اللقاء التاريخي بين بابا روما بولس السادس وبطريرك أنطاكية يعقوب الثالث
في 25-27 تشرين الأوّل عام 1971 قام الطيب الذكر البطريرك يعقوب الثالث بزيارة الفاتيكان، فاستقبله الطيب الذكر البابا بولس السادس بترحاب لائق. وفي كابيلّة (ماتيلدا) البلاط البابوي أدّيا ومرافقيهما صلاة مشتركة باللاتينية والسريانية تخلّلها دعاء لحفظ حياة البابا والبطريرك، وفي النهاية ألقى كلّ منهما خطابًا، هذا نصّه:
خطاب البطريرك يعقوب الثالث في كابيلّة ماتيلدا
صاحب القداسة،
في هذه اللحظات السارّة، نرى من واجبنا اللازب، بصفتنا بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية جمعاء، أن نحيّي قداستكم ونحيّي في شخصكم الفذ كرسيكم المقدس. ذلك لأن هذا اليوم، هو يوم فريد وخطير جدًّا في تاريخ كنيستينا الرسوليتين. إذ فيه بعد 1520 سنة من انقسام وحروم متبادلة وما إليها يلتقي رئيسا هاتين الكنيستين الأكثر قِدَماً في المسيحية، أحدهما الآخر، كأخوين في جوّ من المحبة والأخوّة. حقاً إن الزمن هو شافٍ للجروح. ففي خلقيدون سنة 451 جرى الانقسام. ولكن الآن، تعترف الكنيستان بأنّ ما جرى هناك كان، مع الأسف، طعنة إلى قلب المسيحية.
نشكر الله، على أنّ أيام العلاقات غير الطيبة تلك، هي الآن شيءٌ من الماضي. بل هنالك اليوم محبّة صادقة وتعاون ما بين كرسيّينا الرسوليّين وشركة مسيحية بالإجمال.
لم تكن في القرن العشرين حركة قط، أكثر نفعًا من الحركة المسكونية. ونحن نعترف بإعجاب، بالدور البنّاء الذي لعبه سلف قداستكم الجليل، ونفسكم الصالحة، في هذا المضمار. أمّا من جهتنا نحن فنتطلّع إلى الأمام إلى اليوم الذي فيه سيكون لنا حتّى اتحاد منظور أعظم، وذلك أيضًا بدون أن نضحّي بانفراديّتنا وبالمعطيات الثقافية التي يمكن أن تقدّمها كل من كنيستينا نحو انتشار ملكوت الله السريع على الأرض.
فنرجو يا صاحب القداسة، أن تقبلوا شكرنا الخالص على محبّتكم الأخوية وضيافتكم. ألا حفظ الله نفسكم الطيبة وبارك الكنيسة العظيمة التي ترئسها قداستكم بعناية الله آمين.
في 25/10/1971
خطاب البابا في كابيلّة ماتيلدا
بسرور نوجّه إليكم تحيّتنا الأخوية، فيما نرحّب بكم في بيتنا. إننا نحيّي في شخصكم كنيسة ترى في إيمان الهيئة الرسولية في أنطاكية وعبادتها أصولاً وأساسًا لشهادتها المسيحية. نحن سعداء، خاصّة باستقبالنا زائرًا عظيمًا من دمشق، حيث – بعد أن نال مار المعمودية المقدس – رسول الأمم الذي نحمل نحن اسمه، بدأ تلك الحياة التي وقفها بكليّتها على الربّ يسوع المسيح، الذي قاده إلى مدينة روما هذه وإلى تضحية حياته العظمى من جرّاء المحبّة لذلك الرب.
قبل تسع سنوات قبلتم قداستكم دعوة سلفنا يوحنا الثالث والعشرين لتُمَثَّلوا في مجمع الفاتيكان الثاني بمندوب مراقب. ومنذ ذلك الحين ساعد تبادل الرسائل بيننا وزيارة أشخاص رسميين من كنيستنا لقداستكم، على تقوية العلاقات ما بين كنيستينا. والآن لنا السرور باللقاء بكم شخصياً، لكي نتبادل وجهات النظر والرغبات التي تنعشنا، ونحن نجدّ في تحقيق مشيئة الله لأجل كنيسته ولأجل العالم المخلّص بدم ابنه الثمين.
إنّ تاريخ العلاقات ما بين كنيستينا، يبيّن كثيرًا من الأضواء والظلال. إنّنا نلاحظ أنّ الصعوبات التي خُلقت عبر العصور، لا تُقهر دائمًا بسهولة. كلّ منّا يتحرّك برغبة خالصة ليكون مخلصًا لآبائنا في الإيمان، وللتقليد الذي سلّموه إلينا. ومع هذا فإنّ هذه الرغبة بالذات التي تحفزنا إلى أن نكون مخلصين لهم، تحفزنا أيضًا إلى البحث بغيرة أوفر بكثير لتحقيق الشركة التامّة بعضنا مع بعض.
نحن مشتركون معًا في الحياة السرية المشتركة (أسرار الكنيسة) والتقليد الرسولي المشترك، وخاصّة في ما أُثبت في ما يُسمّى عادةً بدستور الإيمان النيقاوي. إنّ تحديدات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى العقيدية، تؤلّف جانبًا من إرثنا المشترك. وهكذا فإنّنا نعترف معًا بسرّ كلمة الله صار واحدًا منّا ليخلّصنا وليأذن لنا في أن نصير فيه أولادًا لله وإخوة بعضنا لبعض.
إنّه بالخضوع التام لهذا الرب والمخلّص، الإله الابن المتجسّد، سيكون بإمكاننا أن نجد الطريق إلى تلك المصالحة التي ستأتي بنا إلى الشركة الكاملة. إنّ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، بالاتّفاق مع شقيقاتها الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، وفي اجتماع أديس أبابا في 1965، قرّرت وجوب إجراء حوار، سيساعد على التغلّل على سوء تفاهم الماضي. والآن يعمل لاهوتيّون بسعي مجدّد ليلقوا ضوءًا جديدًا على سرّ الرب الواحد يسوع المسيح. وإنّهم ولئن لاحظوا أنّه لا تزال هناك خلافات في التعبير اللاهوتي عن سرّ المسيح هذا، نظرًا إلى اختلاف التقاليد الكنسية واللاهوتية، إلاّ أنّهم مقتنعون، على كلّ حال، بأنّ صُوَر الإيمان هذه المتعدّدة ممكن فهمها مع خطوط إيمان المجامع القديمة الذي هو الإيمان الذي نحن أيضًا نقرّه.
ونحن كرعاة، نستطيع أن نشجّع المساعي المشتركة التي بُذلتْ لفهمٍ أعمق وأوسع لهذا السرّ، يستطيع – بعيدًا عن إثارة شكوى حول تقليدينا الكنسيّين المختلفين – أن يعزّزها ويبيّن الاتّفاق الأساسي الكائن بينها.
فالمهمة خطيرة جدًّا بالنظر إلى الأسئلة التي توجّه اليوم إلى الكنائس. ففي عالم يجاهد أن يمنح ميلادًا لآراء جديدة، ولتطوّرات جديدة تمكّن كل الناس من أن يسهموا في مواهب خلقة الله، ولعلاقات جديدة ما بين الناس والشعوب تؤكّد السلام مع العدالة، دُعينا لنُعلن ربًّا واحدًا وإيمانًا واحدًا ومعمودية واحدة وإلهًا واحدًا هو أبو الجميع وفوق الجميع وفي الجميع (أفسس 4: 5-6).
فإذا استطعنا أن نحمل هذه المهمّة في شركة أخوية، سنعطي بطريقة أكمل لخدمة العالم، تلك التي هي الجزء الجوهري من رسالة الكنيسة. سنحقّق دعوتنا لنرى سرّ رحمة اله محولة إلى الرحمة المسيحية ما بين الناس ولأجل الناس.
في زيارة قداستكم نرى شهادة جديدة على رغبتنا المشتركة في حمل هذه الرسالة وفي تحقيق هذه الدعوة. ففيما نرحّب بكم، نصلّي إلى الله لكي يرشد خطانا لأجل مجد اسمه ولأجل سلام ومصالحة جميع الذين دُعوا ليكونوا أولادًا له.
من الفاتيكان، في 25 تشرين الأول 1971
خطاب البطريرك الوداعي في قاعة المجمع
صاحب القداسة،
نودّ أن نعبّر عن شكرنا لقداستكم ولنيافة نائب الرئيس ولممثّلي مجمع الأساقفة، على هذه السانحة، لنُظهر فيها ما في قلبنا، ونحن نتأهّب لنغادر مدينة روما.
نحن وإخوتنا المطارنة الذين رافقونا في هذه الزيارة التاريخية، ممتنّون من أعماق قلوبنا من المحبّة والاحترام اللذين أبديتموها قداستكم ومعاونوكم نحونا. كما أنّنا شاكرون، لتمكّننا من زيارة هذه المدينة التي تباركت بدم عدد وافر من الشهداء ومنهم الرسولان القدّيسان العظيمان بطرس وبولس. إنّ الإيمان الذي ناديا به في أنطاكية وروما وفي عدّة جهات أخرى من العالم، هو نفس الإيمان الذي نحاول نحن أيضًا اليوم أن نقدّمه للناس. نحن سعداء إذ استطعنا أن نلفظ بهذه الكلمات القليلة أمام أساقفة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المجتمعين ههنا لدرس الوسائل التي تجعل أن يكون إعلان الإيمان هذا أكثر فعالية، لكي يكفي حاجات الناس اليوم. ألا وجّه الله القدير مساعيكم وباركها بالنجاح.
فرحة هذه المناسبة تحثّنا إلى التطلّع إلى الأمام، إلى اليوم الذي سيجمعنا فيه معًا ربّنا جميعًا في كنيسة واحدة منظورة، ستمارس مجده الوحيد. فلتلك النهاية، سنعمل نحن وإكليروسنا وشعبنا، بصلواتنا ودراساتنا وعملنا. نأمل أن تُعمل هذه الأمور مع أعضاء كنيستكم حيثما كان ذلك ممكنًا.
وفيما نعود من هنا، نحمل معنا ذكريات طيبة عن قداستكم وعن كنيستكم العظيمة، لكي تُحفظ إلى الأبد في سجلات كرسي أنطاكية الرسولي. فليواصل الله القدير حفظه لقداستكم بصحّة جيّدة وقوّة النفس، كي تواصلوا عمل الكنيسة العظيم في العالم، لمجد الله الآب والابن والروح القدس. آمين.
في 27/10/1971
خطاب البابا في قاعة المجمع
صاحب القداسة،
أمام اجتماع صفوة ممثّلي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، نودّ أن نعبّر مرّة أخرى عن سرورنا، وعن شكرنا لله إذ قُيِّضتْ لنا هذه الفرصة لنلتقي رئيس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الروحي، في جوّ من الصلاة وانفتاح الروح واحترام أخوي وتفهّم.
في جميع العصور، في أزمنة المجد وفي أزمنة التألّم الشديد، أعطت كنيستكم شهادةً لربنا يسوع المسيح، ابن الله الوحيد الذي صار إنسانًا من أجل خلاصنا. إنّ المبشّرين (الخطباء) والعلماء والرعاة جميعًا عملوا على تعميق فهم تجسّد ابن الله، وجعل أهميّة تنازل الله نحو الإنسان، حقيقةً حيّةً لشعبكم. كثيرون منهم قدّموا شهادةً لإيمانهم بتضحية حياتهم العظمى.
نحن سعداء لأنّ قداستكم استطعتم أن تزوروا شخصيًّا كنيسة روما التي، تحت نعمة الله، جاهدتْ هي الأخرى لتحقّق رسالتها بواسطة تكريس أعمال معلّميها ورعاتها وشهود إيمانها.
إنّ هؤلاء الآباء في الإيمان وهؤلاء القدّيسين والشهداء، ينادوننا لنضع أنفسنا مع تكريس مجدّد لتلك الرسالة: تحت إلهام الروح القدس، المستعدّ دومًا أن يقدّم لنا نورًا جديدًا وقوّة. نحن بالذات وإخوتنا في الأسقفية، قرّرنا بتواضع ولكن بثقة عظمى أيضًا، أن نصغي إلى تنبيهات الروح هذه، ونجدّ في تنفيذها بمنتهى استطاعتنا. ذاك هو المبدأ المخطّط لعمل مجمع الأساقفة هذا المجتمع ههنا والذي يقدّم اليوم تحيّاته القلبية لقداستكم.
كلّنا مشجّعون بأنّ كنيستكم الخاصّة، بالاتّفاق مع شقيقاتكم الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، هي أيضًا نشطة في البحث عن وسائل جديدة لحمل رسالتها في روح الاتّحاد والخضوع لما يقوله الروح للكنائس. إنّ زيارتكم لنا تجعلنا أكثر وثوقاً بأنّ كنيستينا ستجدان وسائل لتعاون أعظم في مهمّتنا المشتركة، وستفتحان في الوقت نفسه طريقًا للشركة التامة التي نشتاق إليها كلنا بحرارة.
وفيما نصلّي لعلّ رب الكنيسة يقودنا إلى مصالحة تامّة، نحن مهتمّون أيضًا بحاجات الشرق الأوسط الخاصّة، حيث يوجد كثيرون من مؤمنيكم. ولعلّ هذا الاجتماع مع قداستكم يكون منبّهًا جديدًا لجميع المسيحيّين، ولا سيّما الذين في تلك البقعة، ليعملوا فيما بينهم لأجل المصالحة في المسيح، ويبحثوا بتصوّر وإصرار عن سلام دائم مع عدالة لجميع الذين يقطنون تلك الأراضي العزيزة علينا كثيرًا.
صاحب القداسة، إنّنا نعرب ثانيةً عن شكرنا القلبي على زيارتكم. وفيما نترككم الآن، نفعل هذا بالشكر لله على ما أذن لنا في تحقيقه حتّى الآن، مع ثقة مجدّدة بأنّ الروح القدس سيواصل يرينا الوسائل لتحقيق المشيئة الإلهية، ومع صلواتنا بأنّ الله القدير سيبارك بغزارة قداستكم وجميع إكليروس ومؤمني كنيستكم.
من الفاتيكان في 27 تشرين الأول 1971.