كتاب مقالات مار إفرآم ملفان الكنائس السورية ومعلم الأرثوذكسيين أجمع

كتاب

مقالات مار إفرآم

ملفان الكنائس السورية

ومعلم الأرثوذكسيين أجمع

وقف على طبعه أحد رهبان دير السيدة العذراء البراموس في برية الأنبا مقاريوس

طبع سنة 1892

 

 

 

المقدمة

المقالة الأولى رسالة إلى يوحنا الراهب فى الصبر والحذر أن لا ينخدع بالأفكار فى طلب السياحة والعفة

المقالة الثانية توبيخ لذاته واعتراف

المقالة الثالثة فى هدم الكبرياء

المقالة الرابعة فى الحض على التوبة

المقالة الخامسة فى النسك والتعزية الكثيرة والخشوع للمريدين أن يخلصوا

المقالة السادسة في مشابهة الأمثال، وفي المخافة الإلهية

المقالة السابعة حكم

المقالة الثامنة نصائح

المقالة التاسعة في تقويم المستسيرين من العباد بسيرة ذات ألم، ويبتغون الكرامات

المقالة العاشرة في تذكار الخطايا

المقالة الحادية عشرة في التوبة والدينونة

المقالة الثانية عشرة في الابتهال والتخشع

المقالة الثالثة عشرة في الانتباه

المقالة الرابعة عشرة في رثاء النفس

المقالة الخامسة عشرة في ذكر الآباء المتوفين

@ فصل @ عن جهاد الآباء الابرار

المقالة السادسة عشرة في كيف تبتهل النفس إذا جربها العدو

المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشر واستعداد النفس للدينونة

المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت

المقالة التاسعة عشرة في معرفة الجهاد وهي رسالة بعث بها إلى أولوجيوس العابد

المقالة العشرون في أيهما أفضل البكاء أم الضحك

المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني

المقالة الثانية والعشرون في الرحيل من هذا العالم

المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها

المقالة الرابعة والعشرون في من يخطئون متواتراً ويتوبون مراراً قليلة

المقالة الخامسة والعشرون في الورع

المقالة السادسة والعشرون في من سقط بسبب الغفلة ويحتج بالخطأ

المقالة السابعة والعشرون في التوبة

المقالة الثامنة والعشرون في فريضة البتولية والزيجة وفي المحبة

المقالة التاسعة والعشرون في الضجر من العبادة

المقالة الثلاثون في التواني والفرق بين سيرة العابد وغيره

المقالة الحادية والثلاثون في أن محبة اللـه تعلو كل محبة

المقالة الثانية والثلاثون في الصبر والتخشع

المقالة الثالثة والثلاثون في أن للرب الأرض وما فيها وفي قيامة الموتى

المقالة الرابعة والثلاثون في مدح يوليانوس الناسك

المقالة الخامسة والثلاثون في ذكر الموت

المقالة السادسة والثلاثون في أنواع الفضيلة

المقالة السابعة والثلاثون في مدح ذوي أنواع الفضيلة وذم ذوي أنواع الرذيلة

المقالة الثامنة والثلاثون في سيرة العبادة

المقالة التاسعة والثلاثون عظة للمبتدئين بسيرة العبادة

المقالة الأربعون في عدم الانتقال من موضع إلى موضع

المقالة الواحدة والأربعون مائة فصل تشمل أخبار وتعاليم ووعظ وكيف نقتني الإتضاع

 

 

 

 

 

المقدمة

اني لغني عن مدح ما حوى هذا الكتاب الجليل من الحكم والأدب والنصائح والتعاليم التي تُهذب العقل وتروض الطبع البشري وتقتاده من التوحش إلى الحضارة، ومن قبح السيرة إلى نقاوة السريرة، ومن المعاصي إلى الخلاص الذي بالمسيح يسوع محط رحال المسيحيين وغاية آمالهم.

وذلك نظراً لقداسة صاحبه الذي سما الفرقدين، وفاق نوراً على النيرين وقد مدحه القديسون أجمع الذين منهم غريغوريوس النزينزي الذي لولا ضيق المقام لعلقنا ما قاله في ذيل هذا الكتاب، ومنهم القديس فم الذهب فإنه دعاه مع الكنيسة الجامعة ( بكينار الروح القدس ) فأكون إذا مدحته وبالغت في تقريظه كمن يحصل الحاصل.

ولا اذكر ما كابدت في تنقيحه وتصحيحه بحسب الذوق العربي من الصعوبات والمشاق، فإن لغة هذا القديس كما لا يخفى سريانية وأقواله نظماً أكثر منها نثراً ومترجم هذا الكتاب إلى لغة العرب، راعى في ترجمته إياه الألفاظ أكثر منها المعاني، فلذلك لم أرَ بداً من أن أترك الترجمة بسيطة سوى أني راعيت الألفاظ اللغوية وما ندر من القواعد النحوية التي لابد منها وكثير من الجمل التي لم استطع أن أدرك معناها التزمت أن استغنى عنها خشية من تبعة تغيير النص الأصلي، كما جرى ذلك بمقالتين أو ثلاثة أعظمهن التي سرد فيها نقائص شبوبيته وكيفية سجنه نحو ثمانين يوماً وقد أودع فيها من الأدلة على وجود اللـه ما يجل عن الوصف خصوصاً الاحتجاج الأكبر الذي أتى به توما الاكوياني اللاهوتي الغربي، وقد تركت غير ذلك مقالة تحتوي على مائة بند تتضمن حكايات وأحكام للرهبانية (كتبت هذه المقالة في هذا الكتاب الآن).

قلت ذلك وأنا غير متمالك أن اذكر فضل نباهة وفطنة الشابين النجيبين اللذين أنبتهما منابي مدة غيابي في مباشرة طبع هذا الكتاب إلا وهما زكي أفندي جرجس وغالي أفندي جرجس فقاما بذلك بكل همة ونشاط واستحقا الذكر الحسن ولولاهما لكان القراء يجدون من الأغلاط أكثر مما هو موجود الآن.                                          القمص إفرآم البرموسي

 

 

 

 

 

المقالة الأولى رسالة إلى يوحنا الراهب فى الصبر والحذر أن لا ينخدع بالأفكار فى طلب السياحة والعفة

 

قد وعظنا تادرس المتورع كثيراً بعظاتٍ كثيرة ألا يبتعد عن موضعه، وما أمكننا أن نقنعه. بل قال أنا: إن أردت أن تعيننى، وتخلص بعد اللـه نفسى فأرسلنى إلى ديرك.

فأجبته: يا هذا إن اهتمام الدير قد فوضته إلى يوحنا الأخ وبدون رأيه لا يمكننى أن آمر أحداً بسكناه فقد فعلت فعلاً حسناً إذ قبلت الأخ السالف ذكره لأنه حين عاد إلينا أخبرنا عن أى تعطف أوضحته له.

لأن مثل هؤلاء الذين أحبوا الرب ينبغى أن يكونوا عندك مكرمين أكثر من الأب والأم والإخوة والأخوات والمرأة والأولاد والأنسباء والأصدقاء.

فلقد صنعت حسناً لأنك خصصت نفسك للأعمال الحسنة ولا سيما إذ صرت قدوة للإخوة الساكنين معك مثل الأمر الذى اتضح فى المسيح حين صنعه إذ رفع تلاميذه إلى سمو التواضع.

فقال: إنما أعطيتكم نموذجاً لتعملوا أنتم نظيره وذلك لكى الذين لا يقنعهم القول يقنعهم الفعل.

وبولس الرسول يعظ قائلاً: ” صيروا متشبهين بى كما تشبهت أنا بالمسيح “.

فلا تتهاونوا أنتم بالخدمة الروحانية، ولا تكونوا بحجة الأمور الجسدانية متوانين فى صلواتكم لأن أقوال الرب إذا درست ورُتلت دائماً تغذى النفس، وتحفظها وتوقى الجسد وتؤدبهُ، وتطرد الشياطين وترهبهم، وتجعل فى النفس سكوناً عظيماً.

أما عن الذين ابتدءوا بأفعال تفوق طاقتهم فقد سقطوا فى تجارب لانَهاية لها فحسب أقوال بولس الرسول: ” لا يرتأى الإنسان فوق ما لا ينبغى أن يرتأى بل يرتأى إلى التعقل “.

واسمع من الحكيم الذى قال: ” لا تصير صديقاً كبيراً ولا تحاكم حكماً زائداً لئلا تُدهش.

لأنه أتفق فى هذه الأيام أن قوماً من الإخوة تركوا قلاليهم ومضوا إلى الأرض القفرة التى لا ماء فيها، ولا تمر  لها فزجوا ذواتِهم فيها بعد أن وُعِظوا عظات كثيرة من الآباء والإخوة ولم يذعنوا لرأيهم قائلين:

” نحنُ نمضى لنكون سواحاً “.

فلما وصلوا إلى البرية القاحلة جداً وعاينوا أن الأرض التى لا تُسلك قد اكتنفت ذواتِهم صاروا يستصعبون الأمر جداً ثم حاولوا أن يعودوا إلى الأرض المسكونة فلم يقدروا أن يُخرجوا ذواتِهم من البرية الصعبة لأنَهم لم يوصلوا إليها بسهولة.

فأشتد عليهم الجوع والعطش والحر، وجلسوا مكتئبين وظامئ النفس.

ثم بتدبير من العناية الإلهية صادفهم قوم وهم قد قاربت أنفسهم أن تنتزع منهم فوضعوهم على دوابِهم وحملوهم إلى المواضع المسكونة.

ومجموعة منهم ماتوا وأكل أجسادهم الطير والوحوش والذين نجوا لبثوا مرضى مدة طويلة فعند ذلك عرفوا بالخبرة ألا يعملوا شيئاً بغير مشورة.

وكثيرين إذ كان فيهم فكر العظمة وذهبوا إلى أرض لا ثمر فيها ولا ماء فسببوا لأنفسهم موتاً محققاً ؛ وآخرون إذ لم يريدوا أن يطيعوا ولم يحتملوا أن يخدموا إخوتِهم سقطوا فى هذا الأمر نفسه، وآخرون إذ لم يرتضوا أن يعملوا بأيديهم فسدوا.

وكذلك آخرون هُزئ بِهم من فكر الاعتداد بالذات والتشامخ بالسبح الباطل، فتصيدوا المديح من السامعين: ” أنَهم قد صاروا سواحاً ” ؛ وإذ لم يفكروا فى الأتعاب التى تصادفهم ألقوا أنفسهم فى هذه المعاطب نفسها.

فلا ينبغى الآن أيها الحبيب أن ننقاد لأفكارنا بلا تمييز، لأننا نحتاج كثيراً أن كل واحد منا يعرف مقداره ويتواضع لقريبه بمحبة اللـه.

وإن شعر أحد أنه قد قوَّم الفضيلة ومسك الآلام وتملك على الشهوات فلا يثق هكذا برأيه، لئلا يقال عنه الفصل المكتوب: ” أن الملك الجسور يسقط فى المساوئ وملاك الرب ينجيه “.

لكن ربما يغتر أحد فيقول: وكيف نجد قوماً من الآباء قد قوموا هذه الفضيلة ؟

فقد احتجنا أن نظهر لكم هذه الشهادة من أخبار سير الآباء القديسين، ونوضح أن الآباء القديسين ما عملوا شيئاً عبثاً ولا جزافاً.

لأنه قد حكي عن مقاريوس الراهب أنه قال: بينما أنا كنت جالساً فى قلايتى بالاسقيط آذتنى الأفكار قائلة:

امضى إلى داخل البرية وافهم ماذا تعاين هناك.

فلبثَ محارباً للفكر خمسة سنوات خائفاً أن يكون هذا الفكر من الشيطان.

فأبصِر فهم الرجل أنه لم ينقاد للفكر ولا عمل به بل لبث يميزه صائماً ساهراً مصلياً ليعرف إن كان من الشيطان أم لا.

” فنحنُ إذا جاء إلينا الفكر ونحن ثابتون فننفرد وننعزل ولسنا نميزه مصلين بتوجع قلب، بل ولا إذا وعِظنا من آخرين نقتنع ونخضع لرأيهم فلذلك يسبينا المعاند بسهولة “.

ثم لما ثبت الفكر ودام خرج إلى البرية فصادف هناك بحيرة مياه وجزيرة فى وسطها فإذ بأنعام البرية قد جاءت تشرب منها ورأى فى وسطهم رجلين مجردين.

فبعد أن سلما على بعضهما بعضاً. قال لهما مقاريوس: كيف يمكننى أن أصير راهباً.

فقال له: إن لم يزهد أحد فى الأشياء التى للعالم كلها مبتعداً عنها فلا يستطيع أن يكون راهباً.

فقال لهما: أنا ضعيف ولا أستطيع أن أكون مثلكما.

فقال له: إن لم يمكنك أن تصير مثلنا فأجلس فى قلايتك وأبكِ على خطاياك.

يا لجسامة تواضع الإنسان الإلهى ويا لسمو فهم النفس المتورعة ؛ من قد أوضح مقدار تلك النصرات الممدوحة ومثل عِظم جسامتها ؛ فلم يوضح من ذاته أنه مستحق للأمر لكن قال لهما:

” أنا ضعيف ولا أستطيع أن أكون مثلكما “.

فنحن لا اضطهاد قام علينا ولا اضطهدنا أحد ومع ذلك نسلك بسيرتنا بالتهجم والاعتداد بالذات ؛ ونبتدئ بأفعال تفوق حدودنا كمجربين الرب الإله. الأمر الذى هو مُرهَب جداً.

الويل للإنسان المتوكل على قوته ونسكه أو على ذكائه، ولا يكون اتكاله على اللـه لأن منه وحده العزة والقوة.

وإن أطلعنا على سيرة أنطونيوس الراهب نجده صانعاً كل أفعاله من استعلان إلهى.

ألم يجلس فى دير ؟ أو ما احتاج ملابس ؟ أو ما أكل خبزاً ؟ أو ما عمل بيديه ؟ أو ما أقتنى تلاميذ ؟ أما كفنوه مائتاً ودفنوه ؟ أو هل استعمل المغبوط أنطونيوس وحده هذه السيرة ؟

بل وباقى الآباء الذين أكمل اللـه بِهم آيات واشفيه لأنَهم كانوا كالمصابيح البهية مشهورين بالفضائل.

فلنسر نحن يا أحبائي سيرتَهم ومذهبهم ونسلك فى الطريقة الملوكية غير جانحين إلى يمينها ولا إلى يـسارها.

فلنثابر على السكوت، الصوم،  السهر، الصلاة، الدموع، الصلوات الجامعة، عمل اليد، مخاطبة الآباء القديسين، إطاعة الحق، استماع الكتب الإلهية لكى لا يصير فكرنا بوراً عاشباً بالآلام.

ولنوقف ذاتنا مخصوصاً لنستحق التقرب من الأسرار المقدسة الطاهرة، لكى تتنظف أنفسنا من الأفكار النجسة المتولدة، ويسكن الرب فينا فينفذنا من الشيطان.

وقبل هذه كلها فلنحفظ المحبة الصافية بعضنا لبعض وللكل، لأنه من جهة محبتنا للقريب يقتنى الإنسان المكافئة أو العقاب. لأن القائل صادق:

” إنه إذا صنعتم بأحد إخوتى هؤلاء المحتقرين شيئاً فبى قد صنعتم.

وقال للآخرين: ” إذا لم تعملوا بأحد إخوتى هؤلاء المحتقرين شيئاً فبى لم تفعلوا، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الخالد ويمضى الصديقون إلى الحياة الأبدية.

إن القدماء كانوا يذبحون عجولاً، وكباشاً، وخرافاً كلها نقية لا عيب فيها ويقدمونَها تقدمة، فلنقدم نحن جسمنا للرب بالروح القدس ولا ننجسه بالأفعال المحذورة ولا ندنسه بفكر ما لئلا تصير ذبيحتنا غير مقبولة.

وبأية حاله يجب أن نقتنى القداسة فيثاب الذين لهم عقل العين المستفيقة، وذكر اللـه الذى شعاعاته تضىء لكل قلب.

فأما الذين هم ضعفاء فى مثل هذا الفكر فهم محتاجون إلى نماذج ومقاييس ليقتنوا مثل هذه الفضيلة ويقومونَها، فلتكن مقاييسنا مثل هذه.

إن الذين يتناظرون فى الحروب العالمية، تنصب لهم صور على الحيطان وفى الألواح ينقش فيها رواية الحرب، كيف بعض يمدون قسياً وبعض مجروحون، وقوم قد هربوا، وقوم يقاتلون بأيديهم وسيوفهم مجردة، ويحصدون مصارعيهم كحصاد السنبل.

وهذه المقاييس يصنعونَها ليعرفوا الذين يصيرون إليها فيما بعد، ولذكر المفضلين على من بارزهم فى الحرب، وكثيرون صوروا جهاد القديسين فى هياكل الصلوات لكى يغيروا منها التى قلوبِهم قاسية ولتفريح الناظرين إليها

فإذاً سيرتنا سوف تكتب وتصور وتنصب فى علوٍ شاهق ليعاينها الكل فاحرصوا، بل فلنحرص أن نقوم الفضيلة لئلا تكون فى أيقونتنا شيء مذموم وغير ملائم، لأنه قبيح بالحقيقة أن يُبصَر فى أيقونة رجل يعانق امرأة وأقبح منه إن كان من المظنونين أنه لابس زى التدبير الحسن.

فإن كان ذلك فهو على رأى القائل: ذكور يعملون الفحشاء بذكور، فمن هو يا ترى يجترئ أن يعاين تلك الأيقونة، لأنه منظر يجب أن يُهرب منه.

فإذ نعلم يقيناً أن عذاباً لا يُحتمل يحل بمن يُوجد فى مثل هذا الهوان فلنهتم أن تصير وضع الرواية الواصفة أخبارنا وإتقانِها حسنة وممدوحة ناهضة إلى فعل الصالحات لمن يصادف جمالها، ولا نصور فيها شيئاً رديئاً لا يختص بالفضيلة.

لأن الرواية المسندة من أهل سدوم منتصبة انتصاباً لا يضمحل مخبرة كيف أطاف أولئك الفجار النهمة شهوتِهم بمنزل الصديق إلى أن ضُربوا بضربة فقد النظر واحترقوا بالمطر النارى وترمدوا هم وأرضهم التى عملوا فوقها المجامعات النفاقية.

فهذه الرواية كأيقونة ما مملوءة خوفاً وضعها الإله خالقنا فى ضمير كل واحد منا حتى إذا نظرنا مثل تلك الأمثال الرادعة نبعد عن الأفعال الرديئة.

فأما الذين يغمضون أعينهم من معاينة تلك الرواية التى نُصبت لنا وعظاً فأولئك يتهورون بسهولة فى هوة اللذات.

أنت إذاً  فليكن ناظر ذهنك مقترناً بمثل هذه المعاينة لكى تصدم بالخوف الآلام النجسة وتطمر بانتظار السخط الآلام المضطرمة لأن من يتصور ذلك الرجز المسير من اللـه فلا يجزع ولا ينقبض ذهنه إن لم يستعمل هذه المعاينة استعمالاً زائداً.

أما أنا الوانى لما نصبت فى عقلى هذه الرواية تنهدت ووضعت وجهى بين ركبتى وبكيت لما رأيت تصور جريان تلك النار المتداركة هولها والأرض نفسها مضطرمة وكلها مملوءة قتاماً ودخاناً.

وقاتنيها قد ذابوا كالشمع، أترى لا تستطيع النموذجات والأحداث السالف حدوثها أن تعزل النفس الصخرية وتلينها.

فمنذ الآن فلنتفرس فى هذه الرواية بمداومة، بل فلنتأملها بلا فتور لكي ما بالحرص فى الأشياء المفضلة نَهرب ونفلت من حيرة النقم السابق ذكرها لأن التوانى ينشئ عدم الخشية ومنها جميعاً تنشأ العادة، والذين يصيرون فى عادة السير يصعب انتشالهم منها وهم جانحون كل حين إلى فساد الثمر الروحانى.

وينبغى أيضاً أن نتذكر يوسف كأنه فى أيقونة ونتفطن فى أمره كيف اجتذبته المصرية استخرجته إليها، أما هو المحب للـه فترك ثوبه وهرب من افتعال الدنس.

بل ونعاين الشيخين اللذين كان فى بابل فى ذهننا كأيقونة، كيف استدعيا سوسنة المغبوطة إلى الفعل النجس فاستعملت هى فكراً مؤمناً شجاعاً فحطمتهما.

هكذا فلنجاهد نحن بثبات ولا سيما إذ نتأكد أنه ليس مكتوماً إلا ويظهر، لكى يثنى علينا بتثنية الفضيلة والمدح كى نوجد مع الممدوحين لا مع المذمومين.

فأما عن الذين يلتمسون استعلام كيف يتصرفون مع الإخوة ويسترضون الإله الحقيقى.

فإذا صليتم عنا سنرسم لكم أخيراً بمؤزرة النعمة إيانا مهما أمكن أن يقال فى هذا المعنى ؛ وليكن بيننا وبينكم الرب عين الحياة الممطر سروراً وقداسه وسلامة ورجاء صالحاً على الذين يبتغونه بالحقيقة.

قبل عنى الإخوة الذين معك، تقبلك الإخوة الذين هنا.

 

 

 

@

المقالة الثانية توبيخ لذاته واعتراف

 

يا إخوتي تأملوا معى وليكن لكم تحنن ورأفات، فإنه ما قال الكتاب الإلهي باطلاً: ” أن الأخ الذي يعينه أخوه يكون كمدينة حصينة شاهقة لأنه يقدر كاقتدار المملكة المتوطدة “.

ويقول أيضاً: ” ليعترف بعضكم لبعض بالخطايا، وليصلى بعضكم لبعض لتشفوا “.

اقبلوا أيها المختارون من اللـه وسيلة ممن عاهد أن يرضى اللـه فكذب على خالقه، لكى ما بطلبتكم أنجوا من الخطايا المطيفة بى فأصير معافى وأنْهض من سرير الخطية المفسدة فإنى منذ طفولتى صرت إناءً طالحاً ومرفوضاً والآن إذ أسمع بالدينونة أتَهاون.

بما أن لى خطايا وجرائم تفوق العظم وأعظ آخرين أن يبتعدوا من الأشياء التى لا تنفع وتلك الأشياء تكمل منى مضاعفة.

ويلى فى أى يأس قد وقعت، ويلى فى أى خزى قد حصلت، ويلى لأن باطنى ليس كظاهرى.

فلهذا إن لم تشرق علىَّ رأفات اللـه سريعاً فليس لى من أعمالى ولا رجاء واحد للخلاص.

لأننى أتكلم على الطهارة وأتفكر فى الفجور، أنشئ أقوالاً على عدم التألم وفىَّ موجود الهذيذ فى الآلام النجسة ليلاً ونَهاراً فأى اعتذار لى.

ويلى أى فحص قد أستعد لى بالحقيقة أن زي الديانة الحسنة موضوع علىَّ وليس فىَّ قوتِها.

بأى وجه أتقدم إلى الرب الإله العارف مكتومات قلبى وأنا مديون بمثل هذه المساوئ ؛ وأجزع أن أقوم فى الصلاة لئلا تنحدر علىَّ من السماء نار فتبيدنى، لأنه إن كان الذين قَدموا فى البرية ناراً غريبة خرجت من الرب ناراً فأحرقتهم فماذا انتظر أنا، ومثل مقدار هذه الذنوب موضوع علىَّ ؟

فماذا هل أقطع رجائى من خلاصى ؟ حاشا. لأن هذا هو الذى يحرص عليه المضاد.

انه إذا أنحضر أحد إلى اليأس حينئذ يقبض عليه هو، فأنا لا أيأس من نفسى لأننى أثق برأفات اللـه وبتوسلاتكم، فلا تفتروا إذا من التضرع إلى المتعطف لكى يعتق قلبى من عبودية الآلام المحتقرة.

فقد عمىَّ قلبى واستحال فكرى المتدين حسناً وأظلم ذهنى فرجعت وصرت مثل الكلب العائد إلى قيئه فليس ذهنى نقياً، ولا دموع لى فى صلاتى، إن تنهدت نشف ماء وجهى، من الخزي أقرع صدرى فهو خزانة الآلام.

لك المجد أيها المحتمل، لك المجد أيها المتمهل، لك المجد أيها المتأنى على البشر، لك المجد أيها المتعطف على الناس، لك المجد أيها الصالح، لك السبح أيها الحكيم وحدك، لك المجد أيها المحسن على النفوس والأبدان.

لك المجد أيها المشرق شمسه على الأشرار والأبرار، والممطر على الصديقين والظُلام، لك المجد أيها المغذى كافة الأمم وكل الطبيعة البشرية مثل إنسان، لك المجد أيها المغذى طيور السماء والوحوش والدواب والبرايا المائية مثل عصفورٍ حقير.

لأن كافة البرايا تنتظر لتعطيها قوتَها فى أوانه لأن عظيمة قدرتك ورأفاتك مسبوغة على سائر أعمالك.

فلهذا يارب أطلب ألا تطرحنى مع القائلين يارب يارب ولا يعملون مشيئتك، بشفاعة كافة الذين أرضوك لأنك أنت تعرف الآلام المكتومة فىَّ وأنت خبير عالم بجراحات نفسى أشفينى يارب فأبرأ.

جاهدوا يا إخوة معى بالصلوات طالبين رأفات خيرية اللـه ؛ ونفسى التى تمررت من الخطايا حلوها من الكرمة المحقة التى غصونِها هى لكم، اعطوا العطشان من ينبوع الحياة الذى قد أُهلتم لخدمته.

أنيروا قلبى يا من صرتم أبناء النور ؛ أرشدونى أنا الضال إلى طريق الحياة يا من ثبتم فيها، أدخلونى فى الباب الملكى كما يُدخل السيد عبده، يا من قد صرتم للملك وارثين فإن قلبى قد أنسكب.

فلتدركنى بتوسلاتكم رأفات اللـه قبل أن أُجتذب مع عاملى الإثم فهناك تنكشف سائر الأفعال فى الظلمة وفى الجهر فأى شيء يدركني إذا رآنى مديوناً، أين الذين يقولون الآن أننى بلا عيب قد خليت الصناعة الروحانية وخضعت للآلام.

لا أريد أن أتعلم وأشاء أن أُعلم، لا أريد أن أُطِيع وأشاء أن أُطَاع، لا أختار أن أتعب وأريد أن أُتعِب، لا أشاء أن اعمل وأشاء أن أشجع على العمل، لا أشاء أن أُكرِم وأشاء أن أُكرَم.

لستُ أشاء أن أُعيَّر وأشاء أن أعيِّر، لا أريد أن أُحتقَر وأشاء أن أحتَقِر، لا أريد أن يتكبر علىَّ أحد وأشاء أن أتكبر، لا أختار أن أُوَبَخ وأشاء أن أُوَبِخ، لا أريد أن أَرحَم وأشاء أن أُرحَم، لا أشاء أن أُنتَهر وأريد أن أَنتَهِر، لا أريـد أن أُظلَم وأشاء أن أَظلِم.

لا أختار أن أُضَر وأشاء أن أُضِر، لا أريد أن أُغتاب وأشاء أن أَغتاب، لا أشاء أن أَسمع وأريد أن أُسمع، لا أشاء أن أُمَجِّد وأريد أن أُمَجَد، لا أشاء أن أُمسَك وأريد أن أمسِّك، حكيماً فى الوعظ لكنى لستُ فى العمل حكيماً، أقول ما يجب أن يُعمل وأعمل ما لا ينبغى أن يقال.

من ذا لا يبكى علىَّ، أبكوا علىَّ أيها الأبرار والصديقون أنا المضبوط بالآلام، أبكوا أيها المحبون النور والباغضون الظلمة على المحب لأعمال الظلمة لا لأفعال النور، أيها المختبرون أبكوا على المنفى غير المختبِر.

أيها الرحومون أبكوا على المرحوم والمفرط، أيها الصائرون فوق كل مذمة أبكوا على الغريق فى الآثام، أيها المحبون الخير والمبغضون للشر أبكوا على المحب للأفعال الخبيثة والمبغض للأعمال الصالحة، أيها المتمسكون بالسيرة ذات الفضيلة أبكوا على الذى ترك العالم بالذي فقط.

أيها المرضون للـه أبكوا على المرضي للناس، أيها المقتنون المحبة التامة أبكوا على أنا الذى أحب قريبى بالأقوال وابغضه بالأفعال أيها المهتمون بأنفسكم أبكوا على المهتم بالأشياء الغريبة، أيها المقتنون للصبر والمثمرون للـه أبكوا على الغير صبور والعادم الثمر.

أيها المشتاقون إلى الأدب والتعليم أبكوا على الفاقد الأدب والمرفوض، أيها المتقدمون إلى اللـه بلا خجل أبكوا علىَّ أنا الغير مستحق أن أتفرس وابصر علو السماء، أيها المقتنون وداعة موسى أبكوا علىَّ أنا الذى أضعتها باختيارى، أيها المقتنون عفة يوسف أبكوا علىَّ أنا الذى دفعتها وطرحتها، أيها المحبون مسك دانيال أبكوا علىَّ أنا الذى عدمتها باختيارى.

يا من اقتنوا صبر أيوب أبكوا علىَّ أنا الذى صار غريباً منه،يا من اقتنيتم مثل الرسل فى عدم اقتنائهم عدم القنية أبكوا علىَّ أنا المبتعد منها بعيداً.

أيها المؤمنون والراسخ قلبهم فى الرب أبكوا على الضعيف النفس والجبان، أيها المحبون للنوح والرافضون للضحك أبكوا على المحب للضحك والمبغض للنوح، يا من حفظتم هيكل اللـه بلا دنس أبكوا علىَّ أنا الذى قد دنسته ووخسته.

يا من يتذكرون الفراق والطريق التى لا عفو منها أبكوا على الغير ذاكر ولا مستعد لهذا السفر، يا من تصورت فى عقولهم الدينونة التى بعد الموت أبكوا على المعترف بذكرها والفاعل ضدها، يا وارثى ملكوت السموات أبكوا على وارث جهنم النار.

ويلى أنا الذى لم تترك فىَّ الخطية عضواً صحيحاً أو حاسة لم تفسدها وأنا لا هم لى والموت على الأبواب قد وقف وأنا لا هم لى.

يا إخوتى هاأنذا قد كشفت لكم كلوم نفسى فلا تتوانوا فىَّ أنا المتألم لكن اطلبوا من الطبيب فى أمر السقيم، إلى الراعى من أجل الخروف، إلى الملك من أجل الأسير إلى الحياة من أجل المائت لأنال الخلاص الذى بيسوع المسيح ربنا من الخطايا المطيفة بى.

ويرسل نعمته ويؤيد نفسى التى تزلق بسرعة، فإنى مستعد لمقاومة الآلام وحين ملاحمتى إياها تحل رداءة حيلة الثعبان باللذة نفسى وتقيدنى مأسوراً وانشط أن أجذب المحترق فتطرأ علىَّ حرارة النار فتجذبنى إلى وسط لهيبها، اطفر إلى استخلاص الغريق ومن عدم التدريب أغرق معه.

اشتهى أن أصير طبيباً للآلام وأنا نفسى مضبوط بِها وعوض المداواة أجرح من المريض، أنا لم أزل أعمى وأروم أن أرشد العميان.

فلذلك أنا محتاج إلى صلوات كثيرة حتى اعرف قدري ولكى تظللنى نعمة المسيح وتضئ قلبى المظلم.

وتسكن فىَّ عوض الجهالة معرفة إلهية ؛ لأنه لا يصعب على اللـه كل كلمة، هو منح شعبه فى البحر الذى لا يُسلك مسلكاً، هو أمطر لهم المن ومن البحر أرسل لهم سلوى كرمل البحر.

هو منح العطاش ماء من صخرة صلبة، وهو وحده خلص بصلاحه الواقع بين اللصوص؛ وبتحنن صلاحه يخلصنى أنا الواقع فى الخطايا المغلوب مثل مكبل بسوء الرأى ؛ فليست لى دالة لدى فاحص  القلوب والكلى ولا يستطيع أحد أن يشفى وجع نفسى إلا هو العالم أعماق القلب.

كم من مرة وضعت فى ذاتى حدوداً وابتنيت حيطاناً بينى وبين الخطية المخالفة للشريعة ؛ وبين المعاندين الذين يخطرون من النتائج المضادة الخواطر للحرب فعبر ذهنى التخوم وهدم الحيطان لأن التخوم لم تكن لها قوة صائنة بخشية  ممن هو أفضل من الكل والحيطان لم تأسس على التوبة الخالصة.

فلذلك اقرع الآن ليفتح لى؛ وألبس طالباً لأنال المطلوب كمن لا خجل له اطلب أن اُرحم يارب ؛ أنت أيها المخلص قد وهبت لى خيريتك وأنا كافأتَها بالمساوئ ؛ تمهل على أنا الجافى فلست أسأل عفواً عن كلمات باطلة بل إنما اطلب من خيريتك صفحاً عن أعمالى التى لا بر فيها.

يارب جددنى من كل فعل خبيث قبل أن يدركنى الموت حتى أجد فى ساعة الوفاة نعمة أمامك لأن ليس فى الهاوية من يشكرك.

يارب خلص نفسى من المخافة المنتظرة وبيض حلتى المتسخة من أجل رأفاتك وصلاحك لكى إذا سربلتنى بالبياض أنا الغير مستحق أؤهل لملكوت سماواتك وإذا حصلت فى السرور الذى لا ينقرض أقول: المجد لمن أستخلص نفساً مغمومة من فم السبع وجعلها فى جنة النعيم.

لأن لك المجد أيها الإله الكلى القداسة. آمين

 

 

 

 

@

المقالة الثالثة فى هدم الكبرياء

 

كل نسك؛ كل حمية ؛ كل طاعة ؛ كل هجر قنية ؛ كل غزارة التعليم؛ باطلة إذا كانت عادمة تواضع الرأي، كما أن ابتداء الصالحات وكمالها هو التواضع ؛ هكذا ابتداء الشرور ومنتهاها هو شموخ الرأي.

وهذا الروح النجس هو كثير الأنواع وكثير الصور، فلهذا يجتهد أن يتسلط على الكل، وأية صناعة تصرف فيها كل أحد ينصب له فيها فخه.

فالحكيم يتكبر بحكمته، والقوى بالقوة، والغنى بثروته، والحسن الوجه بجماله، والدرب المنطق بالكلام الطيب، والنغمة بحسن صوته، الحاذق الصنعة بحذاقة صنعته، الجميل التصرف بحسن تصرفه.

وكذلك لا يفتر من تجربة الروحانيين، فالطائع يمتحنه بالطاعة أى يتعظم بطاعته، والماسك بالمسك، والصامت بالصمت، والعادم القنية بِهجر القنية، والجزيل العلم بسرعة تعلمه، والمتورع بحسن الورع، والعَالم بالعلم.

فالمعرفة الحقيقية إنما هى مقترنة بالتواضع، ولهذا يحرص أن يزرع فى الكل الزوان الذى له.

فلذلك لما عرف الرب هذا الألم أنه أينما تأصل يطوح ذلك الإنسان مع العمل الذى له أعطانا ضده التواضع سلاحاً قائلاً: ” إذا عملتم سائر الأوامر التى أُمرتم بِها فقولوا أننا عبيد بطالون “.

فَلِمَ نجذب إلى أنفسنا الخفة ومضرة العقل والرسول يقول: ” إن ظن أحد أنه شيئاً فإنما يخدع عقله ؛ وكل أحد فليختبر عمله ؛ وحينئذ فليكن افتخاره فى ذاته لا على أحد آخر “.

فلما نخادع ذواتنا ويترفع بعضنا على بعض ؛ فإن كنا شرفاء فى العالم ونستحقر الأدنياء فأننا نجد الرب يعلم: ” أن الحظوظ السامية عند الناس مرفوضة عند اللـه “.

وإن كنا ممسكين فنتعالى على الضعفاء لكن الرسول يوبخنا قائلاً: “ليس من يثبت أمر نفسه ذلك هو المدرب المهذب بل الذى ثبت أمره الرب “.

وإن كنا نتعب فى الخدمة أكثر فنستعظم برأينا على الصامتين فأننا نجد الرب يمدح مريم أكثر لأنَها اختارت الحظ الصالـح.

وإن كنا صامتين فنترفع على المتغلبين بالخدمة فأننا نصادف الرب يُعلم قائلاً: ” ما جئت لأُخدَم بل لأَخدُم وابذل نفسى فدية عن كثيرين “.

كى فى كل أمر ينبغى أن نقصى استعلان الرأى، وأن كنا جلوساً فى مكان هادئ ومبيض مسقول نتشامخ، لكن ماذا ينفعنا عمل المكان إن لم نعمل بتواضع إذ الرسول يقول: ” لا نراقب الأشياء الأرضية المرئية بل التى لا ترى لأن الأمور التى ترى وقتية والتى لا ترى أبدية “.

وإن كنا نسكن فى جب أو فى مغارة ننتفخ فهذه سمات الوفاة. وعدم الهم بالأمور العالمية فالأمر الذى اخترته لذاتك لتقويم الفضيلة لا يصيرنَّ لك سقطة الكبرياء فتضاهى طنجير لا فهم له؛ ولا يعرف العمل الذى له.

وعوض قطعة حديد تروم أن تحمى عوداً فتحتاج أن تتخذ التواضع بقوة وإن كنت موسراً وحاوياً حدود العدل  فأنك لم تبلغ إلى حدود إبراهيم الذى جعل ذاته تراباً ورماداً.

وإن كان فوض إليك الاهتمام بالشعب فموسى قد تقلد الاهتمام لا برئاسته شعب عدده ألف فقط لكن كثرة شعوب.

لأنه بعد أن ضرب اللـه مصر بيد موسى وهرون ونشف أرض البحر الأحمر، وسير إسرائيل بلا بلل وعبرهم تلك البرية المرهبة اقبلوا إلى تخوم أهل موآب فابصر أهل موآب كثرة الشعب كما كتب أن موآب قال لمشيخة مدين أن هذا الجمع يلتحس كافة الأشياء التى حولنا كما يلتحس العجل النبات الأخضر من البقعة.

لأنه كان أحصى الشعب سوى النساء والصبيان وقبيلة اللاويين من ابن عشرون سنة وما فوقها كل من ينتصب فى مصاف الحرب من إسرائيل فكان عددهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً.

وكل هؤلاء كان هو رئيساً عليهم ؛ وصار مناجياً للـه ومعايناً مجد الرب ؛ فلم يترفع قلبه ولا توانى فى التواضع.

فقد شهد عنه الكتاب المقدس قائلاً: ” والإنسان موسى كان وديعاً جداً أكثر من كافة الناس الموجودين على الأرض “.

وإن كنت بَهى الوجه وقوى البأس وعليك التاج موضوعاً فإنك لم تبلغ إلى حدود داود الملك الذى واضع ذاته قائلاً: أنا دودة ولست إنساناً.

وإن كانت لك معرفة وحكمة ومسك فإنك لم تبلغ إلى حدود الثلاثة فتية ودانيال النبى الذين أحدهم قال: يارب أنت هو العدل ونحن فلنا خجل وجهنا إلى هذا اليوم ؛ وأما الثلاثة فتية فابتهلوا بنفسٍ مسحوقة وروح متواضع.

فإن كان الصديقون أوضحوا مثل هذا التواضع فكم يجب أن نكون نحن الخطاة أكثر تواضعاً لأن من يترفع ويعظم رأيه فذاك هو عقل البشر.

كما يقول الرسول: ” إن كنتم تعيشون للجسد فستموتون وإن كنتم تميتون بالروح أفعال الجسد فستعيشون “.

وغير ممكن أن يمسك الآلام من لم يقوم الفضيلة أولاً، أو ما قد سمعتم كم من مصاعب احتملها الرسول بولس عن الأمانة البهية لأنه كتب إلى أهل كورنثوس يقول:

” فى الأتعاب أزيد جداً فى العقوبات أكثر كثيراً جُلدت من اليهود خمسة مرات أربعين جلدة إلا واحدة ضربتُ بالعصا ثلاثة دفعات، رجمت دفعة، غرقت ثلاثة دفعات، أقمت فى العمق يوم بليلة، وفى الأسفار مراراً كثيرة، احتملت معاطب الأنْهار ومخاوف اللصوص، معاطب من جنسى، مصاعب من الأمم، معاطب فى المدن، ومخاوف فى البرية، معاطب فى البحر، مصاعب من الإخوة الكذبة ؛ بالتعب وبالحرص فى الأسهار مراراً كثيرة، بالبرد والجوع والعطش، وبالأصوام دفعات كثيرة، بالبرد والعري وما يتبع ذلك “.

أترانا نستطيع نفتح فمنا ؛ وابصر فضله بعد مثل عظم هذه المعاطب وبعد مثل جسامة هذه التقويمات، كيف واضع ذاته وقال: ” أيها الإخوة أنا ما احتسب ذاتى أننى قد أخذت شيئاً “. فقال هذه الألفاظ لينفى التشامخ عالماً أى رجز يحل بمن يعشقه.

من يتشامخ يشبه من يعير اللـه بتقويماته كما فى الأمور البشرية، من أعطى قريبه عطية وتشامخ عليه فقد سلب صلاته ونقض صداقة قريبه، ولهذا من هو هكذا فهو مرذول.

فلأجل هذا أراد الرب المهتم بحياتنا أن يجعلنا غرباء عن هذا الألم المفسد فعلمَ قائلاً: ” إذا صنعتم كل البر فقولوا أننا عبيد بطالون “.

فإن لم نصنع ذلك لا نكون أكفاء ولا نسمى عبيد بطالين  لأن ربنا عظيم ومواهبه عظيمة جسيمة وقوية.

ولنعلم أن الرب ما علمنا أن نتواضع قولاً فقط بل أدبنا أن نتواضع برأينا بالفعل: ” ائتزر بمئزر وغسل أرجل رسله “.

فذلك قال: ” تعلموا منى فإنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم “.

فإذا وافتك المحزنات بخلاف نيتك وصبرت عليها كان ورودها كأنه فى نيتك فتعرف حينئذ ذاتك أنك قد بلغت إلى حدود إنسان ذى فضيلة ومتواضع وتنذهل إذا عرفت كيف احتملت الفكر الخادع الذى أخطر لك الرؤيات الظالمة وكان يقول لك أنك عتيد أن تؤخذ بِها.

بل الأولى بك كما نزعت رؤيتك من مثل هذا الأمر أن تقول لذاتك: أنت من أنت إلى أى حدود قد وصلت ؛ هل أنت إيليا ؟ أتراك صنعت عجائب مثل ذاك ؟

فإنه بصلاته أغلق السماء فلم تمطر ثلاثة سنين وستة أشهر، ثم بصلاته أيضاً أعطت السماء مطراً، وبصلاته أيضاً أحضر من السماء ثلاثة مرات ناراً.

وان كنت اقتنيت الأمانة كلها فأعطينا خبره بذلك ؛ أرنا عجائب وآيات، أقم بصلاتك موتى، أفتح أعين العميان، أطرد جناً، نقى برصاً، أقم مشلولاً، أمشى على البحر كمشيك على الأرض الياببسة، حول الماء خمراً، أشبع بصلواتك من الخمسة خبزات والسمكتين جموعاً كثيرة.

لأنه صادق هو القائل: ” الحق أقول لكم إن من يؤمن بى يعمل الأعمال التى صنعتها أنا وأعظم منها يعمل”.

لكن لعل أحد يعير فيقول: فإن لم يعمل أحد تلك الأعمال والأمور اللائقة باللـه لا رجاء خلاص له. بل لنا رجاء خلاص إن اعترفنا بضعفنا وقلة إيماننا وإن لم تُعمَل هذه بنا لأن الضعيف إنما يلتمس رحمة لا تعظماً.

فإن كنا محتاجين إلى الرحمة وإياها نطلب فنحتاج إلى التواضع لنجذب بالتواضع الرأفات إلينا من اللـه لأنه قد كتب: ” أنه بتواضعنا ذكرنا الرب وأنقذنا من أعدائنا “. وأيضاً: ” تواضعت فخلصنى “.

وإن كنا نستند على الرياح ونعظم رأينا فلسنا صانعين شيئاً آخر إلا أن نكردس ذاتنا ونزجها فى اللجة فلا تقبلن مرض الكبرياء لئلا يسرق العدو رؤيتك بغتة.

إذاً فق من فكر الاعتداد بالذات لا تلف شبكته على رجليك، أغسل بالتواضع ذهنك ونظفه من هذا السم القاتل ليؤدبك منظر الذى يكنس بيته كيف ينحنى إلى الأرض وينظفه فكم يحتاج بالأكثر أن تنحنى باهتمام كبير وتتضع من أجل تنظيف النفس ولا تترك فيها الأشياء التى يمقتها اللـه لأنه فى النفس المتواضعة يسكن الآب والابن والروح القدس.

فإنه مكتوب أية شركة للبر مع الإثم أو أية مساهمة للنور مع الظلمة، وأى اتفاق للمسيح مع المارق، وأى حظ للمؤمن مع الكافر، وأى موافقة لهيكل اللـه مع هيكل الأوثان.

نحن هيكل اللـه كما قال اللـه: ” أننى سأسكن فيهم وأمشى بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً لهذا أخرجوا من بينهم وتميزوا منهم قال الرب ولا تمسوا دنساً وأنا أقبلكم وأكون لكم أباً وتكنون أنتم لى بنيناً وبنات يقول اللـه الممسك الكل “.

فإذ لنا مثل هذه المواعيد يا أحبائى فلنطهر أنفسنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة بخشية اللـه فإذا اجتهدت إذاً أن تخرج من الأمور العالمية وتنتقل من مصاعب العالم الشرير جاهد جهاداً متكاثراً حذراً حينئذ من أن تشارك روح الكبرياء النجس ليقبلك الرب لأن نجس بالحقيقة عند اللـه كل متعالى القلب.

أما تخطر ببالك النار التى مزمع أن تعبر فيها. إذا عبرنا فى تلك النار وكنا أنقياء بلا عيب حينئذ نعرف ذاتنا من نحن لأن ذلك اليوم يوضح عمل كل أحد كما كتب أنه بالنار يختبر.

فلنتضرع للرب بتواضع كثير أن ينقذنا من الخوف المنتظر ويؤهلنا لذلك الاختطاف حين يختطف الصديقين فى السحب إلى الهواء لاستقبال ملك المجد وأن يورثنا مع الودعاء المتواضعين ملكوت السموات.

لأنه كما قال: ” مغبوطون المساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات”.

وكذلك ” ويل للمستكبرين والمستعلين برأيهم فإن لهم أتون النار “.

لأنه فى الكبرياء يسكن القائل: ” اصنع بقوتى وبحكمة فمى أنتزع تخوم الأمم وأرتقى قوتِهم وأزلزل مدناً مسكونة وأتناول المسكونة كلها بيدى مثل عش وأحملها كبيض مهمل ولا يفلت أحد منى أو يقاوم قولى لكن الرب الإله رب الأجناد يرسل إلى كرامتك هواناً وإلى شرفك نار متوقدة تحرق.

وأيضاً أنت قلت فى ذهنك لأصعدن إلى السماء ولأضعن كرسى فوق نجوم السماء ولأجلس فى الجبل الشامخ على الجبال الشاهقة نحو الشرق وأرتقى فوق الغيوم، أكون نظير العلى. فالآن إلى الهاوية تنزل وإلى أساس الأرض.

فلنهرب منذ الآن من الكبرياء التى يبغضها الرب ولنحب تواضع العقل الذى به أرضى الرب جميع الصديقين، لأن تواضع العقل قربان جسيم قدره وشرف عظيم ونجاح نفيس وكرامة جزيلة للذين قد اقتنوه لأن فيه سعى لا يمسك وحكمة كاملة لأنه باستعلاء الرأى ذل قدر ذلك الفريسي، وبتواضع العقل أرتفع شأن العشار الذى معه.

يؤهلنا الرب للحظ الذى لا يبلى مع كافة الصديقين

فإن به يليق المجد

إلى الأبد

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقالة الرابعة فى الحض على التوبة

 

تعالوا يا أحبائى هلموا يا آبائى وإخوتى يا رعية الآب المنتخبة يا جند المسيح الموسومين تعالوا فاسمعوا قولاً يخص نفوسكم، هلموا فلنتجر ما دام الموسم واقفاً، تعالوا فلنجد حياة أبدية هلموا فلنتبع خلاص نفوسنا.

املئوا أعينكم دموعاً ففى الحين تنفتح أعين ذهنكم ؛ تعالوا كلنا أجمع الأغنياء والفقراء ؛ الرؤساء والمرؤوسين ؛ الشيوخ مع الشبان ؛ الأبناء والبنات ؛ وكل البنين المريدين أن ينجوا من العذاب الخالد ويصيروا لملكوت السموات وارثين.

فلنتضرع مع داود النبى إلى الرب الرحوم المتعطف على الناس قائلين:

” اكشف حجاب عينى فأتأمل من ناموسك عجائب ؛ أنر عينى لئلا أتضجع للوفاة “.

ولنهتف كما هتف الأعمى: ” يا ابن الإله ارحمنى “.

فإن منعنا قوم وانتهرونا لنصمت ؛ فلنصرخ نحوه أكثر ولا نضجر من الصراخ إلى أن يفتح يسوع المعطى النور أعين قلوبنا، تقدموا إلى المسيح اقتربوا منه واستضيئوا فلا تخزى وجوهكم واتخذوا فكراً سديداً وشوقاً إلى الملك والفردوس.

تَهاونوا بأمور هذا الدهر ؛ اجتهدوا فى هذه الساعة الحادية عشر ؛ حاضروا لئلا يغلق الباب دونكم ؛ فقد قرب المساء الذى يأتى فيه المعطى الأجر بمجد جزيل ليعطى كل أحد نظير أعماله.

ولنتبن يا إخوتى ما دام لنا وقت ؛ فقد سمعتم ماذا يقول المسيح: ” إن فرحاً يصير فى السماء بخاطئ واحد يتوب “.

أيها الخاطئ لم تتوانى لم تيئس ؟ إن كان يصير فى السماء فرح إذا تبت فممن تخاف ؟ إن الملائكة يفرحون وأنت تتوانى، رئيس الملائكة هو الكارز بالتوبة وأنت تَهرب، الثالوث الطاهر والذى لا يوسع والمسجود له يستدعيك وأنت تتنهد.

لا يحل لنا اهتمام العالم لئلا تمررنا النار الخالدة والدود الذى لا يرقد، فلنبكى ههنا قليلاً لئلا نبكى هناك إذا عُذِبنا بكاءً أبدياً، احذروا آلا يتوانى أحدكم فإن ورود المسيح يصير بغتة كبرق خلب ؛ أما ترهبون ؟

إن فى تلك الساعة ينال كل أحد نظير أعماله، كل أحد يحمل وسقه، كل أحد يحصد ما زرع، كلنا نقف عراة أمام عرش المسيح ، وكل واحد منا يعطى القاضى جواباً.

فى تلك الساعة لا يقدر أحداً  أن يغيث أحداً، لا الأخ أخاه، ولا الوالدين أبنائهم، ولا الأولاد آبائهم، ولا الأصدقاء خلانِهم، ولا رجل قرينته، لكن كل واحد يقف بخوف ورعب منتظراً أن يسمع القضية من اللـه.

فلِمَ نضجع فيما بعد ولا نستعد ؟ لماذا لا نَهتم بحجج الاعتذار ما دام لنا وقت ؟ ولِمَ نتهاون بالكتب المقدسة وبكلمات المسيح ؟ هل تظنون أن أقواله وأقوال القديسين لا تديننا فى ذلك اليوم بحضرة المقام المرهب إن لم نعمل ونحفظ كل ما أوصتنا.

قد سمعتم ماذا يقول الرب للتلاميذ: ” من يسمع منكم يسمع منى ومن يخالفكم إياى يخالف ولأبى “.

وفى فصل آخر يقول أيضاً: ” من يخالفنى ولا يسمع أقوالى أنا لا أدينه لكن له من يدينه القول الذى قلته ذاك يدينه فى اليوم الأخير “.

ترى أى قول مزمع أن يديننا فى ذلك اليوم الأخير ! هو إنجيله المقدس وباقى كتب الأنبياء والرسل المقدسة.

فلهذا اطلب إليكم يا إخوتى ألا تتهاونوا بالمكتوبات، إن السماء والأرض تزولان وأما أقوال المسيح فلا تتغير.

هلموا يا إخوتى قبل مجىء ذلك اليوم الرهيب، فلنلقى أنفسنا فى لجة رأفات اللـه فهو الإله ؛ فيتقدم ويأمر ويستدعينا كلنا قائلاً: ” تعالوا إلىَّ يا كافة المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم “.

فالمحب للناس، والمحتمل البشر يستدعى فى كل وقت الجميع. المتحنن والمتمهل الذى يريد أن جميع الناس يخلصون لم يأمر باستدعاء المختصين به فقط بل يستدعى ٍالكل. ” تعالوا إلىَّ كلكم “.

وإن كنت موسراً أو مقفراً فإن المقبل إلىَّ لا أخرجه خارجاً. من هو المقبل إلىَّ ؟ الذى عنده وصاياى ويقبلها ويحفظها، الذى يسمع قولى ويؤمن بمن أرسلنى.

مغبوط من يسمع قوله ويحفظه، وشقى من يخالفه، فإن ذلك القول يدينه فى اليوم الأخير، كما كتب مرهوب هو الوقوع فى يد اللـه الحى.

تب أيها الأخ ولا تجبن، تب أيها الخاطئ واثقاً وناظراً إلى تعطف المسيح الذى لا يحصى القائل: “ما جئت لأدعو صديقين فقط بل خطاة إلى التوبة “.

تب لئلا تخجل أمام المقام المرهب حيث تقف بخوف حيث ألوف وربوات ملائكة ورؤساء ملائكة حين تصير الأشياء المكتومة ظاهرة.

حين تفتح الكتب، حين يفرز البعض من بعض كما يفرز الغنم عن الجداء، بالحقيقة أنَها ساعة مرهبة ومجزعة، لأن الحاكم عادل مرهوب مذهل.

من ذا لا يخلف ! من لا يجزع من تلك الساعة ! لأن القاضى قوى الاقتدار، ومجلس القضاء غير مستشفع، وأعمالنا تكون منتصبة أمام أعيننا، ونَهر النار قبالة الموقف، وتسبيح الملائكة مع الصديقين بلا صمت، ونحيب الخطاة غير محتمل، والدموع غير نافعة، حينئذ تنفتح الكنوز والصديقون يتمتعون.

مغبوطون الذين عطشوا وجاعوا فإنَهم هناك سيشبعون، وويل للشباعى فإنَهم هناك يجوعون ويعطشون، والطوبى للذين افتقروا وبكوا فإنَهم هناك يضحكون ويُعَزون.

وويل للذين يضحكون الآن فإنَهم هناك ينوحون ويبكون بلا فتور، والطوبى للذين رحموا فإنَهم هناك سيرحمون، والويل للذين لا رحمه لهم.

لقد سمعتم كيف يطوب المجاهدين ؛ وكيف يعطى الويل للمتوانيين ؛ فإذ لنا مثل هذه كلها فلنحرص أن نخلص، ولا نبصر إلى المتوانيين والمتنعمين فإنَهم كالحشيش يجفون سريعاً.

لا نحب هذا الدهر فأنه يعرقل الذين يحبونه، يطرب مقدار ساعة ويرسل الإنسان إلى ذات العذاب عارياً.

اسمع وأصغ إلى الكتب الإلهية، فلا تتعرقل ولا تنخدع من هذا العالم الخبيث، اسمع هذا يقول يوحنا المتكلم فى اللاهوت ” لا تحبوا العالم ولا شيئاً مما فيه فإن سائر الأشياء التى فى العالم هى شهوة الجسد وشهوة العيون والعالم يعبر ومن يعمل مشيئة اللـه يبقى إلى الأبد “.

اسمع الرب يقول: “ماذا ينفع الإنسان إن ربح العالم كله وخسر نفسه”.

أصغَ باهتمام إلى كلامه فإن القول الذى قال وعلم به ذاك يديننا فى اليوم الأخير، أترى الرب كاذباً حاشا لأنه هو الحق فإن كنت تعرف بمبالغه أنه هو الحق وأن أقواله غير كاذبة فلِمَ تتوانى يا شقى ؟ ماذا تتوقع ؟ ماذا تفتكر ؟ من يعتذر عنك ؟

أما عرفت أن كل أحد يعطى عن نفسه للـه جواباً ؟ أما عرفت أن كل أحد يحصد ما زرع ؟ وكل أحد يحمل أثقاله ؟.

فإذ لك وقت فبدد ثقل خطاياك فإن الإله العطوف على الناس يستدعيك قائلاً: ” تعالوا يا معشر الموقرين “. فإذ يأمر الكل بِهذا فلا ييئس أحد، ولا يجترئ أحد أن يقول: ” أننى ما أخطأت “.

فإن من يقول أننى ما أخطأت فذلك أعمى ومكفوف وأشقى كافة الناس لأن يوحنا الإنجيلى يقول: “إن قلنا أن لا خطيئة لنا نكذب ولا نعمل الحق ونخادع أنفسنا ونجعل اللـه كاذباً “. لأن ليس أحد نقياً من خطية.

فماذا إذاً، إن الحاجة ماسة إلى الدموع لنغسل خطايانا قائلين مرتلين مع داود النبى ” اغسلني فأبيض أكثر من الثلج “. وأيضاً ” أحم فى كل ليلة سريرى وأبل فراشى بعبراتى “.

وذلك إنما أخطأ ليلة واحدة فبكى كل ليلة، فلذلك أستوضح مغبوطاً لأن النبى سبق فأبصر بمبالغة القائل: الطوبى للذين ينوحون.

لا تشتهى شيئاً من أشياء هذا العالم الزائل، أبغض الثياب الناعمة والزينات والوشاءَ أمقت تلوينات الأصباغ، التصفف، التزين، التبختر، الأغانى الشيطانية، والمعازف، والصفارات، وتصفيقات الأيدى، والأصوات الغير مرتبة الوحشية.

أولاً تعلم يا شقى أن هذه كلها بذور الشيطان هذه كلها يعملها أمم العالم الذين لا رجاء خلاص لهم، فلا نماثلن الأمم لئلا ندان معهم.

قد سمعتم الرسول يقول: هذا أقوله واستشهد بالرب ألا تسلكوا أيضاً كما تسلك الأمم باغترار عقلهم المظلم ذهنهم.

فإذ قد تركنا أعمال الأمم فلا نعود إلى الأشياء التى وراء أى التى قد سلفت ونعملها أيضاً ؛ قد جحدت دفعة الشيطان وملائكته ووافقت المسيح بحضرة شهود كثيرين.

فانظر لمن قد وافقت وعاهدت ولا تستهون به ؛ واعرف هذا أن فى تلك الساعة كتب ملائكة أقوالك ومعاهداتك وخضوعك وخباؤها  فى السموات إلى يوم الدينونة الرهيب.

فمن أجل هذا لا تخشىَ ولا تفرق إذ فى يوم الدينونة يُحضِر الملائكة كتاب الوثيقة التى عليك وكلمات فمك أمام المقام المرهب حيث يقف الملائكة مرتعدين، وحينئذ تسمع الصوت المويِّل: ” أيها العبد الخبيث من فمك أدينك بالحقيقة “.

أنك تتنهد حينئذ تنهداً مراً، وتبكى فى تلك الساعة ولن ينفعك شىءٌ ارحم نفسك ولا تبغض مهجتك.

افتح عينيك وابصر كيف أن قوماً كثيرين يجاهدون ؛ كيف يحرصون أن يخلصوا ؛ كيف يكلفون ذواتِهم فى كل عمل صالح.

كيف يحفظون ذاتَهم من الحسد، من القرف، من البغض، من الضحك، من الزنا، من التنعم، من الخصومة ؛ كيف قد احبوا الطريق الضيق صائمين ساهرين ملازمين الشقاء وباكين، كيف قد أعدوا مصابيحهم بَهية.

كيف يسبح فمهم كل حين ويمجد الختن الذى لا يموت وعيونَهم متأملة جماله ونفوسهم مبتهجة.

تأمل وانظر أنه قد قرب ولا يبطئ ؛ لأنه يجىء ليفرح الذين يُحبونه، يأتى ليعزى الذين ناحوا وبكوا لا على المائت ولا على خسران المال الوقتى بل من أجل الخطية السهل افتعالها ؛ ومن أجل الملكوت الذى لا نَهاية له.

ومن أجل نعيم الفردوس المطرب الذى أُخرجنا منه لما خالفنا وصية اللـه حيث يعود إليه أيضاً النائحون والباكون.

يجىء ليكلل الذين جاهدوا بمفترض الجهاد الذين احبوا الطريقة الضيقة الضاغطة، يأتى ليرحم الرحومين.

يجىء ليطوب الذين تمسكنوا من أجله، يأتى ليشبع الذين جاعوا من أجله وعطشوا من الخيرات، يجىء لينير مكتومات الظلمة ويظهر آراء القلوب.

ولِمَ لا أقول قولاً وجيزاً يجىء ليعطى كل أحد نظير أعماله، يجىء لا من الأرض كما جاء فى المرة الأولى لكن من السموات بقوة ومجد كثير.

حينئذ  تُضرب الأبواق فتتزعزع قوات السماء، وترتعد الأرض كلها كالبحر من قِبَل مجده، ويجرى أمامه نَهر نار ينظف الأرض من المآثم.

حينئذ يصير بغتة صوت ها الختن يجئ ؛ ها السرور المنتظر يوافى، وها فخر الصديقين، شمس العدل مقبل هل ملك المتملكين وارد الذى لا انقضاء لملكه، ها القاضى العادل آتى الآن اخرجوا لاستقباله سريعاً.

وحينئذٍ يوافى الذين لهم مصابيح مضيئة وحلتهم منيرة فيسمعون صوت الختن قائلاً: ” تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.

فلما يصير هذا الصراخ مسموعاً من الكل يخرج إلى استقباله الذين لهم مصابيح مضيئة بَهية بدالة جزيلة مبتهجين واثقين أن مصابيحهم لا تنطفئ.

حينئذ إذا رأيت ذاتك فى غم عظيم، فى خيبة رديئة وشدة غير محتملة، وإذا عاينت مصباحك انطفأ تقول بخزى وخجل: ” يا إخوتى أقرضونى زيتاً قليلاً فقد انطفأ مصباحى “.

فيجيبونك قائلين: ” لعله لا يكفينا وإياك لكن أذهب إلى الذين يبيعون وأشترى لك “.

فتمضى بخزى وتوجع وتنهد مر باكياً فلا تجد ألبته زيتاً تشتريه لأنه قد أنحل موسم الحياة وكل حياتَهم ترتعد كالبحر.

قد انصرف الفقراء الجالسون حول أبواب الكنائس الذين يبيعون الزيت هناك، فتضيق بك الأمور من كل جهة وتتحير باكياً منتحباً قائلاً: أمضى أقرع باب المسيح لكن من يعرف إن كان يفتح لى.

فإذا جئت تقرع يجاوبك الختن من داخل: ” حقاً أقول لك لستُ أعرفك أنصرف عنى يا عامل الإثم ما رَحمت فلا تُرحم، ما سمعت صوت الفقراء ولا أنا اسمع صوتك.

كنت تسمع كتبى المقدسة وتضحك ؛ فلهذا لا اسمح لك أن تدخل، نبذت أوامر أنبيائى ورسلى ؛ فلهذا القول الذى قلته ذاك يدينك فى هذا اليوم الأخير انصرف عنى.

لم تقبل الباب الضيق ؛ خضبت بشرتك وقتلت نفسك ؛ وكيف تريد أن تدخل ههنا وتدنس مملكتى ؛ دنست بشرتك وأوعبت فمك قرفاً وسلباً وعملت مشيئات الشيطان وطرحت مشيئتى ؛ وأبغضت قريبك والآن تتضرع أن تدخل إلى حيث لم تُرسِل شيئاً حيث ليس لك شيئاً موضوع.

لا دموع، ولا بكاء، ولا صوم، ولا سهر، ولا تسبيح، ولا بتولية، ولا صبر، ولا صدقة، ولا شيئاً من هذه تقدمت وأرسلتها إلى هنا، فماذا تطلب ؟

هذا مسكن إنما يسكنه الذين تمسكنوا من أجلى، هذه المملكة للرحومين، هذا الفرح للنائحين، هذا السرور للنادمين والتائبين، هذه النياحة للصائمين والساهرين، هذه الحياة لليتامى والأرامل.

ههنا يفرح الذين جاعوا وعطشوا فرحاً مؤبداً، فأنت قد أخذت خيراتك فى حياتك أنصرف عنى إلى النار الأبدية “.

هذه تسمعها واقفاً خازياً ؛ ومطرقاً إلى أسفل ؛ وفى حين وقوفك يأتى إلى أذنك صوت الفرح والابتهاج وتعرف صوت كل واحد من رفقائك، فحينئذٍ تتنهد تنهداً مراً قائلاً:

” ويلى أنا الشقى كيف عدمت هذا المجد وتميزت عن رفقتى ؛ كنتُ معهم طول أيام حياتى والآن انفصلت عنهم، بالحقيقة أصابنى هذا عن استحقاق.

كان أولئك يمسكون عن الأغذية وغيرها وأنا كنت أبادر إلى الأغذية والأعشية، كان أولئك يرتلون وأنا صامت، كان أولئك يصلون وأنا أتنزه، كان أولئك يضعون ذاتَهم وأنا أتكبر، كان أولئك يستهونون بذاتِهم وأنا أتزين، كانوا يبكون وأنا أضحك.

فلهذا الآن أولئك يبتهجون وأنا أنتحب أولئك يسرون وأنا أبكى، يتملك أولئك مع المسيح إلى الدهور التى لا تنتهى وأنا أُرْسَّل مع معاند المسيح إلى النار الخالدة، الويل لى أنا الشقى. ما هو الذى أنا أدخل به ؟ كم خيرات قد عدمتها لكى ما أعمل مشيئة الشيطان زمناً يسيراً.

الآن علمت أن كل أحد يأخذ نظير أعماله، الآن علمت أن العالم غرر بى واعتقلنى، وها كم من خيرات عدمتها نفسى وكم شرور جلبتها على ذاتى “.

هذه ونظائرها تقولها منتحباً لكنك لا تنتفع بِها لأن هناك لا منفعة من التوبة والندامة.

فمن أجل هذا تُناشدنا وتُوصينا الكتب المقدسة كتب الرسل والأنبياء والقديسين أن الحظوظ الصالحة التى أعدها اللـه للذين أحبوه ما رأتْها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على بال إنسان.

فقد سمعت أيضاً الرب يقول: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد. وفى فصل آخر يقول أيضاً: الطوبى للمطرودين من أجلى.

ولهذا يقول الرسول: لا تنخدعوا فإن اللـه لا ينخدع، الشىء الذى يزرعه الإنسان إياه يحصد فمن يزرع فى الجسد يحصد بلاءً ومن يزرع فى الروح يحصد من الروح حياة خالدة، لأن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج.

أصغوا يا إخوتى وتذكروا المكتوب فقد قال:خرج الزارع ليزرع زرعه.

فمن هو الذى خرج وزرع ؟ هو ربنا يسوع المسيح سيد المنزل الخطير. ماذا زرع ؟ قول البشارة، وصاياه المقدسة. أين زرعها ؟ وفى أية أرض ؟ فى قلوب الناس، فى كافة أقاصى الأرض. لكن الكل لم يسمعوا الإنجيل، ولا كلهم يعملون فلاحات لكي ما وقع زرع الرب يعمل ثمراً ؛ لكنهم فى أرض بور، وذات شوك وخديعة.

يقبلون قول الإنجيل، وإذ هم متصرفون فى أمور العالم وثروته ولذاته يختنقون ولا يعطون ثمراً.

فأنتم يا أحبائى قوموا قلوبكم ومهدوها لقبول بشارة الإنجيل، ولا يخنق قلوبكم اهتمام العالم الكثير، فلنسعى من أجل الحاجة لا من أجل التنعم، ولنرضى بالقوت الكافى.

إن لازمتم التنعم والاستكثار فسيكون تعبكم كثيراً وجريكم لا يقف أصلاً وغمكم لا ينتهى وعيشكم كثير الاهتمام.

يا إخوتى إن الحاجة إلى شيء واحد كما قال الرب، وهذه الأشياء يجب أن نصنعها فى جزء من همنا من أجل اضطرار الجسد، وتلك الفضائل يجب أن نصنعها بلا فتور من أجل خلاص النفس لأن ليس شيء أعلى قدراً من النفس.

فمن أجلها يا إخوتى فلنحاضر ونَهتم ونستعد كل يوم ولا نفنِ كل زماننا فى الاهتمام بالجسد، لكن إذا جاع الجسم وطلب طعاماً فتذكر أنت أن النفس أيضاً لها حاجتها.

وكما أن الجسد إن لم يستعمل خبزاً لا يستطيع أن يعيش كذلك النفس إن لم تتغذى بالحكمة الروحانية فهى مائتة ؛ لأن الإنسان مركب من نفس وجسد.

فلذلك قال المخلص: أنه ليس بالخبز يعيش الإنسان فقط.

فأنت إذاً كقهرمان نجيب أعطِ النفس أغذية النفس وأمنح الجسد أغذية الجسد ؛ ولا تطعم جسدك وحده وتترك نفسك مقفرة مائتة بالجوع، ولا تدع نفسك تموت لكن غذيها بالأقوال، بالمزامير، بالتسابيح، بالترانيم الروحانية، بقراءَة الكتب الإلهية، بالأصوام، بالأسهار، بالعبرات، بالرجاء، والدراسة فى الخيرات المستأنفة. هذه ونظائرها هى طعام النفس وحياتَها.

أحذروا يا إخوتى أن يوجد أحدكم غير مثمر، من يزرع للجسد تمتع العالم، تنعماً ؛ الأعشية والأغذية ؛ من جسده يحصد بكاءً.

ومن يزرع للروح صلاة، وسهراً، وصوماً من الروح يحصد حياةً أبديةً.

تأملوا وأبصروا إن المتنعمين لا يمدحهم أحداً  أصلاً، ولا المتنزهين، ولا الضاحكين لأن هذه تصنعها الأمم.

أما الشريعة التى لنا فهى هذه: ” مغبوطون المساكين بالروح، الطوبى للنائحين، الطوبى للرحومين، الطوبى للمطرودين، الطوبى للمعيرين، الطوبى للأنقياء القلب، الطوبى للمتمسكين بالحِمية.

الطوبى للذين حفظوا المعمودية طاهرة، الطوبى للذين يزهدون فى هذا العالم من أجل المسيح، مغبوطة أجسام البتوليين، الطوبى للذين لهم نساء وكأن ليس لهم، الطوبى للمتيقظين والمصلين.

الطوبى للذين يقدمون نظرهم للوارد ليدين الأحياء والأموات، الطوبى للذين يبكون فى صلواتَهم “.

هذه الفرائض المستقيمة هى أمانتهم الإلهية، أى كتاب يطوب الذين يصفرون،  ويعزفون، أو الذين يضحكون، أو الذين يتنعمون، أو السكيرين، والمعربدين، أو الذين يرقصون، والمحبين للعالم.

هذه الأشياء التى فى العالم لم تأمرنا بِها شريعتنا، ولم تُشِر إليها ؛ هذه لم يُعَلم بِها ربنا.

لكن يويل من يستعملها قائلاً:

الويل للضاحكين الآن لأنَهم سيبكون وينوحون، الويل للشباعى لأنَهم سيجوعون، الويل لكم أيها الأغنياء.

ويقول أيضاً النبى: الويل للذين يقولون إن الردىء جيد والجيد ردىء، والجاعلين النور ظلمة والظلمة نوراً، الجاعلين الحلو مراً والمر حلواً، الويل للذين يذكون المنافق من أجل الهدايا وينتزعون حق الصديق.

الويل للذين يقومون بالغداة ويطلبون المسكر ويلبسون فيه إلى المساء فإن الخمر تحرقهم، لأنَهم بالمعازف والدفوف والصفارات يشربون النبيذ، ولا يشاهدون أعمال اللـه، ولا يتأملون صنائع يديه وهذه ونظائرها للمحبين العالم ؛ والناس الوادين للجسد لا المحبين للمسيح.

أتشاء أن تسمع أوصاف يسيرة من التى المحبين للمسيح، والسالكين فى الطريق الضيق، اسمع الرسول قائلاً: ” فى كل شيء نُظهر ذواتنا كما يليق بخدام المسيح بصبر كثير، بغموم، بشدائد، بضيقات، بجراحات، بحبوس، باضطرابات، بأتعاب، بأسهار ؛ بأصوام، وتوابعها “.

والرب يقول أيضاً: قوموا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة.

ماذا يجب أن نعمل يا إخوتى ؟ ها قد سمعتم كيف يطوب السالكين فى الطريق الضيق، وكيف يوَّيل للسائرين فى الطريق العريض الواسع المؤدي إلى الهلاك.

فلنتعب زماناً يسيراً لنملك إلى الأبد وليكن بإزاء أعيننا كل حين الوارد ليدين الأحياء والأموات ونتذكر دائماً الحياة الخالدة، والملكوت الذى لا موت فيه، والتصرف مع الملائكة، والعيشة مع المسيح.

فلنتذكر أن ليس فى العالم شىء سوى دموع، وتعييراً، ومثالب، وتوانِ، وأتعاب، وأمراض، وشيخوخة، وخطايا، وموت.

فلا تحب العالم، أحذر لئلا يطربك العالم، ويعرقلك، ويرسلك عارياً إلى ذلك الدهر، تذكر القائل: صلوا بلا فتور.

لا تسر بزهزهة العالم، ليكن المزمور كل وقت فى فمك فإن الرب نفسه يعظ به، ويعزى نفوسنا، ومهما أجترمناه وهفونا به ما دام لنا أوان التوبة فلنداوه بالعبرات.

وقت التوبة قليل وملكوت السموات لا نَهاية له، ونحن نطوب القديسين ونتوق إلى إكليلهم، ولا نشاء أن نشابه جهادهم.

هل تظنون أنَهم كُللوا بغير أتعاب وأحزان كما نشاء نحن ! أتشاء أن تسمع أى نياحة كانت للقديسين فى هذا العالم، بعضهم ضُربت أعناقهم، آخرون ذاقوا تجربة استهزاء، وسياط، وقيود، وحبوس.

رجموا، ونشروا، وماتوا بقتل السيف، طافوا بجلود غنم، وبجلود المعزى، معوزين، مغمومين، مذلين، قوم لم يستحقهم العالم، تائهين فى البرارى، والجبال، والمغائر، ومثاقب الأرض.

ها قد سمعتم جزءاً من كثير من نعم القديسين ونياحهم فى هذا العالم وكأنَهم فى سرور احتملوا جميع هذه ونظائرها إذ كانوا يقدمون نظرهم إلى الخيرات المحفوظة فى السموات التى لم تراها عين ولم تسمع بِها أذن ولم تختر على قلب إنسان التى أعدها اللـه للذين يحبونه.

إن أخذت اسم اللـه تطرد الشياطين، تحرك يدك للعمل ليرتل لسانك، ويصلى عقلك إن شئت أن تنجو من العذاب، لا تقرف أحداً قط، الويل لمن لا شريعة له لأنه إذا استضاء الكل يُظلم هو، الويل للمفترى فإن لسانه سيعقد، فكيف يعتذر لدى الحاكم لا يستطيع ذلك.

الويل للمتكبر فإن ثروته تَهرب والنار تقبله، الويل للوانى فإنه سيطلب الزمان الذى أضاعه بؤساً وإذا طلبه لا يجده، الويل لمحب الزنا فإنه قد وسخ الحلة العروسية، وسيخرج بخزى من العرس الملكى.

الويل للثلاب ومعه المستكبر فإنَهما سيرتبان مع القتلة ويعذبان مع الزناة، الويل لمن يتنعم زماناً قليلاً فإنه سَيُطلب كالخروف للذبح، الويل للمرائى فإن الراعى يجحده والذئب يخطفه.

الطوبى لمن سلك الطريقة الضيقة ؛ فإنه سيدخل إلى السماء لابس الإكليل، الطوبى لمن سيرته عالية وعقله متضع فإنه تشبه بالمسيح فسيجلس معه، مغبوط من قد صنع بالفقراء إحساناً كبيراً فإنه إذا حُوكِمَ سيجد كثيرين ينتصرون له، الطوبى لمن يكلف ذاته فى كل شىء فإن المقتسرين يخطفون ملكوت السموات.

فلنكلف ذاتنا يا أحبائى فى كل عمل صالح ؛ ولنعز ذاتنا ولنعظها ؛ لينير الواحد نفس الآخر كما أنكم تعملون ذلك فى كل وقت.

ولكن حديثنا عن الدينونة وعن اعتذارنا إن كنتم تعملون عملاً، أو كنتم تسلكون، أو على الغذاء، أو على مضاجعكم، أو فى عمل آخر اهتموا فى كل وقت من أجل الدينونة وبإتيان الحاكم العادل.

وتذكروا فى قلوبكم هذا، وليقل بعضكم لبعض. ترى كيف تلك الظلمة البرانية ؟ ترى كيف هى النار التى لا تطفأ، والدود الذى لا يرقد ؟ ترى كيف هو صرير الأسنان ؟.

” هذه فليخاطب بِها بعضكم بعضاً كل حين ليلاً ونَهاراً “.

وأين يجرى النهر النارى، وينظف الأرض من آثامها ؟ كيف تدرج السماء كالدرج ؟ وكيف تنشر النجوم كورق التينة ؟ كيف تفنى الشمس والقمر ؟ كيف تنشق السموات بأمر السيد ؟ كيف يبرز القاضى من السماء وينحدر ؟ كيف تضطرب قوات السموات وتحاضر ؟ كيف يستعد العرس الرهيب ؟ كيف يتزلزل القرار منتظراً وطئ القاضى عليه ؟

كيف تتكاثر أصوات الأبواق ؟ كيف تنفتح القبور ؟ كيف تنقض الأجداث ؟ كيف ينهض الراقدون منذ الدهر كمن يقوم من نوم ؟

كيف تتحاضر النفوس إلى الأبدان ؟ كيف يتبادر القديسون إلى الاستقبال؟ كيف يؤهل المستعدون إلى الدخول؟كيف تغلق دون المتوانيين.

هذه إذا دُرِست تفيد عادة حسنة، هذه إذا أهتم بِها ليلاً ونَهاراً تقنى أمراً نفيساً لأن من يتذكر الموت دائماً لا يخطئ كثيراً.

لا نحاضر طول حياتنا من أجل البطن، ومن أجل الملابس فهذه إنما يصنعها الأمم الذين ليس لهم أمل فى الحياة الأبدية. فلا نماثلهم بل نسمع الرب يقول: اطلبوا أولاً ملكوت السموات وبره وهذه كلها تزاد لكم.

فلنطلب يا إخوتى ذلك الملكوت الذى لا نَهاية له، ولا انقضاء ؛ فلنطلب ذلك الفرح المؤدى إلى الدهور التى لا تنتهى، لنبتهل يا أحبائى بوجع قلب، وبدموع، وتنهد، ألا نخيب من سماع ذلك الصوت المغبوط ولنمتنع من التنعم هنا لنستفيد هناك فرح الفردوس ونعيمه،

ولنبكِ هنا قليلاً لنضحك هناك، ولنجع لنشبع هناك، ولندخل من الباب الضيق والطريق الصعب لنتخطر هناك فى الطريق العريض الواسع.

وأقول أيضاً: احذروا أن يعرقلكم العالم ويلعب بكم ويرسلكم إلى ذلك الدهر عراه أشقياء فإنه قد عرقل كثيرين ولعب بكثيرين، وكثيرون أعمتهم خديعة هذا العالم فنحن يا إخوتى فلنصغ إلى ذاتنا ولنسمع الرب قائلاً: ” تعالوا ورائى “. فلنترك كل شيء ونتبعه وحده ولننبذ كل فرح هذا العالم فإنه سيخزى كل من يحبه فلنسرع نحن أن نتخذ الحياة الأبدية ومجاورة الملائكة والتصرف مع المسيح. فإن له المجد والاقتدار مع الآب والابن والروح القدس إلى أبد الدهور. آمين.

@

المقالة الخامسة فى النسك والتعزية الكثيرة والخشوع للمريدين أن يخلصوا

 

يضرنى الوجع أن أتكلم وعدم الاستحقاق ينهرنى كى أصمت والأوجاع تكلفنى أن أتكلم وخطاياى تحضنى على السكوت.

فإذ قد اكتنفت من الأمرين جميعاً فالأوفق لى أن أتكلم لكي ما أنال الراحة من أوجاع قلبى لأن نفسى توجعنى وعيناى تشتهيان الدموع فمن يعطى لرأسى ماءً ولعينى عين دموع فأبكى نَهاراً وليلاً على كلوم نفسى وعلى رخاوة الموعظة الصائرة فى أيامنا.

لأن نفسى مملوءة جراحات ولا تعلم لأن تعظمها لا يسمح لها أن تتأمل كلومها لتشفى لأن ذلك كان وحده عظة فى أيام آبائنا.

لأنَهم أشرقوا كالشمس وكالنجوم فى كافة الأرض سائرين بِها فى وسط القرطب والأشواك أى بين الهراطقة والناس المنافقين مثل جواهر كريمة ولؤلؤ جزيل ثمنه.

الذين من أجل مسكهم الجزيل وسيرتِهم الصعبة صار الأعداء أنفسهم متشبهين بِهم، لأن من كان يشاهد تواضع رأيهم ولا يتخشع، أو وداعتهم وصمتهم فلا يتحير.

أى محب للمال كان يعاين عدمهم للقنية ولا يصير مبغضاً للعالم، أى متغطرس ومستكبر كان يرى سيرتِهم الحسنة ولا ينتقل إلى التواضع.

وأى خبيث ودنس كان يبصرهم فى الصلاة واقفين ولا يظهر فى الحين عفيفاً وطاهراً، وأى سخوط أو غضوب إذا كان يخاطبهم فلا ينتقل إلى الوداعة.

ههنا جاهدوا وهناك ابتهجوا لأن اللـه يُمَجَد بِهم، والناس ابتنوا وانتفعوا، فأما العظة التى لنا فقد جعلتنا نترك الطريق المستقيم ونعشق الهوى لأن ليس أحد يترك الأموال من أجل اللـه، ولا أحد يزهد من أجل الحياة الأبدية، وليس أحداً وديعاً ومتواضعاً، ولا ساكن الأخلاق ومبتعداً من السب أو صبوراً على القذف.

بل الجماعة سخوطون ومجاوبون، والكل عاجزون وغضوبون، ومتزينون بالثياب، الكافة معجبون وللشرف محبون، والجماعة محبون ذاتَهم.

لأن الذى قد جاء ليُوعَظ فقبل أن يُعَظ يَعظ، أو قبل أن يُعَظ يُعَلِّم، وقبل أن يَتَعَلَّم يشترع فرائض، وقبل أن يتهجى في الكتب يصنع كتباً، وقبل أن يُطِيع يُرام أن يُطَاع، وقبل أن يُؤمَر يأمر، وقبل أن يُعاتَب يشترع العتاب.

إن كان شيخاً يأمر بتأمر وتعظم، وإن كان شاباً يُجَاوِب، وإن كان موسِراً للخير يطلب إكراماً، وإن كان مسكيناً يسأل عن الراحة، وإن كان صانعاً ينظف أصابعه ويصون تنضيدها.

من لا يبكى يا أحبائى على التعليم الذى لنا لأننا قد زهدنا فى العالم ونعقل المعقولات الأرضية، الفلاحون قد زهدوا فى الأرض والمظنون أنَهم روحانيون قد ارتبطوا بِها، لا نعرف يا إخوتى إلى أين قد دعينا، وإلى أى أمر جئنا.

دعينا إلى المسك والحمية ونشتهى الأطعمة الطيبة، وجئنا إلى العرى ونخاصم من أجل ثياب ناعمة، دعينا إلى الطاعة والوداعة ونجاوب متنمرين، نقرأ ولا نعرف، ونسمع ولا نعقل القول الذى فى ذاتنا.

إن صادف إنسان فى الطريق بغتة قتيلاً تستحيل نضارة وجهه، ويجزع قلبه، ونحن نقرأ أخبار الرسل المقتولين والأنبياء المرجومين ونظنها قيلت عبثاً.

ولم أقول عن الأنبياء والرسل فقط بل نسمع عن الإله الكلمة نفسه عُلِقَ على خشبة من أجل خطايانا وقُتِلَ ونحن نضحك ونتنزه، الشمس لم تحتمل شتيمة السيد فنقلت بَهاءها إلى الظلمة، ونحن لا نشاء أن ننتقل من ظلمة رذيلتنا.

فلنطهر ذاتنا يا أحبائى ليسكن الإله فينا وننال مواعيده، ولا نشتم اسمه القدوس الذى دعى علينا، ولا يجَدف من أجلنا على اسم إلهنا، فلنشفق على ذاتنا متفهمين أن اسمنا قد أتفق مع اسم المسيح، لأنه هو المسيح ونحن ندعى مسيحيين.

الروح هو الإله ونحن صرنا روحانيين، لأنه حيث روح الرب فهناك الحرية، فلنحرص أن ننال هذه الحرية، ولنخطر بذهننا لأية سيرة قد أُهلنا عالمين أنه إلى عرشه دعانا فلنحب ذاتنا ولو مثل ما أحبنا هو، ولنشتاق إليه ليشرفنا.

اصغوا إلى ذاتكم لئلا نطالب بطائلة مضاعفة يوم الدينونة. قد انفصلنا من العالم ونعقل معقولات العالم، استحقرنا الأموال ونَهتم من أجلها، هربنا من الأشياء البشرية ونحن نطلبها، ونخشى من أن يدهمنا بغتة ذلك اليوم ونوجد عراه وأشقياء وغير مستعدين فتندم أنفسنا.

لأن هذا الأمر نفسه أصاب الذين كانوا على عهد نوح، وفى أيامه كانوا يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون، يبيعون ويبتاعون إلى أن جاء الطوفان فأهلك الكل.

إن الأمر يا إخوتى عجيبٌ جداً أنَهم كانوا يعاينون الحيوانات البرية ملتئمة كانت تتقاطر جمعاً واحداً، الفيلة كانت تتقاطر من بلاد الهند وفارس ؛ والأسد والنمور تجتمع مع الغنم والمعزى ولا تآزى.

والدواب والطيور تتوافى من غير أحد يسيرها وتحل حول السفينة بحرص وهذه كانت فى أيام طويلة ونوح نفسه كان يعمل السفينة بحرص، ويهتف إليهم توبوا فلم يرتدعوا.

وكانوا يشاهدون متعجبين من اجتماع البهائم والحيوانات البرية، فلم يتخشعوا ليخلصوا.

فلنرهبن يا أحبائى لئلا يصيبنا نظير هذه لأن المكتومات قد كملت والعلامات المقولة لها انقضت، وما تبقى شيء آخر سوى أمور عدونا معاند المسيح لأنه كما في مملكة الروم يجب أن تكمل الأشياء كلها.

فمن يشاء أن يخلص فليحرص أن يريد أن يدخل إلى الملك، فلا يتوانى من يشاء أن ينجى من نار جهنم فليجاهد فرط الجهاد، ومن يريد ألا يطرح فى الدود الذى لا يرقد فليتيقظ مستفيقاً، ومن يريد أن يستعلى فليتواضع، ومن يشاء أن يتعزى فلينح.

ومن يحب أن يدخل الخدر ويبتهج فليأخذ مصباحاً بَهياً وزيتاً فى وعائه، ومن ينتظر أن يتكئ فى ذلك العرس فليقتنِ حلة منيرة. فإن مدينة الملك هى مملوءة سروراً وابتهاجاً، موعبة نوراً وحلاوة نابعة لذة وحياة أبدية للساكنين فيها.

فمن يحب أن يساكن الملك، ويستوطن مدينته فليسرع لأن النهار قد مال ولا يعلم أحد ماذا يلتقى فى الطريق، لأنه مثل مسافر يعرف بُعد مسافة الطريق فأضجع ونام إلى قرب المساء ثم أنتبه وأبصر النهار قد مال.

فلما أبتدأ بالمشى تدارجته بغتة الغيوم والبرد والرعود والبرق محتفة بالهواء فاشتمله الغيوم من كل جهة، وتضايقت حياته لأنه لا يستطيع الوصول إلى المنزل ولا يستطيع أن يعود إلى موضعه.

هكذا يصيبنا نحن إن توانينا واضطجعنا فى أوان التوبة لأننا نحن سكان وراحلون، فلنحرص أن ندخل إلى مدينتنا وموطننا بعزاء.

نحن يا إخوتي تجار روحانيون طالبوا الجوهرة الجزيلة قيمتها التى هي المسيح مخلصنا، الفخر والكنز الذي لا يُسلب فلهذا فلنقتنه بحرص كثير فمغبوط ومثلث السعادة من قد حرص أن يقتنيه، شقي من توانى أن يقتنى صانع الكل.

أو لا تعلمون يا إخوتي أننا أغصان الكرمة الحقيقية التي هي المسيح. فأحذروا إذاً أن يوجد أحد غير مثمر، فإن أب الحق هو الفلاح الذى يعمل هذه الكرمة، والذين يعطون ثمراً يطهرهم ليأتوا بثمر ؛ والذين لا يأتون بثمر يقطعهم ويرميهم خارج الكرم ليحرقوا بالنار.

فتأملوا ذاتكم حذرين أن توجدوا غير مثمرين  فتقطعوا، وتلقون فى النار ؛ فكذلك نحن بذار جيد زرعه المسيح سيد المنزل صانع السماء والأرض، وأوان الحصاد قد حان والحصادون بأيديهم المناجل منتظرين إشارة السيد، فاحظروا أن يوجد أحدكم زواناً فيُشد حزمناً ويحرق بالنار الدهرية.

ألا تتفهمون يا إخوتى أننا مزمعون أن نعبر لجة مرهبة.

فالذين هم تجار حاذقون وحكماء مستعدون، وتجارتِهم بأيديهم منتظرون هبوب الرياح ليسيروا ويبلغوا إلى ميناء الحياة، وأنا ومن يشابِهنى نتنزه بلا كسب ولا فائدة.

ليس لنا شيء موضوع فى ذهننا لنعبر به هذا البحر ونخشى أن تَهب الرياح بغتة، ونوجد غير مستعدين فيقيدونا ويرمونا من المركب، وسنبكى هناك على ونيتنا ناظرين إلى آخرين مبتهجين مسرورين ونحن فى وجع وحزن لأنه فى تلك الميناء يفتخر كل أحد بتجارته وثروته.

فأخشى يا أحبائى أن تخرجنا آلام الجسد خارج الحذر إذ نحن من خارج لابسين زياً لأن الذى من خارج يعرف أين هو قلبنا وعقلنا.

التزين وتنظيف الثياب يوضحان أننا مجردون من ذلك المجد مفتكرون فى الأشياء الأرضية، وأثرة التشرف تدل أننا معجبون، والتلذذ بالأطعمة يدل أننا شرهون البطن، والونية توضح أننا عاجزون.

ومحبة الاقتناء توضح أننا لا نشتاق إلى المسيح، والحسد يخبر أننا ليس لنا محبة فى ذاتنا، وغسل أرجلنا ووجوهنا يدل على أننا عبيد الآلام، لأن القلب يشتاق إلى شيء والأشياء التى يودها القلب يتلوها اللسان، وشفاهنا تستوضح مكتومات قلبنا.

متى أنفتح الفم ولا باب له ولا حراسة يخرج كلامنا بلا تحفظ، وبأقوالنا نسلب متاع قلبنا لأن فماً لا يحفظ أسرار القلب يسترق أفكاره والرؤيات التى يظن أنَها باطنة تشتهر بالفم، والنتائج التى يظن أنَها لا ترى تبصر، التلذذ بالمثالب يوضح أننا موعوبون بغضاً.

فلا ينخدعن أحد بالورع الظاهر فإنه يخدع ذاته وأخاه، من يظن أنه يخدع بالورع الظاهر فتصرفه يظهر كذب ورعه.

إن شئت أن تعرف أفكار القلب فتقدم إلى الفم ؛ ومنه تعرف بأى شيء تَهتم ؟ وعلى ماذا تحرص ؟ أعلى الأشياء الأرضية أو على المناقب السماوية. على الأمور الروحية أو على الأشياء البشرية.

من أجل اللذة اهتمامك أو من أجل الحمية، بِهجر القنية تَهتم أو باستكثارها، بالتواضع أو باستعلاء الرأى، بالمحبة أو بالبغضة، لأن من كنز القلب يخرج الفم اهتماماته، وهذيذ اللسان يوضح إلى ماذا يشتاق إلى المسيح أو إلى أمور العالم الحاضر.

والنفس التى لا ترى تبصر بأفعال الجسد ما هى إن كانت صالحة أو خبيثة لأنَها صالحة بطبيعتها وتنتقل إلى الشر بالنية المتسلطة على ذاتِها لكن لعل أحداً يقول إن الآلام الطبيعية والذين يعملونَها لا جناح عليهم.

أصغ إلى ذاتك ولا تنسب حسن اختراع الإله الصالح إلى زلة الجنوح فإنه قد صنع البرايا كلها حسنة جداً وزين الطبيعة بسائر الصالحات، فمن يجع إذاً لا يذنب إن أكل بمقدار لأن الجوع طبيعي، وإذا عطش إنسان كذلك وشرب قدر كفافه فلا يخطئ لأن العطش طبيعي.

إذا نام أحد فلا يخطئ إن لم ينم بلا مقدار ويرخي ذاته ويدفعها إلى النوم ؛ حقاً أن النوم الذي لا مقدار له عادته تغلب الطبيعة لأن العادة والطبيعة هما كارزان بحظوظ كل واحد منهما بل فالطبيعة توضح العبودية، والعادة تشهر النية لأن منهما كلهما تتضح كيفية الإنسان.

فالنية هي مسلطة على ذاتِها فهي مثل فلاح تطعَّم في ذاتِها عادات رديئة وصالحة كما تشاء.

أما العادات الرديئة فتطعمها هكذا تطّعم في الجوع نَهم البطن، وفي العطش كثرة الشرب وفى النوم الرخاوة وفى النظر الرؤية الرديئة وفى الحق الكذب.

وكذلك تطعم الفضائل الصالحة هكذا فى الإغتذاء المسك، وفى العطش الصبر، وفي النوم السهر، وفى الكذب الحق، وفي النظر التعفف، وفى التأمل لحظة عين، فهي مثل فلاح تقتلع العادات الرديئة وتطعم الفضائل الصالحة فتغلب الطبيعة.

فأرض عملنا هي الطبيعة، والفلاح هي النية ؛ والكتب الإلهية هم المشيرون، والمعلمون يعلِّمون فلاحنا أية عادات تقلع وأية فضائل صالحة تُنصب ؛ فما دام فلاحنا مستفيقاً وحريصاً من قبل تعليم الكتب الإلهية فهو قوي لأنَها تعطيه ” الكتب الإلهية ” من غصونِها فهماً وقوة فضائل صالحة ليطَّعم في شجرة الطبيعة.

الأمانة فى عدم الأمانة، ورجاء فى عدم الرجاء،ومحبة في البغض، ومعرفة فى عدم المعرفة، وحرصاً فى التواني ومجداً ومديحاً في عدم الشرف، وعدم موت في الأمانة، ولاهوتاً فى الناسوت.

فإن شاء وقتاً ما فلاحنا بتعظمه أن يترك المعلم والمشير عليه أعني الكتب الإلهية، يوجد تائهاً ويصادف نتائج خبيثة جامعاً عادات لا نفع فيها ويطعم فى الطبيعة التطعيمات التى خارج الطبيعة.

أعني عدم الأمانة، وجهالة ؛ وبغضاً ؛ وحسداً ؛ وكبرياء، وسبح باطل ؛ وأثرة الشرف ؛ ونَهم البطن ؛ وخصومة ؛ ومجاوبة ؛ وأشياء أخرى أكثر من هذا لأنه لما تَرك المشرع تُرك منه.

فإن تندم وعرف ذاته وسجد للمشترع الشريعة قائلاً: قد أخطأت إذ تركتك. يقبله المشترع السنة فى الحين بتعطفه على الناس ويمنحه فقهاً واقتداراً صالحاً ليعمل أيضاً أرض فلاحته وطبيعته، ويقتلع منها العادات الرديئة وينصب عوضها الفضائل الصالحة.

بل ويمنحه أكلَّة ويعطيه جوائز ومدائح هكذا كما قلت ؛ أنه يجوع بالغريزة فيحتمي ويصبر ؛ ويعطش لكنه يصبر ؛ يشتهي لكنه يغيف ؛ يثقل بالنوم أو يشتمله عجز فى تمجيد السيد، لكنه إذا سهر يكلف نفسه في تسبيح اللـه. وكذلك يكلل إذا غلب الطبيعة وأقتني الفضائل.

فالمجد إذاً لتعطفه والشكر لصلاحه، والسجود لتحننه، أي رب رؤوف هكذا، أي أب رحوم هكذا، أي أب هكذا يحب مثل سيدنا الذي أحبنا نحن عبيده، ويهب لنا كل شيء ويدبر أمورنا، ويشفي جراحات نفوسنا بكثرة صنوف الأدوية ؛ ويتمهل علينا إذا خالفناه.

ويشاء أن يخلصنا كلنا، ويشاء أن يصيرنا وارثين ملكه، ويريد أن تُمدح خيريته إذا شفت الأمراض السهلة الشفاء والحقيرة، لأن الأسقام الثقيلة والصعب شفائها هو يشفيها !

فيشفى جراحات العاجز بنفخة فمه لدراسته بتمجيده، ويصفح عن خطايا الخاطئ باستنهاضه إياه إلى النشاط، ويسمع من السقيم سريعاً لئلا تصغر نفسه، ويمنح الطويلة أناتَهم والقارعين أبوابه دائماً الموهبتين كلتيهما أي الشفاء والثواب.

لأنه يقدر أن يشفي جراحات نفوسنا كلها وينقلها غصباً إلى الحرية لكنه لا يشاء لئلا تعدم نيتنا المدائح التي منه، ونتوانى أن نستغيث به لمعونتنا ونصرتنا، فلمحبته إيانا ورأفته بنا قد اقتادنا وأنار أعين ذهننا منحنا المعرفة وأذاقنا محبته لنطلبه بلا تقصير.

الطوبى لمن ذاق محبته وأعد ذاته أن يمتلئ منها دائماً فإنه إذا امتلأ من مثل هذه المحبة لا يقبل فى ذاته محبة أخري، يا أحبائي من لا يحب مثل هذا السيد من لا يسجد ويشكر لصلاحه.

أي اعتذار لنا في يوم الدينونة إن توانينا ؟ أم ماذا نقول له ؟ أنقول ما سمعنا وما عرفنا ! أو ما عملنا ! ماذا ينبغي أن يعمله ولم يعمله بنا ؟

ألم ينحدر إلينا من العلو الذى لا يُقَدَر ! وألم ينزل من حضن الآب المبارك ! أما شوهد الغير المرئي منا، وإذ هو غير مائت ألم يتجسد من أجلنا أو ما لطم ليعتقنا.

يا للعجب الموعب خوفاً ورعباً أن يداً طبيعية خُلقت من طين الأرض لطمت خالق السماء والأرض، ونحن الأشقياء والأدنياء ترابيون ومائتون ورماد ولم نحتمل كلمة بعضنا من بعض.

هو غير مائت ؛ ألم يمت من أجلنا ليحينا، أو لم يُدفن لينهضنا معه، فكَنا من رباطات العدو وربطه، وأعطانا سلطاناً أن ندوسه، متى استغثنا به ولم يجيبنا، أو قرعنا بابه ولم يفتح لنا وإن تباطأ وقتاً ما أليس ذلك ليُكثر ثوابنا.

أيها الحبيب لِمَ زهدت فى العالم ؛ ألكي تطلب نياحة جسدانية، وبدل العرى أتبتغى حلة، وعوض العطش أتبتغى شرب الخمر.

دعيت إلى المحاربة ؛ وتروم أن تتقابل مع أعدائك بدون أسلحة، عوض السهر تنحدر إلى النوم، وعوض البكاء والنحيب تبذل ذاتك للضحك، وبدل المحبة تحوي بغضاً لصاحبك.

جئت إلى الطاعة وأنت تجاوب، جئت لترث مُلكاً وأنت تعقل المعقولات الأرضية، وعوض التواضع والوداعة تشتمل بالتعظم والتكبر.

ماذا تقول له فى ذلك اليوم ؟ أتقول أننى تواضعت من أجلك ! وتمسكنت وتعريت، وجعت وعطشت من أجل محبتك من كل نفسي، وأحببت قريبي كنفسي.

لا تستهجل أن أقوالك وأفكارك ليست غير مكتومة، وضميرك هو الناظر إياك، إن كذبت لا تجهل أنه لا يوبخك، أو لا تعلم أن البرية كلها تقف أمام مجلسه بخوف ورعب شديد وتحوط به ألوف ألوف وربوات ملائكة رؤساء ملائكة ؟

وإن كنت تفتكر أن تكذب وتقول قد احتملت من أجلك مثل جسامة هذه الأشياء، أحذر أن تبدى طائلة كبيرة عن أعمالك الخبيثة وعن كذبك فق من نومك وعد إلى ذاتك، أجمع أفكارك وأنظر أن النهار قد مال.

أفهم هذا المعنى أيها الأخ، إن إخوتنا الذين كانوا معنا بالأمس يكلمونا ليسوا معنا اليوم لأنَهم دعوا إلى ربِهم وربنا ليريه كل واحد منهم تجارته.

ها أنتم قد عرفتم أمور أمس الماضي وأمور اليوم، كيف مضي أمس كزهرة صباحية واليوم هو كفى مسائي، فتأمل أمتعة تجارتك إن كانت قد نَمت فائدتِها من أجل اللـه، لأن أيامنا تجوز مثل مشي ساعي.

الطوبى لمن يتجر وينمي بضاعته يوماً فيوماً، ويجمع فوائد الحياة الدائمة. لِمَ تتوانى أيها الحبيب، لِمَ تضجع وقد سكرت بالضجر كسكرك من النبيذ، ماذا تميز فى ذاتك إنك تجعل لك منزلاً فى هذا الدهر.

لأنه مثل أثنين مسافرين أتفق أحدهما مع الآخر فى الطريق، وكل واحد منهما ذاهب إلى منزله فلما أدركهما كلهما المساء نزلا فى الفندق الذى بلغا إليه، ولما صارت الغداة فارق أحدهما الآخر، وكل واحد منهما يعرف ما له في منزله إما غنى وإما فقيراً، إما نياحة إما حزناً.

هكذا نحن فى هذا العالم فإن هذا العمر يضاهي مسكناً ومنه نفترق ذاهبين إلى موضعنا عالمين ما لنا أمامنا لأن كل واحد منا لا يجهل ما تقدم فأنفذ إلى السماء.

كما أقول إن كان أرسل صلاة بدموع، أو سهراً نقياً، أو ترتيلاً، أو تخشعاً، أو مَسْكَاً بتواضع الرأي، أو زهداً فى الأمور الأرضية أو محبة بلا رياء تتوقان إلى المسيح.

إن كنت سبقت فأرسلت هذه فثق إنك ستمضي إلى نياحة وراحة، وإن كنت ما أرسلت ولا واحدة من هذه فَلِمَ تغيظ قريبك في مسكن الاغتراب لأنك غداً تفارقه، لِمَ تتكبر، لِمَ تتعظم، لِمَ  تحزن.

أتريد أن تحمل المسكن معك، لِمَ تَهتم من أجل ثياب وملابس وطعام فالمعطي البهائم غذائها ألا يغذيك أنت الذي تمجده.

يا من ترجوا أن تصير وارثاً أتَهتم بثياب وملابس، يا من قد أمت ذاتك من العالم أتعقل المعقولات الأرضية، لِمَ تغيظ الطبيب بأنك تريد أن تبرأ وفي زمان مداواتك تخفي جراحاتك ؛ وتدعى على الطبيب أنه ما أبرئك.

قد أُعطيت وقتاً للتوبة، وأنت تتواني فى التوبة. فماذا تدعى على المشترع السنة أإنه أجتلب الموت لما تَهاونت ؛ أتراك تقول للموت دعني أتوب.

فق أيها الحبيب متيقظاً فإن تلك الساعة كالفخ تأتي إليك وحينئذ يشتمل ذهنك ذهول، وتقول: كيف جازت أوقاتي ؟ وكيف عبرت أيامي فى حال تنزهى فى الأفكار الغير واجبة ؟

وما المنفعة أن تفتكر بِهذه وقت الموت، ولا يسمح لك أن تعود إلى هذا الدهر منذ الآن ضع عقلك فى المقولات وليدخل فى مسامعك أقوال الرب، إن كنت تصدقه لأنه هو قال إنك تعطي فى ذلك اليوم جواباً عن كل كلمة بطالة.

يخزينا هذا الفصل إن كان ذهننا مستفيقاً ؛ فالذي يتفهم المكتومات ولا يسمع المقولات فهو يضاهي كوز مياه يقبل الماء ولا يحس إنه يجوز فيه.

ترى من لا يبكى، ومن لا يرى، ومن لا يحزن، ومن لا ينذهل، إن سيد الدنيا كلها يهتف بذاته، وبعبيده الرسل والأنبياء، ويكرز صارخاً وليس من يسمع.

وما هي الأشياء التي أشار إليها ؟ العرس معد قال والمسمنات قد ذبحت والختن جالس بعظم جلاله ومجده فى الحجلة يستقبل المقبلين إليه بفرح.

الباب قد فتح، الخدام متسارعون، فأعدوا قبل أن يُغلق الباب لئلا تبقوا خارجاً ولن يوجد من يدخلكم، ومع ذلك لا يحترس أحد بل يضجع ويهتم بِهذا الدهر، فالكتب الإلهية نكتبها خطاً مستوياً إلا أننا لا نشاء أن نكمل الأوامر التى فيها.

ترى من هو الذى يسافر بلا زاد في طريق بعيده كما نشاء نحن أن نترك زادنا ههنا ولا نأخذ معنا شيئاً للسفر، فمغبوط من يسافر للرب بدالة حاملاً زاده بلا احتياج إلى غيره.

فها العشر عواتق نائمات والعبيد يتجرون وينتظرون سيدهم عالمين أنه قد أخذ الملك وهو آتي باقتدار ومجد جزيل فيكلل عبيده الذين تاجروا حسناً بالفضة التي قبضوها منه، ويقتل أعدائه الذين لم يريدوا أن يملك عليهم.

أنه في النوم الذي يشتمل طبيعة الناس في نصف الليل يصير من السماء بغتة دوي عظيم ورعود مرهبة، وبروق مفزعه مع زلزلة.

يذهل بغتة الراقدون، ويتذكر كل أحد أعماله التي عملها إن كانت صالحة أو طالحة.

ويقرعون صدورهم صائحين على مضاجعهم لأنَهم ليس لهم موضع يهربون إليه أو يختفون فيه، أو يندمون على ما عملوا، لأن الأرض تتزلزل، والرعود ترعب والبروق تُذهل، وظلمة عميقة تطوف بِهم.

هكذا تكون تلك الساعة تزعج الأرض كلها كبرق حاد مدلهم لأن الصور يبوق بخوف من السماء وينهض الراقدون وينتبه الهاجعون منذ الدهر لأن هذه السماوات مع كافة قوتِها تضطرب والأرض تتموج كلها كالبحر مرتعدة من اتجاه مجده.

لأن ناراً مرهبة تتقدم سعيرها أمامه تنظف الأرض من الآثام التي دنستها ويفتح الجحيم أبوابه الدهرية، ويبطل الموت وتراب الطبيعة البشرية المتماسي إذا سمع صوت البوق يعيش ويحيا لأنه بالحقيقة يكون ذلك عجباً.

يرى مستعجباً كيف بطرفة عين،كما أن السمك الكثير الذى يذهب ويجىء ويتقلب فى البحر، هكذا كثرة عظام الطبيعة البشرية التي لا تحصى ينزع كل واحد منها طالباً مفصله، وإذا نهضت تحاضر كلها وتقول:

المجد لمن جمعنا واستنهضنا بتعطفه على الناس. وحينئذ يبتهج الصديقون ويُسر الأبرار، والنساك الكاملون يتعزون من تعب نسكهم، والشهداء والرسل والأنبياء يكللون.

الطوبى لمن أستحق أن يرى تلك الساعة كيف بمجد يخطف فى السحب لاستقبال الختن الذى لا يموت ؛ وكافة الذين أحبوه وحرصوا أن يتمموا مشيئته،كما قد عظم كل واحد جناحه ههنا هكذا يطير إلى شواهق الأعالي، بمقدار ما نظف كل واحد ذهنه وصفاه هكذا يبصر مجد اللـه.

وبقدر ما أشتاق الإنسان إليه هكذا يتملى شبعاً من محبته، ويتعجب في تلك الساعة آدم الأول إذا أبصر العظائم والمرهوبات.

كيف قد حضر منه ومن قرينته ما لا يحصى من كثرة الأجناس، وإذا تكاثر تعجبه لكونه من طبيعة واحدة وخليقة واحدة صاروا فى الفردوس وفي الجحيم متواترين بمجد الإله الخالق، والمجد للحكيم وحدة.

يا أحبائي لقد تذكرت تلك الساعة وارتعدت، وتأملت تلك الدينونة المفزعة فانذهلت، وذلك السرور الذي في الفردوس فتنهدت وبكيت حتى لم يبقى فيَّ قوة لأبكي أيضاً، لأن أيامي عبرت في التواني والتنزه. وفي الأفكار النجسة أكملت سنين حياتي.

كيف سرقت ولم أعلم ؟ وكيف عَبَرت ولم أحس ؟ فأيامي فنيت وآثامي تكاثرت، ويلي ويلي يا أحبائي ماذا اصنع بخزي تلك الساعة إذا طاف حولي الذين يعرفوني، والذين لما أبصروني فى هذا الزي طوبوني وأنا من داخل مملوء إثماً ونجاسة، متناسي الرب فاحص القلوب والكلى.

بالحقيقة أن هناك الخزي والافتضاح، والشقي هو الذي يخزى هناك. أيها الصالح العطوف أستحلفك برأفتك آلا توقفني على اليسار مع الجداء التي أغاظتك، ولا تقل لي لستُ أعرفك، بل أعطيني بحنانك بكاءً دائماً وتخشعاً، وأعطي قلبي تواضعاً وطهره ليصير هيكلاً لنعمتك المقدسة لأننى وإن كنت خاطئاً ومنافقاً لكنني قارعاً بابك بمداومة، وإن كنت عاجزاً ووانياً لكنني في طرقك سالكاً .

يا إخوتي الأحباء أتضرع إلى ألفتكم أن تجزموا على أن ترضوا اللـه ما دام موجوداً، أبكوا قدامه نَهاراً وليلاً في صلواتكم وترنيمكم لينقذكم من ذلك البكاء الذي لا ينقضي، ومن تقعقع الأسنان، ومن نار جهنم، ومن الدود الذي لا يرقد، ويفرحكم في مملكته في الحياة الخالدة حيث يهرب الوجع والحزن والتنهد.

حيث لا يحتاج أحد دموعاً ولا توبة حيث لا مخافة ولا رعدة، حيث لا فرق ولا تفاضل، حيث لا يوجد المحارب والمعاند، حيث لا خصومة ولا سخط، حيث لا بغض ومعاداة.

ولكن ذلك كله مملوء فرحاً وسروراً وابتهاجاً ومائدة مملوءة أطعمة روحانية أعدها اللـه للذين يحبونه، فمغبوط من يؤهل لها، وشقي من يعدمها.

فأطلب إليكم يا أحبائي أن تسكبوا علىَّ تحننكم، وتشفعوا عني ساجدين لابن اللـه الوحيد الصالح العطوف ليصنع معي رحمة وينجيني من غزارة مآثمي ويسكنني حول مساكنكم في ساحات الفردوس المبارك الوارثين إياه حتى أصير جاركم.

لأنكم أنتم الأولاد المحبوبون وأنا كالكلب المرفوض، انفضوا لي فتات موائدكم فيتم علىَّ الفصل المكتوب: ” والكلاب تشبع من فتات المائدة المتساقط “.

نعم يا أحبائي اسكبوا علىَّ صلواتكم، وهلموا أن نحرص من أجل حياتنا فإن الأشياء كلها تعبر كعبور الظل، ولنبغض العالم والأشياء التى فى العالم والاهتمام البشري، ولا نتخذ هماً آخر سوى الاهتمام بخلاصنا كما قال ربنا:

” ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ أو ماذا يعطي الإنسان فدية عن نفسه “.

أيها الإخوة نحن تجار روحانيون فلنتشبه بالتجار العالميين، فالتاجر يحسب كل يوم ربحه وخسارته، فإن خسر يحرص ويهتم كيف تُرد خسارته.

كذلك أنت أيها الحبيب في كل صباح ومساء وغدوه تأمل بمبالغة كيف تتجر تجارتك، وفي كل عشية أدخل إلى قلبك، وتفكر وقل في ذاتك أتراني أغضبت اللـه في شيء ؛ أو تكلمت كلمة بطالة أو جدفت.

أتراني أغضبت أخي، أو اغتبت أحداً ؛ أتراني تخيل ذهني الأمور التي في العالم، أم ترى جاءت إلىَّ  شهوة بشرية فقبلتها بتلذذ وانغلبت للهموم الأرضية أم خسرت في هذه الدنيا.

فأحرص أن تترك هذه التأملات تَهذأ بك لئلا تخسر فى هذه، وإذا صار الصباح أدرس في هذا وقل ترى كيف عبرت هذه الليلة أربحت فيها تجارتي أترى سهر عقلي مع جسمي، أدمعت عيناي دموعاً في إحناء ركبتي، أو جاءت إليَّ أفكار خبيثة ودرستها بتلذذ.

فإن إنغلبت في هذه فأحرص أن تشفيها، وأقم حافظاً في قلبك لئلا تصاب بِهذه نفسها.

إن اهتممت هكذا فستسلم تجارتك وتصير مرضياً للـه، ولنفسك نافعاً. اصغ إلى ذاتك وأحذر أن تدفع ذاتك إلى الونية والرقاد فإن ابتداء الهلاك تمرد النية.

تأمل النحلة وابصر سرها العجيب كيف تجمع صناعتها من أزهار الأرض المشتتة أنواعها وتأمل ذميم قدرها فإنه لو اجتمع كافة حكماء الأرض وفلاسفة المسكونة لما قدروا أن يلخصوا ويصفوا حكمتها.

إن كيف تبني من الأزهار القبور وتدفن فيها أولادها وإذا أحيتها تأمرها بعد ذلك مثل أمر رئيس القواد وتسمع كلها صوتِها وتتطاير فإذا تطايرت تعمل وتملأ تلك القبور أطعمة حلاوتِها حتى أن كل فقيه يشاهد أتعابَها يمجد الإله الباري منذهلاً قائلاً: يا لحكمة وهبت لطائر ذميم.

كذلك أنت يا حبيبي صر مثل تلك وأجمع من الكتب الإلهية غنى وكنزاً لا يسلب إلى السماوات ؛ لأن رؤساء الأرض إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى بلدة بعيدة يرسل قدامه غلمانه مع ثروته لكي يوافي إلى راحة معدة فيرتاح.

كذلك أنت أيها الحبيب أرسل غناءك إلى السماء لتُقبل في مساكن القديسين، ولا تتوانى في هذا الزمان القصير لئلا تندم إلى الدهور التي لا انقضاء لها.

ألم تسمع الرب يقول: سيكون لكم في العالم حزن.

وقال أيضاً: بصبركم تملكون أنفسكم.

فإن كنت أنت برخاوتك وونيتك تشتاق أن تَهرب من حزن هذا الدهر ومن الصبر وتحب اللذة البشرية فَلِمَ تسلب نير المسيح الصالح النفيس من أجل رخاوتك وتَهجوا بأنه صعبٌ وثقيلٌ، ولا يمكن أن يُحمل، وتعطي ذاتك للهلاك.

من ذا يرحمك وأنت تقتل نفسك، ومن يترأف عليك، لأنك قد أخذت أسلحة المسيح التي تحتاج أن تحارب بِها العدو فأنفذت السيف في قلبك، فإن كنت تتباهى بِهذه الحياة فرجاؤك باطل، وانتظارك فارغ.

ماذا يصلي فمك إلى اللـه ؟ وما هي الوسيلة التي تطلبها منه ؟ أَنياحة هذا الدهر، أو الحياة التي لا تفنى ولا تشيخ.

إن طلبت هذه الأشياء الوقتية والغير ثابتة فإن السارق والزاني أفضل منك ؛ لأنَهما يصليان ليخلصا ويطوباك لأنك سائر بِهذه السيرة بكذب، وأنت قلت أحببت النور وأبغضت الظلمة وتركت ملكوت السماوات وتَهتم بالأمور الأرضية.

أحسبت يا شقي أن الإله الصالح المتعطف ينكر تعبك، وهو الذى منحك قوة ونعمة وخشوع قلبك وهو يعطيك ثوابك، والأشياء كلها منه وأنت تتعظم، وهو يطالب بأجرة الأجير من الذين ينكرونَها عليه.

أفينكر أجرة دموعك، وخشوعك ! حاشا لأن الذي قال: اطلبوا تجدوا ؛ اقرعوا يفتح لكم. أيصير كاذباً حاشا، أذهب يا شقي مَنْ الذي حسدك، مَنْ الذي مكر عليك. أليس هو المعاند المبغض الخبيث الذي يحرص ألا يجعل أحداً يبلغ إلى السماوات.

فمنذ الآن عد إلى ذاتك، ولا تمقت نفسك، أفتح عيني ذهنك وأبصر الذين معك كيف يجاهدون، كيف يحرصون وهم ماسكون مصابيحهم، وفمهم يسبح ويمجد الختن الذي لا يموت، وأعينهم تتأمل جماله، وأنفسهم نضرة بَهجة.

تأمل أنه قد قرب ولا يبطئ، لأنه سيجىء ويفرح الذين ينتظرونه، سيصير بغتة صوت ها هو الختن آتٍ فيجئ الذين معك بفرح ومصابيحهم معهم مضيئة، وحللهم منيرة فإذا سمعوا صوته القائل:

” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.

فبعد أن يصير الصوت تقول لهم: يا إخوتي هبوا لي زيتاً قليلاً لأن مصباحي ها هو ينطفئ.

فتسمع منهم لعله لا يكفي لنا ولك، أمضي إلى الباعة وأشتري، فتمضي متندماً ومغموماً ولا تجد ألبته زيتاً لتبتاعه، لأن الأرض كلها ترتعد كما يتموج ماء البحر من تجاه مجده.

فتقول حينئذ منتحباً أمضي وأقرع ومن يعلم إن كان يفتح لي، فإذا مضيت لتقرع لا تجد أحداً يجاوبك.

فتلبث تقرع أيضاً، فيجاوبك من داخل قائلاً: حقاً أقول لك أنني لست أعرفك من أنت أنصرف عني يا عامل الإثم.

وفي حال وقوفك هناك يأتي إلى أذنك صوت السرور والابتهاج، وتعرف صوت كل واحد من رفقائك، فتتنهد وتقول: ويلي ويلي أنا الشقي كيف عدمت هذا المجد الذي لإخوتي واُنتزعت من رفقتي الذين كنت طول زمان حياتي معهم والآن ميزت منهم.

أصابني هذا بواجب لأن أولئك كانوا يمسكون ويحتمون، وأنا كنت أجدف ؛ أولئك كانوا يرتلون، وأنا كنت أتفرج صامتاً ؛ أولئك كانوا يحرصون في إحناء الركب، وأنا نائم، أولئك كانوا يصلون، وأنا أتنزه. أولئك كانوا يواضعون ذواتِهم، وأنا أتكبر أولئك كانوا يحتقرون ذواتِهم، وأنا أتزين.

لهذا الآن أولئك يسرون، وأنا أنتحب ؛ أولئك يبتهجون، وأنا أبكي. فق إذاً أيها الشقي قليلاً متأملاً محبة اللـه للناس التي لا تتجاوز نَهايتها، ولا تضجع في خلاصك، أطلبه فيصبح لك سريعاً خلاصاً، وأستغث به فينصرك، أعطيه لتأخذ مائة ضعف.

وإذا كان الصك الذي لا نفس له يهتف بما مكتوب فيه بتأدية الديون فكم أولى بالإله الصالح أكثر أن يعطي للذين يطلبونه نعمه المعهودة بالكتائب التي يتمنى أن تزداد رباءً على رباءٍ ؛ ونعمة اللـه الكثيرة تكثر أجرة صلواتنا وطلباتنا.

فلا تضجع ولا يطرأ عليك الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ ولا تدفع ذاتك إلى اليأس ؛ فإن اللـه من أجل تحننه يقبلك وينصرك أنت وكافة الذين يبتغونه بكل قلوبِهم.

فتقدم إليه بلا خجل، وأسجد له بتنهد، أبكي وقل: ” يا ربي ومخلصي لِمَ تركتني ترأف عليَّ فانك أنت العطوف وحدك، خلصني أنا الخاطئ فإنك أنت الغير خاطئ وحدك لتنشلني من حماة مآثمى لئلا أنغمس فيها إلى أبد الدهور.

أنقذني من فم العدو فإنه مثل سبع يزأر مريداً أن يبتلعني، أنْهض قوتك وهلمَ لتخلصني، أبرق ببرقك وشتت اقتداره لينذهل ويهرب من أمام وجهك لأنه ضعيف عن الوقوف أمامك، وأمام وجه الذين يحبونك، لأنه إذا رأى علامة نعمتك فيجزع منك ويتنحى عنهم خازياً فالآن أيها السيد أعني فإني إليك لجأت “.

إن ابتهلت إليه هكذا واستغثت به من كل قلبك للحين يرسل مثل أب صالح ومتحنن نعمته إلى معونتك، ويكمل كافة مشيئتك.

يا حبيبي نعم تقدم ولا تضجع، ولا تنظر إليَّ أنا الواني المضجع لأنه يخزيني خزي وجهي إذ أقول ولا أعمل، وأعظ ولا أفهم.

لكن صر مشابِهاً للأباء الكاملين الروحانيين وأتبع رسمهم، ولا تبتدئ بالأمور العالية جداً التي تفوق قدرتك ولا يمكنك أن تتممها، ولا تبتدأ بالأفعال الحقيرة جداً ليكثر توانيك.

ولا تسمن جسدك لئلا يحاربك، ولا تعوده على اللذات البشرية لئلا يصير ثقلاً لنفسك ويحدرها إلى أسفل أعماق الأرض ؛ لأنك إن بذلت ذاتك لإكمال مشيئته فإنه سيترك الطريق المستوية ويمشي في الهوة، ويقبل بسهولة كل فكر نجس، ولا يتعفف.

وإن ضيقت عليه فوق المقدار وآلمته يصير ثقلاً لنفسك ويسودها ويشملها الكآبة والضجر.

وتصير سخوطة وعاجزة في دراسة التسبيح والصلاة والطاعة الشريفة، فدبر ذاتك بمقدار جيد معتدل.

قل لي أما رأيت قط موقف السباق ؟ أو ما رأيت قط مركباً في البحر ؟ لأن الخيل إذا لهدها أحد بلا مقدار تخور من الجري، وإن رخا لها بلا مقدار تمد الركب وتطرحه.

وكذلك المركب في اللجة إن أُوسق فوق حد وسقه يمتلئ من الأمواج، ويغرق وإن سبح مخففاً بلا وسق تقلبه الرياح سريعاً. نظير هذا المقياس النفس والجسد، إن ثُقلاَ بلا مقدار بالأشياء المقدم ذكرها يسقطان، فلهذا جيداً أن تبتدئ، وتتمم وترضي اللـه، وتنفع ذاتك وقريبك.

أنتم يا رعية المسيح المباركة، ونجوم المسكونة، وملح الأرض، أيها النساك الكاملون والمحبون على الأرض السيرة الملائكية، إن تعبكم وقتي والمجازاة والمدائح أبدية، وتعبكم يسير والنياحة والكمال بلا هرم.

وبمقدار ما تجاهدون بنشاط في تقويم الفضيلة بقدر ذلك يشتغل عدوكم غيظاً ويخبئ لكم فخاخاً متلونة.

فأصغوا إذاً لذاتكم حذرين من مكامنه، لأنه خلواً من جهاد لا يكلل أحد، بل ونعمة اللـه لا تتخلى عمن يحارب ويجاهد بنشاط.

فإن أرخى أحد ذاته، وعجز أن يفتح فمه ويستدعى النعمة لنصرته ليجعل العلة ذاته لا النعمة كأنه لم يعاين منها، لأنه يكون مثل واحد يديه صحيحتين وأمامه كثرة أطعمة موضوعة فيعجز أن يمدها ويملأ ذاته من الخيرات المنصوبة لديه، فمن ذاته تكون خيبته وخسارته.

هكذا العابد الذى له تجربة النعمة والخبرة بِها فإذا توانى في الاستغاثة بِها والتملي من حلاوة أطعمتها فهو يضر ذاته ولا يحس.

يشبه العابد جندياً برز إلى الحرب وقد دجج جسده من كل جهة بجملة أسلحة وهو متيقظ إلى الغلبة ومجاهد لئلا يكسبه محاربه بغتة فإن وجد غير متحفظ فيأخذه، كذلك العابد إن أضجع وتوانى يقتنصه عدوه بسهولة.

لأنه يخطر له أفكاراً نجسة فيقبلها بتلذذ ؛ أعني أفكار استعلاء الرأي والسبح الباطل والحسد والوقيعة ونَهم البطن، والنوم الذي لا يشبع منه، ومن هذه يقوده إلى اليأس وأثرة المساوي.

وإن كان مستفيقاً كل حين متيقظاً يجذب نعمة اللـه لمعونته ويتخذها ويعلم كيف يرضيه، فيصير في ذاته ممدوحاً ومادحاً ويكون مثل إنسان ينظر في مرآة فيرى ويُرى.

كذلك النعمة أينما تجد راحة وتسكن في إنسان فتختبره وتختبر منه لأنه خلواً من معونتها لا يقدر القلب أن يكتفي بذاته، ولا أن يمتلئ تخشعاً، ولا أن يعترف للسيد كما ينبغي لكنه يبقى مسكيناً ومحتاجاً وفقيراً من الحسنات ؛ وتسكن فيه الأفكار النجسة والممقوتة كما يسكن البوم في الأماكن الخربة.

فإذا استدعاها ” النعمة ” إنسان لتجئ فتضئ ذهنه وتضطره ليقتنيها ساكنة معه، ومعينة لذاته، فبها يقوم كل فضيلة، ويستضئ منها، فيستطيع أن يتأمل تكوُن الدهر المستأنف وجمال صورته، لأنَها تصير له سوراً حصيناً، وتحفظه من هذا الدهر لحياة الدهر الآتي.

أصغ إذاً مسامعك فأكن لك أيها الحبيب مشيراً صالحاً إن اشتهيت الحياة الخالدة، وتطويب ربك، قل لي لِمَ تغسل وجهك بماء لترضي قريبك إنك ما نبذت آلام بشرتك بل أنت مستعبد لها، إن أردت أن تغسل وجهك فأغسله بالدموع والبكاء ليشرق بمجد اللـه والملائكة القديسين.

لأن الوجه المغسول بالدموع هو جمال لا يضمر لكن لعلك تقول لي: إن وسخ وجهك يخجلك.

فأعلم إذاً أن وسخ رجليك ووجهك مع نقاوة قلبك يلمع أكثر من الشمس بين يدي اللـه والقديسين.

ولِمَ تضحك بلا تحفظ ويسود عليك الضحك وقد أُمرت أن تنوح، من أين هذا ؟ لأنك لا تشتاق إلى تطويب الرب، ولا تخيفك تعاذيبه، فالمجرب يستطيع أن يعظ غير المجربين، والتاجر الذي سقط بين اللصوص يأمر المسافرين بالتحفظ والتحرز.

فإذ قد جربت أنا بجزء من التجربة أقول لفهمك لأنني تحرزت قليلاً، ومن أجل رخاوتي أوقعتني الونية في الأمر نفسه، فلهذا أشير عليكم يا رعية المسيح المأثورة أن لا تعدموا من أجل آلام الجسد ولذة العالم مجد اللـه، وتتغربوا من سرور الخدر الذي لا تبلى بَهجته، عالماً أن تعب النسك هو مثل نوم وارد، ونياحة المكافأة هي لا تنقضي، ولا تنعت.

فأصغِ إلى ذاتك لئلا توجد واقعاً من الحظين كلاهما وتؤدي طائلة عنهما جميعاً، لكن أحرص أن تقتني الفضيلة التامة الموشاة بكافة المناقب التي يحبها اللـه ؛ فإنك إن اقتنيتها فلا تغيظ اللـه قط، ولا تعمل بقريبك سوءاً.

فهذه تدعى الفضيلة ذات النوع الواحد، وهي حاوية في ذاتِها جمالاً، وتكون كافة الفضائل مثل تاج الملك، وهذه قد تكون غير تامة، وغير مختبرة إن كانت تنقص واحدة من المقومات المحصورة في الفضيلة.

وتضاهي نسراً عظيماً طائراً في الأعالي فلما أبصر في الشرك طعاماً انحدر وأنقض عليه بسرعة فإذ رامَ أن يختطف الصيد تعلق بطرف مخلبه.

وبذلك العضو الصغير رُبطت كافة قوته، وفيما هو يظن أن كافة جسمه معتوق وخارج من الشرك فيجد بالحقيقة أن قوته كلها قد قيدها الشرك.

والفضيلة مثل هذا القياس إن رُبطت بأحد الأمور الأرضية تموت وتنقسم وتَهلك ولا يمكنها أن ترتقي إلى العلو إذ قد سمرت بأمر أرضي وتقيدت به.

فمن له دموع فليجئ وليبكِ، ومن لا يمكنه التخشع إذا عبر فليتنهد على هذه الفضيلة أنَها بعد أن ارتقت إلى السماء وبلغت إلى أبواب الملك أنفسها لم تقدر أن تدخل.

كما قلت أيها الحبيب أن قوماً قوموا هذه الفضيلة بربوات أتعاب ووشوها مثل تاج الملك ؛ فلما ارتبطوا بأمر أرضي هلكوا ووقفوا خارج المُلك السماوي.

فصن ذاتك إذاً وأحذر أن تشتبك في شيء مثل هذا وتدفع ذاتك إلى العدو، وتحل الفضيلة العجيبة التي اقتنيتها هكذا أو تنقضها بأتعاب مثل هذه جزيلة فتمنعها من الارتقاء إلى السماء، وتقيمها أمام الخدر خازية، لكن أعطيها دالة أن تدخل بصوت عالٍ مبتهجةً نائلةً ثوابِها.

يا للعجب إن سبع يُربط بشعره ويجول إلى هنا وهناك، هكذا هذه الفضيلة إذا رُبِطت باهتمام أرضي تتهرى إلى الأرض ويذل شرفها لأن هذه الفضيلة تُشَبه بالسبع.

فق إذاً أيها الحبيب ؛ وحرك ذاتك ؛ وأقطع الشعرة الحقيرة كي لا يضحك عليك مثل ذلك القوي الذي قتلَ بالفك في لحظة عين ألوفاً وحرر ذاته وقتل أعدائه ورد الظفر إلى اللـه ونقلت طلبته ذلك الفك عيناً نابعاً.

فذلك الذي قوم مثل هذه المناقب قدر جسامتها سلم نفسه بانتزاع شعره بسفاهته إلى الأعداء، وقيد قوته المرهوبة والعجيبة جداً.

فأنت الآن أصغ إلى ذاتك، ولا تربط مثل هذه الفضيلة بعمل ردىء ما أرضي بل حررها من كافة الأشياء الضارة وجهزها إلى السماء.

ومثل غواص يغوص في العمق ليجد الدرة الجزيل ثمنها والشائع ذكرها إذا وجدها يصعدها إلى أعلى المياه، ويثبت على الأرض عارياً ومعه ثروة جزيلة.

كذلك جرد ذاتك من كل أدناس العالم، وألبس هذه الفضيلة وتزين بِها وتيقظ نَهاراً وليلاً لئلا تتعرى منها، فإن النفس التي اقتنتها لا يمكن أن يحيلها شيء ولا واحد من الأسواء يغيرها، لا من جوع تتغير أو من عري أو ضجر أو مرض أو مسكنة أو اضطهاد ما أو محبة أخرى كاذبة إذا كانت متيقظة.

فبمثل هذه المقدم ذكرها تنمو أكثر وتكلل، وتنجح لدى اللـه دائماً ويتباهى جمالها فالموت نفسه لا يستطيع أن يشينها، وإذا خرجت من الجسم تقبلها مبتهجة الملائكة من السماوات ويدخلونَها إلى أبي الأنوار. المجد والجلالة للإله المتعطف وحده.

صلاة

أتضرع إلى خيريتك أن تشفي كلوم نفسي وتضئ عيني ذهني لأتأمل تدبيرك فيَّ ؛ وإذ قد تسفه ذهني فليطيبه ملح نعمتك، ماذا أقول لك يا ذا العلم السابق، والفاحص القلوب والكلى ؟

أنت وحدك تعلم أن نفسي كالأرض الفاقدة الماء، قد عطشت إليك وتاق إليك قلبي لأن الذي يحبك حباً دائماً تشبعه نعمتك.

فكما سمعتني دائماً لا تعرض الآن عن وسيلتي فإن ذهني هو مثل أسير لك، وإياك يطلب.

أيها المخلص الحق أرسل إذاً نعمتك لكي إذا جاءت تشبع جوعي، وتروى عطشي إليك أشتاق وأعطش يا نور الحق، وآتي بالخلاص أعطيني طلباتي وأقطر في قلبي نقطة واحدة من محبتك لتتقد كاللـهيب في قلبي وتحرق أشواكه وقرطبه، أي الأفكار الخبيثة التي فيه.

بما انك إله أعن الإنسان الحقير بسماحة ودعة وكثرة إحسان، لأنك أنت الصالح ابن الإله الصالح.

وإن كنت أنا خالفت وأخالف لأنني ترابي وابن ترابي لكن يا من ملأت الجرار من بركتك أرو عطشي، يا من أشبعت الخمسة آلاف من خمسة خبزات أشبع جوعي.

أيها العطوف الصالح، يا من قبلت فلسي الأرملة ومدحتها أقبل طلبة عبدك، وامنحني وسيلتي لأصير هيكلاً لنعمتك، وتسكن فيَّ وتكبح ذهني كبحاً كأنه بلجام لكي لا أضل فأخطئ إليك وأخرج من نورك ؛ بل أهلني أن أدعى وارثاً لملكك وأقدم غماراً موعبة خشوعاً واعترافا بشفاعة كافة قديسيك، اسمع ابتهالي يا من لم تزل مباركاً من الكل. آمين.

أطلب إليكم أن تستيقظوا في هذا الزمان القصير وتجاهدوا في هذه الساعة الحادية عشرة ؛ فإن المساء قد حان ومعطي الأجرة سيوافي بمجد ليقضي كل واحد نظير أعماله.

فأحذروا أن يتوانى أحدكم في تقويم الفضائل فيضيع منحة أجرة المخلص التي لا تحصى ؛ فإن العابد يضاهي حقلاً مزروع لفلاح وهو ينمو بالأمطار وبتخالف النداء، وحامل ثمر السرور.

فإذا بلغ إلى أوان الثمر جعل الفلاح في اهتمام أكثر لئلا يفسده برد أو وحوش برية إلى أن يصل إلى حصاد الغلة فينقل الفلاح إلى المخزن ثمر أراضيه فرحاً مسروراً شاكراً للرب.

كذلك العابد ما دام في هذا الجسد ينبغي له أن يهتم من أجل الحياة الأبدية، ويتعب في النسك إلى يومه الأخير لئلا يتوانى فيحاضر بلا فهم إلى أمر لا منفعة له فيه بل لكي إذا أكمل سعيه يحمل إلى السماء مثل الفلاح ثمرات أتعابه جاعلاً بذلك للملائكة فرحاً وسروراً.

فلا يضجعنَّ أحدكم أو يدهش من التجارب ؛ بل فليعضد القوي الضعيف وليعز النشيط الصغير النفس، ولينهض المستفيق المضبوط بالنوم، وليعظ الثابت في ترتيبه من لا ترتيب له، ولينتهر الممسك من لا تحفظ له ولا ترتيب.

وهكذا بالمسيح المخلص يؤازر كلنا بعضنا بعضاً ؛ ونخزي العدو مصارعنا، ونمجد إلهنا، ونسر الملائكة القديسين، وينتفع منفعة عظيمة الذين يبصروننا ويسمعون الأوصاف عنا.

لأن عسكر الملائكة القديسين مثل جماعة العباد الذين ذهنهم شاخص إلى اللـه كل حين على حالة واحدة.

ومجاوبة الأخ قريبه بمحبة مثل العسل والشهد في الفم.

وكمحل الماء البارد للعطشان في وقت الحر محل كلام التعزية عند الأخ في أوان حزنه.

وكما أن إعطاء أحد يده للواقع لينهضه ؛ هكذا ينهض لفظ الوعظ وكلام الحق النفس والوانية والسائمة. الزرع الجيد وحسن النمو في أرض سمينة كالأفكار الصالحة في نفس العابد.

سد وثيق في بناءٍ كطول الروح في قلبه أوان الترتيل، غرارة ملح على رجل ضعيف كالنوم وهم العالم على العابد.

الأشواك وكثرة القرطب في زرع جيد كالأفكار الدنسة في نفسه، من به داء السرطان ويداوى ولا ينال البرء كالحقد في نفس العابد، الدودة التي تنخر الخشبة وتفنيها كالعداوة التي تبتلي قلبه.

السوس يقرض الثوب ويفسده والوقيعة تدنس نفسه، المتكبر والمتعظم كشجرة مرتفعة وبَهية ولا ثمر فيها، الحسود المتنافس كثمر بَهي من ظاهره ومتهرئ باطنه، مجاوبته بغضب تزعج ذهن قريبه كما يكدر عيناً صافية من يطرح حجراً فيها.

من يقلع وينقل شجرة مثمرة يفسد ثمرها ويزيل ورقها كذلك من يترك موضعه وينتقل إلى مكان آخر، بناء لا أساس له على صخرة كمن لا صبر له على الأحزان.

من يتكلم في أوان الترتيل مثل إنسان واقف أمام الملك وهو يخاطبه فيناديه نظيره في العبودية فيترك مخاطبة الملك العجيبة والشريفة ويفاوض نظيره في العبودية.

فلنفهم يا إخوتي أننا بين يدي من نحن ماثلون لأنه كما أن الملائكة واقفون برعب كثير يقضون التسبيح للباري ؛ هكذا يجب علينا نحن أن نقف بجهاد في أوان الترتيل، وأن لا تكون أجسامنا واقفه وذهننا يتخيل ويتصور أمور العالم، فلنجمع أفكارنا ليكون لنا فخر عند إلهنا ونصطبر على تجارب عدونا لنشرف.

فخر العابد الصبر في الأحزان، فخر العابد طول الأناة مع المحبة، فخر العابد عدم القنية وتواضع الرأي، والبساطة تشرف قدام اللـه والملائكة.

فخر العابد السكوت والسهر بتخشع ودموع، فخر العابد أن يحب اللـه من كل قلبه وقريبه كما يحب نفسه، فخر العابد مسك الأطعمة واللسان، وإذا وافقت أقواله أفعاله يقيم في موضعه ولا ينتقل مثل صخرة تصدمها الرياح، ومثل مسمار في أمواج البحر.

ويلي يا أحبائي فإني قد صرت مثل منفاخ كور الحداد الذي يمتلئ ويتفرغ ولا يستفيد من الرياح شيئاً لأنني سردت فضائل رعية المسيح ولا أعرف في ذاتي شيئاً منها المجد لعظمته وصلاحه.

يا إخوتي إن أقتنص أحدكم بالأفكار النجسة فلا يتوانى ويبذل ذاته لليأس بل فليكن قلبه أمام اللـه وليتنهد بعبرات وليقل: يارب أنْهض وأصغ إلى حكمي يا إلهي وربي انظر إلى طائلتي يارب دني كعدلك لأنني أنا صنعة يديك ؛ فلِمَ أهملتني وأعرضت عني ؛ لِمَ تصد بوجهك عني وتنسى مذلتي لأن العدو قد أضطهد نفسي وأذل في الأرض حياتي وانغمست في حمأة العمق وليس لي قيام فلتدركني نعمتك لئلا أهلك.

إن داومت هكذا تستغيث به ؛ للحين يرسل المحب الناس نعمته إلى قلبك ويعزيك من الحزن المؤلم والمتعب.

فلا نتوانى إذاً ولا نضجع إذ لنا سيد مثل هذا متحنن يترأف علينا ما دمنا هنا، ويخلصنا ويغفر آثامنا، من لا يتعجب أنه بدموع ساعة قصيرة يخلص وأنه في هذه الساعة الحادية عشرة نفسها يغفر هفوات عددها ربوات، وكذلك يشفي ربوات جراحاتنا.

وإذا شفى يعطي أيضاً أجرة الدموع لأن هذا هو المألوف من نعمته أنَها بعد أن تشفي تضاعف الأجرة، فلنحرص أن نبرأ يا إخوتي هنا بترأف وترحم نعمته وهناك ليس كذلك.

هناك عدل وانتصار ومجازاة لكل المفعولات، هناك إبراهيم المتحنن ظهر غير متحنن على الغني ولا رحوم ؛ والذي تضرع من أجل أهل سدوم لم يتضرع من أجل خاطئ واحد ليرحم.

فلا نربطن ذهننا بالأمور الأرضية لكن فلنحرص أن نصير نظير الآباء القديسين، ولا نخل منا سيرتَهم لئلا نعدم شرفهم ؛ فلنحرص أن نكلل مع التامين فإن لم نبلغ أن يكون حظنا مع التامين فعلى الأقل أن نمدح مع الآخرين.

الطوبى لمن يجاهد أن يكلل مع التامين وشقي من لا يمدح مع الآخرين، مغبوط من يؤهل للإكليل ولميراث القديسين وللصوت القائل:

” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.

يا إخوتي أي اعتذار لنا إن توانينا الرجل العالمي ربما له عذر بأنه مرتبط بالعالم، فنحن ماذا نقول ؟

فأخشى أن يكون الذين يمدحوننا هنا يستهزئون بنا هناك. لا يحل لنا الرقاد واهتمام العالم لئلا تمرمرنا النار الخالدة والدود الذي لا يرقد.

فلنفيقن قليلاً ونبكي لننجوا من النار الأبدية، آلا تصدقوا قول المخلص أن وروده يكون كالبرق بغتة ؛ فلنرهب من أن يدركنا بغتة ونحن غير مستعدين فتندم نفوسنا على ونيتنا ولا ينفعنا ذلك شيئاً.

صدقوني يا إخوتي إن الساعة الأخيرة هي ؛ احذروا أن يتم فينا قول النبي: ويل للذين يشتاقون إلى يوم الرب. وأصغوا إلى ذواتكم حذرين أن نوجد مثل ذلك العبد الذي جاء مولاه فوجده متنعماً فجعل حظه مع الكافرين وشطره نصفين، بل فلنطلب بوقاحة ولجاجة لينقظنا من الظلمة وصرير الأسنان ويؤهلنا لملكه.

صلاة:

إليك أتضرع أيها المسيح مخلص العالم أنظر إليَّ وارحمني، ونجيني من كثرة مآثمي فإنني قد أنكرت سائر الصالحات التي صنعتها معي منذ حداثتي لأنني كنت أمياً وللفهم عادماً فجعلتني مملوءاً علماً وحكمة.

وتكاثرت عليَّ نعمتك فأشبعت جوعي وبردت عطشي وأضأت ذهني المظلم وجمعت من الضلال أفكاري. فالآن أسجد وأتضرع إلى تعطفك الذي لا يوصف معترفاً بضعفي.

سكن عني أمواج نعمتك وأحفظها لي في ذلك اليوم ولا تسخط عليَّ أيها الكلي الصلاح لأني لا أحتمل فيضانَها، قد اجترأت على التهجم بِهداية صورة الآب وشعاع المجد الذي لا يوصف ارحمني منها فإنِها كالنار تلهب كليتي وقلبي ؛ أعطيني إياها هناك وحصلني في ملكك.

إذا صنعة عندي منزلاً بظهورك مع أب صلاحك المبارك نعم أيها السيد الآتي بالحياة وحدك أعطيني طلبتي وأحجب مآثمي عن معارفي ذاكراً عبراتي التي ذرفتها قدام شُهدائك القديسين لتترأف عليَّ في تلك الساعة الرهيبة واسترني تحت أجنحة نعمتك.

نعم أيها السيد أوضح فيَّ أنا الخاطئ تعطفك الذي لا ينطق به واجعلني لذلك اللص مشاركاً ؛ الذي صار بكلمة واحدة وارثاً للفردوس ؛ وأدخلني إلى هناك حتى أبصر أين اختفى آدم وأقرب لتعطفك مجداً لأنك استمعت لعبراتي وغفرت كافة آثامي.

ضع عبراتي قدامك يارب كوعدك ليخز عدوي إذا رآني في صقع الحياة الذي أعددته لي رأفاتك ويظلم خائباً إذا رآني فى الصقع الذي هيأته لي رافاتك من أجل تحننك.

نعم يا سيدي غير الخاطئ وحدك والمتعطف أسكب عليَّ صلاحك الذي لا يوصف، أعطيني ولكافة الذين يحبونك أن نسجد لمجدك في ملكك، وإذا تنعمنا بجمالك نقول:

المجد للآب الذي خلقنا، والمجد للابن الذي خلصنا

والمجد للروح الكلي قدسه الذي جددنا

إلى كافة أبد الدهور

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة السادسة في مشابهة الأمثال، وفي المخافة الإلهية

 

من يؤمن بابن اللـه له حياة دائمة، من يؤمن بابن اللـه لا تتعرقل خطواته ولو سلك في النار لا يحرقه اللـهيب، من يؤمن بابن اللـه كما قال الكتاب: تجري من بطنه أنَهار ماء حي.

الحطب الكثير ينمي اللـهيب ومخافة اللـه تكثر المعرفة في قلب الإنسان والعمل يحقق العلم.

فق كثيراً إذا كنت تزرع بزار سيدك لئلا يخلط فيه زارع الزوان شيئاً من بذوره لأنه له عادة أن يعمل في الخير الشر، فلنطلب من الرب النعمة ليعطينا معرفةً وفهماً لنتيقظ في كل شيء.

الكور يختبر الفضة والذهب ويصفيهما وتقوى الرب تُهذب أفكار الناس وتنقيها.

الصائغ الجالس وراء السندان يعمل أواني حسنة نافعة كذلك مخافة اللـه تجرد كل فكر خبيث من القلب وتنظفه وتبرز ألفاظاً بمعرفة.

فلنعطِ مجداً لمن منحنا مخافته في قلوبنا لأنه هو الذي يفيد الإنسان علماً.

بدء الحكمة تقوى الرب ؛ والفهم صالح نافع لكل من يعمل به.

العبادة الحسنة للـه بدء حسن، الحكيم يحفظ وصايا المسيح ومن يسلك فيها لا يخزى إلى الأبد ؛ ومن يهملها فذاك جاهل ورجائه باطل.

من يحفظها بتحقيق فذاك قد أنتقل من الموت إلى الحياة ؛ ولا يعاين إلى الأبد ظلاماً ؛ وفي يوم وفاته يجد دالة ونعمة، وملائكة أتقياء يرشدون نفسه، وأساسه على الصخرة التي لا تتزعزع ويصير وارثاً للحياة الخالدة.

هذا هو المغبوط لأنه عرف أن يصنع مشيئة خالقه، إذا ضُربَ البوق يستعد الجيش للحرب لكن في أوان الجهاد ليس الكل محاربين.

كثيرون عباد بالزي وقليلون هم المجاهدون. في وقت التجربة تظهر دربة العابد وخبرته. قبل الوفاة لا تغيظن أحداً وقبل الموت لا ييأس أحداً. لا تقل عن ذاتك إنكَ صدِيق ولا عيب لك قدام اللـه فإن الأشياء التي نسيتها أنت تلك ظاهرة قدام اللـه.

يجب أن نتيقن إننا إن صبرنا له يكون لعملنا ثمر. أشاء أن أكون عاملاً وممدوحاً عند الإخوة أكثر من أن أكون مخالفاً للوصايا ومرفوضاً عندهم.

من يتعلم ويعرف كل كتاب ويعرض عن وصايا المسيح يُضرب جلدات كثيرة، ومن يعمل مشيئة الرب فذاك يحسب رجلاً كاملاً، ليس المكان يجعل الإنسان تاماً بل الفرز ‘ الإفراز ’.

فليكن للضعفاء موضع معتدل الحد. من هو الرجل الكامل ؟ هو من يحب الرب بالحقيقة وقريبه كما يحب نفسه، أتقِ الرب فتجد نعمة لأن خشية الرب تولد أحوالاً وعادات تتقوم بِها الفضائل، فأما عدم المخافة فتنتج غيرة مرة ومحكاً ونظائرهما.

مخافة الرب ينبوع الحياة، مخافة الرب تثقف عقلاً عاقلاً، مخافة الرب صيانة للنفس، مخافة الرب تعطي للمتقي الرب نعمة في كل تصرفه، مخافة الرب مدبرة للنفس، خشية الرب تضىء النفس، مخافة الرب تذيب الخبث تقوى الرب تنقض الآلام، مخافة الرب تنمي المحبة.

خشية الرب تجفف كل شهوة رديئة، مخافة الرب تقطع اللذة، خشية الرب مأدبةً للنفس لأنَها تبشرها بآمال صالحة، مخافة الرب تقلد طرق السلامة، خشية الرب تملأ النفس من الروح القدس وتعطيها لواء ملكوت السماوات.

ليس في الناس أعظم قدراً من المتقي الرب، المتقي الرب يضاهي نوراً يرشد الأكثرين إلى الخلاص، المتقي الرب يشابه مدينةً حصينةً موضوعةً فوق الجبل ومن قدام وجهه يتفرق الجن الخبثاء، النفس التي تخاف الرب مغبوطة لأنَها تتقدم فتبصر أمامها القاضي العادل كل حين، إن كنت تتقي الرب فأحفظ وصاياه فلا تخزى.

يوجد من يترك موضعه من أجل فضيلة ويوجد من يخلي مكانه التماساً للبطالة وعدم الخضوع، ويوجد من يضطهد من أجل ميراث ويوجد من يفحص عن أشياء كثيرة مريداً أن يتعلم الحكمة ؛ ويوجد من يستفحص عن معجمات كثيرة ابتغاء للسبح الباطل.

ويوجد من يحاضر ويجاهد من أجل محبة المسيح ويوجد من يجري ويجتهد من أجل المجد الفارغ، يوجد من يخضع ويطيع من أجل وصية المسيح ومن يخضع ويذعن من أجل درجة وفائدة قبيحة.

يوجد من يمدح قريبه من أجل استرضاء الناس ومن يمدح قريبه من أجل وصية المسيح، يوجد من يثلب قريبه من أجل نَهم البطن ومن يواضع ذاته من أجل وصية المسيح.

يوجد من يثلب ذاته من سفاهة ؛ ومن يكون شديداً من أجل محبة الفضة، يوجد من يعمل كثيراً من أجل الصدقة ومن يعمل في وقت لا يجب أن يعمل وفي أوان العمل لا يعمل.

يوجد من يرتل ويصيح في وقت لا يجب ذلك وفي وقت الترتيل يسكت أو يكلم قريبه كلاماً بطالاً، يوجد من يسهر وقت لا يصلح السهر وفي وقت السهر يتذمر.

قد كتب أن الجحيم والهلاك ظاهران عند اللـه فكيف لا تكون قلوب الناس ظاهرة عنده.

بدء السيرة الصالحة الدموع في الصلاة أما استماع الكتب الإلهية فهو ابتداء العقل المقسط.

ربوات كتب في أذان الجاهل تحسب لا شيء ومن هو الجاهل إلا المتهاون بمخافة الرب.

قد كتب أن قلب الحكيم يقبل الوصايا، وأعطي الحكيم شيئاً فيكون أوفر حكمة، أعرف المقسط المحق وعلمه فيزيد في قبولك. الابن المؤدب يكون حكيماً والجاهل يستعمل خادماً.

ذوو الغنى العاجزون يصيرون محتاجين أما ذوو الجزالة فيتأصلون في الغنى، الحكيم إذا خشى جنح عن الشر والجاهل إذا وثق بنفسه يختلط بالأثمة.

الحاد الغضب يبيع بغير مشاورة والرجل العاقل يحتمل أشياء كثيرة، أكرم الرب فتكون مناهجك ممهدة، أكرم الكاهن والشيخ لتوافى إليك بركة أفواههما، أكرم الشيوخ لأنَهم قد خدموا المسيح كثيراً، أكرم إخوتك لأنَهم عبيد المسيح لكي ما تُحَب منهم.

يا أخي إن أحببت السكوت فستعبي غناك بسكون، من يهرب من سكوت قلايته يتخيل الأمور الأرضية، والمهتم بالصناعة يشتهي الأشياء المعدة للقديسين في السماوات.

الرب قد تقدم فعرف أفكار العابد إذا اشتهى الكهنوت، فالكهنوت درجة عظيمة إذا أُكملت بلا دنس.

الملك المحب للمسيح يُطَوَب لأنه خلف تذكاره للبركة ومدحه في السماء وعلى الأرض، والملك الكافر لا يعرف في حياته حكمة وإذا توفي فقد ترك ذكره للعنة وعاره لن يمحى إلى الأبد.

كرسي المؤمن مثبت إلى الدهر، القاضي المبتغي العدل تباركه أفواه الصديقين، والظالم لا تُرحم نفسه لأنه لم يعمل على الأرض حُكماً عادلاً، قد كتب من يُغضِب فقيراً يصنع لذاته أسواء كثيرة.

لا تغضب فقيراً لأنه مسكين، ولا تشتم عليلاً أمام الباب لأن الرب يحكم حكومته لأنه قد كتب أنقذ المأخوذين إلى الموت، ولا تُسلم عبداً إلى يدي سيده لئلا يلعنك فتبيد وتَهلك، لأنه قد كتب من يشمت بالهالكين لا يتزكى ومن يتحنن عليهم يُبَارك.

المؤمن له العالم وأمواله أجمع، والغير مؤمن لا فلس له، من يرحم مسكيناً يقرض اللـه ونظير عطيته يجازيه، فقد كتب ميزان كبير وصغير ومكاييل مثناه نجسة عند اللـه كلها، من يحفر حفرة لقريبه يسقط فيها. أتقي الرب فينقذك في اليوم الشرير.

الملك الحسن التدبير يهتم بمواني البحر، والمجرب في الفهم لا يتوانى في حدود حصونه والفريقان كلاهما يشرفان في الملك لكثرة تدريبهما ويقظتهما.

الملك المؤمن يتذكر كل حين الدينونة الدهرية ؛ ومن يتذكر القاضي العادل لا ينسى حرية النفوس التي في الشدائد والضيقات والمحصورة في المحابس والمنافي.

الطوبى للرجل الذي يقتني بالسلطان الوقتي المجد الباقي لأن من هو اليوم ملك غداً يتوفى، ومن يعمل مشيئة الرب يثبت إلى الأبد، الطبيب الحاذق في تجربة الأمور يصير مجرباً، التنعم الكثير يولد آلاماً وأمراضاً، والعمل المتعب فيه تعب في الحاضر وبعد التعب ينتج عافية وصحة.

أيها العابد لا تشتهي لحماً ولا تشرب خمراً للسكر لئلا يتلف ذهنك ولا تفني منك المهمات العالمية، أكسح النخلة فتسموا إلى العلا وأجتز من النفس الأمور العالمية فتعلوا إلى الفضيلة.

من يُقرَف أو يُظلَم فيحتمل فهو يشبه من قد حبس سبعاً في قفص، أما من يخاصم فيشبه من يفسد ذاته.

أمر حسن أن توجد في الصلاة الجامعة قبل الكل وتركك إياها من قبل انتهائها من غير اضطرار ليس حسن، أصبر أيها الأخ وأسمع الكتب الإلهية لكي ما تنتفع لأن كما أن السائر في الحر حلوٌ عنده كأس ماءٍ بارد هكذا الأقوال الإلهية تندي النفس.

إن شئت أن تسمع فأصبر ؛ وإن سمعت ستكون حكيماً، وإن كنت تحتمل بتثقل ثقل استماع الكلام فكم بالحري العامل فمن هنا تعرف ذاتك إنك متوانٍ.

إذا دخلنا إلى بيت اللـه فلا يكون ذهننا طموحاً يتنزه بل فليشتغل إنساننا الباطن بنظر اللـه والصلاة، وإذا صلينا وقلنا يا أبانا الذى في السماوات فلنتحرز أن تخطر لنا الأفكار شيئاً آخر فتزعج ذهننا وتكدره.

وإذا وقفت في الصلاة فأعرف بين يدي من أنت ماثل ولتكن نفسك وقلبك كله ناظراً إليه تفهم ما أقوله، إذا أخذ إنساناً بيده صرة دراهم ومضى إلى الموسم ليبتاع بقراً هل يتأمل الخنازير ؟

وإن أراد أن يبتاع حميراً، هل يتفرس في الكلاب ؟ أليس كل فكره منتصب في الأشياء التي يشتهيها لئلا يسخر به فيضيع الذي بيده باطلاً.

وإن كان الأخ الواقف إلى جانبك مريضاً بالجسم ويتفق له أن يسعل أو يبصق كثيراً فلا تتضجر منه لكن اذكر أن كثيرين بذلوا ذاتَهم لخدمة سقماء ومجروحين.

وإذا كنت معافى في جسمك فلا تترفع لكن خف فإن كل إنسان في يدي يسوع المسيح مخلصنا مثل معزفة كثيرة أوتارها في يدي الرجل.

وقد كتب أن أنظار الأشرار دائماً تتقبل الأسواء ؛ والصالحين فستكون كل حين في مناهج الحياة التي فيها معقولات ؛ الفقيه ليجنح عن الهاوية ويخلص، لأنه قد كتب أن الغير مؤدب لا يحب اللذين يوبخونه ولا يخاطب الحكماء.

ومن يشتم فقيراً يخطئ، ومن يرحم المسكين يطوب إذ قد كتب إن سقط عدوك فلا تشمت به ولا تعجب بعثراته فإن الرب يبصر ذلك فلا يرضيه ويصرف نظره عنك. من يصم أذنه لئلا يسمع الضعفاء سيستغيث ولن يوجد من يسمعه.

لا تفتخر بالأمور التي في غد فإنك لا تدري ماذا يولد اليوم الآتي، لا تعمل سوءاً فلا تدركك المساوئ، لا تحب أن تغتاب أحداً لئلا تنتزع فإنه قد كتب من يجاوب كلاماً قبل أن يسمع فذلك سفاهة له وعار، لا يفرح الأب بالابن العادم الأدب، والابن المتأدب يكون حكيماً.

الحكمة ليست بكثرة تعلم الكتب بل كما كتب بدء الحكمة تقوى اللـه ؛ ومعرفة الشريعة إنما هي العزم الصالح ؛ الأمانة تنتج العزم الصالح والعزم الصالح يولد أنْهار ماء حي ومن يقتنيه يشبع من ماءه.

بغير زيت لا يوقد السراج وخلواً من الأمانة لا يمكن أن يقتنى العزم الصالح لأنه قد كتب من يقصي الأدب يمقت ذاته، ومن يحرز التوبيخات يحب نفسه.

لا تتكردس بسرعة إلى الخصومة لئلا تندم في أواخرك، الاسم الممدوح مأثور أكثر من الغنى الجزيل، والنعمة الصالحة أكثر من الفضة والذهب.

بغير صبر لا يبنى البرج وبلا معرفة لا تقتنى فضيلة، ليس للصبر وزن يعادله إن أمتزج به التواضع، موهبة الصبر تعطى من الرب للذين يحبونه والذين يتمسكون بِها ينقذون من غموم كثيرة.

الجاهل يكثر أقواله ومن يشفق على شفتيه يكون فقيهاً، العابد العاقل إذا بعث في خدمة يذهب بزي جميل والذين يبصرونه يعطون للرب مجداً، والجاهل أو السكران يفضح زيه في القرى بقباحة فيخجل رئيسه وإخوته.

عدم التقوى يولد فكر الحداثة ؛ وخشية الرب تجعل الشباب شيوخاً، أكرم الرب ولا تفتن عالمياً، ماثل صموئيل النبي فإنه أرضى اللـه ونفع الناس، وأولئك الذين عدموا التقوى سقطوا بالسيف.

لا تعطي الشاب الجموح دالة ولا تطلق شيخاً أن يفعل أفعالاً غير واجبة فإن المتقي الرب يهتم بشعبه.

التورع والتواضع والمحبة تعلي رأس العابد، وفي أوان افتقاده يلمع شارقاً، بغض أو حسد مخبوء في ورع هو ماء مر في آواني ذهب فأطرح فيه عود الحياة فيحلوا لأن الماء حليت من العود فيضمحل منه كل اغتيال الغاش.

بصليب مخلصنا يسوع المسيح تضئ المحبة عين الذهن ومن يحب العداوة والمحك فذاك يضاهي من يدخل يده بمداومة إلى جحر أفعى.

الدودة في الخشب كالسبح الباطل في العابد وألم محبة الفضة في قلب الإنسان، لا تعلِ ذاتك لئلا تسقط وتجتلب لنفسك هواناً لأن الرب يعضد الورعين ويذل الخطاة إلى الأرض، من يعلِّ ذاته يصنع لنفسه هواناً، ومن يخدم قريبه بتواضع يشرف.

من يتحنن على قريبه في يوم حزنه يتحنن الرب عليه في كل حين لأن رحمة الإنسان كخاتم معه.

رُب إنسان إذا ما استولى على شيء يظهر رحوماً ووديعاً ثم إذا نال سلطاناً ينتصب نشيطاً يأمر ويوعز بلا تمييز فإن انتزعت منه الرياسة لا يستطيع احتمال الأوامر المأمور بِها منه فذلك كجاهل لم يعرف ضعفه.

يا أخي في كافة أعمالك تذكر أواخرك فلا تخطئ إلى الأبد، لا تعجب بكلامك ولا تتغطرس بل واضع ذاتك فإن طائلة المنافقين نار ودود.

أقتني خشية اللـه لترهبك الشياطين لأن الأشياء المصنعة دائماً باطلة، إن آثرنا كلنا أن نأمر ونترأس فمن هو المأمور والمطيع، إن اشتهينا كلنا الكرامة فمن يزرع الكرامة. الرجل الحكيم يستعفي من أن يأمر لا من أن يؤمر مكملاً وصية القائل:

من يشاء أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً ؛ ومن يريد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً ؛ كما أن ابن الإنسان ما جاء ليُخدَم بل ليَخْدُم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.

إذ اُنصبت مديراً فلا تشمخ بل صر بين الإخوة كواحد منهم. كرر التفكر في أتعابك القديمة وأعرف أن أُولئك قد تصرفوا في مثل تلك الأتعاب ولا تتوانى بِهم بل أهتم فإنه قد كتب أن شرف الملك بالأمة الكبيرة، وبنقص الشعب ينصحق المقتدر.

الإنسان الطويل الأناة كثير الحظ في العقل والصغير النفس جاهل جداً، نصلي أن نؤهل لموهبة فإذا أهلنا لها نتهاون بِها، من يهتم بأخيه بتأديب الرب ووعظه تكون نفسه حسنة الرضاء عند الرب، ومن يتهاون بحياته يخطئ إلى اللـه.

لا تفرح بنقص أدب إخوتك لأنك لا تأخذ من الإهانة شرفاً ؛ ولا تحسد نجاح إخوتك فإن الكتاب يقول: ليس لي أعظم من هذا الفرح أن أسمع عن أولادي سالكون في الحق.

وقد كتب: أن الذين لا سياسة لهم يسقطون كالورق. والخلاص إنما هو في المشاورة الجزيلة، إن كان الأخ عالماً فلا تُحزن روحه إن سلك سلوكاً باراً لكن كما استبان ليعقوب وجه لابان السرياني هكذا فليبصر وجهك.

أفأنت تدعي عالماً فأعرف ذاتك من أعمالك لأنه كما أن الجسم بغير روح مائت كذلك العالم خلواً من العمل باطل، علامة السيرة أن الفضيلة في الشاب العابد هو الابتعاد من كثرة النبيذ ومن إكثار الكلام بتواضع.

ومن يحب هذين لا يكمل سيرة ذات فضيلة، لا تلزم أخاك أن يشرب خمراً للسكر وإن كان قد ذاقه في مدة من الزمان، لأن المركب يصلح للسفر زماناً طويلاً وإذا صدم لحظة فيكسر.

ولتحب نفسك شاباً وديعاً لكن لا تضع عليه ثقلاً يفوق طاقته كي تنجى بالرب نفسه وإذا ظهر رئيس الرعاة تأخذ إكليل المجد الذي لا يضمحل.

حصن بيتك من كل جانب ولا تسمح أن ينقب في بدء تحصنك أياه لئلا يدخل اللص من النقب فيسلب منزلك وتكون أنت سبباً لهلاكك.

أعطي المحتاج ولا تقل أنه لا يحتاج أهتم به لئلا تدان كالغير ودودين ولا رحومين.

فلنسمع يا إخوتي من القائل: إذ لنا قوت وكسوة فلنكتفي بِهما. فالذين يريدون أن يستغنوا يقعون في تجربة وفي فخ، وفي شهواتٍ كثيرةٍ غبيةٍ ومضرةٍ تغرق الناس في الفساد والهلاك لأن أصل الشرور كلها محبة الفضة.

بكل طاقتك أكرم أباك ولا تجعل فرائض الذي ولدك بالرب منقوضة فإنه بِهذه الحال لا يتقوى عليك الجن الخبثاء المتجبرون، واضع نفسك قدام الرب جداً فتجد نعمة فإن منازل الشتامين يقتلعها الرب وينصب عوضهم الودعاء.

ولا تعيرون إنساناً راجعاً عن الخطية ؛ ولا تشتم رجلاً في شيخوخته لأن الشيوخ شاخوا منا، ولا تتوانى عن عليل لأنه قد كتب: من يصم أذنه لئلا يسمع من المرضى يستغث ولا يجد من يسمعه ويسير ممقوتاً في مسكنه.

من يحمل قولاً من بيت إلى بيت فهو فاعل مخزي فالرجل العاقل يستعمل الصمت.

لا تدخل إلى قلاية أخيك قبل أن تقرع بابَها فإنه لا يوافق الاضطراب للصمت.

المدبر الفهيم يدهن نفوس إخوته بوعظ الرب وتعليمه والمتهاون يخسر، أمنح الشيوخ كرامة من أجل الرب ومن أجل أنَهم أوفر من الإخوة علماً، لا تلزم الشيوخ بالعمل فإنَهم قد سحقوا بالنسك بشرة حداثتهم، الضمير يكفي لمن يتقي الرب.

من يمكنه أن يعمل ويأكل باطلاً ليس بإنسان صالح إذ الرسول يقول: حفظت لكم ذاتي غير مثقل وأحفظ. وقد كتب الطوبى للرحومين فإنَهم يرحمون.

لا تظلم قريبك محتجاً بالمكان فإن الكنيسة ليست بالعُمْدَان بل بالناس لأنه قد كتب: ويل لمن يحتشد لذاته أشياء لم يكن له منها شيء فإن الذين يثلبونه ينهضون بغتة ويتيقظ عليه المغتالون ويصير لهم جدوى يختلسونَها.

من يبني منزله من الظلم إنما يبني لِذاته شهادة الهلاك لأن القديسين مقتوا كل طريقة ظالمة، عطب عظيم صبي في كنونيون ” شركة ” سيما إن كان ليست في الوسط سياسة وليس من يربي.

مغبوط من يرضي اللـه، الراعي الذي ينام خارج حظيرة الغنم لا يسبب لذاته خسارة يسيرة لأن فرح الذئاب رقاد الرعاة.

إن تواضع الأخ تحت يدك فأفطن أنه ليس من أجل خشيتك تذكر إذاً الرب وما صبر من أجلك ولا تسىء إليه، لا ترغب في ربح فيه خسارة للنفس لأنه ماذا أكرم من النفس قدراً.

عابد مسكين يسكن بتواضع أفضل من عابد موسر يتصدق بتكبر وتشامخ. لا تربطن ذاتك بعهد مع الأخ بل فليكن لك ألفة بمخافة اللـه.

يا عابداً أحذر أن تؤثر أن ترضي الذين يعقلون المعقولات العالمية فتضيع سيرة العبادة بل كن موسوماً بمخافة اللـه طول النهار.

العابد المتذمر يخسر كثيراً ومن يحتمل بأناة يرث الفرح.

لا تسأموا يا إخوتي فأننا لا نريد أن نكون في هذا العالم دائماً، كل ما يصنعه الإنسان من أجل الرب فهو ربح له لأن الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة واللـه يبطلهما جميعاً.

أيها العابد إن أصغيت إلى ذاتك فترحم ذاتك أولاً ثم تفرح الذين يحبونك لأن الحكمة تقول: يا ولدى إن كنت حكيماً فستكون حكيماً لذاتك ولقريبك وإن ظهرت رديئاً فتعرف المساوئ وحدك.

أيها العابد أفهم ما أقول لا يكن لك من خارج وفي القلاية هياج لئلا تشابه القبور المبيضة التي تبين من ظاهرها بيضاء ومن باطنها مملوءة عظام الناس والنجاسة لأن في كل مكان الإله الواحد الذي له المجد إلى أبد الدهور. آمين.

أطرح فكر الكبرياء قبل أن يذللك، أهدم فكر ترفع القلب قبل أن يهدمك، أحزن الشهوة قبل أن تغمك ؛ لا تعيرن أخاً لا جلوس له في قلايته لئلا تسقط في ألمه.

إن جلست مع شيخ كبير لا تحدث بفضائله فقط بل تشبه بسيرته لأن هذا نافع لك.

أيها العابد أطل أناتك على مبتدئك فإن الأشياء كلها مستطاعة عند اللـه.

المبتدئ الذي ليس له أتضاع ليس له سلاح بإذاء المعاند ومن هو هكذا يتهشم كثيراً.

من يشتهي راحة جسده يصطنع لذاته أوجاعاً كثيرة أما الطويل الروح فيخلص.

المدبر الفهيم لا يستحقر استماع مفاوضة المبتدئ مع من هو أعظم منه والعالم يستفحص تحرير كلام المبتدئ إلى من هو أكبر منه.

من يكثر أقواله في الكنونبون يكثر لنفسه خصاماً وبغضاً ومن يحفظ فمه يُحَب.

يا أحبائي جليلة هي الطاعة الصائرة من أجل اللـه ؛ فبهذا أعرف الطاعة التي يرضي اللـه بِها، الطاعة الصائرة من أجل اللـه هي مملوءة قداسة.

جاهد إلى الموت عن ذاتك ولا تستحي من سقطتك فقد يجتلب خجل خطيئة وربَّ خجل يتجلب شرفاً ونعمة.

يا حبيبي إن سقطت في مرض فأذكر القائل: يا ولدي لا تسأم من تأديب الرب ولا تنحل إذا وبخت منه فإن الرب يؤدب من يحبه ويجلد كل ابن يقبله.

مرض أخ في وقت ما وقال في ذاته: ويلي أنا الخاطئ أنني عازم أن أصارع هذا الألم. ولما صار معافى سقط أيضاً في ألم أخر أصعب من الأول، وقال ذلك القول أيضاً لكنه لم يظهر سريعاً ألمه لإنسان بل كان يطلب من الرب رأفةً ليهب له عافيةً من المرض وقوة من العلة.

إن أتى إليك روح الضجر لا تدع له مسكناً عندك بل قاتله بالصبر، لا يقنعك الفكر قائلاً: أنتقل من مكان إلى مكان فإنك إن تنازلت لهذا الفكر فلا تثبت في موضع قط، فقد كتب بماذا يقوم الشاب طريقه ؟ بحفظه أقوالك. بِهذا يخلص.

خاصة المتصرف مع إخوة بأن يقتني مخافة اللـه والعفة في نَهاية غايتهما اللتين منهما تتولد المحبة والفرح والسلامة والطاعة وطول الروح والمسك والصبر وكل المناقب اللائقة بالمسيحيين.

ويصير سريعاً إلى الاستماع بطيئاً في التكلم ممسكاً عن الغيظ لأن غضب الإنسان لا يصنع عدل اللـه ؛ ويكون بصيراً كمن لا يبصر إلى الأمور الغير نافعة ولا موافقة.

وسامعاً كمن لا يسمع الأشياء التي لا تغني ؛ ويجعل ذاته أدنى وأخر الآخرين فيجد راحة، لأن من يواضع ذاته يرتفع ومن يرفع ذاته يوضع.

إن بدأت أن تأمر بأمر ولا تتعب بقدر طاقتك فسيصير لك تعباً عند الأواخر لأن ليس كل وقت يهب هذا الريح نفسه لكن للرياح تغيرات وتنقل.

فلهذا نحتاج أن نعود ذاتنا على العمل لأننا لا نعرف ماذا ينتج اليوم الآتي ؛ فليكن قدام عينيك دائماً القائل:

لا تدينوا لئلا تدانوا لأنه بالدينونة التي بِها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم.

لِمَ تبصر العود الذي في عين أخيك ولا تتأمل الخشبة التي في عينك أيها المرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر أن تخرج القذاء من عين أخيك ؛ وبلا محال أنك ستجد نعمة قدام الرب والناس.

لا تطلق لعينيك أن تطمحا ولا تتأمل تَصَفح جمالاً غريباً لئلا يتناولك معاندك بعينيك. لا تغاير سيرة المتوانيين بل سيرة المزينيين بكل فضيلة.

يا أخي لا تتعربس فإن الأشياء الصائرة خارج مخافة اللـه ليس فيها شيء أخر إلا لؤم وندامة، مغبوطة النفس التي تخدم اللـه بتحقيق فإنَها ستجد نياحتها من عند اللـه في أواخرها.

توني قليل ينتج خطيئة عظيمة، ويقظة يسيرة تسترجع خسارة كبيرة، أمر مفضل أن تأكل بالرب وتشكر له من أن لا تأكل وتدين الذين يأكلون ويشكرون الرب.

إذا جلست على المائدة فكل خبزاً ولا تغتاب قريبك لئلا تأكل لحم أخيك بالاغتياب.

لأنه قد كتب: “الذين يأكلون شعبي في إغتذاء الخبز ولم يدعوا الرب”.

إذا كنت معافى بالأمانة فكل كل شيء يقدم لك بالرب ؛ فإن قدم لك طعاماً ما لا تشتهي أن تأكله فلا ترده إذا كان أكثر الجلوس معك يريدون أكله ويشكرون الرب.

وإذا جلست على المائدة فكل أكلاً لائقاً بالإنسان ولا تحول نظرك حولك كمن لا أدب له.

قال أخ لست أستعفي للصون من أكل اللحم لأن كل ما يراه اللـه جيد وليس شيء نجس إذا أخذ بشكر لأنه يتقدس بقول اللـه والتضرع، لكن قد كتب لا يوافق للجاهل أن يتنعم.

وعدم أدب للعابد أن يأكل قرصاً صحيحاً والكسر موضوعة قدامه، لا تستحقر الكسر فإن الرب قال لتلاميذه أن يجمعوا الكسر التي فضلت لئلا يضيع منها شيء.

أيها الحبيب إن أنغلب أخ وأنصرف من موضعه وبعد ذلك ندم وأراد أن يرجع فلا تمنعه بل أولى بك أن تعزيه وتلاطفه ليعود لأنك لا تعرف ماذا ينتج اليوم الوارد ؛ فلا يجب أن تستحقر مثل هؤلاء كملعوب بِهم بل يجب بالحري أن تعتنق أمرهم أكثر من المعافين من المرضى.

إذا سكنت مع إخوة فلا تصر لأحدهم سبباً من أن يفارقهم لئلا تدان في ذلك العالم، وتحرز جداً من أن تقلق أحداً فلا تفرز من ملكوت السماوات مع صانعي الشكوك.

إن مرض أخوك فأتعب معه لتؤهل أن تسمع من الرب في ذلك اليوم: ” إذ قد صنعت إحساناً بأحد إخوتي هؤلاء الحقيرين فبي فعلته”. من يتوانى بعليل يغيظ من أدبه، ومن يشمت بسقطة أخيه سيسقط سقطة مذهلة.

لا تقل اليوم أخطئ وغداً أتوب ؛ لكن الأوجب أن تتوب اليوم لأننا لا نعلم إن كنا ندرك الغد.

يا أحبائي إذا أخطأنا فلنتب فإن الرب يقبل توبة التائبين بالحقيقة، أيها الأخ لا تقل أن هنا قتال وضيقة وهناك راحة وعدم هم، من هو الذي يقاتلنا إن كنت تعرف ؟ أليس هو عدونا المحال.

أسمع منذ الآن ماذا يقول في خبر أيوب ” قال الرب للمحال: من أين أقبلت؟ حينئذ قال المحال للرب: من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها”.

فأعرف أن الشيطان موجود أينما مضيت وأثبت إذاً في المكان الذي دعيت إليه وناصب المحال فيهرب منك، وأقترب إلى اللـه فيدنوا منك.

من يحب الذهب لا يتزك ومن يحب الرب يبارك، من يتوكل على الذهب يسقط ومن يتوكل على الرب ينج.

الويل لمن يدخله عدم الأمانة وفقد التقوى ونقص الرأي وقلة المعرفة والجهالة والوقاحة فسيكون حظاً للثعلب.

مغبوطة النفس التي تسكن فيها خشية اللـه، من لا يرضى أن يخدم سيداً واحداً سيخدم كثيرين، ومن لا يحتمل أن يخضع لرأس واحد سيخضع لكثيرين في أماكن متباينة، من لا يثبت في عمل صناعة واحدة سيتهشم في أعمال مختلفة.

من يزين ثيابه يضر نفسه ؛ لأن الثياب الجزيلة أثمانِها تعيب نفس العابد والثياب الحقيرة تنفعه.

إن الكبرياء والجسارة وعدم الحس وفقد الخجل وعدم الإفراز تعيب العابد عيباً خبيثاً. عيب العابد العين الطامحة لأن العابد الطامح يجمع أوجاعاً كثيرة لمن يتبعها.

إن لم تمسك من أن تطمح بعينيك فلا تشق يمَّ العفة مستوية، عيب الرجل أن يسكر بالنبيذ رأيت كثيرين ولم أشبههم به.

العابد المفتخر بقوته سيفه أول خزيه وعاره أن يفتخر بقوته لأن المفتخر ينبغي بالرب أن يفتخر.

الجاهل في الضحك يعلي صوته، وأجهل منه من يمشي ويحرك كتفيه وساعديه معاً تحريكاً بتألم.

وعلامة نقص الأدب في العابد أن يرفع جانب مزرته الأيسر رفعاً بألم، العابد المتأدب يتورع في كل شيء.

الألم المبوق في الإنسان يعوده أن يحلف بفمه، لا تجعل لفمك عادة الحلف لئلا تتكاثر جهالتك وعوض العدل تجمع لذاتك خطية.

شرف العابد أن يتقي الرب ويحفظ وصاياه، شرفه أن يواضع ذاته للكبار والصغار، شرفه الإفراز والتواضع، مجده عدم الحقد والصبر والتيقظ في كل عمل صالح.

لا تحتقر شيخاً إن أراد أن يجىء إلى تعب العبادة لأن الرب لم يطرح الذين عملوا من الساعة الحادية عشرة ؛ فانك لا تعلم إن كان إناء مختار.

إن أحببت الكبرياء فقد صرت من حظ الشياطين، إن أحببت التواضع فقد صرت من حظ السيد المسيح.

إن اقتنيت الفضة ستنصرف من هنا فارغاً، وإن أحببت عدم القنية فلا تعدم الغنى السماوي.

إن أخفيت في قلبك ألم الحقد فقد صرت خزانة للغضب وعدم المعرفة والحزن ويستحيل منظر وجهك لأنه قال: إن طرق الحقودين مؤدية إلى الموت. الرجل المترفع الرأي يحزن كثيراً والمتواضع يفرح بالرب كل حين.

استعلاء الرأي يبتغي في كل حين إكراماً وتواضع الذهن لا يشمخ ولا يحزن من هوان لأنه ينتظر الثواب من اللـه.

من يخفي في قلبه حقداً يشبه من يربي حية في حجره.

لا تعطي قلبك حزناً لأن حزن العالم يصنع موتاً والحزن الذي من أجل اللـه يصير سبب حياة دهرية.

يا حبيبي أطلب الرب بكل قوتك لتخلص نفسك ؛ ولا تسكن الرذيلة في قلبك، وكما أن الحاجز يرد نَهضة المياه هكذا الرذيلة ترد المعرفة من القلب.

إن ابتغيت العدل تأخذه وتلبسه مثل تاج الشرف، العابد المشتبك بأمور العالم يخسر كثيراً، ومن يصبر في الأتعاب النسكية لن يخسر أصلاً.

من يعطف فكره إلى الأشياء العالمية بعد زهده ومفارقته إياها فلا يفضل شيئاً على غيره، ومن يظن أنه يلعب بالأمرين جميعاً فإنه يخادع ذاته لأنه قد كتب أن اللـه لا يخادع. لأن الذى يزرعه الإنسان إياه يحصد.

يا عابداً لا تجل بنظرك في شوارع المدينة ؛ ولا تطف في أسواقها لئلا يلتقيق عارض قتزلق نفسك إلى الهلاك.

التشامخ يعمي عين الذهن ؛ وأما التواضع بالمحبة فيضيئها ؛ لأن الرب يعلم الودعاء طرقه.

يا أخي لا تتورط في حمأة الطين، وأبعد ذاتك من إنسان سالك في عدم التقوى.

ردىء للرجل أن يتوكل على ذاته ؛ ومن يتوكل على الرب يسلم، من يزين ثيابه وينظفها متكبر، المتكبر نسر بلا جناح، المتواضع ساعٍ خفيف ومثل رامٍ يصيب الإشارة.

كما أن الحديد يدق كل شيء ويضمره هكذا التواضع الذى من أجل اللـه يفني حيل العدو ويبيدها.

كما أن البوق للبوقي والسلاح للجندي هكذا هو التواضع للعابد.

أيها الأخ بادر أن تدخل مختاراً في الطريقة الضيقة قبل أن تدخل قسراً فيما هو أضيق منها.

فخر الإنسان العالمي أن يطوف متنزهاً، وفخر العابد أن لا يعبر فكره أسكفة بيته.

أسمع يا حبيبي إن المجاهد إذا جاهد يطبق فمه ؛ فأطبق أنت فمك من الأقوال الزائدة فتكون لك راحة.

قيل من يجد الحكمة هو عظيم الشأن لكنه لن يفوق المتقي الرب.

المبتدئ شيء عظيم لكنه ليس مثل الصبور.

المحل الأول جسيم لكنه ليس مثل من يتمم.

لا تحب الراحة البشرية لئلا تجد فيها خسارة روحانية.

لا تفحص عن الأمور التي ليست لك لئلا تضيع التي لك.

لا تكد ذاتك في عمل لا حد له لأن كل الأشياء التي تعمل بحد وترتيب نافعة حسنة.

من لم يقتني مخافة اللـه في قلبه ولو أكل كل يوم لبناً وعسلاً لا يستطيع أن يسكت.

الإنسان المؤمن يحتمل بشهامة، أثبت في نير الرب الصالح لتفلت من نير هذا العالم الفاقد الصلاح والثقيل.

لا تداوم المضي إلى قلاية أخيك. إن كان لك كتاباً نافعاً وسمعت أن أخاً يريد أن يستعيره فأعطيه إياه بلا حسد.

وإذا استعرت أنت هذا الشىء يا حبيبي فأحفظه باهتمام وأدفعه إلى صاحبه بسلام.

أن استعرت من الكنونيون كتاباً فلا تطرحه في قلايتك متهاوناً به بل أحفظه وأطبقه باهتمام بما أنه شيء للـه.

الجسور يُخجل رئيسه وإخوته ؛ والعابد الحكيم يتورع.

النسك يذيب الجسد وكثرة الأكل يكثف الذهن.

لا يكمل ترتيب العمل بغير حزن، إذ يعطى العابد صبراً في قلايته ؛ لكن مخافة اللـه ؛ وذكر الموت ؛ والتعاذيب ؛ والعمل ؛ والصلاة ؛ ودراسة الكتب الإلهية ؛ أفضل من أن يفني الساعات ويشتغل بالكلام الباطل الذي منه تتولد الوقيعة.

لا تجرب أخاك باختلاقك أقوالاً مضحكة لئلا تُدفع إلى الشدائد لأنه قد كتب من يماحكك بأقواله لا يسلم من أن يجعل ذاته ممقوتاً برداءة عقله، ومن يحب الذين يحبونه أي ثواب له إذ الرب يقول ” أليس العشارون والخطاة يعملون هذا الأمر بعينه “.

الإنسان الجاهل يقلق نفوس الإخوة، والطويل الأناة يتقي الرب بمحبة.

لا تستثقل بالتعب الشبابي، ولا توافق شيخاً لا فهم له، الشيوخ الفهماء هم بعد اللـه عصمة الإخوة.

إن مسك العينين والبطن واللسان هما تقويمة عظيمة.

الإنسان المتزايد في الرحمة يتلألأ كالمصباح.

كمن يكنز لنفسه خيرات هكذا من يمدح قريبه في غيابه.

أتقِ الرب فتجد الخيرات.

لا تسلك مناهج الخطاة بل أقتفِ طرق الصديقين.

إن أحببت طريق العدل ستجد الحياة الدائمة.

إن أحببت الصمت ستقطع سير مركبك بسكون.

إن أحببت السكون صرت محبوباً من الكل.

إن رددت عينيك لئلا تبصر أشياء غرارة ستجد أفكاراً نقية.

إن ثبت على المسك والحمية فقد ألجمت شيطان الزنا.

إن أحببت المسكنة فقد طرت شيطان محبة الفضة.

من يكنز ذهباً في قلايته إنما يكنز آلام استعلاء الرأي وعدم الطاعة.

من يخزن لذاته صلوات وصدقات يستغنَ لدى اللـه.

إن قوماً آخرين اكتنزوا لذاتِهم أموالاً ؛ فأنت أخزن لنفسك صلوات وصدقات.

آخرون يفرحون بالأصوات والأغاني الموسيقية ؛ فأفرح أنت بالترنم والتهليل وبالتمجيد للرب.

آخرون يسرون بالبطر والسكر ؛ فأجذل أنت بالمسك والقداسة.

آخرون يطربون باللذات ؛ فأفرح إذا صنعت مشيئة الرب.

آخرون يسرون بشرف فارغ ؛ فأبتهج أنت بالرب الذي أعد لك وللذين يحبونه إكليل المجد.

الإنسان المحب للمسيح هو برج لا يحارب، والتام في المحبة هو سور لا ينقب.

إن أردت أن تدرس ماشياً فأدرس صامتاً فيهرب السبح الباطل.

جيد هو تقويم من يغلط ولا يضحك عليه.

الرياح القبلية تخبط البحر ؛ والحمق يزعج فكر الإنسان.

الطويل الأناة يطرد الغضب ؛ وحيث يوجد غضب فقد سكن الغيظ.

يا حبيبي إن لم تشأ أن تبني فلا تنقض المناقب المبنية. إذا لم تريد أن تنصب فلا تقلع الغروس المنصوبة.

يا أخي إن لم تشاء أن تسكت فلا تقلع رأي الذين يسكتون.

يا أخي إن لم تريد أن ترسل للرب تسابيح فلا تبطل الذين يسبحون.

الغني إذا تكلم يصمت الكل ويرفعون كلامه إلى السحب ؛ واللـه يخاطبنا بالكتب المقدسة فلا نريد أن نسكت ونسمع لكن واحد يتكلم وأخر يتناعس وأخر تجول أفكاره خارجاً، فماذا يقول الكتاب ؟ ” من يرد مسامعه لئلا يسمع شرائع العلي فصلاته ترفض “.

المتواني يستعجل في الصلاة ليسمع آمين، والمتيقظ إذا صلي لا يضطرب، فليكن بعيداً منا المقول بالنبي: ” أنت قريب من شفاههم بعيد من قلوبِهم “.

لا تُقلق أخاً ولا توافقه في خطيئة لئلا يسخط الرب عليك ويسلمك في أيدي الأشرار.

الطوبى للإنسان الذي لا يفتن على قريبه ولا في أمر واحد من الأمور فإن ثوابه كثير في السماوات.

من يتجسس بلا تمييز ولا إفراز يشكك كثيرين.

إن لم يضع الإنسان أولاً خطاياه بين عينيه في كل موضع فلا يمكنه أن يسكت.

الطوبى لمن يبتدئ بسيرة جيدة ويكملها بمرضاة الرب فقد كتب: ” من يكرم أباه يسر بأولاده وفي يوم صلاته يسمع منه “. من يشرف أباه تطول أيامه وفي يوم وفاته يجد نعمة، أكرم أباك بالقول والفعل لترد إليك البركة منه، لا تتشرف بإهانات أبيك فلا يكون لك من الهوان شرفاً.

إن شرف الإنسان إنما هو من إكرام أبيه، وعار الأولاد أم ذات هوان.

أيها العابد عوض والديك بالجسد لك من ولدوك بالرب وبالروح ؛ الذين يرشدونك إلى الحياة الدهرية.

يا أخي أسمع القائل: يا ولدي تمم أعمالك بوداعة فتُحب من الإنسان المقبول، بمقدار ما أنت عظيم بمقدار ذلك واضع ذاتك فتجد لدى الرب نعمة لأن قدرة الرب عظيمة، ومن المتواضعين يشرف ويمجد، مصيبة الكبرياء ليس لها شفاء لأن نصبة الخبث قد تأصلت فيها.

ثلاثة أنواع تكثر الضلال والغرور والرابع ليس صالحاً:

( 1 ) عدم الطاعة للشاب.

( 2 ) وشيوخ يحسدون نجاح الشاب.

( 3 ) والمتورع إذا جنح إلى الأشياء الظالمة.

( 4 ) والرئيس إذا أحزن نفوس الإخوة بغير معرفة.

أربعة أشياء تكنز شرف المناقب والخامس صالح قدام اللـه والناس.

( 1 ) ألفة الإخوة بوداعة وعدل.

( 2 ) وأخ يعظ أخاه بمخافة اللـه.

( 3 ) وشاب يخضع للشيوخ مثل أسياد له.

( 4 ) ورئيس يحب إخوته كما يحب ذاته.

( 5 ) ويهتم بخلاص نفوسهم.

بالحقيقة إن الكبرياء رديئة للرجل، على كل حال يا حبيبي لا تحب الكبرياء فليست فيها منفعة، كل ألم إذا أُهتم به ينال البرء أما ألم الكبرياء هو شر صعب الشفاء لأنه يطرح دواء البرء ويركب لذاته سماً قاتلاً لا يوجد في عبيد السيد المسيح.

فخر العابد الكلام الصادق المرتب حسناً، ومن يحب المزاح والخلاعة فهو جاهلاً.

عيده حفظ وصايا المسيح وعزاؤه اجتناب فعل الشر، فرحه السفر إلى الرب، وفخره مخافة الرب.

ما أمكنني أن أشارك فلسفة العالم بل أسأل الرب أن يمنحني نعمة مع غفران الخطايا أفضل من الزبرجد والياقوت، وأجل قدراً من خوابي مملوءة ذهباً، وأرفع سمواً من كثرة علم هذا العالم.

أشكرك أيها الرب فأنك لم تعدمني طلبتي ولم تعرض عن ابتهال عبدك العاطل لأنك أنت هو رجاء اليائسين ومغيث الذين لا عون لهم.

فليكن اسم عظمتك مباركاً

إلى دهر الدهور

آمين

 

المقالة السابعة حكم

 

أيها العابد أسأل الرب أن يمنحك المواهب اللائقة بميعادك فيعطيك ربوات ضعف ما سألت.

بغير ماء لا يبنى برج وبغير معرفة لا تقوم فضيلة، رأينا شاباً يعزي شيخاً ويلاطفه بمعرفة فأعطينا به المجد اللـه.

أيها العابد لا تمضي وراء شهواتك وأمتنع من أمانيك، إن وسعت على نفسك بما تتمناه من الخير العالمي فقد جعلته شماتة للأعداء، من يسمن لحم جسده إنما يرى شهوات رديئة والأفكار القبيحة لا تزول من عنده.

أضعف جسدك وعبده لئلا تصير منفياً، أعمل الخير به فتثمر للـه وأنت تتصرف مع الإخوة، أتشاء أن تجد نياحاً أرتضِ بمائدة الإخوة العمومية فتكون شفاء لجسدك واهتماماً لعظامك ونفسك لا تخسر.

فإن بذلت عينيك لمعاينة البرك والأقداح ؛ ستنوح أخيراً ملدوغاً من حية، إن رأيت إنساناً ورعاً ماسكاً بيده أطعمة فلا تدينه بذهنك لأنك لا تدري لمن يقدمها.

أهتم بالصنعة الباطنة ولا تزين حائطاً لا ينفع لأن زخرفة القلاية لا تمنح لك صبراً، فلنطلب الأمور الكافية حاجتنا فإن الأشياء الزائدة والمسببة لنا تجاذب الذهن غير نافعة، العاجز يحتج ويقول: أنا اليوم ساكن هنا وغداً أنتقل ولماذا أتعب.

ضع في عقلك مثل مطرقة وسنديان مقدم أفكار قلبك ولا تسرع في عمل المنفية منها، من يشمت بسقطة العباد حسناً فذاك سيسقط سقوطاً مضاعفاً، ومن يسترجع إنساناً من ضلال طريقه يخلص.

إذا أخطأ أخونا نوبخه بتلذذ وإذا أُدبنا لا نقبل التوبيخ بلذة، يا أخي لا تكن مع المحال بل بالحري كون علية، أتخذ يا أخي الأدب منذ حداثتك فتجد في أوان الشيب فطنة وفهماً، المستعد يحتمل بشهامة العوارض ومن بغض جزء من الحزن يحزن كثيراً، من لا يتوقع المحنة يحزن حزناً وافراً.

تسليم المنزل من التواني والتواني شيء ردىء، أما اليقظة فتسبي السابين، ببطلان اليدين يكف البيت وإذ لا يشاء من فيه أن يقيم يهرب منه.

العابد العاجز الذي لا يغلق باب قلايته البراني يتكسر من تحريك الرياح إياه، والمتيقظ يكون بغير لؤم، من يلجم عينيه يستر نفسه ومن يطمح بِهما يعبي لذاته ثقلاً لأنه زعم أن طموح الشهوة يضل عقلاً ساذجاً.

إن كنت باختلاس أطلقت عينيك إلى الضلال والغرور فأغمض نظرك سريعاً لئلا تسقط في المجامعة القبيحة، وفي حال حرارة جسدك لا تمسه لئلا تضرم الحرارة جداً.

الطوبى لمن قد غلب كل شهوة بشرية، ردىء أن ينمو فكر خبيث في النفس يينع كالعشب في مسكبة البقل، أيمكن لجزيرة في بحر أن تجعل الأمواج ألا تصدمها سوى كونِها تقدر أن تناصب بِها، كذلك نحن لا يمكننا أن نقطع ورود الأفكار لكن يمكننا أن نناصبها.

ولعل يقول إنسان: فكيف تنغلب النفس وقتاً ما للأفكار ؟

الجواب: لأن النفس لا تناصبها بل تركتها أن تدخل إلى باطنها، فإذا وجدت بعد ذلك مرعى ففي طرفه تحل انتصاب النفس وتحطمها.

أربعة آلام بصعوبة تقبل الشفاء: (1) محبة الذات. (2) محبة الفضة. (3) السبح الباطل. (4) أثرة الرئاسة. وهذه لا تقول حسبي لكن لا يصعب على اللـه برء واحدة من هذه.

أقتلع الألم قبل أن يتأصل فيك، وقبل أن تغرس عروقه أسحب أصله من أسفل قعر الحفرة وأقتلعه، فإنك إن أهملته يعرق فيك أصلاً يستأسد عليك.

المصلي بتيقظ يحرق الشياطين، ومن يصلي متنزهاً متلفتاً فهو مغلوب منهم.

من ينقاد لشهوته وللذات الأفكار سريع الانقباض، ومن يحتم ويمسك ينجُ.

عدم الأمانة تنتج رخاوة النفس، ورخاوة النفس تنتج التواني، والتواني ينتج النسيان، والنسيان ينتج الغفلة، والغفلة تنتج اليأس، واليأس يولد الموت.

من أين تستأسد “تصير كالأسد” الآلام وتترأس علينا؟ أليس من توانينا.

لا تستعبد من أعطاك ولا تجعل أعضائك تتمرد عليك وتغتصبك، أعمل بِها الخير لا الشر فتكون قنية مكرمة لسيدك.

علامة النفس الوانية كونَها لا تسمع الكتب بتلذذ، والنفس المتيقظة تقبل الأقوال الإلهية كأرض ظامئة إلى المطر.

المفرش الوطيئ يربي النوم وينميه، وعدم تقوى اللـه يقويه، ألك خروف لا تحبس معه ذئباً، والأمر الذي يحاربك به العدو لا تدخله إلى بيتك فإن أدخلته إلى بيتك فلا تتراخى للفكر لكن ضع مخافة اللـه بازاء عينيك لئلا تقهقه عليك أعداؤك.

البيت المبني على الرمل لا يثبت ؛ ونسك ممزوج باسترضاء الناس لا يثبت ولا يدوم.

من يعمل بخشية اللـه لا تخسر أخرته، لا تجلب مناجاة غريبة في وقت الصلاة.

يا أخي إن قمت لترتل للـه أفتح فمك لقول اللـه نظير القائل: أرتل لإلهي ما دمت موجوداً. لئلا تناجيك أفكار غريبة فتزعج ذهنك وتكدره لكن رتل بالروح ورتل بالعقل.

الدموع في الصلاة موهبة عظيمة والانقياد مع الأفكار الشيطانية هو نظير الموت ومساويه.

قلب يتكردس من المعقولات السماوية يربطه الشيطان بالأمور الأرضية ويكتفونه بِها.

إذا تَهاونت بالأمور البالية تأخذ الأشياء التي لا تبلى.

على الجثة تجتمع النسور وعلى نفس يائسة من ذاتِها تجتمع الشياطين ؛ لأنه أينما تكون الجثة هناك تجتمع النسور.

أيها الحبيب فليكن عقلنا فوقاً فإن من بعد مدة يسيرة ننصرف من هنا والأشياء التي قد جمعناها لمن تكون.

كما يطرد الدخان النحل هكذا تطرد الرذيلة المعرفة.

لا يفرح أحد بالعدل لكن بالاحتشاد، ولا أحد يسر بأنه لم يظلم قريبه بل يسر إن أبتاع بشىء يسير أشياء كثيرة.

أمام الرعد يبرق البرق وقدام الغيم المتكاثف يجتمع كل طائر متسارع، وبأكله طُعم الفخ يسلم ذاته للذبح، وغيظ الإنسان يسبب له سقطة.

السبع يصطاد من أجل جوفه، والنهم البطن يتهشم من أجل لذة البطن.

الفرس الصعب الرأس يدفع صاحبه إلى يد الأشرار، والإنسان الصعب العنق يسقط في الأسواء.

في أوان الثلج يقتفى أثر الصيد، وفي وقت التجربة يقتفي العابد الشيطان، دربة العابد تستبين في المحن.

أجتهد أيها الحبيب أن تقتني الإفراز الذي فيه فضائل سيرة العبادة مكنوزة، فما ترجمة الإفراز سوى أن تحفظ رفيقك بلا شك ولا اضطراب، وأن تتكلم بأقوال مهذبة مفضلة مؤدية إلى الخلاص.

أتريد أن تكون عظيماً صر أخِر الجماعة، أتشاء أن تقتني اسماً صالحاً جهز أعمالك بوداعة، أتقي الرب بالحقيقة ليصير حظك حسناً في أواخرك فإنه يشرف الذين يتقونه.

أيها العابد لا تخضع للجسد ؛ ولا تكمن لأخيك ؛ وتصنع له اسماً ذا تعيير مريداً أن تطرده من مكانه بخزى لئلا تتكبد الأشياء التي تآمرت بِها على رفيقك، لأن من يحفر هوة لقريبه يسقط فيها ؛ ويسمع المكتوب: يسقط الخطاة في شركهم.

ويتم فيه ذلك القول: كل الذين يريدون أن يعيشوا بالمسيح بتدين حسن يطردون.

يا أخي لا تحتج قائلاً: أن الأخ فرزته الجماعة. لا تعمل بإنسان آخر سوءاً، ولا تشارك من يعمل الشر فإن الرب يفحص القلوب والكلى.

إن خرج أخوك من الدير فلا تترفع عليه في ذهنك، ولا يكن مستحقراً في عينيك فإنك لا تعلم ماذا ينتج اليوم المقبل، أسمع القائل: من يظن أنه واقف فليحظر ألا يسقط. وأيضاً ليس من يبرهن عن ذاته هو المهذب بل من يبرهن اللـه عنه.

لأن كثيرين ارتأوا أن يتقلدوا ويترأسوا فصاروا أقصى بعداً من المقصين، والميئوسين منهم أخذوا نعمة، لأن اللـه يناصب المتكبرين ويعطي المتواضعين نعمة.

إن رأيت رجلاً لا يستمع ولا يتمسك في ذاته وهو متكبراً ويعد نفسه حكيماً فاضلاً هذا نصفه أنه مائت إذ لم يتقبل الدسومة الصائرة من مخافة اللـه، وإذا أبصرت إنساناً هادئاً ومتواضعاً فأعلم أن أصله سيثبت لأنه مسق من دسومة مخافة اللـه.

يا إخوتي إن كانوا رؤساؤنا ليسوا حاضرين هنا لكن الراعي هو بيننا، لأن صادق هو القائل: أينما يكون اثنين أو ثلاثة مجتمعين باسمي فأنا هناك بينهم.

فلنصغ إلى ذاتنا يا أحبائى، مستقبح للعابد أن يضع يده على إنسان، ومن يَرحم يُرحم.

إن أعطيت أخاً عملاً فعملاً جيداً تكمل إن أعطيته أجرته بمحبة اللـه لأن من الورع أن لا تضر رفيقك.

من وجد طريق طول الأناة والحلم فقد وجد طريق الحياة.

الإنسان المسامح يعمل في اليوم المشهور ولا يتزعزع في عمله.

عصفور يستدعي عصافير إلى القفص، والخاطئ يستدعي نظيره إلى الشرور.

أيها العابد أستعفِ من أن تكون مع الذين يحبون البطالة ولا يرتضون السكون.

أهرب من المحبين مجالس الشرب القائلين: أعمل أنا اليوم وتعمل أنت غداً فإنك إن تنازلت لهذه الأقوال فلا تقوم سيرة ذات فضيلة.

لكن ماثل الحارين بالروح السالكين في الطريقة الضيقة والمحزنة لتدرك الحياة الخالدة، لأن الطريق العريضة الواسعة ترشد السالكين إلى الهلاك.

العابد السئوم الضجور إذا وافاه فكر ما يغلق باب قلايته ويدور هنا وهناك كمركب لا رجل له. فأما الجالس بصبر فلا ينقاد مع الأفكار الباطلة.

من يحسد أخاه على نجاحه يفصل ذاته من الحياة الدائمة، ومن يؤازر يكون شريكه.

فإن الذين يسعون مع فاعلي الأفعال الطالحة لا يتبرءون لأن الحكم يعذب الفريقين جميعاً، ألا يليق بالرب أكثر أن يعطي ثواباً لمن يساعد في عمل مسرته، وقد كتب: أحزان الصديقين كثيرة ومنها كلها ينجيهم الرب، وكثيرة جلدات الخاطئ وموت الخطاة شرير.

ليست هذه فضيلة أن تُشتَم فلا تحس، بل الأفضل أن تتفهم وتطرح المساوئ بتدين حسن لأنه قد قال: إن العاجز إذا عُير لا يخجل.

فرأي حسن أن تقطع الغضب بالتبسم أفضل من أن تتوحش متنمراً بلا استئناس.

الإنسان الحكيم يستلذ البكاء أكثر من الضحك، من يعطي لفمي حياطة ولشفتي خاتماً لئلا أهفو بِهما فيهلكني فمي، يا سيد حياتي لا تُهملني في رأيهما ولا تتركني أن أسقط بِهما.

أنت يارب قلت: من أقوالك تتزكى ومن كلماتك تدان. إن كان النبي قال: إن عدلنا كله وبرنا كخرقة امرأة معتزلة. فماذا أقول أنا المولود بالخطايا؟ فالآن يا سيدى أعلق كافة رجائي برأفتك، فاغفر لي أنا الخاطئ، ولا تعطيني طموح عيني، وصُد عني الشهوة الرديئة.

أيها الحبيب لا تصدق المنامات الخداعة فإن كثيرين أضلتهم وسقطوا إذ توكلوا عليها، لأننا إلى أى مقادير بلغنا حتى نعاين مناظر الملائكة.

التواضع نجاح عظيم وشرف مجيد ولا سقطة فيه، علامة تواضع القلب أن تعمل بكلتا يديك في كل حين حاجة الأخ وتقبله كذلك.

الذي يطلب أن يرث والديه بالجسد يقع في تغلبات تجاذب ذهنه ومن يتقي الرب ينج، لا تقل فإن شخت فمن أين أغتذى لأننا لم نؤمر أن نَهتم من أجل الغد أفتهتم من أجل شيخوختك، فاطلب ملك اللـه وعدله وهذه كلها تذدادها.

هو قال: قد علم أبوكم السماوى وعرف الأشياء التي تحتاجونَها قبل أن تطلبوها منه، إن لم تطلب الأشياء أولاً فيكون أمرنا ظاهراً أننا لا نجتهد من أجلها، ألق إذاً همك على الرب فهو يعولك.

إن كان في يدك شيء يسر الرب فأهتم به كمزمع أن تعطيه عنه حججاً وحساباً، من يرحم المسكين يشبع من الخيرات، ومن لا يرحم يغلق أمامه الخدر السماوي.

كل من يتكل على إنسان لا يعاين الخيرات، ومن يتوكل على الرب يسلم.

لا تكن فظاً خشناً بلسانك فإن فم الصديق يقطر نعماً ومنحاً.

الأطعمة الكثيرة تكثف الذهن والمسك المعقول ينقيه.

تأمل وتوق محادثات النساء، أحذر يا حبيبي لئلا بحجة قلنسوة أو إسكيم أو بأحد أنواع اللباس تصاد نفسك فإن مكائد المحال كثيرة، الأفضل أن تلبس عتقاً بالية وتقتني بنفسك مخافة اللـه من أن تلبس لباساً بَهياً وتسلك سلوكاً متدنساً.

من يحفظ الوصايا يحب نفسه ومن يتهاون بِها يخسر نفسه.

الرجل السكير والغضوب يقلق نفوس الإخوة وتعيره معه دائماً.

ضع على الجرح مرهماً وعلى الشاب تورعاً لا رياء فيه.

الشاب يعود مصفراً مقفراً إذا أتبع فكره ولا يقبل وعظ المجربين.

ضلالة رديئة للشاب عدم الخضوع ؛ والطاعة بالرب ستر عزيز.

الرجل المتكبر والغير مطيع يرى أياماً مرة، والمتواضع القلب والصبور يسر بالرب كل حين.

فائدة عظيم خطرها أن يوجد إنسان صبوراً ومتواضعاً فلا يوجد شيء يوازي جماله.

لا ترادد الحق مجاوباً وأخجل من عدم التأديب.

لا تخجل أن تعترف بخطاياك ولا تقل قد أخطأت فماذا أصابني فإن الرب طويل الأناة، لا تتباطأ أن تعود إلى الرب ولا تدافع يوماً بعد يوم اذكر أن الرجز لا يبطئ.

لا تكن يدك ممدودة إلى الأخذ ومقبوضة عن العطاء، العاقل يحصن ذاته بالمحبة والجاهل يكنز لذاته البغض، من يترفع على أخيه تلعب به الشياطين، لا تحتقر إلى الأبد أخاً لأنه قد كتب إن أمراء كثيرين جلسوا على الحضيض ومن لم يتوهم شيئاً لبس التاج.

كن مستبشراً بالعدل مقطباً بازاء الخطية، سقم النفس أثرة الشرف أما السبح الباطل فهو ألم خبيث.

إذا خرجت من قلايتك في خدمة فأرصد حواسك وصنها لئلا تجمع لك الأفكار قتالات واضطرابات، فإنه قد قيل القنية التي لا سياج لها تختطف، والإنسان الذي لا صبر له يتنهد سريعاً مخدوعاً.

العاجز يجمع لذاته حججاً كثيرة والنؤوم يسقط في الأسواء.

المحب القنية هو نخلة غير مثمرة، والعادم القنية كالنخلة المثمرة يتسامى إلى العلاء.

المحب الهيولي يضاهي طائراً يطير وقد أخذ في رجليه سيراً وأينما جلس يلتف عليه، والذي لا هيولي يشابه مسافراً متشمراً.

كثيرون يظنون بذاتِهم أنِهم عقلاء ولا يستطيعون أن يفطنوا، إن الفهم الذي يظنونه يجلب لهم خسارة النفس، لا تكون حكمة ولا توجد فطنة ولا رأي صالح في نفس تمقت مخافة اللـه.

الحكمة بالحقيقة أن تعمل كل شيء كما يشاء اللـه.

الخلق الحلو يكثر الأصدقاء، والمحب للرب يحفظ وصاياه.

أكرم الأخ بحضرة معارفه فتكون قدام الرب مكرماً.

القهرمان الأمين يربح نفوس إخوته وعزم الحقود يشتتهم.

الخازن التقي العاقل يوزع الأنصبة بالعدل ؛ والخازن الجاهل ينشئ الخصائم.

الذي لا يشبع لا يرضيه الأمر المقسط بالحق، واللبس يسبب الهيوج، والمتقي الرب يجلب صمتاً.

القهرمان السكير يحط من شرفه ؛ والماسك والوديع والمتواضع القلب ينجح في الشرف.

لا تحتج عن ذاتك بمرض وأنت معافى لأنه قد كتب: وأعطاهم شهوتَهم وبعد ذلك صرعهم.

لا ننكر يا إخوتي نعمة الرب الذي رزقنا القوة لنعمل بِها الخير لكن إذا عملناه بِها فلنشكر الرب كل حين.

من يضحك على قريبه كمن يغتابه والاغتياب مبغض عند اللـه والناس، ومن يغظ قريبه يستنهض غضبه والمصلح مغبوط لأنه يدعى ابناً للـه.

أكرم الشيوخ من أجل الرب ؛ والشاب المعوز تألم معه ؛ فتأخذ من الرب الثواب، فقد كتب لا تعملوا للطعام الضائع بل أعملوا للطعام الباقي في الحياة الأبدية، فلتعمل يداك الخير لتعطي المحتاج، وليكن قلبك إلى اللـه كل حين فتكون عاملاً للطعام الباقي لا الفاني.

أيها الأخ أعمل ولا تسترح فإن البطالة قد عملت رذيلة كبيرة.

المتذمر يخسر كثيراً، والمحتمل بشهامة يجد في أواخره مسرة.

الخادم العاقل لا يتوانى في عمله، والمتقي الرب لا يشكك إخوته.

أيها الحبيب أتَهرب من الذين يرشقون الجسم ؟ فالأليق أن تَهرب من الذين يرشقون النفس.

وتَهرب من حية تلدغ الجسد ؟ فالأولى بك أن تَهرب من المرأة التي تلدغ النفس.

من يتمتع بجمال امرأة ؛ ينصب في نفسه اشتهاء حسنها، ومن يداوم المضي إلى أبواب منزلها ؛ يشبه من يمشي على الجليد لأن الزلق ليس بعيداً منه.

أتَهرب يا حبيبي من النار لئلا تحرق جسدك ؟ فأهرب من الخطيئة لئلا تحرق جسمك مع نفسك في النار التي لا تطفأ.

العابد الذي يحدث امرأة كمحاربين، والمتيقظ يغتم ولا يسلب.

البواب الأمين حافظ النفوس بعد اللـه، والبواب الغير آمين يضيع المؤتمن عليهم ويضيف إلى نفسه أيضاً.

ونحن إذا جهلنا الزمان الذي سلكناه في سيرة الغباوة والتواني الذي صنعناه فيها نتشامخ، مديح الرجل ليس بالزمان فقط بل بالنجاح والنمو؛ لا النمو في الشيب بل في اقتناء السيرة ذات الفضيلة.

للجندي مبادئ وهي السلاح والسيف والخوذة، والعابد المبتدئ له مبادئ وهي الأمانة والتوبة والمحبة، فالأمانة تولد الطهارة، وتواضع القلب والطاعة يولدان طول الأناة والمسك، وأما التوبة فتنتج الدموع ؛ وأما المحبة فتولد الصبر والرجاء.

من ينتقل دائماً من قلاية إلى قلاية أخرى يقتني أفكاراً جدداً، ومن يقم في موضع واحد يسكت أكثر.

أيها الحبيب منذ حداثتك أختار التأديب فتجده في شيخوختك عقلاً وفهماً.

منذ شبابك أزرع حقلك وأهتم به لئلا ينبت فيه شوك كما ينبت في البائرة، أجعل فيه ثمراً جيداً ؛ وأعطي مجداً لمن يرزقك القوة.

المياه تُنبت الحشيش ؛ والحديث مع العلمانيين ينشئ ألم استعلاء الرأي؛ والخائف من الرب لا يترفع.

إذا أهلت لموهبة فلا تعلي ذهنك فإن ليس لك شيء جيد ما لم تأخذه من اللـه، وإن لم تسلك برأيه ينتزع منك الشىء المختص به ويعطيه لمن هو أصلح منك، وحينئذ تشابه من يلزم أن يكمل رسم الكتابة بلا حبر.

ديكان يجتمعان معاً كفكرين في قلب العابد ؛ فأخرج ما للغرباء وتسكت نفسك.

الرجل العاقل يحفظ الوصايا ؛ ومن يحفظها فقد أقتنى فردوس النعيم الخالد.

اسم صالح أفضل من غناء جزيل، والنعمة الصالحة أفضل من الذهب والفضة. أعطى النفس السائمة كلام تعزية فيوطد الرب قلبك.

إذا تفرغ قدح النبيذ بعد الصلاة فاذهب إلى قلايتك مسرعاً ؛ وأشكر الرب الذي دبر ويدبر، لأن كثرة الكلام بعد الأغتذاء تولد زلات ونكالاً.

الرجل السكير في حين المساء يقول ما لا يجب ؛ وعند السحر يندم ؛ وإذا صادف خمراً يتلطخ بتلك الأمور أيضاً.

إن جُرِّبت دفعة فتحرز فيما بعد لأنه قد كتب: المولود من اللـه يحفظ ذاته ولا يمسه الخبيث.

لا تشرب أيها الحبيب خمراً للسكر ؛ وإن تملقك الأصدقاء الحاضرون لأنه إن سكرت فقبل الكل يسخر بك الذين أمروك، فتحرز جداً من أن يسود عليك النسيان.

يتعب البطينى ويتهشم ليملأ بطنه أطعمة، وإذا أكل يتوجع عند الهضم، والحمية تتبعها الصحة، واليقظة المسك، والدوار لا يسلم من جرح إن لم يتيقظ، ومن يثبت في المكان الذي دعي إليه يجد نياحاً أكثر.

من يستحقر الأمور اليسيرة يسقط بعد يسير، والعجز بعد هنيهة ينتج فقراً اضطرارياً.

لا ترفض وعظ الناس القديسين وإن كنت عالماً فإن هذا هو ثمر العلم.

هروب العابد من أن يشارك ضوضاء ؛ وأخرته غم وندم.

فقد كتب ” إذا مُدح الصديقون تسر الشعوب واسم المنافقين يخمد “.

وأيضاً ” ليمدحك الغريب ولا يمدحك فمك، والغريب ولا شفتاك “.

وأيضاً ” تختبر الفضة والذهب بالإحماء والتصفية ؛ والإنسان يختبر بفم الذين يمدحونه “.

يحفظ الشريعة الابن الفهيم ؛ ومن يراع الفهم المحظور فقد شتم أباه.

أكرم الكل من أجل الرب ولا تبتغي أنت إكراماً فتجد من لدن الرب نعمة، فقد كتب ” من لا يخجل من وجوه الصديقين فليس صالحاً فمن هو هكذا بأكلة خبز يسلم إنسان “. وكتب أيضاً ” طوبى لمن يتوقى كل شيء من أجل التورع والقاسي القلب يسقط في الأسواء “.

الإنسان المحب للحكمة يُفرِّح أباه، ومن يراعي الزواني يضيع غناه.

الأفضل أن ترعي باهتمام أجود من أن ترعى بلا اهتمام، والأجود أن تتعلم باهتمام أفضل من أن تعلم وتعمل أعمالاً لا يجب افتعالها.

من يؤدب ذاته يؤدب إنساناً آخر، ومن يعلم ذاته يعلم قريبه.

لا تثقل على أخيك ؛ فإنك إن وضعت على بَهيمتك حملاً يفوق قوتِها تجلس في وسط الطريق.

كل شئ يثقل عليك فليكن لك به التدرب والخبرة ؛ واذكر المعونة الصائرة من للـه إليك.

لا تبذل مسامعك لأقوال قبيحة لئلا يتدنس عقلك ؛ لأنه كما يضر العينين الدخان ؛ يضر الكلام القبيح النفس.

إذا آذاك روح الزنا فأزجره قائلاً: ” الرب يلعنك أيها المملوء نتانة ؛
يا شيطان النجاسة. لأننا قد عرفنا القائل: إن رأي البشرة عداوة للـه.

لا توجد حكمة ولا يكون عقل حيث ليس مخافة الرب، لأن رأس الحكمة مخافة الرب، فإنه قد كتب ” النور للصديقين كل حين وضوء الخطاة ينطفئ “.

شجرة الحياة شهوة الصديق، ومن يبغض التوبيخات فجاهل. من أكثر في الكلام لا يفلت من خطيئة، ومن يشفق على شفتيه يكون فقيهاً.

أفكار الصديقين حكم وتدبير، والمنافقين تدبيرهم غش.

من يقدم قريبه في الكرامة يجد إكراماً، ومن لا يتورع من وجه أخيه يؤدب بتعب.

إذا أكلت مع الإخوة فضع يدك في القصعة بترتيب، فإن اليمام والخطاطيف والعصافير وطيور البر قد حفظت أوقات ورودها. ضع يدك ولا تستهجن من أجل من هم أصغر منك فقد استكملت طول النهار صوماً ومن أجل لحظة ساعة تقلق.

فالبطالة لذيذة عندك لكن نَهايتها مرة، أتتعب إذا عملت لكنك أخيراً تفرح. فقد كتب ” رذالة عند الرب الشفة الكذوبة ومن يعمل الصدق ذاك مقبول عنده “.

من أكثر أقواله يمقت ؛ ومن يمسك فمه يُحَب.

إذا رأيت رجلاً يتوانى عن التيقظ للفضيلة فلا تتراخ أنت بفكرك بل تشجع أكثر ؛ وفي أوان المحنة جاهد جهاداً جزيلاً.

لا تغير حدود التواضع لئلا يظن أن لنا عذر فنفسد تورعنا وتستهون فيما بعد الخسارة من أجل القائل: ” أن عبد الرب ما سبيله أن يخاصم “. وأيضاً ” مغبوط من يرهب كل شيء من أجل التورع “.

لا تبادر أن تغضب بروحك فإن الغضب إنما يستروح في حضن الجاهل فقد كتب ” الابن المكرم يطيع أباه والابن الذي لا يطيع يكون في الهوان”.

من يحفظ فمه يصن نفسه ؛ والمتهجم تذهله شفاهه.

الابن الغاش لا يكون صالحاً ؛ ومن يحفظ الوصايا مغبوط.

شريعة الحكيم عين حياة ؛ ومن لا عقل له يموت في الفخ.

من يسلك مستوياً يتقي الرب ؛ ومن يعوج طريقه يهان.

تطلب عند الأشرار حكمة فلا تجد ؛ والحس موجود عند العقلاء.

أمر سهل بستان لا سياج له إذا وطئ يصير بريه ؛ ومن لم يصن فمه يضيع ثمره.

من يتوكل على الغنى يسقط ؛ ومن يعضد الصديقين يتلألأ لامعاً.

من يفرق ماله بجهل ويبدده يصير محتاجاً ؛ ومن يبدده بأمانة الرب لا يخذل إلى الأبد ؛ لأنه قد كتب ” بدد وأعطى الفقراء وبره يبقى إلى أبد الدهور ورونقه يعلو في الشرف “.

من يكثر يساره بالربا والربح يجمعه لمن يرحم المساكين بمقدار ما يترفع بكبرياء قلبه ويدوس الأرض التي منها أخذ، فإلى الأرض يذهب والرب يرفع شأن المتواضعين.

الدخان يطرد النحل ؛ والحقد يطرد المعرفة من القلب.

تضرع إلى الرب وأسكب دموعاً قدام خيريته ؛ ولا يقطن في قلبك حقد ؛ وتكون صلاتك كبخور قدامه ؛ فقد كتب ” نجس عند الرب كل متعالي القلب والشرف يتقدم أمام المتواضعين ” ؛ وأيضاً ” الإنسان يطلب حجة إذا أراد أن يفارق أصدقاءه وفي كل حين يكون معيراً “.

وكذلك الذي يريد أن يفارق ديره يتعلل بالرئيس والإخوة. فقد كتب ” تكون طريق مظنونة عند الناس أنَها مستوية وأواخرها تقضي إلى قعر الجحيم.

يا أحبائي فليعزِ بعضنا بعضاً، وليخدم بعضنا بعضاً، وليعظ بعضنا بعضاً بتقوى اللـه إلى أن ننتهي إلى ميناء الحياة.

النهم البطن يهتم بأشياء كثيرة ؛ والممسك يضاهي غزالاً في غابة.

كما أن الماء للسك ؛ هكذا السكوت للعابد بتواضع قلب ومحبة.

زاد العابد لطريقه الورع ومخافة اللـه.

تقوى الرب ذهن مهذب ؛ ومن أقتناه لا يخزل.

ستبتدئ يا ابني الشياطين الأعداء أن يحوطوا بفكرك عند استماعك خبر والديك بالجسد لكن الفرح يضاعف لك والعز يزداد لك في ملكوت السماوات إن صبرت تخدم إلى النهاية.

من يشاء أن يعيش في كل موضع عيشة سلامية فلا يطلبن نياحهُ بل نياحة قريبه بالرب فيجد النياح، فأما المماحك الردىء العزم فلا يسكت في موضع أصلاً.

قبل أن يتهاون الإنسان بمخافة اللـه لا يخطئ قط في موضع.

إن شئت أن لا تخطئ فأحفظ مخافة اللـه، أشعر أن الخطيئة كالجبال العالية أو كلجة البحر الموعبة مهاول الهيوج ؛ أو مثل لهيب النار الآكل من يسقط فيه، وإن حرص العدو أن يصغرها في عينيك إلى أن تسقط فيها.

لا تشاء أن تخطئ ولا تحتج بأبيك، الرب قد نصبك راعياً فلا تدخل إلى رعيته ذئاب مفسدة لئلا ترد مقفراً من رعاية الغنم.

وإذا جاء رئيس الرعاة فلا يرتضي بذلك، فأطرد من الغنم كل أمر يضاددها فلا تدعى أجيراً غاشاً بين إخوتك، المدبر مكرم والمتقين الرب مكرمين في عينيه.

قبل أن تبدأ في أمر تفطن في نَهايته فقد كتب ” أن المولود من اللـه يحفظ ذاته ولا يمسه الخبيث “.

ليس بأمر صعب أن يعرض شيء رديء لكن الرديء المستصعب هو الثبوت في الشر إن عرضت خصومة بين أخين فإذا تاب الأول يأخذ إكليل الغلبة، ويكلل الثاني إن لم يطرح التوبة بل يصنع بنشاط أسباب المصالحة.

علامة نقص الأدب في العابد هي إذا جلس بين إخوته يكشف ساقيه، فأما المتورع فيجلس بزي حسن.

تفكر في كثرة الكلام فإن ربوات الأقوال نَهايتها السكوت، فأسبق وخذ الفائدة وأهرب من الخسارات.

أيها العابد أحتقر أمر الجوف فتكون لك راحة، وأطرح استعلاء القلب وأستدرج راية التواضع.

أيها الحبيب إذا أُدخلت إلى قلايتك أحداً فأحرص أن تصرفه بزي حسن وغير مرتاب ولا مشكك، الأمر الذي معناه ألا تعمل شيئاً خارج مخافة اللـه لئلا تصير له رسم عمل لا بر فيه لأن الرسول يقول ” كونوا بلا عثرة لليهود ولا لليونان ولا لكنيسة اللـه “.

يا عابد أكرم الكل لا من أجل مكافأة بل من أجل الرب.

خلواً من نخر لا تنشأ دودة ؛ وبغير اهتمام لا تباد.

بغير تواني لا ينشأ تَهاون ؛ وبغير اهتمام لا يقلع.

أتقِ الرب فتجد نعمة، لا يصادفك العدو عاملاً أشياء خارج عن ميعادك فلا يذهلك البتة، الإنسان الذي يرضي الناس يحرص أن يرضي كثيرين لكن ليس من أجل الرب، والمتقي الرب يحفظ وصاياه.

الخائف من الرب لا يغتر لأنه يسلك في نور وصاياه.

الغضب للإنسان حفرة له ؛ ومن يغلب الغضب يعبر الحفرة قفزاً.

من يؤدب شعبه يكون له صلح مع الذين خارج حوزته.

والواثق بذاته يستكثر العداوة لنفسه.

الطوبى لمن يحمل نير المسيح بوداعة إلى النهاية لأن الكبرياء رديئة.

في ألفة الإخوة يسكن الرب ؛ وطرب العدو الغاش إنما هو معاداتِهم.

إلى متى تخفي الأرض البذار المزروعة فيها ؟ إلى أن تأخذ نسيم الماء.

أعمل أيها الحبيب وصايا المسيح عملاً مكتوماً ؛ فيعطيك في الجهر ظاهراً.

العاجز والمحب لذاته إذا رأى العمل يخبئ ذاته، وفي العشاء يحسب ذاته في الأولين.

العاقل لا يفضل ذاته على الإخوة الخاملين بل يصير رسماً للمؤمنين.

الغير رحوم لا يتوجع لمريض لأن الطوبى للرحومين فإنَهم يرحمون.

القهرمان الأمين لا يستغنم إخوته، وذو الفضيلة يعمل كل شيء كما يشاء اللـه.

لا تسئ إلى أجير باذل نفسه، ولا تتأخر في أجرة الفاعل أذكر أنه قد تعبد لك وأعطية أجرته في وقتها فتنال ثواباً في حينه.

ومن يُوبخ ويصمت في خبث يخبئ في قلبه حقداً، ومن يجاوب بوداعة سلامية يكون غير حقود.

من لا أدب له يتهزأ بالشيوخ والمتأَدب يحب.

من يحب الأدب يحب الحياة.

كما أن الجليد والثلج يضمران الخضرة ؛ هكذا تضمر الخطيئة قلب من يعملها.

كما ينضر النبات بورود المطر ؛ هكذا تتباهى نضارة القلب بالأعمال الصالحة.

الرجل الغضوب والصياح يكون كثير الحلف ؛ أما الصامت فيكون فقيهاً.

ما هو الغضب ؟ الغضب هو ألم لا حياة فيه ولا خجل.

الألم هو الذي يعقبه التندم والحزن سريعاً، والحزن يأكل ويفني قلب من يسقط فيه.

لا تعطي قلبك غماً لكن سلم ذاتك للرب.

عدم الأمانة ولدت رخاوة النفس، والنفس الرخوة جلبت المحك، والمحك يتبعه الضلال، ومن قد ضل فليهتف بصوت عظيم إلى رئيس الرعاة مخلص نفوسنا كي ما إذا عاد يجمعه في صيرة غنمه.

لا تستفحص أيها الحبيب قائلاً: كيف هذا أو ذاك بل آمن بالرب وصدقه فهو يضئ ذهنك لأنه بمقدار الأمانة تسكن النعمة في النفس، لأن الرب صادق في كافة أقواله وبار في جميع أفعاله.

الأصوات ضربت في عساكر بني إسرائيل في البرية، أما كرازة الرسل فوصل صوتِها إلى كافة الأمم مثل البوق الجهير.

الإنسان المؤمن دالية المسيح، والرجل غير العامل مثل العنقود المسطح على الأرض الغير نافع، هكذا الفكر المشتغل بالأمور الأرضية يصير غير مختبر في الفضيلة.

من يبتغي المشاغبة يوافِ هلاكه بغتة، لأنه يفرح بسائر الأشياء التي يبغضها الرب، ومن يحب السلامة يرث السلامة.

وداعة الرجل أن يقمع الغضب ويرده.

إن عرض لك بغي وبعد ذلك ظهرت دالة ضميرك فلا تعلِّ رأيك بل أخدم بتواضع الرب الذي فداك من بغي الناس لئلا تسقط سقطة مذهلة.

كما أن البلوط يربي الخنازير هكذا الأفكار الخبيثة تربي الشهوات الطالحة، الغضب والحقد يشابه سم الأفاعى لأنه يغير الصورة ويخبط العقل، ويحلل الغضب، ويضعف القوة عن العمل.

أما الوداعة والمحبة فتفني هذه كلها، ثم يُحَل الحقد بتذكار مخافة اللـه ويوم الوفاة.

أيها الحبيب تذكر أواخرك وأكفف عن الغيظ، وإذا تذكرت الموت فلا تترفع لأنه بعد يسير تدخل إلى القبر ؛ وهذا العمل الردىء ماذا ينفعك.

والمجد للآب والابن والروح القدس

الآن وكل أوان

وإلى أبد الآبدين

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقالة الثامنة نصائح

 

يا حبيبى أحمل الضعيف فإن القوي لا يحتاج إليك فقد كتب: ” إن الأقوياء لا حاجة بِهم إلى طبيب بل المرضى “. فأنتم المقتدرين احملوا ضعف الذين لا قوة لهم.

إذا رأيت إنساناً قد نال رتبة جسيمة على الأرض فلا تعجب من هذا بل أعجب من الذى يبغض الشرف الأرضي.

إذا ظهرت في أعين إخوتك كالذهب النقي فأحتسب ذاتك مثل إناء لا يُحتاج إليه فتفلت من الكبرياء الممقوتة من اللـه ومن الناس.

شاب يدور لا يتعلم أن يكون بطالاً فقط بل مهذاراً ومتفحصاً ويتكلم بما لا ينبغي.

من يسكت بتواضع يُحب. لا تشرب خمراً على انفراد مع أخ قد شاع عنه خبر ردىء. ولا تلاعب من لا أدب له، ولا تعير أحداً، وأحفظ ذاتك طاهراً، وأهرب من مجالس الشرب لئلا تتوجع في أواخرك.

إن كنت عليلاً بأخلاقك لا تقترن بالسقيم بفكره، فهذا قلته لا لترفض أحداً كأنه خاطئ لكن لكي لا تضره ويضرك.

إن كنت مقتدراً أن تعزي بالرب فتقدم فتجد ثواباً.

إن أبصرت إنساناً قد أخطأ وشاهدته في الغد فلا تعتقد به في ذاتك كخاطئ ؛ فإنك لا تعرف إن كان بعد غيابك قد عمل شيئاً صالحاً بعد السقطة ؛ وتضرع إلى الرب بزفرات وعبرات مرة وأستعطفه.

فلهذا نحتاج أن نبتعد من أن ندين أحداً، ويحتاج كل واحد منا أن يواضع ذاته كما أمر القائل: ” إن آثامي قد علت فوق رأسي وعملي مثل وقر ثقيل “.

كافة حطب الغابة لا تُشبع النار ؛ والجسد لا يَشبع من النياحة.

تقوى الرب فردوس النعيم، وعديم التقوى ترثه الثعالب.

إن قوتل أخوك فهرب من الدير ؛ وخرجت لتطلبه ؛ فإذا وجدته فجاوبه مجاوبة سلامية ؛ لئلا تضيف وجعاً على وجع نفسه ؛ مراقباً ذاتك حذراً ألا تُمتحن أنت.

إن كنت ذا خبرة بالصناعة الطبية وشفيت ؛ فكن متيقظاً فائقاً لئلا بمداواتك آخرين تضع ذاتك متألماً، إذ الرسول يقول: ” لا يفترى على عملكم الصالح “.

إذا وضعت مبادئ حسنة فأجتهد أن تتممها حسناً لتأخذ ثواباً كاملاً.

يا سيد الكل لا تعطيني قلباً مبغضاً للطاعة وتأديب الأب، وأبعد عني أفكار الكبرياء، لأنك أنت يارب مقت المتكبرين، إذ قد كتب ” أجعل ذاتك جزيل المحبة للجميع وذلل رأسك للمتعظم ولا تخجل من أجل نفسك “. فرب خجلاً يجتلب خطيئة ؛ وحياء يجتلب شرفاً ونعمة.

لا تغر أخاً على أخيه ثالباً، فإن ليست هذه محبة أن تستنهض قريبك إلى هلاك نفسه، صر مصلحاً لتؤهل أن تدعى ابناً للـه.

أتشاء أن تحب بمحبة مخلصنا يسوع المسيح أمقت المحبة البشرية التي تشمل على هذه الأنواع *نَهم البطن. *السكر. *النهم في القبائح. *الحسد. *الشر. *الفجور. *الألم. *الإنسحاق. *الحزن الجسدي. ونظائر هذه التي نَهايتها الموت.

فأما المحبة التي بالمسيح فتشمل على هذه المناقب: *خيريه. *أدب. *علم. ونَهاية هذه حياة أبديةً.

لاصق إنساناً يتقي  اللـه ليعلمك أن تخاف الرب، لا تحب أن تماشي المتهاونين.

أيها الحبيب أتبع الرب ليعليك ؛ لأن شرف هذا العالم لا يبقي، فليكن الرب نصب عينيك كل حين ؛ فإنه ينجي المتوكلين عليه.

الرجل المتدرع مرهوب في الحرب ؛ والقوى في الإيمان مرهوب عند الأعداء الذين لا يرون.

الرجل المائق يقول: ماذا يجزعني، والمتواضع القلب يوجد عاقلاً.

هيولي النار الحطب ؛ وهيولي الغضب استعلاء الرأي.

أتشاء أن تلطف الغضب وتسكنه ؛ أتخذ التواضع ؛ وأسلك في طريق الودعاء والمتواضعين.

إذا عرضت خصومة بين الإخوة ؛ فالمصلح مغبوط، وأما من يشعلها فلا يكون غير معذب.

الحجر الرملي والنفس غير المؤمنة بعد هنيهة ينحلان.

في نفس المؤمن الفكر الذي لا يتحرك، وفي الرجل الوديع والمتواضع تستريح روح الحكمة، الرب يحب الذين يسلكون بحكمة.

أيها الحبيب أنظر ألا تشتهي كرامة ذائدة فتجذب لذاتك هواناً، كرامة الإنسان بالحقيقة أن يعمل كل شيء كما يشاء اللـه ؛ وإهانة عظيمة مخالفة الوصايا.

الراعي المستيقظ لا يسلم الغنم المؤتمن عليها، والنوام يصير للوحوش صيداً لأن في يد السكير ينبت الشوك والنفس الماسكة تمجد اللـه دائماً.

الذهب لا يمنح صبراً ؛ والأمانة تؤسس من يقتنيها.

ضلالة الرجل ألا يعرف الكتب ؛ ويضل ضلالاً مضاعفاً من يعرفها ويتهاون بِها.

أيها الحبيب عز ذاتك وأصبر على كل غمٍ لكي لا فيما تعزى من آخرين بمداومة تصير متشامخ الرأي، لأن الرسول يقول: عزوا ذاتكم في كل يوم ما دام يسمى اليوم لئلا يقسي أحدكم طغيان الخطيئة لأننا صرنا شركاء المسيح أن مسكنا الابتداء فبدء كل فضيلة الأمانة.

إذا أقتنى العابد سيرة ذات فضيلة يسمع عطآت أبيه، ويعود عارياً إذا أقتنى عدم الخضوع.

والطريقة العريضة فكر شيطان يخامر العابد إذا اشتهى درجة غريبة.

المشتبك بأمور العالم ؛ يصير سريع السقوط.

الوديع الصامت ؛ يرث حياة دائمة.

الشمس والقمر وسائر النجوم تفرح بالذين يخدمون السيد المسيح خدمة مستوية.

كل من يحب السكوت بمحبة ؛ يكنز لنفسه في السماء.

المتقي الرب بالحقيقة ؛ يصير طبيباً للآلام.

الوديع هو: جسوس على الآلام ومترصد لها.

الشعوب يسبحون الرب لأجل من لا يتوانى في خلاصه بل يهتم بانصرافه ووقوفه أمام عرش المسيح المرهوب.

كل من يحب خلاص نفسه ؛ يصير منزلاً للروح القدس.

كل من يحب الطهارة والعفة ؛ يكون هيكلاً للـه.

ذكر الموت والعقوبات ؛ سيف على شيطان الضجر.

العاقل لا يدين قريبة الغير عامل، والضجور يخرب أماكن كثيرة.

المحب للمسيح ؛ يؤتمن على كلمات الحياة الأبدية.

الرجل المحب للغرباء ؛ حنطة نقية.

لوم الإنسان لذاته كل حين ؛ يهدم الخطايا.

المسك ؛ عصب يشد الصبر.

من يحد عن وصايا المسيح ؛ يخنق نفسه، ومن يحفظها بحق يرث فرحاً لا ينعت.

رتل أيها الحبيب بالروح ورتل بالعقل: ” كلامك في حلقي أحلي من العسل والشهد في فمي “.

بدء المؤمنين ونَهايتهم ؛ الإيمان والرجاء والمحبة.

الضجر هو أصعب من الأشياء المستصعبة ؛ لا سيما لو أتخذ عدم الإيمان معضداً له، فإن أثماره مملوءة سم الموت.

تذكر يا حبيبي عرش الإله المرهوب كل حين ؛ فيكون لك ثباتاً، ويعاقب عوضك المغتالون على نفسك.

العاقل إذا بُعث في خدمة يبذل نفسه من أجل السلامة، والجاهل الفاقد الأدب ينشئ خصومات.

يارب يا سيد حياتي لا تُسلط عليَّ روح البطالة والإستفحاص وأثرة الرئاسة، بل هب لعبدك روح العفة والتواضع والصبر.

وسخ الرجلين بقلب نقي من أجل الفضيلة ؛ أفضل من الاهتمام بتنظيفهما وغسلهما بألم.

من يحفظ أعضاء المسيح حفظاً باراً يتبرر، ومن يفسد هيكل اللـه يفسده اللـه.

كما تطرد الكلب، جاوب بانتهار شيطان الزنا ؛ ولا تشاء بالجملة أن تنقاد مع هذا الفكر، فإن من شراره يتكاثر الجمر ؛ ومن الفكر الردىء تتزايد الشهوات الرديئة، أبغض ذكرها أكثر من أن تكنس نتانة الحمأة.

كما أن البخور يلذذ المنخرين ؛ هكذا يُسر بالطهارة الروح القدس ويسكن في الإنسان.

كما يطرب الخنزير برمغة الحمأة ؛ هكذا تطرب الشياطين بالزنا والنجاسة.

النور العظيم والفرح والسلامة والصبر يسكن في الأطهار، والحزن والضجر والنوم الذي لا يشبع منه والظلمة المدلهمة تسكن في الزنا.

حب الطهارة بمحبة المسيح لأنَها توافق سيرتك وتلائمها ؛ كما يليق القدوم بالنجار.

قوتل أخ ما بالزنا فأنتهر الشيطان وقال: أذهب يا شيطان إلى الظلمة أترى كما تعلم أنني وإن كنت غير مستحق فأنا حامل عضو المسيح. فللوقت سكنت الحرارة عنه كمن ينفخ سراجاً ويطفئه ؛ فعجب في ذاته من هذا الأمر ومجد الرب.

كرامة عظيمة الطهارة بمحبة المسيح ؛ وإهانة عظيمة الزنا والحسد.

أيها الأخ أهكذا بلا خشية تنظف ذاتك وتزينها ؛ أسمع الرسول يقول:

” أهرب من الشهوات الشبابية لأنك لا تعرف أي عدو تصارع “.

ألا تعلم أنه صعب أن يكون أحد فخاً لنفس آخر، أتعرف أي نتانة مهلكة وتقيح يزمع أن يرثها الذين يعملون هذه القبائح، وأريد أعرفك هذا، أنه إن كان الإنسان البراني رائقاً وخزانة النفس موسخة فلا يبطئ حسنه أن يتشوه.

فإن اقتنيت جمال النفس فإن النفس تعطي من نورها للإنسان البراني وهذا الحسن يبقي لك.

من يزين ثيابه ويملأ بطنه يقاتل كثيراً، ومن هو متيقظ يكون مرهوباً عند المضادين.

النفس الخبيثة إذا تلاطفت تتعظم ؛ وإذا شتمت تغتاظ، والصالحة إذا تلاطفت لا تفرح ؛ وإذا شتمت لا تسخط.

الصمت للشاب، كاللجام للفرس ؛ ومن هو غير مُلجم، يسقط في الأسواء.

لتكن خشية اللـه في قلبك أيها الحبيب مثل السلاح بيد الجندي.

أعتنق بتواضع في ذاتك المحن المجلوبة عليك من المحال لتنسحق مثل دقيق التراب أعدائك من قدام وجهك، وثق أنك لا تنهزم وأنت متقلد مثل هذا السلاح.

من لا يحب الرب يجرب أقنومه ؛ ويحزن مدبريه ؛ ومن يحب الرب يحفظ وصاياه.

البواب الحكيم يعرف أن يجاوب المسكين بوداعة، والصغير النفس والغير حكيم هو متكبر.

نعم يا أخي ما لنا شيء نَهبه فلتكن منك كلمة طيبة متحرزاً من ذاتك ألا تسقط أنت في مثل هذه الأشياء لأنه قال: ” في كل أعمالك تذكر أواخرك فإنك إلى الأبد لا تخطئ “.

البواب العاجز يخسر خسارة كبيرة ؛ وأما العالي بالروح يصنع لذاته إكليلاً.

ها الإخوة في مجمع الصلاة واقفون يباركون اللـه وأنت تتنزه خارجاً.

ألا تعلم أنك تخسر نفسك، قل لفكرك أترى لو كانت تحفة تعطى أما كنا نسارع قبل الجماعة لنتقبلها، فإن كان في الأمور البشرية حرص مثل هذا فكم أولي بنا أن نحرص في الفوائد الروحانية ؛ صر حاراً بالروح مثل القديسين لتساكنهم في ملكوت السماوات.

من يتكلم كلاماً باطلاً وهو يعمل ممتداً في العمل ؛ يخسر ؛ ومن يدرس الأقوال البارة ؛ ينجح أكثر.

إذا كنت تعمل وآذاك روح الزنا ؛ فلا تعجز أن تمد يدك للصلاة ؛ وإن ثقل عليك ؛ فإحنِ ركبتيك ؛ فإن صلاة الأمانة تحارب عنك.

لا ترقد حاقداً على أحد ؛ لئلا تزعجك الخيالات القبيحة في الليل.

لا يكن وجهك مطرقاً إلى أسفل فقط ؛ لكن وقلبك.

لا تتعظم على قريبك ؛ نج أخاك من الخطيئة فينجيك الرب في يوم الرجز.

من يتعب في الكنونيون لا يتوانى ولا عن موضع إبراز الفضلات ؛ لأنه ليس غير واجب أن يتعب فيه المتعبدون حسناً.

لا تخف من المرض قائلاً: أخشى ألا أمرض. أخطر بذهنك أن القديسين كلهم بمكابدة الآلام أرضوا اللـه.

العاجز لا ينفع ذاته ولا قريبه، والغير عاجز يستنهض المتوانين إلى الفضيلة. من يحتقر مدبره يخطئ، ومن يطع بالرب يرث مجداً.

لا ترد مبتدئاً ونفساً ظامئةً إلى الرب؛ فإن الرب ينظر فلا يرضيه ذلك.

الابن الخبيث يسيء خطابة والده ؛ والذين يسمعونه يذمونه.

من يكافئ عوض شر بشر هو غير رحوم، أما من يجازي بشرور عوض صالحات فماذا يقنعه.

لا تَهتم أن تسمع هفوات أجنبية ؛ لئلا تصير أخطائك مسموعة عند الكل.

من يسكت عند المائدة ؛ يضاهي من يأكل خبزه بعسل، ومن يكثر كلامه ؛ يقلق الساكت.

كل السمكة بترتيب ؛ وليكن شربك بلا جلب.

العابد الملتوي ومن يطلب ما يشكك قريبه لا يرضيهما بواب أمين.

ضيق على شهوتك أيها الحبيب ؛ قبل أن يضيق عليك من أجلها ؛ فإنِها تحدر إلى قعر الجحيم الذين يتبعونَها.

ليس وزن يعادل الصبر إن مُزج بالمحبة.

أيها الرب خولني أن أبصر هفواتي لئلا أدين أخي.

إن سكن مبتدئان مع شيخ ؛ فمن منهما أعظم عند الرب ؟

من يواضع ذاته بمخافة اللـه. لأن صادقاً القائل: ” من يواضع ذاته يرفع شأنه “.

من عنده مبتدئان يحتاج يقظة جزيلة لئلا يجد المنتصب بازائنا فسحة فيصنع بِهما شيئاً من الأشياء المختصة به.

المبتدئ الذي يحب الضحك والدالة يصنع لنفسه تَهشماً وشقاءً.

لا تتكلم بأقوال الخلاعة التي لا يجب التنعم بِها ؛ بل بالحري أتل شكراً وتسبيحاً.

لا تكن عاصياً فظاً ومتهاوناً ؛ لكي لا تضر نفسك والسامعين.

إن صرت متورعاً محقاً ومتواضعاً يسكب عليك الرب رأفاته.

اسمع يا حبيبي ممن يعظك بالرب: اتقِ الرب ؛ فيكون لك سوراً ؛ وتجد في يوم وفاتك دالة.

لا تزدرِ بعالمي أو تحتقره بذهنك؛ فإن الرب وحده يعرف خفايا القلب.

أكرم الكل من أجل الرب ؛ ليكرمك رب الكل.

من يشاء أن ينقل صخرة ؛ يضع المخلِ تحتها لا فوقها ؛ وحينئذ يدحرجها بسهولة ؛ فهذا نموذج التواضع.

أيها العابد تركت قلايتك لتتمشى في العالم ؛ ألا تخشى من الإثم والمجاوبة التى في المدينة.

من خلع عقل العالم بالكلية ؛ يلبث غير مجروح، ومن لم ينزعه، يقبل جراحات متواترة.

إن عرض للدير الذي تسكنه ضيقة من حوائج الجسد ؛ فلا تترك الموضع ؛ فإنك لا تجد فيما بعد خيراً كثيراً.

لا يرضى الفاقد البر مدبراً باراً، ولا الصديق يرضيه كل أمر ظالم.

اغفر لأخيك إذا أخطأ إليك ؛ فيغفر لك الرب هفواتك.

أسبق إلى قلاية الأخ الذي أحزنك ؛ وتب إليه بقلب نقي، من أجل القائل: اغفر للأخ لا سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات.

أقبل أيها الحبيب توبة الأخ كمرسل من اللـه ؛ لئلا تخالف من أرسله؛ وتحركه إلى أن يسخط عليك.

حب السلامة والطهارة ؛ لتؤهل لمعاينة وجه الرب الإله.

لا تؤذي أخاك في يوم حزنه، ولا تضف إلى وجع نفسه وجعاً.

المدبر الذي يتعب ؛ هو جمال ترتيب الإخوة، والشيوخ العقلاء سلوة الشباب.

لا ينبغي أن نصدق الثلاب، فإنه ربما تصير نميمة من حسد ؛ بل نحتاج أكثر أن نلتمس شواهد الحق.

ويجب أن يُبكم المتجاسرون والمبتدئون بالمقاومة، لتثبت الرفقة الأخوية بلا قلق.

إن شاهدت إخوة متولعين في الشر ؛ فلا تشارك عدم ترتيبهم ؛ بل أجنح عنهم ؛ واذهب إلى قلايتك متذكراً القائل: ” عبد الرب ما سبيله أن يخاصم “.

إذا أبصرت أخاً سائماً أو عليلاً ؛ فجيد هو أن تتوجع له، لأن العدل يسر قلب من يعمله ؛ والذين يحبون الرب يرثون العدل.

يا أخي أمتنع من الخلاعة والمزاح لئلا يجعلك عادم الحياء، فإن عدم الحياء هو أم الفجور.

لا تطف القلالي سكراناً لئلا تضيع بغتة غنى العفة.

لا تكن حاقداً على أخيك لأنه قد كتب: ” إن طرق الحقودين مؤدية إلى الموت “.

إن كان لا يمكنك أن تحتمل شيئاً ؛ أصمت فتستريح.

إن كنت لا تستطيع أن يغض أحد نظرة عنك فلا تحول نظرك أنت عن أحد.

الطوبى لمن وجد رفقة صالحين ؛ وأبغض مشيئته.

أيها الأخ كمل عملك بلا غش ؛ لأنه هكذا يليق بالمؤمنين ؛ لتجد نعمة في أعمالك.

لا تشرب خمراً للسكر ؛ فتحصل خزي الوجه ؛ لأنه يكون حينئذ خزي عظيم إذا وجدت مثل سكير.

الوداعة للعابد مثل سلسله ذهب على عنق رجل، كما أن العسل حلو في فم الإنسان كذلك الأقوال الإلهية حلوة في النفس التي تخاف اللـه.

الشيوخ الحكماء عصمة الإخوة ؛ والغير حكماء يكونون محاربين لهم.

الكبرياء ممقوتة عند اللـه وعند الناس ؛ والرب يعطي المحبين التواضع.

المكان المعتدل القانون هو ميناء حسن المرسى ؛ والذين ليس لهم تدبير يسقطون كالورق، لأنه يجب على من يخدم أن يخدم كمن يخدم اللـه لا كمن يخدم إنساناً يأخذ منه الأجرة ؛ والمخدوم سبيله أن يحتمل بتواضع كأنه مخدوم من الرب.

إذا أكلت خبزاً وشبعت فأعطِ مجداً للإله الذي أشبعك، وإن شئت ولبست أقل من شبعك فأعطِ مجداً للإله الذي قواك، ولا تقل بحضرة الجماعة أنا ما أكلت مثل هذا الخبز، ماذا إذاً تمنحه لذاتك أو تدين الذين يأكلون ويشكرون.

أصبر للرب في يوم الحزن ؛ ليسترك في يوم الرجز.

لا تضحك على مغموم، ولا تفرح بمن عاد خائباً ؛ لئلا يسخط عليك الرب ؛ ولا تجد ناصراً في يوم الحزن، ولا تطرد إخوة على أثرة الرئاسة فإن هذا الرأي إن لم يكن من اللـه لا يثبت فإن كان من اللـه وأختفأت مثل شاول بين الأمتعة يأخذك اللـه من هناك وينصبك مديراً لشعبه.

من لا يتنهد على هؤلاء أنَهم ما أوضحوا ولا فضيلة واحدة في سيرة العبادة ويطلبون الرئاسات فمن أين يعطوا، نحن على يبوسة من البر دائماً أليس من عدم الأختضاع ومن فقد التأديب ؛ لا نحسن أن نحرك المقذاف ونحاول أن ندبر.

ماذا أشر ممن له ماء حلو ولا يسقي نفساً ظامئة ؟ أو من أغزر حسداً ممن له كتاباً نافعاً ولا يعطيه لأخيه متوخياً نفعه وبنائه، من أوفر عجزاً ممن هو عطشان جالس بقرب العين ولا يمد يده ليأخذ ما يسكن عطشه.

أو من أكثر ونية ممن له كتاباً يملكه ؛ ويتوانى عن القراءة فيه.

أتعب مع من يريد أن يتعلم الكتابة ؛ حتى إذا قرأ عجائب اللـه يمجد اسمه ويكون مانحاً لك ثواباً.

الضجور إما يعانده صغر النفس على من له صبر ؛ وإما يقاومه استعلاء الرأي ؛ ومن يحب الرب بتحقيق ينج من الحالين جميعاً.

العاجز يخسر فوائد كثيرة ؛ والمتيقظ لا يتهاون ولا بساعة واحدة.

العاجز والمماحك لا يشرف لأنه مغيظ ممرمر.

الغير مطيع يختبر مواضع كثيرة ؛ والمتواضع القلب يطيع بالرب.

المبتدئ الفهيم يستمع لمن هو أعظم منه بالرب ؛ والغير مطيع يكون في الهوان.

من يحفظ طهارة جسمه يتعجب منه كثيرون ؛ ومن يتهاون به يلام من قوم كثيرين ويذم.

تأمل يا حبيبي مقادير كل واحد من المطيعين من أجل القائل: ” إذ واحد يثمر ويعمل مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين “.

النهم البطن يدعو الصوم ضيقة وشدة ؛ والممسك لا يقطب.

لا تصنع أمراً يحزن قريبك بل كن مؤدباً في كل أمورك.

الرجل الغير مؤدب يترصد جاره والسالك في النور لا يتفكر في الشر.

من يحب الرب لا يغظ قريبه بل يصون ذاته ويحفظها من أجل القائل: ” جميع الأشياء التي تريدون أن يعملها بكم الناس اصنعوها أنتم بِهم فهذا هو الناموس والأنبياء “.

أعمل في الشتاء لتفرح إذا دخلت إلى ميناء الحياة، إن العدو يسلح الإخوة المتوانين كثيراً على الحرصين جداً.

فالحريصون يجدون بالمتوانين صناعة مفيدة، إذا حملوا أمراضهم من أجل الرب.

من يعمل بقريبه رحمة ؛ يجد رحمة عند اللـه ؛ والدينونة بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة.

لا ترافق أخاك في الخطيئة بل الأولي بك أن تنجيه منها ؛ لتعيش أنفسكما بالرب.

لتكن مخافة اللـه قدام عينيك في كل حين فلا تسود عليك خطيئة.

لا تقل اليوم أخطئ وغداً أتوب ؛ فإنك لا تيقن علم ما في الغد ؛ لكن اليوم فلنتب ؛ والرب يهتم بأمور الغد.

رُب من يستعجل في الصلاة ؛ وإذا سمع من يرفع صوته فيها يتناول العمل.

لا تتوانى في الصلوات الجامعة ليستضىء ناظر ذهنك ؛ فإن المقتني فماً جسوراً يعاب ؛ والمتقي الرب يتورع.

كن بكلية قلبك متوكلاً على الرب ؛ فتجد في كل حين نعمة. إن صبرت له فلا يضيع ثوابك.

المياه تدفق في يوم الحريق ؛ والدموع في أوان المحنة.

الماء يطفئ اللـهيب المضطرم في البيت ؛ والدموع في الصلوات تخمد الشهوات الخبيثة.

كما تتباهى نضارة النخلة في الشواطئ ؛ هكذا تتباهى ألفة الإخوة بالرب.

من يكرم من هو أعظم منه قدراً ؛ يُسِر من هم أصغر منه ؛ وفي يوم صلاته يُستجاب له.

إن أعرت أخاك شيئاً ؛ وتباطأ في إعادته إليك ؛ وأردت أن تذكره ؛ فذكره مرة ؛ لأنه ربما يلحقه نسيان.

وإن استعرت شيئاً من أخيك ؛ فأستعمل التورع ولم يذكرك ؛ فأنت كما يليق بالمتقي الرب لا تعدمه الشىء الذي له، لأنه قد كتب: ” لا تكونوا غرماء لأحد في شىء إلا في أن يحب بعضكم بعضاً “.

سبيلنا أيها الإخوة أن نحتقر كافة الأشياء المفسدة ونصنع لنا عوضها الحياة الأبدية.

إن فوض إليك أن تتوسط بشىء ؛ فلا تتوانى في خلاصك محتجاً بالخطايا، لأن يوسف قد توسط في مصر بأمر ؛ ولم يقبل الاهتمام بمنزل واحد فقط بل بكافة أرض مصر ؛ فلم يجنح عن سبيل الحق ؛ فلذلك شرفه اللـه.

إذا كانت نفسك معافاة لدى الرب ؛ فستنتفع في كل شىء.

إذا رأيت تاجراً ؛ فقل في ذاتك: يا نفسِ هذا يشتهي الأشياء الوقتية فيصبر على مثل هذه الأتعاب ليجمع الأمور التي لا تبقى، أفتتوانين أنتِ في الأشياء التي لا تزول.

إذا أبصرت أناساً مخاصمين ؛ ويتحاكمون ؛ فقل في ذاتك: يا نفسِ هؤلاء قد أدخلوا ذاتـهم في مثل هذا الحرص والخصومة لأجل شىء لا منفعة فيه ؛ وأنت غريمة بربوات قناطير، أما تسجدين للـه كما يجب لتنالي الصفح.

إذا شاهدت الذين يبنون البيوت الطينية ؛ قل في ذاتك: هؤلاء يا نفسِ إنما يبنون بيوتاً طينيةً فيستعملون الحرص ليتمموا العمل أفتتهاونين أنتِ بالمساكن السماوية.

وإن عددنا الأمور واحداً فواحداً ؛ فلا نفرغ من القول، فأي أمر أبصرناه في العالم من الأفكار العالمية ؛ والمعقولات الدنيوية ؛ فلنستبدله بمعقولات روحانية فننال بلا مراء منفعة بموأزرة النعمة إيانا.

العابد يضاهي رجلاً تدحرج منحدراً من موضع عالِ ؛ فوجد حبلاً معلقاً في جبل رفيع شامخ ؛ فقبض عليه ؛ وتعلق به وهو يستغيث بلا فتور بالرب أن يغيثه عالماً أنه إن أطلق قوته وأرخى تلك يديه يسقط ويموت.

يا ابني أتخذ الحياة الخالدة التى دعيت إليها وأقررت بالإقرار النفيس أمام شهود كثيرين ؛ لأنه بعد حين يسير يجىء الوارد ولا يبطئ.

ولكوننا لا نشاء أن نحتمل حزناً يسيراً من أجل الرب ؛ نلج بلا اختيارنا في غموم كثيرة وشرور جزيلة.

ولكوننا لا نريد أن نترك مشيئتنا من أجل الرب ؛ نسبب لذاتنا خسارة النفس.

ولكوننا لا نحتمل أن نكون من أجل الرب في الطاعة والهوان ؛ نُعدم ذاتنا عزاء الصديقين.

ولكوننا لا نذعن لوعظ الذين يعظونا من أجل الرب ؛ نجعل ذاتنا شماتة للشياطين الخبثاء.

ولكوننا لا نقبل الأدب الذي بالعصى ؛ نعاقب بأنواع العذاب حيث ليس من يعزي.

من يعطي لرأسي ماءً ؛ ولعيني ينبوع دموع ؛ ووجهاً بَهياً لدى الذين من خارج ؛ لأبكي على خطاياي نَهاراً ليلاً ؛ وأقول للضحك: كن بعيداً مني ؛ وللدموع تعالي إليَّ ؛ لأن خطيئتى أمام الرب جزيلة جداً ؛ ولا لهفواتي عدد.

وأعلموا يقيناً أن الدموع ثلاثة أنواع في الناس:

(1) دموع من قِبل الأمور الظاهرة. وهذه هي مرة جداً وباطلة.

(2) ودموع للتوبة إذا تاقت النفس للخيرات الدهرية ؛ وهذه هي حلوة ونافعة جداً.

(3) ودموع من التندم حيث البكاء وتقعقع الأسنان، وهذه هي مرة وغير نافعة لأنَها لا تنفع حينئذ شيئاً حين لا يوجد أوان للتوبة.

أستيقظ أيها الحبيب يقظة جزيلة في شبابك ؛ لتوجد في أواخرك مهذباً مختبراً.

لا يقنعك الحبيب الذي يخطر لك أفكاراً خادعة، ويقول لك: أنت الآن شاب ويليق بك أن تعيش سنيناً أُخر كثيرة ؛ فلهذا أفرح الآن وتنعم ولا تغم نفسك، وعند شيخوختك يجب أن  تتوب.

أما تعرف أيها الأخ الغبي أن العدو يطغيك بِهذه، لأنه إذا كنت أنت بعد شاباً وفي عنفوان حداثتك حين تستطيع أن تصبر على كل تعب وتحتمل كل نسك لا تتوب ؛ فإن شخت ألا تتعلل بضعف الشيخوخة.

إن أهملت التوبة في حداثتك ماذا تعمل ؟ فأطرح إذاً طريقة العدو وأسمع صوت السيد الحقيقي القائل: ” تيقظوا إذاً وصلوا فإنكم لا تعرفون الساعة ولا اليوم “.

أيها الرب يسوع المسيح ملك الملوك ؛ الحاوي سلطان الحياة والموت ؛ العالم بالمكتومات والخفيات ؛ يا من لا يخفي عليك رؤية ولا فكر ؛ طهرني من مكتوماتي التي صنعتها ؛ فإني قد عملت العمل الخبيث أمامك لأن أيامي تفنى يوماً فيوماً وخطاياي تتكاثر، فأنت يارب يا إله الأرواح وكل جسد تعرف كثرت ضعف نفسي وجسدي.

فأمنح يارب لعديم القوة قوة ؛ وعضدني أنا الشقي ؛ لأنك أنت تعلم أنني قد صرت مثل آية لكثيرين ؛ وأنت معيني العزيز.

أعطيني يارب قلباً حسن العزم جميل الحفظ، أذكر أيها الصالح إحساناتك كل حين ؛ ولا تذكر كثرة خطاياي ؛ ولا تحقد على زلاتى، ولا تعرض يارب عن طلبتي أنا الخاطئ، لكن كما سترتني نعمتك حتى الآن وإلى الانقضاء ؛ لا تنزعها مني لأنَها هي حكمتي ؛ ومغبوطون هم الذين يحفظون طرقها فإنَها تكون لهم إكليل مجد.

أشكرك وأسبحك أيها الموضح فيَّ وفور رأفتك أنا غير المستحق ؛ لأنك صرت لي معيناً وساتراً ؛ فليكن اسم عظمتك مباركاً إلى الأبد، لأن بك يليق العظمة أيها الرب الإله.

أيها الحبيب علم أخاك طريقاً ؛ لا الطريق المؤدي إلى العالم ؛ بل المؤدي إلى ملكوت السماوات، أتقِ الرب بكل قوتك؛ ولا تعاين أعمال المنافقين؛ فإن نارهم لا تنطفئ ودودهم لا يموت.

والمجد للآب والابن والروح القدس

الإله الواحد

آمين

 

 

 

 

 

 

@

المقالة التاسعة في تقويم المستسيرين من العباد بسيرة ذات ألم، ويبتغون الكرامات

 

 

يا إخوتي أنا منذهل ومجروح بالحزن من أجل النبي القائل: ” انظروا أيها المتهاونون وأعجبوا “.

فأولاً: أتحير من أجل ذاتي خاصة ؛ من قبل جهلي وعدم أدبي ؛ لأنني صرت طُرقاً لكل ألم ولكل خطيئة ؛ والعدو ربط فيَّ كل عضو، فينبغي لي أن أنتحب وأبكي على ذاتي من أجل الخزي الحاصل فيَّ.

لأني أهتم بالأشياء التي للآخرين، وكان سبيلي أن أنتزع أولاً السارية التي في عيني ؛ ثم أعاين القذى الذي في عين أخي.

إلا أن التهاون الصائر الآن في وقتنا يغيصني في الحزن جداً ؛ لأنني أبصر الونية المشتملة علينا الآن ؛ ولا يمكنني أن أحتمل بل أتوجع نظير القائل:

” رأيت الذين لا ذهن لهم فذبت “.

لأن أية آلة لم ينصب لنا المعاند ؛ أو أية صناعة كثيرة أنواعها لم يمسكنا بِها، ويلي من لا يبكي على الأسواء المتشبثة بنا ؛ أصغوا إلى المقولات فإنني أتضرع إليكم أنتم الذين اخترتم هذه السيرة أن تصغوا وتفرقوا رعباً.

لأننا قد لبسنا زي الملائكة ونحن نناجي المحال، إن الإسكيم ملائكي والسيرة عالمية، أَترى الملائكة في السماوات يسيرون بالمحك والغيرة كما نشاهد الآن فينا، لأنه قد تأصل فينا الحسد والغيرة والوقيعة.

لأن المحال المكار قد نضح سمه بحال مختلفة في كل واحد منا ؛ وبصناعته يعرقلنا.

فواحد قد قوم الصوم، وقد مُسِك بالغيرة والحسد، وآخر قد مسك ذاته من الشهوة الشنعاء ؛ وقُيد تقييداً بالسبح الباطل، آخر قد قوم السهر وقد أقتنص بالوقيعة.

آخر قد أبعد الوقيعة ؛ وامتلأ من عدم الخضوع والمجاوبة، آخر قد مسك ذاته عن الأغذية ؛ وغرق بالصلف والتيه، آخر يواظب على الصلوات ؛ وينغلب من الغضب والغيظ.

آخر قد قوم شيئاً يسيراً ؛ وهو مترفع على المتوانيين، وآخر قد قيدته الرذيلة ؛ وليس من يفهم.

من أجل هذا يوجد في العبادة  مماحكات وانشقاقات ؛ ويلي من لا يتنهد ؛ من لا ينوح على ضعف هذه السيرة الملائكية ؛ لأننا قد تركنا العالم ؛ ونحن نعقل معقولات العالم. طرحنا القنيان ؛ ولا نكف ولا نستقر من الخصومات. تركنا المنازل ؛ ونذوب بالاهتمام بِها كل يوم.

ليس لنا غنى ؛ والكبرياء لا نتركها. أهملنا التزويج ؛ ولا ننتقل من الطغيان الباطل. من داخل نتواضع ؛ وبالنفس نلتمس الكرامات. عادمين القنية بالظن ؛ ومضبوطين باحتشاد المال. عادمين القنية بالكلام ؛ ومرتبطين بالذهن بمحبة الاقتناء.

من لا ينوح على زهدنا وعلى ونيتنا، من يبصر ولا يعجب من صنائع العُباد ولا سيما المبتدئين والشباب، لأنَهم ما زهدوا بالقول ؛ ويتصلفون. وما خاطبوا أحداً بالإسكيم ؛ ويتعظمون. ما سمعوا التعليم ؛ ويعظون. لم يبصروا الدهاليز ؛ ويتصورون الأشياء التي داخل.

لم يرتقوا الدرج ؛ ويطيرون نظير السحب. بالسواء لم يذوقوا النسك؛ ويتدرعون بالسبح الباطل. لم يسمعوا صوت الآذان ؛ ويربون. لم يجتمعوا بالرفقة الأخوية، ويتسيدون متمولين. لم يدخلوا أبواب الدير ؛ وقد صاروا يظنون ويذمون ويقطبون.

فلا أفني الوقت لأن صنائعهم كثيرة ؛ وليس من يفهم ؛ ولا من يزهد من أجل اللـه ليبذل ذاته بالطاعة عبداً لأخوته ؛ لكن إن أنتهر ؛ يجاوب بمعاني من الخطابة. وإذا أطاع ؛ يشكك ذاته ولا يغاير العزم الصالح. ويرتب ذاته في الأشياء التى لا تنفع.

ليس له ثلاثة أيام منذ زهده في العالم ؛ ويخاصم من شاخ في الإسكيم، إذ لا يريدون أن يطيعوا ؛ يخترعون لذاتَهم صنائع. إذ لا يحتملون حرارة الجسد ؛ ويتهم ويعادي بعضهم بعضاً، ما دخلوا تحت النير ؛ وينتهرون ويأمرون ويسخطون.

أعمل هذا أيها الأخ ؛ فيقول: لا أعمله إن لم يجئ فلان. فلان متشاغل بدراسة الكتب ؛ فسبيلي أنا أن أثابر عليها.

ولعله قبل زهده كان يعيش عيشة الفعلة، ولم يعرف في قديم أمره ما هي يمناه ويسراه، وفي حال مجيئه إلى الدير قد ظهر محباً للعلم ومترجماً.

فلان الأخ مرتاح ؛ فينبغي لي أنا مثله أن أرتاح. يتفرج ؛ فسبيلي أنا أن أتنزه. يلبس حلة ؛ فيجب لي أن ألبس مثله. أخذ كرامة ؛ فينبغي لي أن أُكرم، قد مضى يحدث الآباء ؛ فسبيلي أن أفاوضهم. فوض إليه السلطان على الأمر الفلاني، أتراني لا أستحق أن أؤتمن أنا عليه.

هذه الأمور التي يرضاها الشباب. هذا تواضع المبتدئين. هذه أتعاب وأثمار الزيتون الحديث نصبه. أبِهذا الجهاد يحرصون أن يرثوا الملكوت.

من أجل هذا صاروا أعداء للـه. بِهذه الأشياء يظهر أننا لم نزهد بشىء يسير من سيرة العالم لأننا بالوهم زهدنا ؛ وبالحقيقة نعقل معقول العالم.

وبالحقيقة ليس لنا اعتذار لأننا بالإسكيم عباد ؛ وبالخلق جفاه وعادمو الإنسانية. بالإسكيم متورعون ؛ وبالخلق قتّال. بالإسكيم والزي متواضعون ؛ وبالخلق مفسدون. بالإسكيم والزي محبون ؛ وبالسخاوة ماقتون. بالإسكيم صادقون ؛ وبالسمية معادون.

بالشكل صائمون ؛ وبالقلب مجربون. بالإسكيم نساك ؛ وبالقلب متكبرون مجاهدون. بالزي أعفاء ؛ وبالقلب زناة. بالزي صامتون ؛ وبالقلب طامحون. بالزي ودعاء ؛ وبالخلق متعظمون.

بالزي معزون ؛ وبالسجية شامتون. بالزي مشيرون ؛ وبالحال مراءون، بالزي هادئون ؛ وبالخلق ماكرون. بالزي غير حاسدين ؛ وبالخلق حسودين. بالزي ناصرون ؛ وبالشيمة دافعون.

أترى من أين تعرض لنا مثل هذه الأمور ؟ سوى من كون ليس لنا محبة كاملة بعضنا لبعض، وليست لنا ألفة نقية ؛ وليس لنا تواضع حقيقي ؛ وليس لنا خوف اللـه أمام أعيننا.

أننا نتهاون ونتغافل ونظن أن الوصية الخلاصية خرافة وهذيان، بكلمة اللـه تتشدد السماوات ؛ ونحن لا نقبله بصفة أخ.

ذلك الفم المرهوب والغير مدرك والمرعب قال: ” من يشاء أن يكون فيكم عظيماً فليصر لكم خادماً “. ونحن قبل أن نعاين درجة الإسكيم نتكبر ويستعظم الواحد منا على الآخر ؛ ويطفر بعضنا على بعض، وكلنا عقلاء عند ذاتنا، كلنا مدبرون.

كلنا متسلطون ؛ مرتبون ؛ منتهرون ؛ مفترضو الشريعة ؛ محبو الأمر والنهي ؛ مترجمون ؛ معلمون ؛ كلنا نأمر ؛ كلنا مهتمون ؛ قهارمة ؛ أولون.

أترى لا يقنعكم قول الرسول بولس إذ يقول: ” إن كان الجسد كله سمعاً، فأين المشم ؟ “. إن كان الكل أولو الجماعة ؛ مدبرو ؛ الكافة مرتبون، فأين تفاضل ترتيب اللـه ؟

ومع هذا ألا يقنعكم أن تذعنوا للقائل: ” ليس أحد يأخذ الكرامة من ذاته إلا المدعو من اللـه “.

أم كيف يقول أيضاً: ” أترى كلهم معلمون “.

من أجل هذا رتب اللـه رئاسات وسلطات ؛ لأنه إن كان في السماوات كل أرواح الخدمة الغير بالين ولا مائتين لم يرضي اللـه أن يكونوا في رتبة واحدة ؛ بل رتب رؤساء وسلاطين وعظماء ؛ وكل واحد منهم لا يتجاوز رتبته ؛ وكافة الأشياء قد صارت بترتيب وثبات.

فلِمَ نخاصم بعضنا بعضاً خصومات جائرة ؛ والملائكة ورؤساء الملائكة لا يتجاوزون الحدود المرتبة لهم.

ونحن ندفع بعضنا بعضاً ؛ ويريد الواحد أن يكردس الآخر ؛ ويسابق بعضنا بعضاً قفزاً، ونزدري ونستصغر كأننا نستطيع أن نقوِّم شيئاً أكثر منهم. ترحماً لعماية الذهن.

ألا تذعنون لقول القائل: كل أحد فليثبت في الأمر الذي دعي إليه. كيف تتقون القائل: ” إن من يعطى كثيراً يطالب بكثير “. لكي تقتنوا بِهذا تواضعاً. يا إخوتي لا نستكمل عمرنا بِهذه المناقص المذمومة، كمن ليس أمام أعينهم القضية المرهوبة.

لا نسير كمن لا يزعمون أن يعطوا جواباً عن كل أمر، لا تصيروا عثرة وشكاً للذين هم من خارج، لا نضيفن خطيئة على خطايانا، لا يُفترَ على الإسكيم الجليل من أجل عدمنا الفهم، بل الأليق أن يُمدح بنا.

فإنه ستوافي وتجئ تلك الساعة المرهوبة ولا تبطئ ؛ وفيها نكون بلا اعتذار، لأنه ماذا نستطيع أن نقول للـه ؟ وماذا احتجنا أن يصنعه بنا ولم يفعله ؟

هل ما رأينا الإله نفسه متواضعاً بصورة عبد لنتواضع نحن ونصير متواضعين، أما رأينا وجهه الأقدس الذي لا يصفه عقل مبصوقاً عليه لكي إذا شُتمنا وانتهرنا لا نتوحش ونتنمر، بل أما شهدنا ظهره مبذولاً للسياط لكي نخضع لمدبرينا، أو ما عاينا وجهه وقد لطم لكي إذا رفضنا لا نتنمر.

هل ما سمعنا عنه أنه لم يناصب ولم يجاوب ؛ لكي لا نكون مستبدين برأينا ولا نجاوب. وأما سمعناه يقول: أنا لا أعمل من ذاتي شيئاً. حتى لا نصير نحن متعظمين مالكين مشيئتنا بذاتنا وحاوين السلطان على ذاتنا. بل ترى أما سمعناه قائلاً: تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب. لنصير نحن ودعاء ومتضعين القلب.

لكننا نحن نحسد بعضنا بعضاً ؛ وننهش ونأكل بعضنا بعضاً. أي جواب نعطيه.

أطلب إليكم لا من أجل الآلام البشرية نخرج من السعادة التي لا تنتهي؛ ولا من أجل الكرامة الوقتية نضيع المجد المؤبد، ولا من أجل المحك والغيرة والحسد نشجب في نار جهنم.

قد التمست أن تخلص فلِمَ تفحص أمر قريبك، قد دخلت تحت النير فلِمَ توعز وترتب ليشتهر ثمر طاعتك.

ثق فإنه لا مرتبة ؛ ولا كرامة ؛ ولا عظم شأن ؛ ولا بأن يقال لأحد أولاً وثانياً، ولا بأن يسمى مدبراً، ولا بأن يدعى أيها الشريف، ولا بأن يفوض إليه كرامة، ولا بأن يؤتمن على مرتبة يدخل بِهذه إلى ملكوت السماوات، أو يعطى صفحاً عن خطاياه، أو ينجى من التعذيب. بل هذه تُشجب وتُهلك.

لكن التواضع ؛ والطاعة ؛ والمحبة ؛ والصبر ؛ وطول الروح ؛ تمنح ملكوت السماوات وتوابعه. لأنه لا يستطيع أحد أن ينجح ويوقر ويخلص إلا بالتشبه بالرب في الكل.

أما قد سمعتموه قائلاً: ” ما جئت لأُخدَم بل لأَخدُم “. وأيضاً: ” ما جئت لأصنع مشيئتي بل مشيئة من أرسلني “. وأيضاً: ” من يعلي ذاته يوضع “. أو ما سمعتم كيف يطوب قائلاً: ” الطوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات “.

أما سمعت أنك كنت إذا جلست تغتاب أخاك وكيف يوعد أنه سيوبخك تجاه وجهك، أما قد سمعتم أن من يبغض أخاه هو في الظلمة وأن المحال من أجل الجسد سقط من السموات. أو ما قد وعيتم أنه من أجل الكبرياء والمجاوبة هبط من أي مجد وشرف، وأن مريم أخت موسى من أجل كلمة تعيير أصيبت بالبرص.

فلماذا ولنا مثل هذه الأنموذجات نسد آذاننا كما لأفعى، لا أعني الآذان الجسدانية بل آذان القلب، لأن هذه تتذكر لكن تلك لا تتذكر.

لم لا تصدق القائل: ” أن من يثبت في المحبة يثبت في اللـه “.

أتضرع إليكم يا معشر الرعية المنتخبة أن نستفيق ما دام لنا وقت، ولنتعفف ما دمنا في الإمهال.

لئلا تفاجئنا تلك الساعة المرهبة المؤلمة ؛ فننوح بمرارة نادمين تندماً لا ينفع، لئلا نخزى بذلك الخزي العظيم أمام اللـه والملائكة والناس.

ولنكف عن الخصومات ؛ ولا سيما نحن الحاويين الحواس الشبابية، تواضعوا بكل ما لكم من قوة لتستطيعوا أن تدركوا الكمال.

قد علمتم كم كان لآبائنا من راحة وتحرز، وكم تواضع وتحفظ، وشقاء وازدراء بذاتَهم، فالآن الحرب عظيمة فلا نتهاون، ولا تظنوا أنكم قد وصلتم إلى الكمال ؛ إن الحاجة ماسة إلى تعب كثير وجهاد جزيل لننال الخلاص.

لا تظنوا أن التزين الكثير أو سدل الثياب هو التعبد ؛ أو أن تكون يدا الإنسان بَهيتين ذلك يخلصه، أو حسن المنطق، أو ترجمة الكتب هو الكمال، أو كشف الرؤوس ؛ أو تسريح الشعور وتنظيفها بغير الفضائل الموافقة الملائمة التي لا تنحصر في لبس الإسكيم.

لكن الإسكيم الذي يتبعه الخلق الجميل والأعمال ؛ لأن الإسكيم خلواً من الأعمال ليس شيئاً ؛ فلا تُهملوا الاهتمام ؛ ولا تتراخوا لأن الحاجة إلى تعب كثير كي نلجم الحداثة.

فإن كنتم تستثقلون المقولات ؛ لكن ذلك لا يغمني لأنني أشاء أن تقبلوا مكاوِ لتزيلوا القبح وتنزعوا التماسي، ولا تظنوا إن كتمتم آلامكم ينساها اللـه ؛ فإنني أقول لكم إن الأفعال الخفية فيكم أستقبح أن أكتبها لأنني إن عملت ذلك لا تثبتون بل تَهربون.

فلهذا أطلب إليكم أن تواضعوا ذاتكم بالطاعة بالمحبة بالحقارة بالإهانة، وبِهذه أطيعوا بعضكم بعضاً، وأخضعوا بالصوم بالصلاة بالسهر بالترتيب الممدوح، لا تكونوا في الخصومة أقوياء وفي الترنيم ضعفاء.

لا تكونوا منتبهين إلى مناجات الأفكار وناظرين مثل وحوش، وفي الصلاة متناعسين وتغمضون عيونكم، لا تكونوا في الحديث الباطل أقوياء كالثيران وفي هذيذ تمجيد اللـه ضعفاء كالثعالب، لا تكونوا في حجج الخصومة غير مغلوبين وفي الأقوال الروحانية تتثآبون.

لا تكونوا في اللعب أصحاء وإذا وعظتم تقطبون، لا تكونوا في النهار معافين بنهم البطن وفي الصلاة الليلية متمارضين، لا تكونوا في المحادثات جبابرة وفي الأعمال منحلين، لا تكونوا في أن تأمروا مكرمين وفي أن تؤمروا متنافرين.

لا تكونوا ملتذين بأن تطاعوا وفي أن تطيعوا مقطبين، لا تكونوا في أن تأمروا صارمين وإذا أُمرتم تتذمرون، لا تكن الأيدي إلى الأصابع واللسان إلى الصدر، لا تكونوا إلى المائدة متسارعين وفي الأعمال متوانين.

لا تكونوا في استدعاء النواظر إليكم متيقظين وفي أن تميزوا شيئاً صالحاً مظلمين، لا تكونوا بحضرة الإناث متأدبين ومع إخوتكم متنمرين، لا تكونوا في كثرة الغتذاء أقوياء وفي الصيام ضعفاء، لا تكونوا في شرب الخمر مسرورين وفي شرب الماء مقطبين ومكتئبين.

لكنني أتضرع إليكم يا أولاد اللـه ؛ أن تتخذوا الغيرة النفيسة ؛ ومهما كان ممدوحاً صالحاً يختص بالمنفعة، اقتنوا أول كل المناقب التواضع ؛ المحبة؛ الخيرية ؛ الوداعة والدعة سامعين بعضكم لبعض.

ولا تتخاصموا في شىء لا ينفع، وكونوا غير عاجزين في الصوم والصلاة لتستطيعوا أن تغلبوا الآمر الجسد ؛ لكي لا من أجل الآلام المنكرة نعدم مثل جسامة هذه الخيرات، لا نبتغِ  الوقتيات فنضيع المجد الذي لا يفنى.

أسرعوا وبادروا وما دمنا في الجسد فلنعمل المناقب التي ترضي اللـه، ولنحرص فقد حصلنا في شىء عظيم، فلا نُهمل الاهتمام فليس صراعنا بإزاء أناس مبصرين لكي ما إذا رأيناهم نتحرز منهم بل الذين يحاربوننا لا يرون.

فلأجل هذا إن العطب عظيم للمتوانين ؛ وإذا غلبوا فلهم ثواب جزيل، فلنغلبهم بالحيل ولنصاففهم، فإذا حرضنا العدو على شره البطن فلنحاربه بالصوم، إن هيجنا إلى اشتهاء امرأة فلنستعمل الصبر ؛ ونمسك الحس ونَهرب من المكان.

إذا أنْهضنا إلى الغيظ فلنتضرع بالسلامة، إن جعلنا أن نغضب فلنتخذ الوداعة، إن أنْهضنا إلى المقت فلنلاصق المحبة، إذا حصلنا إلى ابتغاء الإكرام فلنوضح رغبة الاستحقار.

إذا حضنا إلى رغبة الشرف فلنتخذ الخفضة والدناءَة، إن خيل لنا أمور الاستعلاء فلنصور في ذهننا تواضع الرب، أن حرضنا إلى مغايرة أخينا فلنخطر ببالنا سقطة قايين.

إن استنهضنا إلى الحسد فلنذكر هلاك عيسو ؛ إن حركنا إلى الاغتياب فلنسيج علينا الصمت، إن قاومناه هكذا يهرب ولا يثبت، وتوافي وقتئذ النعمة وتكللنا كما يليق بالظافرين.

صدقوني يا إخوتي أنني مشجوب من جميع الأشياء التي وعظتكم أن تحفظوها فقد صرتم أتقياء وأنا متوحل بحمأة الخطايا.

لكن بادروا أن تبتعوني بتوبتكم الجليلة، صدقوني أنني ما حفظت شيئاً مما قلته، زينوا أقوالي بأعمالكم وأنا متيقن أنكم ستوجدون بلا عيب وأنا سأُدان عن الأقوال التي أقولها ولا أعملها.

لا نتوانى عن خلاصنا ؛ ولا نحسب المقولات مثل أمثال ؛ فإننا ما أوردنا شيئاً خارج المكتوبات والمقولات ليست كاذبة.

فلنقبل زرع هذا القول ؛ ونثمر كالأرض الصالحة بعض ثلاثين وبعض ستين وبعض مائة، لكي ما إذا حملنا الأثمار وتسربلنا ببهاء الفضائل نفرح بربنا يسوع المسيح، وهو ينجينا في ملكوته.

فإن له يليق المجد

إلى أبد الدهور

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة العاشرة في تذكار الخطايا

 

أشاء أن أبث قدامك أيها المسيح المخلص ؛ وأصف بحضرة مجدك كافة المرارة التى تختص بي ؛ وبنيتي الخبيثة، وأذكر أيضاً كل الطرب والحلاوة التي صنعتها معي ؛ إذ منذ جوف أمي صرت مغيظاً جاحداً خيريتك ونعمتك، لا نشاط لي في الخير.

فأنت أيها السيد أعرضت عن كافة شروري ؛ ومن أجل رأفاتك الجزيلة أرتفع بنعمتك يا ابن اللـه رأسي الذي كان ذليلاً كل حين من أجل خطاياي.

تجذبني بنعمتك إلى الحياة ؛ وأنا أسعى بنشاط إلى الموت ؛ لأن عادة الآلام الرديئة المذمومة جذبتني حين أذعنت لها ؛ وقيدت الفكر بقيود لا تنفك ؛ والقيود مأثورة عندي دائماً. لأنني أشاء أن أتقيد.

فالعادة تقيدني بإشراكها ؛ وأفرح إذا قيدت، تغيصني في العمق وأنا ألتذ بذلك، والعدو كل وقت يجدد قيودي لأنه قد رآني مسروراً برباطاتي الكثيرة ضفرها، وهو كثير الحيل في صناعته فلا يربطني بالرباطات التي لا أرغبها، لكنه يقدم لي دائماً الأغلال الفخاخ التي أقبلها بالتلذذ كثير.

لأنه يعرف أن الهوى يقوى عليَّ فيحضر لي بطرفة عين القيد الذي أريده، يا له من بكاء ونوح من عار وخزي أنني أتقيد بمشيئتي فأنا لا أقدر أن أسحق القيود في لحظة واحدة وأصير حراً من كافة الفخاخ.

لأنني بالاسترخاء والعادات متعبداً للهوى ؛ وأقتل بالآلام التي أستبشر أنا بِها.

لو شئت لاستطعت أن أفك القيود وأسحقها، ولو أردت لقدرت أن أهرب من الفخاخ، فهل يكون أمر من هذا النوح والبكاء ؟ أم يكون خزي أصعب من هذا ؟ بلى لا يكون أشد مرارة من هذا الخزي، أن يعمل الإنسان مشيئات عدوه.

فأنا أعرف قيودي ؛ وأخفيها في كل ساعة من كافة الذين يشاهدونني في زي الورع ؛ وضميري يوبخني إذا عملت هذا قائلاً لي كل وقت:

” لِمَ لا تستفيق يا شقي، أو ما علمت أنه آتي وأقترب يوم الدينونة الرهيب الذي فيه تظهر الأشياء كلها، أنْهض ما دمت قادراً ومزق الرباطات التي لك، لأن فيك قوة العقد والحل “.

هذا يقوله لي دائماً ضميري ويوبخني، وما أريد أن أستريح من القيود والإشراك، أنوح من أجلها كل يوم وأتنهد وأوجد مربوطاً بِهذه الآلام نفسها.

أنا شقي ومتواني غير ناجح في صالح نفسي، كيف لا أخاف من فخاخ العدو، جسمي مشتمل بجمال زي التورع ونفسي مقيدة بأفكار غير لائقة، أتورع بحضرة الناظرين بحرص ؛ وأنا من داخل وحش لا يستأنس.

أحلي كلامي للناس وأمنحهم إياه ؛ وأنا في نيتي مر وخبيث ؛ فماذا عسى أن أعمل في وقت الاختبار إذا أوضح اللـه كافة الأشياء في مقام الدينونة، أنا أعلم أنني سوف أعذب هناك إن لم أستعطف من هنا الديان بالدموع.

فلذلك لا يسخط عليَّ بل ينتظر عودتي إذ لا يشاء أن يبصر أحداً متحرقاً بالنار بل يريد أن يدخل إلى الحياة كافة الناس.

فإذ أنا واثق برأفاتك يا ابن اللـه ربي أخر لك طالباً أقبل بنظرك إليَّ، أخرج نفسي من سجن المآثم؛ وأشرق شعاع نورك في ذهني قبل أن أمضي إلى المدينة المرهبة التي تنتظرني حيث لا يمكنني أن أتوب عن المساوئ.

وأنا مضبوط بفكرين يكتنفني كل واحد منها: هل أسافر من الجسد أولى من أن أخطئ ؛ لكن أخاف أنا الشقي أن أمضي وأنا غير مستعد مجرد من الفضائل، أو أبقى ؛ فالخوف العظيم يعذب قلبي من كوني لا أبقي في الجسد بل لا بد من أن أنتزع منه.

ولست أعرف بأيهما أتعزى، لأنني أعاين ذاتي غير نشيط في الصلاح، وحياتي في الجسد ذات خوف وجزع، لأنني في كل وقت أتمشى بين الفخاخ وأماثل التاجر المتواني العاجز الذي يخسر في كل ساعة رأس المال مع الربح.

هكذا أنا أخسر الخيرات السمائية بالأنغلاب الذي يجرني إلى المساوي وأحس بذاتي كيف أسرق في كل ساعة وأوجد بغير مشيئتي في الأمور التي أبغضها، أتحير في أمر البرية كيف هي بَهية دائماً، أنذهل في نيتي الرديئة متضايقاً مغموماً.

من يخطئ دائماً أفضل ممن يتوب كل يوم لأن توبتي ما لها أساس، البناء وطيد إلا أنني كل حين أضع أساس بناء وأنقض العمل بيدي، وتوبتي الحسنة إلى الآن لم تبتدئ، وونيتي المذمومة لا انتهاء لها.

تعبدت بالاسترخاء لمشيئة عدوي ؛ وأنا نشيط أن أكمل ذلك، فمن يعطي لرأسي ماءً لا يقدر ولعيني ينابيع دائمة لتنبع عبرات.

فأبكي كل وقت لدى الإله الرؤوف ليرسل نعمته لينتشل خاطئاً من بحر هائج بأمواج الخطايا، فإن نفسي غرقت بتواتر الموج ؛ وجراحاتي لا تقبل البتة عصائب الشفاء.

أنتظر التوبة ؛ وأنا مسروق بِهذا الوعد الباطل إلى أن يفنى ؛ أقول أنني أتوب ولا أتوب إلا بالكلمات ؛ وبالأفعال أنا مبتعد من التوبة، إن كنت في رفاهية وراحة أنسى طبيعتي، وإن حصلت أيضاً في غموم أوجد متذمراً.

الآباء القديسون كانوا محبين للـه في الأحزان والمحن، كانوا مختبرين مهذبين ؛ وقبلوا بذاتِهم إكليلاً لا يضمحل من الإله السمائي بشرف ومدائح، اقتنوا من الحزن مديحاً وثناءً جميلاً ؛ وصاروا صورة حسنة للأجيال الواردة.

ومع هؤلاء يوسف المهذب الجميل البهاء ؛ المتناهي في العفة ؛ المملوء جمالاً سمائياً مع محبة العلي، أقتنى بالتجارب صبراً نفيساً لأن حسد إخوته الردىء ما قدر أن يدر جمال نفسه، ولا استطاعة المراودة المخاتلة أن تذبل جمال الصبي الزاهر، كانت تنظر في كل ساعة إلى زهر العفيف لتسكب عليه سماً مراً، ولا الحبس والقيود ذبلت حسن بَهاء زهرة نفس الصبي المحب للـه.

فإن كنت أنا الشقي أخطأت بغير محنة ما، وأخطئ وأغيظ وأمرمر سيدي، فقد اختبرت رأفاته الجزيلة.

خلصني يارب وأعطي لعبدك كطلبته التي يبتغي من كنـز تحننك، أيها السيد لتنبع نعمتك في قلب وفم عبدك بمداومة مثل ينبوع ليكون قلبي وفمي هيكلاً طاهراً لامعاً بخيريتك ونعمتك ؛ قابلاً ملكاً سمائياً لا كعش للأفكار الخبيثة ومغارة لصوصي أردياء للروايات الشريرة.

بل تحرك إصبع نعمتك لساني دائماً كأوتار المعزفة لتمجيدك أيها المتعطف على الناس، لكي ما أمجد بلا فتور وأبارك بشوق قلبي وفمي كل زمان حياتي.

لأن من يعجز عن أن يسبحك ويمجدك هو غريب من الحياة العتيدة.

أيها المسيح المخلص ؛ أعطيني سؤال قلبي ؛ ليصير مثل رباب النغمة لأستطيع أن أوفي ههنا ديوناً قليلة ؛ وأحظى هناك أيضاً بوفاء نعمتك حين تجزع كل نفس وترتعد من مجدك الرهيب.

نعم يا سيدي يا ابن اللـه الوحيد ؛ أستجب لتضرع عبدك الخاطئ ؛ وأقبله مثل قربان ؛ فأخلص بنعمتك.

والمجد يليق

بمن يخلص الخاطئ برأفاته

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

@

 

المقالة الحادية عشرة في التوبة والدينونة

 

الذي أنحضر من حضن الآب ؛ وصار لنا طريقاً للخلاص يعلمنا التوبة بصوته الإلهي قائلاً:” ما جئت لأدعو صديقين ؛ لكن خطاة إلى التوبة “.

وأيضاً: ” الأصحاء لا يحتاجون طبيباً لكن المرضى “.

فإن كنت أنا أقول هذه الأقوال ؛ فلا تسمعني أصلاً ؛ وإن كان الرب نفسه يقولها ؛ فلِمَ تتهاون بحياتك متوانياً عنها.

إن عرفت أن لذاتك جراحات من الأفكار والأفعال غير مشفية ؛ فلماذا تتوانى في جراحاتك المكتومة ؟ ماذا تخاف ؟ أَمن الطبيب، ليس قاسياً ؛ ولا عادم التحنن ؛ ولا فاقد الرحمة. لا يستعمل بطراً ؛ ولا دواء مراً وكاوياً ؛ لأنه يداوي بالكلام فقط.

إن شئت أن تتقدم إليه هو مملوء خيرية وموعوب تحنناً ؛ جاء من أجلك من حضن الآب، ومن أجلك تجسد لتتقدم إليه بلا خوف، من أجلك تأنس ليشفي جراحاتك الخفية.

وبمحبة جزيلة وخيرية غزيرة يدعوك قائلاً: أيها الخاطئ تقدم وأبرأ بسهولة ؛ أطرح عنك ثقل الخطايا ؛ قدم تضرعاً ؛ ضع على قيح جراحاتك دموعاً، لأن هذا الطبيب السماوي الصالح يشفي الجراحات بالدموع والتنهد.

تقدم أيها الخاطئ إلى الطبيب الصالح ؛ وقدم العبرات وهو الدواء البليغ الجودة، فإن الطبيب السماوي يشاء أن يبرأ كل أحد بعبراته ؛ فليس مستصعباً أن تشفي جراحاتك بالدموع، لأن هذا الدواء لا يبطئ بالشفاء ولا يضمد به مكرراً ولا يشنج الجرح بل في الحال يبرأ بلا وجع.

فالطبيب متوقع أن يبصر دموعك. تقدم ولا تجزع، أره الجرح وائتى بالدواء ؛ ائتى بالدموع والتنهد فإنه بِها فتح باب التوبة، تبادر أيها الخاطئ قبل أن يغلق الباب ؛ ولا تنتظر وقتاً يوافق ونيتك ؛ لئلا يبصرك البواب مضجعاً ؛ أتروم أن تدوم في تَهاونك.

يا شقي لِمَ تبغض حياتك، أيها الإنسان ماذا يكون أسمى علواً من نفسك، وأنت أيها الخاطئ قد تَهاونت بِها، هل تعلم أيها الحبيب في أي ساعة يأمر الطبيب السماوي فيغلق باب مداواته، أطلب إليك أن تتقدم وتحرص أن تبرأ ؛ فإنه يشاء أن يفرح بتوبتك الموكب السماوي.

الشمس قد بلغت إلى الساعة المسائية ؛ ووقفت من أجلك إلى أن تبلغ إلى المنزل، فإلى متى تحتمل العدو النجس مكملاً بلا خجل مشيئته ؛ لأنه يتمنى أن يزجك في النار، هذا هو حرصه ؛ وهذه هي موهبته التي يمنحها للذين يحبونه.

فهو يحارب دائماً بالشهوات الرديئة والنجسة الناس أجمعين، ويفضي بالذين يذعنون له إلى اليأس، يقسي القلب وينشف الدموع لئلا يتخشع الخاطئ.

فأهرب منه أيها الإنسان ؛ أمقت وأرفض مأثوراته، أبغض الخبيث وفر من الغاش ؛ فإنه قتال للناس منذ الابتداء وإلى الانتهاء، أهرب منه أيها الإنسان لئلا يقتلك.

أسمع أيها الحبيب الصوت القائل كل وقت: ” هلموا إليَّ يا جماعة المتعوبين والموقرين وأنا أريحكم، احملوا نيري وتعلموا مني فإنني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم “.

يقول أنه يعطيك راحة وحياة فلِمَ تتوانى، ولِمَ تجوز يوماً فيوماً، تقدم ولا تجزع فإن السيد صالح ومتحنن غير محتاج وغني لا يطلب إحصاء كافة خطاياك، هو الملجأ الذي يلتجئ إليه سائر من به الآلام.

يشفي الجراحات ويهب الحياة بلا حسد، لأنه صالح يقبل بسهولة كافة الذين يخرون ساجدين لأنه هو الإله الأعظم وسابق علمه، يعرف سائر رؤيتنا وأفكارنا ؛ يبرئ الإنسان إذا تقدم إليه، لأنه يعاين قلبه وكافة نشاطه إذا دنا إليه مؤمناً بفكر غير منتقل.

فالإله الصالح بخيريته موجود للذين يبتغونه ؛ ومن قبل أن يرفع الإنسان نظره إليه يقول له: قد حضرت. وقبل أن يدنو منه يفتح له كنزه، وقبل أن يهمل دموعه يسكب كنوزه، وقبل أن يتضرع إليه يصالحه، وقبل أن يبتهل إليه ينال الرحمة لأن محبة اللـه بخلوص تشتاق هكذا.

والذين يقبلون إليه لا يبطئ عن الاستماع لهم، لا يشكو من يقبل إليه قائلاً: لِمَ خدمت العدو مثل هذا الزمان وتَهاونت بي عمداً. لا يطلب كمية الزمان السالف، إنما يطلب السيد ممن يسكب أمامه تواضعاً ودموعاً وتنهداً.

لأن إلهنا وجابلنا هو سابق العلم ؛ فيغفر في الحين كافة مآثمه ؛ وكل هفوات أفكاره وأفعاله ويأمر بإحضار الحلة الأولى، ويجعل خاتماً في يده اليمنى، ويأمر جماعة الملائكة أن يسروا معاً بوجود نفس الخاطئ فمغبوطون نحن الناس أجمع ؛ فإن لنا سيداً حلواً غير حقود صالحاً.

رؤوفاً متحنناً طويل المهل، غافر كل حين نفاقنا عندما نشاء، فها هو يعزي ويتمهل، هوذا يمنحنا كل خيراته في هذا الدهر وهناك إن شئنا.

هلموا فلنتضرع إليه ما دام لنا زمان ؛ فإننا ما دمنا في هذا العالم نستطيع كل وقت أن نستعطف السيد، ويسهل علينا أن نطلب غفراناً، ويتيسر لنا أن نقرع باب تحننه.

فلنسكب العبرات مادام يوجد وقت تقبل فيه الدموع لئلا ننصرف إلى ذلك الدهر فنبكي بكاءً غير نافع ؛ لأنه هناك تحسب الدموع لا شئ، فبمقدار ما نشاء ؛ بقدر ذلك يغفر لنا الإله الصالح ؛ لأنه يستجيب لنا إذا استغثنا به ؛ ويغفر إذا تضرعنا إليه، يمحو آثامنا إذا أحسنا عزمنا لقريبنا.

هنا التعزية وهناك المطالبة، هنا طول التمهل وهناك الصرامة، هنا الراحة وهناك الضيقة، هنا امتلاك السلطة على الذات وهناك مجلس القضاء، هنا التمتع وهناك العذاب، هنا التغطرس وهناك العقاب، هنا الضحك وهناك البكاء، هنا إهمال السيرة وهناك التعذيب.

هنا التهاون وهناك النار الأبدية، هنا التزين وهناك الولولة، هنا التصلف وهناك التذلل، هنا الاختطاف وهناك قعقعة الأسنان، هنا الخدور المذهبة وهناك الظلمة المدلهمة، هنا التواني وهناك تبقى خطايا الكل غير مغفورة.

فإذ قد عرفنا هذه يا إخوتي الأحباء فلِمَ نضجع في خلاصنا، لا يتسمر يا إخوتي عقلنا هنا، لا يحل لنا محبة الأشياء الأرضية لئلا يصير بكاؤنا هناك مراً.

ولِمَ نتهاون غير مريدين أن نخلص ما دام الوقت موجوداً ؛ يغفر اللـه بالدموع وبالتوبة في هذا الوقت اليسير سائر الهفوات.

أبكِ هنا قليلاً لئلا تبكِ هناك الدهر في الظلمة البرانية، أحذر جيداً هنا لئلا تلقى هناك في النار التي لا تخمد، من لا ينوح علينا ومن لا يبكي، قد أبغضنا الحياة وأحببنا الموت، تأمل يا أخي الشقيق ؛ وأختر الأفضل والموافق لنفسك ؛ وأنظر أية صعوبة تلحقك دائماً.

أتبكي هنا على خطاياك وتتضرع لتصير بالتوبة خالص الود ؛ أو تبكي هناك في النار ولا ينفعك شيء، لأنك إذا بكيت هنا تنال راحة مع كل تعزية، وهناك إذا بكيت تذهب إلى العذاب.

أعطِ قليلاً لكي ما يسمح لك بديون نفسك، فإن لم تريد أن تقضى هنا من الكثير قليلاً فهناك ستجازي عما عليك من الديون بعذاب كثير.

فهذه الأقوال يا إخوتي المحبين للـه خاطبت بِها مودتكم المأثورة ليس لكوني مستحقاً وطاهراً في سيرتي ؛ وعائشاً بالطهارة ؛ بل لوجع وحزن وضغطة قلب مخطراً بذهني ما هو معد لنا ونحن متوانون مضجعون.

أنا يا إخوتي نجس أنا منافق في سيري بأفكاري وأفعالي غير عارف من ذاتي بالكلية شيئاً صالحاً، أنا متراخي وخاطئ في نيتي وعزمي ؛ وهذه الأقوال إنما أقولها لألفتكم لأن الحزن مطيف بقلبي من أجل دينونة اللـه العتيدة الرهيبة ؛ لأننا كلنا متهاونون ونظن أننا نعيش في هذا العالم الباطل إلى أبد الدهر، والدهر يعبر والأشياء التي فيه كلها.

ونحن يا أحبائي سنطالب بجواب عن هذه الأمور كلها ؛ لأننا عارفون المناقب النفيسة ؛ وعاملون الأفعال الرديئة ؛ ونتهاون بمحبة المسيح الإله وملكه ؛ ونكرم الأرض وجميع الأشياء التي فيها.

إن الفضة والذهب لا تنقذنا من النار الرهيبة ؛ والثياب والتنعم يوجد هنا لدينونتنا.

فالأخ لن يفتدي أخاه، والأب لا يفتدى ابنه، لكن كل واحد يقف في مقام رتبته في الحياة أو في النار.

لقد تجرد القديسون والصديقون والأبرار من هذا العالم وأموره باختيارهم، وبرجاء وصايا اللـه الصالحة أيقنوا أنَهم يتمتعون بخيراته في فردوس النعيم.

لأنـهم تاقوا إلى المسيح وأكرموه إكراماً كثيراً، وتعروا من الأشياء البالية ؛ فلذلك هم مبتهجون كل حين باللـه، ومستضيئون بالمسيح ؛ ومسرورون بالروح القدس دائماً، والثالوث الأقدس يبتهج بِهم، وتستبشر بـهم الملائكة ورؤساء الملائكة، ويتباهى بِهم فردوس النعيم.

بالحقيقة هؤلاء هم الممدوحون المشرفون المغبوطون، كل وقت يطوبِهم الملائكة والناس لأنَهم أكرموا محبة اللـه إكراماً فوق العالم أجمع ؛ فوهب لهم الإله القدوس المحق ملكوته ؛ وأعطاهم مجداً أعظم أن يبصروه بسرور مع الملائكة القديسين كل حين.

وكثيرون من الناس اشتاقوا إلى الأرض وإلى الأشياء البالية التي فيها، فتسمر عقلهم كل وقت فيها، وأغذوا أجسامهم بالأغذية كالبهائم كأن هذا العالم عندهم باقٍ لا يموت.

ماذا  تصنع أيها الإنسان إذ تسير كبهيمة لا نطق لها. قد خلقك اللـه فهيماً مميزاً فلا تماثل بعدم التمييز البهائم الفاقدة الفهم.

فق أيها الإنسان قليلاً ؛ وعُد إلى ذاتك ؛ وأعرف بما أنك فهيم أنه من أجلك أقبل الإله الأعلى من السماء ليرفعك من الأرض إلى السماء وقد دعيت إلى عرس الختن السمائي فلِمَ تتهاون ؟ لِمَ تستصعب الأمر ؟ قل لي كيف يمكنك أن تذهب إلى العرس وليست لك حلة عرس فاخرة ؟

وإن لم تمسك مصباحاً ؛ فكيف يمكنك الدخول ؟ وإن دخلت متهاوناً فتسمع في الحال صوت الختن: يا صاحب كيف دخلت متهاوناً إلى العرس وليس عليك لباس عرس ملكي.

تَهاونت ودخلت لتصنع بعريتك استخفافاً بملكوتي ؛ ثم يقول الملك لغلمانه: شدوا يدي هذا الشقي ورجليه معاً ؛ وزجوه في أتون النار ليتعذب هناك إلى أبد الدهر. لأنني أنا منذ مدة كبيرة جئت ودعيت الكافة إلى العرس ؛ فهذا أستحقر دعوتي ولم يعد له لباس العرس ؛ فلهذا أمركم أن تعذبوا هذا الشقي لأنه تَهاون بمملكتي.

أتراك أيها الإنسان لا ترهب هذه ؛ ولا ترتعد منها فزعاً ؛ من دنو إشراق الختن ؛ أما قد علمت أن كافة البرايا متوقعة للمثول أمامه ؛ والصور السماوي ينتظر صوته.

فماذا تصنع هناك في تلك الساعة إن لم تكن مستعداً قبلها ؟ هيئ ذاتك لتلك الساعة للغبطة الإلهية؛لأنه يطوب اللـه المستحقين والصور السماوي يبوق من السماء ويقول: أيها المحبون للمسيح انْهضوا فها قد ورد الملك السماوي ليعطيكم نياحة وسروراً في الحياة الخالدة عوض تعب نسككم.

انْهضوا وأبصروا المسيح الملك الختن الذي لا يموت الذي تقتم إليه، لأنكم حين تقتم إليه صرتم من أجله سكاناً على الأرض، أنْهضوا فعاينوا نضارة بَهائه، قوموا فشاهدوا مملكته التي أعدها لكم.

أنْهضوا وانظروا إلى المسيح شوقكم، قوموا فأبصروا الرب الذي لا يشبع منه الذي أحببتموه وتألمتم من أجله.

تعالوا فأبصروا الذي اشتهيتموه بدالة جزيلة ؛ وأفرحوا معه فرحاً لا ينعت ؛ ولن ينتزع أحد منكم فرحكم.

هلموا فتمتعوا بالخيرات التي لم تبصرها عين ولم تسمعها أذن ولم تخطر على قلب الناس التي يهبها لنا هذا المحبوب. فيخطف القديسين في السحب لاستقباله ؛ ويطير الصديقون والمستحقون للـه في علو الهواء بمجد لا يقدر ليعاينوا الملك السمائي الباقي.

فمن هو ترى المستحق أن يخطف في تلك الساعة إلى التقاء المسيح بفرح عظيم ؟ يخطف المستحقون كلهم بمجد ؛ والمنافقون يبقون أسفل بخزي عظيم.

فالطوبى والسرور للحريصين هنا ؛ والعذاب والخزي لجماعة الخطاة، مغبوط ذلك الذي قد حرص هنا أن يوجد مستحقاً لتلك الساعة ؛ وشقي ذاك الذي جعل ذاته غير مستحق لتلك الساعة.

فالسحب تخطف القديسين من الأرض إلى السماء ؛ والملائكة يخطفون أيضاً المنافقين ليلقوهم في أتون النار التي لا تطفأ.

من يعطي لرأسي مياهاً لا تقدر، ولعيني عيناً نابعة دموعاً دائماً ما دام يوجد وقت تنفع فيه العبرات، فأبكي على نفسي النهار والليل متضرعاً إلى اللـه ألا أوجد في ساعة وروده غير مستحق ؛ ولا أسمع قضية السيد الرهيبة عني: ” أنصرف يا عامل الإثم لست أعرفك من أنت “.

أيها الإله الأعلى الذي لا يموت وحده ؛ أعطيني أنا الخاطئ في تلك الساعة رأفاتك الجزيلة لكي لا يظهر نفاقي المكتوم أمام الناظرين الملائكة ورؤساء الملائكة، الأنبياء والرسل، الصديقون والقديسون. بل أحفظ المنافق بنعمتك ورأفاتك، وأدخله إلى فردوس النعيم مع الصديقين الكاملين، أقبل طلبة عبدك أيها السيد بشفاعة القديسين الذين أرضوك.

والسبح لك يا ربنا يسوع المسيح. آمين.

@

المقالة الثانية عشرة في الابتهال والتخشع

 

أنت وحدك الإله الصالح المتحنن ؛ الآتي بكافة الخيرات وعين الأشفية وكنز الرأفات ؛ المعطي دائما الخيرات للذين يسألونك.

فإذ كنت أنا نفسي قد نلت الخبرة بأشفية لا تحصى ومواهب جليلة خولتها لي يوماً فيوماً ؛ فمن أجل ذلك بلا خجل أتضرع إليك أيها المسيح الإله المحتمل البشر أن توافيني بنعمتك كالعادة ؛ لكي ما تجمع ذهني وتشفي جراحاتي المخفية.

لأن الانغلاب والتنزه قد عملا فيَّ جراحات مكتومة، فأنت أيها الطويل الأناة ؛ المتمهل الشافي كل وقت بنعمتك ورأفاتك ؛ شفيت بما أنك متحنن أمراضي أنا الخاطئ.

وما أمكنني بالجملة أن أعطي أجرة عوض الأشفية، لأن أشفيتك من أين لها قيمة، إن السماء والأرض لا تستطيع أن تقضي مكافأتك بواجب الاستحقاق عوض أشفيتك ؛ إذ أشفية خيراتك هي رأفاتك الجزيلة.

ولا يمكن أن تباع أشفية سماوية وقدسية لأنه لا ثمن لها، إنما بالدموع تَهبها ؛ وبالبكاء المر تَهبها للكل، ترى من لا يعجب، ترى من لا ينذهل، ومن لا يبارك كثرة تحنن خيراتك يا مخلص نفوسنا.

لأنك ارتضيت أن تأخذ الدموع أجرة عوض أشفيتك. فيا لقوتك أيتها الدموع.

إلى أين تبلغين ؟ تدخلين إلى السماء نفسها بمجاهرة كبيرة بلا مانع،
يا لقدراتك فإن مواكب الملائكة مع كافة القوات يستبشرون كل وقت بدالتك.

أيتها العبرات كيف تستطعين إذا شئتِ أن تمثلي بفرح أمام عرش السيد الطاهر، العرش الأقدس الشاهق ؛ كيف تصعدين إلى السماء في لحظة عين طائرة وتأخذين طلباتك من الإله القدوس ؛ فيلتقيكِ بطلاقة حاملاً صفحاً.

فأعطيني أيها السيد أنا الغير مستحق دموعاً كل وقت ؛ واستنارة وقوة لتنبع فيَّ كل حين عيناي دموعاً بحلاوة ؛ فيضئ قلبي بالصلاة النقية وتمحى الكآبة العظمة، وتنطفئ هناك النار المحرقة بدموع يسيرة.

لأنني إن بكيت هنا سأنجى هناك من النار التي لا تطفأ، لأنني كل يوم أغيظ أيها السيد أناتك الطويلة ؛ ومرارتي وتحننك هما قبالة عيني، فلتغلب خيراتك وطول إمهالك مرارتي ؛ لأن الطيور بتحنن عظيم تغذي فراخها ؛ وإذا نكرتَها هذه فلا تتوانى ولا تغفل عنها لأن تحننها يغلب عليها.

فإذا كانت الطيور لها تحنن هكذا ؛ فكم بالحري تغلب نعمة رأفاتك فترحم كل المشتاقين إليك.

وكذلك الأم التي تُشتم من ولدها لا يحتمل قلبها أن يعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت الأم تُغلب من تحننها ؛ فكم أولى بذلك نعمة تعطفك أيها السيد المحب للنفس أن تغلب كل وقت من قبل رأفاتِها فتخلص وترحم النائحين دائماً.

فإذ حدق بي العدو النجس الذي يحزنني دائماً ؛ فأغثني بالدموع في الليل والنهار لتنقذنى من قتالاته ؛ لأنني لا أستطيع أن أحتمل حيل الخبيث وصنائعه إن ابتعدت عني نعمتك لحظة.

لأنه ساعة بعد ساعة يضغط نفسي بالأقوال والأفعال ؛ فلتزجره قوتك التي انتهرت الأمواج البحرية لكي يبطل عن عبدك ؛ لأنه كل وقت يجدد عليَّ حيله، ويحرص أن يتملك على ذهني فيبعده عن حلاوة تلاوة وصاياك الإلهية.

أيها السيد أرسل بسرعة نعمتك لتطرد عن عبدك الثعبان العظيم مع كافة الأفكار القبيحة والخبيثة.

فليقنعك مثلك يا سيدي لأنك قلت: انه كان في مدينة ما قاضي غير خائف من اللـه، ولا يستحي من إنسان ؛ وكانت في تلك المدينة أرملة فقيرة ؛ وكانت تجيئه كل وقت قائلة أنصفني من خصمي ؛ فلبث معرضاً عنها مدة طويلة بعدم تحنن متهاوناً بِها، لكن صبر الأرملة استطاع أن يقوم ذاك الفاقد التحنن والرحمة ؛ ويستميله إلى الانتصار.

فالأرملة المظلومة تقدمت إلى قاضي لا تحنن له ولا شريعة لينتصر لها من خصمها، أما أنا أتقدم إلى سيدي المتحنن المتمهل الصالح ؛ المالك السلطان على الأرض وفي السماء أن يسمع مني.

أيها الإله المبارك الحاوي الفم الإلهي القدوس الذي لا يكذب ؛ لقد قلت أيها المخلص إنك تصنع الانتقام لكافة المتوكلين عليك في الليل والنهار، يا سيدي لا تتباطأ عن الانتصار لي، أنقذني من العدو ؛ وسهل مسيري إليك لأغلب العدو بنعمتك.

لك وحدك أبارك، لك وحدك أمجد ؛ أيها المتحنن الطويل الإمهال المريد أن كافة الناس يخلصون، فإذ قد نفذ زمان حياتي في الباطل ؛ وفي الأفكار القبيحة ؛ أعطيني دواءً لأبرأ بالكمال من جراحاتي المكتومة ؛ وأيدني لأعمل في كرمك بنشاط ولو ساعة واحدة.

فقد بقى لي من زمان حياتي الساعة الحادية عشر، دبر مركب تجارتي بوصاياك ؛ وأعطي التاجر الحقير فهماً ؛ لكي ما أتجر بتجارتي ما دام لي وقت ؛ فإن سير المركب قد وصل إلى نَهايته ؛ والوقت يدعوني أنا المتنزه والمتعظم قائلاً: أيها الكسلان هلم ؛ فأين تجارة زمان حياتك ؟

إن ساعة الموت تخيفني لأنني أبصر أعمالي فترتعد نفسي، وأنظر إلى ونية عجزي فتفرق عظامي، لأن ساعة الفراق قد تقدمت أمام عيني ؛ فإذا تأملتها خفت جداً، وعوض ما أفرح أغتم كثيراً لأن أعمالي غير مستحقة الفرح.

لأن خوفاً عظيماً في أوان الموت لكافة الخطاة الذين يماثلوني ؛ وفرحاً جزيلاً في أوان الفراق لكافة القديسين والصديقين ولسائر الناسكين. وساعة الفراق حزن لكافة الذين ليسوا قديسين ولا نشطين ؛ وللمسترخين إذا ذكروا ونيهم وونية زمان حياتِهم الماضي.

الندامة تعذب حينئذ قلب الإنسان تعذيباً كثيراً ؛ إذ توانى هنا عن خلاصه، والقديسون والصديقون والنساك يبتهجون في ساعة الموت والفراق ؛ إذ يشاهدون أمام أعينهم جسامة عمل نسكهم، عمل الأسهار والصلوات ؛ والأصوام والدموع ؛ وأضطجاعاتِهم على الأرض ؛ ولبسهم المسوح ؛ فتطفر نفوسهم فرحاً لأنَهم قد أُمروا أن يخرجوا من جسدهم إلى النياح.

مرهوب ورود الموت على الخطاة المسترخين ؛ والذين لم يحرصوا أن يسيروا بطهارة في هذا العالم الباطل، وغم مؤلم جداً يشمل ساعة الفراق الإنسان الخاطئ ؛ لأنه لا يسمح له أن ينطق بشىء البتة. ويلكِ يا نفسِ ويلكِ من أجل ماذا تتوانين في خلاصك ؟

لِمَ تصرفين في التنزه أيام حياتك كلها ؟ ألا تعلمين أن دعوتك ستصير بغتة ؛ فماذا تصنعين هناك قدام مجلس القاضي المرهوب ؟ إذا توانيتي هنا أي اعتذار لك تجاوبين به، كيف يسترقك العدو يا شقية ولا تفهمين.

وكيف تُضيعين الغنى السمائي يوماً فيوماً متفرجة ولا تعلمين ؟ فوقي
يا نفسِ فوقي في ساعة الحرب، اطلبى إلى اللـه بدموع، اصرخى إلى اللـه بتوجع قلب ؛ وفي الحين يرسل لمعونتك ملاكاً رؤوفاً ؛ ويعتقك من محاربة العدو ورجته.

احرصى ألا تسقطي في ساعة الفراق في حزن وزفرات فتبكين بكاءً لا ينفع إلى أبد الدهر، وتتقاطر خواطر الأفعال كلها في تلك الساعة إلى ذهنك فتقولين حينئذ منتحبةً شديداً:

أنا قد كنت أتذكر في كل ساعة هذه كلها ؛ وأناشد ذاتي وأقول: أعبر الأيام التي أنا فيها على الأرض متحرزة ألا أخطئ ؛ ولا أسقط من وصايا اللـه ؛ بل أعمل كل حين الأعمال التي ترضية بنشاط كثير، فقد وجدت الآن مصفرة ليس لي بالجملة تقويمة واحدة جيدة.

أيتها النفس الشقية أصغي إلى ذاتك ؛ جاهدى بمداومة ؛ وأتقي اللـه كل وقت، أتقي اللـه إلهك وأرضيه بأعمال صالحة حتى إذا حان وقت الفراق وساعة الموت يصادفك حسنة النشاط تنتظرينه بفرح عظيم.

أيتها النفس تفرسي في سيرتك وفي دعوة اللـه ؛ لأن ساعة الفراق لا تحزن حراً معتوقاً من كافة الأشياء الأرضية، لكن الموت يحزن الرجل المتنزه والخاطئ.

المهمل يحزن بسيرته، والعاجز الذي عجز عن عمل الأفعال المرضية للـه يحزن.

والكثير القنية والموسر الذي كثف نفسه بالأمور العالمية يحزن لأنَها تفصله من العالم بلا اختياره، يحزن الآباء لأنه يفرقهم من أبنائهم المحبوبين ومن غناهم والإخوة لأنه يميز بعضهم من بعض ببكاء. هؤلاء كلهم يحزنون في ساعة الموت لأنَهم قد تقيدوا بالأمور العالمية.

فأنتِ أيتها النفس الحرة من أجل ما تنفسين وتتنهدين إذ تستريحين من العالم وجراحاته ؛ أثبتي كل وقت مدعوة حرة ؛ واسلكي في طريق اللـه بثناء جميل بنشاط الأفعال المرضية له.

إن أحببتِ اللـه من كل نفسكِ فلا ترهبي قط ساعة الموت، لكن الموت وفراق الجسد يصيران لكِ بالحري فرحاً.

سلمني أيها الطويل الأناة؛ وخلصني أيها المسيح ابن اللـه الفاقد الخطأ، أعطيني أيها المخلص دراسة الحياة حتى لا أملك في قلبي ؛ ولا أقتني سوى هذه الدراسة لأكمل كل حين مشيئتك، وبمؤازرة نعمتك إياى أنا الخاطئ أكون حسن النشاط سالكاً في أوامرك بصحة ؛ كي ما أتجر حسناً بالفضة التي أعطيتها لي.

وإذا أتجرت التجارة الحسنة في حقلك ؛ أنال منك المديح وأقول بدالة واستبشار قلب: إذا أقبلت يارب لقد حصلت مغبوطاً لأنك جئت وألبستني لباساً لائقاً بعرس الختن الباقي.

وأوقد المصباح الذي وهبته لي بنعمتك وإطالة أناتك ؛ وأخرج بفرح إلى استقبالك ممجداً ومبارك الختن الذي لا يموت، وأؤهل أن أصير مشاركاً للصديقين والقديسين الذين أرضوك إلى الأبد.

آمـين

 

@

المقالة الثالثة عشرة في الانتباه

 

أصغي إلى ذاتك أيتها الشبيبة المؤثرة النسك لئلا تعبر أيامك في التنزه، لا تقبلي الأفكار الخبيثة لئلا تضعف قوتك في حرب العدو، ليكن كل وقت في ذهنك السيد الحلو ليكلل سعي نسككِ.

حاضري جرياً أيتها الحداثة في جهاد نسككِ، قد حان اليوم وأقترب الوقت الذي فيه العاملون يكللون والمتوانون يندمون، أقتني الفضيلة ما دام لك زمان ؛ أقتني ورعاً في ناظركِ وصدقاً في مسامعكِ وكلمات حياة في لسانكِ.

تعهدي المرضى في قدميكِ ؛ وفي قلبكِ صورة ربكِ، في أعضائكِ تقويمات العفة ليفضل تكريمكِ بحضرة الملائكة والناس.

خشبة لا نفس لها تكرم إذا كان فيها صورة ملك مائت، فكم أحرى تكرم النفس الحاوية فيها اللـه في هذا الدهر والمستأنف.

أصغِ إلى ذاتك أيها الحبيب ؛ إن الشهوة مائتة فأما جسمك فهو حي ؛ وتأمل إذاً بمبالغة وأحذر ألا تمنح جسدك حياة المائت ؛ فإن أعطيته حياة يقتلك، فإن المائت إذا أحييته قتل من منحه الحياة.

فأعرف بمبالغة ما هي الشهوة، فالشهوة خلواً من الجسم مائتة ؛ فإذا اقترنت الشهوة بالجسم تعيش الشهوة ؛ ويدرس الذهن في حلاوتِها، ويوجد الجسد الحي مائتاً بإماتتها إياه.

فمن أجل هذا أحفظ ذاتك بتحرز من هذا المائت في توقد نار شهوته، أحضر إلى ذهنك النار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت ففي الحال يخمد التهاب الأعضاء، لئلا تسترخي فتغلب وتندم وتستدرك كل النار، نار الندامة وتعتاد أن تخطئ وتندم.

أقتنِ صرامة منذ الابتداء مقابل كل شهوة ؛ ولا تنغلب لها ؛ ولا تعتاد على الهزيمة في الحرب ؛ لأن العادة طبيعة ثانية ؛ واعتياد الاسترخاء لا يقتني قط صرامة وشهامة لأنه كل حين يبني وينقض، كل وقت يخطئ ويندم.

أيها الحبيب إذا اعتدت أن تتراخى إذا قوتلت فستكون تسطير كتابة ندامتك ثابتة إلى أبد الدهر.

من قد أعتاد أن ينغلب لبعض الشهوات فضميره يصير له كل وقت موبخاً ؛ ويكون كل وقت حزيناً كئيباً، فيرى قدام الناظرين وجهه بورع وعافية ؛ وهو من داخل مقطب من أجل توبيخ ضميره إياه ؛ لأن الشهوة اعتادت أن تمنح الذين يعملونَها حزناً موجعاً.

فتحرز بكل نفسك ؛ وأحذر حاوياً في ذاتك المسيح كل وقت، لأن المسيح هو للنفس ختن لا يموت، لا تترك ختنك المحق لئلا يتركك ؛ وإذا تركك تحب الغريب العدو الغاش الذي يغش ؛ يحب وقتاً يسيراً ويترك لأنه هو زانية نجسة ؛ فإذا أفنى الإنسان قوته فيها يمقتها.

من لا يبكي لأن العدو إذا افنى قوتنا وزماننا في نجاساته وشهواته الدنسة ؛ يبتعد حينئذ عنا لأنه يمقتنا ولا يحبنا قط ؛ لكن يحبنا اللـه الآب والابن والروح القدس الذي له التمجيد إلى أبد الدهور.

آمـين

 

 

@

المقالة الرابعة عشرة في رثاء النفس

 

في بعض الأيام نَهضت في الدلج ؛ وذهبت أنا واثنان من الأخوان إلى مدينة الرها المباركة ؛ فرفعت عيني إلى فوق السماء فعاينت المدينة كامرأة صافٍ صقالها ؛ تتلألأ على الأرض كالنجوم لامعة بمجد.

فإذ تعجبت كثيراً قلت: إن كانت هذه البرايا تلمع بمجد هكذا كم أولى بالقديسين والصديقين الذين صنعوا مشيئة الإله القدوس ؛ في تلك الساعة إذا جاء الرب أن يشرقوا أكثر بنورٍ لا ينعت ؛ بنور مجد المخلص.

وللحين تذكرت ورود المسيح المرهوب ؛ فاضطربت عظامي، وانقطعت قوة نفسي مع جسمي ؛ وبكيت بوجع قلب ؛ وقلت بزفرات: كيف أُوجد أنا الخاطئ في تلك الساعة الرهيبة ؟ كيف أمثل بحضرة مجلس القاضي المرهوب ؟ كيف أُوجد أنا المتنزه مع الكاملين ؟

أم كيف أقف أنا الجدي مع الخراف عن ميامن المسيح ؟ أم كيف أُوجد أنا الغير مثمر مع القديسين العاملين هنا ثمر العدل ؟ أو إذا عرف القديسون بعضهم البعض في الحجلة السمائية ماذا أصنع أنا ؟

ترى من يعرفني ! هل الصديقون في الخدر ؟ أو المنافقون في النار ؟ فترى الشهداء عذاباتِهم والنساك فضائلهم. فماذا أرى أنا سوى رخاوة نيتي، أيتها النفس المتنزهة، يا نفسي الخاطئة، أيتها النفس التي لا حياء لها، أيتها النفس الماقتة حياتِها إلى متى تجذبك الهموم على الأرض ؟

إلى متى يجرك سوء عادة الأفكار الخبيثة ؟ أما قد علمت أن الأفكار الخبيثة في كل ساعة تصير كسحابة مظلمة قدامك ؛ وتحجزك عن أن تقفي لدى اللـه.

أنتِ تتوقعين بوفور ونيتك أن الختن السمائي سيبطئ في وروده، لا يبطئ يا شقية بل كبرق خلب يكون وروده من السماء، احرصي أن توجدي مستعدة في تلك الساعة المخيفة ؛ لكي لا تبكين هناك إلى أبد الدهور.

لا تصغي بالكلية إلى هفوات آخرين، بل انتحبي على زلاتك، لا تبصري إلى القذاء في عين الأخ والقريب، بل تأملي الجذع في ناظرك تأملاً متواتراً، إن أمكنك أن تنتزعي أولاً الجذع من عينك فأخرجي قذاء الأخ والقريب، وإن لم يمكنك فنوحي على ظلمتك المستصعبة.

كيف تظنين أنك تمنحين القريب نوراً، صيري يا نفسي طبيبة لذاتك كل ساعة ؛ ثم بعد ذلك أشفي أخاكِ السقيم، فليست لك حجة عن توانيكِ لأن الإله الرحوم قد أعطاكِ كل المواهب، تمييزاً وفهماً ومعرفة روحانية، فاعرفي منذ الآن ما يوافقك.

فبكى عند ذلك الأخوان اللذين معي ؛ وقالا: لم تبكِ أيها الأب بكثرة نحيب ؟ فقلت لهما: يا ولدي المحبوبين أنوح على ذاتي من أجل ونيتي، لأن الإله الصالح قد أعطانا استنارة العلم وأنا أخالفه يوماً فيوماً.

لأنني إن أكملت مشيئة الرب فسأكون في تلك الساعة مغبوطاً ؛ ولست وحدي بل والذين يعملون مسراته، فمن أجل هذا يا إخوتي لا معذرة لنا هناك البتة لأننا نخطئ بمعرفة، فلنتأمل تدبير اللـه في كافة المواهب التي أعطانا إياها.

فنعمته تتعهد قلوبنا دائماً ؛ فحين تجد راحة لها تدخل تسكن في النفس سرمداً ؛ وإن لم تجد القلب نقياً نظيفاً تبتعد عنه، ثم تضطرها رأفاتِها أن تتعهد الخاطئين. فإذا كنا متغيري العزم ؛ وذهننا يستحيل متقلباً، أليس بالطبع نوجد دائماً متنزهين ومسترخين حسودين خبثاء مفتكرين بعضنا ببعض أفكاراً رديئة، فاسقين نجسين متذكرين أفعالاً رديئة خبيثة، دائماً مطروحين في حمأة منتنة من الأفكار.

فإذا جاءت النعمة تفتقدنا تجد في قلوبنا نتانة الأفكار الخبيثة، فتتنحى وتبتعد إذ لم تجد مدخلاً تدخل وتسكن فينا كما تريد، سوى أنَها تنخر القلب بحلاوة منيرة ليحس بأنَها تعهدته ولم تجد لها مدخلاً.

لكي إذا تحلى الإنسان بالأنوار سار يطلبها ؛ ومع هذا فهذه النعمة لا يمكنها أن تبتعد منا بالجملة لأن تحننها يلزمها ويضطرها أن ترحم الكل.

أرايت تدبير اللـه السابق، أرايت تحنن المسيح الإله القدوس كيف يحبنا دائماً مريداً أن يخلصنا. فمغبوط الإنسان الذي يحرص كل وقت أن يعد قلبه نقياً نظيفاً للنعمة ؛ لكي ما إذا جاءت تجد فيه طيب نسيم الفضائل وطهارة النفس فتسكن فيه إلى أبد الدهور.

فماذا نعطي الإله المتحنن عن كافة خيراته ومواهبه، إذ نزل من السماء من لدن الآب ؛ وتجسد من أجلنا في مستودع البتول، ومن أجلنا لطم مثل عبد، فماذا نقضي عن اللطمة وحدها ؟ إن عشنا على الأرض ألف سنة لا نستطيع أن نفي اللـه كما يجب له مجازاة نعمته.

إني أخشى من هذا يا ولديّ المحبوبين ؛ لأنني أعرف ونيتي وأخاف من أن يكون كافة الناظرين إليَّ ؛ ومطوبي ورعي الكاذب ؛ يبصقون عليَّ هناك إذا أبصروني متحرقاً بالنار.

أرثِ يارب، أيها المتحنن، المسيح المخلص ؛ الابن الوحيد ؛ لعبدك العاطل لئلا أوجد هناك قدام المنبر واقفاً بخوف وخزي عظيم ؛ وعاراً للمشاهدين أي الملائكة والناس.

أدبني هنا يا مخلصي كما يليق بالأب المتحنن المحب ولده، واغفر لي هناك بما أنك أنت الإله السماوي الغير خاطئ وحدك، فإنك إن لم تيقظ الشقي وتعطيه استنارة قلب ليتوب بلا خجل عن خطاياه، فماذا يصنع هناك إذ لا عذر له ؟

فإذ لم أكن موجوداً على الأرض فجبلتني يا سيدي برأفاتك الجزيلة في جوف أمي الخاطئة، وولدت أنا الغير مستحق برحمتك ؛ وأُهلت أن أصير أناة لنعمتك ؛ ورباباً جليلة تترنم على الدوام كلمات الخلاص لكافة السامعين.

فأخذت هذه الصلاة أنا المسترخي الخاطئ ؛ وأنكرت بتوانيَّ وإرتخائي ؛ لكن نعمتك لا تزال تترنم بفم المتواني ترنيمات بارة ؛ وتنير المعقول المظلم؛ وتحرك فيَّ نغمات ترنيمك أيها المسيح.

فمن أجل هذا أجثو ساجداً لنعمتك أيها الابن الوحيد مخلص نفوسنا ؛ طالباً كما صارت عنا نعمتك فيَّ أنا الغير مستحق كل ساعة استنارة وصيانة ونصراً وفرحاً ؛ أن تسترني هناك تحت أجنحتها من تلك الطائلة المخيفة ؛ وتوقفني في الجهة اليمنى في ملكك ؛ مترأفاً عليَّ ؛ مخلصاً إياي برحمتك ؛ لأسبح وأمجد طول أناتك ؛ لأنك لم تعرض عن عبرات عبدك العاطل الخاطئ.

لك السبح إلى أباد الدهور

آمين

@

المقالة الخامسة عشرة في ذكر الآباء المتوفين

 

يوجعني قلبي فتوجعوا معي يا إخوتي العبيد المباركين، تعالوا فأسمعوا أن نفسي توجعني وجوانحي تؤلمني، أين الدموع ؟ وأين التخشع ؟ حتى أحمِ جسمي بالدموع والزفرات.

من ذا ينقلني ويخلصني من مكان غير مسكون ؛ حيث لا يوجد ألبته صوت أبناء البشر ؛ حيث يكون الصمت وعدم جلبة، حيث لا يكون رهج يقطع الدموع، ولا مفاوضة شعب تعوق البكاء.

فكنت أرفع صوتي وأبكي لدى الإله بعبرات مرة، وأقول بزفرات: أشفيني يارب لكي أبرأ ؛ لأن قلبي يوجعني فوق الإفراط ؛ وزفراته لا تتركني لحظة أن أنال راحة.

لأنني أعاين قديسيك كذهب منتخب، تأخذهم من هذا العالم الباطل إلى نياحة الحياة. بمنزلة الفلاح الفهيم العاقل الذي إذا رأى الأثمار بالغة حسناً يقطعها بإسراع لئلا تضرها عوارض ما وتفسدها.

هكذا أنت أيها المخلص تجمع المصطفين العاملين أعمالهم ببر ؛ ونحن الوانيين والمسترخين بالنية تبقينا في قساوتنا وثمرنا لا يتغير عن ماهيته.

لأن ليس له نية ليبلغ في الأعمال بلوغاً حسناً ؛ ويقطف كما يليق ؛ ويجعل في مخزن الحياة ؛ لأن ثمرنا ليس له دموع لتوصله إلى تناهي البلوغ ؛ ولا تخشع لتتناهى نضارته من نسيم العبرات.

ولا تواضع ليظلله من الحر الكثير، ولا هجر قنية لينتقل من الأمور المضادة، ولا محبة اللـه الأرومة القوية الحاملة الثمر، ولا عدم الاهتمام بالأمور الأرضية، ولا سهر، ولا عقل متيقظ في الصلاة.

فعوض هذه الأشياء الحسنة ؛ والفضائل الصالحة له أضدادها غيظ مذموم، وغضب ييبسان الثمر لئلا ينمو فينتفع به، وكثرة قنية، والضجر العظيم ينقلانه إلى أسفل.

هذه المصائب كلها تشتمله ؛ ولا تتركه ينتهي إلى البلوغ كما يليق ليستوي ؛ ويصلح لصاحبه الفلاح السماوي.

ويلك ويلك يا نفس تكلمي وأبكي إذ فقدت بسرعة الآباء الكاملين ؛ والنساك الأبرار.

أين الآباء ؟ أين الكاملون ؟ أين القديسون ؟ أين المستفيقون ؟ أين المتيقظون ؟ أين المتواضعون ؟ أين الودعاء؟ أين الصامتون ؟ أين الساكتون؟ أين المتورعون ؟ أين العادمون القنية ؟

أين المتخشعون المرضو اللـه الذين كانوا يقفون في الصلاة النقية قدام اللـه كملائكة منيرين يبكون حتى يبلوا الأرض بعبرات الخشوع الحلوة ؟

أين المحبو اللـه الموعبو محبة ؛ الذين لم يقتنوا شيئاً على الأرض ؛ بل حملوا صليبهم ؛ وأتبعوا المخلص أتباعاً دائماً ؛ وسلكوا في الطريقة الضيقة متأملين حذرين أن يسقطوا في الهفوات.

أو في برية غير مسلوكة ؛ وفاقدة الماء ؛ ومظلمة ؛ بل سلكوا طريق الحق الممهد ؛ طريق وصايا الرب ؛ سائرين في الطريق المملوء استنار ؛ إلا وهو أوامر المسيح ؛ خادمين اللـه بسيرة حسنة وبحرارة، حزناء باختيارهم في العالم الباطل.

فلهذا أحبهم اللـه جداً ؛ وضمهم إلى ميناء الحياة ؛ وإلى الفرح الخالد وليستبشروا هناك ؛ ويتنعموا في فردوس النعيم ؛ وفي خجلة الختن الباقي ؛ لأنَهم ساروا من هنا بفرح إلى الإله القدوس ومعهم المصابيح معدة.

فليس فينا نحن فضيلة أولئك ؛ ولا نسكهم؛ ولا حميتهم ؛ ولا مسكهم؛ ولا ترتيبهم ؛ ولا ورعهم ووداعتهم وتخشعهم ؛ ولا زهدهم في القنية ؛ وليس لنا سهرهم، وليست فينا محبة اللـه ؛ ولا تحنن الإله ؛ ولا تألم الأعضاء.

لكننا متنمرون غير مستأنسين، ولا يحتمل بعضنا بعضاً ألبته، فألسنتنا هي محمية ؛ نتكلم بِها على بعضنا البعض، كلنا نلتمس الكرامة ؛ ونؤثر التشرف ؛ ونبتغي الراحة لأنفسنا ؛ ونحب القنيات.

نحن مسترخون غير مثابرين على الصلوات، أقوياء في الهذيان وفي الدوران غير خاضعين، ضعفاء في السكوت، نشيطون إلى التنعم، مقطبون في الحمية والمسك، باردون في المحبة، حارون في الغضب، عاجزون في الصالحات، حرصون في السيئات.

ترى من لا ينتحب، من لا يبكي على محبتنا الموعبة رخاوة، إن أولئك الآباء إذ صاروا قبلنا مرضين للرب خلصوا أنفسهم، ما كانوا متراخين، ولم يتخذ الكاملون فكرين لكن فكراً واحداً وهو كيف يخلصون.

وكانوا مرآة صافية للناظرين، وكان الواحد منهم يستطيع أن يبتهل إلى اللـه من أجل أُناس كثيرين ؛ واثنان منهم إذا وقفا أمام اللـه في الصلوات النقية كانا يقدران أن يستعطفا الإله المتعطف كما يليق عن ألوف أناس.

ويلك يا نفس في أي زمان أنت.

ويلنا يا أحبائي إلى أية حمأة المساوي بلغنا ؛ ونحن نريد أن ينكتم أمرنا؛ ولكون ناظر النفس لا يتيقظ من كثرة العمي والتنزه فلذلك لسنا قادرين أن نتأمل الحزن المنصوب.

وها الآن الأبرار والصديقون يختارون ؛ ويجمعون إلى ميناء الحياة ؛ لكي لا يعاينوا الحزن والشكوك التي تتبعنا من أجل خطايانا.

كان أولئك ينتحبون ونحن نتناعس، أولئك يجمعون ونحن نتناوم، أولئك يحفظون ونحن ننجذب إلى العالم الباطل، أولئك يذهبون إلى اللـه بدالة ونحن نتنزه على الأرض.

حضور الرب قد وقف على الأبواب ونحن نتشكك ونتقسم، الصوت السماوي متهيئ أن يبوق بأمر الرب ويزعزع الكل بصوته المفزع فينهض الموتى ليستوفي كل أحد نظير عمله.

قوات السماوات مستعدة وقوفاً في مواكبهم ؛ أيوافوا بتقوى أمام الختن إذا جاء بمجد في سحب السماء ليدين الأحياء والأموات ؛ ونحن غير مصدقين.

أترى كيف نكون يا إخوتي في تلك الساعة المخوفة ؟ كيف نعتذر إلى اللـه هناك عن توانينا في خلاصنا ؟ إن لم نحرص الآن ونبكي بوقاحة ونتوب توبة حسنة بتواضع نفس ووداعة كثيرة، فكم كل واحد منا مزمع أن ينتحب في ضغطته ؟

وإذا تندم يقول بدموع غزيرة: ويلي أنا الخاطئ، ماذا داهمنى بغتة ؟ كيف عبر عمري وغاب عني بالجملة ؟ كيف سُرق زماني أنا المتنزه الطموح ؟ أين تلك الأيام الهادئة التي قضيتها في التنزه حتى أتوب بمسوح ورماد ؟ لكن لا ينتفع من كثرة هذه الأقوال.

وإذا  شاهدنا القديسين يتطايرون بمجد في السحب ؛ سحب الأهوية لاستقبال الرب ملك المجد ؛ ونعاين ذاتنا في ضغطة عظيمة. ترى من منا يستطيع أن يحتمل ذلك الخزي والتعيير المض ؟

فلنفيق يا إخوتي ؛ فلنستفق يا أحبتي، ولنتيقظ أيها المحبو اللـه، ولننهض يا خلان اللـه.

أيها الأولاد المحبوبون من الإله الآب، لنصغين إلى ذاتنا ؛ ولنجمعن أفكارنا قليلاً من هذا العالم الباطل ؛ ولنبحث أمام اللـه بعبرات غزيرة متضرعين بوقاحة وحرص وزفرات قلب ؛ لينجينا من النار التي لا تطفأ، والعذاب المر، لئلا نفارق السيد الحلو الذى أحبنا وبذل ذاته على الصليب من أجلنا.

وأنا غير المستحق الخاطئ، أتضرع إليكم وأطلب إلى جماعتكم ؛ أن تذرفوا من أجلي دموعاً في صلواتكم وطلباتكم النقية ؛ طالبين لي التخشع لأبكي معكم ؛ وليستضئ قليلاً قلبي الأعمى.

وأطلب إلى الإله المخلص القدوس ؛ لكي ما يعطيني نشاطاً وحرصاً فأتوب ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع ؛ وأخلص معكم.

يا إخوتي أنا غير مستحق الحياة، يا أحبتي أطلب إليكم أن تقبلوا استغاثة إفرآم الخاطئ أخيكم المسترخي ؛ ولنحرص كلنا أن نستغفر الإله القدوس ما دام لنا زمان ؛ لأن ها الرب قد وقف على الأبواب ليفني العالم الباطل.

وله السبح إلى الأبد

آمـين

 

@ فصل @ عن جهاد الآباء الابرار

 

هذا هو اليوم المتقدم والمشرف ؛ فلنسبح بتشريف أسرار الابن الوحيد ؛ ولنصرخ بالتسبيح في الكنيسة التي هي عروس المسيح ؛ مشيدين بانتصار الآباء الأبرار ؛ ولنرتل مدائح القاطنين القفر ؛ واصفين جهاد الذين تركوا المدن ؛ وآثروا بشوق أن يسكنوا البرية لمنفعة كافة الذين يسمعونه ؛ لكي بصلوات الآباء الأبرار ؛ وبصلوات السامعين يخلص المتكلم.

لأن الآباء الأبرار لم يبتعدوا منا إذ اشتقنا إليهم ؛ ولم نفارق جلالهم كأنَهم غرباء عنا لأنَهم يبتهلون دائماً من أجل هفواتنا.

وليسوا ذوي مقامات دنيئة بل مشرفون ولا حقيرين بل مكرمون، ولا فاقدي العلم بل علماء لأنَهم كانوا معلمين لكل الناس بأعمالهم الصالحة لأنَهم كانوا قد تعلموا من سيدهم أن يجولوا الجبال مغتذين كاغتذاء الوحوش.

كانوا تامين مملوءين عدلاً ؛ وإذ صاروا أعضاء الكنيسة لم يفصلوا أنفسهم من الرعية لأنَهم أولاد الاستنارة المقدسة ؛ ولم ينقضوا الناموس بل حفظوا الكهنوت ؛ وحفظوا الوصايا ؛ ولم يقاوموا الشريعة بل كانوا حارين في الأمانة.

وحين كان الكهنة المكرمون يقفون قدام المائدة المقدسة يقربون الخدمة كانوا هم أول من يمدون أيديهم فيقبلون بأمانة جسد السيد الذي كان معهم دائماً.

كانوا كحمام طائر في العلاءِ، نصبوا مساكنهم في الصليب ؛ تائهين في مواضع مقفرة كالغنم.

فحين سمعوا صوت الراعي عرفوا في الحين سيدهم الصالح، كانوا تجاراً قد خرجوا يلتمسون الدرة النفيسة، كانوا مجتهدين مختبرين في جهاد العبادة الحسنى.

أصغوا إلى مسامعكم ؛ أميلوا آذانكم حتى أصف لكم سيرة الآباء القاطنين البرية، أجمعوا فكركم وسافروا به معنا إلى وسط الصقع المقفر فسنشاهد هناك عجباً عظيماً ؛ ومجداً ؛ ولنذهبن في طرفة فنسطر رسوماً صالحة وعجيبة رسوم سيرتِهم.

فإن الشوق إليهم يضطرني كثيراً أن أذهب فأعرف من كنوز سيرتِهم، وأرهب أن أتقدم إليهم سراً ؛ وإذا حضرت عندهم ولو مدة يسيرة وأراهم يحنون ركبهم ليبتهلوا إلى اللـه ؛ يستطيعون أن يجعلوني أنا الموجود الضعيف متأيداً متوطداً.

إذا مدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء ؛ يقوموا نطقي لكي ما أمدحهم بأمانة، إذا تضرعوا يقف معقولي ثابتاً ويفرح بوداعتهم، وكذلك لساني يتلذذ إذا تنغم بوصف سيرتِهم.

إذا سكب واحد منهم سحابة دموع عن هفواتي فللحال يستجاب له، أولئك القديسون شابَهوا المسيح نفسه، واقتنوا البيوت في البرية لأنه لا يمنع من كنوزه الصالحة الذين يقصدونه في الساعة التاسعة والعاشرة ؛ بل يعطيهم أولاً بما أنه سيد صالح كإعطاء الأجرة للفاعل الذي عمل في الساعة الحادية عشرة في كرمه بنشاط ؛ فقد فتح المخزن والغنى يعطي للمريدين أن يتقدموا ويتسربلوا بالمجد الذي كانوا يلتمسونه دائماً.

فلنتخذ رسماً حسنة شريفة ؛ ونصير مشابِهين لسيرتِهم، فمن يريد أن يحرص ويذهب فيلبس الحلة التي لهم ويستغنى بثروتِهم.

ومن قام عندهم يبدأ في الحين أن يعطي للذين يسألونه طلباتِهم، لأنَهم يعطون لكافة من يسألهم، ويمنحون الكل المواهب التي اقتنوها.

فلنتقدم فنأخذ منهم عطية نفيسة صلاة وترتيلاً، نأخذ محبتهم التي هي أشرف وأرفع من جواهر كريمة وزبرجداً شريفاً، وعوض اللؤلؤ فلنأخذ أمانتهم القوية المشرفة التي من أجلها صاروا تائهين في الجبال والآكام والمغائر والثقوب.

هب لي يارب قوة وتأييداً للساني لئلا ينغلب من تعب سيرتِهم ولأصف شيئاً من جهادهم البهي، فلهذه الحال إذا نَهضنا فلنطرح أسلحة الشيطان ونعطف قلبنا ونجعل لنا أجنحة حمامة ؛ ونطير فنبلغ حتى نشاهد سيرتِهم.

لأنَهم تركوا المدن وضوضاءها ؛ وتاقوا إلى الجبال والبراري أكثر منها، فنمضي فنشاهد مساكن أولئك، وكيف هم جالسون كالموتى في القبور، نذهب فنعاين تنعم الذين يتنعمون بفرح بين الجبال.

نمضي فنبصر الماقتين للعالم والمؤثري التصرف في البراري أكثر جداً، نذهب فنشاهد أجساد أولئك كيف قد تسربلت بشعورهم، نمضي فنعاين مسوحهم التي لبسوها بسرور ممجدين اللـه، نذهب فنشاهد وجوههم كيف بتقطيبها قد ضاعفوا بِها نفوسهم.

نمضي فنبصر الملائكة معهم مهللين ومرتلين بسرور جزيل ؛ نذهب فنشاهد طاساتِهم الممزوجة بدموعهم، نمضي فنبصر موائدهم مملوءة دائماً من البقول البرية، هلموا فلنبصر حجارة أولئك التي يضعونَها تحت رؤوسهم.

فلنذهب ونأخذ من شعور القديسين ؛ لنتخذ السيد متعطفاً علينا، إن شاهدهم لص يجثوا ساجداً لأنَهم متدرعوا الصليب دائماً.

إذا أبصرت الحيوانات الوحشية مسوحهم ؛ للحين تبتعد منهم ناظرين عجباً عظيماً، كل ما يدب يدوسونه بأرجلهم ؛ لأنَهم لابسون ومحتذون أمانة العدل.

إذا أبصرهم الشيطان في الحال يفرق منهم ويعج بتوجع هارباً في الحين، لأنَها تكسرت ربوات فخاخ نصبها وراءهم ؛ ولم يمكنه بالجملة أن يضرهم لأنَهم لم يكونوا مسترخين مثلنا نحن الجهال بل منتصبون بشهامة في محاربة العدو إلى أن سحقوه تحت أقدامهم إلى النهاية، وسحقوا أفكاره واغتيالاته، ولم يجزعوا من كافة حيلة.

فكان إن أراهم غنى لم يعتدوا به شيئاً بل يحتقرونه ويطئونه كالصخرة، لأن الغنى كان لهم في السماوات مع الملائكة القديسين.

والجوع ما كان يحزنَهم لأنَهم كانوا يغتذون من خبز المسيح النازل من السماوات القدسية، إن العطش لم يلهبهم لأن المسيح كان لهم في أنفسهم وفي لسانَهم عين الحياة. لم يستطع الخبيث أن يزعج فكراً واحداً من أفكارهم ؛ لأنَهم وضعوا أساس أمرهم على الصخرة.

وقطنوا المغائر والكهوف كأنَهم في القصور المزخرفة، والجبال والروابي التي كانت تكتنفهم كانوا يؤثرونَها بمنزلة أسوار عالية، وكانت الأرض والجبال لهم مائدة، وعشائهم كانت الحشائش البرية، ومشربَهم اللذيذ الماء من الأودية، وخمرهم الماء من ثقوب الصخور.

وكانت لهم كنائس ألسنتهم التي بِها كانوا يكملون صلواتَهم الاثنتا عشر ساعة التي يشتمل عليها النهار، كانت لهم صلاة إلى سيدهم، والتمجيد الذي كانوا يرتلون به في الجبال والمغائر كان يقدم إلى اللـه ذبيحة حسنة مقبولة. هم كانوا كهنة لأنفسهم.

ويشفون بصلواتِهم أمراضنا لأنَهم شفعاء لنا كل حين،لم يعقلوا رؤيات عالية، ولا كانوا يلتمسون التصدر في المجالس لأن شرفهم كان التواضع. صاروا مشابِهين للسيد المسيح الذي تمسكن من أجلنا نحن الأشقياء.

لم يعطوا أنفسهم نياحاً في العالم إذ كانوا منتظري النياح الذي هناك.

فلنصيرن متشبهين بالقاطنين في الجبال ؛ ومشاركين لسيرتِهم، لأن أولئك كانوا جائلين مع الوحوش كأنَهم وحوش، وكالطيور كانوا يطيرون في الجبال، يرعون كالآيلة مع الوحوش الوحشية.

ومائدتِهم كانت مستعدة دائماً ؛ لأنَهم كانوا يرتعون العشب الأخضر والحشائش بمداومة ؛ جائلين في الجبال كسروج واضح ضيائها، وكان الذين بشوق كثير يقتربون إليهم يستضيئون بضيائهم.

كان الآباء الذين في البرية سوراً منيعاً ؛ فلذلك أي موضع كانوا يسكنونه يجعلونه أميناً أنيساً، إلى أي صقع انتهى واحد من الآباء يصير جميع الموضع الذي يحيط به أنيساً موعباً سلامة.

كانوا يتطايرون إلى الروابي نظير جمع الحمام ؛ ومثل النسور في الجبال الشامخة، لا يتنعم رؤساء العالم بالقصور والسقوف المذهبة كما يسر هؤلاء بالجبال والمغائر، وربما الملك يضيق به البلاط أما هؤلاء فواسعة عليهم ثقوب الأرض ورحبة كثيراً.

الثياب الشعرية التي لبسها الآباء الأبرار وابتهجوا بِها أكثر من الملابس البرفيرية ؛ فهذه رثت وبليت، والمسح من أجل صبر الآباء القديسين بُجل ووقر، لأنَهم رفضوا الكبرياء وآثروا التواضع الجزيل، مقتوا كل شرف العالم الباطل ؛ وها هم يشرفون من كافة الناس من أجل غزارة تواضعهم ووداعتهم.

فالملوك ما اقتنوا مثل هذه الراحة ؛ نظير الراحة التي أقتناها الآباء في البرية، لأن المسيح كان بَهجتهم، رعوا في البرية الحشائش كالوحوش كانوا ينتظرون الفردوس المطرب.

إذا ضعفوا من الجولان في الجبال كانوا يضجعون على الأرض كأنَهم في نعيم لذيذ، إذا ناموا كانوا يقومون بإسراع كأنَهم أصوات أبواق ملوكية يسبحون المسيح المشتهى، وكانت مواكب الملائكة معهم دائماً وتحصنهم وتحفظهم كل وقت، ونعمة السيد كانت معهم سرمداً.

ولم يخدعهم العدو، وحين كانوا يحنون ركبهم يصنعون قدامهم طيناً وينشدون من عبراتِهم غدراناً، إذا ختموا تسبيحهم يقوم السيد وعبيده يخدمون مرادهم.

إذا حلك الظلام ؛ في الحين يرفعون أجنحتهم ؛ ويطيرون في كافة المسكونة، لأنَهم لم يكن لهم مسكن ظاهر ؛ لأن مسكن الآباء القديسين الحقيقي هو عدن، حيث تغرب لهم الشمس هناك يحلون، وحيث ما يلحقهم الليل هناك يجعلون منزلهم.

ما كانوا يذكرون قبراً ؛ لأنَهم كانوا موتى ؛ وإنصلبوا للعالم بالشوق إلى المسيح ؛ لأنه حيث كان أحدهم يسكن يصير له ذلك الموضع قبراً.

وكثيرون منهم إذا أحنوا رؤوسهم في الصلاة ؛ تنيحوا بِهدوء أمام السيد، آخرون استندوا إلى صخرة ؛ وسلموا نفوسهم إلى سيدهم، آخر بينما كان يتمشى في الجبال مات وصار له الموضع قبراً ومدفناً معاً.

آخر دفن ذاته بارتسام الشكل فقبض بنعمة سيده، آخر بينما كان يرعى خضرة السيد نعس فتوفى في مائدته، آخر حين كان واقفاً في تلاوة التمجيد خطفت منه نعمة نسمته.

آخر بينما هو واقف في الجبال مرتلاً ومتضرعاً ختم الصلاة بنفسه، كانوا منتظرين النهاية القدسية، الصوت الذي ينهض فيزهرون كالأزهار الفائحة نسيم الطيب.

إذا أمرت الأرض أن تبرز الموتى يينعون في الحين ويزهرون كالسوسن الأبيض، وحينئذٍ السيد عوض العمل الكثير والتعب الذي احتملوه من أجل محبة المسيح يعطيهم الحياة الدائمة سرمداً.

وبدل شعورهم يمنحهم إكليلاً مضفوراً شريفاً، وعوض المسوح التي شقوا بلبسها يعطيهم حلة العرس المجيدة، عوض الحشائش وضيقة الماء يصير لهم المسيح مطعماً ومشرباً، وبدل ثقوب الأرض التي سكنوها يمنحهم المسيح الفردوس المعظم، ولكونَهم لم يأثروا أن يكون لهم حِرز في العالم هو يخول لهم السرور العظيم.

أنه غير ممكن أن نوضح بالكلام الفرح الجزيل الذي يحصل فيه كافة القديسين ؛ الذين باختيارهم حزنوا وضيقوا على أنفسهم في هذا العالم، الذين ناصبوا وجاهدوا الآلام النجسة ؛ وغلبوا العدو ؛ وحفظوا وصايا الإله العلى.

فلذلك يطوب الملائكة القديسين ؛ ويقولون لهم: مغبوطون أنتم الذين من أجل شوق المسيح دبرتم مركبكم تدبيراً سديداً في الأرض بفطنتكم ؛ وبغزارة صبركم، وقومتم وصايا المسيح السيد الصالح بحق.

فلذلك وصلتم إلى الميناء الصاحي واتخذتم المسيح الذي تُقتم إليه، نَسر معكم أيها المغبوطون لأنكم نجوتم من فخاخ العدو ؛ وجئتم إلى المسيح الذي كللكم وصرتم وارثين ملكه، وحين يرى الخبيث نفسه مغلوباً يجلس فينتحب ويقول ببكاء:

الويل لي أنا الشقي ؛ وماذا أصابني أنا المُحطم ؟ كيف غُلبت ؟ أني أنا سبب هذا الأستخزاء، لأني أنشأت معهم الحرب بإلحاح كثير، ولما هُزمت من  المعركة الأولى والثانية كان يجب أن أفطن أن المسيح معهم.

فالآن إذ حاربت القديسين العجيبين فازداد ثوابِهم بذلك وغُلبت، فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ملطخاً رأسي بالدماء من جراحاتي ؛ لأنني نصبت الفخاخ لاقتنصهم ؛ فأخذوها وكسروا بِها رأسي، ونشابي الحاد الذي أرسلته إليهم تناولوه بدهاء وقتلوني به.

أنا حاربتهم بآلام مختلفة ؛ وهزموني بقوة الصليب، فبواجب تألمت بِهذه أنا الجزيل الغباوة، إذ أوضحت المجاهدين بغير اختياري مدربين مختبرين، لأنه كان سبيلي أن أرتدع من آلام المسيح لأنه هدم كافة قوتي، كنت عملت كل الأشياء حتى يُصلب ؛ فبموته دفعني إلى الموت.

وهذا الأمر أصابني نظيره من الشهداء؛ إذ صرت عاراً وخزياً وضحكاً، لأنني حركت الملوك، وأعددت لكي ما إذا عاينوها يُذهلون ويجحدون المسيح، فليس أنَهم لم يُذهلوا فقط من آلام العذاب المختلفة بل إلى الموت اعترفوا بالمسيح.

هكذا الآن لما أردت أن أغلب هؤلاء بالقتالات غُلبت فانْهزمت بخزي عظيم ؛ ولن أستطيع أن أحمل العار الذي حل بي أنا المتشامخ بالعظائم، تحطم عزي وكافة اقتداري من أناس حقيرين.

أما بعد فلست أعلم ماذا اصنع أو بماذا أعتذر، إن الحقيرين والأميين قد أخذوا إكليل الظفر وأنا الشقي احتضنت بالخزي، أظلميت تحيرت نفذت قوتي.

ماذا أعمل أنا الشقي ؟ وماذا أصنع ؟

فأهرب إذاً من هؤلاء المجاهدين الشجعان ؛ وأذهب إلى أصدقائي المتوانيين بنيتهم ؛ حيث لا يكون لي تعب ؛ ولا أحتاج لحيل.

لأنني آخذ منهم رباطات وأشدهم بِها ؛ وإذا قيدتَهم بالقيود التي يسرون بِها يكونون فيما بعد تحت يدي ؛ ويحصلون لي مثل عبيد، ويعملون دائماً مشيئتي باختيارهم.

وإذا غلبتهم أعود إلى ذاتي قليلاً مفتخراً كبطل ظافر ؛ فإنَهم وإن كانوا يسقطون إلى الهوة لكن مع هذا أتلذذ أنا بِهلاكهم، وأسر إذا اقتدتَهم إلى طريق التهلكة ليكونوا لي مشاركين في النار التي لا تطفأ.

فإذ قد عرفنا يا إخوتي ضعفه ؛ فلنصغين إلى ذاتنا مغايرين الآباء ؛ فإنَّا إن سلكنا الطرق التي سلكوها ؛ فسنجد فيها يسوع المسيح مرشداً وموازراً إيانا ؛ فإذا أبصر العدو معنا المسيح النور الحقيقي فهو لا يجترئ بالجملة أن ينثني بنظره إلينا، لأن النور الذي فينا يعمي عينيه.

وكما تقدمت فقلت لكم أيها الإخوة المحبون للمسيح أقول: احرصوا بنا أن ننقي قلوبنا حتى نجذب إلينا معونة نعمة المخلص حتى لا يقتدر العدو علينا، لأن السفهاء الأغنياء يرومون أن يعطوه قوة علينا بإبعادنا من اللـه بمخالفتنا وصاياه المقدسة ؛ ليجدنا العدو عراة من النعمة ؛ فيقتادنا ويرشدنا إلى طريقه.

فأتضرع إذاً وأتوسل إليكم دائماً ؛ أن نَهرب من الخبيث مبتعدين منه ؛ ولنحل ونفك القيود التي قيدنا بِها باختيارنا ؛ ملتجئين إلى المسيح حاملين نير تحننه الصالح الخفيف ؛ حتى إذا سلكنا في طرق وصاياه الصالح نصل إلى المدينة التي أعدها اللـه للذين أحبوه. ويليق المجد والكرامة وعظم الجلالة بالآب والابن والروح القدس ؛ إلى أبد الدهور. آمين.

 

 

@

المقالة السادسة عشرة في كيف تبتهل النفس إذا جربها العدو

 

أيها السيد القدوس ؛ قد تقدمت إليك نفس حزينة متضرعة إليك بعبرات لتنقذها من العدو المفسد ؛ ساجدة لك بتواضع ؛ مستغيثة بك من المعاند الذي يحزنَها.

فإذ قد دنت إليك بوقاحة أستجب لها سريعاً، وإذ قد لجأت إليك بشوق فتعاهدها باهتمام، فإنك إن أعرضت عنها هلكت حزينة، وإن أبطأت عن استجابتها فنيت بالحضرة، فإن تفقدتَها من أجل رأفاتك فقد ظفرت ؛ وإن أقبلت بناظرك إليها خلصت، إن استجبت لها تأيدت.

أيقظ الغيرة من أجلها لأنَها خطيبتك، لأن الذي خطبها لك هو بولس الرسول، لا تعرض عنها لئلا يتخذها العدو.

أيها السيد أدبني برأفاتك ؛ ولا تسلمني إلى أيدى المفسد ؛ فإننى هاأنذا قد جمعت أفكاري من كل جهة، فلم أجد شيئاً صالحاً أذكره قدامك سوى هذا فقد، أنني لست أعرف آخر سواك.

إن نعمة أشفيتك هي لا يقدر عرضها ولا يحصى ؛ وتمنح الشفاء لكافة المتقدمين إليك، لأن جراحاتي برأفاتك تشفى ثم يعاودها الوجع من أجل ونيتي، في حال صحتي أنسى الطبيب فينساني في مرضي لأن خطاياي تتعبك.

وأنا أعلمك إذا رحمتني أغيظك ؛ ولا أنسى أنك تتحملني من أجل تحننك، لأن الأم المتحننة إذا خالفها طفلها لا تحتمل أن تعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت كذلك فكم أولى بتحننك.

وها يا سيدي تحننات الطائر مسكوبة على فراخه ؛ وفي كل ساعة يفتقدها ويقدم لها طعاماً ؛ ويغذيها بتعب لأنه يغلب من تحنناته، فإن كانت المخلوقات العديمة النظر لها مثل هذا التحنن ؛ فكم بالحري نعمتك أن تغلب ربوات أضعاف من قبل تحنناتِها ؛ فترحم المقبلين إليها والطالبين إياها بالحقيقة.

وها أيضاً عين الماء مملوءة مياهاً تنبع بلا انقطاع ؛ وتمنح المقبلين إليها ماءها بلا حسد ؛ وهي غير محتاجة إلى المدائح البشرية لأنَها ليس لها أن تمدح على ذلك بل الذين ينالون منها يمدحونك بِها، لأنه من البين أن من أجل إحسان نعمتك تمنح تلك العين مشروبَها.

فها قد شاع ذكر عين لجة رأفاتك التي لا يمكن اختبارها ؛ أنَها بلا حسد تروي القوات السمائية والبرايا التي على الأرض ؛ مدبراً كل نسمة وأنت غير محتاج إلى مديح وتمجيد سائر المخلوقات، لأنك لم تزل ممجداً بجوهر عظمتك وعظم جلالك.

إن محبتك تائقة لخلاصنا، فأمر بِها إلينا لكي ما إذا مجدناها نتعظم وننال مجداً، لأنني موقن أن محبة نعمتك تعتنق وتقبل المقبلين إليها.

وبما أنك لم تزل عالماً بعلم سابق ؛ فتتقدم وتعرف قلب المقبل إليك إن كان خلع العالم بالكلية ؛ فقبل أن يصل إلى الباب تفتح له، وقبل أن يجثو ساجداً تناوله يداً، قبل أن يفيض دموعاً تقطر عليه رأفاتك، وقبل أن يعترف بجرائمه تعطيه الغفران.

ولا تقول له كيف أجزت زمانك ؟ أين أفنيت وقتك ؟ ولا تطلب كتاب خطاياه، ولا تتذكر إغاظة توانيه، ولا تعير إنكاره إحساناتك.

لكنك تتقدم فتبصر التواضع والبكاء وسجية القلب ؛ وتَهتف أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه إياها، اذبحوا العجل المسمن للفرح والسرور ؛ ليحضر الملائكة ويفرحوا معنا بوجود الابن الضال ؛ وعودة الوارث الضائع ؛ وبمنزلة تاجر عائد من سفره بغنى جزيل.

هكذا نعمتك تقبل المقبل إليها من كل نفسه، لأنَها تتوق أن تبصر الدموع ؛ وتعطش إلى معاينة التوبة ؛ وتسر بحرص الحريصين أن يتوبوا.

فأوضح إذاً فيَّ تحننك الجزيل ؛ وأرثِ لي ؛ وارحمني من محاضرة المفسد فإنه بعد أن جرحني وقف يستهزئ بي.

فكما تقدم التلاميذ في البحر وأيقظوك ؛ وبصوت فمك المبارك انقطعت زوبعة الريح ؛ وسكن اهتياج البحر، هكذا أستجب لعبراتي فإنَها نَهاراً وليلاً تيقظك.

إن الأطباء تعبوا أثنتا عشر سنة ؛ ولم يستطيعوا أن يشفوا نزف المرأة السقيمة ؛ بل سببوا لها وجعاً زائداً ؛ وكل ما لم يكن لأولئك منحته لها ؛ وبمقدار ما شهروها إنَها لم تبرأ صحتها ؛ منحتها شفاء بلا وجع.

لأنَها رجت أن تكتم أمرها عنك ؛ فتقدمت سراً ودنت على هدب ثيابك، تقدمت لا لتلتمس جسدك الأقدس بل لتلمس لباسك وحده ؛ فمنحتها البرء وأرحتها من الخجل من أطباء كثيرين.

فأرح نفسي الحزينة من تعير محزني العدو، أيها الطبيب المتحنن أظهر في أعضائي حكمتك الجزيلة ؛ وأجعل جراحاتي غير مدنسة ؛ وألمع فيها نور جمال الفضيلة، ولتكرز نعمتك إنَها هي نجتني.

أيها الخروف غير الخاطئ الذي ذُبحت عن خلاص المسكونة، وصنعت الصلح بين السماء والأرض ؛ لا تطرحني فإنني بوقاحة أقبلت إليك، ولا تحاكمني بما احتملته من أجلي في ذلك اليوم المرهوب المرعب.

فإنك ستقول بلا محالة لنا نحن الخطاة: أما قد عرفتم ما صبرت عليه من أجلكم ؛ كنت غير مرئي فشوهدت منكم، كنت غير مائت فحوكمت من أجلكم، كنت بلا تبعة فلطمت من أجلكم، وكمال ذلك أنني صلبت فما سخطت، وأستهزئ بي فما لعنت.

فأنا السيد لم أزل أعلى من كل الخطايا والزلات احتملت كل هذه ؛ وأنتم المجرمون ماذا احتملتم من أجلي ؟.

فمن أجل هذا ليس لأحد منا اعتذار، أذكر يا سيدي أن هذه كلها من أجل تحننك وصلاحك وعدلك اصطبرت عليها من أجل تقويماتنا، فكما سُلمت من أجلنا وأنت الصالح القدوس الغير خاطئ، وأنت الآن أيضاً هو لأنه لم ينتقل تحنن لاهوتك الطبيعي ولم يتغير.

أما نحن فكنا منافقين وأشراراً ؛ والآن خطاة وضعفاء ؛ فالموهبة التي وهبتها لنا بتحننك لا تنتزعها منا ؛ لأنك لو كنت افتديتنا من أجل برنا لكنت الآن إذ أخطأنا تسخط وتنتزع نعمتك، فكنا نقول بواجب إنك افتديتنا من أجل برنا.

والآن إذ أخطأنا ابتعدت منا والحال إننا كنا منافقين والآن خطاة، فالموهبة التي حبوتنا بِها من أجل تعطفك على البشر ثبتها لنا إلى النهاية.

أما أنا يا سيدي فبنفس مغمومة أصرخ إليك ؛ وأتضرع إليك من أجل عدوي فإنه قد آذاني، انظر يا سيدي وصر لي رجاء، وأخزِ المجربين فإنَهم في كل ساعة يذهلونني.

يسرقوني ولا أعلم ؛ ينزهوني ويعيقوني لئلا أتخشع من الاستغاثة بك ؛ لأنَهم قد عرفوا أنني إن هتفت إليك بدموع لا تبعدني.

ويلي أي مصارع لي في المقام، والغبطة لي أي منقذ لي ومعطي جائزة في الجهاد.

أما ملك الحيات والوحوش الردىء فهو مهلك ردىء في كل حركاته بنظره وبمروره، وهذا الثعبان في الأمرين كلاهما أخبث منه كثيراً في مصارعته وفي وقاحته.

فبالقوة الإلهية التي قلبت العصى إلى ثعابين أزجر هذا الثعبان ؛ فإنه بوقاحة يجىء إليَّ، فاحتمال وقاحة صراعه تذخر للصابرين كنزاً نفيساً، والحزن الذي يحتملونه من تَهويلاته يجعل لهم تطويباً محيياً ؛ لأن فرح هذا الدهر موعوب حزناً. فأما الحزن والتنهد يسببان سروراً وحياة خالدة.

أيها السيد أنا كل حين أسقط وأمرض ؛ لكن نعمتك كل حين تفتقدني وتشفيني، ولئن كل ساعة أنكر صلة أشفيتها، إذ أشفية نعمتك لا ثمن لها ولا قيمة، تمنحها مجاناً.

وإذ كنت بالدموع تَهبها، فهب لي بعبراتي أشفية نفسي ؛ لأن أمراً بيناً واضحاً عند الكل، إن الدهر يضاهي موقف الجهاد، والثعبان القوي يجتهد أن يغلب الكل، فيغلب من قوم ويداس، ويغلب قوماً ويطأهم.

وأناس في مصارعتهم ينغلبون وقوم بالصراع يكللون، وأناس بمرارته ينالون حلاوة الحياة الدائمة، وقوم بحلاوته ورخاوتَهم يكتسبون مرارة العذاب الأبدي.

قوم بتناهيهم في عدم القنية يقهرونه بسهولة، وقوم من أجل اشتمالهم بالأمور الأرضية والتفافهم بِها يقهرون.

فالذين يحبون اللـه من كل نفوسهم ؛ محاربته ليست عندهم شيئاً، أما الذين يحبون العالم فمحاربته عندهم مستصعبة وغير محتملة، فمغبوطون الذين يحبون اللـه ؛ وبمحبته يحتقرون كل الأشياء.

مغبوطون الذين يبكون نَهاراً وليلاً لينجو من الرجز المستأنف، الطوبى للذين يواضعون ذاتَهم باختيارهم فإنَهم هناك يُرفعون.

الطوبى للمساكين وذوي الحمية فإن فردوس النعيم ينتظرهم، الطوبى للذين صاروا طوعاً هيكلاً للروح القدس فإنَهم عن الميامن يقفون.

الطوبى للذين صلبوا ذاتَهم ؛ فإن دراستهم قد صارت في ذكر اللـه نَهاراً وليلاً، الطوبى للذين منطقوا أحقائهم بالحق ؛ ومصابيحهم معدة ؛ ويتوقعون ختنهم متى يأتي العرس.

مغبوط المقتني أعيناً عقلية لمعاينة الخيرات العتيدة والعذاب المؤبد ؛ وحرص أن يتعب لينال الخيرات الخالدة، الطوبى لمن نصب أمام عينيه تلك الساعة المرهوبة دائماً وحرص أن يرضي اللـه ما دام توجد ساعة.

الطوبى لمن صار على الأرض بلا ألم مثل ملاك ليمكنه أن يبصر مع الملائكة المطربات التي في العلا ؛ ويتفطن الأسرار التي فوق ؛ ويتذكر الأمور التي في العلا ؛ وينطق بالأمور التي فوق.

ويعمل الأعمال التي في العلا، ويتجر ويستفاد الفوائد التي فوق، ويتلو الخيرات التي في العلا.

ولا يميل إلى الأمور التي أسفل حيث لذات وشهوات هذا الدهر الباطل الحامل الموت، وأمر حسن أن يبصر بناظر القلب لئلا يسقط شيء في حدقة العين، إما فكر خبيث أو شيء آخر من الأشياء التي لا ترضي الإله السيد وتظلم العقل.

لكن أسمع معي أيها القارئ ما أقول: ماذا لنا نتفكر فيه دائماً ؟ لنا الملائكة، لنا رؤساء الملائكة، لنا القوات، لنا الأمجاد التي للربوات، لنا الشاروبيم، لنا السارافيم، لنا ذاتنا، لنا الإله سيد الكل الاسم الفائق الجود الأقدس.

لنا الأنبياء، لنا الرسل، لنا الأناجيل المقدسة أقوال الرب، لنا الشهداء القديسون المعترفون الآباء القديسين البطاركة، الرعاة الكهنة، السماوات وكل البرايا التي فيها.

أفتكر في هذا وتفطن فيها ؛ فتصير ابن السيد الإله. بنعمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد. آمـين

 

@

المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشر واستعداد النفس للدينونة

 

هلموا يا إخوتي فأسمعوا مشورة إفرآم الخاطئ الفاقد الأدب ؛   فها قد بلغ إلينا يا أحبتي ذلك اليوم المخوف المرعب ؛  ونحن بما أننا متوانون نتنزه غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ؛ ونحرص أن نستغفر اللـه ؛ لأن الأيام والشهور تعبر كمنام، ومثل ظلال مسائي ليوافي بإسراع ورود المسيح المرهوب العظيم ؛ لأن ذلك اليوم بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة اللـه ويخلصوا.

فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح هنا الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ لأن كافة الأشياء تزول كلها وتبيد، لا ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها من هنا، لأن كل واحد مزمع أن يحمل أقواله وأعماله قدام مجلس قضاء الحاكم المقسط.

فالقلب يرتعد والكليتين تتغيران إذا صار هناك إشهار الأعمال وتحقيق الفحص عن الأفكار والأقوال ؛ خوف عظيم يا إخوتي ؛ رعدة عظيمة
يا خلاني، من ترى لا يرتعد من لا يبكي من لا ينتحب، لأن هناك تُشهر الأفعال التي عملها كل واحد في السر والظلمة.

أفهموا يا إخوتي هذا المعنى الذي أقوله لكم ؛ إذ أمنح مودتكم إقناعاً حقيقياً.

الأشجار المثمرة من باطنها تبرز الثمر مع الورق في أوان الإثمار، ولا تكتسي الشجر من خارجها جمالها حسن بَهائها لكن من باطنها بأمر اللـه تينع الثمر، كل واحدة منها بطباعها.

هكذا في ذلك اليوم المرهوب تبرز كافة أجسام الناس، وتينع كل الأشياء التي عملتها إن كانت صالحة أو خبيثة، ويحمل كل واحد قدام مجلس قضاء الحاكم المهول عمله كثمر، وكلامه كورق.

فالصديقون يحملون ثمراً جيداً ومطرباً، القديسون يحملون الثمر العطر نضارته، الشهداء يحملون فخر اصطبارهم على العذابات والعقوبات، النساك يحملون النسك والحمية والسهر والصلاة.

والناس الخطاة المدنسون المنافقون يحملون هناك ثمراً قبيحاً متهرياً ؛ ويكونون مملوءين نحيباً وحزناً وعبرات حيث دود لا يرقد ونار لا تخمد.

مهول يا إخوتي مجلس القضاء لأن كافة الأشياء تظهر بغير شهود، الأفعال، الكلام، الأفكار، النتائج، وبمحضر الماثلين ربوات ربوات، وألوف ألوف، ملائكة ورؤساء ملائكة، الشاروبيم والساروفيم، الصديقون والقديسون، الأنبياء والرسل، الجماهير التي لا تحصى.

فلِمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ. حين يبدي الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور.

فلو عرفنا يا إخوتي ما أستعد لنا لبكينا كل حين في النهار والليل متضرعين إلى اللـه أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة، لأن فم الخاطئ ينسد أمام الموقف، والبرية كلها ترتعد، ومواكب الملائكة القديسين ترهب من ذلك المجد مجد وروده.

ماذا نقول له يا إخوتي في يوم الدينونة إن توانينا في هذا الوقت ؟

لأنه هو تمهل وجذبنا كلنا إلى ملكه، وسيطالبنا بجواب عن التواني في هذا الزمان اليسير.

فيقول لنا بذاته: من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض ظاهراً جهاراً، من أجلكم جُلدت، من أجلكم بُصق عليَّ، من أجلكم لُطمت، من أجلكم صُلبت مرفوعاً على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سُقيت خلاً لكي أجعلكم قديسين سمائيين.

وَهَبت لكم الملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس، سميتكم إخوة لي، قربتكم إلى الآب، أرسلت إليكم الروح القدس، فأية أشياء أكثر من هذه لم أصنعها لتخلصوا أنتم، سوى أني لست أشاء أن أقتسر النية لكي لا يكون لكم الخلاص بشدة وإلزام.

قولوا لي أيها الخطاة والمائتون بالطبع، ماذا أصابكم من أجلي أنا السيد المتألم من أجلكم.

فها الآن قد أستعد المُلك والجائزة والنياحة والفرح، العذاب الخالد في ظلمة قصوى، فأين ما شاء كل واحد يسلك في ذات سلطانه.

هلموا فلنسجد له باتفاق، ولنبكِ كلنا أمام الرب الذي خلقنا قائلين: يا سيدنا هذه كلها إنما صبرت عليها من أجلنا بما أنك إله، ونحن بما أننا خطاة نجحد كل وقت إحساناتك، وأنت بما أنك لم تذل إلهاً لابدَّ لك بالطبيعة غير مدرك بلا لوم غير محتاج.

أثرت بألم صليبك أن تخلص مجاناً الخطاة الذين لم يعرفوك، وأعطيتهم نور المعرفة بك، فبماذا نجازيك نحن جنس الخطاة ؟ وبماذا نكافئ الإله الذي لا يدرك الصالح المتحنن ؟ نحن الذين صرنا بالنية منافقين لا بالطبيعة، لأنه من قبل أن نخلص كان جنسنا منافقاً.

ونحن الآن بعد هذه الإحسانات كلها خطاة بالنية، أنت أيها السيد كل حين صالح ومتحنن ومرهوب وممجد ؛ خالق الدهور محتمل منذ القديم صعوبة أمرنا برأفاتك الجزيلة التي أوضحتها فينا نحن البشر، فغلبت من محبتك ورأفاتك وعانقت الصليب من أجل خلاص المسكونة كلها.

فهذا لائق أن يقال من قبل نعمتك أمام مجدك، لأنه لو لم تغلب أيها المسيح من قبل تحنناتك، لما كنت بذلت ذاتك ذبيحة وقرباناً عن الخطاة.

قد شبع عقل عبدك أيها السيد، وامتلأ من حلاوة نعمتك البهية ؛ ومحبتك النفيسة، فلذلك أيها المحب للناس فيما هو يزداد حلاوة، ويستنير متواتراً، ويتأيد دائماً، يخالف كل حين ويعود وينتقل إلى مرارته غير مؤثر أن تكون له حلاوة سيده دائماً.

أيها الابن الوحيد الجنس، يا شعاع الآب الساكن في الضياء الذي لا يدنى منه، النور الذي لا يدرك، المنير كافة المسكونة، أضئ الناظر المظلم الذي فيَّ، لأنه قد خفي فيَّ ناظر مظلم فائضة بنعمتك ورأفاتك لئلا يدلهم العدو الغاش، لأن عقلنا المريض يضاهي النصبة الجديد نصبها التي تحتاج إلى سقي الماء دائماً.

هكذا ذهننا هو ضعيف مريض محتاج بلا انقطاع إلى الاستنارة من نعمتك، قولك يارب فتح عين المكفوف منذ مولده، عجب عظيم صار أيها السيد بسلوام، إذ الضرير حين أبصر بعينيه الجسدانيتين، أضاء ناظر ذهنه للحين ليبشر بلا خوف بخبره إنه إله الكل.

أضئ أيها السيد أعين قلبنا لنحبك، ونكمل بشوق مشيئتك دائماً، وإذ عين سلوام نائية عنا بعيداً، فها كأس دمك الرهيبة موعوبة نوراً وحياة فهبها لنا للفقه وللاستنارة.

فلنتقدم إليها بأمانة وشوق وقداسة، لتصير لنا تمحيصاً للخطايا لا للدينونة، لأن من يتقدم للأسرار الإلهية بنفس غير مستحقة يشجب ذاته، إذ لم ينظفها ليقبل الملك في حجلته.

فنفسنا هي عروس مقدسة للختن الذي لا يموت، والعرس هو الأسرار الإلهية، مأكولة بتقوى ومشروبه بجزع في النفس المقدسة.

فأصغِ إلى ذاتك حافظاً حجلتك بلا دنس، وكن مشتاقاً أن تقبل الختن السمائي المسيح الملك، لكي في يوم وروده يصنع فيك منزلاً مع  أبيه، فيكون مديحاً كبيراً قدام الملائكة ورؤساء الملائكة القديسين، وتدخل إلى الفردوس فرح عظيم.

أيها الأخ ماذا يلتمس اللـه منك سوى خلاصك، فإن توانيت ولم تؤثر أن تخلص، ولم تسلك في طريق اللـه الممهدة، ولم تشاء أن تكمل وصاياه، فإنك تقتل نفسك، وتُخرج ذاتك من الخدر السمائي.

فإن الإله القدوس والغير خاطئ وحده لم يشفق من أجلك على ابنه الوحيد، وأنت يا شقي لا ترحم ذاتك.

فُقْ من نومك قليلاً يا مسكين، أفتح فمك مستغيثاً به، أطرح عنك ثقل الخطايا، ارحم نفسك، تضرع دائماً، أبكِ متواتراً، أهرب من الاسترخاء، أمقت الخبث، أرفض الرذيلة، حب الوداعة، تُقْ إلى الحمية، أدرس الترنم.

أحرص أيها الأخ ما دام يوجد وقت، حب اللـه من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلاً للـه فيسكن فيك الإله العلي، فإن النفس الحاوية اللـه في ذاتِها هي هيكل للـه مقدس ونقي، تخدم فيها الأسرار العالية الإلهية أي مجد اللاهوت ويتبادر إلى افتقادها موكب الذين لا أجسام لهم.

فمنذ يسكن الرب في النفس، فالملائكة السمائيون يبتهجون بِها، ويحرصون أن يوقروها لأنَها هي هيكل سيدهم.

مغبوط الإنسان الذي أحبك من كل قلبه، ومقت العالم والأشياء التي فيه كلها ليقتنيك وحدك أيها الإله الكلي الطهارة، الدرة النفيسة، كنز الحياة.

فمن أحب اللـه هكذا حباً صافياً، وذهنه ليس على الأرض بل في العلا أبداً، حيث أحب واشتهى أن ينال، من هناك يتحلى، من هناك يستضىء، ومن هناك يشبع من محبة اللـه، بالحقيقة هي مملوءة سروراً وحلاوة، ومغبوط من ذاقها.

فمن يستطيع أن يصف حلاوة محبة اللـه وصفاً كما يجب، فإن بولس الرسول الذي ذاقها وشبع منها يهتف قائلاً: لا العلو بما معناه الذي فوق، ولا العمق الذي أسفل، ولا هذه الحياة نفسها، ولا الموت المنتظر، ولا جماعة الملائكة الرؤساء والسلاطين، ولا خليقة أخرى، فهذه كلها لا تستطيع أن تفصل من محبة اللـه النفس التي ذاقت حلاوته.

نار لا تموت، محبة اللـه في النفس المشتاقة إليه، فإنَها تجعل حواسها متلألئة الضياء، فترفعها من الأرض لتبغض الأرضيات وتعاين الإله الذي أحبته.

والشهداء والقديسون يعلموننا الذين ذاقوها وتملوا منها، أن محبة اللـه قيد لين ناعم، ولا يمكن السيف ذو الحدين أن يقطعها، فالأمراء قطعوا أعضاء القديسين، فأما محبتهم فما استطاعوا أن يقطعوها.

يا لقيد محبة اللـه الناعم الذي لا يمكن أن يفك، إن المحبة لا يقطعها سيف، ولا تطفئها نار.

قطعوا الأعضاء والمحبة ما صرموها، حرقوا الأعضاء وقيود المحبة لم يفكوها، حرقوا أجساد القديسين أيضاً ومحبتهم لم يحرقوها، قيدوا أعضاء الأبرار ولم يقيدوا محبتهم.

من ماذا ترى لا يتعجب من قيد المحبة اللين الترف الذي لا ينقطع قط ولا ينفك أبداً، من أحب اللـه حباً صافياً فقد أقتنى مثل هذه المحبة، لأن هذه المحبة أعطاها المسيح لكنيسته أن تتزين دائماً بِهذه المحبة، لأن هذه المحبة عربون اللـه للنفس.

المحبة قاعدة راسية في النفس القديسة، هذه المحبة أنزلت الابن الوحيد إلينا، بِهذه المحبة تأنس الإله، بِهذه المحبة شوهد من لا يرى، بِهذه المحبة فُتح الفردوس، بِهذه المحبة قُيد القوي، بِهذه المحبة صارت النفس عروساً للختن الذي لا يموت، لكي ترتأي حسن نَهاية في ذاتِها دائماً.

من أجل هذه المحبة تألم الختن الطاهر الذي لا يتألم، لأن النفس إن كانت مصفرة من المحبة لا يرضى بِها السيد السماوي، ولا يشاء أن يظهر بالكلية اختيار نيتها.

فلذلك خولها سلطاناً دفعة أن تسير دائماً كما تشاء وترتأي، أفترى من يستطيع ومن يكون كفواً أن يمجد ويسبح الإله المخلص عن الموهبة التي أخذناها كلنا بنعمة اللـه. المجد والسجود لمسرته.

فإذ قد سمعتم يا إخوتي مشورة حقارتي النافعة، فلنحرص دائماً ما دام لنا زمان أن نسير بطهارة، وبما هو أهل للـه ليسكن فينا الروح القدس، وتتكاثر محبة اللـه فينا، مكملين مسرته كل حين.

لا نقتني يا إخوتي سوى هذا الاهتمام، وهو أن نجد نفوسنا في النور، وأن لا نطفأها بأحد الأمور الأرضية، والهموم العالمية، والقنية والأموال.

ولنزينها بالصلوات والأصوام والأسهار والدموع، حتى تجد النفس دالة يسيرة أمام منبر المسيح المرهوب، حيث تقف النفوس كلها بخوف، حيث يصير تمييز المختارين من الخطاة، ويقف الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار.

فأيقنوا يا أولادي أن ورود المسيح قريب ليعطي كل واحد نظير عملة، ويسكن مختاريه في الضياء والسرور الخالد، والخطاة الذين أغاظوه يقطنهم في الظلمة.

فمغبوط الإنسان الذي يجد في تلك الساعة دالة ويسمع ذلك الصوت السعيد القائل: تعالوا يا مباركي أبى، ويا جماعة مختاري رثوا مملكتي.

حينئذ يشاهد كل واحد ذاته في النور، ويتأمل بذاته مجداً لا يقاس قدره، فيتعجب متفكراً في ذاته قائلاً: أترى أنا هو، فكيف وجدت هكذا أنا الحقير مستحقاً.

وحينئذ تتقدم الملائكة بسرور يشرفون القديسين ويمجدونَهم ويشرحون ويصفون لهم سيرتِهم، وهي النسك، الحمية، السهر، الصلاة، الفقر الاختيارى، هجر القنية الكامل، الصبر في العطش، الثبات في الجوع، الدوام في الصلاة، الفرح في العري من أجل المحبة التامة التي للمسيح.

تقول هذه الملائكة للصديقين بفرح، فيجيبهم الصديقون قائلين: يوماً واحداً من أيامنا على الأرض لم نصنع فيه تقويماً حسناً.

فتذكرهم الملائكة أيضاً بالموضع والوقت، فإذا تعجبوا في ذاتِهم يمجدون اللـه ناظرين أجسام القديسين ألمع من النور، لأنَهم حزنوا على الأرض باختيارهم، وبصبرهم خبئوا فيهم الدرة النفيسة، وصنعوا لهم حلة لا دنس فيها للعرس.

وجدوا في الحقل كنزاً، فباعوا كل الموجودات التي لهم على الأرض، واقتنوا ذلك الكنز.

تعب النسك قليل يا إخوتي، والراحة عظيمة، تعب النسك زمان قصير، وراحته في جنة النعيم إلى أبد الدهر.

فمن عرف ذاته أنه أخطأ إلى اللـه، وتراخى بنيته، وأخطأ عمداً، فما دام يجد زماناً؛ فليبكِ باشتياق، ولينتحب بلا انقطاع، ليجذب الدموع إلى قلبه سروراً، وليقتنِ تخشعاً، ويحمِ جسمه بالدموع والزفرات.

هل اختبرتم يا إخوتي الدموع ؟ هل استضاء أحدكم بنعمة الدموع من أجل اللـه ؟

فأيقنوا يا إخوتي أن ليس على الأرض ألذ حلاوة من الفرح والتخشع في تلك الساعة.

إذا صلي الإنسان ورأى الإله جالساً في قلبه دائماً، من منكم أختبر هذا، أو أستطعم الدموع حين صلى بارتياح وشوق، وأرتفع من الأرض وصار بجملته خارج الجسم، أليس يصير خارج هذا الدهر كله، ولا يكون على الأرض، لأنه يناجي الإله نفسه، ويستضئ بالمسيح، ويتقدس بالروح القدس.

يا إخوتي عجب عظيم أن يخاطب إنسان ترابي في صلاته الإله الذي لا يُرى، مغبوط الرجل الذي له كل وقت تخشع من أجل اللـه.

التخشع يا إخوتي هو شفاء النفس، الخشوع هو استنارة النفس، التخشع يفيد دائماً غفران الخطايا، التخشع يجذب إليه الروح القدس، الخشوع يُسكن فينا الابن الوحيد إذا صبونا إليه، وإني لخائف أن أصف لكم اقتدار الدموع.

حنة بالدموع أخذت من اللـه صموئيل النبي بسمو وفخر لقلبها، المرأة الخاطئة في منزل سمعان أخذت من المسيح غفران خطاياها حين بكت وبلت رجليه المقدستين.

عظيمة قوة الدموع وتقتدر كثيراً، الدموع التي من أجل اللـه تُجلى دائماً النفس من الخطايا، وتنظفها من الأثام، العبرات تمنح دالة لدى اللـه القدوس، والأفكار الدنسة لا تقدر قط أن تقارب النفس الحاوية التخشع.

فماذا ترى يكون أعلى سمواً من هذه الحلاوة ؟ وأي شيء يكون مأثوراً أكثر من تطويبها إذا ما حوت الإله الذي تصلي وتبتهل إليه ؟

أيها الإخوة إذا صبت النفس إلى اللـه تبصره دائماً في صلاتِها وتدرس في الليل والنهار، التخشع هو كنز لا يُسلب، النفس الحاوية التخشع تفرح فرحاً لا ينطق به، وقلت التخشع لا يوماً واحداً فقط بل إنما أعني التخشع الصائر دائماً باطناً في النفس ليلاً ونَهاراً.

التخشع في النفس هو كعين صافية، تسقي أغصانِها المثمرة فيها، وقلت أغصانَها المثمرة، أعني بذلك الفضائل التي تسقى دائماً بالدموع والزفرات، فتثمر ثمراً رائقاً نضارته في نفسك نافعاً أبداً.

فلتكونن غروسك مختارة وبَهية، أسقِ أيها الأخ غروسك بلا انقطاع مبتهلاً بدموع حتى إذا سقيت تنمو وتثمر يوماً فيوماً، لا تصر متشبهاً بي أنا المسترخي الخاطئ الذي أقول كل يوم ولا أعمل ألبته.

لا تصر هكذا متوانياً بنيتك مسترخياً باختيارك، فإنه لا يكون لك خشوع ولا صلاة نقية، فأنني أعرف نفسي كل حين خاطئاً، وأنا متخوف دائماً من الدينونة المنتظرة، وليس لي اعتذار عن جرائمي.

فأطلب إليكم يا إخوتي القديسين الخائفين من اللـه، والعاملين دائماً الأفعال التي ترضيه، أن تشفعوا إليه عني أنا الحقير لتوافي إليَّ نعمة بصلاتكم، وتخلص نفسى في تلك الساعة المخيفة المرعبة إذا جاء المسيح ليكافئ كل واحد نظير أعماله.

المجد للإله وحده القدوس الذي لا يموت، الصالح المرهوب الطاهر المتحنن، الجاعل لساننا الحقير بنعمته مترنماً بألفاظ العدل والمحبة والتخشع لإبتناء النفس، وإنارة القلب، ومنفعة الذهن، حتى تتحلى النفس بتلاوة هذه الأقوال، وتجتذب إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح.

الذي له المجد والعز والقدرة الآن ودائماً

وإلى آباد الدهور

آمين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت

 

إن سيرة الصديقين لبهية ؛ وكيف صارت بَهية جميلة إلا بالصبر، فحب الصبر أيها العابد بما أنه أم الشجاعة، أما المترنم داود فطوب قائلاً: ” أصطبر للرب وأحفظ طريقه “. وأما بولس فيعلم كيف تقتنى هذه الفضيلة بقوله: ” إن الحزن يصنع صبراً “.

فإذا تصرفت في هذه الفضيلة تجد الرجاء ينبوع الصالحات، والرجاء لن يخزى، فأخضع الآن للرب، وتضرع إليه، فتصادف من هذه ما يتلوه فيعطيك كافة مسائلات قلبك.

فماذا يكون أسعد غبطة من هذا، أن تقتني سمعاً من الملك هكذا صارخاً بوداعة، من ذا لا يؤثر أن تكون مسامع القاضي مفتوحة وسامعة له، أنت أيها الأخ فاعل الفضيلة أستأجرك المسيح لكرمه فما دام لك وقت أعمل الصلاح.

أسمع بولس الرسول قائلاً: ” مهما زرعه الإنسان إياه يحصد “. أزرع في الروح فتحصد حياة أبدية، لأنه زعم من يزرع في جسده من جسده يحصد بلاء.

أسمع الواعظ النصوح قائلاً: ” ازرعوا في ذاتكم العدل فتقطفون ثمر الحياة “.

لا تسأم من العمل إذ تشاهد قدامك الرجاء، لأنه حيث الجهادات فهناك رايات الغلبة، وأين ما تكون الحروب فهناك الكرامات، وحيث ما يكون الصراع فهناك الأكاليل، فإذ تشاهد هذه الفوائد فروض نفسك بالصبر.

أصرخ مع ذاتك كل حين مع القديسين قائلاً: تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب. هيئ للانصراف أعمالك وأستعد في الحقل، فالحقل هو هذا العالم، خذ مثالاً نافعاً العهد العتيق والعهد الجديد.

سيج حول قطعانك بالأشواك، متكاتفاً بالصوم والصلاة بالتعليم إن كان لك مثل هذا السياج، فلا يدخل الوحش أعني المحال.

فلح نفسك مثل كرم جيد، وكما أن محافظي الكروم يصفقون بأيديهم ويزعقون بصوتِهم ويُعرِّفون بذلك الذين يغتالونَهم، كذلك أهتف أنت بالصلاة، وكبر بالترنيم، فتطرد الثعلب الوحش الخبيث الذي هو المحال، الذي عنه يقول الكتاب: ” اقتنصوا بذاتكم ثعالباً صغاراً…. الخ “.

صد العدو كل حين، إن رشق قلبك بشهوة قبيحة، إن رمى بمقلاع نفسك، وزج فيها أفكاراً دنسة، فأنصب نحوه ترس الأمانة، وألبس خوذة الرجاء، وأستل سيف الروح الذي هو قول اللـه، وإذا تسلحت مقابل العدو فأصبر ولا تسأم في الحرب.

فُقْ في كل شيء، وقل: أنا لا تخفى عني معقولاته، أفرح في كل حين كما كتب قائلاً: فليعرف كافة الناس دعتكم، وليبرق تقوى اللـه في قلبك. لا تكن جندياً طارحاً سلاحه، ولا فاعلاً جباناً وعاجزاً. لا تَهرب من الأكاليل، فالعمر قصير والدينونة طويلة، تبصر في هذه أيها العابد.

أصرخ بقلبك وقل مع القديسين: “تشجع وليتأيد قلبك وأصبر للرب”.

شابه داود برميه حجر واحد مع المحارب، فالملائكة وقوف يبصرون سيرتك. لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والناس، فإن رأوك تقوِّم الفضيلة ظافراً يُسرون، وإن رأوك مغلوباً ينصرفون مقطبين، لأنَهم لا يحتملون أن يشاهدوا الشياطين يقهقهون عليك.

أخرط عوض السيف مخافة اللـه، لأن خشية اللـه هي كسيف ذي حدين يقطع كل شهوة خبيثة.

فأتخذ في عقلك كل وقت خشية اللـه، متذكراً في عقلك اليوم الأخير المخوف، حين تضطرم السماوات وتنحل، وتحترق الأرض وكافة الأعمال التي فيها، حين تنتشر النجوم كالورق، والشمس والقمر يظلمان، ولا يمنحان ضوءهما.

حين يظهر ابن اللـه وينحدر من السماوات إلى الأرض، وقوات السماوات تضطرب حين يتسارع إحضار الملائكة، وتتواتر أصوات الأصوار، وقدامة نار محرقة جارية عدواً تنظف المسكونة، وحوله زوبعة شديدة حين تصير زلازل مرهبة، وبروق لم تصر أبداً ولن تصير إلا في ذلك اليوم، حتى قوات السماوات يشملهم الرعب والرعدة.

فكيف مزمع أن نكون يا إخوتي ؟ أية خشية أو أي رعب يشملنا ؟ تأمل يا أخي بني إسرائيل في البرية، أنَهم ما استطاعوا أن يحتملوا الضباب والظلام وخوار الأصوار، وصوت المتكلم في وسط النار، بل أبو أن يزيدهم كلمة.

لأنَهم بالحقيقة ما احتملوا ما كان بازائهم، ومع هذا أنه لم ينحدر بغضب، ولا خاطبهم بسخط بل بتسلية محققاً عندهم أن الذي معهم هو الإله.

أسمع إذا يا أخي إن لم يستطيعوا احتمال وروده الذي كان بتسلية حين لم تلتهب السماوات وتنحل ؛ وما الأرض وما فيها احترقت ؛ ولا ضربت الأصوار شديداً كما يزمع هو أن يتوق ذلك الصور فينبه الراقدين منذ الدهر، ولا ظهرت نار تغسل كافة المسكونة، ولا صار شيء من الخوف العتيد أن يصير، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحتملوا.

فماذا نصنع إذاً، إذا أنحدر بغضب وغيظ لا يقاسان، وجلس على عرش مجده، وأستدعى الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربِها، وكافة الأقطار إلى محاكمة شعبه، ليجازي كل أحد نظير أعماله.

الويل لنا، كيف سبيلنا أن نكون حين نمثل عراة بادية أعناقنا ؛ مزمعين أن ندخل إلى الموقف المرهوب، أفِّ أين حينئذ شجاعة البشرة ؟ أين الجمال المزور الغير نافع ؟  أين التذاذ الناس بالآلام ؟

أين حينئذ الدالة الموقحة الفاقدة الحياء ؟ أين حينئذ زينة الثياب ؟ أين وقتئذٍ لذة الخطيئة النجسة ؟ أين حينئذ المحتسبون أن الزنا بالذكور لذة ؟ أين حينئذٍ الذين كانوا يشربون الخمر على الطبول والأغاني الموسيقية، ولا يعاينون أعمال الرب ؟ أين حينئذ العائشون بالنفاق والتواني ؟ أين حينئذٍ التنعم والبطر ؟. كل تلك عبرت وزالت وانحلت بمنزلة الرياح.

أين محبة الفضة وحب الاقتناء ؟ أين الكبرياء النافرة الإنسانية الرافضة الكل، المحتسبة ذاتِها وحدها أنَها شيء ؟ أين وقتئذٍ الشرف الفارغ الباطل والمجد الإنساني ؟ أين التمرد ؟ أين الملك ؟ أين الرئيس ؟ أين المدبر ؟ أين السلطان ؟ أين المتبدخون بكثرة الغنى ؟ والمتهاونون باللـه ؟.

هناك إذا أبصروا يتعجبون هكذا، ويقلقون ويتزلزلون، ويشملهم الرعب والمخاض كالتي تلد، ويسحقون بريح عاصف.

أين حينئذٍ حكمة الحكماء ؟ أين مكرهم الباطل ؟ اضطربوا وناموا كالسكارى وابتلعت كافة حكمتهم، أين حينئذٍ الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ أين الملتمس هذا الدهر الباطل ؟

يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون إذا طولبنا أن نؤدي جواباً عن الأعمال التي عملناها ؛ إن كانت صغاراً أم كباراً، لأنه على كلمة بطالة سنعطي القاضي العادل جواباً. كيف يجب أن نكون لنجد في تلك الساعة نعمة أمامه ؟ وأي فرح يستقبلنا إذا عُزلنا عن يمين الملك.

كيف نزمع أن نكون إذا سلم علينا الصديقون وصافحونا ؟ هناك يقبلك إبراهيم واسحق ويعقوب، وموسى وداود وباقي الأنبياء، والرسل والشهداء وجماعة القديسين الذين أرضوا اللـه في حياة أجسادهم، وجماعة الذين سمعت هنا سيرتِهم وتعجبت منها وكنت تريد أن تعاينهم، هم يجيئون إليك هناك فيقبلونك ويسلمون عليك مبتهجين بخلاصك.

كيف تكون حينئذٍ ؟ وكيف هو ذاك الفرح الذي لا ينعته وصف، إذا قال الملك للواقفين عن يمينه ببشاشة: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.

فحينئذٍ يا أخي تأخذ ملك حسن البهاء ؛ وتاج الجمال من يد الرب، وتملك مع المسيح، وترث الخيرات التي أعدها اللـه للذين يحبونه، وتكون بلا هم ؛ ولا يذهلك حزن.

تفكر يا أخي ما هو التملك في السماوات، والملك مع المسيح الذي هو معاينة وجهه الأقدس كل حين، وأنه هو يكون لك نجماً، لأنه في ذلك الحين تعطيك الشمس لا أنواراً للنهار كما قال إشعياء، ولا القمر يضئ لك بالليل، لكن الرب يكون لك نوراً أبدياً، والإله مجدك.

أنظر يا أخي أي شرف ومجد قد أعد للذين يتقونه وللحافظين وصاياه ؛ وأفتكر في هلاك الخطاة إذا دخلوا إلى المجلس الرهيب، أي خزي يشملهم أمام القاضي العادل حين لا يكون لهم جواب اعتذار.

أي خجل يكتنفهم إذا افرزوا إلى يسار الملك، أي ظلمة تسقط عليهم إذا كلمهم بسخطه، وأقلقهم بغضبه قائلاً: ” انصرفوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة للمحال ورسله “.

بأي ندب يولولون منتحبين نائحين ؛ مساقين ليعذبوا إلى الدهور التي لا أخر لها، كيف مكان البكاء وصرير الأسنان الذي يفرق منه الشيطان نفسه ؟ كيف جهنم النار ؟ كيف الدود الذي لا يرقد ونفثات السم ؟

ما أصعب تلك الظلمة البرانية، كيف الملائكة الموكلون بعذاب الغير رحومين يعيرون ويقرعون بجفاوة، يزعق المعذبون بدوام وليس من يخلصهم، والرب لا يستجيب لهم.

وحينئذٍ يعرفون أن كل أمور العالم باطلة، والأشياء التي ظنوها هنا مستلذة وجدوها أمر من المر والصدى.

أين حينئذ لذة الخطيئة المسماة لذة كاذبة ؛ لأن ليست لذة إلا مخافة الرب ومحبته، وبالحقيقة هذه اللذة تملأ النفس وتشبعها شحم وسمن.

حينئذ يعرفون ذاتِهم، والأفعال التي فعلوها، ويعترفون أن حكومة اللـه مقسطة قائلين: أننا سمعنا بِهذا، ولم نشاء أن نرجع عن أعمالنا الخبيثة. فلا ينتفعون من هذه إذا قالوها.

ويلي ويلي أنا المقتنص بخطايا لا تقاس، لأنني أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، وقد انحنيت تحتها كما من حمل حديد، وليس لي دالة أتفرس وأبصر علو السماء.

إلى من ألتجئ إلا إليك أيها المحب للإنسان، إلا إليك أيها المحتمل السوء، ألهم ارحمني كرحمتك العظمى، وككثرة رأفاتك أمح أثمي، أغسلني كثيراً من ذنوبي، وطهرني من خطيئتي.

فأنني عارف أثمي، وخطيئتي أمامي كل حين، إليك وحدك أخطأت، وقدامك صنعت الإثم، فإذ صنعته ألتجئ إليك بما أنك عديم الحقد، إياك خالفت، وإليك لجأت من أجل كثرة خيريتك وتعطفك.

وأتوسل هاتفاً أعرض بوجهك عن خطاياي، وأمح كافة آثامي من أجل اسمك، لأن ليس لي شيئاً أقربه إليك، لا عملاً صالحاً، ولا قلباً نقياً، لكنني أثق برأفاتك، وأطرح ذاتي أمامك، لكي ما تجدد فيَّ قلباً نقياً، وتوطدني بروح رئاسي حتى لا أتكردس بسهولة في الخطية بل أعبدك منذ الآن ببر وعدل كافة أيامي، لأنه إياك تسبح كافة قوات السماوات، ولك المجد والعز إلى الدهور.     @@@@@@@

فأطلب إليكم إذاً يا إخوتي، بما أن هذه الأشياء تنتظر، فلنسارع لنكون عنده بسلامة غير مدنسين ولا عيب فينا.

إذا وافتك شهوة خبيثة أو فكر ردىء، فأستل هذا السيف الذي هو التفكر في مخافة اللـه، فيقطع كل قوة العدو.

عوض البوق لك الكتب الإلهية، لأنه كما أن البوق إذا ضُرب يجمع الجند، هكذا الكتب الإلهية إذا هتفت إلينا تجمع أفكارنا إلى مخافة اللـه، لأن أفكارنا مثل الجند الذين يحاربون أعداء الملك.

وأيضاً كما أن البوق إذا ضُرب في وقت القتال يُنهض نشاط المجاهدين الشجعان على الذين يقاتلونَهم، هكذا الكتب الإلهية تستنهض نشاطك إلى الخير، وتشجعك على الآلام.

فلذلك يا أخي كلف ذاتك بكل طاقتك أن تقرأها بمداومة، لتقرع أفكارك التي شتتها العدو برداوة صناعته وسوء حيلة، لأنه ينشئ نتائج خبيثة، وربما يجلب أحزاناً أو رفاهية وسعة كثيرة، لأنه يصنع هذه بمكره وخبثه حتى يغرب الإنسان من اللـه.

لأنه إذا صارع إنساناً بالأفكار، ولا يستطيع أن يقهره ويحطمه، فحينئذٍ يجلب غموماً لكي ما يسود ذهنه ويظلمه، فيجد فسحة أن تزرع المقاصد التي يؤثرها، ويبدي أن يخطر للإنسان فيقول بأقسام: أنني منذ صرت أعمل الخير رأيت أياماً رديئة، فأعمل إذاً المساوئ لكي ما تجئ الخيرات. فحينئذٍ إن لم يكن الإنسان مستفيقاً يبتلعه كالهاوية حياً.

فإن لم يمكنه بِهذه أن يقتسره، يجلب له حينئذٍ السعة، ويعليه ويطغيه بالسعة التي هي أصعب وأشر كافة الآلام، لأنَها تجعل الإنسان متكبراً لا يتقي اللـه، تجذب العقل وتسحبه إلى قعر اللذات. وتصيره أن يجعل في السماء فم التجديف، لأنه قد كتب ” جعلوا أفواههم في السماء “.

هذه تجعل الإنسان لا يعرف اللـه، ولا يعرف ضعف طبيعته، ولا يوم الوفاة، هذا طريق كافة الشرور، من يحب أن يمشي في هذا الطريق يصل إلى أبواب الموت، هذه هي الطريق التي قال عنها الرب أنَها عريضة واسعة مؤدية إلى الهلاك.

فها قد سمعت يا أخي أن العدو يجلب وقتاً سعة ووقتاً غموماً وضيقة، فالشىء الذي يختبر به نية الإنسان ويراها جانحة إليه يحاربه بِها.

فلذلك تيقظ يا أخي بتحرز وحرص دائماً أن تلاصق قراءة الكتب الإلهية، ولا تفصل ذاتك منها، لتتعلم كيف يجب أن تَهرب من فخاخ العدو، وتستدرك الحياة الأبدية.

لأن قراءة الكتب الإلهية تسلي القلب الحقيقي، فلذلك لا تتوانى في نفسك بل ثابر على القراءة والصلوات، وأشتغل بَها ليستضئ ذهنك وتصير تاماً كاملاً لا ناقصاً.

آخرون يتفاخرون بمخاطبة الرؤساء المعظمين والملوك، فأفتخر أنت أمام الملائكة بأنك تخاطب اللـه بالروح القدس بالكتب الإلهية، لأن الروح القدس هو المتكلم بِها.

فأحرص إذاً أن تفاوض الكتب الإلهية، وواظب على الصلوات، لأنه بمقدار ما تخاطب اللـه بِها يتقدس جسمك ونفسك وروحك.

فأعرف هذا أنك تتقدس بمقدار قراءتك واستماعك، وأحرص أن تفاوضها بمداومة، وإن كانت يداك مشغولتين فصلي بذهنك، فإن حنه المغبوطة صلت، فشفتاها كانتا تتحركان فقط، وأما صلاتِها فدخلت في مسامع الرب الصباؤوت، لأنه أعطاها سؤالها.

فلهذا إن كانت يداك مشغولتين، فأتلُ بذهنك، فإن اللـه يستمع من الساكتين.

وإن كنت لا تعرف أن تقرأ، فأذهب إلى حيث تسمع وتنتفع دائماً، فأنه قد كتب: إذا رأيت إنساناً فقيهاً فادلج ( أسرع ) إليه، ولتسحق قدماك درج ( سُلَم ) أبواب منزله.

وهذا يا أخي يفهمه لا الذين يعرفون أن يقرءوا فقط بل والذين لا يعرفون معاني الأقوال التي يقرءونَها.

أحذر أيها العابد أن تتوانى في الموهبة التي مُنحتها من المسيح، لكن أحرص وأطلب كيف ترضيه، وتنال تطويب القديسين، فقد كتب: مغبوطون الذين يفحصون شواهده ويتبعونه بكل قلوبِهم.

وأحذر أن يقطعك العدو إذا عزمت أن تقرأ، إذ يجلب عليك الضجر ويلقيك في تغلبات يسحب بِها ذهنك إلى كل جهة ويقول لك: أعمل هذا الأمر ما دام عمله يسيراً ثم أقرأ بلا اهتمام.

فيبتدئ يخطر لك هذه، ويمنحك نشاطاً في عمل اليد ليشغلك بِها، ويعوقك عن أن تقرأ وتنتفع، لأنه إذا رأى أخاً يداوم القراءة وينتفع بِهذه الحجج وأكثر منها يجتهد أن يعيقه، فلا تذعن له، وصر كالآيل الذي يعطش ويشتاق أن يجئ إلى عيون المياه أي الكتب الإلهية لتشرب منها وتبرد عطشك الملتهب فيك بالآلام.

ولاتركنَّ أن أصف لك المنفعة الصائرة من القراءة، فكما قلت: إذا منحك اللـه أن تعرف منها كلمة لا تُهملها تعبر عنك، بل أتلوها درساً، وأكتبها في قلبك، وأحفظها في حاسة ذكرك غير ممحوة.

فقد كتب: ” أني أتلو حقوقك “. وأيضاً: ” خبأت في قلبي أقوالك لكي لا أخطئ إليك “. وأيضاً: “بماذا يقوم الشاب سبله؟ بحفظه أقوالك”.

أرأيت أيها الأخ أنه بتكرار أقوال الرب يقوَّم طريق الإنسان، لأن من ذا يتذكر أقوال الرب فلا يتقوم، اللهم إلا إن كان غير مختبر وشقي، فمثل هذا لا يذكر بالجملة بل والذى يشعر أنه يذكره ينساه.

ولمثل هذا يقول اللـه: ” لم تُحدث بحقوقي وتأخذ بفمك ميثاقي “. ويأمر أن ينزع منه الشىء الذي يظنه له، فماذا يظن في ماله ؟ يظن أن له أمانة لأنه يدعى مسيحياً، وبأفعاله يجحد ذلك، فهو أشر من الكافر.

فلذلك يأمر أن ينتزع ما له من الروح القدس، الذي أخذه في يوم الافتداء، فيصير ذلك الإنسان بمنزلة جرة نبيذ، ترشح رشحاً كثيراً، وبرشحها تضيع النبيذ.

فكافة الذين يبصرونَها ولا يعرفون الأمر الصائر، يظنون أنَها مملوءة، فإذا فتشت حينئذ يظهر للجماعة أنَها موضوعة فارغة.

هكذا ذلك الإنسان إذا أختبر في يوم الدينونة المهول، وصودف مصفراً حينئذٍ تصير أموره ظاهرة للكل، ونظيره الذين في ذلك اليوم يقولون للملك: أيها الرب أليس باسمك تنبأنا وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فيجيب الملك ويقول لهم: حقاً أقول لكم لست أعرفكم.

أرأيت أيها الأخ أن مثل هذا ليس بالجملة شيئاً، فتذكر أنت إذاً الأقوال التي سمعتها وقوم طريقك، أحذر أن تدع النسيان أن ينحدر فيخطفها من قلبك، أحذر أن تترك الطير الخبيث ينزل فيأكل زرع ابن اللـه، فإنه هو قال: أن البذار هو القول الذي سمعتموه.

أخفِ البذار في بطون الأرض لكي ما يثمر، أي أخفِ قول التعليم في صميم قلبك ليثمر للـه بالتقوى، فإذا قرأت أقرأ باهتمام وتعب، وأعبر في الفصل بثبات كثير، ولا تسر في تقليب الورق فقط، فإن كانت الحاجة ماسة فلا تعجز أن تكرر الفصل مرتين وثلاثة ومراراً كثيرة لتفهم قوته.

وإذا عزمت أن تجلس لتقرأ، فأطلب أولاً إلى اللـه قائلاً: يا ربي يسوع المسيح أفتح مسامع قلبي وناظري لأسمع أقوالك وأفهمها، فأصنع مشيئتك، فأنني ساكن في الأرض، فلا تكتم عني وصاياك. أكشف حجاب عيني، فأتأمل عجائبك من شريعتك، لأنني عليك أتوكل يا إلهي أن تضئ قلبي. نعم يا أخي أطلب إليك أن تبتهل إلى اللـه كل حين هكذا، لكي ما يضئ عقلك، ويوضح لك قوة أقواله.

فإن كثيرين ضلوا إذ وثقوا بذهنهم، وزعموا أنَهم حكماء فحمقوا، وإذ لم يتفطنوا ويفهموا المكتوبات تكردسوا في التجديف وهلكوا.

وإن وجدت في كل قراءتك كلمة مستعجم فهمها، فأحذر أن يعلمك الخبيث أن تقول في ذاتك ليس هكذا المعني كما يذكر هذا القول، لأنه كيف يمكن أن يكون هكذا أو نظيره.

لكن إن كنت تؤمن باللـه فصدق أقواله، وقل للخبيث: أنصرف ورائي يا شيطان فإنني اعرف أن كلمات اللـه كلمات طاهرة فضة محماة مصفاة سبعة أضعاف، وليس فيها شئ صعب ولا معوج، لكنها كلها ظاهرة للذين يفقهون، ومستقيمة لذوي العلم.

وأنا إذ لا فهم لي لست اعرفها، أنا اعرف أنَها مكتوبة بمعنى روحاني لأن الرسول يقول: إن الناموس روحاني.

ثم بعد هذا ارفع طرفك إلى السماء وقل: يارب أنا  أصدق أقوالك ولا أقاومها بل أني أرتضي بأقوال روحك القدوس، أنت يارب خلصني لأجد نعمة أمامك، أنا لست ألتمس شيئاً آخر إلا أن أخلص فقط وأنال رحمتك أيها المتحنن. لأن لك الملك والمجد والعز والاقتدار إلى الدهور. آمين.

أقتنِ السكوت أيها الأخ بما أنه سور حصين، لأنه يجعلك أعلى من الآلام. فأنت تقصد في الاستعلاء، والآلام تروم إحدارك إلى أسفل، فأقتنِ السكوت بمخافة اللـه، فلا تصل إليك كافة نبل العدو ولا تضرك.

الصمت المقترن بمشيئة اللـه هو مركبة نارية من أقتناها يصعد إلى السماء، ويقنعك بذلك إيليا النبي كيف أحب السكوت وتقوى اللـه فصعد إلى السماء. يا للسكوت نجاح العُبَّاد، يا للسكوت السُلَّم السماوي، السكوت طريق ملك السماء، السكوت أم التخشع، السكوت مسبب التوبة، السكوت مرآة ترى الخطايا، موضح للإنسان ذنوبه، سبيل الدموع، والد الوداعة، مسكن للتواضع.

يجيب الإنسان إلى الترتيب السلامي، مقترن بمخافة اللـه، منير الذهن، جاسوس الأفكار، ومحتسب الإفراز، والد كل خير، توطيد الصوم، ومعوق هيام البطن، مسبب المثابرة على الصلاة والقراءة، سكون الأفكار، وميناء صاحي، جاعل النفس بلا اهتمام.

نير صالح ووقر خفيف ينيح ويحمل من يحمله، سرور النفس والقلب، لجام العينين والسمع واللسان.

يا لك من سكون مبغض العربدة وعدو الوقاحة، أم الوداعة سجن الآلام، مؤازر كل فضيلة، مسبب هجر الاقتناء، حقل المسيح المثمر الأثمار الصالحة، مقترن بخشية اللـه، سور وحصن للمريدين أن يجاهدوا من أجل ملك السماوات.

نعم أقتنِ يا أخي هذا الحظ النفيس كما اقتنته مريم ولن ينتزع منها.

أرأيت أيها الأخ ما قدر السكوت، وكيف الرب يمدح من أقتناه، أقتنيه فتتنعم بربك جالساً عند رجليه ملتصقاً به وحده وقل بدالة: لصقت نفسي وراءك وإياي عضدت يمينك، من أجل هذا تمتلئ نفسي كأنَها ممتلئة من شحم ودسم.

أقتنِ هذا السكوت فإنه أحلى من العسل، لأن خبزاً وملحاً في سكوت أفضل من تنضديد ألوان الأغذية الفاخرة بِهم وحزن.

أسمع القائل: تعالوا إليَّ يا معشر المتعوبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.

فالرب يشاء أن يريحكم من الهموم والغضب والأتعاب، وغموم هذا الدهر، يشاء أن تكون بلا هم من عمل لبن مصر، يريد أن يدخلك البرية أي السكوت، ليضئ سبلك بعمود السحاب لكي يطعمك المن أي خبز السكوت وعدم الهم، ويورثك الأرض الصالحة أعني أورشليم التي في العلا.

نعم يا حبيبي حب السكوت وإياه أقتنِ لتتنعم بطرق شواهد اللـه كمن يتنعم بكافة الغنى، أقتنيه بمخافة اللـه فيكون إله السلامة معك.

لأن به يليق المجد والعز الآن وإلى آباد الدهور. آمين.

أطلب إليكم أيها الإخوة المحبوبون من اللـه، أن تحرصوا كل يوم، وتتذكروا هذه التعاليم، متذكري الأمانة الرجاء المحبة التواضع.

اختموا كل حين الصلوات وتلاوة الكتب الإلهية بالسكوت، لأن هذه الفضائل إذا كانت حاضرة عندكم وذائدة فيكم فلا تكونوا في معرفة ربنا يسوع المسيح بطالين ولا غير مثمرين.

والعابد الذي لم يقتني هذه بل يتوانى في خلاصه هو أعمى شحاذ قد أشتمله نسيان خطاياه القديمة، وصح علية المثل أنه كالكلب الراجع إلى قيئه، كالخنزير الذي يستحم ويتمرغ في حمأته.

فإن الذين هربوا من أدناس العالم بمعرفة ربنا يسوع المسيح ويلتفون بِها ويلتفتون ثانياً وينغلبون فقد صارت أواخرهم أشر من أوائلهم، ولقد كان أفضل لهم ألا يعرفوا طريق الحق، أوفق لهم من أنَهم بعد ما عرفوا عادوا إلى ورائهم.

فمنذ الآن يا أحباء المسيح وجنده المصطفين ؛ لنتناول الأسلحة من التعاليم المقدم ذكرها، ونحفظها في قلبنا، لنستطيع أن نجاهد الجهاد النفيس، ونطأ كافة قوة العدو، وننجى من السخط الموافي الذي يحل بأبناء المعصية، ونجد رحمة ونعمة في ذلك اليوم المرهوب أمام القاضي العادل المجازي كل أحد نظير أعماله.

الذي به وحده يليق المجد

إلى آباد الدهور. آمين.

@

المقالة التاسعة عشرة في معرفة الجهاد وهي رسالة بعث بها إلى أولوجيوس العابد

 

أيها الأخ لما نظرت ثمر الطاعة، بادرت أن أكتب إليك عن الأشياء التي أمرتني بتلخيصها.

تقوى الرب ابتداء صالح.

الشيخوخة الحسنة مكرمة في النفس المحبة المسيح.

من يصغِ إلى ذاته في كل مكان يسلم.

من يحب أحاديث العالم، ما بغض العالم.

الحطب يشعل النار ويزيد التهابِها، والأحاديث العالمية تنهض الآلام في قلب العابد.

أيها الأخ إن كنت تؤثر أن تنفع القاصدين إليك، فلا تضر ذاتك.

من يحب محادثة النساء، يستنهض على ذاته شيطان الزنا.

إذا سمع والداك عنك سمعاً صالحاً، يسران أكثر من سرور النبيذ وطرب الخمر.

من يحب السكر ؛ يخسر فوائد كثيرة، وقد قيل أنه يعمل أشياء ما لا يجب افتعالها، ويبدد ثروته، ويُدفع إلى الأعداء مثل غريب لأن السكر أعمى ذهنه.

أيها الأخ صر ورعاً، فإن الورع يولد سجية سلامية، والسجية السلامية تنتج عدم التألم، وليكن ورعك مقترناً بالتواضع، حتى تصير عابداً محقاً، وترث المحبة والعفة.

أيها الأخ إن كثرة الكلام تسود الذهن وتظلمه، وإذا أظلم الذهن أنقاد إلى عدم الحياء، وعدم الحياء هو أم الزنا.

من يحب السكوت يلبث بلا قلق، ولا يغيظ قريبه، أما الضحك والدالة يضران المبتدئ كمضرة السم القاتل، ولا يوافقانه أصلاً، لأن الرب إنما طوب الذين يبكون وينوحون.

إن انغلاب العابد أن يسمع دفعتين على المائدة: أسكت.

حب الصمت يا أخي ؛ ليثبت الورع عندك.

أحفظ التورع ؛ ليصونك من الزنا.

من يجاوب الرئيس ولا يخضع له، فلا يبطئ أن يتكردس في المساوئ.

من يطع وعظ من هو أكبر منه، يسر مع الصديقين.

من يفتخر بقوته، يبعد عن ذاته معونة اللـه. أما المفتخر فليفتخر بالرب.

من يحب الشغب الذي يشغل الذهن، ويبغض السكوت، يحزن حزناً كثيراً. ومن يسكت بتواضع، يسر الرب.

من لا يقدم اختبار الوقوف في الصلاة الجامعة بثبات، يخسر فوائد كثيرة، ومن يقف بتورع وصبر، يستجاب له.

من يتكلم كلاماً باطلاً في أوان الصلاة الجامعة يحصل له لوم مضاعف، لأنه يبطل من الصلاة والترتيل بالكلام.

من يفاوض، يسبب لذاته خسارة.

من يحب النسك، سيكون متوافر القوة. ومن يحب السكر، يثبت في لا شيء.

من يبغض العمل، فذاك فضولي هو، لأن البطالة تسبب شهوات كثيرة، ومن يحب العمل، يبقى بلا حزن.

من يفتخر بجسامة شأن والديه، فذاك غير مختبر، لأنَهما في مصاف القتال لا ينفعانه.

أكرم أيها الأخ الصغار والكبار ليعليك الرب، لأن من يواضع ذاته يُرفع. ذلل رأسك للرئيس وللمتقدمين في رفقة الإخوة، أخضع بالرب فإن ثمر الخضوع مخافة اللـه، والتواضع لا يظهر بأن تتواضع لمن هو أعظم منك شأناً بل بمنح الإكرام للصغار الأدنياء جداً.

فقد كتب: ” أنا أشرف الذين يشرفونني، ومن يستحقرني يهان “.

فنحن فلنشرف اللـه لكي ما يشرفنا مع جماعة قديسيه، وبماذا نشرفه؟ بحفظ قول وصاياه، لأنه قد كتب: “ليس ملكوت اللـه بكلام بل بقوة” وأيضاً: ” ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات “.

فقبل كل شيء أيها الأخ أتقِ اللـه بالحقيقة فإن تقواه يضئ عيني ذهنك، حب التواضع فإن التواضع الذي من أجل اللـه هو سور لا ينقب قدام وجه العدو، وصخرة مصادمة تكسر حيل الشيطان ونشاب الخبيث المحمي.

إن وضعت في فكرك أن تصبر من أجل الرب على السب والخسارة والازدراء ستكون كمحارب بطل مشتمل بالسلاح دائماً على المقاومين، وإذا رآك حينئذ أعداؤك متخذاً مثل هذا الحرص يتساقطون من قدام وجهك.

إن شئت أن تحاضر بلا تعب، فأحفظ طهارة جسدك مع المحبة، لأن المحبة هي أم الفضائل، والطهارة مصباح وعضد لها، إن السكوت نور الفضائل، وسورها مخافة اللـه.

فلنحفظ الآن أيها الأخ طهارة جسدنا بمخافة اللـه ليحصينا الرب مع ملائكته القديسين، لأن من يحب الطهارة، يسر به الروح القدس، ويعطيه الصبر.

فالطهارة إذاً تقوم بالحمية والوداعة والسكوت بمحبة.

فلذلك نحتاج أن نبتعد عن كل أخ يسلك سيرة غير مرتبة، لئلا نمنح الذين يبصروننا وهماً، لأن الرسول يقول: ” نتقدم فنفطن برؤيات حسنة أمام الرب والناس، فإن كان أحد يحب السجس فنحن ليس لنا مثل هذه العادة ولا لكنائس اللـه “.

فلهذا يجب اضطراراً أن نقبل عظات الناس المتقين الرب، ولا نرضي ذاتنا كما يعلمنا القائل: ” كل واحد منكم فليرضي قريبه في الخير لإبتناء منفعته “. وأيضاً حتى يخجل المنتصب بإذائنا، ولا يكون له أمر طالح يقوله عنا لأن رب المجد قد قال: ” فليشرق نوركم هكذا أمام الناس ليعاينوا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات “.

ولا نضيع القداسة بحجة المواساة، فإن للعدو عادة مثل هذه أن يبدل بالخير الشر، لأن من يخطئ ويفتكر أن يكتم ذلك يطغي ذاته، لأن ليس شئ خفياً لا يشتهر.

إن أخطر لك العدو شهوة بشرية فقل له: حاشا لي أن أُحزن الروح القدس الذي خُتمت به يوم الافتداء. فإنه قد كُتب: ” كل خطية يصنعها الإنسان هي خارج جسده، أما من يزني فإلى جسده يخطئ “.

أما القتال الصائر بالذهن، فقد عرفته بعض المعرفة، لأن أخاً قال له أخ: أن الأفكار الدنسة تقلقني.

فأجابه: أن الشيوخ القديسين قد أمروا قوماً أن يتركوا الأفكار كي تدخل إلى داخل وحينئذ يقاتلونَها، أما الضعفاء كثيراً فأوصوهم أن لا يناجوها ألبته، لكي لا بدوام الفكر يصعب ألم شفائه.

فقال حينئذ الأخ: وما معنى أن تترك الأفكار تدخل إلى داخل، وحينئذٍ تقاتل ؟ فقال له: أسمع متى أحضر العدو لأحد فكراً قبيحاً أو فكراً دنساً، في الحين تقيم له في الذهن امرأة جميل وجهها، أو أحد الأشياء التي تفضي إلى الفساد، فإذا رأى المحارب ذلك بالذهن، لا ينزعج من مثل هذه الأفكار بل ينتصب مقابلها، ويحارب بشهامة وبسرعة.

ثم يفتح لها ويغلق عليها، فإذا صارت داخل مع الصورة التي حاربته بِها، يقول للأعداء: أنه بِهذه الواقفة معكم آذيتموني كل يوم، وخبلتم ذهني الآن أشاء أن أعرف بالدقة ما الحاجة إليها.

فيأمر أن يحضر له سكيناً بذهنه، فإذا أخذها يفتح بِها بطنها قائلاً: أشاء أن أعرف أجمالاً أو نتناً وقيحاً، فإذا فتح جوفها يجد داخله الأشياء التي نعرفها كلنا، فتظهر بعض قباحة الشهوة.

فإذا شاهد المضادون انكسارها، يحدثون شغباً مريدين أن يستحقروا فكر الأخ، حتى إذا كدروا ذهنه بأفكار أُخر، يبطلون الجهاد المنصوب، خوفاً من أن يظهر خزيهم بالكمال.

فيقول المحارب المنتصب بإذائهم: لِمَ ترومون أن توردوا أشياء أخر عوض تلك، فإنني لا أترككم أن تخرجوا إلى أن أفحص جملة الأمر بالتأكيد، إن كان بالحقيقة أهلاً أن يُحب ما تمدحونه.

فحينئذ يحبس الأخ الجثة في الخزانة الباطنة ثلاثة أو أربعة أيام، وبعدها يفتحها مريداً أن يعاين الجثة، فقبل أن يدخل إلى داخل، تلتقيه النتانة التي لا تُحتمل، فيسد بيده فمه ومنخريه، ويشير للأفكار المضادة ومؤازري الخطيئة نِهاية الأمر. ثم يقول لهم: ماذا تجاوبون عن هذه ؟

فيخزون حينئذ، وينحلون كدخان في الهواء، ويصبح الأخ أعلى من الآلام، مؤازراً من قبل النعمة، فيعترف للرب ويقول: أشكرك أيها الرب إلهي فإنك لم تسلمني إلى أيدي أعدائي بل خلصتني من شرك القانصين، وأنارتني نعمتك لأتفطن بِهذه الرؤيات، وأخلص بِها من شركهم.

فلنتخذ يا إخوتي مخافة اللـه نصب أعيننا كل حين لكي ما يسترنا، لأنه خلواً من ستر اللـه لا يحسب الإنسان شيئاً ؛ فإن رداءة صناعة أعدائنا كثيرة، لكن معونة اللـه المحيطة بالإنسان أكثر منها، ولا سمح لنا أن نبصرها بأعيننا.

فلنحب إذاً الإله الذي يعيننا ويخلصنا حباً بكل قلوبنا كما نحب أنفسنا، وليكن في عقلك أيها الأخ الحبيب كل يوم وفاتك، أي فزع يشتمل النفس في ذلك اليوم.

يا أخي الحبيب إن كنت قد عملت شيئاً صالحاً في هذا العالم الذي سكنته، إن كنت قد احتملت الحزن والتعيير من أجل الرب، وصنعت الفضائل التي ترضيه، تصعدها الملائكة مرفوقة بفرح عظيم إلى السماوات.

لأنَها مثل فاعل نشيط حريص، عمل في كافة النهار، ينتظر الساعة الثانية عشرة لكي ما يقبل بعد العمل أجرته ويستريح. هكذا نفوس الصديقين تنتظر ذلك اليوم، أما نفوس الخطاة فيشتملها في تلك الساعة خوف وجزع بمنزلة مجرم قد قبض عليه الأعوان يقتادونه إلى مجلس القضاء.

لذلك ترتعد نفوس الظالمين في تلك الساعة لمعاينة عذاب الظُلمة البرانية الدهرية التي لا نَهاية لها.

وإن قال أحد: اطلقوني أمضي إلى ذلك العالم لأتوب، فيسمع، حيث كان لك زمان ولم تتب، فالآن لم تتب، حين فتح المقام للكافة لم تجاهد، أفتروم الآن أن تجاهد، فقد غُلقت سائر الأبواب، وعبر زمان الجهاد، أما قد سمعت القائل: ” تيقظوا فإنكم لا تعرفون الساعة “.

فإذ قد تقدمنا وعرفنا هذا يا أخي الحبيب، ما دام لنا زمان فلنتب لكي ينقذنا اللـه من الرجز الذي يحل بأبناء المعصية، ويؤهلنا لحظ القديسين.

صلِ من أجلي أنا الخاطئ، فإني أقول ولا أعمل، فإنه قد كتب: ليعترف بعضكم لبعض بالخطايا، وليصلِِّ بعضكم على بعض لتشفوا، لأنه يليق باللـه المجد إلى الدهور. آمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة العشرون في أيهما أفضل البكاء أم الضحك

 

بدء انقلاب نفس العابد الضحك والدالة، فإذا رأيت ذاتك فيهما، فأعرف أنكَ قد انتهيت إلى قعر الشرور، فلا تفتر متضرعاً إلى اللـه أن ينجيك من هذا الموت.

الضحك والدالة يهلكان أثمار العابد، الضحك والدالة يجعلانه يتكردس إلى الآلام القبيحة، الضحك والدالة يحدرانه إلى أسفل، وقد قال أحد القديسين عن الدالة: أن الدالة ريح الشوب تفسد أثمار العابد.

وعن الضحك أسمع الآن، الضحك يطرح النوح خارجاً، وينقض الفضائل المبنية، الضحك يُحزن الروح القدس، ولا ينفع النفس، ويفسد الجسد، يطرد الفضائل، وليس فيه ذكر الموت، ولا دراسة العذاب.

أنزع مني يارب الضحك، وأعطيني النوح والبكاء الذين تطلبهما مني.

بدء النوح أن يعرف الإنسان ذاته، وليكن نوحاً لا من أجل إنسان ولا لنشاهد الناس، لكن من أجل اللـه العارف مكتومات القلب، لكي ما نُطوَّب منه ونغبط.

ولنكن من الآن حسان الوجه، مبتهجون بالروح القدس بمواهب الرب باكين نائحين بمعقولنا، مستعطفين اللـه كي يحفظنا من كل نوع خبيث لئلا نعدم ملك السماوات بالخيرات التي عدها اللـه للذين يرضونه.

النوح يبني ويحفظ، النوح يروض النفس ويرضها نقية طاهرةً، النوح يولد العفة، ويقطع اللذات، ويقوم الفضائل.

وماذا أقول أيضاً: النوح يطوب من اللـه ومن الملائكة، فلذلك واحد من تلاميذ الرب قال: ينبغي أن يعود ضحككم نوحاً وفرحكم اكتئاباً. تواضعوا إذاً تحت يد اللـه العزيزة فيعليكم.

ماذا أصنع أنا الخاطئ، إذ لم أنح ولم أبكي على نفسي بتخشع، لأنني أتكلم ولا أعمل، ويلي كيف أتَهاون وكيف أتوانى في خلاصي ؟ ويلي لأنني بمعرفة أخطئ، أعرف فعل الشر ولا أعطف ذاتي عنه، ويلي فإنني بلا معذرة لأنه بأقوالي يحسبني قوماً أنني من ذوي اليمين، وبأفعالي أقف عن اليسار.

لك يارب، أيها الصالح والفاقد الحقد وحدك، أعترف بخطيئتي، وإن صمت أنا تعرف كل الأشياء وليس شيء مكتوماً من اتجاه عينيك، لكن قد قلت يارب بنبيك: قل خطاياك لكي ما تخلص.

قد أخطأت يارب قد أخطأت، ولست أهلاً أن أتفرس وأبصر علو السماء من قبل وفور آثامي، لأنني من أجل لذة يسيرة تَهاونت بالنار.

ماذا أصنع أنا الأشقى من كل الناس ؟ أبكي على ذاتي ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع، هب لي أيها الصالح الرحوم وحدك دموع خشوع، لكي ما أتوسل بِها إليك أن تطهر وسخ قلبي.

ويلي ماذا أصنع في جهنم وفي الظلمة القصوى حيث البكاء وصرير الأسنان، ماذا أعمل نحو الزمهرير والعذاب الذي لا ينقضي، والدود النافث السم الذي لا يرقد، وماذا أصنع عند تَهويل الملائكة الموكلين بالعقوبات، لأنَهم مرهبون وغير راحمين.

من يعطي لرأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأجلس أبكي ليلاً ونَهاراً لأستعطف الإله الذي أسخطه. يا نفس قد أخطأْت فتوبي، فإن أيامنا تعبر عبور الظل بعد قليل أيضاً وننصرف من هنا، يا نفس أنت عازمة أن تعبري في أماكن مخيفة، فلا تسوفي يوماً فيوماً أن تعودي إلى الرب.

يا نفسي طردتِ بالأفعال الدنسة الملائكة القديسين الذين يحفظونك، فلا تمنحي ذاتك راحة ولا تفتري حدقة عينيك من السجود للإله الصالح المتعطف على البشر ليعطيك معونة من العلي.

يا إخوتي نحن مزمعون ليس بعد حين طويل أن نعبر أماكن مخيفة، وغير ممكن أن لا نعبر تلك الطريق، وليس أحد من هنا يرافقنا للمعونة، لا والدان ولا إخوة ولا أصدقاء ولا جنس ولا غنى ولا شيء من نظائر هذه.

فلا نتوانى في الأعمال الصالحة التي سنجدها في زمان الحاجة، ولنستفق في هذا الدهر لئلا يقبض علينا بعد الفراق رؤساء الظلمة، ومن المُعِين والفادي في تلك الساعة من أيديهم إن صودفنا مجردين من ستر اللـه.

إن رؤساء الظلمة متمردون وغير رحومين، لا يرهبون ملكاً ولا يكرمون أميراً، ولا يبجلون صغيراً ولا كبيراً، سوى العائش بالديانة البهية فقط، صاحب الأعمال الصالحة، من وجه هذا يرهبون ويعتزلون ويخافون ويولولون منهزمين بتسارع كثير.

كما كتب: أن النعمة والرحمة سابغتان على مختاريه وتعهده لأبراره. ويقول أيضاً: إن نفوس الصديقين بيد الرب، ولا يمسهم العذاب، لأن عدلهم يتقدم فيصير قدام وجوههم، ومجد اللـه يجللهم.

حينئذٍ يصرخون، فيستجيب لهم الرب، وفي حين تكلمهم،  يقول هاأنذا قد حضرت لأن صادقاً الواعد.

مغبوط من يوجد حراً في ساعة الفراق، لا نتوانى يا إخوتي الأحباء، ولا نجذب إلى ذاتنا الأشياء الأجنبية الضارة البالية، لأن تلك الطريق تحل كل شيء.

إذا حانت ساعة الفراق تذبل اللذات، وتَهلك التنعم والشرف الباطل، فيبيد الغنى وحب الرئاسة إذا حضرة ساعة الفراق، وهذه كلها ونظائرها تنحل وتزول. أيها الرب إذا تذكرت تلك الساعة فأَخر ساجداً لصلاحك ألا تسلمني إلى الذين يظلمونني، لئلا يفتخر أعدائي على عبدك، مصريّ أسنانَهم، ومفزعي نفسي الخاطئة. يقولون: قد حصلت في أيدينا ؛ ودفعت إلينا، فهذا اليوم الذي كنا ننتظره.

يارب لا تنسى رأفاتك، لا تكافئني نظير أثمي، ولا تعرض بوجهك عني، لا تقل لي حقاً أقول لك أنني ليستُ أعرفك، أنت يارب أدبني لكي أبرأ برأفاتك، ولا تشمت بي العدو بل أخمد تَهويله، وبطل كافة حيله، وامنحني الطريق إليك غير مذمومة.

أيها الرب الصالح عزني لا باستقامتى لكن برأفاتك، ومن أجل صلاحك الجزيل خلص من الموت نفساً مغمومة.

اذكر أيها الصالح أنني لما أخطأت وجرحت بكلوم تقارب الموت، ما لجأت إلى طبيب أخر، ولا بسطت يدي إلى إله غريب، بل إلى خيريتك، لأنك أنت إله الكل الماسك كل نسمة.

أنت يارب قلت اسألوا تعطوا، نقني أيها الرب قبل الوفاة من كل خطيئة، ولا ترفض طلبتي أيها الرب الصالح، ها فمي غير مستحق يهتف إليك، وقلبي غير نقي، ونفسي مدنسة بالخطايا. أستجب لي يارب من أجل صلاحك لأنك لا تطرح وسيلة التائبين بالحقيقة.

أما توبتي أنا فغير نقية بل مفسودة، لأني أتوب ساعة وأخطئ وأسخطك ساعتين، وطد قلبي بمخافتك، أقم رجلي على صخرة التوبة، ليغلب صلاحك الرذيلة التي فيَّ.

يا من فتحت عيون العميان، أفتح عيني ذهني المظلمتين، يا من طهرت البرص بكلمة، طهر أدناس نفسي، لتصر يارب نعمتك فيَّ كالنار تحرق الأفكار النجسة التي فيَّ لأنك أنت هو النور الذي يفوق كل سرور، الراحة التي تسموا على كل راحة، الحياة الحقيقية، الخلاص الباقي إلى الأبد.

لك وحدك أجثو ساجداً متضرعاً، أنا المستوجب كل عذاب، أنا المستحق كل عقاب.

إليك أيها الفادي أبتهل متوسلاً ألا يدركني المضاد في الانقضاء، لكن أنت بما أنك صالح وغير حقود ورحوم، انْهض أعضائي التي هشمتها الخطيئة، أضئ قلبي الذي أظلمته الشهوة الخبيثة.

ونجني من كل عمل خبيث، وألمع فيَّ يارب يسوع المسيح مخلص العالم محبتك الكاملة، وأكتب اسم عبدك في سفر الحياة، وأهب لي نِهاية صالحة، لكي ما أرفع راية الظفر، وأسجد بلا خجل أمام عرش ملكك مع كافة القديسين. إنه بك يليق المجد إلى الدهور. آمين.

فأطلب إليكم يا إخوتي الأحباء، المختارين من اللـه، أن تطلبوا من أجلي أنا الخاطئ إلى اللـه، كما طلب الرسل من أجل الكنعانية، لأنكم أنتم المستحقون أن تشفعوا فيَّ أنا الغير مستحق، أيها المكرمون اسألوا فيَّ أنا الحقير لكي ما تدخل طلبتي في جملة طلباتكم المقبولة قدام اللـه.

لأنه يليق بك العز والعظمة والمجد الآن ودائماً

وإلى كافة الدهور. آمين.

 

 

 

 

 

@

المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني

 

يا بني النور تقدموا وهلموا، وأسمعوا صوت مخلصنا، الصوت المغبوط المبارك الهاتف إليكم: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم ملك السماوات “.

فأحذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد، فإنه ها هو على الأبواب، إن النور نزل إلينا فأنارنا، وأدنانا إليه، وأصعدنا معه، فإذ نزل إلينا، صار من أجلنا مثلنا ليجعلنا مثله.

من لا يموت نزل إلى المائتين ؛ وحين جعلهم غير مائتين، أرتقى إلى الآب، وسيجيء بمجد أبية المبارك يدين الأحياء والموتى.

صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لنسلك نحن في النور إلى الآب، تعالوا يا أحبائي لنسلك في الطريق التي أوراها لنا الرب، لنصل بسرور إلى مملكته، ولنأخذ زاداً وزيتاً في أوعيتنا، فليست الطريق قصيرة.

فلنشد أحقائنا بالحق، ومثل أناس وعبيد حافظين منتظرين سيدهم، نوقد مصابيحنا، ونستفيق بشهامة، لأننا منتظرون أن نستقبل ربنا من السماوات مقبلاً، فلا نتناعس فيما بعد لئلا تنطفئ مصابيحنا.

ها قد وافى النور، فولى الليل وأتى النهار، يا بني النور بادروا إلى النور أخرجوا بفرح إلى استقبال ربكم.

أروه فضائلكم، أتوا إليه بنسككم، وحميتكم، وسهركم، وأتعابكم، ودموعكم، وهجركم للقنية، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا، ولا ينظر أحد منكم إلى الرذائل التي وراء، بل فليعبد ناظر النفس إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظركم فوقاً، متأملاً ذلك الجمال والسرور، يا وارثي الآب ومساهمي ميراث ابن اللـه الحي.

إن هذه النعم قد وهبها اللـه لنا فبماذا نكافئه، هلموا فلنطرح عنا كل اعتناء واهتمام هذا الدهر، ولنخدمه وحده بحرص عظيم ونشاط جزيل، فها يومه بالحقيقة قرب، ووروده بتأكيد حان.

هلموا إذاً يا إخوتي، فلنعد ذاتنا، ونتيقظ منتظرين ربنا الختن السمائي الذي لا يموت، فإنه ها يشرق، ها يبلغ، لأن تلك الصرخة تصير بغتة، ها الختن وارد فأخرجوا إلى استقباله يا معشر الذين أحببتموه وأعددتم ذاتكم لمعاينته في مجده، لأن كافة الذين اشتاقوا إليه يفرحهم في حجلته الأبدية المنيرة البهية التي لا توصف.

فأحذروا يا إخوتي إذا صار ذلك أن يوجد أحدكم ماسكاً مصباحه مظلماً لا زيت فيه، أو لابساً أطماراً بالية متسخة فيدان، ويحكم عليه بالظلمة البرانية، وبذلك العقاب الدهرى الذي لا يفنى، حيث البكاء وتقعقع الأسنان.

فلنحذر ذاتنا يا أحبائي، فإننا لا نعلم متى يجئ ربنا، لأنه كالسارق في الليل، ومثل الفخ يوافي ذلك اليوم، وكبرق حاد هكذا يكون حضور الرب.

لأن البوق يضرب، فتتزعزع الأرض من أساساتِها، وترتعد السماوات مع قواتِها، والموتى يقومون كلهم.

يا أحبائي من لا يلومه قلبه في تلك الساعة، ابسطوا عذر ضعفي فإنني أظن أن كل نسمة ترتعد في تلك الساعة، لكن نعمة اللـه تقوي وتفرح قلوب الصديقين، فيختطفون في السحب إلى استقباله، أما المضجعون والعاجزون الذين يشبهوني فيلبثون على الأرض مرتعدين.

فلنخفف ذاتنا يا إخوتي من الأرض قليلاً، لنرتقي بسهولة إلى السماء، ماذا ينفعنا العالم الذي قيدنا بِهمومه ؟ أم ماذا نربح من تزيين الثياب سوى نار لا تطفأ، أو ماذا تسبب لنا تطييب ألوان الأغذية سوى تعذيب أبدي؟

اعرفوا بتأكيد أننا إن لم نجاهد في هذا الزمان القصير، فإننا نزمع هناك أن نندم إلى أبد الدهر.

يا إخوتي لِمَ نتوانى ولِمَ نضجع، لماذا لا نغذي أنفسنا ؟ لأن يوم الرب أقترب منا، لِمَ لا نطرح عنا كل اهتمام غير نافع ونخفف ذاتنا من ثقل الأمور الأرضية.

أما قد عرفتم أن الباب ضيق وضاغط، ولا يستطيع الجزيل القنية أن يدخل فيه، وهو إنما يحب الذين لا قنية لهم، الذين قد ضيقوا على ذاتِهم باختيارهم بالنسك والتعب، والذين أعدوا ذاتَهم لمعاينة الختن السمائي الباقي في مجده، ويورثهم ملك السماوات. لأن ها يصوت ربنا قائلاً: أسرعوا إحضاركم، وتعالوا إليَّ، وليتكاثر عددكم فيَّ وفي خدر ربكم، ولتتعاظم صفوفكم مع الملائكة والقديسين في الضياء.

فأنتم يا أولادي لا تقتنوا على الأرض شيئاً، ولا تَهتموا بشىء، لأن الختن مستعد للمجيء في سحب السماء بمجد أبيه المبارك، يدعو كل واحد منكم باسمه، ويتكئه في طغمة القديسين المتصرفين في النور الذي لا يوصف في الحياة الأبدية التي لا تبلى ولا تنفذ نظير أعماله وأتعابه.

فلنحرص يا إخوتي، فلنحرص في هذا الزمان اليسير، ولا نضجع هنا لئلا نندب إلى الدهور التي لا نَهاية لها، حيث لا تنفع الدموع والزفرات، حيث لا توبة، إن حرصكم يسر به الملائكة ورؤساء الملائكة، وونيتكم يفرح بِها العدو، احرصوا يا سروري، احرصوا أن أسر أنا بكم، وأنتم بي إلى الدهر.

لك أجثو ساجداً أيها الرب يسوع المسيح ابن اللـه الحي، أعطني ولكافة الذين يحبونك أن نعاينك بمجد في ملكك، ونرثه مع كافة الذين يحبوك وتاقوا إليك.

يا أحبائي إن توانينا وأضجعنا في هذا الزمان اليسير، فلا تكون لنا دالة في ذلك اليوم المخوف، لأننا لا نجد حجة عن خطايانا، لأنه منذ أنحدر إلينا ربنا ومخلصنا أنتزع كل حجة لأنه وهب لنا حين جاء الحياة الأبدية.

كنا أعداء صالحنا، أرضيين فصرنا سماويين، مائتين فدعينا غير مائتين، بني الظلمة فصرنا بني النور، مستأسرين ففدينا، عبيداً للخطية فحررنا، مساكين فأغنينا، ضائعين فوجدنا، ممقوتين فأحببنا.

ظالمين فزكينا، غير مرحومين فرحمنا، خطاة فخلصنا، ترباً ورماداً فصرنا بنيناً  للـه، عراة فسترنا، وصرنا وارثين للـه، ونظير ابنه في ميراث هذه النعم، قد وهبها لنا ربنا فبماذا نكافئه ؟

يا أحبائي هلموا فلنطرح عن ذاتنا كل اعتناء واهتمام هذا العالم الباطل، ونخدمه بحرص عظيم ونشاط كبير وحده، فها يومه حان بالحقيقة، ووروده دنا منا بتأكيد.

تعالوا فلنعد ذاتنا ونتيقظ منتظرين ربنا الختن الذي لا يموت كأنه أشرق وتلألأ وأقبل، تناهى الليل والنهار أقبل.

يا بني النور بادروا إلى النور، أخرجوا إلى استقباله بفرح، أروه فضائلكم، قدموا له نسككم ومسككم، سهركم وأتعابكم، دموعكم وزهدكم، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا.

لا ينظر أحدكم إلى الوراء بل ناظر نفسكم فليكن إلى العلا ناظراً، إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظرك فوقاً متأملاً ذلك الفرح الذي لا يفنى، الذي لا تشبع منه نفوسكم من معاينة مجده وبَهائه وحسنه.

من يجع فليصبر، لأن ها مائدة الملكوت تنتظره. من يعطش فليثبت، فها نعيم الفردوس أستعد له. من يسهر ويصلي ويرتل ويبكِ فليتأيد، فإن سرور حجلة ربه تعزيه.

فإذ قد عرفنا هذه كلها يا إخوتي فلا نقتني على الأرض شيئاً، لأن كل أحد منكم في ذلك اليوم سيرى أية فضيلة قد أقتناها من هنا أو أي أتعاب أحتملها، أو أي نسك أو أي سهر أظهره.

أترى إذا أشهر الشهداء جراحات العذاب والعقوبات، والنساك الشجعان نسكهم وحميتهم، وما لهم من الصبر والحزن والزهد، فالمضجعون والعاجزون والمتنزهون بماذا يفتخرون ؟ أبرخاوتِهم وونيتهم وهلاكهم، الويل لهم إذا توانوا، يا للأسف إذا أضجعوا.

تعالوا يا أحبتي، تعالوا نحرص، هلموا نسجد له، ولننح ونبكِ أمامه بجراءة ليعطينا استنارة نفس، فنتفطن حيل عدونا ومعاندنا وماقت الخير، الذي يجعل قدامنا مزلقات ومعاثر ومضرات كثرة الاقتناء، وتنزه هذا الدهر، واللذة البشرية.

وانتظار طول زمان هذه الحياة الحاضرة، وجزعاً من النسك، وعجزاً عن الصلوات، ونوماً في الترتيل، وراحة بشرية.

فبمقدار ما يحرص ذلك نضجع ونتوانى، بقدر ما يمكن ذاك نتهاون نحن، فلنعلم موقنين أن أيامنا قصرت، والوقت قد أزف، ورب المجد سيجيء بحسن بَهائه، وبقوات ملائكته المرهبين، فيجازي كل واحد نظير عمله.

فأخشى يا إخوتي أن يتم فينا قول القائل: أنَهم سيجيئون من المشارق والمغارب، والجنوب والشمال، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملك السماوات، وأنتم تلقون خارجاً.

إليك أتضرع أيها المسيح نور الحق، وابن الآب المبارك، صورته وشعاع أقنومه، أيها الجالس عن يمين عظمته، أيها الابن الذي لا يُدرك، المسيح الذي لا ينتهي أثره، الإله الذي لا يفحص.

يا فخر وسرور الذين يحبونك، أيها المسيح حياتي، خلصني أنا الخاطئ في ملكك، إن الفاعل المتعوب ينتظر أن يأخذ حقوق أجرته، ويلي فإن لساني يتعب في تلاوة التمجيد، لا تجازيني نظير أعمالي بل خلصني بنعمتك، وترأف عليَّ بتحننك فإنك أنت هو المبارك والممجد إلى الدهور. آمين.

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة الثانية والعشرون في الرحيل من هذا العالم

 

الطوبى لمن أبغض العالم الإنساني وتركه، وصارت تلاوة حياته من اللـه وحده مفرداً.

الطوبى لمن مقت الخطية الرديئة ورفضها، وأحب اللـه وحده الصالح والمتعطف على البشر.

مغبوط من صار على الأرض بمنزلة ملاك سمائي، ومضاهي الشاروبيم، حاوياً أفكاراً بكل وقت طاهرة نقية.

مغبوط من صار طاهراً للـه وقديساً، ونقياً من كافة النجاسات والأفكار والأفعال الخبيثة.

مغبوط من صار بجملته حراً للرب من كل أمور هذا العالم الباطل، مغبوط من تمكن في عقلة ذلك اليوم العتيد الرهيب فحرص أن يداوي بالدموع جراحات نفسه، مغبوط من صار بكليته مثل سحابة تسكب الدموع كل حين وطفأَ اضطرام نار الآلام الخبيثة، مغبوط من يسلك في طريق وصايا الرب صانعاً كل وقت منازل تلمع صفاءً بالأمانة والمحبة، مغبوط من نجح في عادات النسك الصالحة موقناً أنه يأخذ من اللـه ملكاً سمائياً، مغبوط من يتذكر أمر القول المرهوب فأقام فمه حافظاً يرصده آلا يسقط من الوصية، مغبوط من صارت نفسه كالنصبة الجديد نصبها الغضة الحاوية دائماً دموعاً من أجل اللـه مثل ساقية الماء، الطوبى لمن غرس في نفسه نصبات حسنة أي الفضائل وسير القديسين، مغبوط من يسقي غروسه بالدموع إذا صلي لتصير غروسه مرضية للـه ومثمرة، الطوبى لمن أضطرم بمحبة الرب كمحترق بالنار فأحرق كل فكر دنس من نفسه، الطوبى لمن صار باختياره كأرض جيدة صالحة مثمرة زرعاً جيداً مائة وستين وثلاثين، الطوبى لمن وجد في حقل نيته البذار الجيد الذي زرعه السيد في حقله، مغبوط من وجد الدرة الخطيرة السمائية فأباع ما له على الأرض وأبتاعها وحدها، الطوبى لمن وجد الكنز المخبوء في الحقل فرفض كافة الأشياء معاً وأقتناه وحده، الطوبى لمن يتذكر دائماً يوم انصرافه ويحرص أن يوجد في تلك الساعة وافر النشاط وبلا خوف، الطوبى لمن وجد دالة في ساعة الفراق إذا فارقت النفس الجسم بخوف وأوجاع لأن الملائكة يجيئون يأخذون النفس ويفرقونها من جسدها ويقفون بها أمام موقف الختن الذي لا يموت والقاضي المرهوب جداً، خوف عظيم في ساعة الموت إذا فارقت النفس الجسم بخوف ونحيب لأن النفس في ساعة الفراق تقف أمامها أعمالها التي عملتها في النهار والليل الصالحة والطالحة، والملائكة متسارعون أن يخرجوها من الجسد فإذا رأت النفس أعمالها تجزع من الخروج، تفارق نفس الخاطئ بخوف وجزع الجسد وتمضي مرتعدة لتقف في مجلس القضاء الذي لا ينقضي فيقتسرونها أن تخرج من الجسد فإذا أبصرت أعمالها كلها تقول لهم بخوف ” أعطوني مهلة ساعة واحدة حتى أخرج ” فتجيب النفس أعمالها كلها: أنتِ صنعتينا فمعكِ نمضي إلى حضرة القاضي. فلنمقتن يا أخوتي هذا العالم الباطل ولنحب المسيح وحدة القدوس والفادي نفوسنا لأننا لا نعرف في أية ساعة يكون انصرافنا ولا يعلم أحد منا يوم الفراق وساعته لأنه بغتة حين نكون متخطرين ومتنعمين على الأرض بلا اهتمام يدهمنا الأمر المرهوب فتؤخذ النفس من الجسم وتمضي نفس الخاطئ في ساعة ويوم لا تتوقعهما موعوبة خطايا ولا اعتذار لها، فلهذا الحال أطلب إليكم أن نصير أحراراً ولا نتقيد بعبودية هذا العالم الباطل الوقتي الموعوب شكوكاً وفخاخاً ومقانص الموت، فلنجنح نفوسنا ولنطيرها عن الشكوك والفخاخ لأن الخبيث كل يوم يطمر دائماً فخاخه قدام نفوسنا لكي ما إذا أقتنصها بالشكوك والفخاخ يقتنصها إلى العذاب الأبدي، فلنصغِ إلى ذاتنا حذرين أن نسقط في فخاخ الموت، لأن فخاخ العدو موعبة حلاوة فلا تنحل أنفسنا لحلاوة فخاخه التي هي الاهتمام بالأمور الأرضية لأن الأقوال والأفكار والأفعال الخبيثة هي الفخ، فلا تستحل أيها الأخ بحلاوة المرئي، لا تتراخَ وتنحل بدراسة الأفكار الخبيثة فإن الفكر الخبيث إذا وجد مدخلاً للنفس يحلي لها الدراسة الخبيثة ويصير الفكر الخبيث كالفخ في النفس فلا ينطرد بالصلاة والدموع ولا بالحمية والسهر فصر منذ الآن متيقظاً ومعتوقاً من كافة الأشياء الأرضية لتنجى من فخاخ الأفكار ومن الأفعال الخبيثة، لا تتراخَ طرفة واحدة وتتلُ في مناجاة الفكر الخبيث، لا تدع أن يلبث الفكر الخبيث في نفسك، أيها الأخ أهرب دائماً إلى اللـه بالصلاة والصوم والدموع لتنجى من كافة الفخاخ والشكوك والآلام، لا تترجى أيها الأخ أنكَ تعيش على الأرض زماناً طويلاً فتتراخى في دراسة الأفكار الخبيثة والأفعال الرديئة فيوافي بغتة أمر الرب ويصادفك أيها الخاطئ ليس لك وقت توبة واستغفار، فماذا تقول أيها الأخ للموت في ساعة الفراق لأن الأمر يدهم فلا يتركك ساعة على الأرض، وكثير ممن ظنوا أنهم يعيشون زماناً طويلاً على الأرض فجائهم الموت بغتة، إن رجلاً خاطئاً وموسراً حاسباً سنيناً كثيرة على الأرض يعيشها في راحة ونعيم عاقداً باصابعه حساب رأس المال والرباء موزعاً عدد ثروته في سنين  زمان طويل فدهمه الموت بغتة ففي طرفة واحدة بطل الحساب والغنى واهتمام العالم الباطل، جاء الموت أيضاً فصادف رجلاً صديقاً متصور الموت دائماً بين عينية غير خائف من وروده ومفارقة الجسد متوقعاً أمله دائماً بين عينيه كما يليق بالفقيه الروحاني منتظر الفراق والمثول في مقام الرب، أستعد في كل حين بمصباحك مثل عاقل ونشيط، تفقد نفسك كل ساعة بالدموع والصلوات ما دمت تجد وقت أمهال، أحرص يا حبيبي فإن زمانك يجئ بجملته موعباً عدم أمانة، رخاوة، ونية، قساوة، فلا يسمح لك أن تفتكر في الرؤيات الفاضلة لأنه يدهشك. يا أحبائي قد عرفتم كيف أن الأشياء الخبيثة كلها تشب وتنشئُ كل يوم الأمور الرديئة، فالخبث يسبق بسعيه فيدل على الاختلاط الآتي والحزن العتيد أن يكون على وجه كافة الأرض هذه تنتج من أجل خطايانا كلها كل يوم ومن أجل رخاوتنا ينبت الخبيث على الأرض فلنصر متيقظين محاربين وادين للـه غالبين كل وقت قتال العدو كاملين، ولنعلم عادات الحرب لأنها لا ترى، وعادات هذا القتال هي التعري من الأرضيات، إن أنتظرت الموت كل يوم لا تخطئ، إن تعريت من الأمور الأرضية فلا تنهزم في الحرب، إن أبغضت الأرضيات وأحتقرت الوقتيات تستطيع مثل محارب ذي شهامة أن تأخذ راية الغلبة فإن الأشياء الأرضية تسحب إلى أسفل، والآلام تظلم عيني القلب في القتال، لهذه الحال يغلبنا الخبيث في موقف القتال لأننا نقتني الأرضيات، وبالاهتمام بالأرضيات نخدم اللذات، كلنا اليوم نحب الأرضيات وعقلنا قد تسمر في الأرض من أجل رخاوتنا، النهار قد مال إلى المساء وقد انتهى منذ الآن زماننا ونحن من أجل عدمنا الأمانة نظن أنه سيمتد ويطول، ها ملكوت السموات على الأبواب ونحن عن هذا الأمر لا نؤثر أن نسمع ذكراً، العلامات والآيات التي قالها الرب صارت ! أي أوبئة ومجاعات وزلازل مفزعة وحروب هذه كلها نعتقد بها كمنام يحدث بها بعضنا بعضاً، فاستماع مسماع هذه المخاوف ومعاينتها لا تذهلنا. فلنهرب يا أحبائي إن الساعة الحادية عشرة هي، ومسافة الطريق طويلة جداً، فلنحرص أن نوجد في الطريق ولنكن متيقظين ولنستفق من النوم غير هاجعين، فإننا لا نعلم متى أو في أية ساعة يجئ سيد كافة الأرض، فلنخفف ذاتنا من ثقل واهتمام الأرضيات فقد قال لنا الرب أن لا نهتم بشئ ألبتة، وأوصانا أن نحب الكل معاً فنحن قد طردنا هذه المحبة فهربت من الأرض فتكاثرت الخطايا وغشا الظلم الكافة معاً كل واحد منا يتمني الأشياء الأرضية ويورثها، ويتهاون بالمناقب السماوية، ويبتغي الوقتيات، ولا يحب الأمور المستأنفة، أتؤسر أن تكون سمائياً أبغض دائماً الأمور والأشياء التي على الأرض وأرفضها وانسك وأشتهي ملكوت السموات، لا تظن أن كثير عمل النسك وتعبة وتقول أني حقير وضعيف ولا أستطيع أنسك، تفهم كلمات مشورة نفيسة وصالحة، تأمل ما لك أيها الأخ المحب للمسيح إن آثرت أن تسافر إلى بلد أو موطن بعيد لا تستطيع أن تسير كافة مسافة الطريق في لحظة واحدة هكذا هو الملك السماوي ونعيم الفردوس بالأصوام بالنسك بالسهر يبلغ إليه كل واحد، فالحمية والدموع والصلاة والسهر والمحبة هي المنازل المؤدية إلى السماء، لا ترهب أن تصنع ابتداءً حسناً للطريقة الجليلة المؤدية إلى الحياة، أرغب أن تسلك في الطرق فإن وجدت ذاتك وافر النشاط فالطريقة نفسها في الحين تتيسر أمام رجليك وتفرح سالكاً فيها وتصنع فيها منازل طرباً مبتهجاً وفي كل منزل تتقوى مسالك نفسك، ولا تجد صعوبة في الطريقة المؤدية إلى السماء لأن الرب السماوي هو بذاته صار طريق حياة للمؤثرين أن يذهبوا بفرح إلى أبي الأنوار، أيها المسيح المخلص صر لي طريق حياة مؤدية إلى الآب هذه وحدها هي السرور ونهايتها المملكة السمائية، لقد صرت لي أيها السيد يسوع الإله طريق حياة واستنارة فأغترفت بذاتي من الينبوع مواهب موعبة شوقاً فصارت نعمتك في قلب عبدك نوراً وفرحاً وحلاوة في فم عبدك أحلي من العسل والشهد وصارت في نفس عبدك كنزاً (أي مسكنة ) وطردت الفقر والأثم، صارت نعمتك لعبدك ملجأً وقوة نصراً وسمواً وفخراً وأغذية كافة الحياة، كيف يصمت عبدك من وفور لذة محبتك أيها السيد، ونعمتك التي فتحت فمي بلا استحقاق، كيف يصمت لساني عما ينفعه من تسبح وتمجيد المعطي الخيرات وكيف أجترئ أن أحبس أمواج النعمة النابعة في قلب الخاطئ الموعبة حلاوة في المواهب الجزيلة إني أرتل تمجيداً لسيد السمائيين المعطي خادمه المواهب السمائية بتعطفة الجزيل على البشر، أُعظم نعمتك أيها المسيح المخلص لأنني إذا عظمتها أعظم بها ولا أكف أن أتلو بلساني تمجيد نعمتك أيها السيد المسيح المخلص، ولا تصمت معزفتي من الترنم بترنيمات روحانية، إن شوقك يجذبني إليك يا فخر حياتي ونعمتك تحلي ذهني لأنجذب وراءك ليصير قلبي لك أرضاً صالحة قابلة بذاراً جيداً تندية نعمتك بنداء الحياة الأبدية لتحصد نعمتك من أرض قلبي كل حين غمراً جيداً تخشعاً سجوداً طهارةً وكافة المرضيات لك، أسترجع نفسي إلى صيرة ( حظيرة ) فردوس النعيم مع الخروف الذي وجد، فلتوجد نفسي في النور، إن ذلك الخروف لما وجدته حملته على منكبيك، فأما نفسي هذه غير المستحقة فأقتدها بيدك وقدمتها كلاهما إلى أبيك الطاهر الذي لا يموت حتى أقول في نعيم الفردوس مع كافة القديسين المجد للآب الذي لا يموت وللابن الذي لا يموت والروح القدس الذي لا يموت والسجود للمعطي الحقير مواهب سمائية ليقرب غمر التمجيد لملك كافة البرايا له المجد إلى الأبد وعلينا رحمته.

آمـين

 

 

 

 

@

المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها

 

إن بولس الرسول المشير الفاضل يعلمنا كلنا قدر بتولية النفس وطهارتها، ويحتسب درجة البتولية أفضل وأعلي من العالم لأنه قال: من له امرأة يهتم في كيف يرضي امرأته فأما المستسير بالبتولية فيهتم في أن يرضي الرب. فذاك الاهتمام يؤدي إلي العذاب وهذا يؤدي إلي الحياة الخالدة، فالطوبى للإنسان الذي يهتم في أن يرضي الرب ويحفظ جسده طاهراً ليصير هيكلاً مقدساً طاهراً للمسيح الملك. أيها الإنسان قد صرت باختيارك هيكلاً للـه لا بإلزام وغضب بل بإثرة ونشاط، وقد عرفت أن من يكن إنساناً للإله العلي يسكن روح اللـه فيه فإن كان منظفاً نقياً يقدسه ليكون استعماله مأثوراً لسيده، أسمع يا أخي المخلص ما أقول لك وأكتب ألفاظ حقارتي في قلبك، منطق ذاتك وتضرع بأمانة صافية مهذبة ورجاء ومحبة، أنتصب كالرجل الشهم لتحفظ هيكل اللـه من سائر الأفكار الدنسة والنجسة المزروعة من العدو، صر بجملة نفسك غنياً معايناً بمداومة تجارب العدو لأن تجارب الخبيث تتقاطر دائماً لتجد إنساناً مسترخياً ومتنزهاً لتفسد هيكل جسد ذاك الشقي لئلا يكون مأثوراً لاستعمال سيده، فأحذر علي نفسك لئلا توجد قابلاً بذاتك تجارب العدو، أتجهل أيها الأخ من هم المحاربون الخبثاء والمجلبون الأفكار الدنسة والشهوات الرديئة هم ” الغضب والاضطراب، السخط والمماحكة، وعبودية الآلام ” فهؤلاء هم المجربون الذين لا يخجلون، والأردياء الذين لا يكفون ولا يشبعون من الشر وإذا غلبوا يدارك برازهم دائماً لأن أصل الشهوة وقح لا يخزى، أقتلع أيها الأخ أصل الشهوة من قلبك لئلا ينبت ويينع فلو قطعتها ربوات مرات تنبت بقدر ذلك إن لم تقتلع بالجملة جدرها ، جاهد متواتراً لتكون هيكلاً للـه بلا دنس وبلا عيب، إن هيأت هيكلك للـه فالإله القدوس يعطيك عوضه الفردوس المطرب لنياحتك، صر بانتصارك علي الآلام والأفكار الدنسة حافظاً هيكلك قديساً ليكون بَهياً للـه ومقبولاً، أصغِ إلي ذاتك ألا تُدخل في الهيكل عوض السيد الأقدس الطاهر العدو النجس فيفسد هيكلك لأنه عدو ماقت الخير فإنه وقح فاسد الخلق لا يخجل تنتهره مراراً كثيرة وتخرجه إلي خارج وهو يتواقح فيلاكم ويزاحم ليدخل، أما اللـه الغير محدود الطاهر القدوس فما أبتعد هو بل أنت طردته، إذ أدخلت الدنس وصرفت القدوس، أبغضت الملك وأحببت المارد، أبعدت عين الحياة وتقلبت في الحمأة، عدمت النور وشاركت الظلمة، من أجل رخاوتك أسلمت ذاتك إلي العدو النجس، إن الإله القدوس أثر أن يسكن في هيكلك دائماً أما أنت فأحزنت السيد الصالح الرب الذي لا يشبع منه، التائق أن يعطيك ملكه لأن الصائرين هياكل لا عيب فيها وطاهرة يسكن اللـه فيهم، فإن آثرت أن يسكن اللـه في هيكل جسدك كافة أيامك التي تعيشها علي الأرض فاللـه القدوس يسكنك في فردوسه في النور الذي لا يقاس والحياة التي لا تموت إلي أبد الدهر بفرح عظيم وينجيك هناك، أتراك سمعت هذا أو قرأته أن يوماً واحداً في نور ملك اللـه كألف سنة في هذا الدهر، أفتح قلبك أيها الأخ وأقبل أن تشتاق إلي اللـه كافة أيامك فإن الاشتياق إلي اللـه هو حلاوة واستنارة وسروراً دائماً، إن صبوت إليه دائماً يسكن فيك سرمداً، إن اللـه غيور طاهر وقدوس يسكن في نفس الذين يتقونه ويصنع مراد الذين يحبونه، أتؤثر أن تكون للـه هيكلاً نظيفاً لا عيب فيه، أتخذ أيقونته في قلبك دائماً وأعني بأيقونة اللـه لا المرسومة بألوان الأصباغ علي ألواح خشب أو علي شئ آخر بل تلك الصورة المزخرفة العجيبة في النفس المرسومة فيها بالأعمال الحسنة بالأصوام بالحميات بالمسك بالاعتدال النفيس بالاسهار والصلوات، فألوان صورة السيد السمائي هي اعتدال الفضائل الأفكار النقية التعري من الأرضيات مع الطهارة والوداعة جميعاً، لا يكلل في العالم أحد خلواً من جهاد، وفي سيرة النسك بغير حرص وجهاد لا يمكن أحد أن ينال الإكليل الذي لا يذبل والحياة الخالدة، لأن هذا العالم يضاهي جلبة فالمجاهدون الكاملون بوداعتهم يضعون ذاتهم في المقام بلا خوف، أما المسترخون والخبثاء فيهربون برخاوتهم من الجهاد، فالمجاهدون الكاملون النساك وذوو الحمية والنسك قدام أعينهم الفردوس المطرب منتظرين كل حين أن يتمتعوا بكافة الخيرات في النور المؤبد والحياة الفاقدة الموت، أفتؤثر أن تجاهد وتظهر كاملاً ألبس الفضائل كثوب وإذا لبست فضيلة فجاهد ألا تنزعها، أرهب الخمر لئلا تفضحك وتعريك من الفضائل كما عرت الصديق في القديم، أتعرف قوة الخمر أم لا ؟ أسمع أنا أخبرك: نوح الرجل الصديق والبار البهي في الجيل الفاسد الذي أستحق أن يسمع من اللـه أقوالاً ومدائح لأن اللـه قال له: إياك وحدك شاهدت صديقاً في هذا الجيل الفاسد، هذا الصديق الذي غلب طوفان المياه غُلِبَ من نبيذ قليل ونام، إن المياه التي لا توصف كميتها ما غلبته والخمر اليسيرة كشفت جسد الصديق الصائر رئيس آباء الأمم، وهذا النبيذ أيضاً أسترق لوط البار في نومه لأنه سرق به من أبنتيه وحملتا منه بضد الطبيعة. الصديقون والأبرار ما شفقت عليهم الخمر، فأنت الشاب الحقير كم أولى بِها أن تغلبك، أرهب النبيذ لأنه لا يشفق علي الجسم ألبتة بل يضرم فيه نار الشهوة الرديئة، لا يتراخى جسمك بحرارته لئلا تقتنص من قبل الأفكار الرديئة والدراسة القبيحة فتكون غير فاعل بشركة الجسد وبالعقل تشارك الهذيذ الردئ، إن الخطية نفسها ضلال وصنم فإن تقدمت تمسك منها وتندم كل حين وتعانق كل وقت أصنام الخطيئة المتخائلة لناظر الذهن فتتخيل معاينتها وتكثر مناجاتها، وإذا ذقت حلاوة دراستها ترخي فكرك وتنغلب إنغلاباً لا يبرأ، وتخطئ خطأً لا يستوضح فيصيح الناظرون يشاهدونك واضحاً حاوياً كافة الوداعة وأنت في ضميرك تتعذب باطناً متندماً حزيناً بلا انقطاع لأن للإنسان ضميراً يوبخه وعادة الشهوة الرديئة المألوفة حين تكمل يتبع الحزن أثارها فيرى وجهه بالزي الظاهر وديعاً وهو من داخل لا دالة له بالكلية قدام اللـه، ترى من لا يبكي وينوح ومن لا يحزن إنه في طرفة عين واحدة يتراخى الفكر فتخطئ حينئذ إلي اللـه عمداً وتطرد منه الموهبة السماوية أعني الطهارة والبتولية، لأنه حينما يكون هيكل الجسد قديساً وطاهراً يسكن فيه الإله الأعلى فإن أنفسد الهيكل وتدنس في الحين يتركه السيد، وعوض النور السمائي والأقدس يدخل الدنس ويقطن مستوطناً تدخل لذة الشهوة الرديئة وتدنسه كل وقت، ترى من يخطر هذا في قلبه بغير دموع وهو أن الإله القدوس رفض الهيكل وسكنته الشهوة الرديئة، أتعرف ذلك فأبتعد منه لأنه من أين وإلي أين سقط إن من أصابه ذلك لا يشبع من الدموع والزفرات، من أنغلب برخاوته في الجهاد ورأى آخر غالباً في الجهاد والصراع مشهوراً بالأكلة والرايات وظافراً والجماعة يمدحونه محيطين به، تكتنفه ندامة موجعة ويعذب ذاته الحزن، فيقول في نفسه لِمَ في لحظة واحدة أنغلبت للفكر وهربت من الجهاد، فها الذين أكملوه في مجد عظيم ومدائح جسيمة وأنا أختفي بخجل لأني أنهذمت منه، كذلك يوم المجازاة إذا أبصر المسترخون والخطاة الصديقون والأبرار بسرور عظيم بعضهم في الفردوس وآخرين في الملك، آخرين في السحب يتطايرون في النور، وهم في النار التي لا تطفأ والظلمة القصوى، حينئذ تحدق بِهم ندامة عظيمة مرهوبة، وبكاء لا ينفع. فلذلك أطلب إليك يا أخي المحبوب أن تصير مشابِهاً للآباء الكاملين القديسين الذين لا عيب فيهم، أسلك علي آثار الآباء السائرين بالبتولية الطاهرة، وبالنسك المهذب، والصلاة والصوم حب النسك تُقْ إلي الصلاة مخاطباً السيد لأن كل صلاة نقية مقدسة تخاطب بها السيد، صلاة المشتاقين إلي اللـه ترتقي متواتراً بفرح عظيم إلي السماء والملائكة ورؤساء الملائكة يبتهجون بِها ويقيمونَها أمام عرش السيد الأقدس العالي سيد الكل وحينئذ يكون السرور، حين يقدمون قدام اللـه صلوات الصديقين الوادين للـه.

أحرص إذاً أيها الأخ كي تصير مضاهياً سيرة الآباء القديسين وفضائلهم، أسلك في طريق سيرتهم، إنسك نظيرهم إنسك بالمعقول، إنسك بالروح، إنسك بالجسد، إنسك بالزي، في الطعام، باللسان، بالناظر، بالفكر، بالضحك، لتستبين في كل شئ كمجاهد كامل، أصغِ إلي ذاتك وأحذر أن توجد إذا صليت متنزهاً طموحاً، إذا أنتصبت تصلي إلي اللـه فقف بخشية ورعدة، أطرح من قلبك وما يحوط به الفكر والاهتمام بسائر الأرضيات، صر بكليتك أجمع في ساعة الصلاة ملاكاً سمائياً وجاهد أن تكون صلاتك مقدسة ونقية بلا وسخ ولا عيب حتى إذا بلغت الأبواب السمائية وقرعت للحين تفتح لها، وإذا أبصرها الملائكة ورؤساء الملائكة يستقبلونها كلهم مسرورين ويقدمونها إلي عرش السيد الطاهر الأقدس والشاهق، صر كل وقت في ساعة الصلاة كالشاروبيم والساروفيم ماثلاً أمام اللـه. أيها الأخ أدرس هذه الأقوال وترنم بها بخشية وبهجة فإنها ترزق النفس أغذية روحانية، وتنتزع منها مرارة العالم الباطل وتحليها وتخففها من ثقل المهمات الأرضية والأمور الوقتية، كل ما سمعته أحرص أن تحفظه بعقلك دائماً فيرتاح اللـه فيك وتجد دالة في الساعة المرهوبة المرعبة إذا جاء المسيح ليجازي كل أحد نظير عمله. له المجد دائماً وعلينا رحمته آمـين

 

 

@

المقالة الرابعة والعشرون في من يخطئون متواتراً ويتوبون مراراً قليلة

 

حتى متى أيها الخليل تحتمل العدو وتكمل كل حين ما يسره ويؤثره، حتى متى أيها الصديق تخدم الجسديات الحاملة الموت وتتعبد لها، تمسك بمشورتي فتحييك وتطهر نفسك مع جسدك، تقدم إلي المخلص كافة الذين يجثون لدية بتوبة حارة، قد استيقظت فلا تغرق بالسكر وتخطئ كل يوم وتبني وتنقض مضاهياً للصبيان الذين يبنون بيوتاً وينقضونها، حد عن العقرب الذي عرفت قرصته، أهرب بحرص من الحية التي اختبرت سمها لأن من يصدم الحجر نفسه دفعتين أعمى وأحمق لا يبصر ما يجب أن يهرب منه، إذا كان لك مثل هذا الحرص فتزداد في التوبة، وإذا حويت مثل هذا العزم فأسترحم الخالق وأستعطفه متواضعاً ومكتئباً مطرقاً ومبتهلاً متوجعاً علي ما لحقك متوقعاً الأواخر هكذا خلص زكا العشار، هكذا ظهر متى عبداً
للمسيح، كذلك المرأة الزانية الفاسقة الفاجرة المتنعمة المستكلبة التي كانت عثرة من يعاينها لما مسحت رجلي المخلص بشعرها أنتشلت من جباب المآثم العميقة هكذا واضع أنت حاجبيك فتظهر مرحوماً وتخلص ذاتك لأن اللـه يقوم الذين يحتقرون ذاتهم والمتواضعين ويقتلع ويرذل الذين يعلون ذاتهم، أبصر مدينة أهل سدوم وعمورة الجنس الجافي القاسي الجنس الجسور والدنس المختبط في الهواجس كل وقت السقيم بهيام الفجور والمجامعات المنافية للشريعة، فأمطر عليهم الكبريت والنار وأباد الجنس كله، أبصر أيضاً نينوى البهية والجميلة المزهرة بالخطايا النابعة الرذائل فتوعد أن يقبلها وأمر بسرعة بدمارها وسقوطها، فلما عاين المتنعمين لابسين مسوحاً وفي الرماد والجوع والصوم والنوح والبكاء والدموع متقشفين مصفرين مرعوبين مرتعدين متغيرين متساوين  الأحرار والعبيد، التجار والفقراء، الرؤساء والمرؤسين، المقتدرين والمطيعين، الذكور والإناث، الشيوخ والأطفال منذ اللبن، وكلهم أعفاء ترأف رحم خلص شفق تعطف، وحل بصلاحه النقمة التي تواعدهم بها، وأحتمل أن يكون نادماً أفضل من أن يظهر قاسياً هكذا يعذب الخطاة الذين لا ينعطفون إلى التندم، ولا يسمح أن يهلك السريع إذعانهم بل يشفق عليهم، فلهذا أسرعوا تضرعوا أخلصوا تحفظوا، فالرب مستعد بالإحسان وبالشفاء سريع إلي الإغاثة، نشيط إلي الأقتداء، فياض علي المستمعين، فاتح للقارعين، واهب للطالبين، مفضل علي المحتاجين، لا يحسد الذين يطلبون، ولا يدفع الواقعين بل يعطيهم يده، يفتح إذا طلبوا حلاً، يتوعد الذين لا يخضعوا لسيادته، إن كنت غلطت فُقْ، أو سقطت أرجع أبتهل تضرع أسجد أسأل أطلب خد ايقن انك تعطي، أسأل أن تخلص توسل إلي القادر أن يعطي إذا وقعت أنهض، إذا تقومت تقدم، إذا برئت أثبت، إذا عوفيت بالجملة وخلصت فحد عن المرض الذي طرحته، لا تضرم اللهيب الذي طفأته، لا تعبر بالحمأة التي بالجهد غسلت منها لئلا تماثل الخنازير التي تفرح بالحمأة، لا تغاير الكلاب التي تلحس فيها فمن يضع يده علي سيف الفدان مرة ويلتفت إلي الوراء لا يجد الملك، ومن أغتسل دفعة لا يحاضر إلي الوسخ.

إن المسيح واحد، الأمانة واحدة، الصليب واحد، الموت واحد، النعمة واحدة، الألم واحد، القيامة واحدة، لا يجب أن يذبح من قد ذبح ولا يدفع ذاته فداء عنك، قد فديت فلا تصر عبداً مختاراً للعبودية، مرتين غسلت أستحميت فلا تتوسخ فإن ليست حمام أخرى منصوبة مستعدة للغسل.

 

صلاة:

أشفيني يارب فأبرأ أيها الطبيب الحكيم والمتحنن أتوسل إلي صلاحك أشفِ جراحات نفسي وأضئ عيني ذهني لأتأمل تتابيرك الصائرة إليَّ كل حين فإذ قد تفه قلبي وذهني فلتطيبهما وتملحهما نعمتك بملح الحياة، فماذا أقول لك يا ذا العلم السابق الفاحص القلوب والكلى أنت وحدك قد عرفت أني مثل أرض لا ماء لها قد عطشت إليك نفسي وصبا إليك قلبي لأن من يحبك تشبعه نعمتك كل حين، فكما أستمعتني كل حين لا تعرض الآن عن وسيلتي، فإن ذهني كالمسبي طالباً إياك وحدك، فمنذ الآن أرسل نعمتك سريعاً لتوافي لإغاثتي وتشبع جوعي وتروي عطشي، إليك أشتاق أيها السيد الذي لا يشبع منه لأن من يستطيع أن يشبع منك إذا أحبك بحق وظمأ إلي نورك يا معطي النور أعطيني وسائلي وامنحني طلبتي وأقر في قلبي نقطة واحدة من نعمتك وليتوقد فيه لهيب محبتك كالنار في الغابة وليأكل الشوك والقرطب أي الأفكار الخبيثة أعطيني بسماحة وبلا عدد كما يليق بالإله المعطي الإنسان، وامنحني بما أنك ملك الملوك أكثر منحتك كما يليق بك أيها الإله الصالح، وإن كنت قد غدرت وخالفت وأخالف بما أنني ترابي لكن يا من ملأت الجرار من بركتك أملأ عقلي من نعمتك، يا من أشبعت خمسة آلاف أشبع فقري من خلاصك، أيها المتعطف علي الناس أعطي عبدك الطالب إليك طلبته لأن ها الهواء يتباهم والطيور تبذل نغماتها من قبل مجد حكمتك الجزيلة، والأرض كلها لابسة حلة الأزهار المتلونة التي نسجت بغير أيدي بشرية تبتهج معيدة عيدين العيد الواحد من أجل أبنها البكر آدم لأنه عاش، والآخر من أجل سيدها، والبحر ها هو ينمو ويزداد من نعمتك ويغني من يسيرون فيه، نعمتك منحتني دالة أن أتكلم أمامك والشوق الذي شملني يضطرني أن أتقدم إليك، إن كان الثعبان الذي قتل الإنسان منذ القديم يتقدم في هذا الزمان فيفتح فمه، فكم أولي بعبدك التائق إليك أن يفتح فمه لتشريف ومديح نعمتك، أيها القائل والمادح فلسي تلك الأرملة أقبل طلبة عبدك، وأنمي ابتهالي، وامنحني سؤالي لأصير هيكلاً لنعمتك وتسكن فيَّ لتعلمني كيف أرضيها لكي ما تقرع معزفتي بلحن تخشع وتملأني سروراً أو تجبح ذهني كبحاً كأنه بلجام لئلا يضل فيخطئ إليك وأخرج من ذلك النور. أستمع يارب أستجب يارب طلبتي وامنحني أنا الضائع أن أدعى في ملكك، فقد كنت نجساً فطهرت، وغبياً فتحكمت، وجاهلاً فصرت نجيباً، وأحصيت في رعية منتخبيك. إن جماعة القديسين المبتهجين في الفردوس الذين أرضوك يشفعون فيَّ ويتضرعون إليك فأسمع طلبتهم وخلصني بوسائلهم لكي ما أقرب لك مجداً. أنت يارب قلت بنبيك ” أفتح فمك فأملأه ” فها قد فتح فم عبدك مع قلبه فأوعبه من نعمتك لكي ما أثني عليك بالتبريك كل حين، أيها المسيح الإله مخلصنا، أيها المتعطف الصالح أمطر في قلبي مطر نعمتك، وكما أن الأرض المزروعة لا تستطيع أن تربي من ذاتها الغلات بغير أفتقاد خيريتك، هكذا قلبي لا يستطيع أن ينطق بالمرضيات إلا بنعمتك، أو يثمر ثمر العدل إلا بها، ها أوان الحصاد يربي الغلات والشجر يتكلل بالأزهار الملونة، فليضئ ذهني ندى نعمتك وليوشه بأزهار الخضوع والتواضع والمحبة والصبر، وماذا أقول الآن ها صلاتي ضعيفة ومآثمي قوية وعظيمة وخطاياي تضغطني وأمراضي تتمرض عليَّ.

فيا من فتحت عيني الأعمى أفتح عيني ذهني لكي ما أتأمل في كل حين جمالك، يا من فتحت فم الحمار أفتح فمي إلي مديحك وتشريف نعمتك، يامن وضعت لجماً للبحر بكلمة أمرك أضع علي قلبي لجماً بنعمتك لكي لا يجنح يميناً أو يساراً من جمالك، يا من أعطيت ماءً في القفر للشعب الذي لا يذعن المجاوب أعطي نفسي تخشعاً وعيني دموعاً فأبكي بها ليلاً ونهاراً علي أيام حياتي بتواضع عزم ومحبة وقلب نقي، فلتدنِ طلبتي إلي حضرتك يارب وأعطيني من زرع قداستك لكي ما اقدم لك أغماراً مملوءة خشوعاً، وأشكر صارخاً المجد لك أيها المعطي، أسمع يارب صلاة عبدك بشفاعة كافة قديسيك.

يا من لم يزل مباركاً إلي الدهور. آمـين.

 

 

 

 

@

المقالة الخامسة والعشرون في الورع

 

 

أيها الأخ أحذر جداً ألا تضيع الطريق الممهدة المستقيمة وتسلك في الظلمة لكي لا عند أواخرك توجد لدى اللـه والناس قاسياً لأن الويل للذين تركوا المناهج المستقيمة ليسلكوا في سبل الظلمة، الويل للمسرورين بالأسواء والمستبشرين بالإنعكاس الردئ الذين سبلهم وعرة ومناهجهم معوجة ليجعلوك بعيداً من الطريق المستقيمة وغريباً من العزم المقسط فلذلك أتبع ما قيل، أنهم لا يدركون الحياة لأنهم لو سلكوا طرقاً صالحة لكانوا قد وجدوا سبيل الصديقين الممهدة، الصالحون هم الذين يسكنون الأرض وذوو الوداعة يعمرون فيها، طرق المنافقين تباد من الأرض أما أعداء الشريعة فيرفضون منها، فيلزم ضرورة أن تسلك الطريق المستقيمة كما يأمر القائل لا تجنح يميناً ولا يساراً ورد رجلك من الطريق الرديئة لأن الرب قد عاين الطريق اليميني والطريق اليساري معوج، أتقِ الرب فتحفظك خشيته، أحفظ وصاياه فهي ترشدك إلي الحق والتعظم، أما الفساد والحسد والكبرياء ونظائر هذه لا توطنها في حصنك ومثلها تلوين الأغذية والأقوال السفيهة والمزاح والخلاعة في الأشياء الغير لائقة فكل من يسلك في هذه قد ضل عن طريق الحق معتسفاً علي غير هدى، فأما السالك في الطريق المستقيمة يبلغ إلي منزل الحياة، فلا تضيع أيها الحبيب الورع الفاقد الرياء، التورع هو الابتعاد من كل نوع خبيث، إن سمح اللـه أن تُعَير من أجل عمل صالح فلا تخجل من التعيير الآتي من الناس ظلماً وتعمل ما لا يجب لأنه قال في إشعياء ” يا شعبي الذي أسمي في قلوبكم لا ترهبوا تعيير الناس ولا تنغلبوا لاستحقارهم لأنه كالثوب الذي يعتق من الزمان وكالصوف المأكول من السوس تبلى المساوئ العارضة لك ويبقى عدلك إلي الأبد وخلاصك إلي جيل الأجيال ” ويقول أيضاً أنا لست أقاوم ولا أجاوب قد بذلت ظهري للسياط وفكي للطم أما وجهي فلست أرده عن خزي البصاق والرب صار معيني لهذا لست أخجل بل جعلت وجهي كصخرة صلبة وقد علمت أنني لست أخزى فلذلك لو مسك شرف الاغترار وترأس علية فلا تجزع ولا تترك الطريق المستقيم كما يعلمنا القائل: إن أصطف عليَّ عسكر لا يرهب قلبي. ويقول أيضاً: تقووا ترجلوا وليعتز قلبكم يا جماعة المتوكلين علي الرب. لا تعير الخاطئ لأنك لا تدري كيف يكون منقلبه فالأفضل أن تعمل كل شئ كما يشاء اللـه أحسن من أن تمدح رديئاً وتحوى خبراً قبيحاً إذ الرب يقول هكذا فليشرق نوركم أمام الناس لكي ما يبصروا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السموات. فلا تجنح الآن عن غير مسلك الطريق المستقيمة لكي لا تسقط في خسفات وأماكن مقفرة ويحدق بك كافة الوحوش البرية وتطوف بك مياه كثيرة فتندم حينئذ متوجعاً لأنه لا يتوجع إلا من تحدق به الأسواء لأن اللـه متعطف علي البشر وصالح ولا يشاء لجبلته سوء، كما يذكر القائل: أنه لا يفرح بهلاك الأحياء لأن العذاب غير فانٍ. وفي موضع آخر يقول: لا يقولنَّ أحد إذا أمتحنَّ أن اللـه أمتحنني فإن اللـه لا يمتحن بالشرور وكل أحد إنما يمتحن من قبل شهوته يجتذب وينخدع ثم أن الشهوة إذا حملت تلد خطيئة والخطيئة إذا كملت تنتج الموت، إن الشهوة أم الخطيئة التي أخرجت حواء من الفردوس، وجعلت قايين قاتل أخاه، جعلت المصرية تراود يوسف العفيف وإذ كان الشاب يخاف اللـه طرحها، هذه أسقطت الشعب في القفر وأبادت سبع أمم في أرض كنعان إذ أغاظوا بها الذي خلقهم فلذلك أضمحلوا، هذه أمالت قلوب بني إسرائيل عن شريعة العلي كما كتب ” أنهم صاروا خيلاً هائمة علي الإناث وكل واحد منهم صهل علي امرأة قريبه، هذه أطغت قاضي الشعب ببابل لأن الشهوة الرديئة هي أم الخطيئة، هذه أنهضت الحروب والهياج علي الأرض، هذه جعلت هروديا تطلب رأس الصابغ، هذه لما أحبها يوداس أسلم رب المجد إلي الأثمة لأنه لما اشتهى الذهب أضاع الحياة.

فلذلك يا أخوتي الأحباء فلنهرب من كل شهوة رديئة ولننفضها من قلبنا ونبعدها ولا نشفق عليها فإنها ليست مثمرة لكنها فرع المحال، ليست مرضاً للجسم لكن جرح للنفس وضربة للقلب، هذه تقطعنها من مساكنة القديسين، هذه تجذبنا من السموات وتقيدنا بالأرضيات هي شجرة غير مثمرة حاملة ورقاً متكاثفاً وفي أوراقها يسكن أولاد الأفاعي، أقطع شجرة الرذيلة وأغرس عوضها في نفسك شجرة الحياة، الصليب المكرم، آلام المخلص، آلام موته ومحبته فلتكن في قلبك كصخرة شامخة منصوبة في البحر تستدعي السفن المنبثة في اللجة إلي ميناء الحياة، جاهد كجندي نجيب لتنال الأكاليل، أسمع القائل: أجعل بني إسرائيل متورعين. إذا جاهدة بفرط الجهاد فستعرف حينئذ مواهب الملك وتعلم موقناً وقتئذ أن حسنة ونافعة وصالحة وصايا الرب والصبر له وحفظ وصاياه حينئذ تحس بالأوجاع كمنام صائرة لك كتاج الملك علي رأسه جالساً علي منبره حينئذ يصير لك سرور وابتهاج، وسرورك لا ينتزعه أحد منك.

ليعطينا الرب أن نجد رحمة قدام صلاحه في هذا الدهر العاجل وفي المستأنف فإن له المجد إلي أبد الدهور.

آمـين.

 

 

 

 

@

المقالة السادسة والعشرون في من سقط بسبب الغفلة ويحتج بالخطأ

 

 

أيها الأخ إذا اشتهيت سيرة العبادة فقد آثرة عملاً حسناً إن حفظته إلي النهاية، فق إذاً وأصغِ إلي ذاتك مثل حكيم مثل عابد لا كغيره فليس صراعنا بإزاء لحم ودم بل بإزاء الرؤساء والرئاسات نحو السلطات، بإزاء ضابطي عالم ظلمة الدهر، بإزاء جنود الخبث المصارعين في السماء فُقْ إذاً إلي النهاية لكي لا تنغلب من قبل رقادك وعدم الإصغاء لذاتك فتقول بجهالة قد أفضيت إلي رتبة عابد وما وجدت هناك طريق خلاص فلماذا أيها الأخ تنكر نعمة الرب، لِمَ تستهجن سيرة العبادة لعلك تشاء أن تنتفع بغير أن تتوجع من أجل نفسك بل تنخدع لشهواتك وللذات الأفكار وتحتج بسيرة العبادة لأنك لو حفظت وصايا الرب وأحببت تقواه لكان حفظ نفسك، فأولاً إنك لم تحفظ قانون سيرة العبادة ورقدت في صلواتك الجامعة، أحببت أن تسلك مجانياً واحتقرت من هم أعظم منك قدراً، أحببت استعلاء الرأي أكثر، أبعدت الحمية، ولازمت كثرة الأكل، السهر لم تحبه، أحببت كثرة النوم الذي لا يشبع منه، الطهارة لم تحبها وأحببت الدنس، الطاعة لم تؤثرها وأحببت عدم الطاعة، الغضب والسخط لم تبغضهما وأحببت المحك والحقد، السكوت والصلاة ما أحببتهما وأحببت الصراخ واللعن والحلف، الظلافة والورع لم تحفظهما وأحببت المزاح مع الضاحكين، الصمت والتقويم ما أحببتهما وأحببت اكثار الكلام والاغتياب، عدم القنية ما آثرتها وأحببت احتشاد الفضة، النسك والتعب لم تحبهما وأحببت التنعم والبطر، العمل بيديك لم تؤثره وآثرت البطالة، أكثر السلامة ما أثرتها وأحببت الشرور بالإنقلاب الردئ، التوجع للمحزونين لم تملكه وأحببت أن تكون فظاً وغير متوجع لأحد، لم تؤثر أن تحتمل حزناً وتعييراً من أجل الرب وتقت إلي الجلوس الأول والمدائح الباطلة، محبة اللـه وخشيته لم تحفظهما أما الإزدراء به ومقت الأخوة فأحببتهما أكثر، وماذا أقول أيضاً: أبغضت المناقب السمائية وأحببت الأشياء الأرضية وتحتج بسيرة العبادة. أما عرفت أنه مكتوب أن الرب يبيد كافة المتكلمين بالكذب، وأيضاً لا تتكلموا علي اللـه ظلماً فإن اللـه هو القاضي. أرايت أيها الأخ ان مناهي العلة ليست من آخرين، عد إلي ذاتك وأرجع إلي الرب بكل قلبك فإنه لا يريد موت الخاطئ مثل ما يشاء أن يرجع فيحيى لأن الرب يشاء أن الكل يخلصون لأنه صالح، أجُرحت ! تقدر أن تبرأ. أَسقطت ! قم. لا تبذل ذاتك إلي الهلاك فإن المخلص نفسه قال إن الأصحاء لا يحتاجون طبيباً بل أسواء الحال، وما جئت لأخلص الصديقين لكن الخطاة، فلهذا أيها الأخ تفهم فأشير عليك: أجلس في السكوت وأحضر بين عينيك خشية الرب وأجمع أفكارك، أجلس كقاضٍ وتأمل عبور الزمان الماضي منذ أقبلت إلي العبادة لكي ما تعرف الأمر الذي صار لك سبباً لمثل هذا العزم وأوسم في قلبك المضرة والسبب ومن أين أتتك هذه الخسارة وأصنع بإزائها الجهاد لأن التاجر إن وقع بين اللصوص أو إن غرق مركبه أو ضاع وسقه فلا ينسى الموضع الذي ضاع فيه الوسق وإن عرض بعد مدة طويلة أن يجتاز بذلك الموضع يتحرز كثيراً ليعبر فيه فلنشابه التجار بل نتحكم أكثر منهم. أولئك إنما أضاعوا غنى بالياً فلا ينسوا الموضع، وأما نحن فقد أضعنا غنى لا يبلى ونضجع، فمنذ الآن أجلس في خلوة وأجمع أفكارك وأفحص روحك نهاراً وليلاً لتعرف مثل هذه الخسارة، هذا الإنعكاس لئلا تكون منذ الإبتداء قد أقتنيت دالة والدالة عكست فكرك المتدين حسناً وأفسدت عاداتك وجعلتك غير مستحي ولا خجلان لئلا يكون الضرر قد أتاك من قبل أكثارك الكلام لئلا تكون العلة صارت من هيام البطن، من عدم الطاعة، من اشتهاء أحوال مختلفة، من حجة الخدمة والضجر، فإذا عرفت السبب فأقطع الدالة والوقاحة بالتورع لا تخجل أن تدعى مرائياً من المخالفين لوصايا الرب لأن من البين أنهم ما أحضروا ذكر المراياه لتتمجد بل لتخجل من ذلك وتصير وقحاً عادم الخجل وغريباً من العزم المقسط، لأن الذين يدعون بالمتورعين مرائين، فيقول السيد: أيها المرائي أنتزع أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر أن تخرج القذاء من عين أخيك لا تخجل من التعيير فتعتاد عدم الأدب فإن الذين لا أدب لهم يلتقيهم الموت لأنه إن كان قلبنا لا يلومنا فلنا دالة قدام اللـه، وأيضاً إن عيرتم باسم الرب فأنتم مغبوطون فإن روح المجد وروح اللـه يستريح عليكم فلا يتألم أحدكم مثل قاتل أو كلص أو كرقيب غريب فإن تألمت كمسيحي فلا تخجل فإن اللـه يتمجد بهذا الاسم. فمنذ الآن أهرب من الدالة والضحك فإنهما لا يوافقان نفسك، وكذلك شره البطن أقمعه بالحمية، ومحبة الفضة بالنسك والزهد في القنية، وكثرة الكلام بالصمت، والضجر بالصبر، وصغر النفس بذكر الخيرات المنتظرة، وعدم الطاعة بالتواضع. وإن كان العدو الماقت الخير قد أنشأ لك الشر فأحفظ نفسك فيما بعد نقياً ولا تشارك خطايا أجنبية وعلي حسب رأيي أعتقد أن مبدأ الشرور صار لك من الدالة وهذه جعلتك لا تخجل، فلذلك يقول: الطوبى للرجل الذي يتقي كل شئ من أجل التورع، أي ربح في العالم أيها الأخ وأي صلاح يمنح الذين يحبونه إذا أخذ إنسان امرأة فذلك بدء الهم، أو ولد أبناً فذلك اهتمام آخر، أو ولد آخر فذلك اهتمام آخر أكثر، وإذا مات أحدهما فيخلف لوالديه نوحاً، وإن لحقت الحي صعوبة يتوجعان من أجله أكثر من المائت، إذا وافت إلي الرجل ساعة الوفاة فشر عليه من موته ان يحسب حزن قرينته ويتركها أرملة وأولاده يتامى، وهذا كله أيها العابد عتقك منها نير الرب الصالح فكيف تؤثر أن تميل إلي الأشياء القديمة، فلا تيأس من نفسك ولا تقل لا أستطيع أن أخلص، حب خشية اللـه من كل نفسك وهي تشفيك وتبرئ جراحاتك، وتحفظك في المستقبل غير مجروح لأنها بقدر ما أحبت نفسك تقوى اللـه لا تقع في فخ المحال بل تكون كالنسر الطائر إلي العلو وإن هجعت بعد هذا فإن النفس بمخافة اللـه تهدم الفضائل الشامخ علوها ويلعب بها الذين أسفل ويغطون عينيها ويستاقونها كداً إلي آلام الهوان مثل ثور معلق بنير، فلذلك أيها الأخوة لنهتم بخلاصنا، لنهتم بساعة الوفاه، ولنمقت الأمور الأرضية لأن هذه كلها تبقي هنا، هذه لا تنفعنا في ساعة شدتنا حين نتضرع أن نترك وليس من يستجيب. ويلي ويلي ما هي ساعة الموت حين لا يسافر الأب مع ولده، ولا الأم ترافق أبنتها، ولا المرأة رجلها، ولا الأخ يرافق أخاه، سوى عمل كل واحد مهما عمل إن صالحاً وإن خبيثاً، فمنذ الآن فلنتقدم فنرسل أعمالاً صالحة حتى إذا انصرفنا يستقبلنا في مدينة القديسين، إن شئت أن تنجح فأقتنِ الملك صديقاً لك هنا لأنه بمقدار ما تخدمه هنا يمنحك المرتبة وبقدر ما تكرمه هنا يكرمك هناك لأنه كتب: إني أشرف الذين يمدحونني ومن يتهاون بي يهان، أكرمه بكل نفسك ليؤهلك لإكرام القديسين.

في أي شئ يجب أن تقتنيه، قدم له ذهباً فضة، إذا رأيت عرياناً فألبسه، غريباً فآوه، فإن لم يكن لك شئ من هذه فقدم له ما هو أكرم نوعاً من الذهب والفضة أمانة، محبة، حمية، صبراً، تواضعاً، طول روح، إتقاء الاغتياب، أحفظ عينيك لئلا تبصر ضلالاً، ويديك ألا يعملا ظلماً، وأعطف رجليك من الطريق الردئ، عزِ صغيري الأنفس، توجع للمرضى، أعطي العطشان قدح ماء بارد، أعطي الجائع كسرة خبز مما لك، مما وهبها لك قدم له، لأن مخلصنا لم يطرح فلسي الأرملة، وماذا طلب إيليا النبي من الأرملة أليس ماء قليل في إناء وكسرة خبز، وقيل قام إيليا ومضى إلي صارفة صيدا ودنا من باب المدينة فإذا بامرأة أرملة تجمع حطباً فهتف إيليا وراءها وقال: ائتي لي بيديك كسرة خبز، أتعرف أيها الحبيب بماذا كان الأنبياء يغتذون بقليل من ماء ويسير من خبز وهذا بعد ضيقة من الجوع لأنه كان لهم كافة الحرص في الخيرات المعدة لهم في السموات. يا أخوتي لنحب طريق القديسين وما دام لنا وقت فلنجعله ثمراً حسناً للتوبة، لا تضيع وقتاً موافقاً للتوبة ولا تتنزه في خيالات هذا العالم ولا ترتبط مع الناس السائرين بعدم خشية اللـه ولا تنافس أعمال المتهاونين بخلاصهم كما يأمرنا الرسول القائل: إن الأحاديث الرديئة تفسد العادات الصالحة. وفي فصل آخر يقول: يا بني أتخذ مشورتي ولا تتركها بل أحفظها لك في حياتك، لا تذهب في طرق المنافقين ولا تغاير طرق الأثمة، في أي موضع نزلوا معسكرين لا تمضي هناك، حد عنهم فإنهم لا يرقدون قبل أن يعملوا الشر قد سلب نومهم فلا يرقدون، الذين يأكلون خبز النفاق ويسكرون بخمر تجارة الشريعة، أما طريق الصديقين فتتلألأ بالنور هم يسلكونها ويضيئون إلي أن يلمع النهار. ويقول أيضاً: لا تصر رفيق إنسان غضوب، ولا تساكن صديقاً سخوطاً لئلا تتعلم شيئاً من طريقه فتأخذ لنفسك وهقاً. وفي فصل آخر يقول: أطلب إليكم يا أخوتي أن تترقبوا الذين يصنعون الشقاقات والشكوك بخلاف التعليم الذي تعلمتموه وأجنحوا عنهم فإن مثل هؤلاء لا يعبدون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم وبالألفاظ الصالحة وبالتبريكات يخدعون قلوب ذوي الدعة.

فلنهرب إذاً من الطريقة العريضة المؤدية إلي الهلاك ولنتوقن إلي الطريقة الضيقة المؤدية إلي الحياة الخالدة، فلنتوجع هنا بالاختيار قبل أن نتوجع هناك كارهين، ولنبغض العالم والسيرة العائلية، ولنصنعن لنا طرقاً مستقيمة، فلنحب الحرص ولنكن ملتهبين وغالين بالروح لدى اللـه، فلنبكين ههنا باختيارنا لنستعطف اللـه فينجينا من البكاءِ وقعقعة الأسنانِ، ولنحب النوح فإنه وصية الرب لأنه هو قال: الطوبى للنائحين الآن فإنهم يعزون، ولنخطر ببالنا يا أخوتي الأحباء أمر النواتية الذين يسيرون في البحر أية معاطب يحتملونها محاربين البحر ويجوزون معظم الأمواج فمتي ما أكمل أحدهم الوقت الذي أئتجر فيه لا يحفل بالمعاطب التي أحتملها محارباً للبحر من أجل الفرح لأنه أخذ كمال أجرته بل ويصير أوفر نشاطاً في سير البحر، فأولئك إذا أكملوا طريقهم يضطرون أن يعودوا إليها. أما نحو يا أخوتي الأحباء إن بلغنا حسناً إلي كمال الجهاد المنصوب لنا فليس لنا أمر يضطرنا أن نستعمل هذا السعي نفسه لأن هذا غير ممكن فالجهاد يا أخوتي قليل وعطية الثواب لا توصف، فلنستفق في عمل الرب بكل قلبنا وقوتنا ما دام لنا وقت وكما أن مواهبه لا ندم يخامرها والدعوة التي للقديسين هي هكذا وعكسها ما أعد للمضادين منذ القديم فلذلك الطوبى للإنسان المتقي الرب فإنه سيأخذ منه الإكليل المعد للذين أحبوه.

وله كل مجد إلي أبد الدهور

آمـين

 

 

 

@

المقالة السابعة والعشرون في التوبة

 

 

الجالسون في طاعة أب روحاني يخطر لهم العدو أفكاراً قائلاً: أنصرف من هنا وأجلس مع ذاتك فتفلح أكثر. فإن تنازل الأخ لمثل هذه الأفكار يفارق الأخوة، وإن أبصر العدو أن فكر الأخ مستفيق قليلاً يخطر له قائلاً: أدخل إلي البرية الداخلية. ثم إذا جلس الأخ مدة ما في البرية يخطر له فكر الضجر وطول المدة وضيقة الحوائج وقلتها وضعف الشيخوخة وتعب البرية فإن قدر العدو أن يزعج الأخ يسحبه منها ويأتي به إلي قرب ضيعة أو مدينة وحينئذ ينشئ له أفكار الزنا فيمتنع الأخ أن يدخل إلي المدينة أو يدنوا من الضياع فإذا أبصر العدو قصد الأخ يخيل بذهنه الحركات ويحتال علية فمن ذلك أنه يغري امرأة أن تأتيه وهو جالس في قلايته تقرع بابه بحجة أنها تائهة أو كأنها جاءت تستعطي صدقة أو بحجة أنها تطلب إنساناً تعرفه، فإذا فتح الأخ بابه وأبصر المرأة واقفة لدي قلايته تقول له المرأة: يا سيدي المعلم أين يسكن فلان ؟ وإذ قد مال النهار أعمل محبة واقبلني هذه الليلة لأني ضالة عن الطريق وأخشى أن تأكلني الوحوش، وربما تحضر المرأة معها امرأة مخادعة أخرى ولا يبعد أن تحملا مأكولات وحوائج ترومان بِها أن تخدع الأخ. فحينئذ يقاتل هذا من فكرين ! فيخاف أن يسقط من الوصية كمن لا تحنن له، أو يصنع الخير فيقتنص به ولئلا نسهب المقال نقول إذا غلب الأخ من الشهوة ورام بعد إكمال الإثم أن يبعدها ويصرفها تجاوبه قائلة: لماذا أذللتني ؟ اتصرفني من عندك. إلي أين أذهب ؟ كيف أظهر لوجه والدي ؟ هل يمكن من الآن أن ينكتم الأمر ؟ أعرف حقاً أنني لا أبتعد منك بل أجلس معك في قلايتك لتعولني من حيث ما شئت. فحينئذ يبتدئ الأخ ينتحب علي ذاته نادماً علي أنه فتح لها باب قلايته. فإذ قد عرفت ذلك أيها الأخ صُنْ نفسك فإنك إن وقعت في وهقها لا تستطيع أن تنجو منها إلا بتعب لأنه قيل: أنها بملث شفتيها صرعته. فإذ قد تقدمت وعرفت ما هي أواخر الخطيئة وما تسبب للذين يستعملونَها فيما بعد، فأهرب من لذة الألم فإن أثمارها أثمار الخزي، فقبل اللذة شهوة وبعد اللذة حزن، كرر الافتكار في أن اللذة يعقبها الحزن وأهرب من الخطيئة. أتخذ في عقلك الخزي من الناس بل الأولى خاف اللـه، أطرد الشيطان المريد أن يخدعك ويسرق أتعابك لتبقى غير حزين لأن العارف القلوب قد عرف انك ليس من أجل خبث أو مقت للناس تدفع المرأة بل لئلا يصنع بك الخير الشر، فإن قال أحد أن ضيافة الغرباء حسنة فأنا أطابقه لكن سبيل الرجل المحب للضيافة أن يضاهي الذي يصفي الفضة في البودقة فالنقي يأخذه لنفسه ويعرض عن النفاية، الأمر الذي معناه أحفظ الوصية وأهرب من الخطيئة كما تَهرب من فم الحية، لأن الذي قال: كنت غريباً فآويتموني. قال: لا تزني. تيقظ في حداثتك فإن توانيت فتوجد متعبداً للآلام وخادمها من شبيبتك إلي شيخوختك لأن من غرق في اللجة وإن تيقظ وجاهد لكن نَهضات الأمواج تقوي عليه، فأما من يغرق في الميناء فذلك مصفر من الاعتذار، بونيته أهلك سفينة سيده، أنت أيها الأخ في الميناء حاصل أحذر علي نفسك فلهذا لا يوافقنا أن نتصرف في الضياع إن أحوجتك ضرورة لتمضي إلي قرية فلا تحدث امرأة فإنِها كالمغناطيس تجذب نفسك، فُقْ إذاً فإن السقطة ليست موضوعة بعيداً، جاهد بتورعك وبخشية اللـه بإزاء المحبة لأن عدم الاستحياء أم الزنا، إن أبصرتك مائلاً نحوها تجذبك وتسقطك أشر سقطة، وإن كنت متورعاً فلا تثق بنفسك بل تيقظ لكي لا بحجة الخشوع والتبريك ترخي ذهنك بكلماتِها. قال بعض القديسين: إن النساء تبرزن كلمات تحركن بِها الألم، لكن كما قال المخلص: ها أنا أرسلكم كخراف بين ذئاب فصيروا عقلاء كالحيات وودعاء كالحمام. والرسول يوصي قائلاً: لا تصيروا سفهاء بل أفطنوا ما هي مشيئة اللـه ولا تسكروا بالخمر الذي فية نَهم الشهوة. فأعرف إذاً أيها الحبيب مستيقناً إنك إن كنت كالذهب النقي في العالم ولما جئت إلي العبادة توانيت ورقدت فلا تتباطأ أن تصير كالرصاص، وإن كنت جئت إليها محباً للرب حقاً فلا تتباطأ أن تصير كاللؤلؤة لا دنس فيك أو وسخ أو شئ مما يماثل هذه، هذا أؤثر أن أعرفك إياه أن من يستعمل الخطيئة قتاله أكثر من غيره لأن من يطرح حمأة في موضع ما يكثر نتانته هكذا من لا يمسك نمو الألم، وأعرف إنك إن توانيك في ذاتك فستندم أخيراً فإن الرسول يقول: من لا زوجة له يهتم بأمور الرب كيف يرضي الرب، ومن قد تزوج يهتم بأمور العالم كيف يرضي امرأته. فأنت أيها العابد لِمَ تختار اهتمام العالم وكيف تزعم أنك ترضي الرب، قد خصيت ذاتك من أجل ملكوت السموات وإن لم تمسك فستغتم أخيراً علي ضروب شتى كما يُعَلم القائل: مثل هؤلاء لهم حزن بالجسد لأن المتزوج قد ترك تقويم الفضيلة وتشاغل بمنزلة وامرأته وتربية أولاده وغير المتزوج يهتم بأمور الرب كيف يرضي الرب فإذ قد خصيت ذاتك من أجل ملكوت السموات فأثبت منذ الآن في هذا الحد لأنه قد كتب ” الأصلح ألا تنذر أولى من أن تنذر ولا تفي ” فتكلف أن تمسك فتجد أفكارك نقية وذهنك كميناء صاحي مملوء سكوناً ورجاء الخيرات العتيدة يسمن قوى نفسك كما من شحم ودسم.

أطلب إليك أن لا تفسد بنوع آخر هيكل اللـه، ولا تحزن روح اللـه الساكن فيك، ولا تغم الملائكة المأمورين أن يحفظوك نهاراً وليلاً الذين يطردون الشياطين عنا حين يصرون علينا أسنانَهم صريراً لا يُرى لئلا يثلبونا في يوم الدينونة فنسقط في أنقلاب السدوميين لأنه إن كانت الحيطان تكتنفنا والسقف يغطينا والباب مغلق علينا والظلمة مشتملة لكن فلنخطر بأذهاننا أن الفاصل الظلمة من النور لا يكتم عنه شئ من أمورنا وليحقق هذا عندك النبي القائل: افقهوا أيها السفهاء في الشعب والمائقون، اعقلوا وقتاً ما أَمن نَصَبَ الأذن لا يسمع، أو الذي جبل الأعين لا يتأمل، الذي أدب الأمم لا يوبخ المفيد الإنسان علماً، الرب يعرف أفكار الناس أنَها باطلة. أرأيت أيها الحبيب أن اللـه لا يعاين أعمال الناس فقط بل وأفكارهم. إن أخطر لك العدو قائلاً: ستكون لك توبة فلذلك تمتع بما تؤثر. فقل: ما الحاجة أيها المحال أن أنقض بيتاً مبنياً بناءً حسناً وأبني أيضاً. إذ الرسول يقول: أعملوا صلاحكم بخشية ورعدة. فحيث تكون التقوى من البين أنه لا يوجد ولا لذة واحدة عالمية.

فثابر أيها الأخ الحبيب علي خلاصك وإذا جلست في السكوت فأجمع أفكارك وقل لذاتك: أيها الإنسان لك مثل مدى هذا الزمان صانعاً شهوات الجسد وأمياله فماذا انتفعت ؟ ماذا ربحت ؟ هل زدت علي قامتك زراعاً واحداً ؟ أصرت سميناً ؟ فما خزنت لذاتك شيئاً آخر سوى طعام الدود، وإذا استفدت الكنز في السموات وأشبعت ذاتك خيرات وصرت هكذا بلا خشية فما الفائدة من خروجك من العالم.

ويلك يا نفسي إنكِ أفضيت إلي مثل هذه السيرة ها أخوتكِ المتقوا اللـه قد تزينوا بالفضائل بالحقيقة وأنا أذهب إلي الظلمة، بالغدوة أتندم علي الأفعال التي عملتها وفي الليلة المقبلة أكمل أشر منها، وَهَبَ لي الرب حياة وعافية وأنا أُسخط بِهما عمداً الذي خلقني، يا نفسِ لِمَ تتوانين لِمَ تتهاونين، يا نفسِ اعرفي ضعفك حتى متى تقاومين من خلقكِ وتناصبين أوامره، أيها المحال الخبيث قد جعلتني عاراً للملائكة والناس لأني صرت مطيعاً مشورتك النفاقية لأنك أخطرت لي قائلاً: أعمل شهوتك مرة واحدة ولا تصنعها أيضاً ولا تعرف خطيئتك. وها هو ذلك الصغير قد صار لي هوة ولا يمكنني أن أناصب بإزاء شهواتك الخبيثة المتلونه، لأن الماء وجد ثقباً صغيراً فصنع هوة عظيمة واضحة للكل، لأن عادة الخطايا تقود الواقع إلي أشر حال لأنك أظلمت ذهني بالأفكار الدنسة وكردستني إلي حب الخطيئة، لمن أقول ليبكي عليَّ أنا الشقي لأن العدو أوقفني مجرداً من قبل ونيتي، فأنظر إلي التوكل علي اللـه ولا أيأس من خلاصي لأنه جزيل التحنن وفائق الصلاح، وماذا أقول للعدو الطاغي لأنه حل مسكي من أجل مرض معدتي وجعلني غريباً من السهر في الصلوات، غرس فيَّ محبة الفضة بسبب شيخوخة طويلة، جفف دموعي، غلظ قلبي، فصلني من الطاعة التي بالمسيح وجعلني غير مطيع وبطالاً، وصيرني حسوداً ومغتاباً.

السارية التي في عيني لم يسمح لي أن أبصرها، وقذاء أخي يقدمه أمام عيني، يشير عليَّ أن أكتم أفكار قلبي وإذا سقط أخي في هفوة يجعلني أَهذ فيها، علمني أن أكون متكبراً وغضوباً وسخوطاً، وجعلني شرهاً وسكيراً ومحباً للذة، خسارات نفسي جعلها عندي مثل فوائد، صيرني متذمراً وعاجزاً ومهذاراً، جعلني ردئ العادة ومشارًّا، علمني أن أتنزه في القراءة والترتيل وأصلي ولا أعرف ما أقول.

يسبيني مراراً كثيرة ولا أعلم، وعظت من قوم يتقون الرب فكنت أخالف وعظتهم الصالحة وأقبل كالأسنة أقوالهم، إذا انتفعت أغضب. يكفيك أيها المحال مثل هذا الهلاك، هلمي يا نفسي منذ الآن إلي ذاتك، علي من تعتمدين إذ تلبثين مغضبة من خلقكِ إلي متي تتصرفين في هذه الشرور، لا تنكري نعمة من يسترك لكي لا يبتعد منكِ فتدفعين إلي أيدي أعدائك.

يا نفسي اهربي من المحال ومن أعماله فإنه ماقت الناس وقاتل الإنسان منذ القديم، إن قربت إليه لا يشفق عليك من الهلاك، أكرهي الخبيث والتصقي بالإله المتعطف علي البشر، أستحي يا نفسي منذ الآن وأقبلي إلي طريق الخلاص، جرحتِ فلا تيأسي من ذاتك، لأن المجاهد مراراً كثيرة يخر واقعاً وأخيراً يستوضح مكللاً، سقطتِ أنهضي، تشجعي وقولي الآن بدأت ولا تلبثي في الهفوة لكي لا تدفعي كالجثة طعاماً لطيور السماء والوحوش، أركعي لملك المجد معترفة بخطاياكِ فإن له كثرة رأفات جزيلة، فالمريدون أن يدخلوا إلي الملك الأرضي يُمنعون من البوابين وتدفعهم الجنود والخدام ويقدمون هدايا للرؤساء لينالوا مرادهم. فأنتِ إذا أثرتِ أن تدخلي إلي ملك الكل فلا يسبق إلي وهمك شئ من هذه، لا تطلبي هدية لأن ليس أحد يأخذها وليس من يمنع لأن الملك يوجد للحين مستعداً ومستقبلاً لأنه غير حقود ومحب للناس وغافر خطايا الراجعين.

فتقدم بلا رياء ولا بقلب ضعيف بل تقدم إليه بضمير نقي لأنه قبل أن تتكلم كلمة صغيرة أو عظيمة عرف الأشياء التي عزمت أن تقولها له، وقبل أن تفتح فمك تقدم وعرف أفكار قلبك، فلا تنقسم ولا تكتم الألم فإن ليس الطبيب جافياً بل متوجع راثِ ليشفي بكلمة، قال فصار وصدق هذا من الأمور نفسها، قال للمقعد: لك أقول أنْهض وأحمل سريرك وأذهب إلي منزلك. ففي الحال صار الإنسان معافى وحمل سريرة ومضي متخطراً. قال للأبرص: أشاء فتطهر. فللوقت نقى من برصة. أقام العازر من الموت بعد أربعة أيام. ولكي لا نقول المعجزات واحدة فواحدة فنسهب القول، إن أعمال اللـه لا تحصى، إن التي بلت قدميه بدموعها ومسحتهما بشعرها بكلمة حل خطاياها قائلاً: ثقي يا بنت إمانك خلصك لأنه عين لا تنقص نابعة للناس أشفية فلا تتقسم إذاً لأنه لا يطرحك بل يريد أن تخلص، وهو الذي قال: إن كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا صالحة فكم أولى بأبيكم الذي في السموات أن يعطي الخيرات للذين يسألونه ويستسمحونه.

تقدم إذاً إلي أب الرافات معترفاً بخطاياك بعبرات قائلاً: أيها الرب إلهي الممسك الكل قد أخطأت في السماء وقدامك ولست مستحقاً أن أدعى ابنك، ولا أن أتفرس وأبصر علو السماء من كثرة آثامي ولا أن أسمي اسمك المجيد بشفتي الخاطئتين، لأنني جعلت ذاتي غير مستحق للسماءِ ولا للأرض لأني أسخطك أيها الإله الصالح. أسألك يارب وأتضرع ألا تطرحني من وجهك ولا تبعد عني لئلا أهلك لأن لولا يدك سترتني كنت هلكت وصرت كغبار قدام الريح وكمن لم يظهر ألبتة في هذا العالم لأنني منذ تركت طريقك لم يلقيني يوم صالح لأن اليوم الذاهب في الخطايا المظنون صالحاً أَمر من سائر الأشياء المرة، فمنذ الآن أترجى نعمتك أن تعينني وتؤيدني إذا اهتممت بخلاصي، فالآن أسجد طالباً عضدني أنا الضال عن طريق
العدل، أسكب عليَّ كثرة رأفاتك كما سكبتها علي الابن الشاطر فإنني قد أخذيت سيرتي، بددت ثروة نعمتك، ارحمني ولا تحقد علي سيرتي الطالحة كما لم تحقد علي الزانية ولا علي العشار، ترأَف عليَّ كاللص لأنه كان آيس من الكل فعضدته وجعلته ساكناً في فردوس النعيم.

أقبل توبتي أنا العبد البطال فإنني آيست من الكل لأنك أنت يارب ما جئت لتدعو صديقين بل خطاة إلي التوبة لأنه آيس مني الكل، صلي أيها الحبيب وأعترف وليساعد الصلاة والاعتراف العمل لكي ما تقوم صلاتك كبخور قدام اللـه وتسمع أيها الإنسان عظيم أمانتك ليكن لك كما تريد والإله نفسه مرشد الضالين ومقوم الساقطين يمنحنا أن نكمل سيرة غير مذمومة ويقيمنا القاضي العادل في ذلك اليوم عن يمينه.  آمــين

 

 

 

@

المقالة الثامنة والعشرون في فريضة البتولية والزيجة وفي المحبة

 

 

أسمع الرسول قائلاً: أريد أن كافة الناس يكونون مثلي لكن كل أحد له موهبة من اللـه واحد هكذا وآخر هكذا. فمن الواضح أنه يعني أهل العالم والزهاد في العالم فجعل بينهم فرقاً فاصلاً قائلاً: لكل واحد موهبة من اللـه واحد هكذا وآخر هكذا، فلم يمنع العلمانيين أن يتزوجوا بالسنة، ولم يقطع الزهاد في العالم عن النسك إذ قال:  كل واحد له موهبة من اللـه. لأنه يأمر أهل العالم قائلا: من أجل الزنا فليتخذ كل واحد امرأته. وأيضاً التزوج كريم علي سائر الأحوال والمضاجعة غير دنسة، فالزناة والفسقة اللـه يدينهم، والزهاد في العالم أفترض لهم النسك والحمية قائلاً: كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شئ. فقد نصب جهادين فأنت في أي موكب ترتبت وما هي العلامة التي تلبسها، وما هي المواثيق والعهود التي عاهدت اللـه بِها فإنك ستعطي عنها الجواب، لأن الرب يقول: أيها العبد الخبيث من فمك أدينك.

وكما تقدمنا فقلنا أنه قد أمر أهل العالم أن يتزوجوا بمقتضى الشريعة وفرض علي الزهاد في العالم أن ينسكوا، وإلا فلو كان بقوله أن التزوج أفضل من التحرق أمر الكل لما كان أحد يقوم هذه الفضيلة ولا إيليا التسبيتي ولا إليشع ولا يوحنا، وجماعة الذين أخصوا ذاتَهم من أجل ملكوت السموات، والرسول لو لم ينظر عطية الجزاء لما قمع نفسه.

فلا ترتأي أن تقول كما يحتج قوم أن أولئك كانوا قديسين وأنا خاطئ، لأنَهم إنما صاروا قديسين كونَهم سلكوا بسيرتِهم بعدل وبر، فماذا تقول أن الصديقين كانوا بلا أجساد. أليس كانوا في أجساد ؟ أسمع الرسول
قائلاً: إن كنا نسير بالجسد فلسنا حسب الجسد نحارب لأن أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة باللـه علي هدم حصون فمن الواضح أن أولئك قد قوتلوا بما أنَهم كانوا لابسي جسد وجاهدوا، فلذلك يقول: أقمع جسدي وأستعبده حتى لا أكون أكرز لآخرين وأكون أنا منفياً. ثم يقتادنا إلي الفضيلة بقوله: صيروا متشبهين بي كما تشبهت أنا بالمسيح. فلننصت نحن يا أخوتي لئلا باختيارنا نكمل شهوتنا ونجعل الوصية الرسولية غير عارفين قوة معناها.

ماذا تقول أيها الأخ قد سمعت أن التزوج خير من التلهب ولم تسمع ما يتلوه قائلاً: أما بعد فإن الزمان قصير كي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم، والباكون كأنَهم لا يبكون، والمسرورون كأنَهم لا يسرون، والذين يبتاعون كأنَهم لا يملكون، والذين يستعملون العالم كأنَهم لا يستعملونه لأنه سيعبر شكل العالم.

فلذلك أيها الأخ لا تغدر بمن أعطاك هذه النعمة ولا تخالفة قائلاً لك بالرسول: لا تتوانى بالموهبة التي فيك التي أعطيتها بنبوة بوضع أيدي ذوي الرتبة القسيسية لكي لا تجعل ذاتك عاصياً مخالفاً فتبني أيضاً الآلام التي نقضتها لكن أوفِ للرب نزورك لأنه قد كتب الأصلح ألا تنذر أوفق من أن تنذر ولا تقضي، أجتهد أن تكمل سعيك بموجب الشريعة لتكون لك دالة وتقول مع الرسول قد جاهدت الجهاد الحسن قد أكملت السعي قد حفظت الإيمان وأعد لي منذ الآن إكليل العدل وليس لي وحدي بل ولجماعة الذين أحبوا ظهورة له المجد.

أيها الحبيب إن أُهلت للعلم والإفراز ولموهبة الأشفية فأحذر أن تثق بالموهبة فتبقى غير مثمر، لئلا تقول حينئذ ارحمني فتسمع مع ذوي اليسار لست أعرفكم، لأنه كتب ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السموات فإن كثيرين يقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب ألسنا باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة وحينئذ اعترف لهم أنني لست أعرفكم قط انصرفوا عني يا صانعي الإثم، لماذا ؟ لأنَهم لم يحفظوا المحبة كما كتب، إن من لا يحب أخاه الذي يبصره فكيف يستطيع أن يحب اللـه الذي لا يبصره، والرسول يقول: وأريكم أيضاً طريقاً آخر أفضل جداً إن كنتُ أتكلم بألسن الناس والملائكة وليست فيَّ محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن، فإن حويت النبوة وعرفت الأسرار كلها وكافة العلم وإن كان لي إيمان حتى أنقل الجبال من أماكنها ولا تكون لي محبة فلست
شيئاً، وإن أطعمت كافة ما أمتلكه وإن دفعت جسمي لأحرق ولا تكون لي محبة فلست أنتفع شيئاً، المحبة لا تحسد، تغار ولا تتفاخر، ولا تتشامخ، ولا تبتغي حقوقها، ولا تغتاظ، ولا تفكر سوءاً، ولا تسر بالظلم، تفرح بالحق، تحتمل كل شئ، تؤمل كل شئ، تصبر علي كل شئ، المحبة لا تسقط ألبتة. فها قد سمعت أيها الحبيب قوة المحبة فأقتنيها في كل عمالك فتحتضن المديح من اللـه.

فأطلب إليكم يا أحبائي وأخوتي أن تذكروني أنا العبد البطال في صلواتكم المستجابة لئلا تصير أقوالي باطلة ولا تسبقني قدام القاضي في يوم ربنا يسوع المسيح لأنني لا أعرف في ذاتي شيئاً سوى انتظار دينونة وغيرة نار تأكل المقاومين لكن ليعطيني الرب وإياكم أن ندخل إلي ملكه برأفاته ويمنح محبته لقلوبنا كلنا.

لأن له المجد مع أبيه الصالح والروح القدس

الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين

آمين

 

 

 

 

@

المقالة التاسعة والعشرون في الضجر من العبادة   

 

 

رب المجد يقول: أدخلوا من الباب الضيق فإن الطريقة المؤدية للهلاك عريضة واسعة وكثيرون هم السائرون فيها وما أضيق وأضغط الطريقة المؤدية إلي الحياة الأبدية وقليلون هم الذين يجدونها. فمن هو الذى قد وجدها فيخبرنا بطريقها ؟ القديسون كلهم. الطريق التي سعى فيها جرياً الإناء المصطفى بولس وأكمل سعيه وأخذ الإكليل فذاك يصف لنا مسلكها فيقول: في كافة الأشياء فلنثبت ذاتنا كخدام اللـه بصبر كثير، بغموم، بشدائد، بضيقات، بإنزعاجات، بأتعاب، بأسهار، بأصوام، بطهارة، بمعرفة، بطول أناة، بخيرية، بروح نقي، بمحبة لا رياء فيها، بقول صادق، بقوة اللـه، بأسلحة العدل اليمينية واليسارية، بشرف وهوان، بمذمة ومديح، كمضلين ونحن محقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين ونحن أحياء، وكمؤدبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن مسرورون دائماً، كمساكين ونحن نغني كثيرين، كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ.

فمنذ الآن يا أخوتي لنتمسك نحن بِهذه الطريقة التي تجندنا لها إلي النهاية. إن كنت ساكتاً تفكر في المحبوسين في السجن الذين ليس محبوسين فقط بل وفي أعناقهم الحديد، وآخرين في أيديهم الخشب، تفكر في راعاة الغنم أية معاطب يحتملونَها في البراري والجبال وفي الشتاء يعذبون من البرد وفي الصيف تحرقهم الشمس.

إن كنت في كنوبيون أخطر ببالك الفصل المكتوب وكان لجماعة الذين آمنوا قلباً واحداً ونفساً واحدة ولم يقل أحدهم عن شئ من موجوداتِهم أنه له خاص بل كانت لهم الأشياء كلها مشتركة مشاعة، إن كنت تعمل الضفيرة تفكر في السائرين في البحر فإنَهم يكابدون شدة البحر ويعملون هذه الصنعة نفسها، إن كنت تعمل الزنابيل الصغار فأفتكر في عاملي أشباك صيد السمك، إن كنت ناسخ الكتب فأفتكر في نحاتي الحجارة. لا تعوج معاني الأقوال الإلهية المكتوبة بأمانة وحق لأن أي خطيئة أعظم من هذه أن تجعل المر حلواً والحلو مراً والنور ظلمة والظلمة نوراً لتضل الذين يقرأون، الويل لمن يعمل هذه الأشياء فإنه يصنع للنفوس شكوكاً.

إن كنت تخيط فأفتكر في الذين يقدون السيور، إن كنت تعمل الحصر فأفتكر في الذين ينشرون الرخام، إن كنت تعمل الأطباق المنقوشة أفتكر في عمل القنب، أو تعمل الأطباق الساذجة أفتكر في عمال هذه الصنعة العالميين، أو تغزل القنب والصوف أفتكر في عاملي السرادقات، أو تعمل الكتان أفتكر في دقاقين الكتان، أو تنسج ثياب الكتان أفتكر في القزازين، إن كنت خبازاً أفتكر في الشرط والأعوان، إن كنت في البستان فتذكر القصارين الذين يلمسون الماء في الشتاء كما يلمسونه في الصيف أو في المطبخ فأفتكر في الصباغين والحدادين الذين يسهرون الليل كالنهار خاضعين للسلطان ويثقون فيصبرون ويعنتهم الرؤساء فلا يتوانون في صناعتهم.

إن كنت بواباً أفتكر في غلمان الرؤساء الأرضيين أو خادماً أو أقنوماً أو رئيساً فتذكر القائل: أطلب إلي القسوس الذين فيكم أنا القس رفيقهم وشاهد آلام المسيح وشريك المجد العتيد استعلانه أن ترعو الرعية التي فيكم مراقبين للـه، لا بإلزام وأستكراه بل بالاختيار من اللـه، لا لإبتغاء ربح قبيح بل بنشاط، لا كمن يستولي علي الأنصبة بل صيروا رسوماً وقدوة للرعية فإذا ظهر رئيس الرعاة تأخذون الإكليل الذي لا يضمحل.

في كل ما تعمل وتضجر فيه أفتكر في صناعة تماثله فتقاوم المصارع، وكل ما تعمل بفكر أو بكلام فليكن لك الضمير شاهداً أن الشئ الصائر هو من أجل اللـه فتخلص. أطلب إليك أن تقول هذا، إن جحدت نعمة اللـه الذي دعاك إلي ملكه الأبدي ومجده وذهبت إلي العالم، ماذا تزمع أن تعمل كما يخطر لك فكرك ؟ بل ماذا خطر لك محارب نفوسنا ؟ إن أنكرت النعمة المعطاة لك أَتصير ملكاً، وإن تملكت الملك ألا يقتلك الموت، وإن ورثت نعمة جزيلة وجمعت غنى كثيراً ألا تخلف تلك كلها لآخرين وتنصرف من هنا مجرداً كما يقول الرسول: ما جئنا إلي العالم بشئ ومن الواضح أننا لا يمكننا أن نخرج منه بشئ ومن يزرع في الروح من الروح يحصد حياة أبدية.

أقول لك أيها الأخ كما يليق بإنسان إن تركت نعمة الرب فلا تدرك النعمة الأولى التي كانت لك قبل إبتدائك بسيرة العبادة بل جيرانك وأصدقائك وأهلك وأنسبائك يحسبونك مثل مخالف وناكت قائلين من ذا ألزمك وأضطرك أن تبتدأ بعمل لا تستطيع أن تكملة، مكتوب في الناموس من كان مرعوباً وجبان القلب لا يخرج إلي الحرب بل فليرجع إلي بيته لئلا يجزع قلب أخيه، فالآن ما بدأت به تممه فإن تقدمت وسقطت فلا تستقر في الهفوة بل عد إلي الرب لأنه في السماء موجود من يمحو خطايا الراجعين إليه، لا تتنازل مطابقاً بسوء التمييز لأن الليوث والتنانين لا تستطيع أن تضر كما يضر سوء التمييز للمذعنين له لأن كثيرين من الناس لما أبعدوا سوء التمييز ولم يشاركوا أصنافه بجلوا من الأعاجم وخجلت منهم الأسود والتنانين، ولم يقدر لهيب النار أن يلهب رؤوسهم لأنه لم توجد فيهم رذيلة بل الصلاح والخيرية،

فأما سوء التمييز فيقطع فضائل النفس قطعاً لا رحمة فيه لأنه لا توجد رذيلة بغير أن تكون أمها سوء التمييز لأن محبة الفضة قد استبان أنَها أصل كافة الشرور فذلك الأصل غرس في كرمة سوء التمييز لأن هذه تغذي وتنمي كرمة الرذيلة لأن أصعب خبث منها في العالم فإنَها تجعل عشاقها يدفعون إلي الأسر وتصيرهم هزءً لأن المنافق يهرب من غير أن يكده أحد فيذل في قفص أما المضبوط من سوء التمييز فلا يعذب من أيدي الأعاجم ولا في الغربة بل حيث ولد وتربى يعذبه أبناء جنسه وقبيلته ولا يستشفع فيه أحد، وعذابه بالجهر لا بالسر لا عن عمل صالح بل عن عمل سوء التمييز، وكافة الناس يدينون الواقعين في هذا الشر، وإن احتجوا ليس من يعينهم أو ينقذهم، إن أتبعت سوء التمييز فسيحدرك إلي مطابق الجحيم لأنه حطم الأقوياء ودمر المنازل وزعزع قواعد الملوك وأسقطهم من شرفهم.

أيها الحبيب الأخ أبتعد عن هذا الألم أبتعد جداً لا تتقيد بقيوده فإن قيوده قيود من حديد وكبوله من نحاس قد طرح من أحبوه، وأذلهم وصار لهم في هذه الحياة سقطة مذهلة وبعد الوفاة هلاكاً دائماً وما هو أسمه سوى سوء المعقول، ردائة التمييز يبغض الحق ويحب الكذب لا يقبل أدباً ويسر بعدم الأدب، لا يقبل التوبيخ ويطرح الوعظ، يربي اللذات يتهاون باللـه ولا يخجل من الناس، بدؤه عدم المخافة من اللـه ونِهايته الهلاك.

أيها الرب ربنا يا من فتحت عيني الأعمى منذ مولدة أفتح نظر ذهننا لئلا نسقط في وهق هذا الألم، لا تنكر أيها الحبيب نعمة اللـه أما قد علمت أن فرحاً عظيماً يصير في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين صديقاً لم يضلوا ولم يحتاجوا إلي توبة.

أيها الحبيب ما حزن هذا الدهر وما هو سروره، الأفضل أن نصبر علي الأحزان العارضة لنا من الاغترار بالطغيان لأن شرف هذا العالم وطغيانه يضاهيان لهيب النار التي تأكل الحطب المنضد وللوقت ينطفئ، ولهيبها الذي كان مقداره عظيماً أنتهى إلي شرار ورماد أما من يحتمل من أجل اللـه يضاهي من بني منزله علي الصخرة.

فلذلك أطلب إليك أيها الأخ أن تستفيق لدى الرب وتذكر موقف الإله الذي لا عفو منه والدينونة الدهرية وطبيعتنا الضعيفة، ماذا يكون أحقر من الناموسة ؟ وهل تستطيع أن تحتمل طنينها ؟ فماذا تصنع بالدود النافث السم الذي لا يرقد ؟

إذا صار المساء نقول قُدْ السراج فإنه وقت الظلمة، فماذا نصنع بتلك الظلمة المدلهمة الفاقدة الضوء ؟ إذا أحتر أحد من شعاع الشمس يهرب إلي الظل، فماذا نصنع بنار جهنم التي لا تطفئ ؟.

فلنأخذ يا أخوتي الأحباء نوذجاً لتلك الدينونة من الأمور المنظورة في هذا الدهر، إن عمل أحد طلاحاً وعُرِفَ وأرسله رؤساء هذا الدهر إلي الحبس فإن خزي وحزن يشملان نفسه ومع ذلك ربما يخدمه أهله ويلاطفه أنسباؤه ويسليه أصدقاؤه ويتعاهده معارفه متواتراً فيتعزى بهذه الأشياء إذ لا يبتعد عنه الاهتمام وعند نِهاية الأمر يسعى الأصدقاء في تخليصه، أو يبذل الأموال، أو يترجى أحداً لعلة ينقذه من الحبس.

فأما هناك فالمسجون من تلقاء أعماله لا يجد من يعزيه، ولا أب يسعى في تخليصه، ولا أم تجالسه فتسليه، ولا ملاطفة امرأة وأصدقاء، ولا خبر صالح، ولا سماع سلامة، ولا نور، ولا صوت طير يغرد، ولا تغير الأحوال، ولا استحالة الأوقات، ولا نغمة الموسيقى، ولا السرور. لأن هذه كلها تنتزع من المنافقين.

أما حظهم فبعكس ذلك كما كتب أنه يمطر علي الخاطئين فخاخاً وناراً وكبريتاً ورياح عاصفة هذه حظ كأسهم، فلنطلب إلي الرب من كل أنفسنا أن يسترنا في تلك الساعة المرهوبة فإنه يسر بالمتخلصين وقد أعد لهم الخيرات التي لم ترها عين ولم تسمعها أذن ولا تخطر علي قلب إنسان.

تذكر هذه وعد إلي الرب، لا تصر كفأس في يد المحال تقطع الغروس المثمرة، ولا كريح الشوب تفسد الأثمار الحسنة، أيها الحبيب أما تعلم إن جُرح أحد وسقط في مصاف الحرب يرعب المحاربين معه وإن تسلح وتجلد وأنقض بشهامة علي المضادين يستنهض بنشاطه الكسالى والعاجزين والضعفاء، أيها الحبيب تذكر أي تخشع كان لك حين بدأت بالعبادة ! فأين إذاً التخشع المملوء دموعاً ؟ أين الشوق السماوي والتورع الجميل الفاقد الرياء ؟ أين التواضع الرافع إلي السموات ؟ أين السكوت المملوء باطنه من الصلوات ؟ أين صيانة العينين المطهرة الأفكار ؟ أين المحبة المستشفعة الإله ؟ فإذا أبغضت هذه وأقصيتها فماذا تراك تقتني سوى سخطاً غضباً صراخاً وأفتراء اسرافاً وفماً لا يلجم.

أه كيف صارت الأرض المثمرة سبخة من رذيلة القاتنين فيها، أهذه هي الأقوال التي عاهدت اللـه أن تخدمه بِها في أحزانك، تبصر يا أخي لئلا الذي يؤذيك ويحرص أن يفصلك من الأخوة يصير لك سبب الموت المر والخزي، وأقول بالصدق إني أعرف واحداً أو أثنين أو ثلاثة أخوة تنحوا من الدير وساروا بالسيرة العالمية أيضاً، ولم يطل عمرهم في العالم بل ماتوا موته شنعاء.

فلذلك أطلب إليك أيها الأخ أن تقاوم الشهوة ولا تتنازل وتطابق الذين يرومون أن يقنصوك سريعاً بل فليكن عقلنا أيها الحبيب فوقاً ونرفع أيدينا إلي السماء مثل موسى والرب يحارب عن ضعفنا، فلا تخشَ من وجوههم فلربما خطروا لك وطرحوا عليك مرض الجسد وعدم اشتهاء المعدة وتهمة من هو أعظم منك، وطول الزمان والسيرة الأولى أو ذكر الوالدين بالجسد وأضرموا هذه ليحاصروا نفسك فأفتكر في إذا كان ابن يعمل الشر فالشرائع تعذبه بحضرة والديه ولا يقدر أحد أن ينقذه من أيدي المعذبين.

فكم تظن بالحري مجلس القضاء المنتظر حيث الملوك والأمراء والأغنياء والفقراء يقفون ويشتملهم خوف صعب.

أيها الحبيب عد إلي ذاتك ولا تتهاون بالقاضي المقسط والذي لا يعتد بأحد ولا تستخف باللهيب الذي لا يخمد ألبتة فإن تَهاونت فأمتحن الأمر من هنا إن كنت تستطيع مرارة النار وعذابِها، قُدْ سراجاً وضع فيه طرف إصبعك إن استطعت أن تحتمل وجع الحرارة يمكنك أن تعين نفسك هناك، لكن إن كانت جملة جسمك من خارج النار ولا يمكنك احتمال وجع العضو الصغير، فماذا تعمل إذا طرح الجسم بكليته في جهنم النار، لكن عسى أحد الجهال يقول أنا جئت لأصبر لكن ماذا أصنع فإني ضعيف وصغير النفس لأنه لو شاء اللـه أن أخلص لكان أعطاني صبراً.

تعالوا يا أخوتي فأبصروا نفس مستأسرة لا من الأعاجم والسيوف بل من سوء التمييز تتعلل محتجة بالإله الصالح المريد أن كافة الناس يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون، الذي صبر من أجلنا علي الصليب الذي يستدعي قائلاً: تعالوا إليَّ يا كافة المتعوبين والموقرين فأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم فإن نيري صالح ووقري خفيف، اسألوا فتعطوا، اطلبوا فتجدوا، ومن يقرع يفتح له فكيف تقول إذاً لو شاء اللـه أن أخلص لكان أعطاني صبراً، لِمَ يطغيك العدو وتحتمل مشورته، لِمَ تحتمل مثل هذه الخسارة فتخلع عنك حلة المجد وتنفصل من سيرة الملائكة وتتمرغ في آلام الهوان، مالك وهذه الفضيحة كيف تحتمل مثل هذا العار أن تسمع أنك شالح وجاحد نعمة اللـه، مالك ولهذا الموت أن تبصر ذاتك ملقى في الظلمة القصوى حاملاً أثمار الخزي والأخوة الصابرين في خلاص الرب والمكللين في سرور ربِهم، إلي أين تستطيع أن تَهرب أو أي موضع يقبلك هارباً من وجه الرب الذي تريد أن تنكرة وتغدر به.

فلذلك أطلب إليك أن تصبر لئلا يوافي إليك المكتوب لقد كان الأصلح لهم ألا يعرفوا طريق العدل أفضل من أنْهم بعد ما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة التي دفعت إليهم وقد أصابَهم المثل المحق كلب يعود إلي قيئه وخنزير يتمرغ في مراغة الحمأة، فليخطر بذهنك أيها الحبيب أننا في هذا العالم غرباء ونزلاء وكثيرون نَهضوا بالغدوة فلم يدركوا المساء، وآخرون ناموا مساءً فلم يدركوا البكرة. أسمع القائل الإنسان يضاهي الأمر الباطل وأيامه تعبر كعبور الظل.

أطلب إليك أيها الأخ الحبيب أن تتصبر قليلاً فإن من يصبر إلي الغاية يخلص لأنه لا يعلم أحد إن كان حضر أوان انصرافنا من أجل هذا تتكاثر علينا التجارب فلا نسأم ولا نرجع إلي ورائنا بل الأولى أن ننسى الأمور التي وراء ونمتد إلي ما قدام لندخل مع الختن قبل أن يغلق الباب لأنه قيل تيقظوا وصلوا فإنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة.

وقد قال المخلص أيضاً: كما كان في أيام نوح هكذا يكون ورود ابن البشر لأنه كما كان في أيام الطوفان يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلي اليوم الذي دخل فيه نوح إلي السفينة وجاء الطوفان وأهلك الكافة كذلك كما صار في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويبتاعون ويبيعون ويغرسون ويبنون إلي اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم أمطر الرب النار من السماء وأهلك الجماعة قاطبة.

نظير هذه يكون اليوم الذي يجئ فيه ابن البشر. يا أحبائي لنحترص علي خلاصنا فها الكتب الإلهية تنذرنا باليوم لنخلص بالتوبة من السخط ونرث الحياة الأبدية إذا عملنا الأعمال المرضية للـه فإن لبثت في عصيانك القديم مقيما في فكر عدم التقوى، فأعلم أنه لا يبطئ انتزاعك، لأن صادقاً هو القائل: ها الفأس وضعت عند أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.

أسمع أيضاً مثل التينة: كان لإنسان شجرة تين في كرمه فجاء يطلب فيها ثمراً فلم يجد فقال لفلاح الكرم ها أن لي ثلاثة سنين منذ صرت أجئ إليها أطلب ثمراً فلا أجد فأقطعها لماذا تبطل الموضع ؟ فقال: دعها هذه السنة حتى أحفر حولها وأطرح زبلاً فإن صنعة ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها.

فتبصر يا أخي حذراً أن يكون قد كمل زمان الأجل فإنك لا تجد زماناً آخر. هلموا فلنسجد ولنبكِ أمام الرب الذي خلقنا، أرفع يديك إليه مع قلبك وتقدم إليه بعبرات هاتفاً مع النبي ” سلمني من طين الحمأة لئلا أتورط فيه ونجيني من الذين يمقتونني ومن المياه العميقة، لا يغرقني دوار الماء ولا يبتلعني القعر ولا يفتح الجب عليَّ فمه أستجب لي يارب فإن رحمتك صالحة أنظر إليَّ بكثرة رأفتك لا تعرض بوجهك عن عبدك ولأنني حزنت أستجب لي سريعاً، أصغِ إلى نفسي وأنقذها من أجل أعدائي نجيني “. لكي يقول هو لك الفصل المكتوب: ” تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب “. فتشكر لصلاحه وتقول ” صبرت للرب صبراً فأصغى إليَّ وأستمع طلبتي وأصعدني من جب الشقاء ومن طين الحمأة وأقام علي الصفاءِ قدمي وقوم مناهجي وتوابعه “.

تبارك الرب المعطي شعبه قوة وتأييداً

ومبارك إلهنا إلي آباد الدهور

آمـين

 

 

@

المقالة الثلاثون في التواني والفرق بين سيرة العابد وغيره

 

 

كما أن السيف يقطع عصب الفرس ويلقي راكبه متقنطراً هكذا عادة العزم الردئ تقطع قوة العزم وتدفعها إلي الحزن، والحزن يبلي الواقعين فيه، من يعزم أن يمضي فيدخل مدينة بعد مسافتها خمسون غلوة فيمشي تسع وأربعين غلوة ولم يسلك الغلوة الواحدة ويقول أنه بلغها فقد خرج من عند أهلة ووطنه وما وصل المدينة.

إذا جاء أحد في الساعة الحادية عشرة وأبتدأ يعكس عمله ويقتلع الغروس المنصوبة لا يأخذ أجرة لأن ربنا يسوع المسيح يقول من يصير إلي الغاية يخلص، وأيضاً من يضع يده علي سكة الفدان ويلتفت إلي ورائه لا يستحق ملكوت السموات، لأن امرأة لوط حين ألتفتت إلي الوراء صارت عمود ملح.

فلذلك كان الرسول ناسياً ما وراء ممتداً إلي قدام جارياً نحو الإشارة، فأصبر أنت أيها الحبيب فإن هذا العالم سيعبر وشهواته تزول فأما من يعمل مشيئة اللـه فيبقى إلي الأبد لأننا غرباء في هذا العالم فإن عملنا ما دام لنا زمان الأفعال المرضية للرب فسنحتضن الثواب.

أقتنِ الصبر أيها الحبيب فقد كتب بصبركم تقتنون أنفسكم. إن أنوش أرضى الرب مائتي سنة بعد أن ولد ماتوشالح ونحن تصغر أنفسنا في هذا الزمن اليسير، أيها الحبيب قاوم الأفكار الضارة وقل مع الهاتف قد صلبت مع المسيح ولست أنا الحي بل المسيح يحيا فيَّ.

ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟ أم ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه ؟ فلهذا يقول حيدوا عني أيها الأشرار فأفحص وصايا إلهي. وجامع الحكمة يقول باطل الأباطيل كافة الأشياء باطلة.

بعد ذلك الثروة والشرف فلست أقرب أتعابي للباطل لئلا بعد انصرافي يرثها آخرون وأدي أنا عنها عقاباً، لكنني أقدم أتعابي للإله الصالح الرحوم الواهب الحياة بعد الوفاة والمعد للذين يحبونه الخيرات التي لم تبصرها عين ولم تسمعها أذن ولم تخطر علي قلب إنسان.

نعم أيها الحبيب تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب فيكون منصرفك بسلامة وتعاين الصديقين هناك مستبشرين بخلاصك ويستوطن هناك في حضن إبراهيم مع العازر لأنك اخترت المسكنة وصبرت علي الحزن واحتملت التعيير ولم تمقت الاستحقار من أجل هذا يقبلونك بسرور في المساكن الأبدية حيث يهرب الحزن والوجع والتنهد، وهناك تعاين الحياة والنور الصادق يسوع المسيح رجاء كافة البرية فادي نفوسنا ملك الملوك ويفرح قلبك وسرورك لا ينتزعه أحد منك.

أيها الحبيب إن زهدت في العالم وصرت عابداً فتيقظ لأن حيل العدو كثيرة وإذا وجد فرصة فيخطر لك هذه الأفكار قائلاً: قد زهدت في العالم وتركت أهلك فماذا انتفعت ؟ أليست الوحوش تسكن في البرية. فأنتهره قائلاً: يلعنك اللـه أيها المحال فأنت تقايس الإنسان الذي صنعة اللـه بصورته ومثالة وتشبهه بوحش غير ناطق ولا تستقر من أن تعوج طرق الرب الممهدة.

فأما عن فرق السيرة فأسمع أولاً من أثر أن يصير عابداً فليزهد في العالم وفي مشيئاته ويأخذ صليبه ويتبع المسيح مخلصنا، لا تخاصم ولا تلعن أحداً ولا تحلف ولا تذم أحداً ولا تتلو أقوالاً كاذبة بدرابة منطق الفلسفة وهذيانِها، وإنسك ولا تباشر بطراً فيكون أصدقاؤك ملائكة اللـه وعدوك المحال، لا تغم فلاحاً ولا تتغطرس علي أشياء المساكين، لا تغضب أرملة ولا تتجبر علي يتيم، لا تَهيم علي الغني، أكتفِ بالحاضرات، لا تبتغِ التحيات ولا تتقيد بالاضطراب بل أشتغل بخلاصك.

لا تترفع بل واضع ذهنك بتورع، كن وديعاً، رتل ولا تتعب، صلي ولا تتنزه ولا تعان بمهاول البحر في تجارات العالم، لا تَهتم أن تقتني شرفاً أرضياً، عوض الصفارات والطبول والأغاني الموسيقية رتل للرب وصلي نح وأبكِ في بواطن خزائن دارك ونفسك طالباً غفران الخطايا.

إذا صليت أبتهل عن العالم أجمع، لا تضف ذوي مناظر خادعة مستعزة بل ضف الرجال الروحانيين عوض لعب القمار الذي يقفر منازل ونفوس المتلاهين به، مد يدك إلي الأشياء التي توافقك إلي أعمال وقراءة الكتب الإلهية حاوياً عدم الاهتمام بالوالدين وبالأمور الأرضية، كرر الافتكار في مواعيد المخلص وأخفِ نار روحه في ذاتك وهرب الشياطين، سُرَ إذا جاءتك علة جسدانية لأن الإكليل قريب.

إذا جاءك الضجر توقع الصبر من اللـه، إذ جاءتك خسارة أرضية تذكر يوم الوفاة كلها لأن الأشياء تبقى هنا، إذا تآذيت من التلذذ بالآلام ردد الافتكار في مرارة التعاذيب، إذا جاءك بغي طل أناتك لأنه قد قرب من يبرر، إذا وافتك شتائم وتعاذيب داوم علي التفكر بأنك قد قاربت آلام المخلص، إذا جاءك أستعلاء ذهن صلي الإفتكار في أنك مزمع أن تعبر في النار، هذه مواهب النعمة للذين يخدمون الرب خدمة مستقيمة وكافة المناقب اللائقة بالقديسين.

فأنت أيها المحال سيردك الرب خائباً من قبل حيلك الخبيثة، نعم أيها الحبيب أسمع القائل: قاوموا المحال فيهرب منكم. يارب أعني أنا الشقي لأن مآثمي قد علت علي رأسي.

ليرحمك الإله الرب بما أنه صالح ويحفظك ويخلصك ويبلغك إلي ملكوته ومجده فهو رجاء اليائسين.

فإن له المجد إلي أبد الدهور

آمـين

 

 

@

المقالة الحادية والثلاثون في أن محبة اللـه تعلو كل محبة

 

 

المريدون بالحقيقة أن يدفعوا أنفسهم إلي الرب من أجل الموعد المنتظر ويحاربون المعاند الخبيث المحارب كل نفس بكل نوع حرباً متلوناً، سبيل كل من يتخذ قبل كل شئٍ أمانة حقيقية ليستطيع أن يطفئ بِها كل سهام الخبيث المحمية فلما يريد المعاند أن يحل اختيار النية ويجذب رجاء الرب ومحبته يقاتل النفس بأشياء مختلفة، إما أنه يجتلب إلي النفس داخل أحزاناً بروح الخبث أو يزرع أفكاراً خبيثة وباطلة غير واجبة دنسة ويحرك ذكر الخطايا السالفة ويقنع النفس أن تفضي بنيتها إلي الرخاوة كأنه غير ممكن أن تنال خلاصاً إلي أن يدنى النفس إلي عدم الرجاء كأنَها هي الفاعلة في القلب فواحش الأفكار المضلة الخبيثة.

وأن ليس روح غريب يخترع الخطيئة باطناً ويزرعها فيه بل هي تنشئ الرذيلة فلا تؤثر أن تعرف أن النفس موجودة مع روح العالم الغريب من اللـه روح الخديعة ليقتادها إلي عدم الرجاء أو يلقي عليها أوجاع الجسد ويجعلها تعير الناس وتغمهم، فإن بدأ الخبيث أن يحارب النفس بِهذه الأشياء فلا يجنح الإنسان من التوكل علي اللـه بل فليلصق بالمسيح وحده المتحنن والقادر أن يشفي أمراض النفس وليحبه دائماً ويدرس بذكره مفتكراً في هذا، أنني إن ابتعدت من اللـه ورجعت عن سيرة النسك المستقيمة إلي أين أذهب سوى إلي الهلاك، وأدفع نفسي إلي العدو الغاش.

فمن أجل هذا وإن أخطر الخبيث لكل واحد من الأخوة كل يوم وبارزة بربوات سيوف وسهام محمية وآلام الرذيلة والأفكار الخبيثة الغير واجبة ليرخيه ويرده من طريق العدل ويسحبه إلي قطع الرجاء بِهذا المقدار سبيله أن يهرب بالحري إلي اللـه ويتوكل علية.

فإنه هكذا يؤثر أن يختبر النفوس المتجهة إليه ليعرف بتحقيق أنَها قد أبغضت كل شئ وأحبت اللـه وحده وإنْها قد تكبدت شروراً كثيرة من قبل الرذيلة وأحبت أن تقترب إلي اللـه وتكمل مشيئته، وأقتنت شوقاً إليه أكثر واستهانت بربوات ميتات وأحبته وحده واشتهت أن ترثه.

وأن كافة حرصها وتوجعها طول أيامها احتسبته كشئ حقير لا يعادل شيئاً من الأشياء المرجوة لأن ألف سنة من هذا الدهر في العالم الآتي الغير بالي مقدارها مثل هذا القياس، كما يملك الإنسان حبة واحدة من كافة رمل البحر هكذا دهر الصديقين وملكوت السموات أمر لا يعبر ولا توصف معرفته.

نظير ذلك الأنفس الوانية تجاهد بتفهم وتصبر بمثل هذا الرجاء على كل حزن ماسكة بتحقيق رجاء الرب فلا تخزى بل تنال الحياة الأبدية والحقيقية وتوجد مختبرة في المحن، كما يقال: من يفصلنا من محبة اللـه أَغم، أَم
ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم عطب، أم سيف، وتوابعه. وأيضاً الحزن يصنع صبراً، والصبر تدرباً، والتدرب رجاء، والرب يقول بصبركم تقتنون أنفسكم، وأيضاً من يصبر إلي الغاية يخلص.

إن صبر الإنسان علي الأحزان المجلوبة الآتية عليه من الخبيث برجاءٍ وطول أناة وبشهامة تجعله متمكناً متوطداً وتوضحه موعباً خبرة ودربة، تفطن فيما أقوله: إن أقاموك وحدك علي كافة الأرض ملكاً وقدموا لك سائر كنوز المسكونة ولم أقول هذا إن تملكت وحدك ومسكت المسكونة منذ خلق جنس الناس وإلي انقضاء الدهر، أتراك كيف تختار الرئاسة الكاذبة المنحلة علي الحياة المحقة التي لا تعبر الأبدية حياة ملك السموات التي مملكتها لا انقضاء لها ولا تغيير.

من الواضح أنك إن ميزت تمييزاً مستقيماً ستقول حاشا لي أن أبدل ملكوت السموات بالملك البالي الزائل كما قال الرب: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أم ماذا يعطي الإنسان فدية عن نفسه، إن كافة العالم وملكه وأمواله وشرفه أكرم منه النفس وحدها وأوقر شرفاً ليس أنْها أكرم من مملكة الناس فقط بل لأن اللـه لم يسر بواحدة من براياه أن تشاركه وتتحد بطبيعة روحه لا بالسماء ولا بالشمس ولا بالقمر ولا بالنجوم ولا بالبحر ولا ببرية أخرى من المرئيات إلا بالإنسان وحدة الذي أحبه أكثر من جميعها.

فإن كانت برايا العالم الجسيمة والمكرمة والغنى أو المملكة الأرضية نفسها إذا أتخذنا رأياً صائباً لا نختار أن نستبدلها بملك الحياة الأبدي والسماوي، فماذا نقول عن شهوة ما من شهوات هذا العالم أو بشرف باطل أو بفائدة قبيحة، فمن إذاً يحب شيئاً من هذا العالم يفيده ويقايض به ملكوت السموات، لأن الشئ الذي يحبه الإنسان هو إلهه كما قيل لما أنغلب أحد يعود إليه.

فيحتاج بالحقيقة من يشتهي الحياة الأبدية ويتمنى ملكوت السموات أن يكون أعلى من أمور هذا العالم كلها وأعظم قدراً ويرفض كافة الحدود العالمية وكل الشرف الأرضي ويفلت من قيود الهيولي كلها ويحب مجد المسيح السمائي ولا يمزج بتلك المحبة شيئاً آخر ولا يحب شيئاً من أشياء هذا الدهر أو من أمور هذا العمر.

لأن المحبة الحقيقية التي تحب بِها اللـه تقطع كسيف ذي حدين كل محبة أخرى للعالم وتمزق كل رباط هيولي ولا يستطيع شئ من الظاهرات أن يمسك تلك النفس لا لذة ولا شرف ولا ثروة ولا رباط محبة بشرية ولا شئ من أمور الهيولي بل النفس التي تحب اللـه وحده لا تحب معه شيئاً آخر من أشياء هذا العالم لكن محبتها كلها متعلقة بمشيئته وحده مرتبطة به وتظفر وتغلب كل محبة ترابية هيولانية، محبة الروح سيف ذى حدين، المحبة التي كالسيف تقطع كل توجع وظن هيولي وتعلو ظافرة علي كافة الحدود الأرضية وتلتصق باللـه وتفعل مشيئاته، فجهادات عظيمة وأوجاع شديدة موجودة في المواعيد الجسيمة مواعيد الحياة الدائمة، الإنسان يحتاج أن يدفع نفسه إلي الرب بجملته كما كتب أن يحب اللـه بكل القلب والطاقة والقوة ويتعلق به بكافة مشيئته ويصلب ذاته بالنفس والجسم في كافة وصاياه المقدسة بغير انقطاع ليستطيع أن ينال الحياة الأبدية الموعود بِها للمحبين للـه والمريدين أن يؤهلوا للملك الدهري.

فإن كان في تحصيل الملك الأرضي الزائل البالي أعراق جزيلة وأوجاع واحراص غير نافعة ليمكن الذين يشتهونه أن يفوزوا به ويحصلوا في كرامة وشرف الرياضة الزائلة، فكم بالحري يجب عليك أن تتوجع وتحرص وتجتهد بكافة النشاط من أجل الملك الأبدي الغير بالٍ والفاقد التألم وتحتمل كل شئ لترث مثل جسامة هذا المجد الذي لا يبلى.

وربما يستبين عندك واجباً إنك تحتاج مثل وفور هذه الأوجاع لتقتني لك الأمور الزائلة الأرضية والأمجاد البالية، أتؤمل أن تملك مع المسيح إلي أبد الدهر ملكاً لا يشيخ ولا تشاء أن تتوجع وتجاهد في هذا الزمان القصير الذي تعيشه علي الأرض لتملك باللـه في الدهر كله.

فأنا أعتقد أن من له عقل يسير جداً يستوضح عنده ويظهر في تمييزه أن واجباً علي الإنسان أن يجاهد في هذا الزمان القصير ويجتهد ويحاضر لينال الإكليل والغلبة إلي الأبد وذلك أفضل من أن يتراخى في هذا الزمان اليسير متصرفاً في اللذات الأرضية فيشتمله الهزء والخزي إلي الأبد.

فإن أشتغل الإنسان بالأفعال الصالحة وأستسار بالأمور المنطوق بِها من الكتب المقدسة تَهتف به وتمدحه وتبجله كافة الأقوال والكتب والفرائض وكتب الحكماء من خارج وكافة الألسن تشهد للمكمل ما في الكتب فعلا والذي يقاوم شهواته الرديئة عند اللـه فيلسوف حقيقي لأن المتزين بكلام الحكمة والمفتخر بِها وما بذل شهواته يحسب بالكلية غير حكيم وأحمق لأنه لم يفحص عنه بآلام يسيرة فلا يحتاج أن يدفع الإنسان ذاته إلي اللـه بأقوال كثيرة بل يصغي إليه بفعل الحق ويستسير ويتصرف بالوصايا المستفادة من الكتب الإلهية والعمل بِها الآن كافة أقوال الكتب الإلهية والأقوال العالمية إنما تتكلم عن الأعمال الصالحة الفاضلة والسيرة الممدوحة النفيسة فها كافة الناس يتحدثون بفضلك وينشدون ذكرك لتصرفك في أفعال الفضيلة الممدوحة من الكافة.

فلنحرص أن نتصرف في وصايا الرب في كل وقت إذ نحن مؤملون أن نأخذ ميراثاً من الخيرات المزمعة ومنتظرون شركة الروح دائماً لكي ما نقدس النفس والجسم ههنا ونكمل كافة الوصايا بمساعدة الروح ونصير مستحقين للمسيح وأبناء الآب السمائي بشركة روحه ووارثي الإله وناظري المسيح في الميراث ونؤهل للخيرات المؤبدة متنعمين بالمسيح.

آمـين.

 

 

 

@

المقالة الثانية والثلاثون في الصبر والتخشع

 

من يؤثر أن يرضي اللـه ويصير وارثاً بالأمانة، ويسمى ابن اللـه، ومولود من الروح القدس فليتمسك قبل كل شئ بالصبر وطول الروح، ويجب عليه أن يحتمل بشهامة الغموم والضيقات والشدائد التي تدهمه، إما أمراض وآلام جسدانية وإما تعيرات ومسبات من الناس، وإما الغموم التي لا ترى المتخالفة ضروبِها الواردة إلي النفس من أرواح الخبث لتعيقها عن الدخول إلي الحياة مريدة أن تقتادها إلي الأسترخاء وصغر النفس وعدم
الصبر.

فبتدبير اللـه تختبر كل نفس بأحزان مختلفة ليستوضح الذين يحبون اللـه بكل أنفسهم وإن كانوا قد احتملوا سائر المحن المجلوبة من الخبيث ولم يبتعدوا من الاتكال علي اللـه بل ينتظرون العزاء كل حين بالنعمة بأمانة وصبر كثير فلذلك يمكنهم أن يخرجوا من كل محنة وهكذا ينالون الموعد ويحصلون مستحقين للملك.

فسبيل النفس التابعة قول الرب أن تحمل صليبه كل يوم كما كتب ” أن من لا يحمل صليبه كل يوم ويتبعني فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً “، الأمر الذي معناه أن تكون مستعداً أن تصبر من أجل الرب علي كل حزن وتجربة إما ظاهرة وإما مكتومة وتتعلق بالرب دائماً لأنه مفوض سلطانه أن يُحزن النفس وأن ينجيها من كل محنة وحزن، فإن لم تتشجع وتحتمل بشهامة مصطبرة علي كل محنة وحزن، بل تحزن وتضجر وتتثقل بالعارض وتتضايق وتسأم من الجهاد أو تقطع رجائها كأنْها لا تخلص، الأمر الذي هو دأب العدو أن يلقي الإنسان في الضجر وصغر النفس لئلا يكون له رجاء أو ينتظر كل وقت نعمة الرب بأمانة لا شك فيها فمثل هذه النفس لا تحصل في الحياة المنتظرة لأنْها لم تتبع آثار القديسين ولم تسلك في آثار الرب.

تأمل وأبصر كيف الآباء منذ القديم ورؤساء الآباء والأنبياء والرسل والشهداء عبروا في طريق الغموم والمحن فاستطاعوا بذلك أن يرضوا اللـه حين احتملوا كل محنة وحزن بشهامة وألتذوا بالضيقات لأنَهم انتظروا الثواب كما يقول الكتاب ” يا ولدي إن تقدمت لتخدم الرب فأعد نفسك للمحن قوم قلبك وأصبر “. والرسول يقول أيضاً ” إن كنتم خلواً من الأدب الذي قد شاركه الكل فأنتم نغول ولستم بنين “.

وفي فصل آخر أيضاً يقول: ” كافة التي توافيك أقبلها كالصالحات عالماً أنه بغير علم اللـه لا يصير شئ “. والرب يقول: ” مغبوطون أنتم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا فيكم كل كلمة خبيثة كاذبين من أجلي أفرحوا وتَهللوا فإن أجركم جزيل في السموات والطوبى للمطرودين من أجل البر فإن لهم ملكوت السموات “.

فالمطرودون إما مطرودون من الناس ظاهراً وإما يضطهدون من أرواح الخبث سراً الذين يقاومون النفس المحبة للـه ويلقونَها في غموم مختلفة ليعيقونَها عن أن تدخل إلي الحياة لتختبر إن كانت تحب اللـه باصطبارها علي كل حزن وتمسكها بالرجاء إلي النهاية وانتظارها الخلاص، أو تظهر من قبل ضجرها وسآمتها ونقص رجائها إنْها لا تحب اللـه لأن الأحزان والمحن المتباينة توضح النفوس المستحقة وغير المستحقة اللاتي لها إيمان ورجاء وصبر واللاتي ليس لها لكي ما في كل حال تظهر النفوس المختبرة والمستحقة والمؤمنة الصابرة إلي الغاية الماسكة رجاء الإيمان.

وهكذا تقبل الفداء بالنعمة وتصير وارثة الملكوت بعدل فكل نفس تؤثر أن ترضي اللـه فلتتمسك بشهامة الصبر والرجاء قبل كل شئ، وهكذا تستطيع أن تنجوا من كل مقاومة وحزن من العدو لأنه إلي هذا المقدار يسمح اللـه أن يجرب الرب النفس المتوكلة علية والصابرة له إلي أن تدفع إلي محن وأحزان لا يمكنها احتمالها كما يقول الرسول ” صادق هو اللـه الذي لا يهملكم أن تمتحنوا بما يفوق طاقتكم لكنه يجعل مع المحنة منفذاً ليمكنكم احتمالها لأن ليس كما يؤثر الخبيث يمتحن النفس ويحزنْها بل بمقدار ما يسمح اللـه فتحتمل النفس بشهامة وتتمسك بالرجاء بأمانة منتظرة المعونة ممن له النصر الذي لا يمكن أن يهملها.

لأنه بمقدار ما تجاهد بالأمانة والرجاء والصبر ملتجئة إلي اللـه منتظرة العون منه والخلاص بلا ارتياب ينجيها الرب بسرعة من كل غم مطيف بِها لأنه يعلم كم تقدر النفس أن تحتمل من الاختبار والامتحان وبقدر ذلك يسمح أن تجرب فإذا احتملت صابرة إلي الغاية فلا تخزى كما كتب ” أن الحزن يصنع صبراً والصبر تدرباً والدربة والخبرة رجاء والرجاء لا يخزى “.

وأيضاً ” كما يليق بخدام اللـه بالصبر الجزيل بالأحزان بالشدائد بالضيقات وتوابع ذلك ” والرب يقول: ” من يصبر إلي المنتهى يخلص “. وأيضاً ” بصبركم اقتنوا أنفسكم ” وفي فصل آخر يقول: ” من وثق بالرب فخزى أم من يثبت في كلامة فخذل أو من استغاث به فأعرض عنه “.

لأنه إن كان الناس ذوو الفهم والعقل اليسير يعرفون أن يختبروا ويميزوا كم ثقل يحمل كل واحد من الحيوان من بغل أو جمل وعلي حسب ذلك يحملونه، والفاخوري إذا جبل الأواني وأحكمها إن لم يدخلها الأتون لتحمى وتيبس فلا توافق لاستعمال الناس، ويعلم أيضاً كم يحتاج أن يتركها في النار حتي تستوى ولا يتركها فيها زيادة عن الواجب لئلا تحترق وتتلف ولا يتركها أقل من ذلك لئلا تكون غير نافعة.

فإن كان الناس في الأشياء البالية والظاهرة اقتنوا مثل قدر هذا التمييز والمعرفة فكم أولى باللـه الذي لم يزل في علمه غير مدروك وفي فهمه لا يقاس وهو ذو كل حكمة يعلم كم تحتاج النفوس التي تؤثر أن ترضيه وتشتاق أن تنال الحياة الأبدية من الامتحان والتجارب وتصبر بشهامة ونشاط ورجاء علي كل حزن إلي النهاية وحينئذ تصير مختبرة وموافقة لملكوت السموات.

إن القنب لا يصلح أن يصير منه غزلاً دقيقاً إن لم يدق ويمشط كثيراً وبمقدار ما يدق ويمشط ويصير نقياً مبيضاً موافقاً للعمل، هكذا النفس التي تحب اللـه الداخلة في محن وتجارب كثيرة الصابرة علي الأحزان بشهامة تصير مهذبة طاهرة وجزيلة النجابة في الروحانيات ذات صناعة دقيقة تؤهل أن ترث المملكة السمائية ومثل الإناء الجديد اختراعه إن لم يلق في النار فلا يصلح لاستعمال الناس أو كالطفل ما دام طفلاً لا يصلح لأعمال العالم فلا يبني مدناً ولا يقدر أن يغرس غروساً ويلقي بذاراً ولا يكمل عملاً آخر من أعمال العالم.

هكذا النفوس المشاركة النعمة الإلهية تَهرب لحلاوة راحة الجسد بصفة أطفال لكونِها لم تختبر بتجارب مختلفة وأحزان من الأرواح الخبيثة التجارب التي توضح الصبر فتلك النفوس هي أطفال لا تصلح للملك كما قيل ” إن كنتم خالين من الأدب الذي قد شاركه الكل فأنتم إذاً نغول ولستم بنين “.

فقد أستوضح إذاً أن الأحزان والمحن موافقة للإنسان وتجعل النفس مختبرة وصلبة إن اصطبرت علي النوائب التي توافيها بشهامة ونشاط وهي متوكلة علي المسيح منتظرة بإيمان لا أرتياب فيه النجاة من لدن المسيح ورحمته فهي غير ممكن أن تخيب من موعد الروح ومن الخلاص من آلام الرذيلة.

وكما أن الشهداء القديسين صبروا في الظاهر علي تعاذيب كثيرة وأفضوا إلي الموت وحفظوا الاتكال علي اللـه وصانوا الاعتراف النفيس وظهروا بذلك مختبرين واستحقوا أكاليل العدل، والذين احتملوا تعاذيب كثيرة وصعبة جداً اقتنوا عند اللـه مجداً ودالة أكثر، وكافة الذين فقدوا الإيمان وجزعوا من الأحزان والسياط ولم يلبثوا إلي الغاية في الإقرار النفيس استوضحوا هنا وفي يوم الدينونة لا دالة لهم خازين علي هذا المقياس نفسه.

إن النفوس التي تدفع إلي الأحزان لتمتحن من أرواح الخبث فتعذب عذاباً ظاهراً وغير ظاهر، في الباطن بأفكار خبيثة وظاهراً بالآلام الجسدانية فإذا صبرت بشهامة متمسكة بالرجاء منتظرة عطية الجزاء من الرب تؤهل لأكاليل العدل وتقبل باطناً الخلاص وسريعاً وتجد تلك الدالة دالة الشهداء بنعمة اللـه في يوم الدينونة.

لأن شهادة الأحزان التي تكبدها أولئك بالصليب هؤلاء احتملوا من أرواح الخبيث الذين فعلوا في أولئك المردة وبمقدار ما احتملوا أحزاناً من مقاومات الخبيث وتمسكوا بالرجاء إلي النهاية يخولون عند اللـه مجداً أعظم ويخلصون بقدر رجائهم ويؤهلون لتعزية الروح القدس ويرثون هناك الخيرات الأبدية.

وكافة الذين يهربون من الجزع والخوف ولا يحتملون الأحزان بل يفضون إلي السأمة وعدم الصبر وقطع الرجاء ويرجعون من الطريقة المقسطة ولا ينتظرون رحمة الرب فهؤلاء يوجدون غير مختبرين ومرفوضين فكيف يمكنهم أن ينالوا الحياة الأبدية.

لأن كل نفس مضطرة من أجل المسيح الذي مات من أجلنا أن تطيل أناتِها وتصبر وتحفظ التوكل عليه. فإذ قد عرفنا هذه الأشياء يا أحبائي فلا نرقد في خلاصنا الذي نناله بالصبر علي التجارب المطيفة بنا وإله الرجاء يثبتنا في التمسك بالوصايا وبه يليق المجد إلي أبد الدهور.

إن الإله الذي جبلنا إذ عرف ضعف ذهننا وسوء صناعة مضادنا منحنا الكتب الإلهية ككنوز اشفية وخزائن أسلحة تلك التي توجد فيها أسلحة مختلفة أنواعها لأن داود يقول: لقد جعلت ساعدي قوسا نحاس وأيضاً أرسل نبله فشتتهم وأكثر برقه فأقلقهم، وفي فصل آخر يقول: يتناول غيرته سلاحاً شاكاً ويصطنع البرية سلاحاً للإنتقام من الأعداء يتسربل درع العدل ويضع عليه خوذة الإنصاف الذي لا يرائي يتخذ البر قوساً لا يحارب يرهف السخط صارماً سيفاً والعالم يحارب معه إلي الجهال يتسارع بإصابة رشق شهائب بروقه ويطفر إلي الإشارة كأنْها من قوس السحب المستديرة حسناً ويلقي عليهم البرد من مدر صخرة صعبة يغتاظ عليهم ماء البحر والأنْهار تطبق عليهم سريعاً، يقاومهم ريح الاقتدار وينشفهم كالزوبعة. واليشع النبي يقول: لا تخف فإن الذين هم معنا أكثر من الذين معهم.

وابتهل اليشع وقال: يارب أفتح عيني الصبي ليبصر ففتح الرب ناظريه وأبصر وإذا الجبل مملوءاً خيلاً ومركبة نارية محتفة باليشع. فأما إشعياء النبي فقال: وجعل فمي كسيف مرهف وخبأني تحت كنف يده وجعلني كسهم مختار وسترني بجعبته.

وقال حزقيال: وأنت يا ابن الإنسان خذ لك سيفاً مرهفاً أَحد من موسى الحلاق وأقتنيه لك. والرسول يعلمنا قائلاً: ألبسوا سلاح اللـه الشاك ليمكنكم أن تقاوموا بازاء حيل المحال فإذا رشقنا العدو ندجج ذاتنا بالأسلحة المقدم ذكرها لأن أسلحتنا ليست بشرية بل مقتدرة باللـه لأن صراعنا ليس هو بازاء دم ولحم لكن بازاء أرواح الخبث.

فهذه الكنوز يوجد فيها أدوية وافرة مختلفة أنواعها حتى إن قاوم أحد المحال وانجرح يبادر بسرعة إلي كنز الأشفية ويضع علي الجرح مرهم التوبة ويصير صحيحاً ويحارب عن سيدة ثانياً فإن صغر النفس هو سهم العدو الذي جرح به كثيرين وطرحهم، فلنأخذ الصبر سلاحاً علي صغر النفس مكررين في ذاتنا القول المكتوب، تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب فتتأيد النفس من القول وتستطيع أن تحتمل بسهوله النوائب المتهافتة إليها من العدو الأجنبي وتستريح كأنْها متكأة علي عصا أو كمحمولة علي مركبة يستخف تعبها.

فلنتذكر هذا الفصل مخاطبين به أنفسنا وبعضنا بعضاً، تشجع وليتأيد قلبك وأنتظر الرب فإن هذا القول يوافقنا جداً إن صمنا إن سهرنا إن صلينا إن عملنا أن صنعناً شيئاً آخر لأنه ينهض النشاط لإكمال الفضيلة المبروء بِها جاهد ما دمت تجد وقتاً لتحصد من الآن المختص بذلك.

إذاً لا تسترخِ لا تحب البغض أرفض الجسد والمحك والسبح الباطل، أمقت العادة الرديئة والوقيعة فإنه عما قريب تنصرف من هنا فما لك وللغيرة المرة، والحسد، والمعاداة للقريب، وبعد قليل ستصير رماداً وتراباً حب التخشع، تُقْ إلي الثبات، حب الحمية لتنجيك من أتعاب كثيرة ومهمات باطلة، أبكِ إذا صليت لتجد نياحاً حيث عتيد أن تمضي، أهتم بالعمل كما يليق بحكيم وفهيم فإن الوقاحة والضحك لا ينفعانك في يوم الوفاة بل ولا ألفاظ المزاح والخلاعة فهذه تمكث دائماً في قلب الجهال.

أحذر من الرياء الكاذب إن لم ترهب الرب من صميم قلبك حب التواضع بقلب صادق فتجد نعمة لدى الإله الماسك هنا وفي العالم العتيد إن أعليت ذاتك ستتزعزع بسهولة كما تتحرك الورقة في الشجرة من الرياح لأن ملاذ العالم تزول كالظل، لا تكن بيت مرارة لئلا تفسدك المرارة ويبكيك سمها قبل أن تدفع إلي العذاب.

لا تخجل أن تحفظ الورع بقلب متواضع فإن الذين يزدرون بك لا ينفعونك في يوم الشدة، أتقِ اللـه بكل قوتك فيحكمك كيف تخلص، ليكن لك تواضع ووداعة فتحل عليك نعمة الرب، إن دنس الجسد ليس فيه شئ سوى الأياس والنار التي لا تطفأ والطهارة تسبب في هذا الدهر مديحاً وفخراً وفي العتيد تفيد إكليلاً لا يذوي.

أيها الأخ إن جسمك هيكلاً للروح القدس الساكن فيك فأهتم بالهيكل لئلا تُحزن الساكن فيك، لكن لعلَ أحد يقول أنا أؤثر أن أحفظ نفسي من الدنس وأنا لا أقهر جسمي فماذا أصنع ؟

فهذا يشبه من يشاء أن يمسك محاربه بلا قتال ولا تعب وكأننا نعطي الذين يحاربوننا نبلاً برقادنا وعدم تحفظنا وإهمالنا حراسة أبواب النفس فنصير بذلك مغتالين خلاصنا مانحين للمضادين مدخلاً كما إذا طمحنا بأعيننا بلا خجل متفرسين في الأشياء التي لا يجب معاينتها إذ العائش بالفضيلة لا يجوز أن يتأمل جسده بغير خجل فلا نسبب بذلك المضار لذاتنا.

واذا أملنا مسامعنا إلي الأقوال الرديئة والأغناني الزنائية أَلسنا نكون سببنا الخسارة لأنفسنا وكذلك ندنس فمنا بالوقيعة والأقوال الفاحشة ولا نلجم لساننا كما كتب أم اللسان قد ركب في أعضائنا يدنس كافة الجسم ويلهب بكرة اللون ويحترق من جهنم والأناف ( جمع أنف ) نضمخها بالطيوب والأدهان، وأيدينا نلقيها بلا ترتيب علي ما لا يجب لمسها، وأرجلنا نطرحها في طريق غير مستقيم.

فهذه الأشياء نعملها هكذا فكيف يمكننا أن نقدم للرب غمر العفة بل ولا وجه لنا، وإذ لم نمهد وجه الأرض بالحمية والأتعاب فكيف يمكن أن نمنع الدخان من الدخول إلي باطننا وأبواب حواسنا مفتوحة بازاء الذين يوقدون النار بجانبنا بلا انقطاع، إن كرهت الدخان فاحفظ الأبواب لئلا يسود بيتك في الشتاء، سد نوافذ أبواب المنزل لئلا ينضر جسمك من البرد، كيف استلقينا بلا تحرك متكاسلين عن منفعة النفس ويجب علينا أن نعطي جواباً للفاحص القلوب ؟

كيف ما حفظنا الهيكل الذي أُتمنا عليه ؟ فالبيت المعمول من طين وحجارة وخشب ليتدفأ به الجسم نَهتم به بحرص والمنزل الذي هو أفضل من ذلك لا نَهتم به ! خزي عظيم وقضية صارمة يحلان حينئذ بمن أفسد هيكل الرب إن لم يستعد بالتوبة للصفح ويرحض الأوساخ بدموعه، فلنبغض السبح الفارغ والفخر والغضب، الأنواع التي لا ثمر لها، ويجب علينا أن نتأمل سيرة القديسين ونضاهيهم.

ولنستفق لئلا تديننا النسوة الحريصات، تأمل حرص رفقة وتواضعها فإنك تعجب من فضيلة تلك المغبوطة كيف قبلت التغرب لأنه قد كتب أن رفقة لما نزلة إلي العين ملأت الجرة وصعدت فحضر الغلام إلي ألتقائها وقال: أسقيني ماءً يسيراً من جرتك. فقالت: له أشرب يا سيدي وبادرت فحطت الجرة علي ساعديها وسقته إلي أن ارتوى من الشرب. وقالت: أنا أسقي جمالك.

فأكملت الصوت الإنجيلي قبل أجيال كثيرة، لأن الرب يقول: إن سخرك أحداً ميلاً واحداً فإذهب معه ميلين. وهكذا هذه المغبوطة ضاعفت النعمة حين قالت له: أشرب يا سيدي وأنا أسقي جمالك إلي أن تشرب كلها وترتوي.

وإذ قالت هذا القول أثبتته بالفعل علي حسب المكتوب إن ملكوت السموات ليس هو بكلام فقط بل بقوة لأن رفقة أفرغت الجرة كلها في المسقى وبادرت إلي البئر لتستقي وسقت الجمال كلها فأبصر فضيلة نفس لا عجز فيها ولا كبرياء ولا تعظم دعت الغريب سيداً خدمت المسافر كخادمة له بنية خالصة.

هكذا صنع يعقوب حين دحرج الحجر عن البئر وسقي غنم لابان أخي أمه، لكن إن قال أحد: إنما صنع هذا لأجل حرمة الجنسية. فسيوبخ هذا من أفعال موسى لأن الكتاب المقدس يقول: إن موسى تنحى من حضرة فرعون وجاء إلي أرض مدين فجلس علي البئر وكان لكاهن مدين سبعة بنات راعيات غنم يثرون أبيهن فلما أقبلن استقين إلي أن أوعين الأحواض ليسقين غنم أبيهن، فلما جاء الرعاة أخرجوهن فنهض موسى فخلصهن وسقى غنمهن.

يارب عظيمة نعمتك الشارقة في نفوس أبرارك لأنْهم قد تسربلوا بأم الفضائل أي المحبة الفاقدة المراءاة بتوجع وحرص عظيم.

حب أن تسمع تعاليم الكتب الإلهية، أننا في كل يوم نَهتم بغذاء الجسد ونلذذه بالأطعمة، وطعام النفس لا نَهتم به، سبيلنا يا أخوتي الأحباء أن نتهاون بطعام الجسد لتتغذى النفس بطعام الروح القدس كل يوم الخبز الذى تعطيه حكمة اللـه، وأشرب الماء النابع من الصخرة الروحانية ليسموا عقلك باستنارة العلم.

لأن التمتع بالأطعمة الحسية حين تعبر اللقمة تستقر لذاتِها، لِمَ تتشامخ أيها الإنسان بالحلة البهية لأنه إذا لبس أحد حلة جزيلة ثمنها يلبسها في النهار فإذا أدركه الليل يخلعها ويأكل ويشبع وينعطف إلي النوم وفي أثناء ذلك ربما تدب إليه وحوش ودبابات تميته، وإذا حان الصبح يقوم ويلبس ثيابه الحسنة ويتشامخ بالباطل الذي كان قبل هنيهة موضوعاً في الظلمة وبعد قليل سينحل في القبر.

إن آثرت أن تفتخر فليكن افتخارك بالرب وإن كان لك غناء فأكنز لذاتك بحسن الصنيع كنزاً في السموات لأنك إن احتشدت إلي أن يجئ الموت وجاءت الملائكة فتخلف الغناء وربما لمن لا تؤثره، لا تخف أن تضع أساً لسيرة صالحة فإنك إن ذقت حلاوة الروح القدس فيستضئ عقلك بدراسة الأشياء التي لا تبلى.

فلذلك يقول الروح القدس ذوقوا وانظروا إن الرب طيب مغبوط من يوجد في ساعة الوفاة ذبيحة قدسية مرضياً للرب فإنه يفارق بفرح جزيل الجسد وهذا العالم الباطل وإذا أبصرته جنود الملائكة في السماء يمدحونه كما يليق بنظيرهم في العبودية للرب.

صلاة

أما بعد فأنني أجترئ أيضاً بفم دنس أتوسل إليك أيها القدوس الطاهر النقي من قلب خبيث وفاجر كل يوم وأرسل إليك زفرات فإن العدو جذبني إلي دراسة الأفكار الخبيثة وأخجل أن أرفع طرفي إلي السماء لأنه قد صار لي خزي عظيم وعار من كثرة آثامي، فأتضرع إلي صلاحك أن ترثي لي بما أنك متحنن أطرد من ذهني المفسد الغاش واجعلني خالصاً قبل الموت من حظ المنافقين، يارب اذكرني برحمتك ورأفاتك وأصغِ بسمعك إلي طلبة عبدك لئلا أدان مع المستكبرين، لا تطرحني من اتجاه عينيك لئلا أصير نصيباً للهلاك ولا تغرقني في قعر اللجة لا تحبسني في مطابق الهاوية لئلا تفرش تحتي النار ويكون مسكني الدود، لا تحسبني في الظلمة الأبدية تحت أساس الجبال مقيداً بقيود أزلية، ولا تدفعني إلى ملائكة غير راحمين، لا تحرقني في نار لا تطفأ، اذكرني يارب وخلصني أيها القدوس المستريح في القديسين، أنت قلت يارب اسألوا تعطوا إنما أطلب رحمة ورأفة لأنك قد منحت الكل وسائلهم بسعة ولم تعير أحداً أيها الرب الماسك الكل لأنك لم تزل صالحاً وللناس ودوداً، امنحنا يارب أن نجد دالة أمام مجدك فليتمجد بنا اسمك وليقبلنا الصديقون بسرور في المساكن الدهرية منقذين من أيدي المنافقين المتكبرين، من ذا يسمع القول المرهوب فيصمت عن الهتاف إليك كل ساعة لأن الكتاب المقدس يقول: إن كان الصديق بالجهد يخلص فالمنافق والخاطئ أين يظهران. أما نحن فمتوكلون علي رأفاتك نصبر متضرعين أن ننجى من النار التي لا تخمد ومن الخوف العتيد لأنه في القديم يارب قبض ملاكك علي ناصية حبقوق وفي ساعة وضعه ببابل فوق جب الأسود وفي الحين رده إلي أرض يهوذا أرضه، فلتأخذنا يارب نعمتك وتعبرنا بلا خوف تلك الهاوية العظيمة الرهيبة التي جعلت بين الصديقين والظالمين حتى إذا نجيتنا نقول. المجد للآب الذي نجانا من ظلمة الجحيم وجعلنا في فردوس النعيم، المجد للابن الذي نجانا من النار التي لا تخمد والدود المؤبد وأهلنا أن نصير وارثي أورشليم التي في العلا، المجد للروح القدس الذي نجانا من عقد الخطايا ومن الخزي الأبدي وكللنا بابتهاج في النور الصادق إلي أبد الدهور.  آمـين.

 

 

 

 

 

@

المقالة الثالثة والثلاثون في أن للرب الأرض وما فيها وفي قيامة الموتى

 

 

علي حسب ظني أن معنى هذا الفصل المقول هو أن كافة البرايا ملك للباري ونحن ضيوف وسكان وإن كان أحد تحت يديه ثروة ونعمة فليس هو صاحب الأمتعة خصوصاً بل قهرمان لأنه هو أخذ تلك الأمتعة من إنسان آخر وبعده أيضاً ينقلها الأَجل إلي آخر علي حسب أمر الباري فيجب أن نقر للمعطي بالنعمة والإحسان.

فهذه الآراء لما عرفها القهارمة الحكماء لم يهملوا اهتمامهم بعمل العدل مريدين أن ينالوا ذلك التطويب لأن الرب يقول: مغبوط ذلك الإنسان الذي يجئ سيده فيجده عاملاً هكذا أقول لكم حقاً أنه سيقيمه علي كافة قناياه لأنه دبر أموره بإنصاف. فلذلك لا يتزعزع إلي الأبد.

لأنه يقول داود: مغبوط الإنسان الذي يترأف ويقرض يدبر أموره بالإنصاف فإنه لا يتزعزع إلي الأبد ذكر الصديق يكون دائماً لن يخشى من سماع السوء قد أعد قلبه أن يتوكل علي الرب فقد ثبت قلبه فلا يتزعزع إلي أن يبصر أعدائه، بدد ماله وأعطي الفقراء فعدله يبقي إلي الدهر يعلو شأنه في الشرف يبصر الخاطئ فيغتاظ يصر بأسنانه ويذوب وشهوة الخاطئ تضمحل.

فقد كتب أن الصديق يكون مؤيداً ولا يخشى من سماع السوء، فما هو سماع السوء ؟ أظن أنه فليخلع المنافق لئلا يعاين مجد الرب وشدوا يديه ورجليه وألقوا العبد البطال في الظلمة القصوى وتنحوا عني يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة للمحال ورسله، وعوض هذه يسمع الصديق: حسناً أيها العبد الصالح الأمين إذ كنت علي الحظوظ القليلة أميناً فسأقيمك علي الجزيلة أدخل إلي سرور ربك.

فلذلك منع الرب الرازق كافة الخيرات أن نكون مشغوفين بالأشياء العالمية متألمين لها فقال هذا الفصل لا يمكن أحد أن يعبد ربين، لا يمكنكم أن تعبدوا اللـه والمال، فلا تكنزوا لكم كنوزاً علي الأرض حيث السوس والآرضة يفسدانِها وحيث اللصوص ينقبون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنزاً في السماء حيث لا يفسد السوس والآرضة وحيث ليس لصوص ينقبون ولا يسرقون لأنه حيث ما يكون كنزكم فهناك قلبكم.

ويقول أيضاً: بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة واصنعوا لكم أكياساً لا تبلى وكنزاً في السموات لا يسرق، وأيضاً أنا أقول لكم: اصطنعوا لكم أصدقاء من مال الظلم لكي ما إذا احتجتم يقبلونكم في مساكنهم الأبدية لأن الواثقين بقوتَهم المتفاخرين بوفور ثروتَهم يموتون كالناس ويسقطون كواحد من الرؤساء لأنْهم لم يحفظوا المودة للخالق.

أما الذين يتوقعون الرب فيرثون الأرض لأن فيهم الكلمة نور وملح وقوة على حسب قول الرب أنتم نور العالم وملح الأرض حتى الآن العالم حاوِ في ذاته هذا الملح والنجوم لأنه موجود وفي كل جيل وجيل الذين يخدمون الرب ولولا ذلك لما كان ثبت لأنه زعم إن فسد الملح بماذا يطيب ؟ ليس فيه قوة لشئ إلا أن يلقى خارجاً ويدوسه الناس.

وإذ لم يوجد في السدوميين من هذا الحظ سوى واحد فطالما كان الصديق حاضراً معهم لم ترسل اليد القادرة عليهم السخط لو لم تأخذه من وسطهم فلذلك مغبوطة البلدة وسعيدة المدينة مغبوطة المدينة التي فيها صديقين بكثرة ومغبوطون الصديقون أنفسهم الذين يخلص بِهما العالم لأن التطويبات والحظوظ معدة للصديقين.

فلذلك فلنطرح أعمالنا ولنغاير سير الصديقين لنرث معهم المدائح والسعادة صائرين نوراً وقوة ومدينة للملك المعظم ليكون لنا فخراً لأن بيده كافة أقطار الأرض هو يعطي كما يقول المترنم الثلج كالصوف ويلقي جليده كالكسر من ذا يقف أمام وجه برده يرسل أمره ويذيبها تَهب رياحه فتجري المياه تأخذ منه الأرض نسيم العناية فتكتسي جمال بَهائها بأمره ومثل إناء مذهب مرصع بالجوهر يطرب الناظرين إليه.

فالطيور تتطاير مغردة صوتاً حسن النغمة طربة بإنارة الهواء، وذوات الأربع معاً تركض في المروج لأنه قد أينعت بقاع البرية، والرعاة يبتهجون مسرورين بمواهب الرب، الأنْهار تسير بسكون من تضاغط المياه وعدم ترتيب نَهضاتِها فتفرح البرايا المائية، والحيتان تركض مسرورة بشروق الشمس، والشجر عوض عدمها الورق تكتسي بأزهارها وتتجلجل بالورق وتحمل الثمر، الجبال والآكام والأودية وكافة الأرض توشى بالزهر تشيد بمجد الرب لأنه وشاها بزينتها كالعروس.

ونحن بنو الناس إذا مر الشتاء نفرح متمتعين بحسن اعتدال الأهوية وجمال خصب الأثمار. فلنصنع منذ الآن أثمار العدل الحسن قبولها عند الرب ليكون لنا دالة أن نقول للباري يسر الرب بأعماله لأنه بالحقيقة يسر الرب بالعاملين العدل فلا يتشامخن أحد بمعقولة باطلاً أو بقوته أو بثروته لأن هذه تجف كالحشيش لكن المفتخر فليفتخر بالرب.

ماذا يكون في الناس معظماً أو مكرماً أكثر من التاج الملوكي وهذا لن يدوم لرأس الإنسان لأنه في جيل بعد جيل ينتقل من رأس إلي رأس، ماذا للملك لم يعطيه اللـه أليس الرب نفسه صنع السماء والأرض وسائر البرايا التي فيها أَما خلق الماء منذ أسس الأرض أية الأشياء التي يملكها الملك لم يعطيه اللـه إياها فإنه يسود علي الأجسام والأسلحة والأموال.

لكن قل لي من خلق هذه كلها ومن هو الذي كثر الأجسام بتناسل الأولاد ومن يمنح إياهم حوائج المعاش ومن منحهم الفهم لعمل الأسلحة أليس هو الرب نفسه المحيي الكل من يرزق المفتشين علي المعادن ذات الفوائد أليس هو الرب.

من هو الذي يهز بنظرة الأرض كورقة أو كعود يسبح علي الماء أليس هو الرب، وهذا أمر خفيف في عينيه لكن حدوثه يقلق الساكنين فيها وتشتملهم الأوجاع وكافة الموجودات من ذهب وفضة وملابس وعبيد وإماء ومراعي غنم وقطعان بقر وسرب خيل وجمال إن لم تشرق الشمس عليها تحسب كلا شئ.

فالحكيم سفه والقوي ضعف والغني تمسكن وهم يقرون بعدل واجب أن ليس لأحدهم شيئاً وأن كافة البرايا للبارى، فلنعرف نحن ضعفنا، وكما إنا إذا رأينا عظماً أو جمجمة من الذين سلف رقادهم نتنهد، كذلك عظامنا يبصرها الذين بعدنا فيكتئبون لأن من هذا الطين بعينه خلقنا كلنا.

فإذ قد تقدمنا فعرفنا هذه يا أخوتي فلنواضع ذاتنا تحت يد الرب الغزيرة ليعلنا في أوان التعهد ولنبغض السبح الباطل والتيه والجهل ولنهربن من الكبرياء فإن اللـه يناصبنا ولنحب التواضع فنصير ودعاء فيعلمنا الرب طرقه، كم من نشأوا منذ إنشاء العالم وكلهم ناموا علي الأرض وليس فرق بين عظام الملك وعظام الأسير، ولا فضل للمقتني مركبة لجامها مذهب علي الساعي برجليه، ولا للمغتذي بأطعمة فاخرة علي العائش بالفقر، ولا الجميل الصورة علي قبيحها، ولا للقتيل علي القاتل بل ينام كلهم علي التراب إلي أن يبوق البوق المقدس فينهض الراقدون منذ الدهر لينال كل واحد منهم جزاء الأعمال التي عملها بجسده إن صالحة وإن طالحة.

عجب عظيم نشاهد بغتة القبور تنفتح بصوت البوق والموتى الراقدون ينهضون منذ آدم وإلي تلك الساعة في أسرع من طرفة عين هكذا إذا قام الموتى غير بالين يقومون كلهم معاً الملائكة يتحاضرون مع الصور العظيم يجمعون الصديقين من الأربعة رياح من أفاق السماء وإلى أفاقها ذلك الصوت يحيي الكل ولا يبقى من الناس أحد فبعضهم يقوم إلي قيامة الحياة ومنهم إلي نشور الدينونة.

فإذا سمعنا عن نِهوض الموتى فلا نكذبن ذلك لأن كافة الأشياء ممكنة للـه وليس شئ غير ممكن له، وإن كان الذي طرحوا في الأتون حجبهم اللهيب وحفظهم بغير مضرة ولم ينالهم بلى ولما خرجوا من أتون النار وجدوا أن شعرة واحدة لم تحترق منهم ورائحة احتراق اللهيب المتسامي لم توجد بِهم هكذا إذا قام الموتى غير بالين ليس العجب من أن شعرة منهم لا تَهلك بل إن رائحة البلى لا توجد فيهم بعد مدة زمان رقادهم لأن كافة الأشياء ممكنة للـه ولن يصعب علية شئ.

أسمع حزقيال النبي قائلاً ” وصارت عليَّ يد الرب وأخرجتني بروح الرب وحطتني في وسط البقعة وكانت موعوبة عظام الناس وأدارتني حولها وكانت العظام علي وجه البقعة كثيرة جداً، وإذا هي يابسة جداً، وقال: ياابن الإنسان تنبأ علي هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة أسمعي قول الرب هكذا قال السيد الرب لهذه العظام هاأنذا أدخل فيكم روحاً فتحيون وأمنحكم عصباً وأكسكم لحماً وأمد عليكم جلوداً وأعطيكم روحي فتعيشون وتعلمون إني أنا الرب.

وحين كنت أتنبأ صارت ريح وحدثت زلزلة وبادرت العظام كل عظم منها إلي مفصلة ورأيت وإذا قد نشأ عليها العصب واللحم وصعد عليها جلد ولم يكن فيها روح، وقال لي: تنبأ يا ابن الإنسان تنبأ علي الروح. فقلت بالروح: الرب ربنا يقول هذه الأقوال لتحضر الروح من الرياح الأربع ولتنفخ في هؤلاء الموتى وليعيشوا.

فلما تنبأت كما أمرني جاء إليهم الروح وعاشوا وقاموا علي أرجلهم جماعة كثيرة جداً وخاطبني الرب قائلاً: يا ابن الإنسان هذه العظام هي كافة بيت إسرائيل هؤلاء يقولون عظامنا قد صارت يابسة وقد ضاع رجاؤنا وهلكنا من أجل هذا تنبأ وقل لهم السيد الرب يقول هذه الأقوال: هاأنذا أفتح قبوركم يا شعبي وأصعدكم من قبوركم وأدخلكم إلي أرض اسرائيل، وتعلمون إني هو الرب، إذا فتحت مقابركم وإذا أصعدتكم من مقابركم وإذا منحت جماعتكم روحي وتعيشون أسكنكم في أرضكم وتعرفون إني أنا هو الرب تكلمت وأصنع قال السيد الرب.

ولذلك لما جاء ربنا وإلهنا يسوع المسيح قال بفمه الإلهي: ” حقاً أقول لكم: أنه ستجيئ ساعة وهي الآن حين يسمع فيها الموتى صوت ابن البشر والذين يسمعون يعيشون. وأيضاً لا تتعجبوا من هذا “.

وفي فصل آخر مكتوب ” أيتها السماء أنصتي فأتكلم وتسمع الأرض كلمات فمي فلينحدر كالمطر نطقي ولتنزل كالنداء كلماتي ” هذا هو النداء الذي يجدد الموتى ويحييهم، ونبي آخر يهتف قائلاً: الموتى سينهضون والذين في القبور سيقومون والذين في الأرض يسرون لأن النداء الذي منك شفاء لهم “.

فكافة الأشياء ممكنة للـه وليس شئ صعب عليه إن كانت السموات أو الأرض أو لجة البحار أو الأعماق أو خليقة ما أخرى فكلها في يده، كلها كلا شئ وليقنعك بذلك النبي القائل: من قدر الماء بيده والسماء بشبره والأرض بكفه من نصب الجبال بوزن والتلال بمعيار.

ويقول أيضاً: الأمم كلها قد حبست عنده كنقطة من قادوس وكرجحان ميزان تحسب وهوذا الجزائر يرفعها كدقة تحسب بصفة ولبنان ليس كافياً للحريق وحيوانه ليس كافياً لمحرقة وكافة الأمم كلا شئ قدامه. من العدم والباطل تحسب عنده.

فأما حبقوق النبي فيقول: يارب سمعت سماعك فخشيت، يارب تأملت أعمالك فذهلت. والرسول يقول: في لحظة في طرفة عين عند الصور الأخير لأنه يبوق فيقوم الموتى غير بالين ونحن نتبدل ( نتغير ) لأنه ينبغي لهذا البالي أن يلبس عدم البلى، وهذا المائت أن يتسربل عدم الموت، فإذا لبس هذا البالي عدم البلى وتسربل المائت عدم الموت فحينئذ يكمل القول المكتوب أبتلع الموت بغلبة أيها الموت أين غلبتك، أيها الجحيم أين شوكتك، فمن أجل هذا لا يبكين المسكين ولا يستعظم الغني ولا يحزن الضعيف ولا يتشامخ القوي ولا يغتم العبد ولا يفتخر المولى فإن الجميع من الأرض وفي التراب يسكنون إلي أن يجيئ الرب الذي يحيي أجسامنا المائته.

فليفتخر الصديقون ويسرون بالرب لأنه مغبوطون كافة الذين يوجدون حينئذ أهلاً لذلك الصوت المبارك: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم.

فاصبروا الآن يا صانعي العدل محتملين الأتعاب من أجل حق اللـه فإن تعب هذه الحياة الوقتية يمنحكم دالة جزيلة في المستأنف، وضيقة هذا العالم الحاضر تصير لكم نياحة وتعزية، والبكاء الآن يسبب جلالاً وفخراً لأنه قد كتب مغبوطون كافة الصابرين لأن الشعب الطاهر يسكن في صهيون.

وحينئذ يصير المكتوب ” ها الذين يخدمونني يسرون وأنتم تحزنون، ها الذين يخدمونني يبتهجون بالسرور وأنتم تصيحون من أجل وجع قلوبكم، وتولولون من تلقاء انسحاق الروح لأن اسمكم يحصل لشعبي سيفاً وأنتم يقتلكم الرب والذين يخدمونه يدعوهم باسم جديد الاسم الذي قد تبارك علي الأرض.

ويقول أيضاً: أنْهم ينسون حزنَهم الأول ولا يخطر بقلبهم لأنه ستكون سماء جديدة وأرض جديدة فلا تذكر الأولي ولا تخطر علي بال أفرحوا وابتهجوا إلي الأبد.

أما أنا الخاطئ فإني إذ أخطرت بذهني أية خيرات أعدت للصديقين وأي غضب أعد للخطاة أتَهاون بالأمرين كلاهما، وإذ لا أعرف لدي عملاً حسناً أبرز إليك هذا الصوت ” أيها الرب الصالح الفادي اللهم أغفر لي أنا الخاطئ، إن ذلك العشار يفوق حقارتي إذ كان واقفاً علي قدميه مطرقاً إلي أسفل ويقرع صدره متضرعاً فأنا بما أني مفرط في الهفوات أنطرح علي الأرض علي وجهي وأضرب بجبهتي الأرض هاتفاً إليك أيها المتحنن الطاهر والمرهوب اللهم أغفر لي أنا الخاطئ الغير مستحق ولا يكون لي هذا دينونة إني أجترئ أن اُسَمي بلساني النجس وشفتي الدنستين اسمك الأقدس الفائق السبح إلي الدهور، بل فلتصر لي الاستغاثة باسمك استنارة البشرة وقداسة الروح نظير رائحة البخور التي إذا ارتفعت تملأ البيت نسيماً طيباً.

فكم أولي بذلك ذكرك يارب الذي هو أحلي من الشهد أن يملأ النفوس قداسة، واستنارة نفوس الذين يتوقون إليك بأمانة، أيها المخلص أعطيني شوقاً إلي خلاصك مثل أرض ظامئة منتظرة المطر لأصنع قبل الموت ثمراً لئلا أخزى في يوم المجازاة، ارحمنا كلنا بما أنك صالح نشكر لصلاحك يارب لأننا كنا غير مستحقين فأهلتنا أن نخدم اسمك الأقدس وأن نبسط أيدينا إليك يا أبا الكل، نجينا من كل فعل شيطاني وأعطِ اسمك الأقدس مجداً يارب امنحنا أن نوجد كأرض جيدة صالحة لكي إذا قبلنا بذارك نثمر مائة وستين وثلاثين، أعطينا يارب أن نتجر الفضة التي أعطيتنا إياها لكي ما إذا عشرنا تضعيف المن الواحد نقرب إليك ثمر العدل فنؤهل أن نرأس العشر مدن، امنحنا يارب أن نسهر ونستيقظ لاستقبالك ممنطقين احقاء أذهاننا ماسكين مصابيح نفسنا العقلية غير مطفئة منتظرين إياك يا إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أهلنا يارب لاختطاف الصديقين حين يستقبلونك في السحب لئلا نختبر تلك الدينونة المرة الفاقدة العزاء، بدد يارب قبل الوفاة وسق خطايانا الشاق حمله لئلا يكون لنا عاقة في ساعة الطيران ويسحبنا من مصاف الصديقين إلي النار التي لا تطفأ فالعدل هو جناح للطيران يحمل الصديقين من الأرض إلي السموات، نعمتك يارب فلتصر لنا قوة ولتأخذنا في السحب مع الصديقين المختارين إلي الهواء إلي ألتقائك يا ملك الكل لتستقبلنا الملائكة القديسون بفرح وبوجه باش ولنسجد كما يجب أمام عرش مجدك ونعاين المجد الذي لا يوصف فإذا استوعبنا نعمة نَهتف المجد لمن ألبس الأذلاء البالين مجداً وعدم بلى، المجد لمن أعطى المائتين عدم الموت، المجد لمن نجانا من فم السبع والعدو المفسد وصنعنا وارثين لملكة السماوي، ها جرثومة كافة الخيرات ها النور الذي لا يُتَرجم الذي لا يتبعه ليل، السرور الذي لا ينعت الذي لا يشوبه حزن ولا ألم لأنه بالحقيقة يهرب الوجع والغم والتنهد، منذ الآن نكون مع الرب دائماً هذه هي أصوات القديسين والصديقين والنساك والمختارين في وروده وجماعة الذين استرضوا الإله الرحوم بالتوبة.

يا أحبتي فلنفيقن ولنصغِ إلي ذاتنا لنستوطن مع الصديقين ويفرح قلبنا ولا ينزع أحد سرورنا مسبحين ومباركين وساجدين للثالوث الأقدس والطاهر والمساوي بالجوهر إلي أبد الدهور

آمـين.

 

 

 

 

@

المقالة الرابعة والثلاثون في مدح يوليانوس الناسك

 

 

إن هذا الفاضل في النساك كان مملوكاً وكانت أوائله كما حدثنا غير مرضية، عاش فيها بالقبائح ثم أفضى أخيراً إلي المعرفة وسار سيرة حسنة، وأصابته شدائد من سيدة في مدينة بعلبك التي عند لبنان لأنه كان أشترك في عبادة الأصنام ولما مات مولاه زهد في العالم وأحب الرب بكل نفسه وقلبه حتي قوم تقريباً كل فضيلة.

لأنه أقتنا تخشعاً كثيراً وتواضعاً زائداً ولم يصر نظير القوم الذين بعد انصرافهم من العالم يتوانون في تقوى اللـه فيهلكون لأنَهم يبذلون ذاتَهم للتواني والبطالة ولعدم عمل وصايا اللـه ولا يمنطقون احقائهم بالعفة فيغرقون أنفسهم في قعر المساوئ حتي أن قوماً وهم لابسوا زي الديانة البهية تورطوا في الرذيلة من أجل شهواتَهم جاعلين ذاتَهم مسكناً لعسكر الشياطين.

وقد اشتملني الرعب في مكان كنت جالساً حيث رأيت راهباً شالحاً رزق ابناً صغيراً من المعصية فلم يستعف أن يقدمه ذبيحة للشيطان من أجل محبة المال لكن معونة اللـه سبقت فخلصت الصبي وذلك أنه أخذ إلي موضع تحت الأرض حيث قيل له إن فيه ذهباً كثيراً مخبوءاً خبأه الذين عملوا الناووس، فلما عاين الشيطان علامة الصليب التي لبسها الصبي لم يجترئ أن يضره، فلما عرف هذا أخفى الأمر وغرضه وقام وأنتزع العلامة من الصبي فصار أيضاً صوت من المطابق إذ قد أفرز بجملته للـه فهو غير مستعمل ولما تخلص الصبي بأمر بديع حدثَ بالأشياء التي لحقته كلها وبالنصر الصائر إليه من ربنا يسوع المسيح وصار هذا الأمر شائعاً حتى أجتمع مجمعاً من الآباء القديسين للفحص عنه.

هذه يا أخوتي صنعتها الونية في الصلاة الجامعة وعدم مداومة الصلاة والتيقظ فيها لأن الترتيل والصلاة بتواضع فكر يخففان العقل من الآلام المحظورة ويجعلان النفس يينع شبابِها لاشتهاء الخيرات السمائية وكما أن محادثة اللـه بالصلاة النقية تجعل في النفس تواضعاً كذلك مخاطبة الملوك تنتج استعلاء رأي الذين لم يقتنوا المخافة الفاضلة.

فمصاحبة الملك هي إذاً أتون وموضع التصفية يوضح المختبرين والمنافقين، فأما الذين قدام أعينهم اللـه كل حين فهم بالتقوى المفضلة يرفضون آلام الأمور المنظورة فلذلك مغبوط الزاهد في العالم المتصرف في رفقة أناس قديسين وفي طاعة الآباء الروحانيين المستكمل سيرته بضمير نقي فإنه لا يخزى في قيامة الصديقين.

والويل للذي يخالط ويعاشر قوماً لا بر فيهم ولا طاعة لهم فإنه سيبصر أياماً مرة لأن التأمر والتفرد بالرأي وأتباع العزم بذاته تجعل الإنسان مقفراً ومسكيناً من الأثمار والمواهب الروحانية ومن يعمل كل أفعاله بإنصاف فهو مغبوط.

فأما المغبوط يوليانوس فإنه أمات ذاته من الأمور العالمية وأختار الزي النسكي وجلس في قلايته، وبقرب قلايته كانت قلايتي، وكانت قلايته تجمعنا كلنا فكان يزورني في قلايتي وكنت أزوره في قلايته لأنني كنت أنتفع من محادثة ذلك الإنسان وأتعجب إذا أبصرت مثل ذلك العلم في إنسان أعجمي لأنه كان أصلة من النواحي الغربية وكنت أمجد اللـه الذي لا يشاء أن يهلك أحداً بل يجتذب الكل إلي التوبة.

وكنت أتذكر الفصل الإنجيلي القائل: حقاً أقول لكم إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات وبنو الملكوت يخرجون إلي الظلمة البرانية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.

وأتنهد قائلاً: يارب نجينا من الظلمة البرانية ومن صرير الأسنان واذكرنا في سرور شعبك وشاركنا بخلاصك لنعاين في صلاح مختاريك ونفرح بسرور أمتك ونمدح مع وارثيك اذكرنا يارب كاللص إذا جئت في ملكوتك وفك أجسادنا من القيود بمجد نعمتك مؤهلاً إيانا لاختطاف الصديقين في السحب لنرث جبلك المقدس بشفاعة قديسيك آمين.

وكان المغبوط يوليانوس قوياً لكنه إنسقم من كثرت النسك لأنه سلك وراء القديسين وكان لا يعرف الكتابة فحرص أن يتعلمها هذا المحب للـه وكانت له قلاية يسكن فيها مع ذاته وفيها مضجع صغير فلم يكتفِ بضيقته حتى ابتنى له داخلها موضعاً صغيراً كقبر وجعل مدخله ضيقاً جداً.

فكان يدخل فيه كأنه في قبر ويصلي باكياً وكان يعمل بيديه قلوع المراكب وأحب التخشع والبكاء جداً اللذين لم يحبهما آخر حتى أن المجتازين بقلايته كانوا يسمعون صوت بكاءه، لأنه كان يبكي كمن دفن أباه أو ابنه وحيده ويندب بلحن لأنه كان يضع خطاياه بين عينيه ويبكي بتوجع ليلاً ونَهاراً والليالي كان يستعمل فيها نوماً يسيراً لأن الاهتمام بالمجازاة كان أستنهضه إلي الحرص.

فأما مقدار جملة المحن والأحزان التي أحتملها من الأخوة المتوانيين فلم توصف، وكلها كان يجيزها بالتواضع والصبر غير منضر منها، وكيف كان سالماً ممسكاً صبوراً وديعاً ورعاً لا قنية له، لأن الجالس في البرية بأمتعة يكون ضيق الذهن مرتعداً في كل وقت وموضع، وأخيراً يصير صيداً لفاعلي الشر فأما الفاقد القنية فذاك يكون مطمئناً من الاغتيال.

وكان أيضاً بلا كسل وجزيل النشاط في العمل ممتنعاً من القرف متواضعاً بالكلام في الفعل في المشي لأنه لم يكن مثلي ومثل نظرائي المتوانيين ممضياً أيامه في التواني بل أستكمل بالتخشع سائر أيام حياته، وكما أن الجالسين في السجن مقيدون إذا خرجوا إلي مجلس الوالي يرتعدون من الخوف والجهاد كذلك المغبوط يوليانوس كان يتذكر متواتراً مجلس قضاء المسيح المرهوب، فلذلك كان يبكي دائماً مكرراً التفكر في الحكومة المنتظرة، حيث يكون التخشع والدموع والتواضع، فلم يوجد هناك عدم الترتيب ولا أمر طالح بل حسن الترتيب وجملة الصلاح وإذ لا تحضر هذه ينقص أكثر الغرض المطلوب.

وكان يعتفي من مخاطبة النساء، ويقطع سائر أسباب اللذات الباطلة ومتي ما ضرب الناقوس للصلاة الجامعة كان يجتهد أن يسبق فيلتقي كل أخ يجئ إليها هكذا كان يقف في الصلاة حاوياً نظراً ثابتاً كأنه ماثل أمام عرش ربنا يسوع المسيح نفسه.

وفي أحد الأيام قلت له ترى من يمحوا الكتب المقدسة التي هنا لأنه حيث يكون مكتوباً اسم اللـه أو الرب يسوع المسيح أو المخلص أجد حروف هذه الألفاظ المكتوبة ممحوة.  فقال المغبوط: لا أكتم عنك شيئاً إن الزانية تقدمت إلي المخلص وقبلت قدميه بعبراتِها ومسحتهما بشعر رأسها وأنا إذا قرأت الكتب فحيث أجد اسم إلهي مكتوباً أبله بدموعي لكي ما أخذ منه غفران الخطايا.

فأجبته مسروراً: إن اللـه متعطف علي الناس وقد قبل نيتك فأطلب إليك أن تشفق علي الكتب. فقال لي: لا ينتدى قلبي إن لم أبكي قدام الرب إلهي.

فنسك بحرارة متوقدة أكثر من خمسة وعشرون سنة وتوفي بالرب، كان متصرفاً في الاضطهاد وفي الطاعة فصار مستحقاً للتطويب من القائل: الطوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات. فعيناي تُهملان الدموع علي مفارقة إنسان اللـه.

قال هذا المغبوط وقتاً ما لأحد الأخوة: إن أخاً رام أن يدخل إلي البرية الجوانية يلتمس أناساً يبصرون بمناظر العقل فشِر عليَّ من أجل الرب إن رأيت أن أذهب معه أم لا، فلما علم الأخ أنه ذو عمل. قال الأفضل أن يسكت الإنسان ويبتغي في السكوت الكمال لأن من يستفحص عن أمور صغار غير ثابتة يجول في البرية فليس ذلك حسناً.

فقال له المغبوط: ما هو الكمال وما هي الأمور الصغار الغير  ثابتة فقال له الأخ: الكمال هو غاية كل قول، وكل فعل. لأنه قد كتب نَهاية القول أسمع الأمر جداً أتقِ اللـه أحفظ وصاياه، فأما التي تعرض لكل واحد منا في هذا الدهر إن كانت محزنة وإن كانت صالحة فلها نَهاية فلذلك تبطل بالزمان، فأما التي تعرض عند الخروج من هذا العالم فهي غير مائتة فليكن في عقلنا يوم الدينونة والمجازاة، ليكن عقلنا كاملاً بالرب ولا نعمل كأثنين سافرا إلي بلدة بعيدة فضجر أحدهما في الطريق وطفق يسأل الذين صادفهم عما لقيهم في الطريق قبل عشرة علامات منه، فأجابه أولئك أن الطريق صعبة. فسألهم قائلاً:وبعد الطريق الصعبة ماذا ؟ فقالوا أرض يانعة مخضرة.

فلما رآه رفيقة يسأل عن أمور الطريق باهتمام قال: أكفف أيها الرفيق عن الاستفحاص عن أمور الطريق التي أنت عازم أن تسلكها مثل ساعٍ  سباق لأن الطريق تشبه العمر الإنساني فمن أجل هذا يجب أن نترقب أكثر لا ما نصادف في مسيرنا فيها بل ما يعرض لنا بعدها ولنطلب كيف سبيلنا أن نستوطن في تلك البلدة براحة، البلدة التي نزمع أن نقطنها دائماً بعد كمال العمر وانصرافنا من هنا.

ترى أين يكون مسكننا في ذلك الدهر ؟ أين يكون حظنا في العمق أم في العلا، في النياحة أم الأوجاع،في الظلمة أم في النور، في النار أم في النعيم؟ هذه فلنستبحث عنها روحنا وليتكلم بِها فمنا، لا يبعد مثل هذا الاهتمام من قلبنا ما دمنا في هذا العمر الوقتي ولنتجنب الذين يرومون تعويقنا عن مثل هذا الاهتمام بما أنْهم مسببون الطغيان والهلاك لأن ليس أحد مضى إلى هناك فعاد أيضاً إلي هذا العالم.

فلنهتم إذاً أيها الابن بما نزمع أن نظهر به من الدالة قدام ملك المجد، ولنحرص أن نضع أنفسنا في تعطفه ليعضد ضعفنا ولا سيما حين نتعرى من كل لباس إنساني لأنه لابد أننا سنترك كل شئ ونذهب إلي هناك فإن لم نرسم في ذهننا كل حين الدينونة العتيدة فلا ينفعنا شئ حين تظهر الخفيات والمكتومات لأن يوربعام ابن ناباط الذي أخطأ إلي إسرائيل سمع وقت ما بالرجز العتيد أن يوافيه من الرب فلم يتب عن شره.

وقد وبخ جحزي عن ذنوبه المكتومة فلم يُقَوِمْ خُلقه وإلا ما كان تركه معلمه في قباحة البرص لأن الذي طهر نعمان رئيس جنود الشام بقول الرب من مثل ذلك البرص قد كان يسهل عليه أكثر أن يزيل مصاب تلميذه.

فلنفحص إذاً في ذهننا كمال هذا العالم الحاضر لكي ما ننهض عقلنا النائم بانتظار الخوف المستأنف إلي عمل الأعمال الصالحة وحفظها لأن عمرنا أخف من الساعي، فلنبكين إذاً خائفين جداً أن نوجد هناك من تلقاء ونية هذه الحياة تحت غيظ ملك المجد فنرسَل إلي الظلمة القصوى فإن الذين يمضي بِهم إلي هناك لا راحة لهم من العذاب، ولا يراح المسجون من قبل خطاياه، ولا ينفك من القيود، لأن هناك ناراً لا تنطفئ، ودوداً لا يموت، وعمق هاوية مظلمة، وولولة مذهلة، وبكاء وقعقعة أسنان، وشدائد ليس لها نِهاية، لا يوجد بعد الموت راحة منها ولا حيلة ما، ولا صناعة تفك التعاذيب لكن هذه الأشياء يمكننا الآن أن نخلص منها إن سمعنا صوت ربنا وإلهنا الذي بزيادة التعطف كرز به بنفسه وعلم البشر كمال كل قول وتمام كل فعل ليصيروا سامعين له.

فلكي نستريح من اختلاف التعاذيب ونؤهل للخيرات يلزمنا اضطراراً أن نحفظ بتواضع كثير أقوال الرب لأن حفظ وصاياه هو كمال والذين صبروا عاملين وصايا الرب نالوا الكمال منتظرين إياه باستقامة قلب، وكل ساعة ينتظرون وروده المجيد، وجلوسه علي عرش مجده حين يميز المقسطين من المخطئين ويكافئ كل أحد نظير أعماله، فلنحفظ إذاً أيها الابن المحبة النقية لكي ما إذا قومنا بِها الفضائل نؤهل للوقوف عن يمين ابن اللـه الوحيد ويسر قلبنا، وسرورنا لا ينتزعه أحد منا، فقبل الأخ الوعظ قبولاً حسناً وثبت في السكوت شاكراً ربنا يسوع المسيح.

الذي له المجد إلي كافة الدهور

آمـين

 

 

 

 

 

@

المقالة الخامسة والثلاثون في ذكر الموت

 

 

سبيلنا أن نذعن للقائل فليعزِ بعضكم بعضاً وانفعوهم وأنا لست كافياً لهذه الوصية حتى أعمل هذا بحرصي لكنني أعرف القائل مبارك الإله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفات وإله كل تعزية الذي عزانا في كافة حزننا ليمكننا أن نعزي الذين هم في كل حزن بالعزاء الذي نتعزى به نحن من اللـه.

فلذلك احتسبنا نحن ضرورياً أن نكتب إليكم الفوائد التي تعلمناها من الكتب الإلهية ووعظنا بِها من أناس إلهيين وما اقتبسناه من التجارب لئلا نشابه نحن الصناع الحساد الذين يكتمون عن المتتلمذين لهم أكثر أسرار الصنعة حسداً وغيرة أما نحن فنصدق القائل أن اللـه هو الفاعل فينا إن شئنا نفعل أزيد من المسرة لأن الفضيلة لا تنقص إذا قومها قوم كثيرون ولا تضيق كما يقول واحد من القديسين إن أتقن الفضيلة كافة الناس وشاركوها لما أفنوا ثروتَها لأنْها ليست كالقنية الأرضية التي إذا وزعت  أقساماً فبمقدار ما يزاد النصيب الواحد يقلل النصيب الآخر أو يكثر الواحد ينقص مساهمه فمن ذلك تنشأ الخصومة بين الناس. فأما المقتني الفضيلة فمهما أكثر من قنيتها لا يحسد.

والمختطف الجزء الأكبر منها لا يسبب خسارة ما لمن يؤثر أن يساهمه فيها، فلنبدأ منذ الآن بالأمر المقصود بموازرة نعمة ربنا وإلهنا يسوع المسيح فنقول أن التواني يصير للذين لا يتيقظون سبب شرور كثيرة يحل قليلاً قليلاً السيرة الروحانية ويسرق حرارة الأمانة ويحض علي خدمة اللذات لأنه لا يسمح أن يحصل في العقل المكافأة التي تصير بعد الخروج من هذا العمر فلو سمع المتواني الكتب التي تخبر عن العذابات التي تكون بعد الوفاة وصدقها لجعل نفسه خارج هذا الزلل وما كان يحتملها بلا أشعار وبمقدار ما صار له من التواني يتيقظ لكل صلاح لأن المتيقظ حاضر عنده كل حين ذكر اللـه وحيث ما يتوطد ذكر اللـه يكف سائر فعل الخبيث.

فالشوق إلي الخيرات العتيدة الفاقد الشبع يجعل السعي دائماً وجيزاً، إن السعي الجسداني يحتاج إلي صحة الأعضاء وحدة الإحضار فأما السعي الروحاني فيحتاج أن تكون النفس طاهرة ولو كان الجسم سقيماً منحلاً بزيادة المرض لما أضر النفس المتيقظة كما لم يضر أيوب الشهم تقاطر أمواج الأوجاع وجلوسه السماوي علي المزبلة ليس شئ أقوي من الديانة الحسنة.

وليس شئ مخسراً وكثير الشقاء أكثر من الحياة المؤلمة، فبمقدار ما تكون الأمور الوقتية مستلذة تنمي المصيبة، وكما أن محبي الفضة إذا خسروا درهماً أو درهمين يتوجعون لذلك مغلوبين من محبة المال، والمقتني كرماً يسيراً وأرضاً يسيرة إذا عدم شيئاً من غلتهما يحزن غير محتمل المصاب.

هكذا يصيب بالأغنياء الحزن المذكور بمفارقة الغنى ولا سيما إذا رأى أحدهم ذاته مائلاً إلي الشيخوخة فينسكب حزناً مضغوطاً كأنه من ضغط الحديد والسجن الضيق إذ لا يجد حيلة واحدة يدفع بِها ورود الشيخوخة وإن ظن أنه يدفع ذكر الموت بالزمور والطبول وبباقي الآلة الموسيقية فبما يحتال من هذه يشعر أنه بلا محال سيعدم مثل ذلك السرور وتسكن التصفيقات والألعاب وصوت الأصوار ( الأبواق ) المستلذ والحزن يعصر قلبه ويأكل أحشاءه باطناً ولا يستقر ذلك أن طرب الغني الموسيقى بالخرافات وأخبار الحروب يتنعم دائماً بالموت والقتل فلو كان إذاً يذكر الموت لكانت خشية العقاب المنتظر تنقل بلا مراء حاله إلي عمل الصلاح لأنه قيل مَنْ مِنْ الكفار والمنافقين يذكر الموت فلا يستغرب هذا لأن كل إنسان مقترن به ذكر الموت وأما الكفار فيستعملون هذا الذكر استعمالاً رديئاً منتحبين علي مقارفة الملاذ فقط. وأما المؤمنون فيستعملون ذكر الموت دواء وشربهُ يزيل الآلام النجسة وكلنا قد تيقنا إننا منصوبون للموت المؤمنون والكافرون، فأما المحاكمة التي بعد الموت فلم نصدقها كلنا أما الصديقون فالدينونة نصب أعينهم دائماً كما يأمر القائل قد حكم علي الناس أن يموتوا مرة واحدة وبعد الوفاة الدينونة فلذلك يرسلون ليلاً ونَهاراً وسائل وطلبات إلي اللـه أن ينجوا من جهنم النار وباقي العذابات وأن يؤهلوا للتصرف مع الملائكة.

وأما المنافقون الخطاة فذكر الموت عندهم هو شئ ساذج مجرد لأنَهم لا يجتهدون خائفين من الأمور الصائرة بعد الموت بل ينتحبون علي فقدهم الملاذ ومفارقتها فإن صار لأحدهم الذكر الذي يصيب الصديقين فحينئذ ينصرف الحزن الأول ويضمحل ولا يعود موافقاً رأي القائلين نأكل ونشرب فإننا غداً نموت ولا يعتقد أن يكثر الأشياء التي لا نفع ويجمع بيديه ما لا ثمر له سوى العذاب بل يشتمله الاهتمام كما يليق بالإنسان الحكيم مهتماً باشتهاء الأشياء النفيسة هارباً من اهتمام المنافقين.

لأن الذين يحبون الثروة الأرضية فكافة عمرهم مشتغلون بالرجاء الباطل وبقدر التسامي في الغنى تنمى مخافة الرب كثيراً لأن مخافة الوفاة القاطنة باطناً تجلب الحزن على مقدار إحساس كل أحد لا لكي تتقوم لهم العفة والحلم والعدل والشجاعة، لا من أجل جهنم وعدل حكم اللـه لكنهم يتحيرون في أنفسهم نائحين علي ثروتَهم.

قائلين ترى من يترأس بعد منصرفاً علي جسامة هذه النعمة، ومن كان صديقاً للملوك يتمنى أن يعلم من يرأس المملكة بعده، ومن يتملك جسامة هذا الذهب والفضة ومن يستخدم هذه الآلة الذهبية ومن يرث الحلل المذهبة القرمزية والسنادس الملونة الجزيلة قيمتها، ومن يركب الخيل المنتخبة المذهبة لجمها لمن يتبع ويتقدم كثرة الغلمان المجتمعة من أمم مختلفة، من يسكن في المجالس والقباب التي وشيتها أنا باهتمام بالرخام التي زخرفت أرضها بالفصوص المذهبة وسقفتها بالذهب لمن يخدم أصحاب الموائد ترى من يخدم الخدم، من يضطجع علي الأسرة المفضضة، ويستعمل الأطعمة التي أطيابَها من الهند، من يستعمل الغلات والأشربة المروقة، من يأخذ باكورة طرائف بساتيني، من يقلب المناطق الذهبية، من يصير خلفاً يتولى خزائن السلاح والمركبات والخيول المعدة للأسفار والحروب من يسمي أهل منزلي سيداً، من يتطيب بأفخر الأطياب، لمن تكون كلاب الصيد، وإلى من تقدم باكورة غلاتي، ومن يجبي الخراج.

وإذا أشتغل فكره في جهات كثيرة ولا يجد مناهجاً للأمر يلجأ إليه بتنهد كثيراً ثم يعود أيضاً إلي الاهتمام بمنزلة غير مرير أن يكنز لنفسه في السموات شيئاً، وإذا نال نَهاية غاياته كلها من خصب الأثمار وتوفر الغلات وثمر البهائم وبَهاء المرتبة والشهامة في الحروب فحينئذ يخطر له ذكر الموت فيزعج قلبه، فإن ضعفت أعضاؤه من تناهي الشيخوخة ولم يستطع أيضاً أن يخدم الملاذ الفاحشة والمحظورة فحينئذ يندب حياته.

وإن كان أحد جافياً فظاً متصلفاً ويجتهد أن يقصي بعد الموت الرفاهية ورغد العيشة فليس ذكر الموت خارجاً منه لأنه يضاهي المريض الذي يتظاهر بالصحة ويأكل الأغذية التي تضاد المرض ويظن أنه يزيل بِها الوجع لكنه لا يطرد بذلك المرض لأن المرض شائع في أعضائه ثم يذعن لا مختاراً بل بغضب لكونه مضبوط بالألم ومعايناً هيئته مخطوفة من الموت بغتة.

فحينئذ ييقن وإن لم يشاء أن قضية الموت بلا محالة ستوافى إليه، وإن كان شاباً يشرف عليه أيضاً ذكر الموت فيخلط المحزنات بالملاذ لأنه إذا أبصر وجه قرينته المحبوب للوقت يدخله خوف الفراق، أو سمع صوتَها اللذيذ يخطر بذهنه أنه لم يسمعه قط، وإذا فرح بمعاينة الجمال فحينئذ يفرق مفكراً مميزاً أن هذا الجمال يزول وهذا الحسن الظاهر الآن يصير عظاماً نخرة قبيحة ولا يكون له أثر ولا ذكر ولن يوجد لهذا الجمال بقية. فإن أفتكر بِهذه ونظيرها أتراه يعيش بسرور هل نصدق الحاضرات عنده كأنَها صالحة وباقية دائماً أو تبان كأضغاث أحلام خادعة لا يمكن ولا يصدق أنَها تخرج إلي العالم بل يتأمل الأشياء الظاهرة كأنَها أجنبية، إن المتوانيين والمتهاونيين مظلمون تنقضي أيامهم في خديعة الخطية ظانيين أن ساعة الموت بعيدة منهم غير مهتمين بأنفسهم بل يحسبون لأنفسهم سنيناً كثيرة وأزمنة طويلة فهم يماثلون الذين يمشون في ظلمة الليل ويظنون أن الحفرة والهوة بعيدتان منهم إلي أن يتكردسوا فيها فتزول الحيرة والشك فالذي يتأمل بعين نفسه الصافية طغيان هذا العالم فيصير أعلى سموا من الأشياء التي ههنا متفطناً بلا مراءٍ إن أكل أو شرب أو رقد أو عمل أو تنزه في أن الطبيعة تنحدر إلي الشيخوخة وينتهي العمر الوقتي.

فلذلك يعرض عن الأشياء كلها كأنَها كناسة ويحرص أن يبعد ذاته من كل رثاء العالم وحزنه لئلا يكونان له مساهمة واحدة في الأشياء البشرية، فالذي ينظر في السيرة الفاضلة ويكنز الفضيلة لنفسه التي لا توصف هل يخرج من هذه الحياة الحاضرة خلواً من التخشع والدموع، أم يميل إلي الأمور الأرضية، أتراه يتعجب من الغنى الوقتي أو من الاقتدار البشري أو من شئ آخر يحرص علية بغباوة.

فإن كان مائلاً للأمور العالمية فهو خارج عن هذا المجال وكلامنا ليس له، أما من يعقل المعقولات العلوية والمتسامي سعيه إلي اللـه فهو أعلي سمواً ساعياً بكافة قوته وراء الفضيلة التي ليس في هذا العالم أكرم منها قدراً لأنَها تجعل الناس اخلاء اللـه، وتحسب الذهب في عينها كالرمل والفضة قدامها كالطين لا يضنيها الشقاء ولا يكمد نورها المرض، والموت المرهوب عند كثيرين يستهونه ذويها لأنَهم بدالة يهتفون مع القائل إن الشهوة تحضني أن أنكفي وأكون مع المسيح.

الذي له المجد والاقتدار إلي الأبد

آمـين

 

 

 

 

 

@

المقالة السادسة والثلاثون في أنواع الفضيلة

 

 

إن في عقلي راسخ كل ساعة المنظر الذي حدثتني به أيها الأخ فلذلك جاهد أن تسير بما يكون موافقاً للدعوة العليا لأنني عارف نشاطك وغيرتك إلي اللـه فلذلك أشير عليك إذ لك نية أن تخلص وليست لك خبرة بالسيرة ذات الفضيلة أن تقتفي آثار الآباء والأخوة التامين وتستفيد منهم كيف ينبغي لعبد اللـه أن يتصرف.

الأمر الذي كنت أقوله لك دائماً أن تعاين سيرة كل واحد منهم وتتشبه بتدبيره متفطناً في كل واحد منهم متدرع السلاح في الدين البهي منقاد إلي رأي الدعوة العليا، وتترقب بمبالغة من واحد أمانته الكاملة التي لا تتزعزع، وآخر اتكاله علي اللـه، وآخر تقتبس منه المحبة المضاعفة بحب اللـه والقريب وكيف أحدهم بمخافة اللـه يقي نفسه محفوظاً من كل أمر خبيث ذي سيرة حية لا زلل ولا لوم فيها، وآخر ممدوح من الكل من أجل طهارة سيرته وفقدها العيب لأن كثيرين يوجدون مثل هؤلاء الذين عنهم كنت أقول لك أصغِ إلي أولئك لا إلي المتواني.

صر مغاير الذين هم بيننا كالنجوم لترى كيف أحدهم محارباً من الخبث بآلام متلونة فيهرب إلي اللـه بالصلاة ويلاصقه بالتخشع والشوق فيأخذ معونة النعمة ويغلب الأفكار القبيحة والنجسة، وآخر يتوب عما عمله من الزلات ببكاء غزير وعبرات وزفرات نائحاً بإكتئاب علي خطاياه معترفاً للـه في الصلوات والأسهار يشقي بالصوم والتعب والاضطجاع علي الأرض والاغتمام مجتهداً أن يخلص نفسه بِهذه الأسلحة.

فجاهد أنت محارباً إلي الموت كجندي حقيقي لأن النسك يا ولدي ليس هو لعباً بل بتحرز كثير يقوم خلاص النفس.

فلذلك لم يبق واحدة من الفضائل لم أكتب لك عنها وأرسلها إليك لكي لا تقول أنني لست أعرف ما أعمل هكذا أجتهد إذاً أن تسير زمان حياتك بفطنة وبكل صنعة حسنة لترضي اللـه والناس، فإنك إن دبرت نفسك هكذا مراقباً زهد كل واحد من أخوتك الكامل وسيرته باللـه ذات فضيلة فسيمكنك بسهولة أن تصعد نفسك إلي علو الفضائل.

مشاهداً زهد أحدهم في القنية كيف قد أهمل كل الأشياء مجاهداً أن يوقف عقله من كل جهة بلا هم مثابراً علي الصلوات بلا اشتغال بال وليس له فكر ولا هم يقطعان صلاته ودموعه ومحبة اللـه الحارة الكاملة.

لأنك تعلم أيها الحبيب أن الإنسان إن صلي بشوق ودموع بقلب نقي يعاين الإله نفسه بذهنه فلذلك كل أحد يحصل بالمسكنة وبالفقر وبالضيقة الكثيرة لنفسه الخيرات الموعود بِها للصديقين لأن الباب ضيق والطريق حرج المؤدي إلي الحياة.

لذلك أريتك هذه الطريقة التي لم أسر فيها أنا، حتى إذا صغيت إلي ذاتك تماثل سيرة القديسين فتضاهي ورع أحدهم، وصناعة آخر، وتماثل صلوات آخر، وتتشبه بسجية آخر، وتشابه تواضع آخر، وتضاهي كرامة آخر، وتستفيد من آخر لومه لنفسه، ومن آخر احتقاره ذاته وتَهاونه بِها، ومن آخر صرامة سيرته، ومن آخر اهتمامه، ومن أخر سكوته، ومن آخر وداعته، ومن آخر طول انانته، ومن آخر احتماله، ومن آخر مسالمته للكل، ومن آخر الصداقة، ومن آخر ألفته، ومن آخر اتفاقه، ومن آخر فهمه، ومن آخر عقله، ومن آخر تيقظه، ومن آخر حكمته،ومن آخر حسن منطقه، ومن آخر إصابة الرأي، من آخر إفرازه، ومن آخر توسطه، ومن آخر بشاشته، ومن آخر فرحه، ومن آخر حسن تسليمه، ومن آخر سرعة انعطافه، ومن آخر مسامحته، ومن آخر شجاعته، ومن آخر ثقته، ومن آخر جهاده، ومن آخر طاعته، ومن آخر عملاً، ومن آخر مديحاً، ومن آخر نشاطاً، ومن آخر خدمته للأخوة، ومن آخر غيرة، ومن آخر حرارة، ومن آخر خضوعاً، ومن آخر التبرؤ جملة من العالم واحتقاره العالم وأمانته كل يوم، ومن آخر صبراً، ومن آخر الثبات، ومن آخر الصدقة، ومن آخر مجاهرته، ومن آخر توبيخه، ومن آخر سيرته الواضحة للكل والمنيرة، ومن آخر تحفظه، ومن آخر شكراً، ومن آخر أدباً، ومن آخر عفة، ومن آخر قداسة، ومن آخر طهارة، ومن آخر بتولية، ومن آخر نقاوة، ومن آخر عزماً روحانياً، وتراصد أحدهم صدقته، وآخر انتظاره، وآخر خيريته، وآخر صلاحه، وآخر حسن مجازاته، وآخر مساواته، وآخر عدل حكمه، وآخر عفوه، وآخر دعته، وآخر رثاءَه، وآخر إحسانه، وآخر محبته للغرباء، وآخر أحتياجه، وآخر عدمه الشر، وآخر وداعته، وآخر قناعته، ومن آخر تحفظه، ومن آخر شكره، ومن آخر بساطته، ومن آخر تعزيته، ومن آخر تسليته، ومن آخر تعهده المرضى، ومن آخر استقامة ذهنه، ومن آخر حياة.

وتستفيد من جماعتهم الصلاة التي لا تنقص والترنم وذرف مجاري الدموع سواقي، وجملة تغني عن التفصيل من السيرة الإلهية فما دمت ساكناً وسط هذا الكنز فأحرص أن تستغني، وما دمت عائشاً مع العذارى الأحرار العاقلات فلا تعد مع العواق، ما دام لك هؤلاء النجوم يضيئون عينيك كل يوم وليلة فأسلك في ضيائهم وأقتفِ أثارهم لتدخل معهم إلي المساكن الأبدية.

أخطر في هذه الخطوات ليمكنك أن تستدرك قوماً منهم لأنني عالم إنك إن شئت فإنك تقدر، منطق حقويك وقد مصباح عدلك وأنتظر ربك لتوجد مستعداً لاستقباله، أنا لست أكفف عن مكاتبتك في هذا الأمر وأعلم إنك تسمع سماعاً مقسطاً فأصغِ إلي ذاتك وجاهد إلي الوفاة وتحرز محفوظاً لتلتقي الختن الذي لا يموت بدالة وسرور.

أكرم البتولية فإنْها تبلغ بك إلي الحجلة السماوية فلهذا قال الرسول: قد خطبتكم لرجل واحد لأقيمكم عروساً طاهرة للمسيح.

والآن ياحبيبي قد كتبت إليك فضائل القديسين وسأكتب لك مكامن المضاد لكي إذا نجيت من فخاخ ذلك تستطيع أن تخلص نفسك فلا ثقل لي إذاً أنني قد حصلت في الدير وقد لبست الإسكيم الملائكي فليس الناس فقط بل الإله نفسه لا يستبشر بالإسكيم الظاهر بل بثمار الأعمال الصالحة.

فأنتصب إذاً كشجرة حسنة نضارتَها حاملة أثمار الفضيلة، وأحذر أن تجئ دودة الكبرياء فتفسد أثمار تواضعك، لا يسرق الكذب صدقك، ولا يغش السبح الباطل تورعك، ولا يستل الغيظ وداعتك، لا يسلب الغضب طول أناتك، ولا تفسد الخصومة سلامتك، ولا تعوق المعاداة مصادقتك، ولا يقطع الحقد المحبة، ولا يبيد القرف الإكرام، ولا يوزع المحك الاتفاق، ولا يطرد الاضطراب السكوت، ولا يعق شره البطن الصوم، ولا يقطع ألتذاذ الأكل الحمية، ولا يعرقل الونية الحرص، ولا يقطع النوم السهر، ولا يثقل الضجر النشاط، ولا يمنع العجز الخدمة، ولا يسحب التذمر الخضوع، ولا تختلس المعصية الطاعة، ولا يغلب الكلام الباطل الترنم والترتيل، ولا يقهر المزاح دراسة التمجيد، ولا يتقوَّ ويستظهر الضحك علي النوح، ولا تعطل الفظاظة المسامحة، ولا يفسد الفسق العفة، ولا يبطل عدم الأمانة الأمانة، ولا تكرم محبة الفضة أكثر من هجر القنية، ولا تحب والديك أكثر من المسيح، ولا تستلذ وتستحل العالم أكثر من ملكوت السموات، ولا يغير الغنى عندك الفقر، ولا تحرض لسانك الوقيعة، ولا تجعلك النميمة قاتل أخاك، ولا تدنس المشارة نفسك، ولا يحرقك الحسد للقريب، ولا ينجس الغش صفا قلبك، لا تعدمك المرآة الخيرات، لا يصنعك البغي دافعاً، لا تسبب لك شهادة الزور العذاب، لا تغربك السرقة من الملك، لا يغلق الظلم دونك الفردوس، لا يبدد عظامك استرضاء الناس، لا تقطع مجاهرتك محاباة الوجوه، لا تسحبك محبة اللذة من محبة اللـه، لا تعمِ الشهوة تخشعك، لا تشوه اللذة شوقك إلى اللـه، لا تخسرك لذة الأطعمة نعيم الفردوس، لا ترفض إنساناً لئلا تسخط خالقه، لا تعيرن أحداً لأنك لا تعلم ماذا يصيبك من العوارض، لا تترفع بقلبك لكي لا تسقط فتجلب لذاتك هواناً، لا تقطع دعتك الجسارة، لا يستأسر الجزع شهامتك، لا يبيد تقواك التهاون، لا يفصلك التنزه من الرفقة، لا يجرح نفسك النظر والتفرج، لا تفسد نفسك من السماع، لا تعاشرن الأشرار ولا تشاورهم لئلا يظلم شرهم ذهنك، لا يغلب الخبث صلاحك، ولا يقهر الحسد عدمك التألم، لا تصر متهجماً لئلا تمقت من الجماعة، لا يسبب لك التعاظم جلدات، لا تمنح جسدك قط ألبتة نياحاً لئلا يصير ثقلاً لنفسك، لا يختلس الافتراء مديحك، لا يصد عنك الأياس التوبة، لا تستنز لك الجهالة من السموات، لا تسرق المفاخرة كنزك، لا تشهر فخامة الكلام خفياتك، لا يظلم الحسد عندك أحداً، لا يعمِ الجهل فهمك، لا تسود السفاهة حلمك، لا تستول الغباوة علي عقلك، لا يغير عدم الإفراز أو تمييزك شئ آخر من الأشياء المحظورة يسلب عقلك أو يدخل قلبك ويسبيك من ملكوت السموات، بل تيقظ كما كتب وأتلِ شريعة الرب  نَهاراً وليلاً وحيث أن العدو لا يكف مقاتلاً نَهاراً وليلاً فأحذر أن يجد عقلك متشاغلاً عن تلاوة وصايا اللـه فيزرع زوانه ويجعل الأواخر شراً من الأوائل، أفقد الأشياء الأرضية لئلا تخسر الأمور السمائية فإن إنساناً يضع يده علي سيف الفدان، ويلتفت إلي ورائه لا يستحق ملك اللـه، ولا ينتظم أحد في الجندية فيشتبك بأمور العالم، فإذ قد خرجت من العالم وأتبعت المسيح فأسعَ هكذا مبادراً لتدرك، لا تجنح يميناً ولا يساراً أي لا تجنح إلي الآلام السابق ذكرها لكي إذا سقطت إلي هوة الخطيئة تموت بالنفس بل بادر في طريق وصايا اللـه الملوكي مقوماً سعيك إلي الملك السمائي وصلِ عني أنا الخاطئ لكي ما إذا صرت أنا الغير مستحق مشاركاً للقديسين أؤهل معهم للتمتع بالخيرات الأبدية بيسوع المسيح ربنا.

هذه الأقوال كتبتها إليك يا حبيبي لا لأنني حفظت شيئاً منها بل لكي إذا ما حفظتها أنت ترضي اللـه لأن الرب قال: من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها أنا يعملها وأكثر منها. وأنا واثق أيها الحبيب أنك ستصنع أعظم من الأفعال التي صارت قبلك إن كنت تحفظ كما قد تسلمت، لا تصر إذاً قاضي الأعمال الأجنبية بل في كل ساعة أجتهد أن تقوم سيرتك وتُهذبَها فإن كل واحد منا سيعطي عن أعماله للـه جواباً.

ميز أنت كل ساعة أفكارك وقل في ذاتك أهل ترى لي ورع ؟ لي عفة ؟ لي تخشع وتواضع ؟ وباقي الفضائل التي تقدمنا فكتبناها فوق هذا، ثم ميز أيضاً وقل في ذاتك أتراني أهملت سيرتي متوانياً ؟ أتراني أتكلم باطلاً ؟ أتراني
أغتاظ ؟ أتراني أشتهي شيئاً من الأمور الأرضية ؟ فهكذا ميز كل واحدة من المقدم ذكرها ماقتاً الأمر الخبيث ملتصقاً بالصالح فإن ليس صالحاً إلا اللـه وحدة المخلص الكل بنعمة يسوع المسيح ربنا، يا ولدي أوصيك بيسوع المسيح أن تحفظ هذه الرسالة وتقرأها متواتراً وتضعها أيضاً وتأخذها إلي أن تتعلمها، لا تتركها لأنني بكل تدقيق كتبت إليك عن سائر الآلام لتتلوها تلاوة متتابعة وتحفظها حفظاً بليغاً لأنه بماذا يحفظ الشاب طريقه ويقومها إلا بأن يحفظ أقوال الرب ومع هذا قد كتبت إليك هذه الأقوال لتستطيع أن تحفظ منها بسهولة فإذا قومت هذه فسأوقف أيضاً عقلك في تحرز أكثر وتعمق أوفر لتؤهل أن تصل إلي الحد الكامل بيسوع المسيح ربنا الذي له مع الآب والروح القدس الكرامة والتمجيد إلي جميع الدهور. آمـين.

 

 

 

 

 

@

المقالة السابعة والثلاثون في مدح ذوي أنواع الفضيلة وذم ذوي أنواع الرذيلة

 

 

( أولاً ): أطوب حياتكم أيها المحبون للمسيح لأنَها حسنة الدالة والويل لسيرتي لأنَها عاطلة غير نافعة، أغبطكم يا خدام المسيح المخلصين لأنكم بسيرتكم المستقيمة جعلتم ذاتكم أحباء للـه والملائكة، من ينوح عليَّ لأنني أغظته بأعمالي الباطلة، ومغبوطون أنتم الذين قد ورثتم الفردوس بسيرتكم النقية وبمحبتكم التي لا يقدر تقديرها.

أنني متعجب منكم كيف ما عجزتم عن مسير مسافة هذا الطريق الذي يوافق أنفسكم، وما أعجب من هذا إنكم جئتم إلي واحد حقير ومسجون بالخطايا طالبين منه كلام منفعة، يا للعجب كيف جئتم أنتم الشباعى إلى الذائب بالجوع، كيف أقبلتم أنتم الحاوين الندى الروحاني إلي الناضب، كيف أنتم المالكين حلاوة الفضائل جئتم إلى المتمرر بالخطايا.

كيف جاء الأغنياء إلي الفقير، كيف أقبل الحكماء إلي الأمي، كيف جاء الأطهار إلي الدنس، كيف جاء الأصحاء إلي المريض بضميره، كيف ورد المرضيون للـه إلي من يسخطه، كيف جاء الأحرار إلي الأسير، كيف أقبل المهتمون بالخلاص إلي المتكاسل.

لأنكم أنتم المملوؤن بالفضائل وأنا الممسك بجهلي، أنتم الذين حويتم الحمية فأرضيتم اللـه وأنا بخطيئي وإهمالي أدان، أنتم بالأعمال الحسنة وبالطهارة الشريفة صرتم طيباً للمسيح، وأنا برخاوتي وونيتي حصلت بكليتي نتانة مستكرهة.

إن هذا بالحقيقة عجب ! إنكم محتون في ذاتكم جسامة هذه المنفعة وقد أقبلتم إليَّ أنا الذي ما نفعت نفسي فبواجب فعلتم ذلك أيها الوامقون للمسيح مريدين أن تعضدوا رخاوتي وتجعلوا نفسي الوانية مهتمة حريصة وتؤيدون صغر نفسي لأنكم أنتم كاملون ولا تنقصون شيئاً، فإذ قد ألتمستم بتواضع أن تقتبسوا مني أنا الناقص كلام منفعة وأمرتموني بِهذا مريدين أن أوبخ سيرتي وأكشفها وأتكلم من أجل ثمر المنفعة وأنني فارغ لأنني إن بدأت أن أشير عليكم فإنما أدين نفسي، وإن ابتدأت أن أوبخ آخرين فإنما أثلب ذاتي، لأنه واجب أن يقال لي ما قال المخلص: أيها الطبيب اشفِ ذاتك. لكنه قال: كل ما يقولون لكم أن تعملوا فافعلوا ونظير أعمالهم لا تعملوا.

فلذلك إن كنت دنساً لكنني عالم أن أبدي رأياً مستقيماً فمن هنا إذا رمقت هذه السيرة الملائكية أغبط كل من أكثر منها لأنه من ذا لا يغبط السائرين سيرة مستقيمة ومرضية والمتصرف بالطهارة من أجل الخيرات المعدة التي لا تسبر ولا تحصى، ومن لا ينوح علي السائرين سيرة وانية الذي من أجل أمر حقير يحصل خارج الملك الذي في السموات، ومن أجل لذة وقتية يخرج من ذلك الخدر.

( ثانياً: في التقوى ): مغبوط المتقي الرب مغبوط ذلك الإنسان الحاوي في نفسه مخافة اللـه فإنه يطوب من الروح القدس جهاراً لأنه زعم مغبوط الإنسان المتقي الرب، بالحقيقة أن المتقي الرب يكون خارج كل حيلة العدو وكافة اغتياله، الحاوي مخافة اللـه يغلب بسهولة كافة مكائد العدو الرديئة صناعته لأنه لا يستأسر بشئ ومن أجل التقوى لا يقتبل لذة الجسد.

المتقي لا يتنزه هنا وهناك لأنه ينتظر سيده لئلا يجئ بغتة يجده وانياً فيقسمه شطرين، الحاوي تقوى اللـه لا يهمل اهتمامه لأنه يتيقظ دائماً، المتقي الرب لا يعطي لذاته نوماً بلا مقدار لأنه يسهر منتظراً ورود ربه، الخائف من اللـه لا يبطل لئلا يغيظ سيده، الخائف لا يضجع لأنه كل وقت يهتم بقنيته الروحية لئلا يذم، الخائف يختبر كل حين الأفعال المرضية للـه ويستعد بِها حتى إذا جاء ربه يمدحه بأنواع كثيرة لأن تقوى اللـه تصير سبباً لخيرات جزيلة للذين يقتنونَها.

( ثالثاً: في عدم التقوى ): فأما من ليست فيه مخافة اللـه فهذا يكون سريع الانصياد بمكائد العدو المحال، من ليست فيه مخافة اللـه يتنزه في أفعاله، ينام بلا هم، يضجع في أعماله، يصير محزناً للذات، كل شئ مطرب يقبله ويستلذه لأنه لا ينتظر ورود الرب فيتباهى باللذات، يسر بالراحات، يهرب من الشقاء، يرفض التواضع، يصافح الكبرياء، سيجيء ربه فيما بعد ويجده فيما لا يرضيه فيشطره شطرين ويرسله إلي الظلمة المؤبدة فمن لا يعطي الويل لمن هو هكذا.

( رابعاً: في المحبة ): مغبوط ذلك الإنسان الحاوي المحبة للـه، فإنه حاوي اللـه في ذاتهِ لأن اللـه محبه ومن يثبت في المحبة يثبت في اللـه، ومن له محبه يغلب كل شئ باللـه، لأن المحبة تطرح المخافة خارجاً، من حوى المحبة لا يرفض أحداً قط لا صغيراً ولا كبيراً، لا شريفاً ولا وضيعاً، لا فقيراً ولا موسراً، بل يصير موطئاً تحت الكل، يحتمل كافة العوارض، يصبر علي سائر النوائب، من له محبة لا يترفع علي أحد، لا يتشامخ ولا يغتاب أحداً، بل ويعرض عن الثلابين.

من له محبة لا يسلك بغش ولا يعرقل أخاه، من حوى المحبة لا يغار حسداً، ولا يحسد ولا ينافس، ولا يفرح بسقطة آخرين، ولا يشجب الخاطئ بل يحزن له ويعضده، لا يعرض عن أخيه في شدته بل يساعده ويموت معه، من فيه المحبة يعمل مشيئة اللـه وهو تلميذ له محق لأن سيدنا الصالح نفسه قال: بِهذا يعلم الكل أنكم تلاميذي إن أحببتم بعضكم بعضاً.

من فيه محبة لا يصنع لنفسه شيئاً ولا يقول أن له شئ يملكه خصوصاً لو كان سائر ما له مشاع للكل، من له محبة لا يحتسب أحداً غريباً بل يصنع الكل أهله وانسباءه، من له محبة لا يغتاظ ولا يتشامخ ولا يتحرق غيظاً ولا يسر بالظلم، ولا يلبث في الكذب، لا يحتسب له عدواً إلا المحال وحده، من له محبة يصبر علي سائر المحن يتعطف يتمهل. مغبوط إذاً المقتني المحبة فإن المسافر بِها إلي اللـه يعرف وليه ويقبله في حضنه، ويغتذي نظير الملائكة، ويتملك مع المسيح، بالمحبة ورد الإله الكلمة إلي الأرض وفتح لنا بِها الفردوس وأورى الكل الارتقاء إلي السماء كنا أعداء اللـه فصالحنا بِها، فبواجب قلنا إن المحبة هي اللـه ومن يثبت في المحبة يثبت في اللـه.

(خامساً: في من ليس له محبة ): شقي وردئ الحظ المبتعد من المحبة فإنه يعبر أيامه كتخيل المنام، من لا ينوح علي ذالك الإنسان المبتعد من اللـه الفاقد النور والمتصرف في الظلمة لأني أقول لكم يا أخوتي إن من ليست له محبة اللـه فهو عدو للـه، لأنه صادق القائل: من يبغض أخاه فهو قاتل الإنسان وفي الظلمة يسلك، ويصاد بكل خطيئة.

من ليست له محبة يغضب بحدة، يغتاظ بسرعة، ويتوقد من الغضب سريعاً، من ليست فيه محبة يسر بظلم آخرين لا يتألم مع الخاطئ، ولا يناول الطريح يده، ولا يعظ من غلط، ولا يعضد المتزعزع، من ليست له محبة فهو أعمى الذهن صديق المحال، ومخترع كل شر، مستنبط الخصومات، معاشر الثلابين، مشاور الشتامين، مؤازر الحاسدين، فاعل الكبرياء، إناء العظمة، وجملة تغني عن التفصيل، من لا يقتني المحبة فهو آلة المحال المضاد ويضل في كل طريق ولا يعلم أنه في الظلمة يسلك.

( سادساً: في طول الأناة ): مغبوط بالحقيقة ذلك الإنسان المقتني طول الروح فإن مثل هذا يمدحه الكتاب الإلهي قائلاً: الإنسان الطويل الأناة جزيل الحظ في العقل، هو في السرور كل حين في الفرح في الابتهاج لأنه قد أتكل علي الرب وأرتجاه. الطويل الأناة هو خارج الغضب لأنه يصبر علي سائر النوائب، الطويل الأناة لا يميل إلي السخط سريعاً ولا ينقلب إلي الشتيمة ولا يتحرك بسرعة إلي الأقوال الفارغة.

إذا ظُلم لا  يحزن، لا يقاوم الذين يقاومونه، متيقظاً في كل أمر، وليس سريع الوقوع بالخداع، ولا جانحاً بسهولة إلي الخصومة، يفرح بالأحزان، يستوطن في كل عمل صالح، يود من يحسده، إذا أُمر لا يجاوب ولا يقطب، يشفي نفسه بطول أناتهِ.

( سابعاً:  في من ليس له طول أناة ): فأما من ليس له طول روح فمثل هذا هو فارغ مصفر من الصبر لأن من ليس له طول الأناة ينعكس بسهولة وهو معد للخصومة، إذا شُتِمَ شَتَمَ، إذا ظُلمِ ينتقم، نجيب في الخصومة، أفعاله وأقواله مضطربة كالورقة يهتز مع الرياح، لا يثبت في كلامه، يطفر بحدة من هذا إلي هذا، من ليس له طول أناة فذاك خالِ من الثبات لأنه بسرعة يتغير، لا يقتني دموعاً، يعاشر الخبيث، يكمن من اللائم يؤازر الظالم، لا يحتمل شراً مستعد لإشهار الكلام، فمن يكون أشقى منه.

( ثامناً: في الصبر ): مغبوط يا أخوتي من أقتنى الصبر لأن الصبر فيه الرجاء والرجاء لا يخزى فمغبوط بالحقيقة ومثلث السعادة من له صبر لأن من يصبر إلي النهاية يخلص، فماذا يكون أجل من هذا الوعد، إن الرب منعم على الصابرين، فإلى متى يا أخوتي تميزون فضله أتراكم تعرفونه، أم نحتاج إلي توسيع الكلام عنه لصيانتكم.

إن الصبر ليس هو نوعاً واحداً بل فيه فضائل كثيرة، لأن الصبور يلامس كل فضيلة ويسر بالأحزان، ويحسن في الشدائد، يستبشر بالمحن، معد للطاعة، بَهي في طول الأناة، كامل في المحبة، يبارك في الشتائم، يسالم في الخصومات، شجاع في السكوت، لا يعجز في الترتيل، مستعد في الأصوام، صور في الصلوات، غير معاب في الأعمال، مستقيم في الجواب، حسن الإقناع في التوسل، مهتم بالسيرة الحميدة، مسرور بالخدم، فرح بسيرته، صالح في مجمع الأخوة، مستلذ في المشورات، متهلل القلب في الأسهار، حريص في الاهتمام بالغرباء، معتنى بالمرضى، يحاضر أولاً مع المتغلبين بالأشغال، متيقظ في أن يتفهم، ومستنهض في كل أمر، المقتني الصبر قد أقتنى الرجاء، تزين بكل عمل صالح، ولذلك يهتف مثل هذا بحسن دالة إلي الرب قائلاً: صبرت إلي الرب صبراً فأصغى إليَّ.

( تاسعاً: في من لا صبر له ):شقي ومنكود الحظ من لم يقتني الصبر لأن مثل هذا يتوعده بالويل الكتاب الإلهي قائلاً: الويل للذين قد أضاعوا الصبر. حقاً بالحقيقة الويل لمن لا صبر له، من لا صبر له يتحرك كورقة تحركها الرياح، لا يحتمل شيئاً صغير النفس في الأحزان، مثل هذا هو سريع الوقوع في الخصومات، متذمر في الصبر، مجاوب في الطاعة، مضجع في الصلوات، منحل القوة في الأسهار، مقطب في الأصوام، متواني في الحمية، عاجز في الرسائل، رديء الفعل في الأعمال لا يغلب في الخبث، شجاع في حرب الكلام، ضعيف القوة في السكوت، يقاوم النجباء، ويناضل الناجحين حاسداً، من لا صبر له يتكبد خسارات كثيرة، لا يمكن مثل هذا أن يمس فضيلة لأننا في الصبر نحاضر في الجهاد المنصوب كما زعم الرسول، فمن لا صبر هو غريب من رجاء الصبر، فلذلك أتضرع إلى جماعة الذين لا صبر لهم مثلي أن يقتنوا الصبر ليخلصوا.

( عاشراً: في عدم السخط ): الطوبى لذلك الإنسان الذي لا يغتاظ ولا يقبل غضباً، هو في السلامة كل حين من طرد عنه الروح الغضبي والسخطي صار خارج الحرب والاضطراب، هادئاً بالروح كل حين مسروراً بالوجه، من لا يغضب سريعاً فلا يتحرك من قول فارغ، هو فاعل العدل والصدق يمسك المخاصمين بسهولة، ويحتمل المؤلمين بلسانِهم بلا مشقة، لا يفرح بالخصومة، ولا يعمل ظلماً لأنه يظهر محباً إلي الكل غير سخوط، لا يسر بحرب الكلام، لا يصنع جوراً، لا تدهمه الأمراض لأنه صحيح المزاج، دائماً يسر بالمسالمة ويستوطن في طول الأناة، من لا يقبل سريعاً روح الاحتداد المرة لا يغيظ الروح القدس، ويقتدر أن يكون وديعاً ويمكنه أن يكون له محبة وصبر وتواضع، العادم السخط قد تزين بكل عمل صالح، ويحبه المسيح، فمثلث السعادة بالحقيقة من طرد عنه روح السخط والغضب فإن جسمه ونفسه وعقله كل حين صحيحة.

( الحادي عشر: في احتداد المرة ): فأما المضبوط باحتداد المرة والساخط سريعاً من لا شئ فيسمع الرسول بولس القديس يقول: إن غضب الإنسان لا يعمل عدل اللـه. فبالحقيقة إنه شقي ومنكود الحظ المنغلب لهذه الآلام لأن الساخط يقتل نفسه وبالحقيقة هو هكذا أنه يقتل ويهلك نفسه لأنه يتصرف دائماً في الاضطرابات، مقفر من الهدوء، غريب من السلامة، عادم الصحة، جسمه يذوب كل حين، ونفسه مغمومة، وبشرته ضئيلة، ولونه لا نضارة له، وذهنه يتغير، وعقله يضعف بالمرض، وأفكاره تنبع كنهر فائض، وهو ممقوت من الكل، خالٍ من طول الأناة والمحبة، يقلق سريعاً من الأقوال الفارغة، ومن أجل أمر حقير ينهض الخصومة، وحيث لا يكون له حاجة يزج نفسه ويجمع لذاتهِ البغض، يفرح بكثرة الأحاديث، ويطفر من الأمور التي لا توافقه، يستلذ بأنواع الثلب، يضعف في الوداعة، شجاع في الأمور الخبيثة، فمن لا ينوح عليه لأنه مرذول عند اللـه والناس لأن الحاد المرة يحصل في كل أمر رديئاً، فلذلك يجب عليه أن يتوقى في احتداد المرة.

( الثاني عشر: في الوداعة ): مغبوط بالحقيقة ومثلث الغبطة الإنسان الحاوي الوداعة لأن الرب المخلص القدوس يضمن له قائلاً: مغبوطون الودعاء فإن لهم ملكوت السموات، ويرثون الأرض. فماذا يكون أعظم من هذا التطويب ؟ ماذا يكون أعلى من هذا الوعد ؟ ماذا يكون أبْهى من هذا السرور ؟ أن يرث إنسان أرض الفردوس. فلذلك يا أخوتي إذ قد سمعتم فضل سمو هذا الوعد وجسامة وقدر ثروته فبادرا أن تغايروه، وسارعوا إلى بَهاء الفضيلة إذ قد سمعتم شرفها فتخشعوا واحرصوا بكافة قوتكم أن لا يحصل أحد غير وارث هذه الأرض فيبكي بكاءً مراً متندماً تندماً لا ينفع، إذ قد سمعتم تطويب الوداعة فبادروا إليها، أسمعتم ما قال عنها إشعياء النبي الصادق بالروح القدس: إلى من أنظر قال الرب إلا إلى الوديع الهادئ المرتعد من أقوالي. أترى لا يجب أن نتعجب من هذا الوعد، لأنه ماذا يكون أشرف من هذه الكرامة ؟ فاحذروا يا أخوتي أن يسقط أحدكم من هذا التطويب ومن الفرح والابتهاج الذي لا يحصى، أتضرع إليكم أن تبادروا متسارعين لتقتنوا الوداعة فإن الوديع تزين بكل عمل صالح. الوديع إن سُبَ فرح، إن حزن شكر، يُسَكن غيظ الساخطين بالمحبة، يلبث متأدباً هادئاً في الخصومة، يبتهج في الأسهار، لا ينقطع في الكبرياء، يفرح بالتواضع، لا يستعلي ذهنه بتقويماته، لا يتحير، يستعمل السكوت لدى الكل، يتعبد في كل طاعة، مستعد لكل عمل نجيب، في كل شئ ممدوح من الجماعة، خالٍ من الرياء، ومبتعد من الخبث، لا يتعبد للغش، ولا يخضع للحسد، يمقت اللائمين، ويعرض عن المغتابين، إن شرف الوداعة المغبوطة تشرف الكل.

( الثالث عشر: في الخبث ): يجب يا أخوتي أن ننتحب وننوح على من لا وداعة فيهم المقترنين بالخبث إن القضية الصارمة مستعدة لهم لأن الخبثاء يستأصلون، وقد وبخ إلهنا القدوس هؤلاء قائلاً: الإنسان الخبيث من كنزه الخبيث يبدي الخبث. والنبي أيضاً يقول: تسمع أذني بمصاب الأشرار المنتصبين عليَّ. لأن شيطان الخبث صعب يا أخوتي.

فلذلك احذروا أن يسقط أحدكم في هذا الألم فيذم نفسه، لأن الخبيث لا يسالم أحداً قط بل كل وقت في الاضطراب، في كل ساعة يستوعب غضباً وغشاً وسخطاً، كل وقت يبصر جيرانه من تحت، كل حين يتذمر يشارر يحسد يغاير يتقسى ينتهر دائماً، ويجاوب، يأمر ويرجع يشاور ويعمل السوء، يعاهد وينكث، يحب ويتوقع، يرفض النجباء، يلوم الناجحين، يعاكس الأخوة، يشارر بثلب الودعاء، يضحك علي
المتهاملين، يتظاهر للغرباء، ينم بالواحد عند الآخر، يضاد كل واحد من الأخوة، يحرض الخصومة، ينهض الغيظ، يعاون في المجازاة بالشر، معد للثلب، يستلذ الإغتياب، ينقاد إلي السب، شجاع في اكثار الكلام، نشيط في أن يجرح  بكلامه، ساعٍ أول في الشغب، ضعيف في الترتيل، منحل في الصوم، لا قوة له في كل عمل صالح، ولا فهم له في الأفعال الروحانية. فمثل هذا يستحق نوحاً كثيراً فلذلك أتضرع إليكم يا أخوتي أن تتحفظوا من الخبث.

( الرابع عشر: في الصدق ): الطوبى لمن تتصف سيرته بالصدق ولم يقتنص بشئ من الكذب، مغبوط ومثلث الغبطة من صار فاعلاً للصدق، فإن اللـه صادق وليس فيه كذب، من ذا لا يطوب الحافظ الصدق لأنه قد شابه اللـه، لأن الصادق هو دائماً يرضي اللـه حسناً وينفع كافة الناس، جميل في الأخوة، مستقيم في كل أمر.

الصادق لا يحابي في الوجوه ولا يسر بِها، ولا يحكم حكماً جائراً، لا يقصد مرتبة أو كرامة، ولا يغفل عن حقير ومحتاج، في الرسائل هو بلا غش، ومستقيم في العلم، مهتم في العمل، لا يعرف غشاً ولا يحب الرياء، مزين بكل عمل صالح، مستنير بكل فضيلة، مغبوط إذاً من يخدم الصدق دائماً.

( الخامس عشر: في الكذب ): شقي وردئ الحظ من يدوم في كل نوع من الكذب لأن من القديم المحال كاذب، ومن يداوم علي الكذب فليست له دالة لأنه محتقر عند اللـه والناس، من لا ينوح علي المتصرف في الكذب فإنه منفي من كل عمل وعلم، يُنهض في الدير السخط والخصام، وهو في اشتراك الأخوة كالصداء في الحديد لأن له قلباً جسوراً، يسمع الأسرار بلذة ويشهرها بسهولة، وبلسانه يعاكس الواقفين حسناً، يبدي بالأمر ويتبرأ منه، لا يتكلم قولاً بلا قسم ويظن أنه بإكثار كلامة يُصدق، فالكذوب كثير الحيل وكثير الأحوال، لا يوجد أعظم من هذا الجرح ضرراً ولا يكون عار أشهر منه لأنه مرفوض من الكل، وضحكة عند الجماعة فلذلك أحذروا يا أخوتي مداومة الكذب.

( السادس عشر: في الطاعة ): مغبوط من أقتنى وملك الطاعة المحقة الفاقدة من الرياء فإنه يشابه معلمنا الصالح الذي صار مطواعاً إلي الموت، فبالحقيقة مغبوط من فيه الطاعة فإنه يتحد بالكل بالمحبة ويضاهي الرب ويصبر نظيره في الموت، من فيه الطاعة فقد أقتني قنية جليلة وملك ثروة جسيمة، المطواع يرضي الكل وممدوح من الكل، يشرف من الكافة.

المطواع يستعلي سريعاً ويحصل في صنوف النجاح وشيكاً، المطيع يُنتهر فلا يجاوب، يُؤمر فلا يرجع، يُزجر فلا يسخط، معد لكل عمل صالح، لا ينحدر إلي احتداد الغضب بسهولة، إن سمع كلاماً خارجاً لا ينزعج له، وفي الشتائم لا يضطرم غضبة، يسر بالأحزان، يشكر في الغموم، لا ينتقل من موضع إلي موضع، ولا يستبدل ديراً بدير.

إذا وعظ لا يحرد، يثبت في الموضع الذي دعي إليه، لا يمسك بالضجر، لا يحتقر الأب، ولا يستصغر الأخ، لا ينحني للتطواف حول صقع الدير، ولا يسر بالنياحات، ولا يلتذ بالأماكن، ولا يطرب بالأهوية بل كما يأمر الرسول القديس الموضع الذي دعي إليه يثبت فيه، فثمار الطاعة كثيرة بالحقيقة فمغبوط من أقتناها.

( السابع عشر: في التذمر وعدم الخضوع ): شقي من لم يقتني الطاعة بل يقتني التذمر لأن التذمر في الدير ضربة عظيمة، ويشك في المعاش المشترك ويسبب انعكاس المحبة واجتناب الألفة وتكدير السلامة، المتذمر إذا أُمر يجاوب، وفي الأعمال غير نافع، خالٍ من النعمة وعاجز لأن الكسل مقترن بالتذمر، فكل كسلان قد قال الكتاب الجليل عنه أنه يسقط في الأسواء، الكسلان زعم إذا أرسل في حاجة يقول السبع في الطريق والقتلة في الشوارع، المتذمر يخترع الحجج دائماً إن تقدم ليعمل عملاً يتذمر وفي الحال يسترجع آخرين قائلاً: إلي أين هذا ؟ ولم هذا وذاك ؟ وليست الحاجة موافقة هنا، إن أُرسل في طريق يزعم أنه يحصل له فيها مضرة، إن أقاموه إلي الترتيل يغضب، إن أنْهضوه إلي السهر يحتج إن معدته ورأسه يوجعانه، وإن وعظته يقول عظ نفسك واللـه يعمل فيَّ ما يريد، إن علمته شيئاً يقول: يا ليتك عرفت كما عرفت أنا، لا يعمل عملاً إن لم يجتذب معه آخر. كافة عمل التذمر ضار وغير نافع وكل فضيلة له غير منتظمة.

المتذمر يسر بالراحة ولا يطرب بالشقاء، المتذمر يتلذذ بالموائد ويرفض الصوم، المتذمر والكسلان يعرفان المشارة ويستنبطان أقوالاً، المتذمر كثير الحيل، وجزيل البدع، وفي الأقوال الكثيرة لا يغلب، يثلب واحداً عند الآخر، المتذمر مقطب في بذل الإحسان، وفي استقبال الغرباء غير مستعد، مرائي في المحبة، شجاع في البغض. فلذلك يا أحبائي لا نتذمر في الخضوع، ولا نشاجر، ولا نزكي قولنا ونبرهنه كأننا علماء.

( الثامن عشر: في من ليست فيه غيرة ولا حسد ): مغبوط من لم يخضع للحسد والغيرة لأن الغيرة والحسد أحدهما متعلق بالأخر ومن فيه أحدهما فهما كلاهما فيه، فمغبوط بالحقيقة من لم يسقط فيهما ولم يخرج من أحدهما لأن من يغير من أخاه في الظلم يدان مع المحال، من يحسد فهو مغلوب وفيه البغض والعداوة، يحزن بنجاح آخرين، أما من لا غيرة فيه ولا حسد فلا يغتم بنجاح آخرين، إذا أكرم آخر لا يضطرب وإذا رفع شأن آخر لا يكتئب لأنه يحتسب الجماعة مقدمين عليه، يقدم إكرام الكافة علي ذاته، يحتسب ذاته غير مستحق وأخر الكل، يشعر أن الجماعة أعظم منه وأفضل منه، من لا حسد فيه لا يطلب إكراماً، يفرح مع المسرورين، لا ينسب لنفسه فخراً ألبته، يعاون الناجحين، يبتهج بالسالكين حسناً، ويمدح السائرين سيرة مستقيمة، إن أبصر أخاً يقوم فضيلة لا يعيقه بل يقويه بعظاته، إن رأى آخر في نياح لا يثلبه بل يمدحه، إن عاين آخر في غلطات لا يشجبه بل يردعه باستقامة، إن أبصر أخاً مغتاظاً لا يحنق عليه بل يحبه ويهدئ روعه ويماشيه في السلامة، إن أبصر مغموماً لا يغفل عنه بل يتوجع معه ويسليه بأقوال المنفعة، إن رأى إنساناً أمياً لم يتعلم يحرص أن يعلمه ويرشده إلى ما يوافقه، إن أبصر غبياً يرشده بلا حسد إلى الأمر الفاضل، إن أبصر نائماً ييقظه بحرص، ثم أني أقول قولاً وجيزاً إن من لا حسد فيه والمقفر من الغيرة لا يكأد ولا يأمر أحداً بل يفرح بكافة نجاح رفيقه
وشهامته.

( التاسع عشر: في من فيه الحسد والغيرة ): أما المنجرح من الحسد والغيرة فذاك شقي لأنه شريك المحال الذي دخل به الموت إلي العالم لأن من فيه الحسد والغيرة هو معاند الكل لا يؤثر أن يفضل عليه أحد يستصغر النجباء ويضع معاثر للسالكين حسناً يذم السائرين سيرة مستقيمة ويرفض الحسن المنطق، يدعو الصائم معجباً، والحريص في الترتيل يسميه محب إشهار ذاته، والمبادر في الخدمة يدعوه شرهاً، والناهض في الأعمال محب التباهي، والمحب التعب في الكتب غير عامل، والنجيب في الترتيل
ماكراً. الحسود لا يفرح بنجاح رفيقه، إن رآه متوانياً لا ينهضه بل يحضه علي الشر أكثر، إن أبصر نائماً في أوان الصلاة لا ييقظه بل يزيده سكوتاً، إن أبصر أخاً مرتاحاً يثلبه، إن أبصره في هفوات يشجيه لدى الكل، ترحاً للحسود لأن قلبه كل حين مريضاً بالغموم ولون وجهه يبيد وقوته تفنى وهو باغض الكل وعدو الكافة يرائي الكل ويخترع الغش  يحابي بالوجوه اليوم يعاهد هذا وغداً آخر ويتغير نحو الكل، وينتقل بحسب مسير كل أحد وبعد قليل يذم الجميع ويستجر هذا إلي هذا ويقيد كل واحد بالآخر، الحسد والغيرة هما سم ردئ لأن الوقيعة والبغض والقتل تتولد منهما، اهربوا من الحسد بعيداً يا جنود السيرة السمائية انبذوا منكم الحسد والغيرة لئلا تدانوا مع المحال.

( العشرون: في من لم يقرف ): مغبوط ومثلث الغبطة من لم يعود لسانه علي أن يقرف أحداً ولم يدنس قلبه بلسانه بل يتفهم أننا كلنا تحت الخطأ ومغبوط من لم يستلذ بتقريف أحداً بل يستكره هذا الألم لأن من لم يقرف رفيقه فقد حفظ ذاته بلا عيب، من لم يكن عثرة لآخرين لا يتدنس ضميره، من يهرب من روح التقريف فقد حفظ نفسه من الأسواء وغلب مواكب الشياطين، من لم يقتنِ لساناً مقرفاً فقد أقتنى كنزاً لا يسلب، من لم ينحنِ إلى تقريف أحداً فقد هرب من قتل الأخ ولا يُقرَف من أحد، من يقتنص بروح التقريف فقد عرف ذاته أنه إنسان جسداني وحفظ ذاته غير مدنس، من لم يكمن مع المقرفين يستوطن مع الملائكة، من لم يدنس مسامعه ولسانه بالقرف فهو مستوعب من ترياق المحبة وملآن فمه بأثمار الروح
القدس، فمغبوط بالحقيقة وسعيد من حفظ ذاته من القرفة.

( الحادي والعشرون: في الثالبين ): من أعتاد وأستلذ أن يقرف آخرين فهو معلوم أنه صيد بالمثالب التي يقرف بِها لأن من يقرف رفيقه إنما يدين نفسه وهو جسداني متعلق بشباك العالم الثالب له، خلتان وهما الوقيعة والبغض فهذا يدان كقاتل الناس وفاقد التحنن وعادم الرحمة وأما من له مخافة اللـه فقلبه نقي لا يسر أن يقرف أحداً ولا يتلذذ بالخفيات الأجنبية ولا يفرح بسقطة أحد فمستحق النوح بالحقيقة والانتحاب من عود نفسه علي الثلب، لأن الرسول بولس أحصاه مع الخطاة لما عد أعمال الفحشاء قائلاً: لا قارفون ولا متغطرسون يرثون ملك اللـه.

( الثاني والعشرون: في الحمية والمسك ): مغبوط ومثلث الغبطة من حفظ
المسك، فضيلة عظيمة قدرها لكن أسمعوا يا أخوتي إلي أي مقدار وإلي كم نوع يقال المسك، (1) فالمسك باللسان. أن من يمسك عن الأقوال الكثيرة الفارغة والقرف والسب واللعن والكلام الباطل يمسك اللسان أن لا يغلب أحداً ولا يذم أخاه ولا يظهر الأسرار ولا يدرس فيما لا يخصه. (2) والمسك في الأذن. أن لا يلعن أحداً من سماع باطل. (3) والمسك في العينين أن تغض ناظرهما ولا تتفرس في الأشياء المطربة وما لا ينبغي أن ينظر. (4) ومسك الغضب أن يمسك غضبه ولا يضطرم سريعاً. (5) ومسك الشرف أن يمسك معقولاته ولا يؤثر أن يشرف ويمجد ويستعلي بذهنه ولا يبتغي إكراماً أو يتشامخ أو يتخيل المدائح. (6) والمسك في الأفكار أن يعذبْها بمخافة اللـه ألا يتنازل أو يتلذذ بفكر خادع ملتهب. (7) والمسك في الأطعمة. أن يحتمي منها ولا يلتمس أغذية تزيد عن قيام الجسد وألواناً كثيرة أثمانِها ويمسك ألا يأكل قبل أوان الغذاء أو قبل أوان ساعته ولا يتعبد لروح شره البطن وألا يتملى من أفاخر الأطعمة، ولا يشتهي طعاماً آخر ولوناً آخر. (8) والمسك في الشرب. أن يحتمي منه ولا يسقط في شرب النبيذ أو في التلذذ بالخمر ألا يشربه بغير مقدار، ألا يطلب أفضل الشراب وألذ الممزوجات المصنعة، ألا يستعمل الشراب بلا مقدار لا في الخمر فقط بل وإن كان ممكناً في الماء. (9) والمسك في الشهوة واللذة الخبيثة. أن يمسك الحس لئلا يسقط في الشهوات العارضة وأن لا يتنازل للأفكار التي تخطر باللذة لئلا يتلذذ كأنه فاعل للفاحشة التي تستحق الغضب، ألا يصنع مشيئة الجسد بل يلجمه بتقوى اللـه لأن الماسك الحقيقي يشتهي الخيرات التي لا تفنى، يتفرس فيها بعقله فهذه ترد الشهوة وترفض المجامعة كمرذولة، لا يفرح بوجوه الإناث ولا يطرب بالأجسام، ولا يسقط في الجمال، لا يتلذذ بالفخر لا ينخدع بالتمليق، ولا يداوم التصرف مع الإناث ولا سيما المدنسات أو يتحدث معهن، الممسك الحقيقي والشجاع يصون ذاته، ولأجل تلك الراحة التي لا مقدار لها يمسك كل فكر يضبط كل شهوة باشتهاء الأفضل تائقاً إلي الدهر العتيد.

( الثالث والعشرون:في الإسراف أي عدم الاعتدال ): فأما من لا مسك له والغير ماسك فيضبط بسهولة بكل فاحشة، الغير ممسك هو محب للذة، الغير ماسك يلتذ بالأقوال الفارغة الكثيرة، يطرب بالأحاديث الباطلة، وأنواع المزاح والخلاعة، يتباهى بلذة الأطعمة، يتشجع بكثرة الأكل وبوفور الشراب،  يتحرق باللذة الباطلة يتنازل للأفكار باللذة مشتهياً الشرف متصوراً أنه حصل علي الكرامة، يتباهى بأحاديث النساء، يسقط في اشتهاء الجماعات، لا يرفض الألوان، يبتهج بالوجوه، يسخر باصطناع المعروف، يذوب في حديث النساء المضحك، يتخيل سحنات الوجوه، يكرر تصوير وجوه النساء في ذهنه وتفتيش الأجسام ومعانقة الأعضاء، والأقوال الهزلية، والأضاحيك الخادعة، غمزات العيون، لبس الثياب، ألوان الأجسام، التملق، تلذذ الجسم، تخيلات حركات المشي، ساعات وأوقات الأحاديث وكافة الأشياء التي تجذبه إلى اللذة، الغير ماسك يعيد تصويرها في ذهنه ويجيلها في أفكاره، إن سمع كتاباً مقروءاً عن العفة
يقطب، إن أبصر مجمع آباء نافعاً يجنح عنهم ويرفضهم، إن أبصر صرامة الآباء يكتئب، إن سمع عن الصوم يحزن، لا يطرب بعصابة الأخوة، إن أبصر امرأة يتهلل وجهه ويحاضر في الخدمة فوقاً واسفلاً ويوجد حينئذ في الترتيل قوياً مقتدراً علي المزاح والخلاعة متفنناً في الضحك يوضح ذاته للنساء الحاضرات، بَهياً ومطرباً يوجد، في أنواع السكوت مقطباً ومريضاً، فشقي ومنكود الحظ من لا مسك له في كل نوع وأمر. فلذلك يا أخوتي إذ قد سمعتم وصف أثمار المسك وأغمار الإهمال وعدم المسك فلنهرب منه ولنلاصق المسك فإن عطية جزاء المسك عظيمة وليست لجسامتها غاية، فمغبوط بالحقيقة المقتني المسك، وسعيد من يثقف ذاته بكل فضيلة ويحرص أن يشرق في أعمال العدل، ومغبوط من لم يعمل شراً ما لا يرضي اللـه بل يخدمه بكل صدق فتصير كافة أعماله في النور ولم يغلب بكل فكر ليشير مشورات باطلة، فماذا أصنع أنا المادح كل فضيلة ولم أسير بواحدة منها وأفنيت حياتي بكافة الشرور فسيتم فيَّ المكتوب ” أنكم تحملون الناس أحمالاً ثقيلة ولا تحركونَها بإحدى أصابعكم “.

فلهذا أتضرع إلي محبتكم كلكم يا مباركي المسيح ومشاركي الفردوس أن تحرصوا وتسترضوا المسيح الذي دونكم في جنديته، وأن لا يطرح أحدكم كمن تَهاون أو رقد. يا كافة الذين تحت نير اللـه احذروا أن تعملوا مشيئات الجسد لكي لا نوجد بلا اعتذار أمام ذلك المنبر الرهيب، والحاكم الذي يجاذي كل أحد إن كان عمل شيئاً صالحاً أو طالحاً، الويل لي في ذلك الوقت فإنني عتيد أن أقف بلا دالة، فماذا أعمل في تلك الساعة بالشدة التي لا مناص منها، فمغبوطون حينئذ كافة الذين يمثلون أمام الحاكم بدالة الذين يزمعون أن يأخذوا من يد الرب الجزاء الأقدس، الويل وقتئذ للمسترخين من أجل أمر حقير مثل ما أقول: أي اعتذار لمن يشتكي من أجل أثرة التشرف والمباهاة، أو من أجل التعظم، أو من أجل المعصية، أو من أجل عدم الخضوع، أو من شره البطن، أو من أجل التهجم، أو من أجل اكثار الكلام، أو من أجل التكبر، أو من أجل التأمر، أو من أجل التيه، أو من أجل الحسد،، أو من أجل المحك، أو الغضب، أو من أجل القرف، أو البغي، أي اعتذار للمزمع أن يشتكي من مثل هذه الفظائع، أية فائدة أم أية لذة تصير لك من هذه وأي ثقل ينالك من التحفظ منها جيداً فلذلك أتضرع إليكم يا أخوتي ألا يدان أحدكم بِهذه، أني أعلم أنكم ممتنعون عن الخطايا الثقيلة سوى الخفيفة التي يجتهد المحال أن يجعل كل واحد منا يستحقر هذه كأنْها ليست شيئاً لكن احرصوا أن ترتبطوا بِهذه بل احفظوا أنفسكم بكل أحتراص لتشرفوا مع المسيح.

لأن له المجد إلي أباد الدهور وعلي تلميذكم

الحقير رحمته بصلواتكم. آمـين

 

 

 

 

 

@

المقالة الثامنة والثلاثون في سيرة العبادة

 

 

أنا مادح أمانتك وحرصك كيف طلبت أن تسمع من إنسان خاطئ قولاً من الأقوال التي توافق موعدك، ولججت فيه أكثر دفعة وأثنتين وهذه علامة نفس ذات فضيلة أما أنا فقد جعلتني سماجة أفعالي عاجزاً لأن ثقلها لا يحتمل ورغبتك تميلني إلي الطاعة لتسمع قولاً عن مخافة اللـه لأن الذين يقتنون المناقب الروحية يستلذون بالأقوال التي تبلغهم إلي الفضيلة، أما الذين ذهنهم مائل إلي السيرة اللحمية فلا يحتملون أن يسمعوا أقوالاً عن الأشياء الروحانية بل يبغضون القائل ويدفعونه، وإذا تحدثوا عن الآلام واللذات فلا يشبعون بل يختارون أن يعدموا الطعام والنوم أكثر من أن يجعلوا لتلك الدراسة نِهاية وغاية.

فأما أنت فأثبت في المناقب الروحانية ليثبت لك ذكر اللـه رافضاً الأقوال التي لا تنفع بمقدار ما لا يقاس، أنه غير ممكن أن تتفق معاً النتانة والطيب، إن اتفقت في طريق أو في مركب أو في قلاية وإن واكلت شاباً أو شيخاً فلتكن أتعابك بمعرفة وتمييز وإفراز لكي لا تخسر شيئاً من الأشياء التي تعملها.

وأستعمل أغذية ساذجة ذات احتياج لكي لا يغلظ ذهنك بالخمر والسكر والهموم العالمية فإن الذين يسترقهم مثل هذا الألم لا يعتدون التدبير الإلهي تدبيراً، ولا يحتسبون الزنا فسقاً، ولا يستعفون من سائر الأفعال المحظورة فلا يفضلون شيئاً عن الخنازير التي تتمرغ في الحمأة لأنَهم لا يتذكرون الناموس ولا الأنبياء ولا الرب المتأنس نفسه لرحض إثم الخطيئة بل يستعبدون ويفتخرون بِها لأنَهم عدموا العقل بالتواني وبعدم مخافة اللـه فاظلموا وصنعوا الأفعال المضادة. لا تأكل اللحم وتشرب الخمر بلذة لئلا يجعلان عقلك غير موافق لاقتبال المواهب الروحانية، إن خاطبت أخاً عن الأفكار وعثر لسانك وتجاوز الترتيب وانحلت النفس من الأفكار فأحذر من أجل غايتك أن تستر ما تلام عليه وتستعمل كلام المائق والمزاح فيوبخك الغريب فإنك بِهذه الأشياء لا تنفع ذاك وتدفع إلي شيطان مارد بل الأليق أن تستعمل الصمت والصلاة فتحل عليك نعمة الروح القدس فيهرب انذهال معقولاتك.

إن ائتمنت علي مبتدئ فلا تنحدر كثيراً في التراثي له فوق ما تطالب به من الباري لئلا يضجر من نير المسيح الصالح وتنجذب معه لأن المركب إذا سقط لا ينبغي أن يتهاون أحد بالزورق، فلتكن أعمالك بمعرفة الرب فلا يبغتك المحال لأن له عادة أن يعمل الشر بالخير.

إن استشفعت رئيساً من أجل أخ قد خرج من الدير فلا تقتسر الأب من أجله بل ذكره معتنقاً مشيئة اللـه لئلا بدخوله يصنع بسوء تمييزه أضراراً بالرفقة المتواخية لأن شرارة النار إذا سقطت في البيدر تتلف كافة تعب السنة لأنه يجب علي كل واحد أن يتحمل قريبه من أجل ثواب اللـه.

والويل لمن يتحمل ولا يفهم، إن الجالس في البرية يستريح من ثلاثة قتالات: من النظر، والسمع، والكلام. ومن يسكت في مجمع أخوه يستريح من ثلاثة قتالات: من البيع، والشراء، ومن سرقة اللصوص. فيحتاج فيما بعد أن يحفظ ضميره.

إن خاطبت شاباً ذا قامة مزهرة بحسن اللون فأحفظ ناظرك لئلا تكدر الشهوة عقلك فتبتدئ أن تنشئ أقوالاً مملوءة ألماً فتوجد تخاطبه بأطراف شفتيك عن العفة وبجملتك تفسق، لكن إذا أتفق لك مثل هذا الحديث فأقطع الكلام باختصار متخذاً الصمت، لأن الكتاب قال خدعته الأقوال الكثيرة فإذا حصلت في مثل هذه الأحاديث التي تضر بالنفس فقصر الفحص عنها مجتهداً.

أحذر أن تطغيك الخطيئة بالحديث الكثير المتصل فتجعلك أن تعمل شيئاً من الأشياء التي لا تشفى، بمقدار ما يقطع أحد مشيئته ويتواضع ينجح، وبقدر ما يكون مصراً علي إقامة مشيئته بقدر ذلك يسبب لذاته سباً وخسراناً، لا تشأ أن تتعبد لمشيئتك بل كن مطيعاً لمشيئة اللـه.

لا تطرح الخضوع الذي بالمسيح فإن ثمرته صادقة محفوظة، إن تعرقل أحد النساك بتجربة ماقت الخير فلا تبغضه لأن الرب لا يتركه في الطغيان بل يمنحه يده للتقويم لأنه لا يبعد المحبة، وكذلك من يظن أنه واقف وأبتدأ يتشامخ متعظماً باغضاً فلا يكون في صيانة لأن ظُلْمَت المقت أعمت عينيه ولا يدري أين يمضي.

إن وقفت في بيت الرب لتخدمه خدمة روحانية فكن نشيطاً في الترنيم فإنك إن سكت وصمت أنا وسكت القريب فبالضرورة يبطل التسبيح لكن لا تكن هكذا لأن الذين يمدحون رئيساً أو ملكاً إذا وقفوا في المشهد وأبصروا بينهم إنساناً واقفاً لا يهتف معهم بصوت رفيع يدفعونه ويخرجونه مبينين أنه لا يستحق ذلك الموقف، فسبيلنا آلا نجعل الابتهالات برخاوة وونية.

الويل للظالم والويل لمن يخجل والويل للمتنعم والويل للمتكبر فإن التجربة توضح إذا أخذتَهم ضيقة الجحيم وشدة الموت أن ليس شئ أعظم من مخافة اللـه، حب رفقةٍ جيدةٍ وأبتعد من العصابة الرديئة، بما أنه ليس الساحر ولا اللص ولا نباش القبور كذلك ولدوا بل تعلموا من الناس المسودي الذهن من قبل الشيطان لأن اللـه صنع كافة البرايا حسنة جداً، لا تطربك الحمامات ومجلس الشرب وتوزيع اللحوم لئلا تسقط في معاطب لا تغلب فتخطئ في الأمور العظيمة، أقتنِ سيرة ذات فضيلة مع أمانة مستقيمة لأن مَنْ مِنْ الناس لا يطوب الإنسان المقتني هذه.

إذا خرجت من القلاية إلى خدمة أو إلى مفاوضة قوم فصن نظرك وأزجر قلبك بالفكر المتدين حسناً قائلاً: ألعلك خرجت تتعلم أن تكون مصوراً حتى تتجر وتتصور صور الناس، أصغِ إلي ذاتك أيها المتواني جداً كيف يمكنك وذهنك ملطخ في الجسدانيات أن تعاين ماذا ترى مما تتصور وتتنعم به وتبتهج بذكر اللـه الدائم، كف مفتشاً المساوئ الأجنبية لئلا ينفسد بواجب فكرك المتعبد، أتخذ الصمت فإنه يريحك من أدناس كثيرة تذكر دائماً ضغطة الخطاة خائفاً لئلا تحسب منهم بعد مدة غير طويلة.

أما دخلت قط إلي بيت نوح ولما أبصرت النحيب والندب لماذا قفزت خارجاً من البيت فمن الأشياء الوقتية يجب أن نقايس الأبدية لأنه قال: أعطِ الحكيم سبباً فيكون أوفر حكمة، إن خطر لك فكر يأمرك أن تنتقل من المكان وجاء إليك قوم بسبب الاشفاق والتأسف فساعد أحدهما قيام هواك قائلاً: أن عذرك في الحزن واضح فلا تقبل مشورته بلا تمييز فإن بدأ الآخر يقول لك خطاباً لطيفاً ويعزيك فهذا مقبول أكثر من الأول لأن مثل هؤلاء يهتمون بخلاص الأخوة ويشفقون عليهم.

أما عن الأفكار الناتجة من الاغتمام ولاسيما أفكار الساكنين بتفرد فأظنها لا تخبأ عن الكثيرين كي أروم أن أبرهن عنها، متى ما حصلت في النفس آلام من قبل المحسوسات يصير العقل مبتعداً من تلك المعاينة النفيسة مارقاً ومبتعداً عن الإنتظار والدراسة في الخيرات العتيدة وتتلاعب به المحسوسات طالباً لذتَها خادماً الجسد والرذيلة ويردد مثل هذه الأفكار في ذاته قائلاً: ويلي ماذا أصنع أنا الشقي، ضعفي كثير، والمسكنة والنقص والضعف تشتملني، لا يمكنني أن أعمل، وأستحي أن أطلب صدقة، وقد صرت غريباً من أمتعة والدي، كنت مقتدراً علي الرخاء فسقطت في الضر والشقاء، صرت عاراً للذين يغبطونني الآن، والحزن قد أحتوى علي قلبي من أجل المصاب الذي اشتملني، وليس لي مؤازر ولا من يرثي، صرت في هوان كثير.

فلان قد قدم إلي الكهنوت وفلان قد أقيم رئيساً وأنا خامل ووضيع ومطروح وليس من يعضدني ويباشر أحوالي إن وقعت في مسكنة ومرض، فلان قد تكاثرت ثروته، وفلان يخدمه تلاميذه ويزفونه فمن هنا يعاشر الذين في الجلالة والشرف وأنا قد حصلت في وضاعة كثيرة يعوزني قوت يومي، أولئك يتقدمون لابسين لباساً بَهياً وأنا يعوزني الأغطية التي لا بد منها، أولئك إذا أكملوا أيامهم في الخيرات يخرجون من العمر وحينئذ يحنطون بطيوب فاخرة ويوضعون في قبور مبيضة وقد صنعوا لهم اسماً مؤبداً وها العنوان المكتوب علي قبورهم والمرثية المكتوبة لهم وأنا إذا توفيت لعلي ولا أؤهل لقبر بل قلايتي تكون لي قبراً.

أعدم من يتعاهدني فقلبي يوجعني فماذا أعمل ؟ عيناي قد أظلمتا من نظرهما إلي الباب وليس يوجد من يقرع، أنا حزين وليس من يعزي، أنا في نَهاية الاغتمام وليس من يترثى، ويلي فقد فنيت في الوجع أيامي.

إذا درس العقل بمثل هذه فقل لنفسك أيها الإنسان إلي متى يا نفسي أنتِ مغمومة، إلي متى تقلقين، توكلي علي الرب فتقصين الأفكار الصعبة، فإنك لو لم تتحد بالأرضيات وتتمناها ما كنت تعلقت بِهذه الشباك، لكن أعرف هذا مستيقناً أن كل إنسان إذا كان في رفعة وجلالة وإن كان في مذلة وضعة ويستسير برأي اللـه فليس مطروحاً ولا مرذولاً.

من يستعجب من الحظوظ الوقتية ويتطلب التمتع بِها فقد أعدم نفسه عزاء الصديقين وإن أجتهد أن ينال ذلك السرور فلا يمنح مدخلاً للأفكار الصعبة فإنْها تمرق على اللـه لأن القائل صادق: من وجد نفسه فسيهلكها ومن أهلك نفسه من أجلي يجدها، فلذلك يقول الرسول: إنكم قد متم وحياتكم قد خبئت مع المسيح في اللـه فإذا ظهر المسيح حياتكم فحينئذ ستظهرون أنتم بمجد.

فلِمَ تستعجب من الوقتيات وتغبط ما يسرع بمنزلة المد الجاري، وماذا تنفع المقابر البهية والقبر المصقول بياضة والمدائح الباطلة الرجل العائش بالنفاق الذي لا ينال راحة ولا نياحاً، بماذا ينتفع الموضوع في الموضع المذهب سقفه الجميل الحيطان إذا حصل معذباً من الآلام، وإذا نَهشه الثعبان باطناً وأكل جسده، لأن ماذا ينفع النفس المفارقة الجسد إن لم يكن لها المدحة من الرب في الكنيسة العظمى.

فلا تستعجب إذاً من الوقتيات المنسكبة نظير الشمع المذاب، لكن أولئك يعاشرون الأغنياء وأنت تخاطب الإله ملك الكل بالصلاة وتأكل جسم ابنه الوحيد الجنس وتشرب دمه وتسر ببهجته لأنك قد أهلت أن تصير هيكلاً له فلا تسأم إذ ترى نفسك في العمر الذي هنا في وضاعة وذلة وفي شيخوخة عميقة ومسكنة، فإن الغازي طير السماء لا يتركك غير مهتم بك، لكن يضيق عليك حذراً أن يؤذيك كلول البصر.

أخطر بذهنك أن هذا الأمر قد أحتمله الصديقون، فمن هنا اسحق حين أعطى البركة ليعقوب قال: أدنِ مني حتى أفتشك يا ولدي إن كنت أنت هو ابني عيسو، أما ناظر ذهنهم فكان يتلألأ نقياً من الرذيلة، فتنظف أنت من الرذيلة ولا يكن لك هم بالمرض الجسداني لأن الرب يهتم بنا، وإن كنت محتاجاً من الحوائج التي لابد منها أفتكر أن هيرودس كان ذا ثروة ونعيم ويوحنا السابق كان مقيداً في الحبس كواحد من صانعي الشر والناس الحقيرين، لأن القائل غير كاذب أنه سيكون لكم حزن في العالم، والعالم يسر وأنتم تغتمون لكن حزنكم سيؤول إلي فرح، وإن كنت تقول: أنني كملت العمر بضيقة وضغطة خاملاً ووضيعاً وبعد الموت لا لي من يكمل تذكاري إن هذه غاية من الغباوة وأمراض نفس وامقة التشرف، كم تظن مقدار الذين جاهدوا في الاضطهادات عن الإله مخلصنا والآن لا يعرفهم العالم فهل الذين توفوا في الجبال والمغاير وثقوب الأرض الذين لا يصنع الناس تذكاراتَهم أتراهم هلكوا ! لا ألبتة، لأن كافة البرايا مكتوبة في كتاب، فأعقل إذاً الأمور التي فوقاً لا التي علي الأرض، لأن تصرف الصديقين في السماء.

لا تَهرب من الأتعاب لأننا نحن الذين أمتحنا بالأتعاب والضيقات والشدائد سنطرب بالرب، إن شئت أن تصير وارثاً مع القديسين فلا ترفض التواضع ولا تَهرب من الشقاء والأتعاب بل أثبت لتنال الحياة التي لا تنحل والعزاء الدائم والمجد الباقي إذ الرسول يقول: إن آلام هذا الدهر لا تعادل المجد العتيد أن يستعلن فينا.

إن أثرت أن لا تسترق في شئ من قبل المضاد فصدق مؤقتاً أن ليس شئ مما تعمله أو تفتكر فيه ينكتم، وإن أرتاب فكرك من أجل معرفة اللـه فليكن لك تمثالاً اليشع النبي لأنه حين أضطرم الحرب بين ملك إسرائيل وملك السريان أرتأى ملك السريان رأياً لدى غلمانه قائلاً: في الموضع الفلاني نعسكر، فأرسل اليشع إلي ملك إسرائيل قائلاً: أحذر أن تعبر في هذا المكان فإن السريان هناك مختفون.

فأرسل ملك إسرائيل إلي الموضع الذي قال له اليشع النبي وتحذر منه. فطارت نفس ملك السريان من أجل هذا القول وأستدعى غلمانه وقال لهم: أما تخبروني من هو الذي يسلمني إلى ملك إسرائيل؟ فقال واحد من غلمانه: ليس الأمر هكذا أيها الملك سيدي بل اليشع النبي يخبر ملك إسرائيل بسائر الأقوال التي تقولها في خزانة منزلك. فإن كان نبي لا يخفي عليه شئ مما يصير في السر، أترى يمكن أن يخفي شئ عن صانع الكل. لا ألبتة لهذا أمرنا أن نصلي في الخزائن إذ ربنا ومخلصنا يسوع المسيح يقول: فأنت إذا صليت فأدخل إلي خزانتك وأغلق بابك وأبتهل إلي أبيك الذي في السر وأبوك الذي يرى السر يجازيك في الجهر.

فلنطرح إذا عنا كل فكر رذيلة لئلا نسقط فإن الجحيم عريان قدامه والهلاك لا لباس له يستره، فلا نكتئب ونتقسم فإنا قدام عيني اللـه إن شئنا وإن لم نشأ، أفرح بالغموم فإن الأكاليل من أزهار مختلفة تضفر والصديقون بأحزان كثيرة يدخلون إلي فرح ربِهم.

لا تؤثر أن ترأَس نفوساً لئلا تكون ما حصلت في مقادير النظام فتضر نفسك والذين يتبعونك، وإن اجتذبت لا مختاراً فأهتم اهتماماً لا بأن تعمل مشيئاتك بل مشيئات الذي أئتمنك علي الاهتمام بغنمه الناطقة، فإنه يقول بالنبي حزقيال: أترى الرعاة يرعون أنفسهم أو ليس الرعاة يرعون الغنم فها قد أكلتم اللبن ولبستم الصوف وذبحتم أسمنها وغنمي ما رعيتموها، والضعيف ما قويتموه، والمريض ما أويتموه، والمتهشم ما جبرتموه، والضائع ما طلبتموه، والقوي صنعتم له تعباً، فتشتتت غنمي من أجل عدم الرعاة وصارت مأكلاً لكافة وحوش الغابة، وتبددت غنمي على الجبال وعلي كل رابية عالية، وتفرقت علي وجه كافة الأرض وليس من يطلبها ولا من يردها. فلهذا أيها الرعاة أسمعوا قول الرب: حي هو أنا يقول الرب عوض ما صارت غنمي مرعى وفريسة وصارت الغنم مأكلاً لسائر وحوش الغابة من أجل اقفار الرعاة، ولم تطلب الرعاة غنمي، ورعى الرعاة أنفسهم ولم يرعوا غنمي بدل هذا أسمعوا أيها الرعاة قول الرب هذه الأقوال يقولها الرب هاأنذا علي هؤلاء الرعاة ولأطلبن غنمي من أيديهم ولأصرفنهم من أرتعاء غنمي ولا يرعاهم هؤلاء الرعاة أيضاً وأنقذ غنمي من فمهم ولا تكون لهم أيضاً مأكلاً، فيجب أن نفهم علي السياق أي عطب لمن لا يهتم بالمتهاونين، لأن الرئيس يحتاج أن يكون خبيراً بالصناعة جداً ومنتهضاً إلي خلاص المرؤسين ويتأمل خطوات كل واحد وحركته ولباسه ويوبخ الأشياء الغير لائقة ويقتادهم إلي الأشياء الفاضلة.

لأن المعلمين لا يعرفون الطلبة صور الحروف وتسطيرها فقط بل يوضحون لهم أيضاً النقط والشكل هكذا يجب علي المتقدم أن يفيد الأخوة ويوضح لهم حتى أصغر الأشياء التي تمدهم إلي الخلاص بل وينبغي له أن يقول للمتوانين العذابات التي تتوعدهم لتصير صوراً تمنع العلة ممن لا علة له كذلك الذئاب إذا عاينت اهتمام الرعاة تَهرب من قطيع الغنم الناطقة.

وليس شئ يعلي النفس إلي الخلاص ويينع شبابِها للأتعاب مثل ما تجد معلماً كارزاً للفضيلة بعلمه كما يعلم القائل: أبصروا إليَّ وهكذا أعملوا.

ونحتاج نحن المتتلمذين أن لا نكون معاندين ولا مجاوبين بل موضحين كل تواضع عقل قدام اللـه والناس. فإن سمح للمؤدب أن يكرز بالفضيلة بكلامه ويتوانى عن عملها فلا نمنح للمتنصب بإذائنا من هذا السبب فسحة أن يعكس نفسنا ويردها، لكن فلنذكر القائل: علي منبر موسى قد جلس الكتبة والمعتزلة فكل ما يقولون لكم أن تعملوا أعملوا، أما نظير أعمالهم فلا تعملوا فإنَهم يقولون ولا يعملون.

أحفظ ذاتك دائماً ألا تضع عثرة أو شكاً لقريبك حذراً من تَهويل القائل بالنبي: الويل لمن يسقي قريبة ممزوجاً كدراً. وأيضاً هذه يقولها الرب ربنا: هاأنذا أحكم بين النعجة والنعجة، والكبش والتيس، أو ما يكفيكم إنكم رعيتم المرعى الجيد وبقايا المرعى وطئتموها وشربتم الماء الصافي وكدرتم باقي شربكم، وارتعت غنمي الأشياء التي وطئتموها بأقدامكم، وشربتم المتكدر من تحت أرجلكم، فلهذا يقول الرب ربنا هاأنذا أحكم بين النعجة القوية والنعجة الضعيفة لأنكم طرحتموها من أجنابكم ومناكبكم، وبقرونكم نطحتم كل من فنيت قوته منها، فأستخلص غنمي ولا تكون للأرتعاء وأحكم بين الكبش والكبش. فلا نكونن وامقين ذاتنا لأن محبة الذات تينع الرذائل كأنَها فروع والمحبة هي هادمة محبة الذات المحبة تجذب الكل إلى الألفة والانتظام، المحبة قنية جسيمة وكريمة، فأجتهد أن لا تسقط منها.

فلنهتم منذ الآن بخلاصنا ولنشفق علي أعضائنا ولننصب رسوماً للفضيلة لقريبنا بالمحبة بالأمانة بالصبر بالطهارة بالخضوع بتواضع العقل بتقوى اللـه غير منقادين لمشيئاتنا الرديئة فلنجاهد بأتعاب الروح وأوجاعها لأن التنعم والراحة يعاندان السيرة الفاضلة سالكين الطريقة الضيقة المحزنة، مؤثرين انسحاق القلب ليثبت لنا ذكر الموت وننعتق من الانتقام لأنه قيل: ويل للضاحكين فإنَهم سيبكون وينوحون، ومغبوطون الذين ينوحون الآن فإنَهم سيعزون.

فلنتطلع في القبر ولنعاين أسرار طبيعتنا فنرى كومة العظام التي لبعضنا بعض وجماجم الأجسام مجردة وباقي العظام، فإذا أبصرنا تلك فلنبصر ذاتنا في أولئك أين جمال الزهر الحاضر وحسن لون الخدود ؟ فإذا تذكرنا هذه فلنكفف مرتعدين عن الشهوات الجسدانية لئلا نستخزى في القيامة.

أذكر ضعفي في صلواتك ولا تضجع في ذاتك لكي الرب الإله يذكرني أنا الدودة والنتانة وينجيني من التعاذيب المعدة للخطاة، ويؤهلني لنعيم الفردوس لأن خيراته وصلاحه ورأفاته علي كافة براياه.

حدث أخ بما سمع من أخ آخر أن أخاً كان في مدينة ما وكان له أجير يعمل معه قد وثق به علي كل سر فخطر له فكر أن يمضي إلي دير ويتخذ سيرة العبادة فمنعه مريداً أن يقطع غرضه بما أنه كان بليغ المعرفة بكافة أموره فلم يمكنه أن يمسكه فلما زهد الشاب في العالم خرج إلى أخوة وبعد سنين كثيرة بدأَ يقاتل بالعودة إلي العالم فترك قلايته ومضى إلى مستأجره كأنه جاء ليتعاهده، فقبل الرجل الأخ ببشاشة دفعة ودفعتين وفي انحدار الأخ مرة ثالثة تظاهر له الرياء وأظهر للرجل ألمه المكتوم قائلاً: حيث أنني لا أستطيع أن أحمل سيرة العبادة أتضرع إليك يا سيدي أن تقبلني عندك وأكون لك كحالتي الأولى، فأني أرجو أن أباشر أمورك وأخدمك أكثر مما كنت لأنني كنت سمعت إنك عازم أن تعطيني ابنتك امرأة. فأجابه الرجل: إن كنت ما حفظت للـه ضميرك فكيف تحفظه لي. فانجرح الأخ من هذه الكلمة كمن ينجرح من السياط وعاد إلى قلايته.

فمنذ الآن لا نضجر محتملين الأوجاع والأتعاب لأنه قد كتب: إن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالسرور. لتكن لك سذاجة سليمة لإقتنائك وصايا اللـه، ومكر لمعاندة حيل العدو المعاند ودحضها، أقطع بحكمة الأحاديث الضارة ليسكن الإنسان الباطن حسناً، لا تكن غاشاً ومتمرد النية لئلا تتعرقل.

إذا ظننت إنك أستندت وتوطدت أحذف الغيظ لئلا تسكر بغير خمر من الرذيلة متثقلاً بالحقد لا تكن محباً للذة متهاوناً لئلا يفترى علي الرب بك، لا تمشي مع ذوي الأقوال المنمقة لئلا تنفسد رؤياتك فإن ألفاظهم ضارة جداً لأنَهم يجعلون الشيوخ يضلون والشباب يجتذبونَهم إلى افتعال الإثم، أرجع عن مشورات الناس الأردياء لأنَهم قد أوقفوا ذاتَهم عبيداً للبطن وللآلام التي تحت البطن، لا يمكن الزاني أن يحب الرافض الألم، ولا السارق يُحب من يطرح الظلم بل الإنسان إنما يلتصق بمن يشابِهه. لا تحل لك اللذة لئلا يمرمرك تعذيبها، أنتظر كل ساعة الرحيل وأستعد لهذا السفر فإنه ستكون ساعة لم تنتظرها، والويل حينئذ لمن لم يستعد، إن التخشع لجليل لأنه يشفي نفوس الناس لأن من يبكِ لا يخطئ قط، ولا أحد في التخشع فيفتكر في الشر لأنه من التخشع يجيئ البكاء، ومن البكاء تنقبض الشرور وتبتعد.

أطلب بأي شئ تنغلب الآلام ولا تفتش ما هي الفضيلة الزائدة فإن هذا الأمر يوافق صناعتك لأنه يحطم اللذات، فتقدم في الترتيب أولاً أن تصلي بمداومة وبتيقظ ثم أن تصون عقلك وتكبح ذهنك حتى لا تورد كلمة لا ترتيب لها وبعد ذلك الحاجة واجبة أن تصلي في العقل وتنتظر الدينونة التي تبيد النوع وتذبل الشهوة وتكون بذلك النفس في طيبة وسرور.

المسك في أي موضع يحصل يقاوم صغر النفس لأن الآلام لا تسكن بالانتقال والانفصال بل بإصغاء العقل إلى ذاته فالحاجة بنا ماسة إلى الصبر لكي ما إذا صنعنا مشيئة اللـه ننال المواعيد، أما من ينقاد للضجر فيقف بعيداً من الصبر بمقدار ابتعاد السقم من العافية، فليست الفضيلة في الضجر بل إنما تعرف في الصبر وبالصبر تينع وتتأيد سيما إذا أشتغل العقل بمعاينة ودراسة الخيرات المأمولة لأنه من هناك يتدسم العقل ويتخذ قوة من الأطعمة فإذا خاب العقل من هذه النعمة والرتبة يصبح بالحقيقة مسكيناً وضعيفاً مريضاً، فإذا نقضت منذ الآن الترثي والتوجع للآلام الهيولانية فأشغل عقلك بتلك الصناعة الإلهية فلا تحتاج أن تنقل الجسم من مكان إلي مكان وتتعب في الأسفار بغير حجة واضحة لأن ملكوت السموات فينا باطناً.

أحفظ ذاتك حيث حضرت وسكنت لا متثقلاً وبلا لوم لتنجح بتأيد الرب حسناً، أما إن برزت متهاوناً فترقب ألا ينسكب عليك الاستحقار ممن هو أعظم منك قدراً بما أنك صرت رئيس أفعال لا بر فيها فإن تناهي الكمال هو أن يفرح الإنسان ويبتهج بنجاح قريبة.

وللنية المرة الخبيثة عادة أن تحزن وتستصعب حسن نجابة رفيقها. لِمَ تتثقل أيها الإنسان بتشريف النجيب هل بسقوط هذا أو ذاك من الخلاص تخلص أم أغلقت ملكوت السموات دون كثيرين، أتملك وحدك، أم لا يسع سواك ملكوت السموات، أم لك وحدك أعد سرور الفردوس إذ تستثقل خلاص الكثيرين.

لا تستبدل أفعال العشق الصالح وأعمال السيرة الجليلة بالفظاظة وبرداوة العادة المرة، لا يطغك أحداً لا إنسان ولا شيطان ولا فكر معشش في ذهن العقل لأنه من الأمور الغير ممكنة أن تحسب فضيلة وهي غير ممزوجة بالمحبة، فلو أتفق أن يملك أحدكم سائر العلم الأمر الغير متيسر وكافة الأمانة حتى ينقل الجبال علي حسب قول الرسول ولا تكون فيه محبة فلا ينتفع شيئاً بل هو واقف بعيداً من السبيل المستقيم المؤدي إلي الأبواب السمائية.

فنحتاج منذ الآن إلى دموع جزيلة لنتحرز من القيود من البغض من الحسد والكبرياء وكل دنس لأن النية الشيطانية تحسد الناجحين وسعادتَهم لأن الشياطين المحتضني البغض مأمورون أن يهلكوا الكل معاً، أما القديسون المضاهوا سيدهم يؤثرون أن يخلصوا سائر الناس ويقبلوا إلى معرفة اللـه الحق لأنَهم لما تتوجوا بالمحبة أحبوا القريب كما كانوا يحبون أنفسهم.

إن كنت عفيفاً فلا تتشامخ بمسك بل تضرع إلى اللـه بتواضع عقل أن يوقيك إلى النهاية لأنه ربما تتقاطر ذوات الأربع إلى كرم عقلك فتفسد ثمره بغتة من قبل ونية الناطور، إن كان لك ثروة فلا ترتأي أراء عظيمة كأنك استرحت من المعاطب والاغتيالات فمن هنا أن التمتع الوقتي غير حقيقي لأن انتقاله سريع كما كتب رأيت عبيداً علي الخيول ورؤساء يمشون علي الأرض كالعبيد. إن كنت حسناً وأعضاؤك نضرة فلا تترفع بقوة الجسم بل كرر التفكر بكم هو مقدار المعاطب المنصوبة للجسد لأن الذين تعاينهم مضبوطون من الآلام التي لا تشفي إن كانت أعضاؤهم مكسورة أو متأذين من الأرواح النجسة ليسوا هكذا ولدوا من بطون أمهاتَهم بل أكثرهم على غفلة حسبوا من ذوي هذه الأمراض.

والقامة التي كانت بالأمس زاهرة حصلت اليوم ضامرة معذبة من الأسقام الصعب شفائها. فترقب إذاً ذاتك حذراً أن تحسب في جملة ذوي هذه الأسقام بعد مدة غير طويلة بما أنك موجود في هذه الطبيعة فمتي ما أبصرنا في غريب شيئاً من المحزنات فلنتصور ذاتنا ولنعاينها في ذاك لأننا لا نعلم ماذا ينتج اليوم المقبل لأن جسدنا مملوء حزناً كثيراً وأوجاعاً جزيلة.

وإذا عرفنا ضعف طبيعتنا فلا نكونن متكبرين ولا غير مترتبين بل يتوجع بعضنا لبعض ليسعفنا الباري السريع التعطف المقتدر أن يجعل الواحد متوجعاً ويشفيه، ويحدر إلي الجحيم ويصعد، ولئن كان جسمنا إلى مدة يسيرة صحيحاً معافى لكننا لا نعلم ماذا ينتج اليوم المقبل.

لا تترفع علي الخاطئ، ولا تحرض من لم يخطئ إلى الخطأ فإن الأمرين كلاهما غير متفقين ومعطبين فإن شئت أن تجعل نفسك نجيباً نافعاً فأمنح ذاتك من كل واحد من الأمرين رسم أعمال حسنة وأسكب الدموع قدام الرب لينهض الرب نفسك لأنه لا يهمل الواقف أن يقتنص من الخطيئة وهو القاضي المقتدر أن يخلص ويهلك.

لا تزعج مجمع الرجال النساك إذا وقفوا يبتهلون إلى الرب لئلا توافيك الضربة المسيرة من اللـه لأن الخطأ إلى اللـه أمر صعب لا عفو له، أرواح الأنبياء تخضع للأنبياء لأن اللـه ليس هو إله الشغب والتبلبل بل إله
السلامة. ألتزم الصمت وعدم الكسل فإن عدم العجز يحفظك غير مثقل والصمت يحفظ نور نفسك غير منطفئ ولا يسمح للرذيلة أن تظلمك وتسود عليك فليحضر معك تواضع العقل في كافة الأوقات وفي سائر الأفعال التي تعملها الآن، كما أن الجسم يحتاج ثوباً ولو كان الوقت دافئاً سخناً وإن كان بارداً متجمداً، كذلك النفس تحتاج بلا نقص ولا مباينة إلى حلة تواضع العقل، إن تواضع العقل قنية نفيسة مخصوصة وقد عرف ذلك كافة الذين حملوا نيره بلا خجل.

أختر أن تمشي عارياً حافياً أكثر من أن تتعرى منه فإن الذين يحبون التواضع يسترهم الرب، كما أنه غير ممكن أن تقيم النواتية في المركب دائماً، ومن نزل في فندق أن لا يخرج من ذلك الموضع، هكذا نحن لا يمكننا أن نستمر في هذا العالم، وكما أن العالم يسمي هناك الإنسان مسافراً وراكباً كذلك نسمي هنا سكاناً وضيوفاً.

فلنتأمل هذه بناظر الذهن ونستعد للانتقال من العالم. إذا شاهدت ذاتك مكللاً بالفضائل ومتشاهقاً فيها فحينئذ تحتاج إلى تواضع العقل لتجعل أساس المناقب كاملاً سالماً ويثبت البناء المبني لا متزعزعاً ولا منشقاً ويحصل ثمرك في صيانة جزيلة، من  يحفر حفرة لقريبه يسقط فيها ومن ينصب فخاً لمعلمة فذاك ردئ الديانة ومضاد الناموس، فلذلك يكون مداناً مع الذي سلم المحسن والمعلم إلى أيدي الأعداء.

إن الرجل العلماني ليس هو بالصنعة والأغتذاء بل هو الخلق الردئ المائل إلى الشهوات الرديئة والهيولانية لأن النفس بِهذه السجايا تنعكس فتصير دنسة، العابد لا يحق له قص الشعر واللباس بل الشوق السماوي والسيرة الإلهية لأنه بِهذه المناقب تظهر السيرة الفاضلة قبل المحنة، لا تعظم شأن نفسك لأنه ربما توافي محنة فتوبخ من الظانين أنك واقف وعلى حسب ظني إنك قبل المحنة لا تعرف نفسك كيف أنت فتحتاج أن تصون الذهن وتسهر، كما أن النار في الكور تختبر الذهب والفضة هكذا في المحن تبتلي نفوس البشر فإذ لنا الرب معين فلا نجزع في المحن بل فلنعد ذاتنا إلى رأي الدعوة العليا بتأييد المسيح لأن الرب يكلل سائر الذين يحبونه.

إن سترت أعضاءك لئلا يبصرها أحد مكشوفة فتحفظ أنت أن تبصر عرية أحد مكشوفة خلواً من ضرورة المرض لئلا يرتسم في ذهنك رسوم ما غير لائقة، إن أكملت خدمة ودهنت السقيم بزيت فأحفظ ناظرك ويديك ولسانك لئلا تطفر خارج حدود العفة فإن هذا الأليق بالتدبير المستحسن.

ضع يدك علي أعضاء قريبك برفق ورعب كمن يلمس الأشياء القدسية نفسها، لأنه بالحقيقة أن هيكل الرب قدوس عجيب في العدل فقد قال: ألا تعلمون أن هيكل اللـه أنتم وروح اللـه يسكن فيكم فمن يفسد هيكل اللـه فسيفسده اللـه لأن هيكل اللـه قدوس وهو أنتم.

فإذا تيقنا هذا علماً فلنحفظ قلبنا بكل احتراس، احفظ ذاتك ألا تكون لك معاملة أو تصرف مع صبي لأن كثيرين انفسدوا ورفضوا وعُطلوا أخيراً. إذا نمت فلا تفرش لذاتك فراشاً فوق الحاجة فإن الرخاوة تستطيع أن تحمي الجسم كثيراً وتضرم شهوة اللذة اضراماً شديداً جداً فإن الذين ينامون تحت السقوف المذهبة وعلي الأسرة العاجية المرصعة بالجواهر يطوبون الذين أشرقوا بأوجاع النسك والأتعاب وإن كانوا لا يطيقون أن يباروهم.

أعمل كل شئ وأفتكر دائماً في ما ترضي اللـه فإن هذا المعقول إن أبتعد منك فقد ذهب ثواب كافة الصناعة، أحتمل الأتعاب في هذا الوقت اليسير لتتنيح إلى أبد الدهور فإنك إلى هناك تذهب وعملك يبقى، إن كنت فاعلاً فلا تصر حزيناً من ذلك السفر النفيس فإنه لا يحزن أحد يسافر إلى أهله بثروة وضياء لا تجرب قريبك من أجل محبة الفضة لئلا تأخذ من أجله خطيئة لكن أخطر ببالك المكتوب: لا تكونوا عند أنفسكم عقلاء فإن الظُلاَّم لا يرثون ملك اللـه. لا تكن يدك ممدودة إلى الأخذ بل الأولى أن تكون مبسوطة إلي العطاء، كن طويل الأناة لتكون جزيل الفضل في العقل فإن طول الأناة قربان نفيس، وأطرد احتداد الغضب والشر وصغر النفس فتصنع في نفسك سجية سلامية.

إن كنت أقبلت من جندية الشرف الوقتي المتساقط كزهر الحشيش وزهدت في خيالة أحتمل الأتعاب إلى الغاية لئلا يفترى على اللـه من أجلك كما قال الرب: هكذا فليشرق نوركم قدام الناس حتى يبصروا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السموات. ومع هذا فإن المدونين في جندية ملك أرضي إن لم يوضحوا نجابة ودربة بإزاء أعداء الملك يلبثون غير واصلين إلى المواهب الجسيمة، فإذا عملوا كل شروط الشجاعة واختبروا فإنما ذلك أمورهم لأنَها للسبح الباطل وللذات البطن، فأما الذين يتشجعون ويستظهرون على أرواح الخبث فيصيرون محصين في الجندية السمائية، ولا يكون لسرورهم نِهاية لأنَهم يكونون في السماء كالملائكة.

إن جلست في كنونيون أو سكنت مع ذاتك فلا تتوانى في المناقب المطلوبة التي هي قلب نقي وروح منسحق فإن من يقتني هاتين الخلتين لا يرفضه اللـه ومن يحتقرهما عطبه عظيم، لا تتعظم بدرابة اللسان وتشمخ بذاتك لكن علم تعليماً فعلياً بالتعليم للأميين والذين لا يعرفون الكتاب لتكون تلميذاً لرسل الرب لأن الافتخار بالحكمة البرانية قد منع عنه المسيحيون خاصة أما المفتخر فليفتخر بالرب.

لا تفتخر بلباس الثياب متذكراً خملة إيليا ومسح إشعياء النبي كما كتب أذهب فأنزع المسح عن حقويك وحل نعليك من رجليك. ولا تنس لباس الصابغ، لا تكن متشرفاً بالحلة البهية بل بالأعمال الصالحة فليشرق نوركم قدام الكل لمجد الرب، إذا تكلمت عن الأمانة فترقب إن كنت قد عملت أعمال الأمانة فإن كنت مؤثراً أن تتكلم وتسمع فسيقال لك المكتوب: أيها الإنسان الخاوي أتشاء أن تعلم إن إيمانك خلواً من الأعمال مائت، بالحقيقة أن كافة المعترفين أنَهم يعرفون اللـه وبالأعمال يجحدونه هم موتى علي قول الرسول: هم مرفوضون وغير خاضعين ولا دربة لهم في كل عمل صالح.

فليكن لك عقلاً متواضعاً لئلا تستعلي إلى العلا فتتهشم بسقطة مذهلة، أتضرع إلى اللـه في كل ساعة هاتفاً إليه قائلاً: يارب ضع على فمي حافظاً وباباً حصيناً يحوط بشفتي لئلا يجنح قلبي إلى أقوال الخبيث فأحتج بحجج الخطايا مع الناس العاملي الإثم لأن اللسان هو عضو صغير يتعظم كثيراً، إن نَهب الأمتعة والعقوبات وتَهويل الموت قد زعزع كثيرين وآخرون كللوا بِهذه الأشياء وآخرون من أجل محبة الفضة صاروا دافعين وقوم من أجل السبح الباطل صاروا يتهاونون بالصدق وآخرون من أجل هياج محبة اللذة سقطوا في الإثم وأولئك قد غلبوا من له اقتدار الموت الذي هو المحال وأسكنوا الرب في أنفسهم دائماً لأن ظفرنا بالمسيح.

فإن نجحت في أعمال صالحة فلا ترفع عقلك وإن لمت ذاتك كثيراً فلا تيأس من خلاصك فإن ليس مغبوط المبتدئ حسناً فقط بل الذي قد أكمل العمل بلا عيب. فلا نبذلن ذاتنا للبطالة طول النهار بل فلنعملن عملاً ممدوحاً في الساعة الحادية عشرة لنؤهل أن نَقْتَبل من يمين الرب الدِينَار.

إن اتخذت لك تلميذاً وأبتعد بونيته من الإصغاء بنفسه إلى نير العبادة الحسنة فلا تستغرب هذه الأشياء ولا تمنح للونية فسحة لكي تخشن ذهنك لئلا تضر نفسك ولا تنفع ذاك بل أخطر بذهنك خادم اليشع النبي وإن أقترف رذيلة جزيلة تفكر في من صار من الرسل دافعاً، فمن هو هكذا هو عديم الحفظ منافق ينسب إلى المعلم علة سقطته ولا ينسبها إلى اختيار نية التلميذ الرديئة لأن اللـه صنع الإنسان ذا سلطان بذاته فلذلك الكرامة والعذاب قد أعدا. فللمجاهدين حسن الكرامة والأكاليل، وللمخالفين المتهاونين العذاب والعقاب لأن من يخطئ خطية للموت يكتسب الموت لذاته كما من يثبت في الرذيلة ولا ينتقل من الأمور المحظورة إلى المناقب الفاضلة.

إذا رأيت ذاتك صاداً عن قراءة الأقوال الإلهية ومتهاوناً بالمواعظ الروحانية فأعرف أن نفسك قد سقطت في مرض رديء لأن هذا هو ابتداء سوء التمييز الذي يقتطف منه الخطاة الموت لأن الذين يلمسون صناعة الحديد لا يكرهون الغبار ولا صوت المطارق ولا النار بل يأخذهم شرار الحديد فباهتمامهم وثباتَهم يرفعون منه الأواني الشريفة، ولا نضجر من أن نعزي بعضنا بعضاً لنحصل الأمر المكرم من شئٍ حقير فنؤهل لتلك التكنية والمجد الفائق الطبيعة لأنه كتب إن انتشلت كريماً من شئ حقير ستكون كفمي، ومغبوط من له زرع من صهيون وأهل في أورشليم.

أسقِ نفسك من المياه الإلهية لتزهو وتثمر ثمراً بعدل، فيجب علينا أن نطلب منفعة النفس كما تطلب وحوش البر الحشائش التي توافقها لأن النفس إذا كانت صحيحة معافاة فالجسد يكون ممكناً متأصلاً في الأتعاب الصالحة، فإذا سقطت من قبل الأفكار القبيحة فمن الضرورة اللازمة أن ينفسد الجسد من تلقاء الرذيلة فلذلك مغبوط من يتجر حسناً في هذا العمر ويقيد الأشياء المختصة بالحياة فإنه سيمضي موسراً إلى الحياة التي لا تبلي التي نرجوا أن ننالها بشفاعة كافة الذين أرضوا الرب إلهنا يسوع المسيح الذي له التمجيد إلى الدهور.   آمـين

 

 

 

 

@

المقالة التاسعة والثلاثون عظة للمبتدئين بسيرة العبادة

 

أيها الحبيب هاأنذا أعاهدك بالرب عهداً جديداً فإن حفظته سيمنحك الرب أخيراً سروراً إن زهدت في العالم الباطل ودخلت إلى كنونيون وجمع أخوة كثيرين فلا يطغك العدو أن تخرج من الدير لئلا تندم أخيراً بل أصبر واضعاً أساساً صالحاً بكل تواضع العقل.

فلا تجزع من المحن المتقاطرة إليك من العدو بل أصبر لتنال التطويب لأنه كتب: الطوبى للرجل الذي يصبر على المحنة فإنه إذا صار مختبراً يأخذ الإكليل الذي وعد به الرب للذين يحبونه. أتشاء أن لا يستولى عليك أقطع كافة مشيئاتك فيصير لك نياحاً.

وإن ظننت الأمر جيداً وأعلمك المتقدم عليك بالرب أنه ليس جيداً فأخضع له بالرب فإن من يؤثر الشغب ويتبع فكره فذلك علامة انقلابه لأن المبتدئ إذا أُمر ولم يخضع يصنع لذاته اسم تعيير لأنه قال في المزمور: اعبدوا الرب بتقوى واجذلوا به برعب، تمسكوا بالأدب لئلا يسخط الرب فتضلوا عن الطريق المستقيمة.

فمن يحب التأديب لا يحزن، ومن يمقت الأدب يخسر ذاته، كما أنه غير ممكن أن يلقى في الجرة نبيذ وخل كذلك لا يمكن أن تسكن فضيلة العابد مع عدم الأدب وليقنعك بذلك الرسول قائلاً: أي اتفاق للمسيح مع المارق وأية شركة للنور مع الظلمة.

حب العفة متناهياً في حدودها ليسكن قلبك روح اللـه. إذا أهلت لسيرة العبادة فلا تتنازل هكذا للأفكار إن حاولت أن تفصلك من زمرة الأخوة لئلا تتعلم منذ مبدأ شبابك أن تكون تائهاً وغير ثابت.

أحذر أن تضيع الورع الذي كان لك حين دخلت الدير بل تمسك به إلى النهاية، والسب والحلفان لا يلفظان بشفتيك كما يليق بالقديسين بل كن متواضعاً وفي كل جواباتك فليكن لك ( أغفر لي ) لتبيد منك العادات الرديئة التي للعالم وتسير سيرة ذات فضيلة فيكون لك المديح من الرب.

إذا أحببت سيرة العبادة وتركت الذهب والفضة والثياب وتقدمت فأرسلتها إلى السموات كما تأمر وصية المخلص فأقتنِ عوضها الأمانة الحمية الصبر التواضع والباقي يرزقك إياه اللـه بخيريته، إن جاء أحد من حال جليلة إلى سيرة العبادة فليحفظ ذاته من شيطان استعلاء العقل لئلا يسقط في روح الكبرياء وعدم الخضوع فيخسر ذاته.

أيها الحبيب هذا الأمر ليس هو خجلاً لك إن كنت في طاعة بمشيئة الرب ولا إن عملت بيديك الصلاح لأن هذه الضيقة اليسيرة والضغطة التي تحتملها من أجل الرب تصير مسببة لك الحياة الأبدية، وماذا أقول كل ضيقة سيرة العبادة كمن يبدد درهماً بربوات قناطير ذهب.

كذلك الضغطة الحاضرة بإزاء الحياة المستأنفة المؤبدة وبالعكس الضيقة العتيدة التي تلتقي الصانعي الطلاح، فأشياء قليلة تعطى وحظوظ جزيلة تأخذ. تيقظ الآن ياحبيبي مثل جندي نجيب ولا تضجع في الموهبة التي فيك لئلا يوافيك الأمران كلاهما أنك أحزنت الناس أعني والديك بالجسد وجميع خلانك واللـه ما أرضيته.

فجاهد ليمجد بك الحاضرون اللـه بسيرتك الصالحة لأنه قد كتب أن الذين يتقونك يبصرونني فيسرون لأنني وثقت بأقوالك، وأيضاً سلامة جزيلة للذين يحبون شريعتك وليس لهم شك فلهذا تحرز من استعلاء العقل والرب يكون لك حظاً وحصناً الذي له التسبيح إلي الأبد آمين.

يا أخوتي أني أشعر أن النعاس ثلاثة أنواع وهي التي تؤذي الإنسان ليلاً أما النوع الأول فيعرض للأخ من فعل الشرير إذا بدأ يصلي فخلواً من رقاد الأخ لا يقتدر على شئ بل يؤذيه كثيراً إن ثقلت معدة الأخ بالأطعمة والأشربة. والثاني يتوانى في نصف الليل إذ لم يكره ذاته في الوقوف إلى كمال القانون بعد انتصاف الصلاة لكن يؤثر أن يترك المرتلين ويذهب إلى فراشة وأما الثالث فيعرض أن يشمل الأخ بالطبع أي بعد كمال رسم الصلاة الجامعة المألوفة.

فمن أجل هذا يحتاج الضعفاء من الأخوة إلى التمهل لئلا يصير رأي العدو، وأنت أيها الأخ لا ترقد في كل شئ، أما قد سمعت مراراً كثيرة أن الرب أستدعى صموئيل النبي فلم يكل عن النهوض ومع هذا أنه كان صبياً.

إذا قمت في الصلاة الجامعة في وسط الأخوة، وإذا قمت في التفرد لتمجيد ربنا يسوع المسيح فأياك النعاس الأول فقاومه بمعرفة لئلا يضاعف كسلك فيردك إلى فراشك فارغاً بل أصبر بثبات وإن ألقاك على وجهك مرة ومرتين فلا تنتقل من مكانك فتجد منفعة عظيمة لأن ألم النوم الذي لا يشبع منه لا يضاهي شره البطن لأنه إن تعود أحد أن يأكل كثيراً تطالبه الطبيعة بأغذية كثيرة وإن تعود بالمسك والحمية فلا تطالبه الطبيعة أن يأكل كثيراً، ردد التفكر في الصيادين أنَهم يكملون كافة الليل ساهرين ويتوقعون الصيد فإن ثقل أحدهم بالنوم فتوانى ونام ونَهض من نومه وتأمل ذاته لم يصد شيئاً وأبصر المنتبهين والمتيقظين قد رزقوا فحينئذ يتندم في ذاته ويقول: ويلي أنا الخاطئ والمضجع والعاجز فإنني توانيت ونمت وإلا فكنت اصطدت كرفقائي ورزقت لكنني توانيت فالآن أذهب فارغاً إلى بيتي ليس في يدي شئ لأنه قيل: ناموا نومهم فلم يجدوا شيئاً. تفكر أيضاً في الفاخوري والحداد فتجد هناك تعباً لا يحصي وسهراً كثيراً جداً وصبراً.

فأما نحن فلا يشتمل جسدنا الدخان والغبار ولا نحتمل شيئاً نظيرهما بل نقف في موضع نظيف ومقدس قدام ربنا وإلهنا في دالة جزيلة وسلامة، في مزامير وتسابيح وتَهليلات روحانية ورجاء صالح، فلِمَ نضجع يا حبيبي ما هو عمرنا على الأرض ها النبي يهتف إن الإنسان شبه بالأمر الباطل وأيامه تعبر كعبور الظل.

لا تشابهني أنا الراقد والمضيع الصبر عالما هذا بمبالغة أن من يتيقظ يربح ومن يضجع يخسر لأن كل واحد منا يعطي عن نفسه للـه جواباً لأنني علمت أن لا عذر لي عن أعمالي، لأنني أعظ آخرين وأثبت في ونيتهم نفسها، لذلك أتضرع إليكم يا عبيد المخلص المؤمنين أن تتضرعوا إليه من أجلي مبتهلين إلى المسيح مخلصنا الملك على القوات أن يمحوا غزارة خطاياي بوفور رأفاته ويخلصني إلى ملكه السماوي بتعطفه على الناس.

فلا نحتسب يا أخوتي النوم فائدة، وراحة الجسد، فإن الفائدة والراحة هما أن يكلف الإنسان ذاته في عمل الرب كل حين فلنكلف ذاتنا يا أحبائي لكي ما إذا جاء الرب يجدنا متيقظين فيؤهلنا لتطويبه لأنه قال: الطوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء مولاهم فيجدهم متيقظين فليعز بعضنا بعضاً وليعظ أحدنا الآخر بمخافة اللـه ولينهض بعضنا بعضاً إلى النشاط إلى تمجيد الرب مخلصنا يسوع المسيح لينهضنا مع كافة الذين أحبوا ظهوره ويقيمنا عن يمينه في ملكه الذي له المجد إلى أبد الدهور آمـين.

يا أحبائي فلنصر مثل جند شجعان مستعدين أن نموت عن ملكنا لأننا حين كنا نتصرف في العالم ونتقلب في الأمور الأرضية لم تصبنا هذه الشدائد ولا دهمتنا هذه الغموم بل الآن لما جئنا لنرضي الرب بحرارة يُنهض علينا الشرير هذه المحن والأحزان والهياج، أَرأيت أننا من أجل الرب تصيبنا هذه لأن العدو يحسدنا ويروم أن يردنا من طريق الحياة ويقتادنا إلى الرخاوة والسأمة لئلا إذا أرضينا الرب نخلص فمهما أثار الخبيث من هذه الأشياء علينا ووجدنا شجعاناً في الصبر ونشيطين مستعدين أن نفضي إلى الموت صابرين من أجل أمل المسيح فستنحل كافة حيلة لأن المسيح مؤازراً لنا ومحارباً عنا فإنه يمنحنا الصبر إذا حزننا وتوكلنا عليه ونخزي أولئك ونحظى من الرب بجوائز الأتعاب التي هي الملكوت.

فلنصر مثل سندان يضرب فلا ينثلم ولا نقبل في ذاتنا أثراً واحداً من الاسترخاء أو من السأمة أو من الضجر في الجلدات والمحن فإذا ضربنا فلنغلب المصارع بالصبر لأن ربنا هكذا جال هذا الدهر مجلوداً معيراً مبصوقاً عليه مرجوماً، أخيراً أحتمل من الأثمة موت الصليب.

فأحتمل سائر الأشياء من أجل خلاصنا مخلفاً لنا تمثال الحياة لكي ما في طريق الأحزان والمحن والموت التي سلكها يسلك الذين يؤمنون به بالحقيقة والذين يؤثرون أن يصيروا في الميراث بآلام كثيرة مات على الصليب فغُلب حين صلب وحين مات غَلب وقتل وداس الخطيئة بالجسد وحطم القوي المضاد كما كتب أنه جرد الرئاسات والسلطات وفضحهم علي الصليب.

هكذا نحن إذا صبرنا على كل شغب وحزن وارد من الخبيث بشهامة ونشاط نغلب المضاد بالأمانة والصبر والرجاء في المسيح وهكذا نوجد مهذبين هنا ونؤهل للأفتداء ونمتلئ قداسة الروح ونصير وارثين الحياة الأبدية التي هناك لأنه في الجهاد الروحاني يصير الظفر بالمعاند بالآلام والموت

فإذا تألمنا ومتنا من أجل الرب نغلب بنشاط كافة اقتدار المعاند ولا نحسب كل حزن وكل محنة أنَها مؤلمة موجعة بل فلتكن شهوتنا موجهه إلى الرب ونعاين موته قدام أعيننا، فاحتملوا كل النوائب بصبر كما قيل كل يوم نحمل صليبه الذي هو الموت ونتبع أثره فهكذا نحتمل بسهولة كل اغتمام إما مكتوماً وإما ظاهراً لأننا إن كنا نؤمل أن نصبر من أجل الرب على الموت ونتوق أن يكون لنا قدام أعيننا كل حين، فكيف لا نصبر بفرح على المحن مهما كانت ثقيلة تداهمنا بحجة وبلا حجة، إننا نحتسب الغموم ثقيلة ولا صبر لنا عليها لأن ليس قدام أعيننا الموت ولا يتوق إليه ذهننا كل حين لأن من يشتهي أن يرث المسيح يؤثر بلا مراء التألم، الذين يحبون المسيح يستوضحون بِهذا إذا صبروا على كل حزن بشهامة ونشاط من أجل الرجاء باللـه.

فلنتضرع الآن إلى الرب أن يعطينا فهماً أن نعرف مشيئته ونكملها بنشاط بكل صبر وتمهل وسرور يعطينا إياها مؤيداً إيانا في كل أمر يرضيه لنوجد مهذبين ومستحقين أن ننال الخلاص الأبدي بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والعزة إلى أبد الدهور. آمـين.

 

 

 

 

 

@

المقالة الأربعون في عدم الانتقال من موضع إلى موضع

 

الأمانة هي أم كل عمل صالح وبِها يقتني الإنسان مواعيد ربنا وإلهنا يسوع المسيح كما كتب ان خلواً من الأمانة غير ممكن أن نرضي اللـه وعدم الأمانة هي قنية مثمرة للمحال التي هي أم كل عمل خبيث لأنه منها يتولد انقسام النفس الذي هو عدم الترتيب لأن الرجل المنقسم النفس لا ثبات له في جميع طرقة.

إن خرجنا إلى القفر فلا تستقر أرجلنا وإن دخلنا إلى الأصقاع المسكونة نطوب المتصرفين في القفر، يا أخوتي إن لم نزرع فكيف نحصد، إن لم نقدم الأثمار لمانح الثمر فكيف نستطيع أن نثمر، إذ لم نصبر علي الحزن فكيف نجد الراحة، إن لم نثبت في البرية فكيف نأخذ ثواب تغربنا، وإذ لم نؤَد المسكنة والضيقة فكيف نأخذ الغنى الصادق، إذ لم يحسن مختبرنا في الشتائم والكلوم والاحتقارات فكيف نتبع آثار السيد، وإذا لم نحتمل أن نكون بأمل الرب في طاعة الشيوخ ننتقل من مكان إلي مكان.

فأولاً سبيل الإنسان أن يستعلم من أفكاره من أجل ماذا ومن أجل أي سبب يريد أن يترك موضعه الذي يسكن فيه لئلا يريد أن يهرب من التعب فيطلب البرية الداخلية ظاناً أنه يجد موضعاً خالياً في البرية، أو جرح أيضاً من الشيطان الماقت الخير بحسده إن كان تقدم نجاحه في الأمور المرئية ولم ينل مبدأها ولهذا يؤثر أن يترك مكانه، أو هارباً من عمل الفضائل، أو لم يحتمل أن يكون في الخضوع فيطلب التوحد، أو يلتمس ميراثاً أرضياً يروم من أجله أن يترك مكانه لأن الأفكار توضح هذه إن فحصناها وفتشناها وإذا عرفنا الألم الذي يؤذينا فلا نتبعه، فلا نسقط في أيدي الشياطين الخبثاء.

أفحص إذاً ذاتك بدقة إن كان الأمر الصائر هو من أجل اللـه محضاً أو بقصد فاسد، لأن كل من يعمل أمراً بلا مشورة يضاهي رجلاً يطارد برجليه طيور طائرة صانعاً الأمور الناتجة منه بلا مشورة، أما الرأي الصالح فهو بحفظ وصايا الرب.

فماذا ينبغي أن نقول عن هذه الأشياء، نحتاج يا أحبائي إلى التيقظ لأن العدو يحارب اختيار الأخوة فإن تنازل الأخ أن يفارق الموضع يحتال العدو أن يقتنصه بفخ في موضع آخر، فإن طردنا الناس من أجل حسد أو كلفونا أن نشارك أعمال غريبة وهربنا إلى موضع آخر فلنا دالة عند اللـه إذ ربنا ومخلصنا يسوع المسيح يقول لتلاميذه إن طردوكم من هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، أما عن عدم التنزه فالمخلص قال أيضاً لا تنتقلوا من بيت إلى بيت وأيضاً أية مدينة دخلتم أقيموا هناك.

أما إن شئنا أن نعمل مشيئاتنا فأية فضيلة هذه، فإن افرزنا المتقدمون علينا فلنمنح موضعاً مقاومين المحال أكثر فهكذا عمل داود إذ كان يحارب القبائل الغرباء تنحى من وجه شاول.

إن سكنت حسناً في البرية وآذاك الفكر أن تنتقل إلى الأصقاع المسكونة فأجبه واصفاً حرب العالم والنوائب العارضة للذين يسكنون هناك، إن سكنت في الكنونيون حسناً وحضك الفكر أن تدخل إلى البرية فأجبه مخبراً بحربِها وتعبها، وإن سكنت وحدك منفرداً وآذاك الفكر أن تدخل إلى مجمع أخوة فأجبه ناعتاً جهادات الذين في الأديرة.

لا نتبع بلا تمييز أفكارنا لأنا لا نعرف ما يوافقنا كما تقول الحكمة لا ترفع ذاتك برأي نفسك فيؤكل ورقك ويضيع ثمرك وتترك ذاتك كالعود اليابس والخلاص يصير في المشاورة الكثيرة لكن ربما تؤثر أن تقول أننا من أجل الاضطراب ومن أجل الوقيعة نريد أن نَهرب من هناك، فأحتمل إذاً فأشير عليك بكلمة أتؤثر أن تَهرب من السجس والوقيعة ضع باباً على فمك بالرب، وأردد عينيك ألا تبصر الأشياء الباطلة فبهذا نغلب الأمرين كلاهما فالوقيعة بالسكوت، والاضطرابات بتحفظ العينين فإن لم نغلب هذين نصادف أين ما مضينا في ذاتنا الذين يحاربوننا، فأغلبهم يا حبيبي فيكون لك نياح أين ما جلست.

لكنك ربما تقول أنه عرف انقلاب رأيي وونيتي عند أخوتي كلهم ومن أجل هذا لا يمكنني أن أجلس في هذا الموضع لأني قد اشتهيت الفضيلة لكن الناس الذين أسكن معهم هم بفكرهم يدينونني، فأسمع يا حبيبي أعمل الخير فتبصر الرب يشفي ضميرك وضمير أخوتك في أوهامهم فيك أو كيف تحتمل أن تخلي الموضع والأخوة مرتابين بما يتوهمونه فيك، أتَهرب من تعيير الناس وتمضي إلى مكان آخر حيث تظن إنك تجد من لا يذكر نقيصتك الأولي إذ النبي يقول: انتظرت نفسي التعيير والشقاء. لأن التعيير يوافقك جداً والاستحقار من الناس من أجل الرب ليطهر الخطايا. ويقنعك بذلك النبي قائلاً: إنه في تواضعنا ذكرنا الرب وفدانا من أعدائنا. بل حيث طرحك المعاند قم وصارعه لكي الذين عرفوا مناقصك تظهر تقويماتك وبِهذا تحتضن من الرب مجداً عظيماً إذ مخلصنا يسوع المسيح يقول: ويكون الأولون آخرين والآخرون أولين.

لأنه حين يغسل الثوب الوسخ لا يترك أيضاً مع الثياب الوسخة، وإن كان أحد بحسد أو غيرة خبيثة يسمي النقي وسخاً فلا يصدق لأن منظر الثوب يوبخه لأنه زعم: تغسلني فأبيض أكثر من الثلج.

أما الذين يضادونك ويؤثرون أن يقبلوا فكرك فالكتاب يقول: ويل للذين يسقون قريبهم مشروباً كدراً الذين تركوا الطريق المستقيمة ليمضوا في سبيل الظلمة، المسرورون بالأسواء والمستبشرون بإرجاع الردئ الذين طرقهم معوجة ومناهجهم وعرة ليجعلوك بعيداً من طريق الحق المستقيمة وأجنبياً من العزم المقسط فلذلك يقول الرب أنَهم لا يجدون سنين الحياة لأنَهم لو كانوا سلكوا سبيلاً صالحاً لوجدوا طرق الصديقين الممهدة.

الصالحون يكونون قاطني الأرض وأهل الدعة يبقون فيها، وطرق المنافقين تبيد من الأرض وأعداء الناموس يقصون منها، يا ابني لا تنسى شرائعي وليحفظ كلماتي قلبك فإن المجد للـه إلى الدهور. آمين.

أيها الأخ إن أُمرت أن تقرأ في مسامع الأخوة فتصور بحرز أين كمل الفصل المبتدئ بالقراءة فإذا تناولت اللفظة فأبتدئ بالقراءة لتكون قراءتك كجديلة منسوجة بذهب لأن من يتهاون بكلمة واحدة وبقلب الفصول لا يؤثر أن يتعلم كما يجب ولا يعلم الذين يصغون إليه بل يطلب آخر القول وكمال الكتاب فأنت يا حبيبي صر متيقظاً لتنفع نفسك والسامعين.

وإن أُمرت على غفلة أن تقرأ فأبتدئ من جانب الكتاب الأيسر فإن كان أبتدأَ القول فقل العنوان لأنه بِهكذا يعرف المعنى، وإن أقتنيت كتاباً فليكن مفهوماً مكتوباً بأجمل الكتابة وأبينها لئلا يصير عثرة لمن يقرأه وينسخه.

أيها العابد أهكذا وعدت المسيح أن ترضيه أن لا تحتمل بشهامة المحن والغموم الآتية إليك من المضادين ولا تقبل الآداب والضغطات من المتقدمين عليك إذ الرسول يقول إن كنتم خالين من الأدب الذي شاركه الكل فأنتم نغول.

أَضُربت ! أفرح لأنك ضُربت، أَجُلدت بواجب ! أفرح لأن ثوابك جزيل لأن الرسل الذين بشروا العالم بالخلاص كانوا في كل مدينة يُضْرَبُون كعمال الشر فلم يسخطوا ولم يغتاظوا بل كانوا يسرون لأنَهم أهلوا أن يهانوا من أجل أسم المسيح.

فأفرح أنت لأنك قد أهلت أن تُهان من أجل اسمه، لكن لعل أحد المتوانين يقول إنما أحزن لأن هذا أصابني بعد هذه الأتعاب، يا عبد الرب أَهذا يحزنك اُمن هنا تعرف ذاتك إن كنت بالحقيقة بعد هذه السنين غلبت الآلام، إن كنت قد سررت بالهوان الذي وافاك ولم يشتغل ذهنك بالتصرف الصائر لأنه إن ظن أحد إنه شئ وهو لا شئ فإنما يخادع ذاته لأن نجابة المدبر إنما تظهر في أوان تقاطر الموج، فمن يتعظم ويقول إن لي مثل هذه السنين في سيرة العبادة ولم يوضح صناعة الموعد يأتِ بأداة وينضدها وهو لم يتعلم الصناعة.

أشخت في الإسكيم وحصلت كمن له خبرة بالسيرة المقدم ذكرها صر مثالاً للشباب والذين لا خبرة لهم، وإن كنت نصبة جديدة فأخضع للشيوخ فإن جنود الملك الأرضي يخضعون لمدبريهم وقوادهم لا من أجل الخوف فقط بل من أجل الضمير، فإن كان أولئك المتجندون بجندية بشرية يوضحون كل حرص ليسترضوا الذين يطيعونَهم فكيف تحتمل أنت الجاحد هذه الحياة أن تجتذب مسحوباً من مثال هذه الآلام ولا تطيع ولا تخضع وتطرح التأديب بالمسيح ملتمساً مدائح ومجد العُبَاد الكاملين وتَهرب من الأتعاب التي صارت بِها الكرامات.

لم تحتمل أن تضيع مثل هذا السكوت والتعب من أجل يوم واحد أو ساعة إن قتلت نفسك فمن يرحمك أهذا هو مديحك أَهذه هي نجابتك أن يعرض لك حزن يسير فتكفر بالإسكيم والسيرة وتمنح العدو عليك سلاحاً بونيتك.

يا أخي لا تمنح المضادين ظهراً بل أنتصب وقاتل فيهربون عنك لأنني أشعر أن المقتبل أن يكون متوسطاً لك لا يسر بالعيب الذي لك الذي سيعطي عنك جواباً للرب هذا هو سروره إن وقفت للرب كاملاً، أيها الحبيب عُدْ إلى ذاتك وأرجع إلى راحتك ألبس درع العدل وتناول حربة الأمانة وضع عليك خوذة الخلاص وتناول سيف الروح الذي هو كلمة اللـه، صر مثال وداعة في الآلام للأخوة الناظرين لنفسك، وليتعجب الذين هم أكبر نسك من صبرك، وليُسَر الروح القدس الساكن فيك بشجاعتك.

أما إن كنت لا تحتمل المحنة فكيف تحتمل العظمة، وإن كنت لا تغلب صبياً فكيف تصارع رجلاً كاملاً، وإن كنت لا تحتمل كلمة فكيف تحتمل كلوماً، وإن كنت لا تحتمل لطمة وشجة فكيف تحتمل صليباً، وإن كنت لا تحتمل صليباً فكيف ترث المجد في السموات مع القائلين هذه النوائب كلها تقاطرت إلينا فما نسيناك ولا ظلمنا في عهدك، وأيضاً من أجلك نمات كل يوم وحسبنا كغنم للذبح.

أشاء أن أسكت أيها الحبيب من أجل خزي وجهي لكن وجع قلبي يضطرني أن أتكلم نعم أيها الحبيب قد نسينا الأشياء التي أحتملها سيدنا كلها من أجلنا شتم ورذل وسمع بك شيطان فلم يسخط سمع أيها المضل فلم ينتقم، لطم أهين صلب ذاق خلاً مع مر طعن بحربة في جنبه، هذه كلها أحتملها من أجل خلاصنا.

ويلي أنا الشقي ويلي أنا الخاطئ فإنني بلا عذر ماذا أقول؟ وماذا أتكلم؟ أنت تعرف خفيات قلبي أغفر لي اللهم أنا الغير مستحق فإني لا أؤثر أن أسمع شيئاً بالكلية ولا كلمة من أجلك، من لم يبكي على المقتني التورع حجاباً للرذيلة، ترهبت بالكلام وأنا أسخط اللـه بأعمالي بالحقيقة من أجل تكاثر الإثم تفسد محبة نفوس كثيرة، أتضرع إليكم يا أخوتي أن نتيقظ لدى الرب فإنه لا يطرح المؤثرين أن يخلصوا بل يؤازرهم، فلنقل نحن مع النبي: أرجعي يانفسي إلى راحتك فإن الرب أحسن إليك لأنه نجى نفسي من الموت وعيني من الدموع ورجلي من الزلق لأرضي الرب قدامه في أرض الأحياء لنؤهل أن نسمع القول إن هذا ابني وكان ميتاً فعاش وضالاً فوجد.

ولإلهنا المجد مع أبيه وروح قدسه

آمــين

 

 

 

 

 

 

 

@

المقالة الواحدة والأربعون مائة فصل تشمل أخبار وتعاليم ووعظ وكيف نقتني الإتضاع

 

(1) بدء الثمر الزهر وبدء التواضع الطاعة بالرب، ثمر الطاعة طول الروح، وطول الروح هو ثمر المحبة، المحبة هي رباط الكمال، والكمال هو حفظ وصايا الرب، ووصية المسيح هي منيرة وتضئ العينين، والأعين المستنيرة تَهرب من طرق مضادي الشريعة. ليكن لك التواضع مجالنا، وليكن لك كلمات بَهية، لتكن كاملاً بمحبة المسيح لأن المخلص قد قال: كونوا كاملين كما أن أباكم السمائي كامل هو، من أين يظهر استعلاء المعقول ؟ من عدم الطاعة، من عدم الاختضاع، من عدم الإذعان، من الإنقياد لفكره. أما التواضع فهو مطيع سريع الإذعان، وديع يمنح الإكرام للصغار وللكبار فمن قد أقتناه أنا واثق إنه ينال الثواب الجزيل من الرب مع الحياة الأبدية.

(2) إن سكنتما أثنان في قلاية واحدة فاصغيا إلى ذاتكما بتحرز عالمين أن الرب بينكما هو لأنه هو قال: أينما كان أثنان أو ثلاثة مجتمعين باسمي فهناك أنا بينهم، وإن كنا نحن غير مستحقين نبصره، لكن هو بما أنه إله قد عرف أفكار كل أحد وعمله وعاينة الذي له المجد إلى الدهور آمين.

(3) قد سمعنا الحكمة تقول إن الرجل الفاسق عند كل خبر لذيذ، وما يقطع عادته إلى أن يتوفى. الرجل الذي يظفر من سريره قائلاً: من يبصرني، ممن أتورع، حيطان بيتي تسترني، والعلي ما يذكر خطاياي. فعين الإنسان خشيته وما قد علم أن عيني الرب مستنيرة أكثر من الشمس بربوات
أضعاف، معاينة سائر طرق الناس، ومتأمله النواحي المكتومة، قبل أن يخلق الكل قد عرفه بالحقيقة، وبعد انقضاء الكل يعرفه، فلذلك في أسواق المدينة ينتقم منه من حيث لا يعلم.

(4) أيها الحبيب إن اخترت لك التورع فتيقظ لئلا بحجة الورع يخفي لك الخبيث فكراً غريباً أعني فكر السبح الفارغ والكبرياء إذ ما تؤثر أن تتعب مع أخوتك لكن أعمل كي ما يعمل أخوتك ونظراء نفسك وأحفظ التورع لأن الفخر ينقض الورع ويجيب اسم التعيير لمن يقتنيه، أقرن بالورع الحرص والمعرفة فتكون متورعاً محقاً.

(5) أيها الحبيب إن اقتنيت لك تواضعاً فتحرز جداً لئلا يحتال عليك العدو وينقلك إلى طرق أجنبية بأن يخطر لك الخواطر التي تخصه كما تقول الحكمة لا تقول أختفي من الرب ومن يسمعني من العلا، لست أذكر في شعب جزيل لأن ما هي نفسي في البرية التي لا تحصى فيمَ إذاً يتبع الحكيم ها سما سماء الرب، اللجة والأرض بمشارفته يتزعزعان، الجبال وأساس الأرض بنظره إليها تتزلزل برعب. فينبغي إذاً أن نقرن بالتواضع الإيمان لنقطع مستوياً ملحانات التواضع.

(6) أخ ما دخل إلى الكنونيون مريداً أن يصير راهباً، فسلم إلى شيخ كبير في قلايته، وبعد أيام ما قوتل بالأفكار، فقال ما اتنيح أن أكون مع هذا الأخ، فوعظه أخ آخر قائلاً أتراك لو كنت وقعت عند البربر ودفعت إلى من كان منهم بربرياً هل كنت تقول ما أؤثر أن أكون مع هذا. فلما سمع الأخ هذه الأقوال تخشع من القول، وركع سجدة وقال: أغفر لي. وقال أيضاً: من يؤثر أن يصير راهباً ولا يصطبر على السب والهوان والخسران ما يستطيع أن يصير راهباً.

(7) إن جاء أحد إلى السيرة الرهبانية بسيطاً بفكره جداً يحتال العدو أن يضرم فيه الدالة والوقاحة، وإن اقضى في الرهبانية إلى تورع يخطر هذا إن كان شاباً في التورع يمنحه نشاطاً في النسك حتى لا يمكنه أن  يكمله، فالمحب والخائف من الرب بالحقيقة ما ينقاد للفكر الأول ولا للثاني فإن قوطع تمسك من خديعة الشياطين، فمخافة الرب الذي حَبَهُ بالحقيقة تضئ قلبه ليسلك في الطريق المستقيم، لأن الوقح والفاقد الخجل ما قد صدق أن تكون دينونة، ولا المتصلف والمتعظم ولا يتورع من أجل اللـه لأنه يحتسب ذاته عظيماً. إن أذاك ألم الظن بالذات فقل للذي يحاربك أبعد مبتعداً عني أيها الفكر الخبيث من أنا وأية فضيلة قومتها إذ تخطر لي مثل هذه الخواطر، القديسون بعضهم رجموا وبعضهم نشروا ومنهم من امتهنوا وبقتل السيف ماتوا، ولماذا أقول عن الناس المناظرين آلامي، سيد الكافة نفسه صبر من أجلنا على الصليب واستهان بالخجل، فأنا العائش في الخطايا كافة زمان حياتي، ثم أعتذر يوم الدينونة.

فهذا يطرد عنك استعلاء الرأئ، فإن كنت قد قومت فتفهم موقناً أن ذلك ليس هو بقوتك كما يذكر القائل: لست أنا بل نعمة اللـه التي معي، فإن آذتك الوقاحة فتفكر في أعمالك مردداً وقل أنا مشاركاً مثل كثرة هذه المساوئ فكيف أجترئ أن أفتح فمي إذ الرب يقول: إن عن الكلام الباطل سيدون الناس جواباً يوم الدينونة.

فيجب أن نسجد له كما يعلم القائل: أيها الرب الماسك الكل إله أبينا إبراهيم واسحق ويعقوب ونسلهم المقسط، يا من صنعت السماء والأرض مع كافة زينتها، يا من قيدت البحر بكلمة أمرك وقفلت اللجة وختمتها باسمك الرهيب والمجيد، يا من كافة الأشياء تفزع وترتعد من أمام وجه قدرتك لأن عظم بَهاء مجدك ما يطاق، وسخط وعيدك الذي على الخطاة لا قوام له، ورحمة موعدك لا يستقصى ولا يستقرئ أثرها لأنك أنت هو الرب العلي المتحنن الطويل الأناة والكثير الرحمة والثواب على مساوئ الناس، فأنت يارب إله الصديقين لم تشترع توبة المقسطين إبراهيم واسحق ويعقوب الذين لم يخطئوا إليك بل وضعت التوبة لي أنا الخاطئ لأنني قد أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، قد تكاثرت يارب مآثمي، قد كثرت آثامي، ولست مستحقاً أن أتفرس وأبصر علو السماء وتوابعها لكي ما يطرد عنك هذا الخوف والابتهال الوقاحة.

(8) أخ ما قوتل من فكر مستغر كأنه قد قوم زعم شيئاً من الفضائل فشاء أن يغلب فكر استعلاء الرأي فأدنا يده إلى أسفل الخلقينة المتوقد استحرارها وقال في ذاته ها أنتَ تحترق فلا يترفع عقلك أيضاً، فها نحن نشاهد الفتية الثلاثة إنَهم كانوا في وسط اللهيب المضطرم ولم يترفع أحدهم بقلبه بل بتواضع عقل كثير سبحوا اللـه ممجدين في وسط الأتون قائلين، فلنقبل بروح متواضع وبنفس مسحوقة قدامك وأنت واقف في الراحة وتعلي ذهنك وبِهذا الرأي غلب شيطان استعلاء الرأي.

(9) إن وجد إنسان روحاني حريص ومحب التعب كثير في الفضائل فلا يحتقر به أحد بل يجب أن يعضدوا مثل هؤلاء لأنَهم مرضون للـه ونافعون للجماعة، وليقنعكم المعسكر أن عسكر العبرانيين وعسكر الغرباء القبائل وداود يبارز جليات، ومع هذا الذين سقطوا في عمق البحر ويخلصوا حتى الصديق الذي وجد فيهم كما كتب بولس لا تخف فينبغي لك أن تمثل بحضرة قيصر وها قد وهب اللـه للكافة السابحين معك.

(10) أخ قوتل أن يخرج من ديره بعد أن أخذ الإسكيم فجابت له الأفكار مثل هذا المقياس، تأمل زعموا بقل البستان وأنظر أنه إن لم يقلعه البستاني من المسكبة شتلاً وينصبه في موضع آخر ما يشب نامياً إلى فوق. فميز الأخ الفكر وقال: هل يقتلع البستاني البقول بجملتها أو ما يترك زعم فيها ما تستطيع أن تربيه ومع هذا أن الشتل الذي يقتلع ما ينصان من الفساد مثل صيانة الباقي في المسكبة، فصر أنت واحد من الذين لم يقتلعوا وبِهذا غلب الفكر بموازرة النعمة.

(11) أيها الأخ إن آثرت أن تسكن في كنوبيون فأحذر أن لا يخطر لك الفكر مكراً بكثرة المؤامرة بأن تفتكر وتقول: أنني أنقص ثواباً جزيلاً وقوتي ليس هو شيئاً فلا أكون من أجل طعام أنقص عمل اللـه، فإنك إن تفكرت في هذا فلست سالكاً في المحبة بل الأولى بنا أن نسمع الصوت الخلاصي قائلاً من هو ترى القهرمان الأمين والعاقل الذي أوقفه سيده على منزله ليعطي أهله الطعام في أوانه، الطوبى لذلك العبد الذي يقيمه سيده على منزله ليعطي أهله الطعام في أوانه، الطوبى لذلك العبد الذي يجيئ سيده فيجده يصنع هكذا، كما أوصاه حقاً أقول لكم أنه يقيمه على سائر موجوداته، فإن بدأ ذلك العبد الخبيث يقول في قلبه إن سيدي سيبطئ ويبدأ يضرب نظراءه في العبودية ويأكل ويشرب مع السكرانين يجئ سيد ذلك العبد في يوم لم ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطع ذلك العبد من وسطه ويجعله شطرين ويجعل حظه مع المرائيين هناك يكون البكاء وتقعقع الأسنان فلنهتم للرب في كل شئ ولا ندين ولا نطالب نظيرنا في العبودية بشئ الذي رتبه السيد العالي يدبر لأننا كلنا إليه سنعطي الجواب وهو يعطي كل أحد نظير عمله.

(12) أيها الاقنوم سمعت الرسول يقول: المتقدم في الوقوف فليهتم بحرص ولا يستهون أحد بحداثتك. واحد أراد ألا تستعمل الوصية بألم فإنه يقول في فصل آخر لا كمن يسدون على الإكليروس بل صيروا رسوماً وقدوة للرعية فإذا ظهر رئيس الرعاة تأخذون إكليل المجد الذي لا يضمحل. ويقول أيضاً: صيروا متشبهين بي كما تشبهت أنا بالمسيح لأن الكبرياء أجنبية عن المؤمنين، كما يعلم القائل: اللـه يقاوم المتكبرين ويعطي المتواضعين نعمة.

(13) أيها الحبيب إن أذاك روح الضجر فلا تنقاد للفكر بل أثبت في المكان الذي نصبك اللـه فيه مكرراً للتفكر في الشوق الذي كان لك إلى اللـه حين جئت في الابتداء إلى باب الدير، ولتتمسك بِهذا الشوق إلى النهاية لئلا يوافينا القول: وأكل يعقوب وشبع ورفس المحبوب. وأصبر فيما بعد للرب مثل مجاهد ظافر بالذين يضربونه بصبره، فإن من يصبر إلى النهاية يخلص.

(14) أخ ما كان يضع مبادئ في الكنونيون وكان يصمت دائماً ليقطع من ذاته الدالة، فقال عنه المبتدئون أخوته: تراه من تورع ما يتكلم ما يحسن يتكلم، وآخرون قالوا: بل شيطاناً فيه. وكان الأخ يسمع هذه الأقوال وما يجاوبَهم بل كان يعطي للـه في قلبه مجداً.

(15) أخ ما أنه قال: أنني سألت الرب أن يمنحني كلمة التواضع هذه حتى إذا عمل آخر أمراً أقول لفكري هذا هو ربك أسمعه، وإن صنع ذلك أخ آخر أقول أيضاً: هذا هو أخو ربك. وإن عمل آخر عملاً أقول: أسمع ابن ربك. وهكذا قاوم الأفكار الخبيثة وكان يعمل عمله بلا قلق بموأزرة النعمة.

(16) بينما الأخوة يعملون في الليل العمل المرسوم لهم تأذى أحدهم من البرد فعاد إلى قلايته، فتذمر عليه آخر، فأرسلوا إليه أخاً يناديه فلما مضى الأخ المرسل منهم وجده متألماً بصعوبة، فقال له: الأخوة يقولون لك كيف أنت لا تَهتم بعملك فنحن نعمل بدلاً عنك. فقال: ستذكر محبتكم أنا جئت لأتعب معكم فمنعني مرضي. فذهب إلى الذين أرسلوه فقال لهم: الأخ يتعب بكافة قوته وقد قال لي إنني أنا كنت أريد أن أتعب معكم.

(17) أخ ما وضع مبادئ في كنوبيون فقاتلته الأفكار من أجل التعب فأجابَها قائلاً: أيها العبد الردئ قد بُعتَ فماذا يمكنك الآن أن تصنع. فمنحه اللـه تعزية.

(18) كان الأخوة ذات يوم يأكلون فقام أخ يسقيهم فتناول منه أحد الشيوخ  فوجد ممزوجه حار جداً. فقال الشيخ: يا ولدي أحرقتني. فمضى الأخ إلى قلايته وضرب ذاته قائلاً: ترى لو كنت عبداً لإنسان صعب الخلق فعملت هذا أما كان للحين قد أحل بلحماتك الجراحات، لا تتوانى في ذاتك.

(19) مغبوط الراهب الحافظ وصايا الرب والمهتم بِهذه الخصال الثلاثة *المثابرة على الصلاة والاشتغال بِها. * والعمل. * والدراسة. لأنه قد كتب: ثابروا وأعلموا أني أنا اللـه. وفي فصل آخر: أنا مسكين وفقير وفي الأتعاب منذ حداثتي، وأيضاً في شريعته يدرس ليلاً ونَهاراً.

(20) إن رأيت أخاً متهاوناً بخلاصه فلا تتشكك بونية الأخ بل ولا تماثل تضجيعه أحفظ ذاتك نقياً فإننا إن لم نحمل أثقال بعضنا بعض فكيف نشاء أن نجد أمام الرب رحمة، فلنحرص في هذا أن لا نضع للأخ عثرة أو شكاً لأن بالحقيقة من لا يقتني أخاه ولا في أمر ما سيدعى عظيماً في ملكوت السموات.

(21) في أي مكان ما جلست لا تتوانى في خلاصك لأنه قد كتب في ناموس موسى: إن ابتعت أخاك العبراني أو العبرانية يخدمك ستة سنين وفي السابعة تطلقه من عندك حراً فإن قال لك لا أخرج من عندك لأنني قد أحببتك وامرأتك لأن حالي حسن عندك، تأخذ مثقباً وتثقب أذنه ويكون لك عبداً إلى الأبد. ومملوكتك هكذا تعمل بِها أيها الراهب قد تركت العالم وصرفك محرراً لأن المسيح قد حررك فلا تحب أيضاً عبودية العالم الباطل لئلا

يُصير أواخرك شراً من أوائلك بل فلنعبد المسيح الذي حررنا لأن له المجد إلى الأبد. آمين

(22) أيها الحبيب إن جلست في مكان اسمه مشهور فأحذر أن تغلب من استعلاء الرأي، لا ترذل الأخوة في ذهنك كأنَهم من جماعة حقيرة لأن الرب وحده يعرف خفيات القلب لكي لا توجد أنت متشامخاً بالورق وأولئك محصلين الثمر. بل الأولى بك بمقدار أن تطيق أن تواضع ذاتك فتجد لدى الرب نعمة لأن قدرة الرب عظيمة والمتواضعين يشرفونه ويمجدونه.

(23) أيها الحبيب إذا جلست في طاعة أب روحاني لا تضع لك حداً فتقول ما يمكنني أن أعمل هذا أو ذاك فإنك إن لم تعمل ما تفلت من مداينة المعصية فمنذ الآن تحتاج بتدبير أن تصون نفسك فإن هذه الأفكار ما تثبت في النفس، فإن عرض أن تؤمر بما يفوق القوة فلا تقاوم بغضب ترتيب الرئيس بل بتواضع وتوسل وصوت منخفض تُعرف الرئيس بالأمر الذي يفوق قوتك، ولنقاوم الخطية إلى الدم.

(24) أخ ما قال: تضرعت إلى اللـه أن يحل بركته ونعمته في عمل يدي حتى أقوم بطعام كافة أهل الدير وليس لي في هذا إلا حمده.

(25) ينبغي للمتقدمين أن يترقبوا مقادير كل واحد من المطيعين متذكرين الرب قائلاً: الذي يثمر ويصنع بعضه مائة وبعضه ستين وبعضه ثلاثين، ليرضي اللـه كل واحد في موكبه.

(26) أيها الأخ إن خرجت من الكنوبيون وسكنت منفرداً وبعد مدة كبيرة رجعت إلى الموضع الذي خرجت منه فذلل الفكر هكذا كأنك الآن بدأت سيرة الرهبنة فيكون لك راحة، ولا يكون لك يوماً ما ورع وبعد أيام تصير بلا ورع بل فليقهرك التواضع في كل حين فتجد نعمة اللـه.

(27) قد يعرض بين الأخوة شئ مثل هذا: أن ينجح أخ في التورع فيسلط العدو عليه أحد الأخوة المتوانين كثيراً يزعجه فيمتنع الصامت أن يجاوبه نظير جهالته. فإذا صنعنا هكذا يصيح الآخر ويقول المتورع، وبعد أن تسكن الخصومة يبتدئ المتورع أن يُرشق من الأفكار المضادة فيقول أهلكت التورع ها قد افتضحت أمام أخوتك فماذا تتوقع ؟ أستعمل الصرامة لئلا يطمعوا بك مثل ضعيف وذليل لأنه قد كتب: مع المعوج تتعوج، ولا تفرش ذاتك لرجل أحمق. فهذا ما يفهم معناه هكذا لئلا أن يغاير العاملين الإثم. لأن الرسول يقول: لا تُغلب من الشر بل أغلب الشر بالخير. والرب يوصي قائلاً: إن لطمك أحد على فكك الأيمن فحول له الآخر هكذا يجب أن نتعوج مع المعوج، ولا نكون تحت أقدام الخطيئة لأنه قد كتب: حقاً أقول لكم إن كل من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة. فإن لم يقاوم الأخ بِهذه الأفكار ويناصب المضادين وإلا فما يتركونه يثبت في سيرة الفضيلة بل للحين يجعلونه غضوباً سخوطاً مخاصماً مقرعاً وحشياً في أخلاقه، فلا يقتني نفعاً لذاته بل ويرد نفوساً أخرى فإن أتخذ الشريفة (الوصايا) بعقل يصير في المصارعة أوفر حكمة بما أنه قد أختبر المضرة وعرفها.

(28) أخوان كانا في السهر يخلصان الكتان المدقوق فكانت الربطة الواحدة تنقطع دائماً فبدأت أفكار الذي يمده معه تغيظه على أخيه وإنه شاء أن يغلب الغضب ولا يغم أخاه فحين كان يمد كتان أخيه صار يقطع هو الكتان الذي له فوجدت الربطتان منعقدتان، وقاما ولم يحزن أحدهما الآخر ولم يعلم الأخ بما عمله أخوه.

(29) أخ قرأ الميمر في السهر وأثر أن يتم الفصل فأمتد في القراءة قليلاً فبدئ راهب آخر يتذمر عليه قائلاً: قد سمع أقطع فلم يقطع. فقال له آخر أترى لو كنا نتغدا وأمرنا الرئيس أن نشرب قدح زيادة أما كنا نقبل ذلك بتلذذ. فلما سمع الأخ ركع سجدة قائلاً: أغفر لي.

(30) قال أخ لأخيه: لِمَ تشيل الغضارة ( الزبدية ) بسرعة وما تتركنا نأكل. فأجابه أنا عبد أنا والشئ الذي يأمرني به الذين هم أكبر مني ذلك أعمله. فإذ سمع الأخ قال: أغفر لي.

(31) أنا أعتقد أنه نافعاً للأخوة أن يعتنق الرئيس المقدم سائر اهتمام المطيع ويجعل الأخ بلا هم ولا ينغلب بالأشياء التي تجاذب ذهنه ولا سيما أن تعتقه من الاهتمام بالعلمانيين الزائرين، ليشتغل فكر الأخ بالصلاة وحدها، ومثل النخلة التي تكسح باهتمام يحاضر مرتقياً إلى سمو الفضائل، لأن الرسول يقول: أن الأحاديث الرديئة تفسد العادات الصالحة. لأن غرقاً عظيماً للنفوس هناك في الموضع الذي لا يسار فيه بالقوانين والتدابير الروحانية.

(32) أيها الراهب إن زارك أخ راهب أو علماني فلا تؤثر أن تستقبله بما يفوق طاقتك لئلا بعد منصرف الأخ تتندم على الأشياء التي أنفقتها، بل قدم سلائق بمحبة من أن تقدم مسمنات بتوجع لأن اللـه يحب المعطي مستبشراً.

(33) وعنيت بِهذه أيها الأخ لا كمن يمنعكم قطع المحبة للغرباء بل ليكون قربانكم مقبولاً حسناً وبلا عيب كما يعلم القائل: أضيفوا بعضكم بعضاً بلا تذمر، وعن محبة الضيافة ما تحتاجون أن أكتب إليكم لأنكم قد علمتم أن ضيافة الغرباء هي أفضل من فضائل كثيرة لأن إبراهيم رئيس الآباء بِها أضاف الملائكة. ولوط الصديق بِها لم يهلك في انقلاب السدوميين، وكذلك راحاب الزانية لم تَهلك مع العصاة حين قبلت الجاسوسان بسلام. لأن المسيح يقول: كنت غريباً فأويتموني، والطوبى للرحومين فإنَهم سيرحمون.

(34) أيها الحبيب إن زارك أخ وأقمتم كلاكما تقضيان صلاتكما المألوفة وأمرت الأخ أن يقول شيئاً يسيراً ظاهراً مما قد حفظه إن استعفى مرة وثانية إلى الثالثة فلا تستكرهه لأنه يوجد كثيرين ما يعرفون أن يكرزوا الفضيلة بالقول بل بالعمل فبهذا تسر قلب أخيك لأن الخصومة ما تكون طريقاً إلى الفضيلة بل يختصها أن تنهض غضباً.

(35) إن تعهدت مريضاً فأحرص ألا يلقي العدو بينكما كلاماً بطالاً أو وقيعة لئلا تخسر ثوابك لأن المحتال له مثل هذه العادة أن يخسر واحداً بالسمع وآخر باللسان بل يجب أن تعزي العليل من الكتب الإلهية ومن آلام المخلص.

(36) أيها الحبيب إن زارك أخ غريب فعاونه بمقدار طاقتك لتكون مساعد محبة الضيافة والرب يمهد طرقك.

(37) أيها الحبيب إن خرجت مع أخوتك إلى العمل فساعد أضعفهم قوة بمقدار قوتك التي وهبها لك اللـه عالماً إنك من اللـه تأخذ ثواب التعب والترثي، وإن كنت ضعيف القوة وعليل فلا تشاء أن تتكلم كثيراً فتأمر وترتب متجاسراً، بل أختار أن تصمت وتَهدأ، والرب إذا رأى تواضعك يقنع قلوب أخوتك ألا يضعوا عليك ثقلاً.

(38) الساكنون بتفرد يطوبون الذين في الكنوبيات لأنَهم يسيرون سيرة لا يغلب فيها، والذين في الكنوبيات يغبطون المتوحدين ولا سيما السائرين بالتواني والمنقلبين في الضجر أما التام بالفكر يظفر بسهولة سهام العدو لأن ألم محبة الفضة هو كلي الرداءة حتى أنه يصير أصل كافة الشرور فيجب أن نعرف بماذا نقتلع أصله بأن يكون اتكال الإنسان على الله بكل قلبه ونفسه.

(39) أيها الأخ إن كنت قوياً في عملك وتعمل الأعمال العظيمة والكثيرة والموسرة فلا تتشامخ بِهذا، ولا تستحقر الأخوة الذين هم أضعف منك قوة، فإنك ما تكمل الفضيلة بِهذا بل الأولى بك أن تكرم اللـه وتتقيه ليرزقك إلى النهاية القوة، لأن بطالين هم المتوكلين على قوتِهم، أما المفتخر فليفتخر بالرب.

(40) ما يجب أن تحسد الأخ على نجاحه لأننا أعضاء لجسد المسيح، أيها الراهب إن اشتكاك رئيسك والذي يعطيك العمل من أجل إثارة تحسين العمل، فلا تحتمل التوبيخ بتثقل بل أولى بنا أن نحسن جودته أكثر بضمير صالح لكي ما الذي يبيعه والذي يبتاعه يشكران كلاهما اللـه، وتقول للفكر: أترى إن مضينا نبتاع إناء أو ثوباً أما كنا نحرص من أجل جودته، فمن الآن نجود نحن العمل من أجل الضمير.

(41) نحن يا أحبائي كما يليق بالذين وثق بِهم على التدبير لنحمل أثقال الضعفاء لأن المخلص قال: إن الأقوياء لا يحتاجون طبيباً بل الذين هم بأسوء حال.

(42) يا أحبائي إن صعب علينا رؤساؤنا كما قد قدمنا لكننا نحن نخدم بضمير صالح كمن يخدم الرب لا الناس عالمين أننا من الرب نأخذ الثواب.

(43) سبيل الراهب أن يكون عاقلاً وديعاً ليعرف الخواطر الواردة إليه من المضاد لكي ما بعضها بتبسم وبعضها بتواضع وبعضها يردها بقول مغلق.

(44) أيها الحبيب إن أنْهض العدو أخاً أن يشتمك ويضايقك فيقول: أيها الشيخ الردئ، أو يا ردئ النهاية. فأحتمل السب بتمهل لأننا قد قبلنا بالفكر الشتائم من أجل السلامة والصلح، فعوض يا ردئ الشيخوخة تصير حسن الشيخوخة، وبدل يا ردئ النهاية تصير حسن المنقلب لأن عبد الرب ما سبيله أن يخاصم بل يكون وديعاً لدى الرب.

(45) أخ أخطرت له الأفكار في وقت السهر قائلة: أرح اليوم ذاتك ولا تقوم إلى السهر. فأجاب الفكر: أعتقد أنك أمس لم تقم وسبيلك اليوم أن تقوم. ومن أجل العمل أخطر له: أرح اليوم نفسك وغداً تعمل. فأجابَهم قائلاً: لا بل اليوم نعمل واللـه يهتم بالغد.

(46) أيها الحبيب إن اقتنيت المحبة مع أحد وتيقنت أنه يتقي اللـه بالحقيقة كما يقول الرب: من أثمارهم تعرفونَهم. فلا تتخذ عنه ظناً خبيثاً وأن تتيقظ في كل حين فذلك هو الصالح.

(47) إن شاء أخ أن يكون له معك صداقة جزافاً ودالة غير مرضية للـه فأحفظ ذاتك من مثل هذا جداً ولا تعمل معه دالة أصلاً. إذا بدأ يظهر شوقه المكتوم إما بتبسم وإما بضحك مرائياً بالطاعة مريداً أن يعرقلك فلا ترح فكرك بإزاء جهالة ذاك بل أنظر إليه بعين صارمة حتى يعرف الأساس الصالح الموضوع فيك، وبِهذا إما يذيل العزم الخبيث وينقله وإما ينقبض عنك.

(48) أيها الحبيب إن تشجعت على الذين يرومون أن يسرقوا أتعاب عملك فأحذر آلا يكون أحد يتغاير من تحت ستر قد جاء يعرقلك، لكن سوم فكرك لكي ما بإزاء الجهة التي ترى الرياح منها تعد الآلة بإزائها لكي ما تتخلص المركب إلى ميناء الحياة.

(49) من يغرس له مقثاة فلا ينظر ثمرها فكم يجب أكثر أن تحفظ الطهارة والعفة، أمقت محادثة الناس الوادين اللذات لأنه قد كتب: أمر مرهوب هو أن يقع الإنسان في يدي اللـه الحي، أو من انجرح وقت ما من أفعى لدغته فلا يحفظ ذاته ألا يقترب من جحرها فإن أدخل بعد اللدغة والجراح يده في عشها فثنت ( جرحته ثانياً ) له الجراح، ترى من صار علة الموت الحية النافثة بالسم أم الذي لم يحفظ ذاته، فأنت تعرف القول.

(50) الروح القدس يوضح للإنسان أين هي الطريقة الصالحة وأين هي التي ليست صالحة، ويعرفه أيضاً ماذا قد خبأت الطريقة الخبيثة حتى إذا عرف الإنسان مجازات الأثنتين كلتاهما يهرب من المضرة، وإن كان بعد أن يعرف لا يهرب. فأي عذر له يوم الدينونة. تزين الثياب، عين طموحة، وعنق منتصب، ومنكبان مكشوفان، ورجلان يسيران سيراً الحياة يستدعي الموت، مغبوط من يهتم بمنفعة وخلاص رفيقه فإنه لا ينفصل من ملكوت السموات مع صانعي الشكوك بل يكون مسكنه مع الذين أرضوا المسيح الذي له المجد إلى الأبد آمـين.

(51) أوصي والديك بالجسد أن لا يكثروا المجئ إليك لأنَهم يثنون فضائلك قدامك ويحلون فكرك ويعلمونك مع هذا آلا تمسك، يكفي دفعة أو دفعتين في السنة أن يفتقدوك، وإن قطعة بالجملة المحادثة التي لا تنفع فستعمل عملاً مفضلاً، كثرة الأكل والشرب تمنح لذة في الوقت الحاضر وفي اليوم المقبل تمنح الفكر اغتماماً وانحلالاً.

(52) إن عرض لك أن تسقط في مرض فلا تكاتب بمداومة والديك بالجسد ولا تَهرب إلى معونة مائتة وتعهد بشري بل أليق بنا أن نطيل أناتنا منتظرين رحمة الرب ليدبرنا في كل شئ لأنه قد يكون أوان يحتاج فيه الجسد إلى أدب فلنرضِ اللـه في كل حين وفي كل العوارض ومضاداتَها فإن اللـه هو
المهتم بنا.

(53) أخ مرض وقت ما فكلف ذاته أن يعمل ويكفي ذاته في قلايته منفرداً متضرعاً إلى الرب أن يمنحه عافية، ثم قال أيضاً في نفسه: ويلي أنا المتواني، نفسي كل ساعة سقيمة ولست أهتم بعافيتها لأنه في حين تألم جسدي يسيراً طلبت من الرب بدموع الشفاء، ثم قال: أيها الرب يسوع المسيح أشفِ نفسي وجسدي لئلا أصير ثقلاً على الأخوة ولست أقول هذا معتقداً أن الإنسان يغتذي يارب من قوته لأنك أنت إن لم ترزق أنت أيها السيد حوائجه والأشياء التي تكفيه فالإنسان ليس هو شيئاً بل يا سيدي هب لي أنا عبدك البطال الصحة فإنك أنت هو إله التوابين وفيَّ توضح كل خيريتك. فبرئ وهو ماسك بيده العمل وقال قول الرسول: إذا مرضت فحينئذ أصير قوياً. هذا القول فيَّ قد كمل. لأن بالحقيقة إذا مرض الإنسان فإن نفسه تبتغي الرب ابتغاء يفوق الكثرة، صالح هو الأدب إن شكر المؤدب فمن هو هكذا فليقل إن كنا قد قبلنا الخيرات من الرب أفما نحتمل الاسواء، ليكن اسم الرب مبارك إلى الدهور آمـين.

(54) أيها الحبيب إن جلست بعد القانون فلا يغلبك الضجر بأن تبطل ثاني وثالث الأسبوع، لأن هكذا يعرض لقوم في الكنوبيون، لأنه يطرح في فكر الراهب أن يبطل ثاني وثالث الأسبوع ويتركه باقي أيام الأسبوع يتعصر بالأفكار إلى نَهاية العمل، فأنت فُقْ أيها الحبيب في كل شئ لئلا يجد المقاوم ولا شيئاً واحداً يغمك به، جاهد في نَهار اليوم ولا يربط عقلك بالاهتمام والحزن فيشتغل في الصلاة.

(55) إذا زهد أحد في العالم وخرج إلى الأخوة وأبتدأ يصنع مبادئ يحاربه الخبيث بشهوة الإسكيم قبل أوانه حتى إذا لم يحتمل الأخوة تجئ له الشهوة فيهرب من الميدان. فإن صبر إلى أن يأخذ الإسكيم يخطر له أن يخرج من الكنوبيون ويسكن منفرداً ويجتلب له في ذهنه مثل هذه النتائج، زعم أخرج من هاهنا وأسكن بتفرد وأعمل عملاً قليلاً لأنك ضعيف، لأنك لا يمكنك احتمال تعب هذا العمل، وإن خرج الأخ غير محتمل تعب النسك بشهامة يجد أتعاباً متكاثرة كثيراً، وإن عرض أن يصيبه مرض يندم أيضاً، وأيضاً على أنه ترك موضعه.

(56) أخ آخر يعطيه الخبيث نشاطاً في النسك وتقشف سيرة في نِهاية الصعوبة وبعد زمن يسير يبدأ يأتي له بأن الزمن طويل وأن هناك تعب، وهو لا يستطيع أن يصبر إلى النهاية في هذه الصعوبة، ربما يعرض منه أخيراً مرض الجسد، فإن كانت نفس الأخ ظامئة للخلاص لا يثق بنفسه في تمييز الأفكار الخادعة بل يذعن لوعظ ومشورة الناس المجربين والمتقين الرب فيصد عنه انتصاب الأفكار وإن لم يكن هذا يستعمل الفضيلة يجني فيه الآلام ويرتبط بالنسك غير مؤثر أن يكون مع الأخوة نظرا نفسه في الموضع لكي ما يستعمل الشهوة كما يشاء لكن مثل هؤلاء يخزون في السقوط لأنَهم إنما نسكوا الفضيلة لاسترضاء الناس ولأن اساسهم لم يكن مبني على الصخرة بل على الرمل فلذلك حين جاء المطر منحدراً والأنْهار، وهبت الرياح وفسخته بالأفكار سقط لأنَهم حين ظنوا أنَهم اقتنوا الفضيلة حصلوا متشامخين بكبرياء جزيل، وحين سقطوا دفعوا ذاتَهم إلى اليأس الذي ما يجب الجنوح إليه، لأنه قد كتب قال الرب هل من سقط لا ينهض، ولست أشاء موت الخاطئ كما أشاء أن يعود فأحييه، أما السائر بما يشاء اللـه إن قوم الفضيلة فما يتشامخ وما يترفع مكرر التفكر في عظمة الرب وأنه واضع ذاته وصار طائعاً إلى الموت موت الصليب بل وينزهل من أتقاء الموت كما يعلم القائل: أحسب ذاتي تراباً ورماداً. فالفضيلة تضاهي برفير المملكة لا يمكن أن ينسج فيه شئ من الأنواع الغريبة، فالذي يريد أن يتنسك كما يشاء اللـه لا يفضي إلى سقطة صعبة، وإن تحرك إلى هفوة بما أنه إنسان لكن اللـه إذ قد عرف عدم قلبه للشر يثبت نفسه ويعضدها بعظات عبيده، أما من يُوعَظ فيجاوب يضاهي فرساً صعباً لا يرهب العنان إلى أن يكردس راكبه لأن القاسي القلب يسقط في المساوئ.

(57) من يضجع في خلاصه وفي العمل في الكنوبيون يصير مثال للونية لأخوة كثيرين، أما المهتم بخلاصه يؤهل لشرف عظيم في السموات لأنه صار مثالاً صالحاً في العالم الآخر وأستنهض نشاط الأخوة المتوانين إلى تقويم الفضائل، لأنه كما في مصاف الحرب المبارز أولاً له كرامة عند الكل هكذا يكرم اللـه كل من يتيقظ في عمله لأن له المجد إلى الدهور آمـين.

(58) لا يخادعك الفكر أيها الراهب إذا أخطأت وفعلت ما لا يجب فتتعظم وتقول: ولو عمل الراهب شروراً كثيرة هو أفضل من العلماني. لأنه قد كتب ليس من يثبت أمر نفسه هو المختبر المهذب، بل من يثبت أمره الرب فأنت أولاً أفحص أعمالك إن كنت بالحقيقة قد قومت سيرة زاهد، إذ قد رفعت ذاتك، إن كنت غلبت الشهوة وأحببت المسكنة، إن كنت أبغضت الوقيعة ولم تحب السبح الباطل، إن كنت مقت الخطية ورفضت اللذة، إن كنت لم تؤذي أحداً وغلبت الآلام، أو إن كنت إذا شتمت لم تسخط ومدحت، لِمَ تترفع إن كنت أحببت الرب بكل قلبك وقوتك وقريبك كنفسك، فإن كنا ما حفظنا هذه فلِمَ نعظم كلامنا حيث واجباً علينا أن نبلي قدام خيريته ليشفي قساوة قلوبنا ويجعلنا مستحقين أن نسير السيرة المصنفة فضائلها، الويل لذلك الراهب الذي قد أضاع الورع ويتشجع بالخمر فإنه إن لم يتيقظ سبيله أن يُنتحب عليه في أواخره بمرارة، ومن يحفظ طرقه سيرث بالرب مجداً لأنه لا ينبغي أن يضع خرقاً على الجديد. وعظهم ألا يذهبوا من عند من هم أعظم منهم إلى آخر، إن ميزان الأعراض عنه واجب لأن مكامن المحال كثيرة لأنه لا يجب أن يعطى الصبي دالة أن يدل مع الأخوة بل الأوجب أن يكون في سكوت وطاعة وما ينبغي أن يشكك المتقدمون الصغار جداً ويصيروا لهم  مثالاً للسيرة الرديئة، لأنه قد كتب: الويل لمن يسقي قريبه كدراً. بل يجب أن نصير مثالاً للمؤمنين ولا سبيل للمريد أن يخلص أن يصغي إلى هفوات الأجنبيين بل يصغي إلى ذاته، لأنه قد كتب لهذا نقدم الإثار إن كنا حاضرين أو غائبين أن نكون مرضيين له، لأننا كلنا يجب علينا أن نظهر أمام منبر المسيح ليحتضن كل أحد الأعمال التي عملها بالجسد إن صالحة وإن طالحة، من لا يتواضع لمن هو أكبر منه كما يجب فليحتمل ضعف المبتدئ حتى بِهذا التعب يحفظ أتعاب الزمان المستأنف إذ الرسول يقول: سبيلنا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء ولا نرضي ذاتنا، فكل واحد منا فليرضِ قريبه في  الخير .

(59) ما يثبت الراهب في موضع ما ولا يجد راحة إن لم يحب أولاً الصمت والحمية لأن الصمت يعلم السكوت والصلاة الدائمة والمسك يجعل الفكر غير منغلب ولا متجاذب وأخيراً من يتمسك بِهما يصير في سجية سلامية.

(60) في أوان التجربة تظهر دربة المؤمن فما يجب أن نضجر في وقت المحنة بل نتيقظ في الصلوات وبذل الصدقة، وكما أن الذين يركبون البحر يتيقظون إذا دهمهم الشتاء الشديد ويسهرون سهراً مفرطاً ويستغيثون بالرب كما هو مكتوب في يونان النبي وعطب المركب وبدأ يتكسر وخافوا النواتية وهتف كل واحد منهم لإلهه وبدأ كلهم يلقوا في البحر الأواني التي كانت في المركب الأمر الذي هو نموذج للزهد في الأمور الأرضية لأنه واجب أن نَهون بالأمور الأرضية العالمية ونصنع لنا عوضها الحياة الأبدية ولا نيأس من ذاتنا إذا عرضت لنا محنة لأننا نشاهد النبي وهو في بطن الحوت محبوساً ولم ييأس من خلاصه بل ثبت مصلياً قائلاً: هتفت من بطن الحوت للرب إلهي فأستجاب لي، من جوف الجحيم صراخي، سمعت صوتي لأن الرب لم يعرض عن المستغيثين به بالحقيقة، فمنذ الآن نحن إذا عرض لنا حزن فلنهرب إلى الرب. كما يقول القائل يارب في الحزن ذكرناك لأن البحر لا يسكن ويهدأ دائماً ولا يمكن بغير محنة أن نسبح هذا العمر الحاضر فإن تمسكنا بالإيمان بالرب كمقبض الرب فستدخلنا إلى ميناء الحياة فلنطرح التعب ونلبس الحياة وعدم البلى.

(61) أيها الحبيب إن أذاك روح الضجر فلا تسقط بل تضرع إلي الرب فيمنحك طول الروح وبعد الصلاة أجلس وأجمع فكرك وعزِ نفسك كما يأمر القائل: لِمَ أنتِ مغمومة يا نفسِ ولِمَ تقلقي توكلي على الرب فأنني شاكراً له، خلاص وجهي هو إلهي. وقل لِمَ تسأمي يا نفسي هل ينبغي لنا أن نسكن في هذا العالم دائماً. وأسمع القائل: إنما أنا ساكن في الأرض وضيف مثل كافة آبائي. أخطر ببالك الذي تقدم سكناهم في الدير الذي أنت ساكنهُ الآن وتأمل وأنظر أنه كما أنصرف أولئك من هذا الدهر هكذا نحن بلا شك بمشيئة اللـه نرتحل وننصرف أما حياة الصديقين فهي بعد الوفاة، فلذلك لما أشتاق النبي إلى الحياة المستأنفة هتف قائلاً: كما يتوق الآيل إلى ينابيع المياه هكذا تشتاق لك نفسي يا اللـه. متى أجئ فأظهر لوجه اللـه لأن القديسين كانوا يحتسبون هذا العمر الحاضر مثل سجن فلهذا يقول في فصل آخر الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام. هكذا الرسول كان يشتهي أن ينصرف ويكون مع المسيح.

(62) أخوان من الشيوخ كان لكل منهما حزن مع الآخر، فأتفق أن أحدهما مرض فذهب أحد الأخوة يفتقد الشيخ، فتضرع الشيخ إلى الأخ قائلاً: أن بيني وبين فلان الشيخ خصومة وكنت أؤثر أن أعزيه وأستعطفه لكي ما نتصادق أيضاً، ياليت أمكنني صلاحاً بأحد. فقال الأخ: إن أمرتني أيها المعلم فأنا أمضي وأعزيه وأفديه. فخرج الأخ وأفتكر في ذاته لعل ما يقبل الشيخ التضرع والتعزية فتصير منافرة أكثر، فبتدبير من اللـه جاب له واحد من الأخوة خمس تينات وتوتاً يسيراً فأنتخب الأخ تينة واحدة، ومن التوت قليلاً وحمل ذلك إلى الشيخ إلى قلايته وقال له: هذه البركة أهداها إنسان للشيخ أخاه. فقال لى: خذها فأعطيها للشيخ، فإذ سمع الشيخ هذه الكلمات صار باهتاً، وقال: هذه لي أرسلها. فقال الأخ: نعم. فأخذها قائلاً: حسناً أقبلت. وبعد انصراف الأخ من عند الشيخ مضى إلى قلايته وأخذ أيضاً تيناً وقليلاً من التوت وحمله إلى الشيخ وركع سجدة وقال: أقبل هذه يا معلم أرسلها لك فلان الشيخ. فأجاب وقال: هل تصادقنا ؟ فقال له الأخ: نعم يا معلم. فقال له الشيخ: المجد للـه، وتصادقا الشيخان بنعمة اللـه وعادا إلى المصالحة بثلاثة تينات وتوت قليل ولم يعلم الشيخان بما فعله الأخ.

(63) في كنوبيون لما احتاجوا إلى أحد الأخوة للرئاسة فأختار الرئيس أخاً ما كما أراد فلما أعتزم الأخ أن يترك قلايته أستودع آلاتِها لأخ آخر قائلاً: إن عرض لي أن أرجع تردها لي. فعاهده الأخ أن يعطيه إياها، وليس بعد زمان كثير رجع الأخ من الرئاسة قائلاً: أنني في هدوء قلايتي أتنيح أكثر. وقال للأخ أعطيني الآله التي استودعتك إياها. فلم يشأ ذلك أن يعطيه إياها، فلما أبصر الأخ أنه قد أحتد غير مريد أن يعطيه شيئاً سكت فتضرع إليه أخ آخر قائلاً: أعمل محبة وإن كان الأخ قد أودعك شيئاً فلا تعدمه إياه لئلا يطرحك الحكام خارجاً. قال لهذا: ما له عندي شئ. وبعد خمسة أيام أو أكثر تداخلت أفكار الأخ الذي أخذ الأواني وبحزن كثير خرج من الكنوبيون لأن الرئيس وعظه كثيراً ألا يخرج من الدير، فشتمه وخرج وأن الأقنوم بأمر الرئيس فتح قلايته وقسم الأواني التي فيها على الأخوة وبعد أيام يسيرة تندم الأخ وعاد إلى موضعه فوجد قلايته مفتوحة والآلة التي كانت فيها قد فرقت فحزن جداً ولم يتباطأ أن استوفى ما عمله في الأخ.

(64) أخ سأل أخ ما قائلاً: المعلم قد رتبني على قطع الخبز، أصنع الخبز للأخوة،  والفعلة هم علمانيون يتكلمون أقوالاً لا تجب وما أنتفع إذا سمعتها فماذا أصنع ؟ فأجابه قائلاً: أما رأيت صبياناً يتعلمون الكتابة بين الكثرة وكل واحد منهم يدرس في الشئ الذي تعلمه لا في علم رفيقه عالماً أن الفصل الذي كتب له ذاك يحكمه على المعلم لا ما قد أملى على رفيقه، إن كنت تغلب من الآلام فأسمع القائل: اختبروا الأشياء كلها وأمسكوا بالجيد، ومن تكثر أقواله بين الكثيرين يكثر الخصام ومقتاً لنفسه، ومن يشفق على شفتيه يجب نور عظيم في النفس، مخافة اللـه تطرد منها الظلمة وتجعلها صافية نقية.

(65) يا أخوتي فلنجود العمل بالصلاة فإن ثواباً هو إن أكملنا العمل بلا غش لأن من يتوانى في عمله من محك أو محبة اللذات أو محبة الفضة يسمع المكتوب نظير عمل أيديهم أعطيهم، ومن يعمل بضمير صالح كأنه للـه يخدم ليس للناس، ويؤهل لذلك الصوت المبارك حسناً أيها العبد الصالح والأمين إذ صرت أميناً على الأشياء اليسيرة لأقيمنك على الحظوظ الجزيلة أدخل إلى سرور ربك، إن زهدت في العالم وخرجت من أرضك ومن ذوي جنسك ونيحك الرب إلهك في المكان الذي تعتزم أن تسكن فيه فلا تشأ فيما بعد أن تخرج لك اسماً في الموضع ولو كنت رئيساً ومعظماً جداً في أرضك بل قل لفكرك كما قال النبي: أنا مسكين وفقير اللهم أعني ليعضدك اللـه ويعليك.

(66) لِمَ تصغر نفس الأخ في قلايته ؟ عندما تدوم النفس تتخيل في الأمور الأرضية وتكون شهوات هذا العالم واللذات الباطلة الداخلة إلى النفس، فالأفكار يحلون قوتِها فمن هاهنا يسأم الأخ إذا جلس في قلايته. وإن مقت هذا العالم وطغيانه وأوقف ذاته للرب عبداً بكل قلبه وبكل نفسه ما يقوى عليه صغر النفس، ويعمل بعد ذلك عمله بنياح، والصراع يجئ بإزاء السبح الباطل وهذا يطرده عبد الرب إذا كرر التفكر في ضعف طبيعته، ولمن هي الموهبة كما يعلم القائل: ماذا لك لم تأخذه، وإن كنت قد أخذت فلِمَ تفتخر كمن لم تأخذ. هذا الصراع هو بإزاء ضعف الجسد وعبد الرب لا ينذهل ولا يفصل ذاته من محبة اللـه، كما يذكر القائل: ماذا يفصلنا عن محبة اللـه غم أم ضيق أو طرد أو جوع أو عري وتوابعه فكافة الآلام تتبع روح الزنا، أهرب من الأقوال القبيحة فتهرب الأفكار الدنسة. إن أمرنا المتقدمون علينا أن نخرج مع الأخوة إلى العمل فلنبادر بنشاط ولا نماثل المضجعين لأن من يكون قوياً على العمل وما يتعب يخسر ذاته على أنحاء كثيرة أولها يعدم ثوابه وثانيها قد أعطى حجة للتذمر والغتياب عاملاً محبة الذات، فما ينبغي للحريص أن يصغي إلى الأفكار الوانية التضجيعية ما يقول أحد قط في الحصاد لرفيقه لا يجمع له حنطة لأنني أنا ما أجمع لي شيئاً فلا تجمع أنت لك بل كل واحد كما يمكنه الوقت يجمع له ولدوابه طعاماً ليبقيا غير محتاج فإن يكن في الأمور البشرية مثل هذا الحرص أما الأوجب أن يكون لنا الحرص في الروحانيات أكثر.

(67) أمر حسن أن نقدم الإكرام للشيوخ، وعمل صالح أن نتوجع للمرضى والضعفاء لأن الشيوخ الحكماء أرتياض الأخوة في توطيد النفس، بدء الكبرياء ألا يتعب الإنسان مع أخوته بحسب طاقته، وإذا ذهبنا إلى العمل فلا نكثر الكلام بل فليكن حرصنا في الأمر الذي خرجنا من أجله، عدم التقوى يولد الكبرياء، والكبرياء هي أم عدم الخضوع، والتواضع والوداعة ينجيا من يقتنيهما في مخافة اللـه مثل أسطوانة متوطدة في هيكل الرب.

(68) أمر غير موافق للراهب أن يكون له مصاحبة مع امرأة، أما مع بتول فلا تقترب منها بالكلية إن كان فيك عقل بشري، لأن الراهب الذي يعاشر النساء على النبيذ ما يفصل ذاته شئ عن من يزج ذاته في النار، ومن يهرب من محادثتهن يهرب كالغزال من الوهق، وكالطائر من الشرك.

(69) أيها الأخ أعمل في حداثتك لكي لا تندم في أواخرك لا يماثل قلبك الناس الخطاة لأنه قد كتب: لا تنافس الأشرار ولا تباري الذين يعملون الإثم فإنَهم كالحشيش يجفون سريعاً وكبقل الخضرة يتتابعون وشيكاً توكل على الرب وأعمل صلاحاً.

(70) أيها الأخ إن سار أخوك سيرة رديئة فعظه قائلاً: كُفْ أيها الأخ فهذه السيرة لا توافقك. وأخطر له نموذجاً واحداً من الذين سقطوا لا كمن يعير بِهفوة بل لتنفع الحاضر، لكي ما إذا عاين العطب التابع الأمر يهرب من السقطة، وأستحضر الذين أرضوا الرب وقيس له مجازات الفريقين كلاهما، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك وإن أصر على عزمه، ووعظ من آخرين ولا يذعن مكملاً أفعال التهاون، فأحفظ نفسك منه وأبتهل إلى الرب من أجله كما يأمر القائل: إن كان أحد لا يطيع قولنا في الرسالة فإفرزوه ولا تخالطوه، ولا تحسبونه كعدو بل عظوه مثل أخ.

(71) من ذا الذي قد أبصر وقتاً ما إنساناً آخر مجتازاً في طريق فسقط فيها إلى الموت فلا يهرب من تلك الطريق لئلا يتكردس في تلك السقطة نفسها.

(72) لا تتطلع أيها الأخ بشبع البطن ولا تسكر بالخمر الذي فيه نَهم الشهوة فما لك في ذلك فائدة إلا في أن تعمل مشيئة الرب، أيها الأخ أحفظ طهارة الجسد فإنك إن حفظتها بمحبة المسيح يمكنك أن تقوم بسهولة كل فضيلة لأن الروح القدس الساكن فيك يسر بك لأنك تبخر هيكل اللـه بالطهارة وبالنية المستقيمة ومن أجل هذا تؤيدك في كل عمل صالح هذه الثلاثة هي أداة لتقويم الفضائل والطهارة الإلهية مسك البطن وصيانة اللسان وألجام العينين إن حفظت الاثنتين ولا تحفظ نظرك ألا يطمح فلست ماسكاً للطهارة خالصاً ومثل المستقى المكسور يضيع الماء كذلك العينان الطامحتان يهلكان العقل العفيف، إذا صعدت شهوة الطعام على ذهنك فقل لفكرك أحسب أنك أمس قد تمتعت بِهذا الطعام أما قد حصلت اليوم صائماً وإن أخطر لك أن تتسلى بكلام لا ينفع فقل لفكرك أحسب أنك منذ أمس قد سألت عنه وأجبت فأصمت، وإن أخطر لك اشتهاء التنزه فقل للفكر من أجل هذا حصلت هاهنا لئلا تتأمل جمالاً غريباً أصغِ إلى ذاتك ولا تضجع ليصير ذهنك متأملاً في مخافة اللـه كما يأمر القائل: يجن من خوفك في لحماتي فإنني من حكوماتك خشيت.

(73) وأشعر أن موافقاً للراهب أن لا يخرج من قلايته خلواً من غطاء على ظهره أو لبس آخر فإن ذلك يمنحه وقاراً ونزاهة لأن من يتعرى من لبس طقوس الرهبنة ويمشي متصابياً فذلك خزي له لأنه قد كتب أئتزر وألبس نعليك وألبس ثوبك واتبعني.

(74) وما ينبغي للراهب أن يغسل جسده أو رجليه غسل بتألم كما أن المحبين الذات بتنظيف الجسم والثياب يقتنصون لأنفسهم اللذات هكذا مجاهدي الديانة البهية يصافف بإزاء تلك المضادين.

(75) ولا يجب أن يعمل شيئاً لإظهاره للناس بل كل شئ فليُعمل بقلب نقي لأن اللـه عارف المكتومات والخفيات ونأمل أن نأخذ منه وحده المجازاة.

(76) ولا ينبغي أن تقول حديثاً غريباً ولا سيما وقت الصلاة الجامعة لئلا تمنع آخرين قطعاً عن التسبيح، فها أخوتنا يعملون ونحن بطالون أولئك إذا سمعوا الكتب الإلهية يسقون منها قلوبَهم مثل أرض ظامئة إلى المطر ونحن نكون داخل ونطمح بالفكر خارجاً، أولئك يتيقظون ونحن نتوانى، أولئك يسهرون بالصلوات ونحن قد ربطتنا ذاتنا بالنوم والكسل، أولئك قد أخذوا الإكليل ونحن قد بقينا في ونيتنا، أولئك قد أرضوا الرب ونحن قد أرضينا العالم، فمنذ الآن لنتيقظ نحن لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له لأن الرب صالح للكل معاً ورأفاته على سائر براياه الذي له المجد إلى الأبد آمـين.

(77) أتقِ اللـه أيها الحبيب وأحفظ وصاياه فتعاين الذين يحتقرونك وراءك بسرعة، وإن لم يكن لك ذلك ها هنا لكن سيكون لك هناك، أحفظ المحبة مثل حدقتي عينيك فإن النور والحياة فيهما، أحفظها فإنَها سرور لكافة من يقتنيها، هي قنية إلهية، مرتبة ملائكية، أحفظها فإنك إن أحببتها ستجدد حياتك كتجدد النسر، إن حفظتها ستكون لك بَهجة قدام اللـه، إن أحببتها سَتُيَسر طرقك في جميع أعمالك، إن أحببتها تُسكن فيك نعمة اللـه، كعين نابعة أشفية للناس وطيب نسيمها يسر قلبك، لأنَها هي قاعدة لكل الفضائل ليس فيها حزن الموت، تُعَلِم العدل والشجاعة، الصبر والسلامة، هي بيت أحفظها فالرب نفسه يعطينا إياها وأثمارها الذي له المجد إلى الأبد آمـين.

(78) يا أحبائي لنحب بعضنا بعضاً ليخزى عدونا لأنه لا يستريح إلا عندما ينهض غيرة وحسد على عبيد اللـه لأن الذين يتبعون رأي العدو إذا أبصروا بينهم أخاً يخدم الرب من صميم نفسه مُرضياً له، لا يرضون به بل ينهضون عليه حيلاً ليطردوه، ويخافون منه أن ينجح في التورع الخالص فيصير أقوى منهم، فإذا طُرد هذا وانصرف يكون مبرأ من تبعة الانفصال، أما الذين كانوا سبباً له فلا يكونوا أبرياء.

(79) هكذا بيع يوسف عبداً إلى مصر أما الإله الذي كان فيه فلم يتركه بل أعطاه نعمة وحكمة قدام فرعون ملك مصر، ونصبه مدبراً على مصر وعلى كافة قصره والذين حسدوه ذهبوا يسجدون له بِهدايا لا لأنه أخوهم بل لأنه ملك وسيد كافة أرض مصر لأنه قد كتب: الرب يشتت أراء الأمم ويخالف أفكار الشعوب، ويبدل روايات الرؤساء أما رأي الرب فيبقى إلى الأبد. وأيضاً: الرب لي معين فلا أخشى ماذا يصنع بي الإنسان.

(80) فلنحفظ ذاتنا يا أحبائي ألا نُعثر أحد من هؤلاء الصغار إذ ربنا يسوع المسيح يقول: لقد كان الأجود له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر من أن يعثر واحداً من هؤلاء الصغار المؤمنين بي، وأيضاً: احذروا ألا تستهونوا بأحد هؤلاء الصغار فإني أقول لكم حقاً إن ملائكتهم يرون وجه أبي الذي في السموات كل حين.

(81) فلذلك يا أخوتي فلنحب بعضنا بعضاً حتى إذا أبصر الرب أمانتنا وألفتنا التي بِها يتآلف بعضنا بعض بمخافته فيفرح بنا كما كتب: يفرح الرب بأعماله. تيقظ أيها الأخ وأصغِ إلى ذاتك فإن حيل المحال كثيرة لأن العدو إن رأى أخاً يريد أن يتيقظ ينهض عليه أخ من المتوانين كثيراً حتى ربما يضع يده عليه، ثم إذا صار بينهما صداقة يكثر الغاش المحبة والتودد والدالة بين أحدهما والآخر لا من أجل فضيلة بل لكي ما بمثل وفور هذه المصادقة يكدر أفكارهما ويمزجها بإلتذاذ الألم، ويصير شراً عظيماً، وبعد الملامة (يعني بالملامة لوم الضمير) على افتعال الخطيئة ربما يكثر البغض بِهذا المقدار نظير ما نشأ بينهما قبل ذلك بقليل من المحبة الغير موافقة، أما المتقي الرب فما يحب قط محبة خالية من الحكمة التي من العلي أولاً هي طاهرة ثم مسالمة وتوابع الفصل.

(82) إذا سكنت مع الأخوة فلا تتعود أن تأمر بل الأولى أن تصير لهم مثلاً للأعمال الحسنة مطيعاً للأقوال التي لك من آخرين، فإن دعت الحاجة أن تتكلم فصر مثل من يشير، وإن جاوب أخ آخر وقاوم أقوالك فلا تنغلب بالذهن بل أترك مشيئتك من أجل المحبة والسلامة، فإنك إن طرحت بالوداعة غيظ الغضب الشيطاني فما يتسلط عليك، وقل فيما بعد للذي قاوم أقوالك: أما أنا أيها المبارك تكلمت كما يليق بأمي وهكذا قصدي، فأغفر لغباوتي، وليصر الأمر كما قلت أنت، وبِهذا يرتجع إلى وراء مسترخياً المحال المنشئ الهياج. لأن من يخاصم ويثبت مشيئته يُنهض شغباً وغضباً لا يشفى، والغضب في قلوب المنافقين يستريح، وطرق غضبه سقطةً له، والرسول يوصي قائلاً: عبد الرب ما سبيله أن يخاصم. ويقول أيضاً: طهارتكم يجب أن يبتعد من الزنا فإن جهاداً ليس بقليل بين الطهارة والطماثة فموأزروا الطماثة يثنون مثل هذه الأقوال، ويقولون: هيا ليس أحد يبصرك وممن تتورع، وأما مساعدوا الطهارة يجاوبونَهم هاهنا قائلين: اللـه ينظر وملائكته يبصرون فكيف تقول أنت من ذا يبصرك، والمجرب يقول: إلى الآن ما يبصرها هنا أحداً لأنه قد كتب: إن رذيلتهم أعمتهم فما عرفوا أسرار اللـه. وموأزروا الخير يخبرون الجواب. إن النبي يهتف ويقول: افقهوا أيها الجهال في الشعب وأيها الحمقاء اعقلوا وقتاً ما مَنْ نصب الأذن ألا يسمع. أو مَنْ جبل العين لا يتأمل. ويقول في مزمور آخر قد امتحنتني وعرفتني، أنت قد عرفت مجلسي ونِهوضي، أنت قد فطنت بأفكاري من بُعد، وتوابعه. والرسول يقول: إننا به نتحرك ونوجد. فكيف تقول أنت لا يبصرك أحد إذ الرب نفسه يقول: حقاً أقول لكم: إن صمت هؤلاء فستهتف الحجارة.

(83) هذه تذكرها في فكرك فما تستولى عليك خطيئة ولا يدركك حزن الخطيئة بل يشتملك السرور والسلامة بالروح القدس. لأن الخطيئة يلتقيها يتبعها حزن مظلم متهافت على الذين يصنعونَها.

أما الطهارة فيتبعها الفرح والسلامة حتى أن الجالس في هدوء قلايته هكذا يسر نفسه بالروح القدس، كما يفرح الطفل بثدي أمه، ثم بعد حضور الفرح أيضاً تجعله ينوح ويبكي ذكر الخطايا السالف كونَها لئلا بالسرور المتزايد يتنزه، ينتحب ويستنير بدموعه نفسه، ويتباهى متصوراً الأشياء السمائية على قدر موهبة الرب.

(84) لأن موهبة جسيمة الطهارة بمحبة المسيح إذ الرب يقول: طوبى لأنقياء القلب لأنَهم يبصرون اللـه، والرب نفسه منهض المتهشمين، ومخلص اليائسين، يعيد بالتوبة تجديد الأعضاء المتعتقة بالخطايا، ويحفظ بلا دنس جسمكم ونفسكم وروحكم الذي له المجد إلى آباد  الدهور آمـين.

(85) إن سكن الراهب صامتاً في قلايته ينجوا من إزعاجات كثيرة، أما المتصابي بمعقولاته إن قرب من الجموع ما ينتفع، أما التام بالفكر يستثمر المنفعة، ومن يصمت هادئاً أفضل منه.

مثل لما أقول * إن مشى الأخ في مدينة يلتقيه أُناس كثيرون فيبصر واحداً ضاحكاً، وآخر باكياً، وآخر يحلف بأقسام مستعظمة، وآخر يتحدث أحاديث قبيحة. فإذا أبصر الأخ هذه إن كان ضعيفاً بفكره فللحين يتذكر فصل الفريسي القائل: أشكرك يارب على أنني لستُ نظير هؤلاء الناس، أو ربما يخرج من هناك متألم الفكر فلذلك السكوت موافق ولا سيما للضعفاء.

(86) وأما التام بفكره إذا أبصر الأنواع المقدم ذكرها يفضي إلى الخيرة من طول أناة اللـه وما أطولها أنه يُذم ويُثلب فيحتمل بتمهل، ولا يسخط، ويهون به فيحكم، وما يضغطن حقداً، بل يمنحنا كل الخيرات بسعة للتمتع يؤدب ويرحم مريداً أن ينقظنا كلنا إلى التوبة بخيريته الجزيلة، ماذا أصنع أنا الخاطئ لأنني تراب ورماد، وما يمكنني أن أحتمل شيئاً بل لا أشاء، ولا كلمة أخي أحتملها لأنني إذ لا أُكْرَم أغتاظ وإذا قُدِمت أتشامخ، ويلي ويلي أنا الخاطئ، ويتشجع الأخ بِهذه التذكرات ويمضي ممجداً للـه
قائلاً: المجد لك أيها الصالح وحدك.

(87) يا أحبائي إن أزعجت الأفكار الدنسة وقتاً ما قلبنا فلا نيأس من ذاتنا بل فلنذكر رأفات اللـه، لأنه لا يشتكي رئيس المركب قط من فاعل مالك المركب قائلاً: لِمَ تركت الأمواج تصدم مركبي. بل يشتكيه قائلاً: لِمَ توانيت ولم تحارب الأمواج، ولماذا لم تَهرب لاجئاً إلى الميناء المنصوب الذي هو رأفة اللـه.

(88) إذا أنْهض العدو علينا هياج الأفكار الدنيئة التي لا يمكن أن تدخل إلى أذان الناس فإنه يرجع ويقول: هكذا قد أضعت كل شئ وليس لك رجاء خلاص مريداً أن يغرقنا في اليأس، فلا تصدق أنت أقواله لكي لا يذهل باليأس ذهنك لكن بمقدار ما يثقل أولئك باليأس بقدر ذلك فلنخفف نحن ذاتنا بالتأمل بالخيرات الأبدية متذكرين رأفات اللـه لكي لا يثقل علينا المضادون بإكثار ويغرقون النفس بالأفكار.

(89) وفي حال قولهم لنا: قد هلكت لا تستطيع أن تخلص ألبتة، فلنقل لهم: نحن لنا إله متحنن وطويل الأناة فلا نيأس من خلاصنا لأن الذي قال: لا تصفح للقريب سبع مرات فقط بل سبعين مرة سبعاً هو أولى بأكثر أن يصفح عن الخطايا للمنتظرين خلاصه. وإن سقط أولئك في هذه الجهة يتبادرون من جهة أخرى قائلين: إذ لكم إله متحنن ومتمهل وغافر الخطايا فلِمَ لا تستمتعون أكثر بلذات العالم ثم تتوبون. فنقول لهم: الذي عملناه قد عملناه. والآن إذ الكتاب يحذرنا ويناشدنا أنَها الساعة الأخيرة فإلى أية ساعة أو إلى أي يوم ننتظر إن تَهاونا بخلاصنا بافتعال الشر قدام إلهنا.

(90) هكذا قاتل الشيطان بتلون القتال فإنك تضاهي إنساناً جالساً تحت شجرة فإذا ما هاجمته الوحوش البرية يقفز إلى علو الشجرة فلا تضره الوحوش، فأشعر أن الشجرة هي مخافة اللـه فتكون النعمة تؤازرك في سائر المناهج التي تسلكها وتُسطح أعدائك تحتك.

(91) هكذا يجب على المؤمنين أن يسلكوا في العمر الحاضر إن عرض لنا فرح إما بنجاح وإما بموهبة فلنلاحظ أن الحزن ما قد يتباعد بعيداً منا، وإن وافانا حزن فلننتظر الفرح أنه صائر قريباً منا، ولنأخذ مثالاً الذين يسيرون في البحر لأن أولئك إذا أتتهم شدة الرياح والشتاء المتناهي ما ييأسون من خلاصهم بل يحاربون الأمواج منتظرين الصحو، وإذا كانوا في الهدوء والسكون يتوقعون تسافق الأمواج فمن هاهنا يتيقظون كل حين لئلا تصير اعصاف الرياح بغتة فتجدهم غير مستعدين فتقلبهم إلى البحر.

(92) هكذا نحن نحتاج أن نرصد الحالين كلاهما لأن المنتظر إن وافاه أمر ما يستغرب ما قد كان ينتظره لأنه لم يوجد غير مستعد، فمتى عرض لنا حزن أو ضيقة فلننتظر راحة من اللـه ومعونة توافينا لكي لا في طول مكث الحزن وكان ليس لنا أمل في الخلاص نصير أمواتاً، وكذلك إن صار لنا فرح فلننتظر الحزن لئلا بالفرح الكثير الزائد مقداره نتناسى النوح.

(93) إن توجعت لأخ مضيت تستعطف من أجله فقبل أن تخاطب من تعزم أن تستعطفه عليه وتسأله، قل لفكرك  إن لم يسمع منك فلا تغضب ولا تضطرب لئلا تصير وساطتك لمضرة، وتتعالل بالأخ إن جئت إليه يستمعك وإن لم يقتنع الإنسان أن يذعن للأقوال التي منك فلا تسخط فإن ثواب الترثي والتوجع ومسك الغضب ستأخذه معداً من اللـه الذي من أجل اسمه صنعت ذلك.

(94) أيها الحبيب تشتهي الكنز السمائي وتتمنى أن تكون مستحقاً للرب أسمع القائل: إن أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع التي تملكها وأعطيها للمساكين فيكون لك كنزاً في السموات وتعالى اتبعني. وأيضاً من يحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني لا يستحقني. إذاً خلواً من حمل الصليب غير ممكن أن نتبع الرب لأنه بعد أن قال: أذهب بع التي تملكها وأعطيها للمساكين فيكون لك كنزاً في السموات أتبَعَ ذلك قائلاً: وتعالى اتبعني. لأنه لم يقل يكون لك كنزاً في السموات وفيما بعد أرقد وأسترح بل قال: فاتبعني.

(95) فلا تورد الزهد وحده بل والاختيار في الأتعاب الصائرة والأوجاع لأن في ذلك الوقت يحصل الجهاد متزايد الكثرة والمصارعة بإزاء المضاد لأنه إن أقتدر أن يزيل الفكر من المعقول السمائي وينقل مسيره منه فستكون الأواخر شراً من الأوائل ويقنع الإنسان الذي قد بدد قناياه كلها بسخاء وطيبة نفس وسماحة أن يتكسب ما هو أحقر منها وأدنى كثيراً، والذي قد جحد الزواج الشرعي واعتفى منه بحرص أن يجعله عاشقاً للزنا والفسق، فلذلك نحن محتاجون إلى إفاقة كبيرة وتيقظ إلى أن نخرج من الجسد ومن موقف جهاده.

(96) أيها الحبيب إن انتهيت إلى جماعة نساك وأثرت أن تكون معهم تخدم الرب فصر في سائر الأشياء متواضع العقل لكي ما تؤدب سيرتك الحسنى، والذين قد حصلوا هناك من سيرة مذمومة وينهضون أنفسهم إلى تقويم الفضائل.

(97) اذا أمرنا المتقدمون علينا أن نخرج مع الأخوة إلي العمل فلنخرج بنشاط.

(98) فأما إن أثرت أن تقول جسمي ما يحتمل التعب مثل الفلاحين فهذا أمر واضح أن الجماعة لا يستطيعون أن يحملوا الثقل بالسواء، إما أن يكون الإنسان مطيعاً وحسن النية فذلك قد أعطى الكل، أوضح إذاً نيتك بالحقيقة وبلا رياء إنَهم يخفون عنك الثقل إذا رأوا نقص قوتك.

(99) ولا تتركهم أن يخففوا إلى النهاية الثقل عنك بل تضرع إليهم قائلاً: أنا أشاء أن يكون لي نصيب معكم وأتعَبْ معهم على قدر القوة التي وهبها لك الرب فإن العارف القلوب الذي خلقنا وأعطانا الحياة يعرف كل أحد وأية قوة قد وهبت له لأننا إن كنا بعد زوال الأشياء المضادة نعمل وصايا الرب فسيصير الأمر باطلاً.

(100) أحذر أن لا يجئ العدو فيزرع في ذهنك اشتهاء الأمور السالفة ولا تحدث ألبته مثل هذه الأفكار ولا تحتمل مناجاتَها لأن ذكر الأمور القديمة تنتج استعلاء الذهن للذين يتذكرونَها تذكراً بَهيمياً، وإذ لا يمنحهم فسحة أن يعملوا أعمال استعلاء الرأي من أجل العمر الحاضر يدفعونه إلى العزم الردئ، أو تعرف ما هي العادة الرديئة داء خبيث الذي يبطله الرب الذي له المجد إلى أبد الدهور كلها آمـين.

   ܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀܀

عن نسخة خطية لميامر مار افرام السرياني

بمكتبة دير السريان العامر

رقمها 200 ميامر

تاريخها 14 أمشير سنة 1027 للشهداء

أعدها للنشر

الراهب صموئيل السرياني

الأنبا صموئيل حالياً