبهمـا،

وخفضت أجنحتها، لتحيّتــه.

 

 

 

الميـــلاد في المـــذود

 

سبحان الإله الرفيع الشأن،

الذي يسكن في السماء العالية الفسيحة،

شـــاء:

فحلّ في مذود بسيط لا تتجاوز مساحته شــبراً.

البحر الخضم ملء حفنته،

شاء فولد في مغــارة،

السماء مملوءة من بهائه،

تاق الناموس أن يرى مجده،

ولكنه لم ينل أمنيته،

ليأتِ اليوم ليراه ملفوفاً بالأقمطة،

قيل للأوّلين: من يتجاسر أن يرى الله ويحيــا؟!

واليـوم يُقــال: من يراهُ يحيا وينجو من المـوت.

 

 

 

القــلب الجــديــد

 

لمار أفرام قصيدة رائعة بموضوع «القلب الجديد» نقلنا بعض أبياتها الأولى نظماً وكالآتي:

يا إلهي إن قلبي قد فَسَدْ
فاعطني قلباً جديداً سيّدي
أعطني قلباً مليئاً بالسنى
بنشر الحب نقيّاً صافياً
اشتهى قلباً تنقى بالتقى
لا يُبالي بعروش وغنىً
يعشق الزّهد صلاة مثلما
مثل هذا القلب إن أعطيتني
 
بذنوبٍ وشرور لا تُعَد
يمقت الدنيا ويزري بالجسد
لا ينال السوء قطعاً من أحد
سالماً من كل حقد وحسد
وبروح اللّه باهى واعتمد
لا ولا يبغي ثناءً أو مَدَد
يعشق الصوم حياة والجلد
بعدت عني الخطايا للأبد
 

([1]) – لا نبالغ إذا قلنا أن جبران خليل جبران في «أرضه» اقتبس الفكرة من مار افرام.