Skip to content Skip to footer

خطبة تأبين النائب السرياني العراقي عبد الأحد عبد النور-بولس بهنام

الخطبة التي إرتجلها مؤبناً النائب السرياني العراقي عبد الأحد عبد النور[1]

أجل , إنه بطلاً من أبطال الحياة , سقط اليوم في ساحةِ المجد والسؤدد . وعظيماً غادر الحياة , وعلى شفتيه ابتسامة الظفر والانتصار.

غادر الحياة , بعد أن أدى قسطه للعلى والمفاخر , وترك صفحات ناصعة , مليئة بعظائم الأمور , وجلائل الأعمال , وارتفع عن هذه الأرض , وبين يديه ثمرة العمل والجهاد .

إيه أيتها الحياة …. إنطوى اليوم علم من أعلامك الأفذاذ , بعد أن خفق في سماءِ المجد والنور , عالياً عالياً , وهوى التاج المرصع بالحكمة والعبقرية تاركاً وراءهُ فراغاً لا يملأ ……

إيه أيتها الحياة …. هبط اليوم كوكب من كواكبك اللاَّمعة , بعد أن تألق في سمائك , زمناً يسيراً , وأنار بضوئهِ الَّلآلئُ , كثيرين من أبنائك الأحياء … أجل هبط ذياك الكوكب المتألق , وترك وراءهُ الظلام الدامس , والليل البهيم .

بين رهبة الموت , وجلال الحياة , وقف الرجل الكبير ناظراً إلى العلاء والرسالة المثلى لما تكمل بين يديه , وقف الرجل الصنديد وفي مقلته دمعة حرّى , وعلى ثغره ابتسامة مشرقة .

دمعة حرّى , لا على طيب الحياة وهنائها …. لا على نورها , وهوائها , بل على ربعٍ خلا برحيله , ونور خبا بانطفائه , وروض مجدٍ تصوح بذبوله ….. وابتسامة مشرقة , لأنه (( جاهد الجهاد الحسن )) وقام بأعمال عظمى جليلة سطّرها له الخلود , بأنصع صفحاته , ونسج بردة المجد بعواطف قلبه الكبير , وعبقرية عقله المنير .

بين رهبة الموت , وجلال الحياة , وقف الرجل النبيل , رافعاً بين يديه الصفحة العظمى , التي خطَّها بجهادهِ , مظهراً لأبناء الحياة , إن الحياة ليست بطولها , بل بإنتاجها , ليست بكميتها , بل بكيفيتها ……..

الرجل العادي , يعيش في هذه الحياة , جيلاً كاملاً ولكنه يغادرها , فلا يتركُ فيها غير عظامٍ يبليها الثرى , تحت أطباقه المظلمة ….. أما الرجل العظيم , فلا يعيش إلا وقتاً يسيراً , غير أنه يترك في الحياة دّوياً هائلاً لا يستطيع الموت أن يخفتهُ , ويبقى لأبناء قومهِ , ذخراً نفيساً من المجد والسؤدد , لا يستطيع البلى أن يأتي عليهِ .

وأردف بعدئذٍ يقول :

الرجل العادي تنتهي حياته عند حافة القبر , وأما الرجل العظيم فتبدأ حياته المثلى الحقيقية , عند ذياك الحد الرهيب , بعد أن يترك لأبناء الحياة دروساً خالدة في البطولة والعبقرية .

وأردف يقول :

لكم الله , يا بني أُمي , قد فقدتم درتكم الغالية , فلا تجدون لها نظيراً في هذا العالم .

لكم الله , يا بني أُمي , قد ذوت الآن زهرتكم الفواحة , فلا تجدون لها مثيلاً بين رياض الحياة .

لكم الله , يا بني أُمي , تحطمت الآن بين يديكم كأس , سقتكم ماء الحياة بين الفيافي القاحلة , وانطفأ السراج المضيء , الذي أنار لكم طريق الحياة تحت جنح الليالي الداجية …… أواه , إن الخطب عظيم والأمر جليل والخسارة لا تعوض , تلك هي الحقيقة المرَّة الرهيبة يا بني أُمي .

وأردف أيضاً :

بين رهبة الموت , وجلال الحياة , وقف الرجل النبيل , وقد أوشك أن يترك الأرض . ليرتفع إلى السماء , إلى دار الخلود . قبل هذه اللحظات الرهيبة وإذا بالنفس التقيَّة ترتفع إلى السماء لتلاقي ربها طاهرة الذيل , ناصعة الجبين …. هناك وقف الرجل الكريم , ليتوج جميع أعماله الكبرى ومحامدهِ الجليلة , بتاج الإيمان والرجاء وقد شعر أن الساعة الرهيبة قد دنت .

وأردف:

والآن … بعد أن غادرنا الفقيد الخالد إلى دار البقاء , أطلب إلى الله أن يسكب نعمة الصبر على قلوبنا المتألمة , فيعزي بفقدهِ العراق عامة , لأنه فقد به رجلاً من رجالهِ المخلصين , والكنيسة السريانية الأرثوذكسية خاصةً , لأنه فقدت ركناً قوياً من أركانها , وعلى الأخص أُسرة عبد النور الكريمة , لأنها فقدت فيه ركنها الوحيد , ولاسيما شقيقه الفاضل السيد منير عبد النور وجميع شقيقاته وجميع القلوب التي تفطرت على فقدهِ , وجميع العيون التي ذرفت الدموع الحارة عند أقدام ضريحهِ , فقد كانَ رحمات الله عليهِ , من الجميع وللجميع وينطبق عليهِ قول الشاعر :

 

كأنك من كل النفوسِ مركب …… فأنتَ على كل القلوب حبيبُ

 

إيه …. يا ربيب المجد , نم قرير العين مرتاح الضمير , لأنك وفيت قسطك في العمل المثمر , والجهاد العبقري … ثم فان هذه القلوب ستنحتُ لك تماثيل من نور وتقيمها في أعمق أعماق ذاتها . وهذه النفوس ستحفظ لك الذكرى في قدسِ أقداسها , وسيكون اسمك الكريم مثلاً أعلى للرجل الحقيقي المجاهد في سبيل أُمته ووطنه .[2]

—————————-

[1] الدكتور عبد الأحد هو ثالث أنجال المغفور له عبد العزيز عبد الأحد آل عبد النور , والأسرة رهاوية الأصل . ولد الدكتور عبد الأحد في الموصل 1888 درس في مدارس الموصل , وأنهى الطب في الجامعة الأمريكية – بيروت في 1924 وتوفي في 28 شباط سنة 1948 . والدكتور عبد الأحد نائب , ورئيس صحة لواء الموصل , وشخصية سريانية مرموقة . حامى بكل شجاعة عن سريان قرى الموصل لاسيما دير مار متى وبفقده شعرت الموصل أن ركناً كبيراً قد توارى من باحتها (( أنظر العدد الممتاز عنه في مجلة الوحدة – لصاحبها جمال عبد النور 1949)

[2] نشرت هذه الخطبة التأبينية في جريدة الوحدة – العدد الممتاز 1949

———————————–

نقلاً عن كتاب حياة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام للأب يوسف سعيد

منقول من الموقع الرسمي لمحبي المطران بولس بهنام

جميع الحقوق محفوظة لموقع دائرة الدراسات السريانية ©