تفسير بشارتي لوقا ويوحنا

كتاب

الدر الفريد

في

تفسير العهد الجديد

تأليف

العلامة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي السرياني

مطران مدينة امد ( ديار بكر )

الجزء الثاني

يحتوي

على تفسير بشارتي لوقا ويوحنا

عني بترجمته وتهذيب عباراته وطبعه على نفقته

الراهب عبد المسيح الدولباني السرياني الارثوذكسي

طبع بمصر سنة 1914م

كل نسخة غير مختومة تعد مسروقة

حقوق الطبع محفوظة

 

 

 

الديباجة

مقدمة مؤلف الكتاب

الاصحاح الأول الاصحاح الثاني الاصحاح الثالث الاصحاح الرابع ( الاصحاح الخامس ) ( الاصحاح السادس ) ( الاصحاح السابع ) ( الاصحاح الثامن ) ( الاصحاح التاسع ) ( الاصحاح العاشر ) ( الاصحاح الحادي عشر ) ( الاصحاح الثاني عشر ) ( الاصحاح الثالث عشر ) ( الاصحاح الرابع عشر ) ( الاصحاح الخامس عشر ) ( الاصحاح السادس عشر ) ( الاصحاح السابع عشر ) ( الاصحاح الثامن عشر ) ( الاصحاح التاسع عشر ) ( الاصحاح العشرون ) ( الاصحاح الواحد والعشرون ) ( الاصحاح الثاني والعشرون ) ( الاصحاح الثالث والعشرون ) ( الاصحاح الرابع والعشرين )

( تفسير بشارة يوحنا الانجيلي )

( المقدمة للمؤلف )

( الاصحاح الأول ) ( الاصحاح الثاني ) ( الاصحاح الثالث ) ( الاصحاح الرابع ) ( الاصحاح الخامس ) ( الاصحاح السادس ) ( الاصحاح السابع ) ( الاصحاح الثامن ) ( الاصحاح التاسع ) ( الاصحاح العاشر ) ( الفصل الحادي عشر ) ( الاصحاح الثاني عشر ) ( الاصحاح الثالث عشر ) ( الاصحاح الرابع عشر ) ( الاصحاح الخامس عشر ) ( الاصحاح السادس عشر ) ( الاصحاح السابع عشر ) ( الاصحاح الثامن عشر ) ( الاصحاح التاسع عشر ) ( الاصحاح العشرون ) ( الاصحاح الحادي والعشرون )

 

 

 

الديباجة

 

الى القارئ

بعد نشرنا التفاسير على بشارتي متى ومرقس كان من الواجب ان نتبعها بالتفاسير على انجيلي لوقا ويوحنا ليكون عملنا تاماً كاملاً وقد طال بنا الزمن في ايفاء هذا الالزام لما اقتضاه العمل من الاعتناء والتحقيق لا سيما وان علامتنا ابن الصليبي نسج على منوال اللاهوتيين في كثير من الآيات الكبيرة بخطورتها لاثبات الحقائق الموحى بها فلزمتنا الحالة ان نتبعه لنعبر في اللغة العربية طبق المراد عن شروحه وبيانه وآرائه وآراء سائر العلماء التي ايدها او فندها. واننا بفضل الله نشهد اننا لم نحد عن الطريقة الفضلى اللازمة الاتباع وقد استفدنا كثيراً من الملاحظات التي تكرم علينا بها ذوو الغيرة والفضل في انتقادهم الجزء الاول من هذا التأليف فازلنا العيوب التي رأوها في ترتيب الآيات وعنونّا فصولكل بشارة وقسمناها تبعاً لموضوعها بحيث يسهّل الآن على المطالع وجود المثل الذي يريده او المعنى الذي يقصده ومن الامور التي فرحت منا القلب وسرت الخاطر ان الاصل السرياني للتفاسير الحاضرة قد نُشر مؤخراً بالطبع في اوربا وعقبها ناشراه “سدلاسك وشابو” بترجمة لاتينية وقصدهما تعميم فوائدها الجزيلة للغرب ايضاً. وهذا ما يعلن قدر ابن الصليبي ويجعلنا نقبل ان على تأليفه البالغ غاية الكمال في مطلبه ونجلّه الاجلال الواجب علينا نحو احد علمائنا الكبار الذين شرفت بهم جامعتنا واستنارت بضياء معارفهم

الراهب عبد المسيح الدولباني

السرياني الارثوذكسي

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة مؤلف الكتاب

باسم الآب والابن والروح القدس الاله الواحد

الفصل الاول

منشأ لوقا وانجيله

قال موسى ابن الحجر: كان لوقا اسرائيلياً يزاول صناعة طب الاجساد كما كتب عنه بولس في ( كو 4 : 14 ) قال ” يسلم عليكم لوقا الطبيب الذي معنا ” ثم صار طبيب النفوس. وهو من الاثنين والسبعين مبشراً وتلميذاً لبولس وينسب انجيله لبولس عينه كما ينسب انجيل مرقس لبطرس لان الرسولين شاءا تسمية الكتابين باسمي تلميذيهما. وقد كتب لوقا انجيله مطولاً في مدينة الاسكندرية باللغة اليونانية مقتدياً في ذلك بمعلمه بولس الذي فاضت تعاليمه فيضان نهر جيحون. واعلم ان كلمة انجيل تعني البشارة وميز بينها وبين كلمة توقع أو انتظار فالتوقع يكون للخير والشر أما البشارة فانما هي للخير لا غير. ولهذا المعنى دُعي كل انجيل بشارة

واختلف العلماء في منشأ لوقا وحاله. فقال يعقوب الرهاوي انه من الاسكندرية كتب تآليفه باليونانية . وقال اوسابيوس القيصري انه من انطاكية. وروى آخرون بأنه كان تلميذاً لجالينوس. وذكر بعضهم انه ابن أخته. وعند ما سمع المعلم والتلميذ ان السيد المسيح ظهر في اليهودية وأخذ يشفي الاوجاع والامراض بدون عقاقير أو أدوية حلفا ان الامر كذب وخداع أو هو خيال ووهم ثم قصدا الى مكان اقامته طلباً لاثبات الخبر فمات جالينوس في الطريق ونال مشاهدة المسيح فتتلمذ له وحُسب في عدد الاثنين والسبعين مبشراً وكانت وفاته في طيبا المدينة الكبرى وتفسير اسمه الذئب

الفصل الثاني

صفة انجيل لوقا

     افتتح متى انجيله برواية ميلاد السيد المسيح بالجسد وابتدأ مرقس بذكر معمودية يوحنا والاثنان أتيا بذكر اسمه ” يسوع المسيح ” الّا ان متى سماه ابن داود ودعاه مرقس بابن الله أما يوحنا فبدأ بتسميته ” الكلمة ” اذا قال : في البدء كان الكلمة. ثم ان لوقا تناول بكلامه بشارة زكريا وميلاد يوحنا انجازاً لوعده بان يكتب كل شيء منذ البدء حسب ترتيبه. والترتيب الزمني ان ميلاد يوحنا سبق ميلاد ربنا فالتزم هذا النظام وبين الحوادث الواحد تلو الاخر. ثم انه قصد الافصاح عن مقام مخلصنا وعظمته فاوضح ان يوحنا سابقه كرز بالتوبة وأتى بالامور الخطيرة ليستنتج الناس ما هو قدرُ من دلّ عليه يوحنا عينه

 

 

الفصل الثالث

مقصد لوقا من كتابة الانجيل

    انقاد لوقا لطلب كثيرين من فضلاء القوم الراغبين شديد الرغبة في الاطلاع على سيرة السيد المسيح وأعماله كما هي في حقيقتها الباهرة. وكان بعض رواة الاخبار قد قادتهم الجسارة الى ان حرّروا ما ليس بصحيح وما لا يعرفونه في هذا الموضوع فوبّخهم شديد التوبيخ. ثم لما كان متى ومرقس قد كتبا انجيلهما أراد هو أيضاً ان يشهد لصحة كتابتهما ويثبت أن ما روياه هو الحق عينه وأيضاً استنهج مثلهما ولو انه زاد أموراً أخرى كانت من مقصده ليثبت تاوفيلس المتتلمذ له في الاعتقاد والايمان كما يستبين من عبارته هذه :        ” لتعرف صحة الكلام الذي تتلمذت له أيها الشريف تاوفيلا “

الفصل الرابع

نسق لوفا في روايته

     اعلم أيها الاخ ان لوقا كتب عن الامور المختصة بكلام السيد المسيح. وبافعاله حسب ترتيبها ووقوعها في الزمن أي انه وضع الحوادث متتابعة الاولى منها في أول كتابه والتابعة منها في صُلب انجيله والاخيرة في أخره طبق ما تكلم سيدنا وعمل. يشهد لك بذلك ما قاله :  ” أكتب لك جميع الاشياء حسب ترتيبها أيها الشريف تاوفيلا ” ولهذا السبب نرى متفرقاً في انجيل لوقا ما كتبه متى من الوصايا مجموعاً في فصل واحد والحكم عينه في العجائب التي سردها نبعاً لاجتراحها في الزمن

الفصل الخامس

لأي الاسباب لم يضع لوقا سلسلة النسب في بدء انجيله

     ان لذلك أسباباً ثلاثة الاول انه لم يكتب انجيله للعبرانيين بل للأمم الوثنية. ودليل ذلك انه ما وقف عند ابراهيم الذي جعل الله له الموعد لكنه وصل حتى آدم. الثاني انه أراد ذكر بشارة زكريا وميلاد يوحنا والحادثان وقعا قبل ولادة السيد المسيح فأبقى ذكر نسبه وجدوده ليقرنه بذكر عماده فيتبين بالامر ان من يقتبلون سر المعمودية تصل مرتبتهم الى الله الآب وهذا ما دعاه الى سرد سلسلة النسب من الادنى الى الاعلى. الثالث انه لم يكن أمر نسب الاجيال بذي خطورة لدى لوقا الّا انه أراد صدّ اليهود عن التنديد بما جاء في متى عند ذكرها

الفصل السادس

لماذا فصل لوقا أعمال ربنا بالجسد

     نقول ان ما نقصه متى ومرقس وما أثبتاه أراد لوقا تحريره بالتفصيل فكتب عن بشارة العذراء وحبلها بالمسيح وذكر مولده وطفوليته ووصف لنا مغارة بيت لحم والقمط التي لُفّ  بها طفلاً والمذود والختانة ودخوله الهيكل وتقدمة القرابين عنه وكيف حمله سمعان الشيخ على ذراعيه وكيف تربى ونشأ قامةً. وروى لنا عدد سنيه وسماه طفلاً وصبياً وابن اثنتي عشرة سنة وانما غايته السنية من كل هذه ان يعلن تأنسه ويفحم بالدليل القاطع من اعتنقوا الضلال كماني ومرقيان وأنكروا سر التجسد. وكما ان يوحنا استكمل ما تركه الانجيليون الثلاثة من قبل فاوضح بالتفصيل ان السيد المسيح اله وانه واجب الوجود كذلك بين لوقا ببيان شاف انه صار انساناً. ومن اللازم ان نعرف حق المعرفة ان الكلمة الذي هو من الآب والله وولد بالطبع من الآب قد صار انساناً لخلاصنا ووُلد بالجسد من أم غذّته بلبنها كما يغذّي الاطفال وأخذ فيه كل ما يختص بالطبيعة البشرية ثم كمل فيه كل ما يتعلق بالناموس الموسوي من ختانة وتقدمة القرابين وحفظ السبوت والاعياد وبعد ان اعتمد من يد يوحنا سابقه شرع يسير في العالم سيرةً روحانية

الفصل السابع

زمن حبل يوحنا ومولده وزمن بشارة مريم وميلاد السيد المسيح

     كانت البشارة بالحبل بيوحنا في اليوم العاشر من تشرين الاول حساباً قمرياً في عيد الغفران وفي مثل هذا اليوم كان يقع هذا العيد كما هو مكتوب : في العاشر من الشهر السابع. ومن البين ان من بدء نيسان الى بدء تشرين الاول يمرّ من الاشهر ستة وفي الشهر السابع تمت بشارة زكريا فاذن قد تمت في تشرين الول حساباً قمرياً. أما مولد يوحنا فوقع في شهر تموز القمري. وكتب في بعض النسخ انه وقع في اليوم العاشر من حزيران ولكن عدد التسعة أشهر اذا بدأنا به من العاشر في تشرين الاول انما يتم في العاشر من تموز لا قبل

     وان سألت عن مولد السيد المسيح أجبت ان أوسابيوس يضعه في السنة اليونانية الثانية عشرة بعد الثلثمائة وهي توافق السنة الثالثة والاربعين لاغسطس والثالثة والثلاثين لهيرودس وهو الزمن الذي أرسل فيه كيرينيوس الى سوريا ولكنا نتبع رأي يعقوب الرهاوي القائل ان سيدنا المسيح وُلد في السنة اليونانية التاسعة بعد الثلثمائة وهي السنة الحادية والاربعون لاغسطس. أما آلامه فكان وقوعها في السنة العاشرة لطيباريوس قيصر بحيث لم تتجاوز مدة حياته على الارض الى أكثر من اثنتين وثلاثين سنة ونصف سنة. لان المدة التي تخللت بين ميلاده وعماده ثلاثون سنة وبين عماده وصعوده سنتان وستة أشهر

الفصل الثامن

الكلام على الحبل بالسيد المسيح وعلى ميلاده بالجسد

     يلزمنا التكلم على الحبل بالمسيح ربنا وعلى مولده. فان بشارة مريم البتول حدثت في السنة اليونانية التاسعة بعد الثلثمائة في العاشر من نيسان حساباً قمرياً وفي الخامس والعشرين من اذار على الحساب الشرقي. فبناءً عليه من اليوم الخامس والعشرين من اذار وهو اليوم الذي حُبل به الى مساء الخامس والعشرين من كانون الاول الذي يقال انه وُلد فيه تكون المدة تسعة أشهر ويوماً واحداً وثلاث ساعات ولهذا السبب في المساء عينه نبتدئ بعمل تذكار ميلاد ربنا. واعلم أيها الحبيب ان عادة العبرانيين ان يعدوا أشهرهم حساباً قمرياً الا انهم يعدلون عنه الى الحساب الشمسي في عدد أشهر الحبل وانما ربنا وُلد في الخامس والعشرين من كانون الاول لأن النور اذا ذاك يأخذ بطرد الظلام اشارة انه له المجد نور العالم الذي غلب الشيطان المظلم. وفي ذلك الزمان كان الليل يتساوى بالنهار في الرابع والعشرين من اذار ومن ايلول فيصير الليل اثنتي عشرة ساعة ومثله النهار. وقد تبدلت الآن هذه الحالة فيتم التساوي في الثالث عشر من الشهرين المذكورين وسببه دوران الشمس الطبيعي. وقد مر لنا شرح ذلك مطولاً في كتابنا علم اللاهوت المختصر حيث ألفنا الكلام أيضاً في الطبائع المعقولة والمحسوسة. ثم انه في زمن المسيح كان النهار في الرابع والعشرين من حزيران وكانون الاول يطول الى خمس عشرة ساعة ولا يمتد الليل أكثر من تسع ساعات. أما في زماننا فيقع ذلك في الثالث عشر منهما. والظاهر ان كل ثلاثين يوماً يطول النهار عن الليل ساعة واحدة. وقد قال مار افرام في مدراشه انه حُبل بالسيد المسيح في العاشر من نيسان وولدته أمه في السادس من كانون الثاني. وقال مار يعقوب الرهاوي في رسالته الى موسى الطورعبديني انه لا يعرف أحد معرفة صحيحة يوم ميلاد ربنا. وكانت بلاد المشرق والشمال تعيد العيد في السادس من كانون الثاني واستمرت العادة جارية بذلك حتى زمن الملك اركاديوس وكانوا يسمونه عيد الاشراق وبهذا الاسم دعاه أيضا القديس الثاولوغس في خطبته في الميلاد. أما في بلاد الروم وفي الغرب وفلسطين فان النصارى اعتادوا منذ زمن الرسل الاحتفال به في الخامس والعشرين من كانون الاول. ولما كان عملهم يستحق الثناء ويقرنه الصواب تبعهم المشرق والشمال واستثن طائفة الارمن الذين ظلوا متمسكين بالعادة القديمة ولا يعيدون العيد الا في السادس من كانون الثاني. ثم ان ربنا قد ولد في الليل تبعاً لما حرره لوقا

     وبعد كتابة هذه الفصول الوجيزة حان لنا الوقت أن نباشر شرح الآيات واحدة فواحدة وان نعالج جسم الكتاب لتظهر معانيه المخفية وأطلب منك يا من تقدم على مطالعة كتابي ات تصلّ من أجل ديونيسيوس الغريب لتنال أنت أيضاً الرحمة

 

 

تفسير بشارة القديس لوقا

الاصحاح الأول

أ

     ( 1 ) ” اذ كان كثيرون قد أخذوا في ترتيب قصص الامور المتيقنة عندنا ”

     لم يدخل في قوله ” كثيرون ” متى ومرقس لكنه يدل الى شيعة سيمون والذين من الختانة والى أخرين يشبهونهم فهؤلاء أخذوا يسردون الكلام في سيرة وأعمال سيدنا من دون بحث عن الحقيقة وامعان نظر فيما يتحرضون عليه. وقد وضع في بدء الآية لفظاً يعين السبب الذي لاجله التزم الكتابة. وأشار بالعارفين الى نفسه والى متى ومرقس لا الى الكثيرين الذين تجاسروا وكتبوا. ثم انه لم يقل : أنا وحدي عارف بها. بل وضع ضمير الجمع ليشمل معه متى ومرقس فمعنى الآية : حملني على كتابة ما أكتبه الآن ما حاوله كثيرون عن غير معرفة وحكمة من تحرير ما أعرفه ويعرفه معي متى ومرقس

     ( 2 ) ” كما سلمها الينا الذين كانوا معاينين منذ البدء وخادمين للكلمة ”

     لم تسلم اليّ فقط بل الى مرقس أيضاً. فحصر معه مرقس الذي علمه بطرس والرسل أيضاً كما ان بولس علم لوقا. أما الذين عاينوا وسمعوا فهم الرسل الاثنا عشر وأراد بالكلمة الله عينه. فانظر اذن الى ان الاثني عشر رأوا وخدموا الله الكلمة لا انساناً قد تأله كما ادعى النساطرة كذباً مع ان يوحنا الانجيلي يقول : اننا نبشركم بذاك الذي كان منذ البدء الذي نظرناه باعيننا ولمسناه بايدينا وحقاً ان الله ظهر بالجسد ولُمس

     ( 3 ) ” رأيت أنا أيضاً بعد ان أدركت جميع الاشياء من الأول بتدقيق ان أكتبها لك بحسب ترتيبها ايها العزيز تاوفيلس “

     ( 4 ) ” لتعرف صحة الكلام الذي وُعظت به ”

     رأيت مثلما رأى متى ومرقس. وفي نسخة أخرى قد كتب : أردت أنا أيضاً لاني كنت قريباً من الاثني عشر رسولاً. أي كنت مجتهداً لا متكاسلاً في ملازمتي الرسل فادركت الامور التي أرويها متناسقة. حسب زمنها واضعاً المتقدم أولا والمتأخر متأخراً – وكان تاوفيلا وجيه المؤمنين المعروفين في الاسكندرية فطلب هذا الرجل وشاركه الاقباط في طلبه ان يكتب لوقا قصة أعمال المسيح. وكان الطالب من علية القوم ملحوظ المنزلة ما بينهم ودلت على ذلك نسخ أخرى فيها انه كان ضابطاً ذا مقام وسلطان يعتمد على همتهم وكفاءتهم في الامور ذات الخطورة وقال اخرون ان تاوفيلا لم يكن شخصياً معيناً وقد عنى به لوقا كل شخص مؤمن محب للرب لان كلمة تاوفيلا تأويلها محب الله. وان سألت ما قصد لوقا بالكتابة اليه أجبت ان يثبت له صحة الكلام الذي جعله مؤمناً بالسيد المسيح

ظهور الملاك لزكرياء والتنبؤ بولادة يوحنا والحبل به

     (5 ) ” كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة ابيا وامرأته من بنات هرون اسمها اليصابات ”

     قبل أيام هيرودس كان ارسطوبولس واخوه أرقانيوس يحاول كل منهما نيل رئاسة الكهنوت فجاء مومفيوس قائد الجنود الرومانية وحاصر أورشليم ثم أخذها ونفى ارسطوبولوس الى رومية وسلم أرقانيوس الرئاسة ومن ثمة بطل ملك اليهود وكهنوتهم. لان هيرودس الذي اقامه اغسطس ملكاً على اليهودية كان من الامم. وقد طالت ايامه سبعاً وعشرين سنة. أو ثلاثاً وثلاثين على رأي اخر. والانجيلي انما ذكر هنا هيرودس لسبب أي لبيان ان قول يعقوب أب الاسباط قد تمّ بالفعل وهو ” لا يزال صولجان من يهوذا … حتى يأتي المنتظر تك 49 : 10 ” وأراد بالصولجان الملك والسلطان. ومن المثبت ان من موسى الى داود ساس القضاة الشعب الاسرائيلي. ثم من داود الى جلاء بابل دبر الملوك أمره. ومن الجلآء الى هذا هيرودس أدار شؤونه رؤساء الكهنة. وبعد ان سلم قائد الجند الروماني الرئاسة أرقانيوس المذكور أتى أهل الفرات وأسروه فتلاشت في الحال رئاسة الكهنوت واستولى هيرودس على اليهود ولاجل ذلك ذكره لوقا. – أما زكريا فمعنى اسمه انه يذكر الشعب بشريعة الله. وكان من بيت أبيا الذين يؤخذ منهم رؤساء الكهنة على شبه ما كان حنانيا وقيافا. وعلى شبه خدمتهما سنة بعد أخرى الواحد تلو الآخر فبعد ان ضرب الضعف والوهن ناموس اليهود. أخذوا يقيمون في رئاسة الكهنوت اثنين اثنين ليخدم كل منهما أياماً معلومة. وهذا ما عناه النص اليوناني بقوله ان زكريا كان من سبط لاوي. لان هيرودس شاء كسر شوكة اللاويين فقسمهم اقساماً متعددة. خوفَ من أن يرفعوا عليه راية العصيان لو كانوا مجتمعين في واحد. وكان أبيا زعيم قسمه وزكريا كاهنه. وقال فريق ثالث ان زكريا ناب في الكهنوت مناب ابيا. اذ العادة ان كلما مست النجاسة كبير الكهنة بسبب الانزال في الليل او لداع آخر قام غيره في خدمته وذهب بعضهم ان زكريا وأبيا اخوان من الابوين عينهما وكانا يتبادلان الخدمة مثل ناداب وأبيهو او اليعازار وايثامار وقال اخرون ان ابيا كان رئيساً من رؤساء جوقات المرتلين الاثني عشرة. وقد أقامهم داود الملك يحيون الترنيمات ليل نهار كل جوقة وذهب البعض مذهباً آخر قالوا ان أبيا من اولاد شمعون المكابي أو أخيه يوناثان اللذين حدّدا الهيكل والمدينة بعد ان خربهما انطيوخوس وبطليمس. فسعى نسلهما في أن تكون له السيادة وحازها تدريجاً. ومن الآراء أيضاً ان أليعازار وبنيه كانوا الرؤساء من زمن هرون حتى ايام عالي. ولما خطئ عالي وبنوه تحوّل الكهنوت الى أيدي بني ايثامار الذي كان ابن هرون ايضاً. فاستلمه صادوق في ايام سليمان ومن نسل صادوق هذا خرج ابيا وزكريا الذي قيل عنه انه من خدمة بيت ابيا. ومن المعلوم ان صادوق من نسل ايثامار وعالي من نسل أليعازار. واثبت البعض ان زكريا لم يكن عظيم الاحبار بل كاهناً لا غير. ودليل ذلك ان حنانيا وقيافا يُسمون بعظيمي الكهنة وليس لزكريا مثل هذه التسمية. ثم يُقال انه دخل الهيكل ليضع البخور ولم يُقل انه دخل قدس الاقداس كعادة عظيم الكهنة. لكن يعقوب الرهاوي اثبت ان زكريا كان كبير الاحبار ورئيسهم. ثم ان الانجيلي ذكر ان زوجة زكريا من بنات هرون لينفي اختلاطه وهو من سبط لاوي بسبط يهوذا ولو ان هذا الاختلاط تم من قبل عند ما اخذ هرون اليصابات بنت عمينداب من قبيلة يهوذا. وتزوج يوياداع الكاهن بيوشباع بنت يورام الملك. وهكذا ابتدأ الكهنوت لهرون على اسم اليصابات وانتهى كهنوت الناموس بزكريا على اسم اليصابات. وقال مار يعقوب في ميمره في الآلام المخلصية. بدأ هرون بالكهنوت وانتهى الكهنوت بقيافا لانه شق قميصه وخرج من صف الكهنة. الا انه لم يقم كاهن لا يستوجب اللوم بعد زكريا فلذلك كان انتهاء الكهنوت به

     ( 6 ) ” وكان كلاهما بارين امام الله سائرين في جميع وصايا الرب وأحكامه بغير لوم ” ( 7 ) ” ولم يكن لهما ولد لان اليصابات كانت عاقراً وكان كلاهما قد تقدما في ايامهما ”

     معنى الآية  ان يوحنا وُلد من أبوين فاضلين ومن زرع طاهر فيلزم اذن تصديق شهادته وهو في بطن امه. ثم ان كلمة بارين تدل على انهما لم يُحرما النسل بسبب معاصيهما. بل انهما صانا نفسهما عن الدنس والظلم. وايضاً ان المولود من شيوخ وعواقر يُعد مولوداً فوق الطبيعة ومُرسلاً منه تعالى. واننا نعلم ان آل اسرائيل خرجوا من شيوخ وعواقر. اي من ابينا ابراهيم وامنا سارة. وكذا كان زكريا واليصابات التي كانت عاقراً كسارة.

     ( 8 ) ” وبينما كان يكهن في نوبة فرقته أمام الله ” ( 9 ) ” أصابته القرعة على عادة الكهنوت ان يدخل هيكل الرب ويبخر ” ( 10 ) ” وكان كل جمهور الشعب يصلي خارجاً في وقت التبخير ”

     وقعت نوبة خدمته في عيد الغفران وكان من العادة في هذا العيد ان يضع الكاهن بخوراً ويدخل به قدس الاقداس لطلب الغفران عن خطية العجل الذي عبده بنو اسرائيل في البرية. ولو ان زمن عيد الغفران الواقع في العاشر من تشرين الاول هو غير زمن عمل العجل والسجود له الواقعين في السابع عشر من حزيران. الا ان الشهر السابع كان مكرماً عندهم وفي عاشره يجدلون اكليلين من الصوف الابيض ويُعلقونهما على باب الهيكل. أحدهما من جانب المذبح وثانيهما من الجانب الآخر فان انقلب بياضهما حمرة عند خروج الكاهن من قدس الاقداس كان الحادث لهم علامة على ان الله غفر لهم الذنوب ومحا الادناس. وقد شاءت العناية الفوقانية ان تُبشر بحبل يوحنا في عيد الغفران هذا. لانها أعدتّه ليكرز بالمغفرة والتوبة. وقال اخرون : ان يوم بشارة الحبل بيوحنا تغير لون الحمرة في خرقة القرمز المعلقة على باب الهيكل. وكانت عادتهم ان يضعوها كل سنة ليختبروا بتغيرها هل الله راضٍ عنهم او لا. وفي هذا المعنى قال اشعيا : ان كانت خطاياكم كالقرمز فانها تبيض كالثلج. اما تغيرها فالى لون الشمس. وقد بشر الملاك بالمغفرة كل الناس. وذلك في زمن التبخير. فاخبر العالم أجمع بالسلامة التي حصلت وتحصل له وأعلنه رضى الله عن عبيده الامناء. ثم ان ارتباط لسان زكريا دلالة على ارتباط الشعب الاسرائيلي وما سواه من الامم بالطغيان والضلالة. وانحلاله مُعلن انحلال الجميع من قيود الشر والشرود عن محجة الحق. قال موسى ابن الحجر ان بشارة زكريا حدثت في العاشر من تشرين الاول القمري. ومن هذا اليوم الى العاشر من تموز القمري مرّت أشهر تسعة. وانتبه الى ان الرابع والعشرين من حزيران الشمسي كان في ذاك الزمن اليوم العاشر من تموز القمري

قال الاسقف موسى في تفسيره : ان زكريا دخل الى الهيكل الداخلي حيث تابوت الشهادة وطاولة الذهب المسماة بالغفران. وفي التابوت عينه سلة ألمن ولوحا الوصايا وعصا هرون. وعليه الطاولة والكروبان المظللان فوقه وفوق الغفران. ولم يكن رئيس الكهنة يدخله الا مرة في السنة أي في عيد الغفران. أما قسم الهيكل الخارجي فكان يلج اليه كل يوم ويجتمع فيه الشعب ولذلك قيل ان جميع الشعب كان يصلي خارجاً وقت البخور

     ( 11 ) ” فترآءى له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور “

     أقام الله ملائكته لخدمة البشر. بل ان يوحنا عينه دُعي ملاكاً ولاجله ترآءى ملاك. وقد قيل عنه : ها انا مُرسل ملاكي امامك. وكان الملاك واقفاً عن يمين المذبح ويمين المذبح هو يمين الكاهن لان المذبح ليس له في ذاته يمين او شمال بل يتسمى بذلك من يمين او شمال الكاهن. وانما قام الملاك واقفاً عن يمين زكريا لا امامه اكراماً للكهنوت. وفي المعنى الروحي أن الملاك ظهر عن اليمين ليشدد يمين يوحنا التي وضعها على راس المسيح. وايضاً ان التدبير الالهي الذي كانت نتيجته خلاص الانسان قد أجراه الله بيمينه القديرة

     ( 12 ) ” فاضطرب زكريا حين رآه ووقع عليه خوف “

     وسبب اضطرابه ان الملاك ظهر له على غير المألوف وفي حين فجأة. وزد على ذلك وحشة المكان وخلوه من السكان. وكانت العادة ان لنفي الوحشة عن القلوب يُعلق بثوب عظيم الاحبار الجلاجل مضافة الى رمانات للزينة. وقصدوا بها ايضاً ان يسمع الناس صوتها فيعلموا بدخوله وخروجه. فاضطرب اذن زكريا لعلمه ان المكان الذي ولجه لا يدخله غير رئيس الكهنة. ثم غشيه الخوف لوقوع نظره على هيئة الملاك وشكله واعلم ان الوحي كان يصدر لرؤساء الاحبار من على المائدة الذهبية ما بين الكروبين اما لزكريا فصدر من مذبح البخور الداخلي امام الباب الخارجي وبسبب هذا الامر غير المعتاد خاف واضطرب حتى اقتضت الحال ان يؤّمنه الملاك

     ( 13 ) ” فقال له الملاك لا تخف يا زكريا فان طلبتك قد أستجيبت وامرأتك اليصابات ستلد ابناً فتسميه يوحنا “

    أزال اولاً الخوف من قلبه قصدَ ان يسمع بشارته بالانتباه اللازم. ثم افهمه ان صلاته قد سُمعت. وكان زكريا يطلب ان يظهر الرب له لانه قرأ في نبوة دانيال. ان الزمان قد دنا لولادة المخلص المنتظر. أما ايم يوحنا فاستقامة من الرحمة والتحنن

     ( 14 ) ” ويكون لك فرح وابتهاج ويفرح كثيرون بمولده “

     أي يزول عن امرأتك العاقر عارها ثم يصير ابنك رسول العلي ويشمل الفرح كثيرين لانهم بواسطته يرجعون الى الله

     ( 15 ) ” لانه يكون عظيماً امام الرب ولا يشرب خمراً ولا مسكراً ويمتليء من الروح القدس وهو في بطن أمه “

     لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان وادلة ذلك كثيرة. فمنها ان بشارة الحبل به وقعت في عيد الغفران. ثم امتلأ من الروح القدس وهو في بطن أمه. واتخذه العلي رسولاً ملحوظ المنزلة. وظهر بالفعل بين الناس رسولاً كامل المحاسن والغيرة والعلم وأيضاً تنبأ عن السيد المسيح فقال انه يأتي بعدي من لا أستحق ان احلّ سير حذائه ثم أشار اليه اشارة حسية بقوله : هوذا حمل الله. وعلاوة على هذه كلها اتبع يوحنا ناموس الزاهدين فصدّ عن الخمر والمسكر. ومعنى الخمر الروحي الغضب الذي يثور ثائره في قلب الانسان ويفعل فيه أكثر من الخمر. والمسكر كل شيء يُعصر ما عدا العنب كمثل منقوع التمر والتين والشعير. ثم استدل على ان انتخاب يوحنا سابق لأعماله من ان الروح القدس حلّ فيه وهو في بطن أمه. فما كان انتخابه اذن صادراً عن أعمال صلاحه. ومثله في هذه المنحة ارميا النبي. وانك لا ترتاب في ان الروح القدس ملأ نفسه من ارتكاضه في أحشاء والدته للقاء السيد المخلص المتأنس في العذراء مريم فاستنتج انه بأعماله المقدسة شُهر انه مختار الرب

     ( 16 ) ” ويرد كثيرين من بني اسرائيل الى الرب الههم “

     وأتمّ ذلك احسن اتمام اذ حثّ الشعب المتقاطر اليه على اعتناق التوبة والمضي الى يسوع الاله. فتارةً أعلنهم انه عبده بقوله له أمامهم : انا المحتاج ان أعتمد منك. وتارةً أشار اليه بالاصبع قائلاً : هذا حمل الله. حيناً خاطبهم موضحاً انه ليس المسيح المنتظر. وآخر ارسل اثنين من تلاميذه ليسألا السيد المسيح هل هو المنتظر. فاتخذ المخلص فرصة واجترح المعجزات الدالة على انه اله متأنس

     ( 17 ) ” وهو يتقدم أمامه بروح ايليا وقوته ليرد قلب الاباء الى الابناء والعصاة الى حكمة الابرار ويُعدّ للرب شعباً كاملاً “

     أي يمضي امام المسيح الاله بالروح القدس عينه الذي كان فاعلاً في ايليا فانه يفعل في يوحنا ايضاً الافعال الصالحة نفسها. وقد يُفهم بالروح نفس الاعمال الصالحة. ومن المشهور ان يوحنا وايليا كانا بتولين زاهدين يسكنان البراري ويلبسان الجلود ثياباً. وكما ان أولهما كرز قبل مجيء المخلص لأول مرة. كذلك سيكرز ايليا قبل مجيئه الثاني. ثم بالقوة التي وبخ بها ايليا آخاب وايزابل. وبخ بها يوحنا ايضاً هيرودس وهيروديا – ثم ان لوقا اعنى بالقلب البرّ الذي كان من الايمان لابراهيم واسحق ويعقوب فان يوحنا سيرجعه الى الرسل ومن يتقون الله. وهو واحد سواء صدر من العمل بالناموس أو من الايمان بالمسيح واتباعه. ودُعي ابراهيم ومن تبعه من الابرار القديسين آباء وهم آباء لا للمولودين بالجسد بل للمولودين بالروح أي الخاضعين لتعليم الرسل ولما نشروه من العقائد الموحى بها. وأعلن الملاك زكريا : ان يوحنا المولود منك سيهيء للرب لا مثل الشعب الحاضر خارجاً ينتظرك بل شعباً آخر كاملاً وهو الشعب المسيحي الذي يقبل الايمان بالعماد في العهد الجديد

     ( 18 ) ” فقال زكريا للملاك. بِمَ أعلم هذا فاني شيخ وامرأتي تقدّمت في أيامها”

( 19 )” أجاب الملاك وقال له أنا جبرائيل الواقف أمام الله وقد أرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا ” ( 20 ) ” وها انك تكون صامتاً فلا تستطيع ان تتكلم الى يوم يكون هذا لانك لم تصدق كلامي الذي سيتم في أوانه “

     يلزمنا التعجب من سلوك زكريا وجوابه. فقد كان مطلعاً على الكتب المنزلة وعارفاً بما فيها ومع ذلك داخله الشك. ولم يفكر في حال ابراهيم وسارة زوجته وكان شيخاً وكانت عاقراً وقد تناسل منهما أمم وشعوب. ولم يفكر أيضاً بحنة أم شمشون. لكن طبع الانسان ان يناله الشك في كل الامور التي لم يمتحنها هو بنفسه. واذ نظر الملاك ما داخل مخاطبه قال. انه جبرائيل القائم قدام الله لتمجيده وتعظيمه وتنفيذ ارادته وعقب باعلانه عقوبة ارتيابه قال : تكون ساكتاً لانك ارتبت في قولي ولم تصدق ان العقر ينحل بقوة العلي – واعلم ان سكوت زكريا ممثل سكوت الشريعة العتيقة عن عقائد عديدة باهرة تختص باقانيمه تعالى وصفات رحمته وحنانه. وانما أسكت الملاك زكريا لاسباب منها الا يُكلم الشعب عما رآه لئلا يهزأ به ولا يصدق قوله. وكانت عادتهم الّا يؤمنوا باشياء كثيرة يوحيها تعالى. وأيضاً ألّا يبلغ الخبر هيرودس فيقتل الاطفال للتخلص من يوحنا. ومن البين ان علة السكوت هي شك زكريا. ومعنى عبارة الملاك : لاجل انك لم تصدق كلامي اربط لسانك واسكت صوتك. وليكن ثابتاً لديك ان قولي سينفذ كله في الوقت الذي حدّده ربي وان كنت مرتاباً فيه

     ( 21 ) ” وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من ابطائه في الهيكل ”

( 22 )  ” فلما خرج لم يستطع ان يكلمهم فعلموا انه قد رأى رؤيا. وكان يُشير اليهم وبقى ابكم “

     انتظر الشعب خروج زكريا من قدس الاقداس وأصابه العجب من تأخيره فظنّ انه قد التوت به ركبتاه. وعجز عن القيام من مكانه بسبب شيخوخته. أو انه استغرق في النوم. وبعد خروجه كانت عادة عظيم الاحبار ان يبارك الشعب فلم يفعل. وأيضاً نظروا لونه تغير وما سمعوا له صوتاً بل رأت أعينهم اشارات يديه فتيقنوا انه رأى رؤيا. وقد بقي أخرس من ذاك الوقت الى تمام تسعة أشهر. وافهم بالخرس هنا لا عدم مقدرة اللسان على التلفظ بل أيضاً عدم السمع أو الصمم

     ( 23 ) ” ولما تمت أيام خدمته مضى الى بيته “

     أيام خدمته هي أيام عيد الغفران وبدؤها اليوم الاول من تشرين الاول القمري لا الشمسي. وآخرها اليوم العاشر منه. واذ كملت رجع زكريا الى بيته ليجامع امرأته.

     ( 24 ) ” ومن بعد تلك الايام حبلت اليصابات امرأته فاختبأت خمسة أشهر قائلة ”

( 25 ) ” هكذا صنع بي الرب في الايام التي نظر اليّ فيها ليصرف عني العار بين الناس “

     دلّ بالايام على التي وقعت البشارة فيها لزكريا. واذ نظرت اليصابات انها حُبلى اختفت عن الناس لسببين. أولاً لشيخوختها وقد أصابها الاندهاش من أمر غريب وقع لها بعناية فوقانية. ثانياً لتواضعها. وقد خافت من ان ينالها تكبر أو افتخار. ولهذا المعنى نسبت أمرها العجيب الى الله واعترفت انه هو الصانع بها والعامل. ثم ما انقطعت عن الشكر الجزيل للعزة الالهية. والثناء المستطاب على هباتها الوافرة التي أغنتها في فقرها ورفعت عنها العار. والعاقر محرومة البركة لانها محرومة النمو والزيادة. وقد قال تعالى في بدء كتابه العزيز : انموا واكثروا. والعار في حرمان بركة النمو

 ومما يستحق الذكر. ان اليوم الاول من الشهر السابع القمري. أي من تشرين الاول. كان يُدعى تذكار الدعوة ثم اليوم العاشر منه يقع في عيد الغفران. وفيه يُرسَل الثور الى القفر معتقاً ومنجىً من الذبح. وكانوا يسمونه ايضاً يوم التواضع.فمثل هذه التسميات يلزم مطابقتها على يوحنا. فالدعوة تدل على الصوت وكان يوحنا صوتاً صارخاً في البرية. ويوم الغفران يستلزم طلب المغفرة. ويوحنا كالثور المرسَل الى القفر نادى بالتوبة للخلاص. ثم يناسبه التواضع أحسن مناسبة. لأنه عليه السلام ما افتخر قط

بشارة والدة الله

     ( 26 ) ” وفي الشهر السادس أرسِل الملاك جبرائيل من قبل الله الى مدينة في الجليل تُسمى ناصرة “

     لما كان الحادث الذي سيروي الانجيلي تفاصيله سامياً في الخطورة. اقتضت الحال ان يذكر تاريخه كعادة الكتبة الموحى اليهم. وان بشارة والدة الله مقدمة للتجسد الالهي. فاهميتها اذن بينة. وقد أعنى بالشهر السادس منذ حبل اليصابات بالمعمدان فكأن العبارة هنا تمام ما قبلها. وهذا الشهر هو العاشر من نيسان القمري الذي يقابل الخامس والعشرين من أذار الشمسي. وانتبه الى ان عدد السادس مقرون بالحوادث الخطيرة. ففي اليوم السادس خُلق آدم. وفي اليوم السادس عصى الله ووصيته. وفي اليوم السادس تمت الألام المخلصية. وفي اليوم السادس بلغت الكمال الخلائق كلها في العالم. فَلَاقَ اذن ان في الشهر السادس يُجدد تعالى الخليقة الساقطة. وسيقع مجيء الله الثاني للدينونة العامة في اليوم السادس – أما ارسال جبرائيل للتبشير بالحبل. فالداعي اليه أولاً. ان الملائكة خدّام الله يُرسلون الى البشر لابلاغهم مقاصد العلي. ولو أتى الله رأساً الى العذراء القديسة لزاد الحادث في ادهاشها ولاعتراها فزع وخوف لأن الكلمة الذي هو قوة العلي مالئ السموات والارض وأسرع من الملائكة وهو في الكل اجمعين. وقد حلّ في أحشاء البتول ومنها وُلد. فالكلمة اذن ليس بانسان كسائر الناس كما ادّعى الهراطقة. والكلمة هو السيد المسيح عينه وجرت تسميته بقوة العلي. وبهذا شهد بولس الرسول عند ما دعا المسيح حكمة الله وقدرته – وقيل الى مدينة الجليل اثباتاً للنبوة القائلة انه يعلن مجيئه الامم والشعوب. وهي الجالسة في الظلمة وظلال الموت. وزاد الانجيلي تعيين المدينة. فذكر اسمها الناصرة دفعاً لخلط العجائز. ولمن قال ان البشارة تمت في الهيكل الذي باورشليم. وان سألت ما الحكمة في ارسال جبرائيل الذي هو رئيس المراتب الروحانية ولِمَ لم يرسل ميخائيل الذي هو رئيس جوقة الملائكة المقرّبين من الله؟. أجبت ان اسم جبرائيل مكتوب في نبوة دانيال. وبالتالي معروف عند اليهود. فبتسميته يسدّ فم اليهود. فلا يغالطون قائلين ان اسم المرسَل لا وجود له في كتبنا فهو غلط. وعمله نخترع لا صحة له. وزد على ذلك ان اسمه اعلن البتول ان الله يرفع بقوة ساعده الناموس العتيق ويفتح باب الشريعة الجديدة.

     ( 27 ) ” الى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف نت بيت داود واسم العذراء مريم ”

     لماذا وُلد السيد المسيح من عذراء؟ الجواب : لا لأن الزواج نجس. فان الله عزّ وجلّ هو الذي أمر بالزواج. ثم قال بولس ان الزواج مكرّم في الجميع. بل انما وُلد من عذراء. أولاً لاثبات أن الله عينه هو المتجسد. وان لا انسان مثله. وبيان ان الولادة من عذراء عمل فوق الطبيعة لا يقدر على اتيانه. الا الله الذي صوّر بقدرته في أحشاء مريم جسداً له. ثانياً لنفي ما يتسرّب الى عقول الوثنيين من ان السيد المسيح نبي لا غير وهو مولود من ذات بعل. وليس فيه ما يعلو درجة الانبياء. أما ولادته من عذراء فغير مألوفة وأرفع من ولادة أعظم البنين. لانه هو نفسه أرفع منهم. ثالثاً لاعلان ان نوعنا الانساني يلزم ان ينال التبرر بواسطة عذراء كما أصابه الاثم والمعصية بواسطة حواء البتول أيضاً. رابعاً للدلالة على ولادة روحية تصدر للانسان من المعمودية صدوراً فائق الطبيعة. لان الولادة من بتول أمر فائق الطبيعة لم يسببه اختلاط الاجسام. بل هو كشيء روحي يجعلنا نعتقد بوجود ولادة روحية أيضاً. خامساً لتبيين ان البتولية أشرف من الزواج. ولو ان الزواج في الناموس مكرم ممدوح

     ولسائل كيف تلد العذراء بغير زواج؟ نقول ان المستحيل عند الناس ممكن عند الله. والرب يصنع ما ليس له شبيه في السماء أو على الارض. واننا نسأل ايضاً : كيف خلق الله العالم من لا شيء. وكيف تدور الخلائق في الفضاء بنظام بديع وبدون التحام. أو مصادمة بعضها لبعض وبدون سند يسندها وهي غير ناطقة. وكيف وُلدت حواء من آدم. وكيف لم تحترق العوسجة بالنار. وكيف انقلبت العصا تنيناً وابتلعت تنانين أخرى. وكيف تحوّل ماء النيل دماً. وكيف فلق موسى بعصاه البحر وتفجرت الينابيع من الحجر. وتكلمت الاتان. والشمس رجعت الى الوراء. وبقيت النار محفوظة في قعر البئر سبعين سنة. ومن السمكة أخذ بطرس الرسول استاراً. واشبعت الخمس خبزات سبعة آلاف رجل. فان ردّ علينا أحد جواباً. رددنا نحن ايضاً عليه واستخدمنا قوله لاظهار كيف ولدت العذراء ابناً. واننا مؤمنون بانها ولدت ايماناً حقاً. ولو اننا غير مدركين تمام الادراك كيف انها ولدت. وان في ذلك لعجباً. والعجب ما لا يُدرك سببه. وان لم تخفَ علته فليس بعجب. ويعترض اليهود بقولهم ان المفسرين وضعوا صبية لا عذراء فنرد اعتراضهم بتكذيبه وما أثبتوه بدون دليل يسوغ لنا ان ننكره حتى بدون دليل. ولكنا نثبت ان الاصل يذكر كلمة عذراء لا صبية. وايضاً ان صدق اعتراضهم فلا يفيدهم فتيلاً لان الكتاب المقدس كثيراً ما يسمي العذراء صبية كما سمى صبايا العذارى اللواتي حمل بنو اسرائيل بني بنيامين على خطفهن. ثم جاء في تثنية الاشتراع       ( 22 : 22 ) واذا كانت صبية مخطوبة لرجل فصادفها رجل في المدينة فافسدها.  فارجموهما بالحجارة. اما مريم عليها السلام فهي عذراء. وقد اتخذت رجلاً خطيباً بعناية خاصة من الرب ليعرف نسب السيد المسيح بين العبرانيين. ويُشهر انه من داود وابراهيم. اذ العادة ألّا يُنسب الى النساء عندهم ثم ليكون يوسف ستراً للصبي وامه فلا يُعير الاول ولا تُتّهم الثانية بالزنى. ورأى قوم ان يوسف خطب العذراء للمحافظة عليها. وقال ساويرس انه عقد له عليها عقد زواج. وذكر يؤانس انها سكنت ويوسف في البيت الواحد. اما مار افرام فارتأى انها كانت في بيت منفصل عن مسكن يوسف. لكنه سكن معها بعد ان ظهر له الملاك وازال مخاوفه. وقد كان الفريقان من بيت داود. وقول الانجيلي من بيت داود مختص بالعذراء وبيوسف معاً. ولو كان هذا البار من قبيلة أخرى لحرمت عليه كريم تبعاً لشريعة موسى. اما معنى اسم مريم فموهبة وأوله آخرون بلفظ ظهور ووضوح.

     ( 28 ) ” فلما دخل اليها الملاك. قال السلام عليك يا ممتلئة نعمة ربنا معك مباركة أنت في النساء ”

     لم يدخل اليها جبرائيل الا عند ما كانت وحدها منفردة. على شبه ما سلك مع زكريا ويوسف اذ تكلم معهما. ولماذا أتى بالبشرى العذراء. ولم يأتِ بها يوسف؟ الجواب انه لم يكن شريك الحبل. بل انما الحبل كله كان من الروح القدس. وان كان زكريا قد وافته البشرى؟ فلأنه كان شريك زوجته بالحبل بيوحنا. وقد دخل جبرائيل الى العذراء في النهار. لأن بشارته كانت نوراً وضياءً ساطعاً ولأن السيد المسيح نور العقول وشمس العدل. وقد وجد الملاك العذراء تُحيي الصلاة. وتطلب من الرب رحمة لنفسها ورأفة بشعبها الذي كان يئن تحت نير الرومانيين. وذهب مار افرام الى انه تزيا امامها بزيّ انسان طاعن في سنه. وقال مار فيلكسينوس : انه اتخذ شبه انسان. ولكن شبهاً روحانياً ليس فيه شيء من كثافة المادة. والقول حق وصواب. وروى مار يعقوب ان مريم خرجت تستقي ماءً فتراءى لها على البئر شاباً بهياً. فأصابها الحياء لصيانتها العفة أحسن صيانة فحملت جرتها ورجعت الى بيتها. ثم أقفلت باب مخدعها وجلست تغزل صوفها. فدخل جبرائيل شبه شيخ جليل وخاطبها. وهي اذ رأت حشمته وسمعت كلامه. عرفت انه رسول الرب. وقد بادأها بكلمة السلام لان من يُولد منها. انما مقصده ان يبطل العداوة التي استحكمت بين أهل الارض. وسكان السماء. وبين شعب وشعب. وبين النفس والجسد تركيزاً للسلام بين فريق وآخر وقد قرن تدابيره وسلوكه بالسلام تحقيقاً لنبوة اشعيا الذي دعاه رب السلام. اما امتلاء العذراء نعمةً. فكناية عن حبلها بالله الكلمة الذي هو عين النعمة. وقد وصفه الملاك بلفظة ربنا. ولم يقل ربي لان الله رب كل القوات سماوية كانت أو أرضية. وبهذه التسمية تعلم أن من حبلت به مريم هو الله. لان رب الملائكة الله وحده. وام كان جبرائيل قد دعاه رباً لا الهاً. لانه جرى على عادة العبيد الذين لا يسمون أسيادهم وأربابهم بأسمائهم. ثم لان الله مع العذرآء شملتها البركة فتلاشت بها اللعنة المثقلة عاتق البشر. لأنها ولدت من تباركت به جميع الشعوب

     ( 29 ) ” فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن يكون هذا السلام”

(30 ) ” فقال لها الملاك. لا تخافي با مريم فانك قد نلتِ نعمةً عند الله.             

 ( 31 ) ” وها انت تحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع.”

     لما وقع منظر مريم على الملاك أصابها الفزع. لانه كان جميل الطلعة غير مألوف في زيه وكلامه. فأزال خوفها لتفهم حق الفهم ما يُبينه لها في بشارته من انها تحبل لا بقوة انسان. بل بقوة فائقة الطبيعة. وتلد أيضاً على خلاف عادة النساء. ودعاها باسمها ليزيدها ثقة به؟ فتطرد ما داخلها من فكر انه غريب لا يعرفها. ثم أعلنها أنها وجدت النعمة التي أضاعتها حوّاء. أو أراد بالنعمة ما ستقبله من الحبل بالكلمة المتجسد فتكون الآية التابعة تفسير كلمة النعمة. وهنا نسأل الهراطقة : من أين قبلت العذراء حبلاً أمن السماء العلوية. أم من الأرض. وهل حبلها كان بأنسان او بالهٍ؟ فان أجابوا : الحبل بانسان. كانوا كاذبين. لان حبل العذراء من السماء وليس من يوسف كما تصرّح به الآيات الحاضرة. فاذن الحبل بالهٍ. ويزيد قضيتنا وضوحاً قول الملاك : ان الروح القدس يحلّ عليك. وقوة العلي تظللك. ولذلك فالقدوس المولود منك يُدعى ابن الله. وأيضاً ما جاء في يوحنا من ان الكلمة صار جسداً. وانتبه الى ان البتول حبلت أولاً بالكلمة. وبعد ذلك ولدته. فدعي اذ ذاك ابناً لها. ولهذا المعنى قال تلدينه ابناً لك. وكان قد قال لها أيضاً تحبيلين. لاعلان ان لا زمن يتخلل ما بين قبولها بالحبل والحبل نفسه. بل في فعل قبولها حبلت به. اما اسم يسوع فتأويله اله المواعيد. واله الحق. وليس فيه ما يدل على القوة المرهبة كاسم صباووت. ولا ما يدل على العدل المنتقم من المذنبين كعزرائيل بل تفسيرها باللغة العبرانية المخلص. وبالفعل منح يسوع الخلاص لبني البشر وبدونه لا خلاص ولا نجاة. وقد كان موسى أعطى هذا الاسم عينه ليشوع بن نون لعلمه انه يدخل آل اسرائيل أرض الميعاد. ويمثل فيه ما سيعمله يسوع مع بني الانسان. من ادخالهم في حضن الشريعة الجديدة. ومن العجيب ان الهراطقة يتفحشون في الكلام على ان امرأة دعته بهذا الاسم. ولا ينظرون في عماهم ان من حبلت به وولدته. وسمته ابنها هب التي أعطته اسمه الكريم. وانها صنعت الامر بحق وصواب. بعد ان أوحي اليها به بواسطة جبرائيل من عند الله الآب. وفضلاً عن ذلك فان التسمية دالة على عمله. فكما ان الملك يُدعى ملكاً من مملكته. وكذا الرئيس من رئاسته. فان المسيح دُعي مخلصاً من تخليصه النوع الانساني. ثم لم يرد الملاك ان يسميه عمانوئيل. لانه حفظ هذه التسمية لاعلانها ليوسف عند ما همّ بتخلية خطيبته. بسبب عدم ادراكه علة حبلها

      ( 32 ) ” هذا يكون عظيماً وابن العلي يُدعى وسيعطيه الرب الاله كرسي داود أبيه ويملك على آل يعقوب الى الابد ” ( 33 ) ” ولا يكون لملكه انقضاء “

     لا يدل الكلام على ان يسوع ما كان عظيماً قبل ولادته في الزمن. بل على انه سيظهر انساناً ممجداً ولم يكن كذلك أي متجسداً من القدم. وما كان الاحبار قبله الّا ليدلوا اليه. وما كان المسحاء قبل ظهوره الّا ليرمزوا اليه. فهو الكل في الكل الذين حملوا شبهه ومثاله. الّا ان سلطانه روحي لا جسدي. وهو ملك السماويين والشعوب الذين نالوا نعمة الايمان به. وقد دعا الملاك داود اباه لان البتول الطاهرة من نسل داود. وان سألت ما معنى كرسي داود؟ قلت ان كرسي الملك أو عرشه رمز الى مملكته. يؤيد هذا التفسير تمام الآية : ويملك على آل يعقوب الى الابد وقد شاء تعالى منح داود الملك. ليشير الى ملك يسوع العادل الذي سيركز فيه بثبات السجود للاله الواحد. وسيحيي فيه العبادة الواجبة لعزته العلوية. وكذلك أعطي موسى اسم اله فرعون. ليشير الى انه مثل فيه يسوع أيضاً الذي هو الاله القوي السائد على العالم. وقد بقيت سلطة الملك تسلسل من زمن داود وفي بيته من واحد الى آخر حتى وُلد السيد المسيح فاستلم زمامها لانها خاصته. وان كان الملاك قد قال سيعطيه الرب الكرسي فذلك لانه صار انساناً. ولكنه لم يعلمنا انه أخذ ما ليس له. بل أخذ ما هو مختص به اختصاصاً مطلقاً بدون قيد. لانه تعالى اسمه ملك بالطبيعة. وبالتالي لم يصر بالتجسد ملكاً على الشعوب الذين امنوا به بمجرد اختيارهم. فبعد هذه المقدمات اسأل النساطرة من أعطى الملك الآخر؟ فان قالوا : داود أعطاه سيدنا يسوع فقل لهم : فكيف قال يعقوب في نبوته ” : أن له الملك. واياه تنتظر الامم تك 49 : 10 ” ومن المعلوم الثابت انه لم ينتظر أحد داود. اذن ربنا هو الذي أعطى داود الملك والحكم. فان أجابوا بأن الملاك قال : سيعطيه الرب الاله الملك. فازح اعتراضهم بالقول : لم يكن الملك ببعيد عنه. بل قد أعطاه الله أي رد له ما هو له. وكان هو بعينه قد أسلمه داود. ومثل هذه التعبيرات ضرب منة الكلام المجازي على حد ما جاء : أنقص من روحي وأضع عليهم. أو انه قد أعطى أنبياءه من روحه وأيضاً يأخذ مما لي ويعطيكم. ومعلوم بالنقل والعقل. أن روح الله لا يتجزأ. ولا ينقص ولا يزيد لكماله المطلق. الذي ليس وراءه زيادة لمستزيد. وأيضاً لو كان داود أعطى السيد المسيح الملك. للزم من ذاك ان تكون مملكة المسيح أرضية لا روحية. لان ما كان عند داود لم يتجاوز السلطة الأرضية. والحال أن سيدنا المسيح. ما كان له خيل ولا أموال. وما قتل ولا حارب الفلسطيين والادوميين كما فعل داود. فقل اذن ام كرسي داود صورة ترمز سراً الى ذاك الكرسي الذي قال أيضاً داود عينه فيه : ان كرسيك يا الله الى أبد الدهور. ولما بدأ السيد المسيح في العالم أخذ الصورة وما ترمز اليه. وأبلغهما الى الكمال. وحقق فيه الرمز تحقيقاً باهراً. وثبت الحقيقة تثبيتاً لا يتزعزع. وقابل رعاك الله قول يعقوب في نبوته : ان له الملك. بكلام الملاك : سيعطيه الرب الاله كرسي داود. وأيضاً القول : اياه تنتظر الامم. بالكلام : ويملك على آل أو بيت يعقوب. وافهم بالبيت الشعب. لان كثيرين من أبناء يعقوب امنوا به. واتخذوه سيداً ومنهم زكريا ويوحنا وسمعان الشيخ. وحنة النبية والرسل والمبشرون. وآلاف غيرهم من اليهودية والسامرة والجليل. ثم نثبت ان معنى كلمة اسرائيل من ينظر الله. والمؤمن ينظر الله بايمانه. فآل يعقوب أو اسرائيل هم كل من يؤمنون بالسيد المسيح أياً كانوا. وفي أي بلاد توطنوا. فالمسيح اذن ملكهم. وأيضاً بيت يعقوب نوع تسمية تشمل كل العالمين. وعادة الكتاب المنزل ان يسمي الجزء ويقصد الى الكل. ولما كان ملك المسيح موصوفاً بأن لا انتهاء له. كان ضرورةً هو مُلك الله عينه. فاذن المسيح هو الله حقاً

     (34 ) ” فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً. “

( 35 ) ” فأجاب الملاك وقال لها ان روح القدس يحلّ عليك وقوة العليّ تظللك ولذلك فالقدوس المولود منك يُدعى ابن الله

     لم تعترض مريم على الملاك بانها لا تعرف رجلاً. الا لانه عين لها انها تحبل وتلد بعد تسعة أشهر. والّا كانت اعتقدت انها سيدنو منها خطيبها. وستلد منه بعد زمان. فافهمها اذ ذاك الملاك ان الروح القدس هو الذي يكوّن الجسم في احشائها للابن الذي تلده. والابن والروح شريكان في الطبع. ثم ان الابن هو واهب الروح ومُعطيه. وبه يلدنا في العماد ولادة روحية ويجعلنا بني الآب. والابن أيضاً أو المسيح هو الذي حلّ في البتول حلولاً حقاً يقيناً من دون أن ينتقل من حضن أبيه. وهو قوة الله اتحد باقنومه بالجسد المنفس بنفس عاقلة. وأتمّ اتحاده في لحظة عين في حضن مريم. فعند ما نقول ان الكلمة صار جسداً يلزمك ان تفهم انه اتخذ جسداً حياً مقروناً بنفس عاقلة. على شبه ما يقال من ان كل ذي جسد يأتي اليك. أي كل ذي جسد حي. فيدل على الكل أو المجموع بجزئه

     ولزيادة بيان لكلام الملاك نقول أن معنى جوابه : لستِ بمحتاجة أن تعرفي رجلاً. لان الروح القدس يكون علة حبلك. وهو الذي يكوّن جسد الابن. وانتبه الى عدة أمور. أولاً الى ان الثالوث الأقدس كان سبب التجسد لأن الآب شاء أن يتأنس الابن. والابن تأنس باختياره. والروح القدس كوّن الجسد. ثانياً من الايمان ان الروح القدس مكوّن الجسد كما صرح متى بقوله ( 1 : 18 ) انها وُجدت حبلى من الروح القدس. ثالثاً في المخلوقات الآب يأمر بالخلق. والابن يخلق والروح القدس يكمل. وقد سمى الملاك الابن قوة العلي لاقناع العذرآء بأنها تحبل بدون زواج مادي. ومن البين انه بشرها بحادث يفوق تحقيقه قوى الطبيعة البشرية. فلذلك ربطه بأن قوة العلي تكون محققة لهُ وبأنها تجري المعجزة الباهرة. ويعترض النساطرة بأن الروح خلق انساناً في احشاء مريم. كما خلق آدم من التراب. أو حوّاء من ضلعه. أو يخلق الأطفال في البطون. والامر ليس بغريب عجيب فَلمَ تطرئون بأعظم مديح ايمان مريم ويوسف وبالتالي ما ايماننا بالأمر العالي المنزلة. وأيضاً ان كان الله خلق بأمره المخلوقات كلها فلم العجب من ان الروح القدس خلق انساناً في احشاء مريم. وقد فاتهم ان عجبنا ناشيء عن ان الابن الطبيعي للآب الازلي أخذ جسماً حياً من البتول. ودُعي أيضاً ابناً طبيعياً لها. وان انذهالنا من ان الله عينه صار جسداً ولم يتغير. واعترض تاودورس النسطوري قائلاً : ان اقنومي الابن والروح القدس ما فعلا شيئاً في البتول لكن تأثيرهما أو قدرتهما هي الفاعلة. فنجيب ان قوتهما ليست مفصولة عنهما. وفي الله الطبيعة والصفات أياً كانت قدرةً أو حكمةً أو رأفةً وما أشبه هي واحد بعينه لان الله بسيط غير مركب. فبقولنا ان قوة الروح القدس جبلت الجسم للابن في بطن مريم. لا نريد أن نفصل قوته عن أقنومه لأن الاثنين في الحقيقة واحد. وبقولنا أن قوة الابن حلت في مريم فاننا لا نفصلها عن الاقنوم لانهما واحد بعينه. ثم ان الكتب المنزلة تدل على ان الاقنوم عينه صار انساناً. فقد قال يوحنا ان الكلمة صار جسداً. والكلمة هي الاقنوم الثاني. وقال بولس ان الله أرسل ابنه. ومعنى الابن الاقنوم الثاني. وأيضاً يعترض النساطرة بقولهم : ان الروح القدس بنى هيكلاً لا غير في البتول مريم. أو اتخذ منها آلة لاعمال الابن أو لأعماله. ونهدم اعتراضهم بقولنا ان الروح عينه تناول من دم مريم الطاهر جسماً حقيقياً اتحد باقنوم الابن. ولم يمسه من جرى ذلك نقصان أو تغيير أو زيادة أو كمال أو صغر أو كبر. ويعترضون أيضاً في سفههم. ان المسيح جُبل في البطن طفلا بأعضاء ولحم ودم. وبعد ذلك حلّ فيه الاقنوم الثاني أو الكلمة. والجواب ان الكلمة صار حقاً واحداً مع الجسد الذي اتخذه من مريم. وذهب بعضهم الى ان النفس الناطقة لا تتحد بالجنين الذي يحيا حياة حيوانية في بطن أمه. الّا بعد مرور أربعين يوماً من الحبل به. اي عند ما يصير في حالة تمكنه من قبول النفس الناطقة ويكون له صورة وأعضاء. وقالوا ان الكلمة اتحد بهذا الجسد منذ قبول مريم عند بشارتها. وما خلقت له النفس الناطقة الا في اليوم الاربعين وكان اتحده شبيهاً باتحاده به بعد موته على الصليب. أي ان اللاهوت بقي مقترناً بالجسد بعد ان فارقت النفس الجسد. أما علماء اليونان ومعهم يعقوب الرهاوي فقالوا بحق وصواب : ان الكلمة والجسد والنفس اتحدوا في الوقت الواحد واللحظة عينها في احشاء مريم ولم يسبق وجود الكلمة والجسد وجود النفس. ونحن من هذا الرأي السديد. ويذهب مذهبنا أيضاً موسى ابن الحجر ويؤانس اسقف داره

     ولما كان الابن منذ الازل ولم ينقسم بتجسده قال الملاك للبتول : المولود فيك لا منك لانه ليس مخلوقاً كسائر الاجنة الذين في الاحشاء. ثم دعاه مطلقاً القدوس لأنه لا يتغير. بل بقي بعد ولادته كما كان من قبل. وقال قوم ان الواجب أن يُقال : المولود منكِ لا فيكِ. ولا حرج في ذلك لان بعض النسخ تروي منكِ. أما النسخة اليونانية فلا تحوي كلمة منكِ ولا فيكِ. ويُستعمل بطريق المجاز لفظ الولادة وما شابهه فيقال : حبل اثماً وتمخض زوراً. وولد افكاً. ولا أعلم ما يولد غداً. وأيضاً ابني الذي ولدته في قيودي. وأنا الذي ولدتكم بيسوع المسيح.

     ثم روت بعض النسخ عوض وابن الله يُدعى انه يكون عظيماً. فاستند الهراطقة الى هذه العبارة وقالوا : انه لم يكن عظيماً بل صار فيما بعد. وقد سبق ان أثبتنا انه لم يُدعَ ابن الله بعد الحبل به. بل كان من قبل كلمةً أزلية في حضن الآب. وبالتالي كان عليّاً عظيماً. وانه ابن الله بالطبع. فمن طبعه اذن كان عظيماً. وبعد ان تجسد عُرف انساناً عظيماً وظهر بهذه صفة العظمة. وفسّر في هذا المعنى كل ما ورد من هذا القبيل. لكن اعتقد متين الاعتقاد ان الابن لايختلف عن الآب بالجوهر أو بالذات. وانما يتميز عنه بالاقنومية وبما يتبع الاقنومية أي انه مولود والآب والد. لكن شرف الآب ولاهوته وعظمته. وحياته وصلاحه وما أشبه. هي هي شرف الابن ولاهوته وعظمته وحياته الخ.

     ( 36 ) ” وها ان اليصابات نسيبتكِ قد حبلت هي أيضاً بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً ” ( 37 ) ” لأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله ”

     النسبة ضروب فقد تكون طبيعية كنسبة الابن الى أبيه. أو مكانية كنسبة الرجل الى بلده. أو اعتقادية كنسبة الاريوسي الى اريوس. أو صناعية كنسبة النجار الى النجارة. وقد تؤخذ من الزي كاسكيم الرهبان وثوب الكاهن وزي العامي. أو من المملكة أو البلد. وان نظرنا الى النسبة بين مريم واليصابات لزم أن نقول : اليصابات كانت عاقراً وشاخت في أيامها. والعذرآء بتول وشابة في قواها والثنتان فاضلتان من آل اسرائيل وفي بلاد يهوذا. فالأولى في أورشليم والثانية في الناصرة وفي بيت لحم. ثم حبلتا حبلاً عظيماً وكان المبشر بحبلهما جبرائيل. وقال آخرون ان هرون تزوج في مصر باليشباع بنت عميناداب من يهوذا. ويوياداع الكاهن تزوج بيوشبع اخت أحازيا ملك يهوذا فمن هذين الزواجين حق للملاك ان يقول لمريم التي من سبط يهوذا ان اليصابات نسيبتها. ومعروف ان اليصابات هذه من سبط لاوي وفي المعنى الروحي الذي يقصده الله في كتابه العزيز : ان السيد المسيح ملك وكاهن. والأمران يحقان له أيضاً بولادته من مريم التي هي من يهوذا بابيها ومن لاوي بامها. وبعد ان ورثهما من أمه أبطلهما بسلطانه وكهنوته. وما عدا ذلك نقول ان اليصابات كانت خالة العذراء أو أخت والدتها. فان اليعازار ولد ابنين هما ماتان ويوتام. فماتان ولد يعقوب ويعقوب ولد يوسف. أما يوتام فولد صادوق وصادوق ولد يوياكيم ويوياكيم ولد مريم من دينا اخت اليصابات التي هي زوجة زكريا. وكانت اليصابات قد اعتنت بتربية مريم البتول اعتنائها ببنت عزيزة على قبلها. وذلك عند ما أقامت مريم في بيت المقدس ودُعيت بسبب ذلك بنت النذور. وهذا ما أثبته أيضاً القديس كاوركي. وقد استخدم يوليانوس الجاحد كلمة نسيبتكِ لاثباتِ ان مريم ليست من يهوذا ومن قبيلة داود. بل من لاوي. وتجاهل في حمقه ان مَن يدعون أقارب وأنسباء. لا يلزمهم ضرورة ان ينتسبوا الى القبيلة الواحدة. ثم تناسى ان بولس الرسول يدعو الاسرائيليين اخوته وانسباءه وليسوا كلهم مثله من سبط بنيامين

     وبعد أن أعلم الملاك العذراء بحبل اليصابات وعيّن الزمن الذي مرّ عليه. ذكر دليلاً قاطعاً يثبت ما بشر به البتول وسيقع لها وما وقع لأليصابات فقال : ليس عند الله أمر عسير أو غير ممكن. فحبلُ عاقر بابن شيخوختها وحبل عذراء بدون زرع بشري. ثم حبلها عينه بابن الله من دون ان يصيبه نقصان أو تغير. كل هذه عسيرة أو غير ممكنة عند المخلوقات لكنها ممكنة وسهلة لذي القدرة التي لا تشوبها ضعف. ولا يقوى مخلوق على معاندتها. وان كانت مخلوقاته تعالى محدودة وافعاله في الخارج محدودة أيضاً فانه في ذاته غير محدود. اي ليست طبيعته محدودة وليس أقنوم من اقانيمه محدوداً. وأفقه جيداً أولاً ان الاقانيم الثلاثة كانوا عاملين لاتمام سرّ التجسد لان كل تدبير في العالم يُنسب اليهم كالى واحد. ثانياً عند ما وُلد المسيح في الزمن وهو الاقنوم الثاني. لم يترك مساواته بالطبيعة للآب والابن

   ( 38 ) ” فقالت مريم ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك وانصرف الملاك من عندها ”

     بعد ان أسند الملاك الى قدرة الله الحوادث التي بشّر بها. لم تَرَ البتول قولاً أولى مما قالته؟ وما فاهت بعبارتها حتى تمّ فيها الحبل. ودعت نفسها أمة الرب راغبة في اعلان الضعف البشري الذي لا يداويه غير نعمة الله. وما أعظم ما كانت النعمة الالهية التي شملت نفسها الكريمة في تلك الساعة المجيدة. وقد ادّعى قوم ان الحبل بَدَأ زمن قول الملاك لها : السلام عليك يا ممتلئة نعمة. وذهب فريق آخر انه تمّ عند القول : الرب معكِ . وقال فريق ثالث انه ابتدأ ساعة سمعت عليها السلام : انكِ تحبلين وتلدين. لكن لوقا استئصل جذور هذه الاقوال الفاسدة. بقوله في أخباره عن الختانة ( 2 : 21 ) سُمّي يسوع كما سمّاه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن. ومن نصّ الكتاب يستبين. ان الآيات التي يستند اليها أصحاب المذاهب الثلاثة قيلت كلها قبل أن يسميه الملاك باسم يسوع. ورأى فلايق رابع ان الحبل تمّ عند ما قال جبرائيل : روح القدس يأتي اليكِ. وليس في هذا الرأي دليل صحيح صوابي. أما نحن فاننا بيّنا رأينا بقولنا ان عند ما فاهت بالعبارة أنا أمة الرب فليكن لي كقولك. أي عند ما أعطت اقرار فمها. وأبدت بذلك رضاها نزل عليها الروح. وحلت فيها قوة العلي وحبلت حقاً. وما كمل هذا السرّ حتى رجع الملاك الى حالته الأولى. وتجرّد من شكله وصورته وغاب عن عينها.

زيارة العذراء مريم لنسيبتها اليصابات

     ( 39 ) ” قامت مريم في تلك الايام وذهبت مسرعة الى الجبل الى مدينة يهوذا”          ( 40 ) ” ودخلت الى بيت زكريا وسلمت على اليصابات ”

     في الأيام التي بشّرها الملاك فيها حبلاً. قامت ومضت من الناصرة الى أورشليم التي يسميها الانجيلي مدينة يهوذا. وقصدُ مريم أن تتحقق بالفعل ما علمته من نسيبتها من الملاك. واني أرتأي ان الملاك نفسه طلب منها الذهاب الى اليصابات. ويؤيد ذلك انها مضت مسرعة قارنة سفرها باجتهاد. راغبة في أن ترى الأمر رأياً محسوساً. وتقاسم العاقر الفرح والمسرات بزوال عقرها. ولهذا المعنى أيضاً ذكر لها الملاك داعي النسبة ما بينها وبين اليصابات. ولاحظ هنا تواضع سيدنا الذي تحمله البتول في بطنها فهو الرب والسيد. ولا يأنف من الذهاب الى يوحنا عبده. كما انه سيذهب اليه أيضاً بدون كره وانفة للاعتماد من يده ثم ان مريم استأذنت يوسف خطيبها قبل سفرها. قالت : اليصابات حبلت فأذن لي بالمضي لأرى هذا الامر العجيب وكان هذا البار قد سمع بخبر اليصابات. الّا انه بقي جاهلاً لبشارة خطيبته التي رجعت اليه بعد ثلاثة أشهر فنظر اذ ذاك حبلها وداخله الارتياب وفكر في تخليتها سراً. الى ان أظهر له ملاك في الحلم وأعلنه ان حبلها من الروح القدس

     ( 41 ) ” فعندما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت من الروح القدس ” ( 42 ) ” فصاحت بصوت عظيم وقالت مباركة أنتِ في النساء ومباركة ثمرة بطنك ” ( 43 ) ” من أين لي هذا أن تأتي أم ربي اليّ ”

     ان ارتكاض الجنين صادر عن انه أحسّ بقدوم سيده اليه محمولاً في احشاء البتول. فشاء تقدمة السجود له كما هو فرض السابق امام الملك. والداعي له الى عمله السرور الذي ناله لا مزاج طبيعته فان نفسه الناطقة أنارها الروح القدس. فأدركت الهبة العظمى التي يمنّ عليها بها المخلص المتجسد بزيارته. ومن الأكيد ان ليس من الطبيعي أن يفرح الجنين. وأن يتحرك دلالة ابتهاج. بل ما وقع ليوحنا من الله الذي أوحى به بواسطة الملاك القائل : انه يمتليء من الروح القدس وهو في بطن أمه. فتمّ الآن بالفعل ما سمعه زكريا. ولله طرق متعددة في منح الروح. ففي العلية أعطاه الرسل بواسطة النفخة من فمه الالهي وهنا يمنحه بواسطة زيارة أمه. ثم ان سرور يوحنا مُعلن العذراء ان حبله بعناية من الله خاصة. ومؤيد لكلام الملاك الذي بشرها. ثم ان الروح لم يملأ نفس يوحنا الجنين وحده. بل ملأ والدته. فراجعت علانيةً ما قاله الملاك لمريم في السرّ والخفاء. وكان كلامها مُلهماً من الروح القدس عينه. ثم انها تنبّأت بأن مريم أم الاله. وهي لا تشعر ظاهراً بشيء تستدل منه حبل الكلمة. فمعرفتها اذن من الروح أيضاً وانتبه الى أمر ذي بال يناقص تعليم النساطرة باهر المناقضة. وهو ان الملاك واليصابات سمّيا المخلص وهو في بطن أمه عظيماً ورباً. فاذن كانت له العظمة والربوبية قبل ولادته وما اكتسبها بعدُ ولا أخذ بعد ظهوره الا ان الناس لم يكونوا بها عارفين. ثم لما خاطبهم وتردد ما بينهم اقرّوا بها وعلموا بوجودها

    ( 44 ) ” فانه عند ما بلغ صوت سلامكِ الى أذنيّ ارتكض الجنين من الابتهاج في بطني ” ( 45 ) ” فطوبى للتي أمنت لانه سيتم ما قيل لها من قبل الرب ”

     ابدت اليصابات بالصراحة ان ارتكاض الجنين من الروح الذي وهبه الكلمة المتجسد سابقه يوحنا في بطنها فطوّبت زائرتها ومعنى كلامها طوباكِ يا مريم لانكِ صدّقتِ الله في كلامه الذي وجّهه اليك بملاكه المبشر. وقبل ان نباشر بتفسير ترنيمة البتول يلزم القول ان مخاطبة مريم واليصابات وقعت بارادة والهام من تحمله العذراء في احشائها

( ترنيمة مريم البتول )

     ( 46 ) ” فقالت مريم تعظم نفسي الرب ”

     أي ان نفسي تشكر له هباته وتمجده لانه رفع قدري وجعلني أماً لابنه. وكأنها عليها السلام تبادله التعظيم وبعد ان أبلغها أوج المعالي باختيارها أماً للكلمة رأت واجبها تعظيمه تحقيقاً ايضاً للآية : اعطوا التعظيم لالهنا

    

( 47 ) ” وتبتهج روحي بالله مخلصي ”

     أي لانه انزل ابنه الى أحشائي وسيخلصني من اللعنة المثقلة المرأة والموجبة عليها ان تلد بالاوجاع

     ( 48 ) ” لانه نظر الى تواضع أمته فها منذ الآن تطوبني جميع الاجيال ”

     دلّت على ان سبب رفعتها التواضع ومفاد كلامها : نظر الى تواضعي فلذا رفعني وجعلني اماً لابنه – كذلك رفع التواضع موسى وجعله رئيس شعبه. ومنذ الزمن الذي حبلت مريم بالله المخلص لزم قبائل الارض اجمع تطويبها وما قولها هذا الا نبؤة نظرت الاجيال تحقيقها

     ( 49 ) ” لان القدير صنع بي العظائم واسمه قدوس ” ( 50 ) ” ورحمته الى أجيال وأجيال للذين يتقونه ”

     من العظائم التي نالها البتول انها حبلت بالابن بدون زرع وولدته بدون وجع ولم يُفكّ ختم بتوليتها وليس مثل هذه الامور بالعسيرة الصعبة على الله بل هباته ومراحمه تغزر على من يتقونه سالكين سيرة حسنة ومزاولين الفضائل

     (51 ) ” صنع عزاً بساعده وشتت المتكبرين بأفكار قلوبهم ” ( 52 ) ” حط المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ”

     عز الله سلطانه القاهر وضبطه الناس والمخلوقات في قبضة يديه وقد ظهر استظهاره في الزمن الماضي على الشعوب كلها وصنع ساعده المعجزات الباهرة بواسطة النبيين. اما في هذا الزمان فان قوة يده بدت بظهور ابنه المتجسد. ويدخل في تسمية المتكبرين لا ذوو رذيلة الكبرياء فقط بل كل كافر بالرب جاحد لآلائه. ومن رجع الى التاريخ القديم رأى ان الله أباد الملوك الذين بغوا على شعبه الخاص أي آل اسرائيل ثم أباد الوثنيين وشتّت شمل اليهود وكسر شوكة الهراطقة المتمردين على كنيسته لكنه رفع درجات عالية آل ابراهيم خليله واسحق والصالحين والرسل وذوي الايمان المستقيم

     ( 53 ) ” أشبع الجياع خيراً والاغنياء أرسلهم فارغين ”

     الجياع هم الذين يطلبون البرّ فالله اشبعهم ويُشبعهم من الفضائل الناضرة ومن السعادة الخالدة والمجازاة الابدية الّا ان المفتخرين بخيرات الأرض الظانين انهم قد شبعوا فما قصدوا الى مائدته الروحية فانه سيجردهم من غناهم الزائل فيمسون فارغي النفوس عُراة الأجسام

     ( 54 ) ” عضد اسرائيل فتاه فذكر رحمته ” ( 55 ) ” كما كلم آباءنا لابراهيم ونسله الى الابد

     قاد كأب آل اسرائيل في البرية بعد ان نجاهم من عبودية مصر. ثم وهبهم أرض الميعاد وكسر أمامهم شوكة أعدائهم. والآن لم ينسَ حنانه الماضي بل تذكّره وواصل اظهاره لشعبه. فأتمّ ما وعد به ابراهيم من أن يظهر السيد المسيح من زرعه حاملاً البركة للشعوب. وقد عمّت الرحمة العالم واليهود خاصة بواسطة الرسل الاثني عشر. فآمن بالمسيح كثيرون. وكذا كملت من قبل المواعيد بواسطة يشوع بن نون وكالب

     ( 56 ) ” ومكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر ثم عادت الى بيتها “

     ان بقاء العذرآء هذه المدة. انما كان القصد منه تحقيق ما سمعته من الملاك. ولكن لما دنا زمن ميلاد يوحنا رجعت الى الناصرة لأنه لا يليق ان يبقى السيد عند عبده للقيام بخدمته

ميلاد يوحنا المعمدان

     ( 57 ) ” أما أليصابات فلما تمّ زمان وضعها ولدت ابناً ”

     أتت البتول لزيارة اليصابات في شهر حبلها السادس. ثم مكثت عندها ثلاثة أشهر فتمّ بذلك الزمن المألوف للولادة

     ( 58 ) ” فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد عظم رحمته لها ففرحوا معها ”

     الجيران صنفان أخيار وأشرار. فالفريق الأول تأخذه المسرة بما يناله جاره من الخير بعكس الفريق الثاني. وكان جيران اليصابات من العصبة الاولى. وانك تستدل على ذلك من فرحهم معها بمولودها. اما أقاربها فهم بنو سبطها. وقد علموا ان الله ترأف بها فأزال عقرها ورحمها وزكريا زوجها

     ( 59 ) ” وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا ”              ( 60 ) ” فأجابت أمه قائلة كلا لكنه يُدعى يوحنا ” ( 61 ) ” فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك يُدعى بهذا الاسم ”

     اليوم الثامن هو اليوم الذي عيّنه الناموس للختانة. وكانت العادة ان الابن الوحيد يُدعى باسم والده. الّا ان اليصابات أبت عليهم ذلك. ولاحترامها لاسم زوجها لم تجسر ان تقول : لا يُدعى زكريا بل لا هكذا. مقتدية بسارة التي كانت تدعو زوجها سيداً. ثم سمّت لهم اسم يوحنا كما كشف لها الروح القدس. أما جيرانها بنو سبطها فاعترضوا عليها بان لم يكن في عشيرتها مَن يحمل هذا الاسم .

     ( 62 ) ” ثم أومأوا الى أبيه ماذا يريد أن يُسمى ” ( 63 ) ” فطلب لوحاً وكتب فيه قائلاً اسمه يوحنا ”

     سبق لنا ان ذكرنا في حق زكريا انه أبكم أصمّ. فاقتضت الحال الايماء اليه لاستشارته. وقد ضُرب بالصم لسببين. الاول الّا يُلزمه أحد بكتابه ما قد رأى وبافشاء السرّ. الثاني الّا يُقال ان زكريا كتب اسم يوحنا لانه سمعه من اليصابات امرأته. ففي هذه الحالة يصح الادعاء ان الاسم لم يلهمه الملاك بل أتى من بشر. وانما حَرَم الملاك زكريا سمعه لانه لم يؤمن. وربط لسانه لانه أجاب بكلام الريب والشك قائلاً : كيف أعرف هذا. وان سألت عن موضوع هذا الريب قلت ان زكريا شك. اولاً في ان اليصابات تلد وهو شيخ وهي عاقر. ثانياً في كيف يدعو ابنه يوحنا ان وُلد له ابن. والاسم غريب عن قبيلته. ولهذين الأمرين ضُرب بعاهتي البكم والصمم. وقد اجتهد زكريا عند ما سأله اقاربه وجيرانه ان يلفظ باسم يوحنا فما استطاع الى ذلك سبيلاً. ولو انه فُوّض اليه التسمية في الرؤيا التي كان قد رآها. الا ان مبشره أعلنه انه لن يقوى على التفوّه بها عند الاقتضاء. ولهذا السبب كتب على اللوح الاسم الكريم. وما كان الامر عبثاً لان العهد القديم بُدِيء به بالكتابة. فلازم ان يُبتَدَأ بالعهد الجديد بالكتابة أيضاً. وحرّر موسى في لوحين الوصايا العشر. وحرّر زكريا أيضاً في لوح عشرة حروف يعني مجموعها يوحنا. ثم ان موسى كان أبكم وكذا زكريا كان محروم النطق. ويُسأل : أكتب زكريا كلمة يوحنا فقط. أم يوحنا يكون اسمه. فان لوقا ما صرّح لنا بشيء من هذا. لكني أرتأي ان كتابته كانت : يوحنا يكون اسمه. وسواء كتب الاولى أو الثانية. فان ارادة الله تنال مفعولها باحدى الثنتين. وما كتبت يده الاسم الا وأطلق لسانه من رباطه أو انحلت عقدته

     وقد استولى العجب على الجميع من الاسم لانه كان جديداً. وما جدتّه الا بسبب العهد الجديد. ولان حامله كان مُعدّاً للبشارة بالامور الجديدة المستحسنة وأيضاً لما كان يوحنا مشتقاً من الحنان. وجب عدّه أحسن رمز الى عهد الشريعة المسيحية الطافحة بالرأفة والرحمة والحنان والدعة. ثم ان كان لسان زكريا لم يلفظ الاسم قبل ان كتبته اليد فلأن اليد الحاوية لخمس أصابع تطابق الاحرف الخمسة التي في كلمة يوحنا

     ( 64 ) ” وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم مباركاً لله ” ( 65 ) ” فحل خوف على جميع جيرانهم وتحدث بهذه الامور كلها في جميع جبال اليهودية ” ( 66 ) ” وكان كل من يسمع بذلك يحفظه في قلبه ويقول ما عسى أن يكون هذا الصبي. وكانت يد الرب معه ”

     انحلّ لسان زكريا بعد انتهائه من كتابة الحرف الاخير من هذه العبارة : يوحنا يكون اسمه. ثم بارك الله. وخالف بعضهم قالوا انه بارك الله أولاً. ثم قال يوحنا يكون اسمه لانقياده باديء بدء الى عاطفة الشكر. ولا عجب ان يكون رأيهم اصحّ لان الابتداء باسم الله من الصواب والنظام بين ذوي التقوى. ولا سيما بعد جريان معجزة اطلاق اللسان وامام اسم عجيب يدل على روح العهد الجديد. هذه آيات العلي عند مولد سابقه. وقد واصلت يده العلية ما بدته في كل أطوار حياته وتقلبات سلوكه. وافهم بيد العليّ عمل الرب الهادي الى كل صلاح وسداد

ترنيمة زكريا

     ( 67 ) ” وامتلأ أبوه زكريا من الروح القدس وتنبأ قائلاً ”

     ملأ الروح نفس زكريا على شبه ما وقع لاليصابات زوجته. فجعله يعلن المستقبل ويصف حالة ابنه واعداده الطريق للمخلص المنتظر. وقد افتتح ترنيمته بتقدمة الشكر لله على آلائه لانه أبدى كبير للعناية بالجنس البشري

     ( 68 ) ” مبارك الرب اله اسرائيل لانه افتقد وصنع فداء لشعبه ”

     ( 69 ) ” وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه ”

     ومن ضروب هذه العناية انه تعالى أرسل ابنه الوحيد متجسداً من مريم. وكأن زكريا رأى السيد المسيح مفتقداً ذوي العاهات المتنوعة من عميان وعرج وشلّ. ونظر بعين الروح المعجزات العديدة التي أتاها له المجد لتخفيف الويلات عن بني الانسان وكيف انه نجاهم من الخطيه والشيطان. فهو قرن الخلاص الذي يقاتل ببأس وينال الغلبة. وكلمة قرن مجاز منقول من الحيوان. يعني القوة والشجاعة والمدافعة ببأس. وفي العهد العتيق يكثر ذكره في هذا المعنى وان هذا القرن أقامه الله في بيت داود. دلالة على المواعيد السنية التي مفادها ان المسيح يكون من زرع داود. قال ساويرا الملقب بكابولا ان الله قرن الابرار والقديسين ومعناه كما ان القرن جزء من الجسم وليس فيه ما يشبه عظام الجسم أو عروقه أو شيئاً آخر فيه من دم ولحم. كذلك المسيح من جنس البشر وليس فيه ما يشبه خطاياهم ومعاصيهم

     ( 70 ) ” كما تكلم على أفواه أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر ” ( 71 ) ” بأن يخلصنا من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا ” ( 72 ) ” ليصنع رحمة الى آبائنا ويذكر عهده المقدس ” ( 73 ) ” القسم الذي حلف لابراهيم أبينا أن يُنعم علينا ” ( 74 ) ” بأن ننجو من أيدي أعدائنا فنعبده بلا خوف ” ( 75 ) ” بالقداسة والبر جميع أيام حياتنا ”

     مرجع كلام الله على أفواه انبيائه ان المسيح يخرج من صلب داود ويخلص البشر من ابليس اللعين ومن قواته ومن الخطية والموت.

     فاليوم يذكر تعالى موعده لابراهيم خليله وينجزه. لانه اثبته بقسم وحلف له ان من زرعه يخرج المخلص وان به تتبارك شعوب الأرض ” تكوين ص 22 : 18 ”

     وانما يخلصنا الرب لنهجر الاصنام ونعبده العبادة الواجبة له. لا بالذبائح والحيوانات الخرساء. بل بطهر السيرة وخلوص السريرة

     ( 76 ) ” وأنت أيها الصبي نبي العلي تُدعى لانك تسبق أمام وجه الرب لتعد طرقه ”

     وأنت أيها الصبي الخ. كلام وجّهه زكريا لابنه الطفل. ولما كان المسيح هو الله العلي لزمه أنبياء أيضاً. ويوحنا نبيه ولم تبعد مدته عنه. بل انه سبق بقليلٍ مجيء سيده وظهوره فاعدّ أمامه الطريق وهَيّأ لهُ النفوس البشرية التي أماتتها الخطية. قصدَ أن يهطل عليها ندى الحياة فتعود الى معرفة ربها ومحبته. ثم انه دلّ على قرب مجيّه وعظمته بقوله للشعوب المتقاطرة اليه : انه يأتي بعدي مَن هو أقوى مني

     ( 77 ) ” وتعطي شعبه علم الخلاص لمغفرة خطاياهم ” ( 78 ) ” بأحشاء رحمة الهنا الذي افتقدنا بها المشرق من العلاء ” ( 79 ) ” ليضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت ويُرشد أقدامنا الى سبيل السلامة ”

     أعنى بشعبه كل الذين آمنوا به. فيوحنا يُعطي المؤمنين معرفة الحياة الروحية. ويدلهم على مَن به وحده يمكنهم أن ينالوا الخلاص ومغفرة خطاياهم. والحياة الروحية هي أن يعرفوا الاله الحقيقي وما يطلبه لعبادته الحقة. ثم من وظيفة يوحنا ان يعلمهم طلب المغفرة باحشاء الرحمة الالهية التي جَاء بها المسيح لافتقادنا ونجاتنا. وقد دعا السيد المخلص مُشرقاً من العلو لانه شمس العدل المشرقة. وقال آخرون لانه أشرق بكوكبه على المجوس وبشّرهم بقدومه وكانوا جالسين في ظلام الخطية. وما أبدع وصفه الخطية بالظلمة وظلال الموت فهي تعمي القلب وتميت جرثومة الحياة في النفس. فلأجل تبديد هذا الظلام وابادته أتى المسيح من الاعالي فكان النور الالهي للعالم الانساني وأرشد الأقدام الى سواء السبيل. أي الى السيرة الحسنة والسلوك الممدوح المقرون بالأعمال الصالحة. وافهم بسبيل السلام خطة الانجيل التي من استنهجها نال طمأنينة البال وراحة القلب

     ( 80 ) ” وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح. وكان في البراري الى يوم ظهوره لاسرائيل ”

     نما يوحنا بالبدن والنفس معاً نمواً لا طبيعياً فقط بل فائق الطبيعة أيضاً لأن الروح القدس تولّى تقويته تولياً خاصاً ممتازاً. وان كان قد قصد البراري فلأن هيرودس طلب قتله. وتحرير الخبر ان عند ما أتى المجوس الى أورشليم وانتشر خبرهم بين الشعب دعا هيرودس الكهنة واستعلم عن المسيح ومكان منشأه. ثم دلّ عليهما المجوس وأمل أن يعودوا اليه فما فعلوا فاشتد حنقه اذ ذاك وكان ما كان من قتل أطفال بيت لحم وما جاورها من البلدان. وأعلم هيرودسَ احدُ خاصته ان للكاهن زكريا ولداً يُقال انه المسيح فأرسل اليه هيرودس يطلب منه ابنه. فأسرع بعضهم وأخبر بالأمر اليصابات التي اختفت وابنها في البرية. وخاف زكريا بعد هربها ان يمثل أمام الملك فاحتمى بالهيكل فبعث هيرودس مَن قتله بين الهيكل والمذبح كما هو مكتوب في الانجيل. وروى آخرون ان الروح حمل يوحنا على الخروج الى البرية والبقاء فيها ثلاثين سنة. وقال غيرهم ان خروجه الى البرية كان بتدبير الهي قصد أن لا يتعرف بالمسيح بسبب القرابة ما بينهما حتى تكون شهادته فيما بعد بعيدة عن كل عاطفة بشرية أو غاية أخرى فيصدّقها الناس. ومن الاخبار انه كان ابن سنتين ونصف سنة زمن خروجه. فقد سبق ميلادُه ميلاد يسوع بستة أشهر والمجوس وجدوا المسيح ابن سنتين. وذهب فريق ثانٍ ان المجوس قابلوا المسيح وهو ابن ستة أشهر فكان اذن يوحنا عند اختفائه ابن سنة. وارتأى غيرهم ان المجوس وجدوا يسوع في القمط على ذراع أمه. فيوحنا خرج اذن مع أمه الى البرية وهو ابن ستة أشهر ومنها تعلّم التكلّم. ومَن يُخرجونه وهو ابن سنتين ونصف سنة يقولون انه كان اذ ذاك عارفاً بالتكلم. وقال فريق آخر ان الروح القدس علّمه ان يتفوّه بأول كلام قاله وظل مواصلا تعليمه الى ان ظهر لآل اسرائيل

 

الاصحاح الثاني

ولادة ابن الله المتجسد

     (1 ) ” وفي تلك الايام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب جميع المسكونة ”      ( 2 ) ” وجرى هذا الاكتتاب قبل ولاية كيرينيوس على سورية ”

     بعد ان ولدت اليصابات يوحنا بستة أشهر أراد أوغسطس قيصر ان يعرف عدد الخاضعين لسلطانه فأصدر أمراً بأن يأتي كل الى بلدته ويكتب اسمه في سجلات حكومته. واسم أوغسطس خاص بهذا الملك. أما كلمة قيصر فهي اسم كل ملك يتولى السلطان الأعلى عند الرومانيين كما هي كلمة فرعون عند المصريين. وكسرا في بلاد فارس. وكان أوغسطس زمن الاكتتاب صاحب الأمر والنهي على الرومانيين والمصريين وفي سوريا وفلسطين وعلى أهل الشام وانطاكية والملك الأعلى لليهود. فأراد كداود عدّ سكان ممالكه. وغلط من ادّعى انه قصد ارجاع كلٍّ الى بلدته مسقط رأسه أو رأس آبائه بل الأصحّ انه قصد ضرب الجزية عليهم. ودليل قولنا نأخذه من كلام جملائيل ( أعمال الرسل 5 : 37 ) ونصه : ” قام يهوذا الجليلي في تلك الأيام التي كان الناس يكتتبون فيها لأجل الجزية ” ولم يقع بعد هذا الاكتتاب ولا قبله اكتتاب آخر. وقال القديس افرام فيه انه حدث ” حتى يصعد يوسف ومريم من الناصرة الى بيت لحم لكتابة اسميهما فيولد اذ ذاك المسيح وتتم نبوة ميخا ( 5 : 2 ) القائل : ” وأنت يا بيت لحم ارض يهوذا لستِ الصغيرة في رؤساء يهوذا لانه منكِ يخرج المدبر”. وأيضاً يصدّ اليهود عن التخاصم والقول ان المسيح لم يأتِ من بيت داود. وقد وُلد ربنا في السنة ال 43 لاوغسطس وال 33 لهيرودس. وانتبه الى المطابقات في الظروف الحاضرة فان اوغسطس يعني الظهور والاشراق والمسيح هو المشرق من الأعالي. ثم اوغسطس ملك ست عشرة سنة اما مماثله بالاسم فلا انتهاء لملكه وأيضاً أمر اوغسطس بالاكتتاب من أجل الجزية والمسيح قال أعطوا مال قيصر لقيصر وما لله لله. وأوغسطس قصد معرفة عدد الناس تحت سلطانه أما المسيح فلعظم عنايته بنا وُلد وظهر. وان قيل ان مقاصد أوغسطس من أمره أن يعود كل الى بلدته فالمسيح أيضاً أخرج النفوس التي كانت في هاوية المعصية وأرجعها الى وطنها القديم. وأعلم ان كلمة قيصر تأويلها ضابط الكل. وعلى رأي آخرين تعني رأس الملوك أو شريفاً.

     ( 3 ) ” فانطلق الجميع ليكتتبوا كل واحد الى مدينته ”

     أي ذهب الروماني الى بلاد الرومان واليوناني الى بلاد اليونان والعبراني الى فلسطين والسرياني الى انطاكية وسوريا. وقد دُعي الاكتتاب بالأول لا لعدم وجود اكتتابات أخرى غيره بل لانه وقع اولاً في زمن مُلك أوغسطس وبأمره عند ما أرسل كيرينيوس والياً على سورية. وبهذا صرّحت النسخة اليونانية. ومن البين أنه كان ممكناً ان يكتب كل في مكان اقامته لكن تدبيراً الهياً جعل الاكتتاب في مسقط الرأس. أولاً ليلتزم يوسف ومريم الذهاب الى بيت لحم فيجري ميلاد الرب بمقتضى نبوة ميخا. ثانياً ليعرف الناس ميلاد المخلص. وعادة الله في العهدين القديم والجديد أن يأتي بالأمور غير المألوفة أو على رؤوس الاشهاد ليطلع عليها البشر. وان يجري أشياء غريبة ليدلنا على اننا غرباء في العالم ويلزمنا الرجوع الى الفردوس وطننا القديم. ثالثاً لم يلد السيد المسيح في زمن الاكتتاب الّا ليكتب أسامينا في السماء عند أبيه

     ( 4 ) ” وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لانه كان من بيت داود ومن عشيرته ” ( 5 ) ” ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى ”

     صعدت مريم مع يوسف  بقصد ان تكتتب هي أيضاً ولم يكن محرماً على النساء ان تكتب أساميهن. وارتأي أيضاً ان السيد المسيح قد جرى اكتتاب اسمه كما شهد بذلك القديس افرام قال : كتب اسمه وكتبه والداه. وان سألت لماذا لم يقل الانجيلي ان مريم من بيت داود بل اكتفى باثبات ذلك في حق يوسف؟ فالجواب ان عادتهم تحرير نسبة الرجال لا النساء والتزوج من بنات السبط لا من غيره. وهذا ما يلزم العاقل فرضه في يوسف وهو الرجل الصديق الذي بعد ان ظهر له الملاك وأعلنه ان حبل مريم من الروح القدس أخذ يجل قدرها ويستصحبها معه أينما ذهب. وقد وصفها لوقا بالمخطوبة وعرفها الناس بانها امرأة يوسف : وكانت عليها السلام من أبوين فاضلين محرومي النسل فنذرا للرب أنّ ان وهبتنا ولداً خصصناه بخدمتك في الهيكل فاستجاب الله الكريم طلبتهما وبعد فطامها ادخلاها هيكل الرب فبقيت بعد وفاة والديها بين النساء اللواتي يخدمن الكهنة. وكان زكريا وامرأته اليصابات خالتها أي أخت أمها قد أخذا على نفسهما الاهتمام بشأنها والعناية بها. وعند ما بلغت سن الثانية عشرة لزم تزويجها لنهي الشريعة عن ابقاء البنات البالغات في الهيكل فجمع زكريا شبان يهوذا ليقترع لمن تكون الصبية زوجة ووضع عصيهم على تابوت العهد فازهرت عصا يوسف فاستعفى عن قبولها محتجاً بأنه فقير وشيخ وله امرأة وبنون. ثم طارت من على مريم العذراء حمامة بيضاء ووقفت على يوسف فتيقن اذ ذاك ان العلي جعلها نصيباً له فأخذها الى داره وفي السنة عينها أتاها جبرائيل الملاك فبشرها بالحبل الالهي وسكن يوسف معها المدة كلها وهو مجلّ لطهرها وبكارتها. وكانت عادة الاقدمين الّا يدنوا من نسائهم بعد عقد الزواج الا بعد ثلاث سنين ليثبتوا انهم غير مغلوبين من الشهوة بل انما هم منقادون لايلاد النسل لا غير

     ( 6 ) ” وبينما كان هناك تمت أيام ولادتها ” ( 7 ) ” فولدت ابنها البكر فلفته وأضجعته في مذود لانه لم يكن لهما موضع في المنزل ”

     ميز في ولادة العذراء مريم للمخلص ما هو فائق الطبيعة مما هو طبيعي. فمن النوع الاول حبلها بلا زواج ولا زرع بشري وبقاء بكارتها بعد ولادتها. ومن الثاني مدة الحبل وهي تسعة أشهر والولادة من المرأة. ثم افهم بولادة المسيح أنواعاً ثلاثة من الولادة. أولاً تجسده في أحشاء مريم وولادته منها. ثانياً خروجه من تحت شريعة موسى الى الشريعة الجديدة. وقد تمّ له ذلك بالمعمودية فمنذ زمنها. وُلد الانسان الجسداني روحانياً. ثالثاً قيامته من بين الأموات فهي كولادة من الموت الى عدم الموت ومن حياة العالم الفاني الى حياة السماء الخالدة. وقد دعا الانجيلي المسيح بكر العذراء مريم لا لأنه وُلد له اخوة فيما بعد بل تبعاً لتعبير الكتب المنزلة التي تدعو بكراً كل فاتح رحم وبيان ذلك انها تأمر كل امرأة والدة بالمثول الى الهيكل بعد أربعين يوماً من ولادتها لتقدّم عن ابنها قرباناً وتدعو ابنها بكراً سواء كان له اخوة أو لم يكن. ثم ان السيد المسيح يُدعى بكراً لعدة معانٍ. أولاً لانه بكر مريم كالذي يفتح رحم أمه. ثانياً لانه بكر جميع المخلوقات وذلك في ذاته اذ وُلد من الآب في الازل. وبعد ولادته الازلية وُلد في آخر الازمنة من البتول ولادة جسدية دون ان يتغير بحيث يُعد حقاً ابن الله وابن مريم. ثالثاً بكر جميع المخلوقات التي خلقها لحياة النعمة فكل من يعتمد ويؤمن به يصبح في عداد اخوته وهو أولهم أو بكرهم لانه تقدم الجميع. رابعاً بكر في الموتى لانه قام قيامة مجيدة قبل غيره وصار عديم الموت أما ما وقع عند ولادة المخلص من أعمال والدته ففسره بالمعنى الروحي بان اللف بالقمط والخرق دلالة على ان المسيح حمل خطايانا وسُمّر على الصليب ليغسل الانسان العتيق بدمه وأيضاً بان القمط والخرق علامة فقر وتجرد من الدنيا وأموالها. وبأن الاضجاع في المذود انما أذنَ بوقوعه عليه ليقوم مقام الجنس البشري الذي تشبّه بالحيوان والبهيمة عند ما ارتكب المعصية والرذيلة فاحتمل المسيح كل ذلك ليرجعنا اليه ويطعمنا قوت الحياة ويسقينا خمر الفرح. وقل ايضاً ان المذود اشارة الى القبر والى ان السيد سيموت ويُدفن في قبر يشبه المذود. وعلّل لوقا اضجاع السيد في المذود بان لم يكن موضع ليوسف ومريم في أحد المنازل أو البيوت لكثرة المتقاطرين من سبط يهوذا الى الاكتتاب فلزمهما الذهاب الى مغارة بالقرب من بيت لحم وكانت حظيرة للمواشي .

سجود الرعاة للمخلص

     ( 8 ) ” وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية يسهرون على رعيتهم في هجعات الليل ”

     لم يكن الرعاة بعيدين عن بيت لحم وكانوا يتقاسمون السهر على القطعان في هجعات الليل. والهجعة جزء منه فيتناوبون الحراسة ويحييون وقتهم بالشبّابة والمزمار والاغاني. وقد وُلد سيدنا في الليل خلق الخلائق فأراد في الليل أيضاً أن يحييها ويخلقها ثانية لحياة النعمة. ثم انه في الليل قام من القبر وسوف تكون القيامة العمومية في الليل. وقد أزال له المجد ظلمتين في ليل هذه الدنيا وهما ظلمة الخطية وظلمة انتفاء النور السماوي

     ( 9 ) ” واذا بملاك الرب قد وقف بهم ومجد الله قد أشرق حولهم فخافوا خوفاً غظيماً ” لأي الاسباب أتى ملاك ولم يأتِ سروفي أو كروبي؟ فالجواب ان الملاك له مشابهة أكبر بالسيد المسيح الذي هو حكمة الآب. والملاك الذي ترآءى للرعاة هو جبرائيل الذي هو ملاك الرأي العظيم ومشوره الآب. ثم لأي الأسباب أظهر المسيح مولده للرعاة قبل غيرهم؟ فالجواب ان لهم شكل الرسل الذين هم رعاة الكنيسة. ثم ان الرعاة يعرفون أحسن من غيرهم كيف تلد الحملان ومتى تلد والمسيح هو حمل الله. وقد أشرق حولهم مجده فأنار عقولهم الساذجة وأضاءها. ومجد الله هو النور المشرق اشراقاً يقضل اشراق الشمس والمعلن وجود نور العالم الذي يرسُل أشعته المحيية على قلوب البررة. وأيضاً قيل مجد الله بسبب بهاء الملاك السماوي الدالّ على مرسله. وقد خصّ تعالى الرعاة بهذا البهاء ليبدّد ظلام الجهل من نفوسهم ويطهرها من الادناس ويجعلهم يفهمون كلام الملائكة ويحرسون بأكبر عناية واعظم يقظة أشخاصهم من الذئاب الساطين على الافهام والقلوب أي من الهراطقة والوثنيين. وقد خافوا أولاً من مشاهدة الهابط اليهم من الأعالي كما خاف دانيال النبي لا سيما وان أعينهم نظرته ليلاً وعلى غير المألوف وفي أرض خالية من سكان مثله. الّا ان رعبتهم تلاشت عما قليل بما قوّاهم به من ضياء مجده وهبات مرسله السامي الجلال

     ( 10 ) ” فقال لهم الملاك لا تخافوا فهآنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب ”    ( 11 ) ” انه قد وُلد لكم اليوم مخلص وهو المسيح الرب في مدينة داود ” ( 12 ) ” وهذه علامة لكم. انكم تجدون طفلاً ملفوفاً مضجعاً في مذود ”

     أزال عنهم الخوف ليقبلوا بشارته حسن القبول وبقلوب كلها بأس وشجاعة على مثال ما صنع زكريا والعذراء مريم والنسوة اللواتي أتين الى قبر يسوع. ثم بشّرهم بالفرح العظيم الذي ينال المخلوقات كلها لا قسماً منها فقط فقال لهم : قد وُلد لكم مخلص. وانك تسأل : لِمَ لم يقل وُلد لنا فهل ولادة المسيح لم تصيب منافعها الملائكة؟ الجواب ان ولادة المسيح بالجسد انما القصد منها خلاص البشر من الخطية والشيطان وبهذا الاعتبار لم ينل الملائكة خلاصاً لانهم غير محتاجين الى النجاة من الشيطان والخطية. الا انهم استفادوا كثيراً من ولادته الأزلية في حضن الآب. وأيضاً لا مانع من القول انهم استفادوا من ولادة السيد المسيح ثباتاً في العمل الصالح واطلعوا على أسرار عديدة كانوا لها جاهلين لأن المسيح هو حكمة الله الظاهرة في العالم. ثم ان الملاك شاء التمييز بين ولادة الابن الأزلية وولادته الزمنية فقال وُلد لكم اليوم أي في الزمن لا في الأزل وفي هذا العالم الفاني لا في العالم الخالد حيث لا يوم ولا زمن ولا شهور ولا نهار ولا ليل. وعقّب بذكر صفة المولود فنعته بأنه مخلص لا كما كان موسى ويشوع بن نون لأنه أعظم منهما وأشرف اذ هو اله بطبعه وكانا من البشر. وقد خلّصنا بذاته وهما خلّصا الشعب بقوته. وأيضاً ان خلاصه ثابت عمومي تبقى مفاعيله الى الأبد وخلاص موسى ويشوع المذكورين وأيضاً خلاص زوربابل كانا خاصين بالشعب الاسرائيلي ولزمن محدود. وقائلٍ لِمَ لم يخلصنا المسيح بمولده من الآب فقط ولِمَ اقتضى ان يتأنسَ ليعتقنا بموته وآلامه واتعابه من أسر المعصية؟ نجيب انه كان قادراً على ذلك بأسهل الطرق الّا ان طبيعتنا الضعيفة لم تكن تحتمل مثل هذا الخلاص ولمَا كانت عرفت ما قدرته العلوية وانه يمكن أن يتجسد بدون أن يلحقه تغيّر. وما اكتفى الملاك بما قاله بل رغب في زيادة وصفه حسب ما جَاء في الكتب من قبل فقال أولاً هو المسيح الرب. وانتبه الى انه لم يقل : سيصير مسيحاً ورباً. اذن هو الله وان كان حقاً رباً والهاً فبأولى حجة يكون مخلصاً. وانما دُعِي رباً من ربوبيته الطبيعية فيه كما انه دعي الهاً لانه اله بطبعه وأيضاً صار طفلاً لانه رب ومخلص فهو السيد المالك كل شيء يخفي سيادته وحقوقه على تملك الاشياء كلها ويظهر طفلاً. كما انه الغنيّ لكنه يخفي غناه ويترآءى فقيراً. ثانياً هو من مدينة داود. أي من بيت لحم كما جاء في النبوات فبعد تحقيق هذه الصفات لا يقوى الرجل العاقل على الشك في أن المولود هو المنتظر الموعود به. ولئلا يتسرّب غلط أو ارتياب الى عقول الرعاة دلّهم الملاك الى الظروف والمتعلقات التي سيلقونه فيها. ومعنى كلامه : الذي وصفته لكم رباً مخلصاً مسيحاً حاملاً للعالم المسرات والافراح هو طفل يظهر ضعيفاً فقيراً مضجعاً في مذود وما أحلى فقر السيد المسيح فانه غنى النفس كما ان عذابه شفاء القلب وموته حياة العالم

     ( 13 ) ” وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماويين يسبحون الله ويقولون ”   ( 14 ) ” المجد لله في العلى وعلى الارض السلام للناس الذين بهم المسرة ”

     انما غاية الملائكة هؤلاء لا تنفرق عن غاية الملاك الذي تقدمهم وهي البشارة بالمولود الجديد وتمجيده بحمل الناس على الاقبال اليه. وكأن الرعاة داخلهم الارتياب في صحة ما سمعوه وانقسموا ما بينهم في الرأي فتراءت لهم جوقات الجند السماويين ليثبتوا كلام من تقدمهم. وهذه خدمة لذيذة أمروا بانجازها فأنجزوها بنغمات الفرح والابتهاج. ثم كان ظهورهم من السماوات اعلاناً لمنشأ المولود الذي هو سماوي واشهار انه يدعو الناس الى السماء. وقُل أيضاً ان الملائكة خدّام الله في مملكته يحضرون امامه في كل موقع ذي خطورة فحضروا الان لديه في ميلاده بالجسد كما سيحضرون أيضاً صعوده ممجداً الى السماوات بعد موته وقيامته. أما ترنيمتهم السنية ففسّرها كما يأتي. أولاً المجد لله أي للآب وانما يمجده الملائكة تعويضاً عما يلحقه به البشر من الاهانة. والبشر قد أنكروا تمجيده وعبدوا مخلوقات دنيئة وظنوا أن النجوم في العلا مستحقة للمجد فلذلك يقول الملائكة كل مجد في الأعالي أو يوجه الى الأعالي لا يجب لغير الله بل انما يجب لله وحده. ثانياً المجد لله أي للابن الذي وُلد اليوم فيكون اذن الابن الله عينه وهو مستوجب للمجد اللازم لله. وقد مجّده الملائكة هذا المجد لا سيما وانهم ادركوا حق الادراك ان الكلمة صار انساناً وان السماء لم تفرغ منه ولو انهم يرونه على الارض في المذود وانه مالىء الارضين وهو في كل مكان فلم يحدّه شيء ثم لم يقصّروا في تمجيدهم لاعلام الرعاة ويوسف ومريم بقدر المولود وبأنه ربهم والههم وأعظم مما في السماء وعلى الارض. ثانياً ازدراء الابالسة والاصنام والذبائح التي تُقدّم لهم. ولهذا المعنى زاد الملائكة على عبارتهم كلمة أخرى يطلبون فيها السلام لبني الانسان على الارض. ومن المحقق بالتاريخ ان الارض عند ظهور المخلص كانت طافحة بالمعاصي والاعمال الشائنة وبعداوة شعب لشعب وفرد لآخر. فالمسيح كان سلاماً للجميع فأبطل القتال وصالح الفريقين أي الملائكة والبشر فافرغ اذ ذاك الفريق الاول جهده وطاقته في تقريب الشعوب المتنافرة بعضها عن بعض بما أوحاه اليها من أفكار المحبة والالهامات الصالحة. وكسر من شوكة الجسد المتمرد فاخضعه للنفس التي زادت قوة ونشاطاً واقبالاً على الصلاح وعلى عبادة الله. فمن هذه كلها نستنتج ان الميلاد السيدي أزال من المقاتلات أربعاً الأولى بين الله والبشر الثانية بين الملائكة والناس. الثالثة بين شعب وشعب. الرابعة بين النفس والجسد. فالمسيح حقاً سلام. ثم يمكنك ان تفهم بالسلام على الارض الحياة التي منحها العلي للجنس البشري المائت بالخطية فانه عاش ثانية ونال وعداً بعدم الموت فكانت فرحته بذلك مما يعجز عن وصفه كل لسان. وجاء في احدى النسخ بدل : للناس الذين بهم المسرة. عبارة : والرجاء الصالح لبني البشر. فيكون المعنى أن لم يكن للناس رجاء الخلاص فكان ميلاد المسيح وعداً أكيداً بالخيرات السماوية وبانالتها كل من يؤمن به. ولو ان هذه الخيرات عينها غير ظاهرة ولا منظورة. أما النسخة اليونانية فتروي للناس حسن المسرة وافهم بذلك الارادة الصالحة. ولما كانت هذه الترنيمة بديعة في معناها ومبناها من الكلام الجامع ردّدتها الجوقة السماوية ثلاث مرات اقتداء بالسروفيين الذين يقولون ثلاثاً قدوس قدوس قدوس

     ( 15 ) ” فلما انطلق الملائكة الى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض لنمض الى بيت لحم وننظر هذا الامر الواقع الذي أعلنا به الرب ”

     رجع الملائكة الى السماء من حيث نزلوا ولم يمضوا مع الرعاة ليرشدوهم الى محل المولود والغاية من امتناعهم عن المرافقة ان يجول الرعاة في شوارع بيت لحم سائلين. أين المخلص الذي أخبرنا الملاك أو الملائكة بميلاده فيعرف اذ ذاك السكان أجمعون بالأمر كما عرف أهل أورشليم به عند قدوم المجوس وسؤالهم عنه بعد ان غاب النجم عن أعينهم. فجاء اذن الرعاة واستصحبوا قطعانهم خوف ان تتبدّد ليلاً لو تركوها وحدها وهم قاصدون تحقيق الأمر الذي أعلمهم به الرب بواسطة ملائكته ومشاهدته بالعيان

     ( 16 ) ” وجاءوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود ”

     ( 17 ) ” فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي ”

     لم يصبر الرعاة الى الصباح لشدة ما خالجهم من الفرح بل قاموا من ساعتهم وأخبروا من لقوه في طريقهم بما شاهدوه ودلّتهم الاضواء النارية من داخل المغارة على مكان المولود وكانوا قد أتوا بالتقدمات الثمينة لديهم فقدّموها للعائلة المقدسة وأثبت لهم كل أقوال الجند السماويين

     ( 18 ) ” فكل من سمع تعجب مما قال لهم الرعاة ” ( 19 ) ” وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتتفكر به في قلبها ” ( 20 ) ” ورجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم ”

     سؤال : من أين اجتمع الناس ليسمعوا الرعاة؟ جواب : أولاً لم يتمالك الرعاة عن الصراخ والمناداة بما سمعوه ونظروه كعادة أهل الجبال الذين ينبئون جيرانهم ولو بعيدين بما يقع عندهم من غير المألوف. ثانياً يمكن القول انهم انتظروا الى الصباح ثم قصدوا السكان وأخبروهم. ثالثاً لا بد من ان أصوات الملائكة أيقظت كثيرين فأخذهم العجب من التمجيد الذي لم يعرفوا سببه ومن الكلام السماوي الحاوي لعظائم الأمور وخارقها. ثم ان كثيرين لا يقوون على سماع تمجيد الله ومشاهدة أنواره العلوية لضعف بصيرتهم وغلاظة رقابهم فهؤلاء لا يرون الله متجسداً فيتعجبون بما يبلغ اذانهم عنه. فان معرفة الله ومحبته من نصيب العقل الصحيح والقلب المستقيم والروح القدس لا ينير الّا من يبتغي الصلاح. ولهذا المعنى كانت العذرآء البتول تصون كجواهر غالية الثمن كلام مبشرها وخالتها واخبار الرعاة وتمجيد الملائكة وتعمل الفكرة فيها وتقابل بعضها ببعض. ثم ان الرعاة كانوا رسل المولود لانهم بعد ان شاهدوه وتحققوا ما قيل لهم رجعوا قائلين لكل من لقوهم : هلّلوا الله ومجدوه لأنه أرسل لنا المخلص

ختانة المسيح

     ( 21 ) ” ولما تمت ثمانية أيام ليختتن الصبي سُمي يسوع كما سماه الملاك قبل أن يُحبل به في البطن ”

     س : ما الختانة؟ ج : هي زوال الغرلة. والغرلة هي الجلدة التي على ذكر الانسان كمثل الغطاء فبالختانة تقطع. وقطعها يُبقي أثراً وعلامة على العضو. ذاك هو العهد الذي رسمه الله بقوله ( تكوين 17 : 10 وما يلي ) لابراهيم ” هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن كلّ ذكر منكم فتختنون الغلفة من أبدانكم ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم. ” وما عدا ختانة اللحم ختانة أخرى مجازية تُدعى ختانة القلب تقطعه عن الشرور والمعاصي كما ان ما عدا غرلة الجسد غرلة أخرى تُدعى غرلة الخطية وتغطي القلب بالدنس. وكان الناموس يفرض الختانة في اليوم الثامن لولادة الصبي. ولنا في الختانة كلام. أولاً لم يختتن ابراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ثم اسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة الّا ليثبت العهد بالدم ما بينهما وبين الله. ثانياً ان العهد القديم ثم العهد الجديد بالدم أعطيا. أما الأول فبدم الحيوان وأما الثاني فبدم ابن الله المتأنس. ثالثاً أعطي ابراهيم الختانة وأثبت له العهد ليكون أبا لشعوب كثيرة وتكون له ختماً لايمانه ولو ان هذا الايمان كان فيه قبل الختانة. وأيضاً لتكون تصديقاً على ايمان مَن يتبعونه ويتبررون مثله ثم علامة يتميزون بها من سائر الشعوب عبدة الأصنام كما تتميز الغنم بما يوضع عليها من الرسم. رابعاً الختانة هي صورة المعمودية التي بها ينفرق شعب المسيح عن غيره. وقال القديس افرام في هذا الصدد في ترنيمته عن الغطاس : بالرسم الأول ( أي الختانة ) قد ميز الله شعبه عن سائر الأمم. وبالرسم الثاني ( أي العماد ) رسم فرقاً بين الشعوب المؤمنة به وغيرها. فالختانة اللحمية صورة تلك التي هي روحية محضاً أي المعمودية. خامساً ان الختانة كانت تُعطى في اليوم الثامن دلالة على ان الانسان يخلع عنه شكل العالم العتيق وكان اليوم ممتازاً عما سواه. وفي هذا المعنى قال القديس غريغوريوس. ان اليوم الثامن هو شكل العالم الجديد. أي عالم الانتماء الى شعب الله الخاص. وأيضاً شكل العالم الذي يتجدّد بالقيامة العمومية حيث تُعلن أعمال الناس سيئة كانت أم جيدة ويُرفع عنها ما يسترها. وكذا الختانة هي رفع الغطاء. وأيضاً فضل اليوم الثامن على ما سواه يستبين من ان الله قال فيه لتلاميذه : امضوا وبشروا العالم بالانجيل وعمّدوا الشعوب. ومن ان فيه أيضاً يُدعى المولود باسمه كما وقع ليوحنا اذ ثبت له هذا الاسم في يومه الثامن. وخاصةً من ان السيد المسيح اقتبل فيه الختانة واسمه يسوع. وقال بعضهم ان اسم المولود لم يكن يُعطى الّا يوم الختانة واستدلّوا على صحة رأيهم من ان ابرام انما دُعي ابراهيم في يوم ختانته. وانما لا نقبل هذا القول على عمومه لان اسماعيل وبني بيت ابراهيم خُتنوا وظّلت لهم أساميهم كمن قبل. الّا ان العادة جرت بان يُعطى المختون اسمه يوم ختانته وعبده مع الله لئلا يُعرف باسمه وهو تحت سلطان الانسان العتيق على شبه ما يُعطى الآن من الاسم في المعمودية. ولسائلٍ لماذا أمر الله ان تُعطى علامة الختانة في عضو التناسل. ولأي الأسباب لم يأمر بوضعها في الأذن كما هي حالة العبد الذي ثقب أذنه. أو في اليد أو بين العينين أو في عضو آخر.؟ فالجواب ان العلامة وضعت في عضو ابراهيم الذي كان قد شاخ ليتجدّد بالدم وتكون له قوة ايلاد النسل. ثم ان الختانة هي عهد أيضاً مع زرع ابراهيم أي نسله. فاقتضت الحال وضعها في عضو التناسل الذي يخرج منه الزرع. وأيضاً أصاب الخزي والعار أبوينا بعد معصيتهما في جنة عدن في اعضاء التناسل فتناولا ورق تين لستر العورة فأراد الله رفع العار بوضع علامة عليها .

     ومن معاير الهراطقة والوثنيين لنا نحن النصارى قولهم : المسيح قد خُتن فلِم لا تُختنون؟ ونردّ تعييرهم بقولنا ان المسيح خُتن لا ليتبرّر من الختانة فهو ابن الله وواضع ناموس الختانة. بل انما كان قصده حفظ الناموس عنّا اجمعين ليضر به بالبطلان ويشرع لنا شرعاً جديداً. وتستدل على صحة هذا القول من ان الختانة كان يمنحها الكهنة باسم اله ابراهيم واسحاق ويعقوب. فوضع المسيح العماد ورسم منحه باسم الآب والابن والروح القدس. فلا فائدة اذن من الختانة بل يحصل لنا ضرر منها ان تمّمنا مرسومها وتركنا ما أعاضنا بها مؤسس الشريعة الجديدة. ثم من الغريب ان بولس الرسول ويوحنا الانجيلي وغيرها ممن لا يستوفى عدّهم أثبتوا ان المسيح اقتبل الختانة كما كانت شائعة في زمنه عند العبرانيين ولكن الارمن يدّعون انه لم تُقطع الجلدة للسيد المسيح بل جُرحت لا غير على طريقة ختانة البكر الذي كانوا يجرحونه بدون قطع وبخلاف ختانة غيره التي كانت الغرلة تُقطع فيها. ولا نعلم من أين أتوا بهذا التمييز بين البكر وغير البكر. وها اسماعيل بكر ابراهيم خُتن كأبيه ولم نقرأ انه جُرح جرحاً لا غير. فاذن استنتج ان السيد قد خُتن ختانة حقيقية كاملة ليبطل الختانة ويُعيضنا بدلها المعمودية التي ترفع عن الانسان العتيق الغطاء الدنس المحيط بقلبه. واعلم ان البرارة مستقلة عن الختانة. فها شيت وأخنوخ وملكيصادق وغيرهم من الاباء الاولين لم يكونوا مختونين وقد سطعت برارتهم ولمع سناء طهرهم. أما متى أبطل السيد الختانة ابطالاً مؤبداً؟ الجواب انه أبطلها بعماده المقدس كما انه أبطل ذبائح الناموس بذبيحته على خشبة الصليب

 

تطهير العذرآء

     ( 22 ) ” ولما تمت ايام التطهير بحسب ناموس موسى صعدا به الى اورشليم ليقدماه للرب ” ( 23 ) ” على حسب ما كتب في ناموس الرب من أن كل ذكر فاتح فاه يُدعى مقدساً للرب ”

     ارتأى بعض الأباء كالقديس افرام والقديس فيلكسينوس ان الجسد يتكوّن في احشاء الأم أولاً. ثم اذا بلغ صورةً كافية لفبول النفس خلقها الله فيه ويتمّ ذلك في اليوم الأربعين للحبل بالذكر. واليوم الثمانين للحبل بالأنثى وانقادوا الى اثبات هذا الفرق بين الحبلين من ان صورة الذكر أسرع الى التكوّن من الانثى لان الذكر يُخلق في الجانب الأيمن الذي هو أشد حرارة من الجانب الأيسر الذي فيه تخلق الأنثى. ثم من ان والدة الذكر تدخل الهيكل للتطّهر بعد أربعين يوماً ووالدة الأنثى بعد ثمانين. وارتأى آخرون ان لا فرق بين الحبل بالذكر أو بالأنثى وان النفس الناطقة تُخلق لهما في الميعاد الواحد. أما كون المرأة تبقى ثمانين يوماً محرومة من دخول الهيكل ان ولدت أنثى فما ذلك الّا بسبب خطية حوّاء التي قبلت مشورة ابليس وأكلت أولاً من الثمر المحرّم. وقد تبعت العذرآء ناموس موسى وتقدمت الى الهيكل بعد تمام الأربعين ولو انها غير ملزومة باتمام الشريعة لانها لم تلد كسائر النساء وأيضاً لم يكن يسوع ملزوماً بالسير على الناموس بل أراد اتمامه تواضعاً وقصد أن يعلمنا هذه الفضيلة والطاعة لشرائع الكنيسة فقام اذن أمام أبيه بالجسد بعد أربعين يوماً من ولادته وقدّس عدد الأربعين لاننا نراه يصوم أربعين يوماً ويقهر الشهوة والمجرّب ويبقى بعد قيامته أربعين يوماً ثم يصعد الى السماء. وقد قلنا ان المسيح لم يكن ملزوماً بالقيام حسب نص الناموس وبيانه انه كان مقدساً في ذاته فلا احتياج له الى أن يقبل التقديس كباقي الذكور الذين انما كانت الغاية من تقدمتهم نيل التقديس ثم انه لم يفتح رحم أمه وقد حُبل به بدون زواج أو مباشرة لحمية وكان حبله من الروح القدس ثم خرج من احشاء والدته ولم يفك ختم بكارتها.

    ( 24 ) ” وليقرّبا ذبيحة على حسب ما قيل في ناموس الرب زوجي يمام أو فرخي حمام”

     وذكر لوقا ما يلزم المرأة تقدمته زمن تطهيرها وكانت احدى اليمامتين أو الحمامتين للخطية والثانية للمحرقة وما أنسب اليمامة بأن تمثل السيد المسيح أمام أبيه وقد قيل في نشيد الأناشيد ( 2 : 12 ) ” صوت اليمامة سُمع في أرضنا ” وأيضاً ما أقوى الحمامة في بياضها وجمالها على ان تشير اليه أيضاً وقد حلّ عليه الروح القدس في عماده بشبه حمامة. 

     واعترض الهراطقة على الآيات الحاضرة فحسبوها غير لائقة بالله الكلمة قالوا : لماذا يذكر ان أيام تطهير أمه تمت ولماذا يُقال ان صعد به يوسف ومريم الى أورشليم وانه قُرّبت عنه القرابين. ولكن ما أوهى اعتراضهم كأنهم لا ينظرون ان المسيح تجسد وان الله أرسل ابنه مولوداً من امرأة وانه حُبل به وتربى كسائر الأجنة في الأحشاء وانه تمم مرسومات الناموس من ختانة وتقدمة قرابين لتحديد طبيعتنا الساقطة ولملاشاة هذه المرسومات عينها وابدالها بما هو أشرف وأجلب للخير. ولكنهم يتذرّعون بهذه الأقاويل ليدلّوا على عدم استحسانهم تأنس الابن لأجل خلاصنا ولكنهم لا يتجاسرون أن يبدأوا بهذا الاعتراض لانهم يرون وهنه ويشعرون بسفاهته

سمعان الشيخ وحنة النبية

     ( 25 ) ” وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية اسرائيل والروح القدس كان عليه ” ( 26 ) ” وكان قد أوحي اليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يُعاين مسيح الرب ”

     الأقوال في سمعان كثيرة فمنهم مَن يذهب الى انه ابن يشوع بن يوصاداق الذي جرى السبي في زمنه الى بابل فيكون سمعان قد عاش خمسمائة سنة ليرى المسيح ومنهم مَن قال انه كان من المسبيين الى بابل. وروى آخرون انه ابن حونيا رئيس الكهنة الذي كان ابن يشوع بن شيراخ صاحب الكتاب المعروف باسمه فيكون اذن عمر سمعان مائتي سنة وست عشرة سنة عند ما شاهد المسيح. وقصّ فريق رابع انه كان عظيم الكهنة فقرأ يوماً اشعيا وبلغ الى الآية القائلة : هوذا البتول تحبل وتلد فاعتراه الارتياب في صحة ذلك فأوحي حالاً اليه انك لا تذوق الموت حتى تتحقق الصحة باختبارك. وأخبر بعضهم انه بقي من الاثنين والسبعين مفسراً الذين نقلوا من العبرانية الى اليونانية بأمر بطليموس في مصر الكتب المنزلة وذلك ليتمكن من نفي ارتيابه في صحة حبل البتول وولادتها فيكون قد عاش مائتي سنة وثمان وسبعين سنة حتى ولادة المسيح. والأصح انه كان على جانب عظيم من العدل والصدق والبرارة فأبقاه الله جزاء سيرته وليجعله مبشراً به وهو انتظر بالصبر والشكر يسوع المخلص المعدود عزاء اسرائيل وجميع الأمم مستنداً الى مراحم الروح القدس الذي وعده بهبة مشاهدته

     (27 ) ” فأقبل بالروح الى الهيكل وعند ما دخل بالطفل يسوع أبواه ليصنعا له بحسب عادة الناموس ” ( 28 ) ” حمله هو على ذراعيه وبارك الله وقال ”

     كانت عادة الكهنة أن يحملوا على أذرعهم كل بكر يُقرّب للرب وحرّك الروح سمعان في يوم تقدمة السيد الى أن يأتي الى الهيكل وما وقعت عليه عيناه حتى ميزه من بين سائر الأطفال فاستلمه من العذرآء وحمله على ذراعيه. وأوّل الهراطقة عبارة : بارك الله بأن الله تعني الآب لا الابن وقصدهم ان ينفوا عن الطفل صفة الالوهية. وفاتهم أن لو صح تأويلهم لما حُرمنا آيات أخرى بيّنات تدل على ان المسيح رب واله ولكن تأويلهم كاذب وان كانوا قد انقادوا اليه لأن سمعان سَمّى نفسه عبد يسوع المسيح فلِمَ لا يزول كلامه بانه عبد الابن الذي يحمله طفلاً على ذراعيه. وان كانوا قد انقادوا لقوله سيدي أو لأنه طلب الانطلاق من الحياة فان الملاك سَمّى المسيح مخلصاً ومسيحاً ورباً ” عدد 11 ” ثم له السلطان المطلق على الموت والحياة وقد أحيا العازر وابن الأرملة وابنة يائيروس

     وأيضاً ما قاله سمعان من انه أبصر الخلاص وما وصفه بالنور والمجد فانه يطابق أحسن مطابقة صفات السيد المسيح التي ذكرها بالتفصيل في ترنيمته وها أشعيا يدعوه أيضاً نوراً عظيماً وهوله المجد قال بحق عن نفسه انه نور العالم. اذن ينطبق كلام سمعان على المسيح تمام الانطباق ويقول لوقا : بارك الله يلزم أن يُفهم انه بارك المسيح الذي هو الله

     ( 29 ) ” الآن تُطلق عبدك أيها الرب على حسب قولك بسلام ” ( 30 ) ” فان عينيّ قد أبصرتا خلاصك ” ( 31 ) ” الذي أعددته أمام وجوه الشعب كلها ” ( 32 ) ” نوراً ينجلي للأمم ومجداً لشعبك اسرائيل ”

     مما تقدم استنتج انه يطلب الاطلاق من المسيح عينه وكان يعرف ان الآب والابن والروح القدس طبيعة واحدة وارادة واحدة وقد علّمه الروح هذه العقيدة. وأرتأي ان سمعان كان قد سمع من قبل وعداً وهو يذكره الآن طالباً أن يطلقه بسلام أي بدون وجع وبغير آلام النزاع لان الموعد كان موضوعه انه يتوفاه اليه بدون أن يقع فيما يقع فيه عادة البشر من حشرجة الصدر وما أشبه في زمن الموت. وان سمعان انتقل بالموت من هذه الدنيا في اليوم عينه الذي شاهدت عينه خلاص الله أي الاله المتجسد ليخلص العالم باتعابه وموته. واعلم أن لا أحقّ من السيد المسيح بان يُدعى نوراً لأنه أضاء العقول والشعوب فنظروا وميزوا الاله الحق من الآلهة الكذبة وعبدوه العبادة الواجبة. ثم مَن مثل المسيح كان مجداً لشعبه أي لآل اسرائيل فانه خرج من صفهم ثم انتخب منهم اثني عشر رسولاً واثنين وسبعين مبشراً فضلاً عن ان كثيرين منهم آمنوا بالمسيح

     ( 33 ) ” وكان أبوه وأمه يتعجبان مما يُقال فيه ” ( 34 ) ” وباركهما سمعان وقال لمريم أمه ها ان هذا قد جُعل لسقوط وقيام كثيرين في اسرائيل وهدفاً للمخالفة ”

     ان تعجب العذرآء ويوسف كان مما طلبه سمعان من اطلاقه بسلام ومن الأمور السامية التي فاه بها وردّدها على آذانهما معلناً انها موحاة اليه. وقد التفت الى مريم وباركها لانها استحقت بفضيلتها ان تكون أم الله. والى يوسف وباركه أيضاً لانه قبل أن يكون رفيق العذرآء ومعيناً لها وخادماً لسر التجسد وقد ألهمه الروح القدس بان يقول للبتول ان ابنك جُعل لسقوط الكتبة والفريسيين وكهنة الهيكل وكل مَن لم يؤمن به لكنه سيكون سبباً لقيام العشارين والخطأة الذين يؤمنون به ويطلبون رضاه ونعمته – اعتراض : كيف ان السيد المسيح الذي أتى للخلاص يسبب سقوط الناس؟ الجواب ان الساقطين انما يسقطون باختيارهم وحريتهم لا بارادة آخر. والله لا يمنع عنهم النعمة الكافية للخلاص الّا انهم يرفضون بملء الحرية ويتبعون شهوة النفس والكفر فذنبهم منهم لا من المسيح. ثم ان المخلص جُعل أيضاً هدفاً لاختلاف الاراء وتضارب الكلام فيه ولسهام الطاعنين في لاهوته وفضله لكنه قهر كل مبغضيه وأعلن بأكبر صراحة مَن هو فوصف أقنومه وميزه عن أقنوم الآب وأقنوم الروح القدس وان الثلاثة أقانيم واحد في الجوهر والطبع وجاهر بانه هو الكلمة وانه الله فنفى بذلك ما قذفته بعض الأفواه من انه نبي لا أكثر كسائر الأنبياء ومن انه ضالّ ومضلّ. ولم يقصر النصارى في هذا الزمان في التخاصم في حقه فمنهم مَن جعله انساناً هبط اليه روح الله بعد ولادته بمدة ومنهم مَن قال انه مخلوق ومنهم من كذب بان له طبيعتان بعد الاتحاد ولا تُعد الأكاذيب في حقه.

     ( 35 ) ” وأنتِ سيجوز سيف في نفسكِ حتى تُكشف أفكار من قلوب كثيرة ”

     فسّر الرمح أو السيف بقلة الايمان كأن مريم العذرآء داخلها الشك في ابنها كونه الهاً وذلك في زمن آلامه الى أن ارتفع عنها هذا الشك بعد زمن وجيز وأصلحت اعتقادها بقيام ابنها من بين الأموات وبحلول الروح في علّية صهيون

     ثم فسّر الرمح أيضاً بضروب الشتم والتعيير التي لحقت العذرآء وابنها على الصليب فانها خرقت حتى اعماق قلبها وأيضاً جاز الرمح نفسها عند ما طُعن ابنها بالرمح في جنبه والمتعارف ان مَن طعن الابن الوحيد يطعن معه قلب والدته ولا سيما ان العذرآء كانت بجانب الصليب لمّا طعن الجندي وحيدها. وقد وضعت النسخة اليونانية كلمة السيف عوض الرمح. وفسّر فريق كلمة نفسك بولدك لأن الولد هو قسم من الأم وكأنه نفسها. ثم ان سبب عذاب العذرآء مريم أي تعيير اليهود لها ولابنها كشف الغطاء عن ضعف كثيرين من تلاميذ المسيح أو عن نيات سيئة شريرة كانت في قلوب اعداء المخلص او انه بموت المسيح الذي سبّب عذاب أمه أيضاً عُرف مَن يحبه ومَن لا يحبه أو سيعرف من ينتفع بدمه فيخلص ومن لا ينتفع فيهلك لان ما وقع اذ ذاك يقع أيضاً للمؤمنين في كل زمان

     ( 36 ) ” وكانت أيضاً حنة النبية ابنة فنوئيل من سبط أشير. هذه كانت قد تقدمت في الأيام كثيراً وكانت قد عاشت مع رجلها سبع سنين بعد بكوريتها ” ( 37 ) ” ولها أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل متعبدة بالأصوام والصلوات ليلاً ونهاراً ” ( 38 ) ” ففي تلك الساعة حضرت تعترف للرب وتحدث عنه كل مَن كان ينتظر فدآء اسرائيل ”

     اتبع لوقا كلامه برواية قصة حنة لانها شبيهة بسمعان الشيخ ولوانها لم تكن من سنّه لكنها صبرت كثيراً سائرة بالعفّة والقداسة مما يملك على ان الفضيلة ومخافة الله تكونان في كل الطبقات وفي الرجل والمرأة وفي العبد والسيد. وهذه حنة عرفت المخلص أما من كلام سمعان أو من الروح فأخذت تتنبأ عنه بانه يخلّص اسرائيل من أيدي الأعداء وان العالم سيلقى النجاة من الضلال بواسطته وانه خالق العالمين وبه خُلقت الكائنات

     ( 39 ) ” ولما أتمّوا كل شيء على حسب ناموس الرب رجعوا الى الجليل الى مدينتهم الناصرة ”

     بعد ان قرّب يوسف ومريم القرابين عن السيد رجعا الى الناصرة تبعاً لنص لوقا. وقال فريق من مفسري الكتاب ان المجوس انما شاهدوا المسيح وهو ابن سنتين وبيّنوا رأيهم بان رووا انه كان يأتي وأبويه في كل عيد الى الهيكل في أورشليم ثم يذهب الثلاثة الى بيت لحم ومنها يرجعون الى الناصرة وبأنهم أتوا في سنته الثانية كعادتهم الى الهيكل ثم قصدوا بيت لحم ووافق ان وصل المجوس في تلك الآونة الى أورشليم وبعد خروجهم منها هداهم النجم الى محل اقامته في بيت لحم وبعد ذلك نزلت العائلة المقدسة الى مصر الّا ان فريقاً آخر ذهب الى ان المجوس شاهدوا المسيح بعد تقدمته في الهيكل لانه رجع الى بيت لحم وما طالت المدة حتى أتوه وبعدها مضى الى مصر فيكون لوقا تبعاً لهذا الرأي قد اختصر روايته لان متى قصّ الظروف بأجمعها ( انظر تتمة الشرح في بشارة متى 2 : 1 )

     ( 40 ) ” وكان الصبيّ ينمو ويتقوى ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه ”

     شاء الكلمة أن يصير انساناً مثلنا فأوجبت الحال ان يكون جنيناً ثم طفلاً ثم ينمو تدريجاً ويمرّ في كل أطوار الحياة البدنية فتتقوى أعصابه وتشتد عظامته وكانت قامته تطول ممثلة تقدّمنا نحن أعضاءه الروحية في القامة الروحية أي في السيرة الحسنة والصلاح والاستغراق في محبته تعالى وأيضاً كان يتقوى بالروح أي يظهر في الخارج من مفاعيل الروح أكثر فأكثر ليقوّينا نحن الضعفاء ويطرد منا كل كسل وتهاون في خدمة خالقنا. ثم ما امتلأوه نعمة الّا دلالة على انه يقصدنا نحن الجهّال ليفقّهنا في الحكمة الحقّة والفلسفة السامية المختصة بحسن العمل. وما استقرّت فيه نعمة الله الّا ليغزر لنا النعم تعويضاً عما أضاعه أبونا آدم ولذلك منحنا نعمة البنوة بالذخيرة وبدّل لنا نعمة الناموس بنعمة الانجيل وما الأولى بشيء يُذكر أمام الثانية وبالمقابلة معها. ومن تخرّصات الهراطقة انه لا يليق القول بان الله كان ينمو ويتقوى فالرد عليهم لا يقتضي كبير مشقة واننا نرضى بما يقولونه عن الكلمة بما هو اله الذي لم يقبل تربية وليس مركباً ولا ضعيفاً ليُقال عنه انه تقوى بالروح ونما وما أشبه ولكنا نرذل قولهم ان أثبتوه في حق الكلمة الذي صار انساناً لأنه كان ينمو كسائر الأولاد وليس في وصفه بالنمو أدنى عار أو شيء طفيف من عدم اللياقة.

     ومن اعتراضاتهم أيضاً بقصد ان ينكروا لاهوت المسيح المسيح ويحطوا من قدره قالوا ان الانجيل لا يفرق بينه وبين يوحنا المعمدان فقد قال عن هذا انه كان ينمو وتنشأ قامته تدريجاً وكذا قال عن ذاك؟ فالجواب ان يوحنا كان يكبر جسده لاجل ذاته أما المسيح فلأجلنا. وكما وُلد يوحنا وخُتن لمنفعة نفسه ولوجوده لذاته هكذا وُلد المسيح وخُتن وتعمّد ونما لمنفعتنا ولانالتنا النعمة ولايجادنا في شريعته وكنيسته وكان يوحنا انساناً والمسيح اله. ومن الأسباب التي دعت ابن الله الى التجسد والنمو شيئاً فشيئاً هو ان آدم خلقه الله كاملاً بنفسه وجسده ابن ثلاثين سنة ممتلئاً حكمة ومعارف ومعصوماً من الأوجاع والأمراض وميزه بهبة النبوّة وبالتسلّط على الحيوانات ولكن أبانا الأول فقد هذه الامتيازات السامية بتجاوزه الوصية وسقوطه في المعصية. فأراد المسيح بلطفه الذي لا يوصف ان يبتديء بالضعف ويحمل عاهاتنا ليقيم جنسنا الانساني من سقطته ويُرجع اليه القامة الأولى الحسنة وقضى في عمله هذا ثلاثين سنة على قدر ما كان عمر آدم حين ظهر في الوجود ثم أخذ يُعلّم ويكرز مدة ثلاث سنين أيضاً وما أشد عمى الهراطقة الذين يرذلون مثل هذه الأقوال والمطابقات الصحيحة.

     وتتخطى الى الكلام على حكمة المسيح وكيف كان يمتليء حكمة فنقول أولا ان المعرفة أو الحكمة لا تظهر في الانسان الّا بعد أن يتكوّن جسمه ويصير آلة صالحة لاستخدام النفس واذا ما سطا مرض على هذا الجسم كان الأمر مانعاً عن نموّ العقل وعن الاستزادة من الحكمة وكذا ان سقطت على النفس الأهواء الفاسدة صدّتها عن النظر الى الحق والروحيات. واذا سلم الجسم من العاهة والمرض وسلم العقل من الهوى أمكن الانسان البلوغ الى معرفة الروحيات وان قوّته النعمة الفائقة الطبيعة بلغ حتى معرفة الثالوث الأقدس وما أشبه من الحقائق الكبرى التي تعلو درجة العقل البشري. وفي هذه الحالة ان جّدّ المرء لاقتباس معرفة الحقائق وجرّد جسده ونفسه لها قيل عنه انه يمتليء حكمة. ثانياً أما الحكمة فعلى نوعين الأولى الحكمة البشرية وهي شاملة لكل المعارف البشرية كعلم الأفلاك والهندسة والحساب والموسيقى والطبيعيات والطب والشعر والمنطق والبلاغة والنحو واللغات والسياسة وما أشبه

     والثانية الحكمة الالهية وهي تحوي لكل العلوم الالهية التي موضوعها أسرار الله ويدخل في دائرتها النبوات أي معرفة الغيب. وهبة الالسن أو نيل معرفتها بدون تعب وبفيض الهي ثم تمييز الأرواح وما أشبه. فهذه الحكمة لا يدركها أحد بدون الروح القدس وقد نالها الرسل وأعطيها بولس وبعض القديسين الذين تطهّروا بالأعمال المقدسة. ثالثاً ان في المسيح كانت المعارف كلها ولا اعتبار لما يخالف ذلك لأنه كان ابن الله وبالتالي لا يسوغ القول انه كان يمتليء معرفة في نفسه بمعنى انه بنموه في الجسد تنمو معرفته في ذاتها وفي باطنه أو تزاد له معرفة أخرى. ولكن كان امتلاؤه يظهر تدريجاً في الخارج ففي طور طفوليته لم يكن جسمه من ذاته قادراً على اتيان ما كان يأتيه في شبابه أو رجوليته ولذلك لم يكن يبدو منه في الخارج في طفوليته المعارف التي أبداها في سنّ شبابه مثلاً أو في زمن كرازته وقد كتب ان حكمته ظهرت عند ما جلس بين علماء الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره ولم يحرّر الانجيليون انها أعلنت في موضع آخر قبل ابتدائه بالتبشير بعد عماده.

     وأيضاً تتخطى الى تفسير ما كانت نعمة الله عليه. أولاً هي عصمته من الخطية سواء كان بافعاله وأفكاره. ثانياً نعمة الله أيضاً اتيانه المعجزات واجتراح العجائب بما هو انسان لأنه ليس بعجب أن يصنع الأمور الفائقة الطبيعة بما انه اله. وان قلت : ما فضله على الأنبياء الذين عملوا العجائب أيضاً؟ أجبت انهم مُنحوا هذا السلطان من الله اما هو فكان يفعلها بسلطانه لأن أفعاله تُنسب إلى ذاته وأيضاً هو الذي أعطى أنبياءه ورسله المقدرة على اجتراح المعجزات وسيعطي مَن يؤمن به سلطاناً على اتيانها واتيان الأعمال الفائقة جداً

السيد المسيح يجادل العلماء في الهيكل

     ( 41 ) ” وكان أبواه يذهبان الى أورشليم كل سنة في عيد الفصح ” ( 42 ) ” فلما بلغ اثنتي عشرة سنة صعدا الى أورشليم كعادة العيد ” ( 43 ) ” ولما تمت الأيام عند رجوعهما بقي الصبي يسوع في أورشليم وأبواه لا يعلمان ” ( 44 ) ” واذ كانا يظنان انه مع الرفقة سافرا مسيرة يوم وكانا يطلبانه عند الأقارب والمعارف ” ( 45 ) ” فلم يجداه فرجعا الى اورشليم يطلبانه ” ( 46 ) ” وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً فيما بين المعلمين يسمعهم ويسألهم ” ( 47 ) ” وكان جميع الذين يسمعونه مندهشين من فهمه وأجوبته ”

     أعنى الأنجيلي بأبوي المسيح يوسف ومريم. وكان مفروضاً في الناموس أن يصنع الأسرائيليون الفصح في أورشليم وذلك أولاً لصدّهم عن ان يذبحوا الذبائح للأبالسة في أمكنة أخرى فيقولون : اننا ذبحنا لألهنا. وثانياً ليعلم الشعب عند ابطال الذبائح والفصح أمر ابطالها لانهم يعرفون بأسهل الطرق عند اجتماعهم ان العليّ ضربها بالبطلان وأمر بالكف عنها فلا يكون لهم عذر فيما بعد ان أحيوها في محل آخر. فاتماماً للناموس كان المسيح وأبواه يأتون كل سنة الى أورشليم وحدث ان السيد لهُ المجد بقي مرة في الهيكل ولم يرجع مع أبويه وكان ابن اثنتي عشرة سنة واياك أن تنسب عمله الى الطيش الذي يستولي على الأولاد في مثل سنّه فانه كان دائماً أبداً مرتباً في أعماله. فداخلت الهموم نفس يوسف ومريم وظنا اما انه صعد الى السماء أو ان اركلاوس قبض عليه وقتله وبقيا ثلاثة أيام يفتشان عن محل اقامته الى أن وجداه. واعلم ان الثلاثة أيام ممثلة للأيام الثلاثة التي يبقى له المجد مدفوناً فيها في القبر. وتسأل هل عرف مَن جادلهم المسيح وسمعوه انه المخلص؟ فالجواب بالنفي ولو انه أدهش سامعيه بأجوبته والمسائل الجديدة الروحية التي شرحها لهم. ومن المعلوم انه لم يحدث لغيره من الحكماء والانبياء أن يُذهل بحكمته الناس وهو في سن الثانية عشرة كما يستبين الأمر من مطالعة سيرهم

     ( 48 ) ” فلما نظراه بُهتا فقالت له أمه يا ابني لِمَ صنعت بنا هكذا ها اننا انا وأباك كنا نطلبك متوجعين ”

     أخذ الدهش يوسف ومريم لجلوسه وسط العلماء ولكلامه الطافح حكمة وسداداً ثم ان والدته أظهرت له اضطراب قلبها وقلب يوسف الذي سمته أباً من باب التوسع لا غير ثم ان الجميع كانوا يعدّونه بهذه الصفة. وان أردت معرفة أيام غياب يسوع عن العذرآء وخطيبها فاعلم انهما كانا قد سارا مسافة يوم وفي مسائه طلباه فلم يجداه فلزمت الحالة أن يرجعا واستغرق سفرهما يوماً ثم بحثا عنه ثلاثة أيام وفي اليوم التالي للثلاثة وجداه في الهيكل فيكونان قد التقيا به في اليوم السادس. وقال آخرون انه لم يغب عن أعينهما أكثر من ثلاثة أيام. ومستعلم عما صدر توجعهما واضطرابهما فالجواب عنه ظنهما ان اركلاوس قبض عليه وقتله

     ( 49 ) ” فقال لهما لماذا تطلبانني ألم تعلما انه ينبغي لي أن أكون فيما هو لأبي ”       ( 50 ) ” فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما ”

     أوّل جواب السيد المسيح بهذه العبارة : لأي سبب تفتشان عني كعن ضائع مفقود ولو كنتما تعرفانني لما طلبتما أين أنا. ومن البين انه لم يسمّ بيت يوسف بيتاً لأبيه بل سَمّى الهيكل بيت أبيه وكأنه افهم العذراء ويوسف انه لم يُولد ليظلّ في بيت يوسف بل ليكمّل ارادة أبيه السماوي والعمل العظيم الذي فوضه اليه وهنا سَل الهرطوقي المسيح سَمّى الآب السماوي أباه بالطبيعة أم بالنعمة؟ فان أجاب بالنعمة : اذن يكون مساوياً في البنوّة لليهود المدعوّين ببني الآب بالنعمة وان كانت بنوته غير بنوة اليهود فاذن هو ابن طبيعي للآب ولا عبرة بما يُسمّى به في بعض الآيات من أسماء بشرية لانه صار انساناً ثم لأجل التدبير الألهي وانتبه الى ان يوسف ومريم لم يدركا حق الادراك سبب ما قاله لهما ولا فهما انه ينبغي له أن يكون فيما هو للآب

     ( 51 ) ” ثم نزل معهما وأتى الناصرة وكان خاضعاً لهما وكانت أمه تحفظ ذلك الكلام كله في قلبها ”

      رجع يسوع الى الناصرة ليتمم مرسومات الناموس وقد تممها أحسن تتميم فخضع لأبويه ليعلمنا أيضاً الخضوع لوالدينا وقد كان خضوعه تاماً في سنّ الطيش أي في السنة الثانية عشرة ليدلنا على ان العمر اياً كان لا يعذر من الطاعة للوالدين. ويتخرص الهراطقة على المسيح في طاعته التي لا يرونها لائقة بالله ويقولون كيف يخضع ان كان الهاً لأبوين من البشر وهو لا يعد نفسه عبداً لأبيه الطبيعي كيف يطيع الناس. فالجواب ان المسيح بما انه اله لا يحسب ذاته عبداً للآب لانه مساوٍ لهُ لا أصغر منه ولكن بما انه صار انساناً ودعي طفلاً وصبياً اقتضت اللياقة خضوعه لمريم وليوسفَ وهو مولود مريم وموضوع تحت حراسة يوسف وأيضاً خضع ليفي عنا لأبيه السماوي ما هو واجب علينا. ثم ذكر لوقا خضوعه لأن الامر خارق المعتاد من قبل اله تأنس كما انه ذكر ظروف ميلاده لخروجها عن المألوف وأيضاً يثبت القوم ان العذراء لم تلده بالاوجاع والعذاب وان ارضاعها ابنها وحليبها من الامور العجيبة كحبلها ومثل هذه تستحق الذكر والعذراء عينها اذ نظرت ان كلام ابنها جديد فوق ما ألفه الناس حفظته في قلبها وصانته كأفخر الجواهر وقد وضح لها كل معانيه بتمامها عند ما نزل الروح في علّية صهيون فعلّمها والرسل كل شيء

     ( 52 ) ” وكان يسوع يتقدم في الحكمة والسن والنعمة عند الله والناس ”

     سَمّى البشير يسوع فيما تقدم صبياً والآن دعاه باسمه دلالةً على انه كبر قامة وأخذ يظهر حكمة أعظم من قبل ويكشف ما كان فيه خفياً وهذا معنى تقدّمه في الحكمة لا انه كان يتعلمها ويقبل منها من الخارج ما يزيده على ما عنده لكن انه كان يُبدي مما فيه منها تبعاً لنشوءه في القد والقامة. وكذا القول عن النعمة التي كان الناس يرون منها فيه شيئاً أوفر بقدر ما يزيد سناً. ويعترض الهراطقة قائلين : ان المسيح كان يتربى في الحكمة والنعمة لا انه كان يكشف الغطاء عن حكمته ونعمته. فنردّ الاعتراض بقولنا : بما انه اله لم يكن للتربية مأخذ عليه ولكن بما انه صار انساناً كان يتربى أو بالاولى كان ينمو قامةً وان استثنيتَ القامة أو الجسم فيه لزمك القول بنفي كل نمو. ثم ان نفسه كانت تزداد حكمة لا من معلم خارجٍ عنه بل من ذاته وكذا قل في نعمته اما قول لوقا عند الله فمعناه انه كان يدنو من الثالوث الأقدس بحيث انه كان شاهداً على نموه ومثبتاً لأعماله من الاختتان وتقدمة الذبائح وتكميل مرسومات الناموس وحاكماً بانها كاملة مرضية. وأيضاً كان الناس يشاهدون انه ينمو تدريجياً ويزيدون في اطرائه والثناء على سلوكه ومحبته كما انهم سمعوا فيما بعد تعاليمه وزادوا في معرفة أوصافه الالهية

الاصحاح الثالث

كرازة القديس يوحنا

     ( 1 ) ” في السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر حين كان بيلاطس البنطي والياً على اليهودية وهيرودس رئيس ربع على الجليل وفيلبس أخوه رئيس ربع على ايطورية وبلاد تراكونيتس وليسانيوس رئيس ربع على أبيلينة ” ( 2 ) ” وحنان وقيافا رئيسي الكهنة كانت كلمة الله على يوحنا ابن زكريا في البرية ”

     بعد أن أخضع الرومانيون اليهود وأخذوا منهم الجزية أقاموا عليهم ملكاً هيرودس الذي قتل الأطفال وبعد موته في غضب الله بسبب آثامه قسم طيباريوس البلاد أربعة أقسام فعين بيلاطس والياً على اليهودية وهيرودس المذكور هنا رئيس ربع على الجليل. وفيلبس أخا هيرودس على بلاد ايطورية وليسانيوس على بلاد أبيلينة. وكان هؤلاء الثلاثة كالملوك يُدعى كل منهم باسمِ تترَرشي أي رئيس الربع أي قسم من الأقسام الأربعة. وفيما يتعلق خاصة ببيلاطس فانه كان أصغر درجة لكن مستقلاً غير خاضع لأحد يجري القضاء وينفذ الأحكام ويجمع الجزية للسلطان وزيد على اسمه لفظ البنطي اما لأنه كان من بلاد البنطوس أو لأن الكلمة كانت أيضاً اسماً لهُ. وانتبه الى أن هيرودس الجليلي المذكور هو القاتل ليوحنا المعمدان وفي أيامه تمّت آلام السيد

     ( 3 ) ” فجاء الى بقعة الأردن كلها يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا ” ( 4 ) ” كما هو مكتوب في سفر اقوال أشعيا النبي صوت صارخ في البرية أعدّوا طريق الرب واجعلوا سبلهُ قويمة ” ( 5 ) ” كل وادٍ يمتلىء وكل جبلٍ وتلّ ينخفض والمعوج يستقيم ووعر الطريق يصير سهلاً ” ( 6 ) ” ويُعاين كل ذي جسد خلاص الله

     جاء يوحنا الى كل اليهودية والى ساحل نهر الاردن فخرج اليه اليهود من كل مكان لسماع كرازته. وهل يوحنا هو الذي قال كلام اشعيا المذكور أو رواه لوقا؟ فاختر ما تريد الّا ان الأكيد ان يوحنا هو المقول عنه انه صوت صارخ في البرية أي في القفر والخراب وفي المعنى الروحي هو صوت لاثارة الندامة في نفوس اليهود الخالية كالبرية من معرفة الله ومحبته وقد طلب منهم أن يعدّوا هذه النفوس لقبول الشريعة الجديدة التي هي طريق الرب الجديد وان يجعلوا سبل سيرتهم غير مقطوعة بالغش والدنس والخداع وان كانت نفوسهم في الحاضر كالوديان ناقصة من الصلاح والكمال فيلزم أن يملأوها بالبرارة والأعمال الصالحة. وكأن يوحنا قال لهم باديء بدء : أعدّوا طريق الرب فقالوا : يصعب علينا أعداده واصلاح طريق سلوكنا لأنه يصدّنا عن ذلك الشيطان وأهواؤنا الفاسدة فضلاً عما نلقى من الصعوبة في حفظ ناموس الرب. فأجاب : شهواتكم كالأودية صعب ضبطها والمرور عليها. فبالمسيح تتلاشى وتصير كالاودية التي مُثلت حجارة وتراباً حتى تساوت بالسهل. وأيضاً يُراد بالوادي الرجل المتواضع الذي يمتليء بالسيد المسيح فيرتفع. وافهم بالجبل والتل الشرور الكبرى التي تزيد على المألوف فتمسي كالجبال الشامخة أو ابليس اللعين وقواته وتشامخه. فلا بدّ ان هذه تزول وتتلاشى بقوة المسيح. وأوّل وعر الطريق بالعلوم الباطلة التي يهين بها الانسان الله فان المؤمنين بالمسيح يرذلونها. أو بالشرائع الصعبة الحفظ في ذاتها والتي لا يطيقها غير المؤمنين فان نعمة المسيح المقوّية تجعلها هينة الوفاء للمؤمنين وبذلك تصير كالأرض المنخفضة فاذ ذاك جميع الناس يشاهدون الله المغطى بالجسد لان الحياة تصدر لنا منه. والنسخة اليونانية تذكر الخلاص عوض الحياة لأنه يخلصنا من الخطية والشيطان والموت الأبدي ( انظر أيضاً الشرح في بشارة متى 3 : 1 – 3 )

     ( 7 ) ” وكان يقول للجموع الذين كانوا يأتون اليه ليعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من دلكم على الهرب من السخط الآتي ” ( 8 ) ” أثمروا ثمراً يليق بالتوبة ولا تجعلوا تقولون ان أبانا ابراهيم لأني أقول لكم ان الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لابراهيم ” ( 9 ) ” ها ان الفاس قد وُضعت على أصل الشجر كل شجرة لا تثمر ثمرة جيدة تُقطع وتلقى في النار ”

     راجع شرح بشارة متى 3 : 7 – 10

     ( 10 ) ” فسأله الجموع قائلين ماذا نصنع ” ( 11 ) ” فأجاب وقال لهم مَن له ثوبان فليعط مَن ليس له. ومَن له طعام فليصنع كذلك

     مرجع سؤال الجمع المتقاطر الى هذه العبارة : كيف يمكنا التوبة كما تقول لنا وكيف يلزمنا أن نعيش بعد العماد. ومعنى جواب المعمدان : اعملوا طبقاً للوصايا الجديدة ومَن له ثياب وكسوة وقوت فعليه أن يحسن على قريبه المسكين بشيء منها.

     ( 12 ) ” وجآء أيضاً عشارون ليعتمدوا فقالوا له ماذا نصنع يا معلم ” ( 13 ) ” فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فُرض لكم ” ( 14 ) ” وسأله الجند قائلين ماذا نصنع نحن أيضاً. فقال لهم لا تكلموا أحداً ولا تفتروا عليه واقنعوا بوظائفكم ”

     العشارون هم الذين يجمعون العشور والخراج فأَمَرَهم ألّا يطلبوا ويأخذوا أكثر من المرتب لهم. ثم أرشد الجند خادمي الملوك ألّا يتخاصموا وألّا يظلموا الغير وان يكتفوا بما هو معين لهم من الوظائف والرواتب

    ( 15 ) ” واذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله هو المسيح” ( 16 ) ” أجابهم يوحنا أجمعين قائلا انا أعمدكم بالماء ولكن يأتي مَن هو أقوى مني وأنا لا أستحق أن أحلّ سيور حذائه وهو يعمدكم بالروح القدس والنار ” ( 17 ) ” الذي بيده المذرى يُنقي بيدره ويجمع القمح الى أهرآئه ويُحرق التبن بنار لا تُطفأ ” ( 18 ) ” وأشيآء أخرى كثيرة كان يبشر الشعب بها في وعظه

     سبق تفسير ذلك في شرح متى 3 : 11 و 12

     لما اشتهرت قداسة يوحنا وشهرت فضائله وسُمع كلامه ظنّ الناس انه المسيح والجميع اعتقدوا ان الروح القدس يلهمه ما يقول ويظهر له لا سيما وانه كان يبشرهم بما ليس مكتوباً بالصراحة عندهم وبما لا يعرفونه

     ( 19 ) ” أما هيرودس رئيس الربع فاذ كان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه ومن جميع الشرور التي كان هيرودس يصنعها ” ( 20 ) ” زاد على ذلك جميعه أنه حبس يوحنا في السجن ”

     ان حبس يوحنا لم يقع في هذا الزمان لكن في الوقت الذي عيّنه مرقس أما لوقا فشاء اجمال قصّة يوحنا ولذلك أضاف ذكر سجنه

     انظر الكلام على هيرودس وهيروديا فس شرح بشارة متى 14 : 3 – 11

اعتماد السيد المسيح

     ( 21 ) ” ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع. وفيما هو يصلي انفتحت السماء ”     ( 22 ) ” ونزل عليه الروح القدس في صورة جسمية مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلاً انت ابني الحبيب بك سُررت ”

     اقتبل السيد المسيح العماد آخر الشعب لانه كان قاصداً أن يأخذ من يوحنا الناموس القديم أي يبطله. ثم ان انفتاح السموات لصلاته ليس مصدره انه محتاج مثلنا الى أن تُقبل صلاته فهو الله وسامع الصلوات وقابلها مع الآب والروح وقد سمع وقبل صلاة الكنعانية وصلوات غيرها. وكما انه لم يعتمد لأجل نفسه بل ليعلم المؤمنين لزوم وضروة الاعتماد كذلك لم يصلّ من أجل نفسه بل ليجعل ذاته أول الكهنة المصلين وليعلم الجميع ضرورة الصلاة. وكما انه صلى لا قبل أو في زمن العماد بل بعده كذلك يقبل الكاهن الرسامة بعد العماد ويأخذ اذ ذاك يصلي متضرعاً الى الله ليرسل روحه القدوس على ماء المعمودية ويقدسها. وتسأل ما نص صلاة ربنا؟ أجيب مع القديس فيلكسينوس : هكذا كانت صلاته : اني أيها الآب حسب ارادتك صرت انساناً ومن ميلادي من البتول الى الآن كمّلتُ ما يخص الطبيعة البشرية. وحفظتُ وأتممت الوصايا والأسرار ومرسومات الناموس. والآن اعتمدت ورسمتُ المعمودية فجعلتها ولادة روحية يلد منها الناس مولداً جديداً. وكما ان يوحنا جُعل آخر الكهنة في الناموس. هكذا أنا أول الكهنة في الانجيل. أما أنت ايها الآب فبواسطة صلاتي افتح السماء وارسل روحك القدوس على مياه هذه المعمودية. ومثلما حل في احشاء البتول وكوّن لي جسماً فليحل على مياه هذه المعمودية ويقدّسها. ويصوّر فيها بني البشر صورة جديدة ويلدهم بنين من جديد ويجعلهم بنيك واخوتي يرثون الملكوت وكما قوّيتَ على العمل كهنة الناموس من هرون الى يوحنا. ليقوّ أيضاً كهنة العهد الجديد الذين انا أولهم أن يعمّدوا. ومتى عمّدوا وصلوا فأرسل روحك القدوس على المعمودية التي فيها يعمدون والروح عينه يظهر الآن ظهوراً مبيناً الّا انه ينزل ويحل في عمادهم نزولاً وحلولاً خفيين وهكذا تتم بواسطتهم خدمة العهد الجديد. الذي لأجله صرتُ انساناً. واني الآن أصلي أمامك كرئيس الكهنة أجمعين. واعلم أولاً انه قيل : انفتحت السماء لأن آدم قد أغلقها بتجاوزه الوصية الالهية ففتحها السيد بعماده ثانياً ان نزول الروح القدس على المسيح ينفرق عن نزوله على سائر المعمودين اذ يحل هلى هؤلاء بعد اعتمادهم وقد حلّ عليه في حال اعتماده لا بعد ان اعتمد وصعد من المياه والقصد من ذلك ان يرى الناس ويعلموا انه ابن الله وما كانوا عارفين بذلك واحذر من أن تقول مع الهراطقة انه صار ابن الله ولم يكن من قبل ابناً طبيعياً للآب. ثالثاً أخذ الروح شبه حمامة لانها موصوفة بالوداعة والسكوت ثم لأنها كثيرة البيض والتفريخ والروح القدس يلد الألوف والربوات بالمعمودية ويجعلهم بها بنين روحيين لله. ولا تظن ان اقنوم الروح القدس انقلب شبه حمامة لانه ليس بهذا الشبه لا في السماء ولا في جلدها بل ترآى على شبح ما كان الله يترآى للأنبياء تحت هيئة مادية وليس فيه جسم الحمامة. بهذا نؤمن ولا نسأل كيف جرى الأمر لئلا نُصاب بالضلال الشائن. رابعاً قال قوم ان السموات ظهرت مفتوحة للشعب المحتشد هناك وانكر آخرون قالوا لم يرها مفتوحة غير يسوع ويوحنا ودليلهم السديد يُؤخذ مما قاله الآب ليوحنا من ان الذي ترى الروح نازلاً عليه فهو المخلص الموعود به. فلو نظر الجميع الروح وانفتاح السموات لما لزم ان يشهد يوحنا بذلك.

     ولنرَ الآن معنى الكلام الذي أسمعه الصوت الآتي من السماء فان الآب قال فيه انت ابني الحبيب. واياك من أن تتبع قول الهراطقة القائلين ان السيد المسيح ابن الله كغيره من الأنبياء أو انه ابن الله كما كان اليهود أباءه. واننا نقول لهدم رأيهم السخيف والضالّ : ان كان المسيحيون الذين يصيرون أبناء الله بالعماد لا يشبهون اليهود بشيء في هذه البنوة فبأولى حجة لا يشبههم السيد المسيح الذي هو الله. وان اعترضوا علينا قائلين : ان المسيح يشبه ابناء العماد. فنردّهم ان في زمن عماد المسيح لم تكن معمودية الروح. وأيضاً ان قالوا انه ابن بالنعمة لا بالطبيعة قلنا في حقهم. ليس فيما مرّ عن السيد المسيح ما يُعني انه ابن بالنعمة فقد صرخ عنه الآب قائلاً انه ابنه وقد حلّ عليه الروح ووُلد من عذراء في زمن ومكان وكيفية معروفة وبشّر الملائكة الرعاة به وشهد عنه سمعان وحنة ويوحنا المعمدان ولم يُذكر ان أحدهم أعلنه ابناً بالنعمة وليُقل لنا المعترضون : أين قرأوا انه ابن بالنعمة وفي أي كتاب. اذن يلزم القول انه ابن الله الطبيعي المساوي لهُ بالذات تجسد لخلاص البشر وعما أعمالاً عظيمة دالة على بنوته الطبيعية. ثم انتبه الى ان اعلان الآب انه بابنه سُرّ دلالة على ان السيد المسيح قادر على ان ينجز ارادة أبيه على التمام والكمال : أما الملائكة والقديسون ولو قيل عنهم انهم يعملون ارادة الله فانهم لا يقوون على انجازها بتمامه كما ينجزها الله عينه. ويتضح لك من قول الآب ” أنت هو ” ان في السيد المسيح طبيعة واحدة وأقنوماً واحداً لا طبيعتين كما يقول الخلقيدونيون لأن لفظة هذا هو. وأنت هو. تقال عن أقنوم واحد لا عن اثنين أو كثيرين وذلك يعرف من قول اريسطاطاليس صاحب ميزان الكلام في كتابه : العشر مقالات ان خاصة الجوهر الأولى هي التي تبان في قولك هذا .

     انظر الكلام على المعمودية في شرح بشارة متى 3 : 13 – 17

نسبة السيد المسيح

     ( 23 ) ” ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما كان يُظن ابن يوسف بن هالي بن متات ” ( 24 ) ” بن لاوي بن ملكي بن ينا ابن يوسف ” ( 25 ) ” بن متتيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي ابن نجاي ” ( 26 ) ” بن مآت بن متتيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا ” ( 27 ) ” بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شالتيئيل بن نيري ” ( 28 ) ” بن ملكي بن ادي بن قوسام بن المودام بن عير ” ( 29 ) ” ابن يوسي بن أليعازار بن يوريم بن متات بن لاوي ” ( 30 ) ” ابن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم ”           ( 31 ) ” ابن مليا بن منا بن متاتا بن ناتان بن داود ” ( 32 ) ” بن يسى ابن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون ” ( 33 ) ” بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا ” ( 34 ) ” بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم بن تارح بن ناحور ” ( 35 ) ” بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن سالح ” ( 36 ) ” بن قينان ابن ارفكشاد بن سام بن نوح بن لامك ” ( 37 ) بن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان ” ( 38 ) ” بن أنوش بن شيت بن آدم ابن الله ”

     هنا مسائل : الأولى : يعترض الاريوسيين بأنه لا يناسب الكلمة الذي قيل عنه انه كان في البدء أن يقع تحت عدد السنين ونرد عليهم ان للمسيح ميلادين الأول من الآب والثاني من البتول ولا ابتداء للأول أما الثاني فيقع تحت السنين وفي هذا المعنى قال الثاولوغوس في مقالته على الميلاد : ان الذي لا ابتداء له يبتديء وان اللطيف يصير كثيفاً. الثانية : قال فريق ان كلمة نحو في قوله : وكان لهُ نحو ثلاثين سنة. لم يضعها الانجيلي الّا لعدم تحققه عدد السنين. ولكن القول كاذب وبيانه ان لوقا كان عالماً بانه يكتب بالهام الروح القدس لكنه شَاءَ ان يبين لنا ان السيد بما انه اله لا ابتداء لهُ ولا انتهاء لكن بما انه تأنس فصار تحت عدد السنين. فمعنى نحو يكون التشبيه على حدّ ما قال يوحنا الانجيلي. ورأينا مجده كمجد الوحيد أي ولو أن الكلمة صار جسداً. لكن مجده ليس كمجد الجسد أو كمجد انسان. لكن كمجد الوحيد من الآب. أي صار جسداً لكن مجد لاهوته باقٍ بلا تغيير وبلا تبديل

     الثالثة : لماذا تعمّد وهو ابن ثلاثين سنة؟ لانه شاء أن يترك الناموس العتيق ويبتدىء بالجديد. وخوف أن يتهمه الغير بانه عاجز عن حفظ الشريعة الموسوية أراد أن يبقى تحت حكمها ثلاثين سنة. ثم عند بلوغ المرء السن الثلاثين تكون عيوب الشباب قد تلاشت ولا يبقى فيه نقصان الرأي وقلة الصبر وخفة الشهوة وحرارتها. وقد ظلّ السيد حافظاً للناموس حتى العمر المشار اليه ليقهر كل هذه الاهواء غير المرتبة. ثم ان سنّ الثلاثين سنّ الكاملين وفيها يبتديء الانسان بالأعمال الخطيرة والحياة البالغة في الجد. وأيضاً خُلق آدم في السنة الثلاثين وكان في بدء العالم القديم ويسوع آدم الثاني وفي بدء العالم الجديد وأخيراً رغب في أن يعطينا مثلاً نقتدي به وننسج على منواله فهو بقي حتى هذه السن بدون ان يعلّم ويأتي بالمعجزات ان استثنيت جلوسه بين العلماء في الهيكل. ونحن يلزمنا أن نفعل ما في مقدرتنا عند بلوغنا الحدّ الذي نكمل فيه عدّتنا وتأهبنا

     الرابعة : بقي السيد المسيح في ظن الناس انه ابن يوسف مع انه ابن الله حقاً متأنساً من عذراء وكذا البشر هم مولودون المرأة الا انهم يصيرون بالعماد اعضاء المسيح وبنين روحيين لله. ثم ان لوقا سمّاه ابن داود جدّه قصدَ أن يلقي في ذهن سامعه ذكر الموعد التي وعد به العليّ داود عينه من أن المسيح يأتي من زرعه. وقد ارتفع لوقا حتى آدم من الأسفل الى الأعلى رمزاً الى ان كل معتمد يصعد من الارض الى السماء في القيامة العامة واظهاراً الى ان المسيح من نسل آدم بولادته من مريم وزاد ان آدم من الله ليقطع ظنّ من يرى ان آدم مولود من بتول بلا زواج فلا يعتقد ان الله جبله من الارض بدون احتياج الى ذكر وأنثى ثم ليخزي اليهود المفتخرين بجدودهم الأرضيين الذين لا اعمال صالحة مذكورة لهم لذلك لم يقف عند ابراهيم في نسبته بل قادها الى الله بعد ذكر الانسان الأول الذي منه تناسل الناس أجمعون

الاصحاح الرابع

اختلاء السيد المسيح في البرية وصومه وتجربته

     ( 1 ) ” ورجع يسوع من الأردن وهو ممتليء من الروح القدس فاقتاده الروح الى البرية ” ( 2 ) ” أربعين يوماً وكان يُجرّب من ابليس ولم يأكل شيئاً في تلك الأيام. ولما تمت جاع ”

     مرّ الكلام على صوم السيد المسيح في شرح بشارة متى 4 : 1 و 2

     بعد ان اعتمد السيد المسيح نزل عليه الروح اعلاناً للعالم انه ابن الله وقد قبله لا بما انه اله بل انما صار انساناً ثم لا لاحتياجه اليه بل ليدلنا اننا نحن سنقتبله مثله في العماد

     ( 3 ) ” فقال له ابليس ان كنت ابن الله فمر هذا الحجر أن يصير خبزاً ” ( 4 ) ” فأجابه يسوع مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة من الله ”

     سبق الكلام على هذه التجربة في شرح بشارة القديس متى 4 : 3 – 5

    ( 5 ) ” فأصعده ابليس الى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لمحة من الزمان ” ( 6 ) ” وقال له أعطيك جميع سلطان هذه الممالك مع مجدها لأنها قد دُفعت اليّ فأنا أعطيها لمن أشآء ” ( 7 ) ” فأجاب يسوع وقال له قد كتب للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد ”

     راجع تفسير بشارة متى 4 : 8 – 10

     ( 9 ) ” وأتى به الى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له ان كنت ابن الله فألقِ بنفسك من ههنا الى أسفل ” ( 10 ) ” لانه مكتوب ان يُوصي ملائكته بك لتحفظك ”          ( 11 ) ” وانها تحملك على أيديها لئلا تصدم بحجر رجلك ” فأجاب يسوع وقال له قد قيل لا تجرب الرب الهك ”

     حارب ابليس مرتين السيد المسيح أي قبل عماده وقد حاول اذ ذاك أن يوقعه في الخطية ولكن الانجيليون لم يرووا لنا ذلك ثم بعد عماده كما يذكر الآن لوقا. وانتبه الى ان الخطايا الرئيسية ثمان وهي الشراهة والدعارة والبخل والحزن والغضب والكسل والمجد الباطل والكبرياء فاستخدم الشيطان ثلاثاً منها لمبارزة المسيح لأن منها تتأتى باقي الخطايا. الأولى الشراهة وهي محبة البطن والمأكول وتلد الشهوة الدنسة القبيحة فانتصر عليها السيد عند ما عرض عليه الشرير أن يصير الحجر خبزاً. والثانية البخل الذي هو محبة غير مرتبة للمال وتلد الاعتداء على الغير وظلمهم وغلب المسيح هذه الرذيلة اذ دفع عنه ما شوّقه اليه ابليس من التسلّط على الممالك والسجود لهُ بقصد نيلها. الثالثة الكبرياء والافتخار الباطل وتلد التمرّد على الله والبغي على الناس وقد دعا ابليس مخلصنا الى ذلك بقوله. ألقِ بنفسك من جناح الهيكل الى أسفل فخزاه سيدنا وسامه العار. والشيطان انما يوجهها لاثارة الشهوة في الجسد والغضب في النفس والهذر في اللسان فعلّمنا السيد بأن نداوي الشهوة بالصوم والغضب بالرحمة والدعة وفحش القول بالصلاة. ويعترض على هذا انتصار السيد بأن ابليس بارزه باظهار خيالات له لا غير وبالتالي كيف يجوز عدّ رفض هذه الخيالات انتصاراً على الشيطان واننا نجيب ان السيد لم يكن محتاجاً الى غلبة ابليس بل انما قصد فضح مكايده واظهار خيبته وبطلان تجاربه. والانتصار على الشيطان يقوم حقاً بمعرفته والاطلاع على حيله حتى يأخذ الانسان ما يحترز به لنفسه وما يحميها به ويرد هجماته المؤذية.

     انظر الشرح مت 4 : 5 – 7

     ( 13 ) ” فلما أتمّ ابليس جميع التجارب انصرف عنه الى حين

     لا تفهم بانصرافه عنه الى زمن الآلام بل الى الوقت الذي يتمكن به من اثارة غضب اليهود عليه ألّا ان السيد ما أذنَ لهُ باجراء ما أراد بل صدّه بقصد خلاصنا ومنقعتنا الى أن جاءَ الزمن الذي شاء أن يتألم فيه فقال اذا ذاك : قد أتت الساعة. لانه أكمل تدابيره كلها وما بقي غير الآلام والموت لتمام عمل خلاصنا

كرازة السيد في الجليل والناصرة ونبوة أشعيا

     ( 14 ) ” ورجع يسوع بقوة الروح الى الجليل وذاع خبره في جميع الناحية ”            ( 15 ) ” وكان يُعلم في مجامعهم ويُمجد من الجميع ” ( 16 ) ” وأتى الى الناصرة حيث نشأ ودخل كعادته الى المجمع يوم السبت وقام ليقرأ ”

     انما مجّد الناس السيد المسيح أولاً بسبب العجائب الباهرة التي أتاها. وثانياً بسبب التعاليم الخلاصية التي ألقاها. ولما كان منشأه من الناصرة فقد قصد اليها ليمنح مرضى بلدته الشفاء ثم أراد ارشاد مواطنيه وتعليمهم. فاغتنم فرصة السبت حيث تبطل الأشغال ويجتمع الناس للصلاة في المجمع فدخله معهم. وروى لوقا ان عادته الدخول الى المجمع فأبان لنا أموراً ثلاثة ان السيد لهُ المجد كثيراً ما كان يتردّد على بيوت الصلاة والثاني انه لا يحق لأحد اتهامه بانه خالف الناموس والثالث انه شاء أن يكون قدوة لنا في مناجاة الله. وكانت عادة اليهود في اجتماعاتهم أيام السبت أن يفوضوا الى ذوي العلم والفضيلة تلاوة الكتب المنزلة كأسفار موسى والأنبياء بصوت جهوري على الجماعة كلها. وكان السيد المسيح ملحوظ المنزله بشرف فضله ومعارفه فدفعوا اليه الكتاب ليقرأ. فتأمل هنا حسن سلوكه ونظام تدبيره كيف انه لم يُقبل من تلقاء نفسه الى التماس الكرامة ولو انه حائز للمعارف والكمالات كلها بل انتظر أن يعطوه الكتاب ويدعوه الى القراءة

     ( 17 ) ” فدفع اليه سفر أشعيا النبي. فلما فتح السفر وجد الموضع المكتوب فيه ”       ( 18 ) ” ان روح الرب عليّ ولاجل ذلك مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب ” ( 19 ) ” وأنادي للماسورين بالتخلية وللعميان بالبصر وأطلق المهمشين الى الخلاص وأكرز بسنة الرب المقبولة ويوم الجزآء “

     لم يقل اشعيا ما قال الّا مُوحى اليه. وكلامه هو عن لسان الأقنوم الثاني الذي تأنس وتأويله ان روح القدس مسحني وقدّسني في الجسد وأنا ابن الله بالطبيعة وواهب الروح عينه لأبشر الشعوب المفتقرة الى معرفة الله والخالية من الأعمال الصالحة. وأداوي مَن قصمت الخطية ظهورهم وحطّمت قلوبهم. واعلن المغفرة من سباهم الشيطان الرجيم وأسكن فيهم فأطرده طرداً أو اخلّص منه اسراه. وأنير بصر العميان وهم الذين حُرموا معرفة الاله الحقيقي فما داخلهم صحيح الاعتقاد. ومن البين مما مرّ ان الله المثلّث الأقانيم الواحد بالذات والطبيعة ظهر على الاردنّ يومَ اعتماد المسيح فالآب باعلانه ما أعلنه عن الابن والابن باقتباله العماد والروح القدس برفرفته على شبه الحمامة ومن كلام اشعيا ان السيد المسيح يجبر بالغفران المنكسرين بالخطية وقد تمّ ذلك بقوله للمخلع : مغفورة لك خطاياك قم واحمل سريرك. فتشدّدت اعصابه وتقوت عظامه فقام ومشى. وأيضاً انه يكرز بالسنة المقبولة وهي السنة الثلاثون التي اعتمد فيها وشرع يجترح المعجزات ووُصفت بالمقبولة لأن البشر انتقلوا فيها من المعصية الى التوبة والى الحظوة في عيني الرب. ومنذ هذا الزمن الى الآن والى منتهى العالم يقبل الله توبة الخطأة وبعبارة أخرى نقول مع بولس الرسول ان زمن الحياة الحاضرة  ” هو الزمان المقبول ” 

     ( 20 ) ” ثم طوى السفر ودفعه الى الخادم وجلس وكانت عيون جميع الذين في المجمع شاخصة اليه ” ( 21 ) ” فجعل يقول لهم اليوم تمت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم.”

     بعد أن طوى السيد الكتاب سلمه الخادم الذي في الهيكل وارتفعت العيون اليه لانتظارهم تفسير ما تلاه. وعادةُ الشعبِ اليهودي ان قاريء الكتب عندهم يوضح لهم ما يقرأه عليهم فاما يختصره قبل الشروع في تلاوته واما يشرح الآيات كلها أو بعضاً تدريجاً أو بعد الانتهاء منها. وما أشد سفاهة المتعنتين في أيامنا فانهم يثورون بغضاً على مَن يحاول شرح الكتب المنزلة لهم ويلزمونه بالسكوت فهم أحط منزلة من اليهود الذين يفضلونهم بان لم يكونوا يسمعوا قراءة كتاب الله بدون تفسير آياته وقد جارى السيد مواطنيه في هذه العادة أي شرح لهم ما قرأ على مسامعهم وكانوا يظنون ان النبوة مختصة بأحد الانبياء أو الملوك الذين سلفوا وبالتالي انها كملت فجرّدهم لهُ المجد من ضلالهم وافهمهم انها مقولة عنه وتمّت الآن فيه. ومن الواضح ان العناية الربانية جعلته يتلو من الاسفار المنزلة كلام اشعيا الحاضر

( ليس نبي مقبولاً في وطنه )

     ( 22 ) ” وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة البارز من فيه ويقولون أليس هذا هو ابن يوسف ”

     كان جميع السامعين يشهدون بصواب تفسير المسيح وان الكلام يعنيه بصفته الاقنوم الثاني المرسل من الآب. وأيضاً كان الكتبة والفريسيون تارة يشهدون لهُ وتارةً يعيرونه بالغش أما شهادتهم لهُ بالصواب فعندما كانت قلوبهم بعيدة عن الحسد وأما تعييرهم ففي حالة غضبهم وثوران حسدهم. وأيضاً كان الناس فريقين في تعجبهم من كلامه فأحدهما يقبله ويقول عنه : هذا حق واشعيا قصده في نبوته. والفريق يستهزيء به ويعيره بانه ابن يوسف وان مَن عناه اشعيا هو غيره ولا يناسبه

     ( 23 ) ” فقال لهم لا شك أنكم تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب. اشفِ نفسك. كل ما سمعنا أنك صنعته في كفرناحوم اصنعه أيضاً ههنا في وطنك

     عرف السيد ما يخالج القلوب من الحسد والشرّ فأراد أولاً تبيين ذلك والتعبير عنه ثم تفنيده. وأمامك في الآيتين الاعتراض وتأويلهما : أضف على تفسيرك نبوة اشعيا المعجزات والأعمال لنعتقد الكلام صحيحاً ثابتاً وأرِنَا بالفعل ان اشعيا عناك واعلم ان سبيل الطبيب ان يشفي نفسه أولاً ثم يعالج غيره وانت اعمل في مدينتك التي هي خاصة بك ما عملته من العجائب في كفرناحوم. والجواب على هذا الاعتراض أو تفنيده تراه في الآيات التابعة

     ( 24 ) ” وقال لهم الحقّ أقول لكم انه ليس نبي مقبولاً في وطنه ” ( 25 ) ” في الحقيقة أقول لكم ان أرامل كثيرات كنّ في اسرائيل في أيام ايليا حين أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر وحدث جوع عظيم في الارض كلها ” ( 26 ) ” فلم يُبعث ايليا الى واحدة منهن الا الى صرفَت صيدا الى امرأة أرملة ” ( 27 ) ” وبرصاً كثيرين كانوا في اسرائيل في عهد اليشع النبي ولم يُطهر أحد منهم الا نعمان السرياني

     ردّ قول اعدائه أولاً بأن لا يُقبل النبي في وطنه ولذلك أنتم لا تقبلوني بل تزدرون كلامي. فسمّى اذن الناصرة مدينته واعنى ضمناً انه تربّى فيها وقد أخذ برهانه من استقراء حياة النبيين قبله فان موسى لم ترضَ به جماعة اسرائيل مهما أتاه من الآيات الباهرة العديدة ولا قبل بنو الرامة صموئيل ولا بنو تسبي ايليا ولا بنو محولا اليشع ولا بنو عينوت ارميا. ثانياً انهم غير مستحقين العجائب بسبب قلة ايمانهم فقال ان النبي لا يقبل في بلدته ولا يَنتفع وطنه بأعماله على شبه ما وقع لايليا فان الله ما أرسله الى أرامل اسرائيل اللواتي من جنسه بل الى أرملة من الوثنيين في صرفت صيدا وقد أضافته وسدّت احتياجه في سني الجوع. وأيضاً لم يشفِ اليشع برص شعبه بل طهر نعمان السوري. وقد استحقت الارملة الوثنية ونعمان هذه الهبات لايمانهما الحيّ. فكأن السيد قال ضمناً : أنتم لا تؤمنون فعجائبي تكون لغيركم كما كانت عجائب ايليا واليشع لغير شعبهما. فدفع اذن عنه ملامة مواطنيه الذين طلبوا معجزاته لمنفعتهم وافهموه ان سبيله منحهم خيراته قبل غيرهم. وقد سمّى لوقا نعمان الحنفي سريانياً لأن منشأه من سوريا فونيقي لا من انطاكية. ولاحظ أمرين الأول ان تطهير نعمان في الاردن كان رمزاً للمعمودية التي يطهرنا بها السيد المسيح والثاني سلوك اليهود المتلونين بوجهين ولسانين فانهم كانوا يؤنبون السيد ويصفونه بأنه ناقض لشريعة الله وللسبت اذا رأوه يشفي المرضى يوم السبت والآن في يوم سبت عينه يطلبون منه العجائب

     ( 28 ) ” فلما سمع هذا الذين في المجمع امتلأوا كلهم غضباً ” ( 29 ) ” فقاموا وأخرجوه الى خارج المدينة واقتادوه الى قمة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه عنها ” ( 30 ) ” أما هو فجاز في وسطهم ومضى “

     ان سبب غضبهم آتٍ عن قوله ان اليوم كمل الكتاب وان اشعيا تنبأ عني وخاصة عن انه ساوى نفسه واكرامه بايليا واليشاع ولذلك اقتادوه الى أعلى مكان في الجبل ليرموه منه الى هوة عميقة هناك. وقد تخلّص من أيديهم وما عرفوا أين انتقل لأن زمن آلامه لم يكن قد دنا

( كرازة يسوع في كفرناحوم وشفاء رجل فيه روح نجس )

     ( 31 ) ” ونزل الى كفرناحوم مدينة الجليل وكان يُعلمهم في السبوت ” ( 32 ) ” فبهتوا من تعليمه لان كلامه كان بسلطان ”

     مدار تعليم السيد على ان نبوات الانبياء تحققت فيه وأيضاً على انه ينبغي لهم تجنب الشر واتيان الخير والى هذا تعدد تعاليمه في وجوب عدم النظر الى امرأة لاشتهائها وفي دخول الباب الضيق وما أشبه. وامتاز لهُ المجد بصفة الهية في كلامه وهو انه كان يلقيه لا كنبي من قبل الله بل كالله عينه فيعلم التعاليم صادرة من عنده وبسلطانه ويسنّ الشرائع بولاية مألوفة ويأمر الارواح النجسة بأن تخرج من الناس

  ( 33 ) ” وكان في المجمع رجل به روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم “( 34)” قائلاً دع مالنا ولك يا يسوع الناصري أأتيت لتهلكنا.قد عرفتك مَن أنت انك قدوس الله”  أ

     انظر شرح بشارة مرقس 1 : 23

     ولا أحقّ من تسمية الشيطان بالنجس لانه يفعل في الانسان الفجور والزناء ثم انظر الى خبثه فمن مدة كان يطلب من المخلص السجود لهُ على الجبل والآن يقول : مالنا ولك ويدعوه قدوساً ثم ناصرياً نسبة الى مدينته ويعدّ هلاكاً اخراجه من جسم الرجل ويدّعي انه عرفه. وهذه المعرفة مقتبسة مما سمعه من نبوة زكريا وسمعان ويوحنا ومن صوت الآب زمن العماد فلم تأتهِ من قوة ادراكه طبيعياً. وقد حاول اطراءه بالمدح باعلانه قدّوس الله وقصده الشرير أن ينفخه بالمجد الباطل فما أثر المدح في السيد تأثيره المطلوب لانه أجاب كما في الآية :

     ( 35 ) ” فانتهره يسوع قائلاً اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان في الوسط وخرج منه ولم يضره شيئاً ” ( 36 ) ” فوقع الانذهال على الجميع وجعلوا يكلمون بعضهم بعضاً قائلين ما هذا الكلام فانه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة بالخروج فتخرج ”                ( 37 ) ” فسار صيته الى كل موضع من الناحية ” 

     لم يقبل يسوع الثناء من ابليس حتى لا يمتليء الكتبة حسداً وما كان محتاجاً الى شهادة الابالسة واعماله اكبر شاهد على مَن هو ولذلك انتهر الشيطان بسلطان لأنه اله. وقد أذِنَ أن يصرع الرجلَ ليظهر للحاضرين رداءته واضراره وتستبين المعجزة الالهية لكنه لم يأذن بان يؤذيه فدُهش اليهود وكان يرون في المسيح نبياً من الانبياء فها هو يصنع ما لا يقدر على صنعه غير الله واننا نعلم انه الكلمة الالهية. وقد ذاع في كل بلاد الجليل ان يسوع الناصري يخرج بكلمة الواحدة الشياطين من الناس

( شفاء حماة بطرس )

     ( 38 ) ” وقام يسوع من المجمع ودخل بيت سمعان وكانت حماة سمعان قد أخذتها حمى شديدة فسألوه لأجلها ” ( 39 ) ” فوقف عندها وزجر الحمى ففارقتها وفي الحال قامت تخدمهم ”

     ارجع شرح بشارة متى 8 : 14 – 17

( شفاء مرضى وذهاب السيد الى البرية )

     ( 40 ) ” ولما غربت الشمس كان جميع الذين عندهم مرضى بعلل مختلفة يأتون بهم اليه وكان يضع يديه على كل واحد منهم فيشفيهم ” ( 41 ) ” وكان الشياطين يخرجون من كثيرين صارخين وقائلين انك انت ابن الله. فكان ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون لانهم كانوا يعرفون انه المسيح ”

     أتى الى المسيح كثيرون من المرضى فكان لمس يده المقدسة يشفيهم وانك ترى مفاعيل جسده في طرد الامراض وفي اخراج الابالسة الذين لم يكن يدعهم يقولون عنه انه قدوس وانه ابن الله وما أشبه من العبارات وسبب ذلك انه اختص الرسل بهذه الكرازة وهم اجروها على أحسن منوال فما كان من اللائق ان يتولى الشياطين اجراءها

     ( 42 ) ” ولما كان الغد خرج وذهب الى موضع قفر وكان الجموع يطلبونه فوصلوا اليه وأمسكوه لئلا يذهب من عندهم ” ( 43 ) ” فقال لهم انه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر بملكوت الله لاني لهذا أرسلت ” ( 44 ) وكان يكرز في مجامع الجليل ”

     ألف المسيح في حياته التبشيرية الخروج الى مكان خالٍ من السكان والعمارة قصدَ ألّا يُظن انه محب للمجد الباطل وان يعلمنا الهرب من بين ضوضاء الناس وملاهيهم ان أردنا مزاولة الفضيلة الّا ان الناس كانت تقصد اليه بسبب حنانه ورأفته ولعلمه بعاهاتهم الروحية والجسدية وعدم توانيه في مداواتهم اما هو فما كان يحصر فائدته في مدينة واحدة بل كان يمتدّ بمنافعه وتعاليمه وتبشيره بالملكوت الى مدن كثيرة وقد أرسله الآب لا كالرسول فقط بل لانه ابنه الطبيعي القادر أكثر من غيره على التبشير بالحق والخلاص

 

 

( الاصحاح الخامس )

( صيد السمك العجيب )

     ( 1 ) ” ولما ازدحم الجمع عليه لسماع كلمة الله وهو واقف على بحيرة جناسر ”        ( 2 ) ” رأى سفينتين راسيتين في البحيرة وقد انحدر منهما الصيادون يغسلون الشباك ”    ( 3 ) ” فركب احدى السفينتين وكانت لسمعان وسأله أن يتباعد قليلاً عن البرية وجلس يعلم الجموع من السفينة ”

     راجع شرح بشارة متى 4 : 18 – 22 ووجه ال 162 و 163

     ( 4 ) ” ولما فرغ من الكلام قال لسمعان تقدم الى العمق وألقوا شباككم للصيد ”          ( 5 ) ” فأجاب سمعان وقال له يا معلم انا قد تعبنا الليل كله ولم نصب شيئاً ولكن بكلمتك ألقي الشبكة ” ( 6 ) ” فلما فعلوا ذلك اجتازوا من السمك شيئاً كثيراً حتى تخرقت شبكتهم ” ( 7 ) ” فأشاروا الى شركائهم في السفينة الأخرى أن يأتوا ويُعاونوهم فأتوا وملأوا السفينتين حتى كادتا تغرقان ”

     لادراك مقصد الله في الحادث الحاضر لاحظ عدة أمور اولاً يجذب الله الى خدمته كلاً تبعاً لميله فالمجوس المراقبون لدوران الافلاك وللنجوم قادهم اليه بضوء كوكب وكذا الرسل الصيادون يعلق قلوبهم به بصيد السمك ثانياً تعب الليل الذي ذكره بطرس رمز الى تعب الانبياء مع الشعب الاسرائيلي في كل المدة التي نزلت فيها عليهم المصائب متواصلةً وما أحقّ تشبيه هذا الزمن بالليل. وكما انهم لم يتوبوا الى الرب كذلك لم يستفد التلاميذ شيئاً من محاولتهم الصيد مدة الليل كله ثالثاً لما القى الرسل شبكتهم باسم المسيح أي لما بشروا العالم باسمه اصطادوا سمكاً كثيراً أي هدوا الى حظيرة الكنيسة والى الايمان بالمسيح شعوباً وامماً عديدة واقتضت الحالة أن يستدعوا المبشرين لمساعدتهم في البشارة رابعاً فالبحر اذن دلالة الى العالم والسفينتان يعنيان الختانة والغرلة والشبكة ترمز الى التبشير بالسيد المسيح. والسمك يشير الى البشر الذين قبلوا بشارة الانجيل

     ( 8 ) ” فلما رأى ذلك سمعان بطرس خرّ عند ركبتي يسوع قائلاً اخرج عني ياربّ فاني رجل خاطيء ” ( 9 ) ” لان الانذهال اعتراه هو وكل مَن معه عند صيد السمك الذي أصابوه” ( 10 ) ” وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدى اللذان كانا رفيقي سمعان. فقال يسوع لسمعان لا تخف فانك من الآن تكون صائداً للناس ” ( 11 ) ” فلما بلغوا بالسفينتين الى البرّ تركوا كل شيء وتبعوه ”

     ان أصحاب العقل والادراك عند ما يفكّرون في الضعف البشري يرون أنفسهم غير أهل للدنو من الله ومخالطته وهذا ما حصل لبطرس الذي سجد أمام سيده وقال اخرج عني يارب لاني رجل خاطيء. وقد ناله هو ومَن معه الانذهال لأن المعجزة من كبار المعجزات الّا ان السيد شدّد قواه ووعده بسبب ايمانه أن يجعله صياد الناس لخلاص نفوسهم

( شفاء أبرص )

     ( 12 ) ” ولما كان في احدى المدن اذا رجل مُغطى بالبرص. فلما رأى يسوع خرّ على وجهه وسأله قائلاً يارب ان شئت فأنت قادر أن تُطهرني ” ( 13 ) ” فمدّ يده ولمسه قائلاً قد شئت فاطهر وللوقت ذهب عنه البرص ” ( 14 ) ” فأمره أن لا تقل لأحد بل اذهب فأرِ نفسك للكاهن وقدّم عن تطهيرك كما أمر موسى شهادة لهم ” ( 15 ) ” فازداد خبره شيوعاً واجتمع اليه كثير من الجموع ليستمعوه ويُشفوا من أمراضهم ” ( 16 ) ” فاما هو فكان يعتزل في القفار ويُصلي

     سبق الكلام على هذه المعجزة في شرح انجيل متى 8 : 1 – 4

( شفاء المخلع )

     ( 17 ) ” وفي أحد الأيام كان يُعلم وكان الفريسيون ومُعلموا الناموس جالسين وقد أتوا من جميع قُرى الجليل واليهودية ومن أورشليم وكانت قوة الرب لشفائهم ” ( 18 ) ” واذا برجال يحملون مخلعاً على سرير وكانوا يلتمسون أن يدخلوا به ويضعوه أمامه ”              ( 19 ) ” واذا لم يجدوا من أين يدّخلوا به لسبب الجمع صعدوا به الى السطح ودلوه من بين اللبن مع سريره الى الوسط قدام يسوع ” ( 20 ) ” فلما رأى ايمانهم قال يا رجل مغفورة لك خطاياك ” ( 21 ) ” فجعل الكتبة والفريسيون يُفكرون ويقولون من هذا الذي يتكلم بالتجديف مَن يقدر أن يغفر الخطايا الا الله وحده ” ( 22 ) ” فعلم يسوع أفكارهم فأجاب وقال لهم بماذا تُفكرون في قلوبكم ” ( 23 ) ” ما الأيسر أن يُقال مغفورة لك خطاياك أم أن يُقال قم وامش ” ( 24 ) ” ولكن لكي تعلموا أن ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا. ثم قال للمخلع لك أقول قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك ” ( 25 ) ” وفي الحال قام قدامهم وحمل السرير الذي كان مضطجعاً عليه ومضى الى بيته ممجداً الله ” ( 26 ) ” فأخذ الدهش جميعهم ومجدوا الله وامتلأوا خوفاً وقالوا لقد رأينا اليوم عجائب ”

     مرّ الكلام على شفاء المخلع في شرح بشارة متى 9 : 2 – 8

( دعوة القديس متى )

     ( 27 ) ” وخرج بعد ذلك فرأى عشاراً اسمه لاوي جالساً عند مائدة الجباية فقال له اتبعني ” ( 28 ) ” فترك كل شيء وقام وتبعه ” ( 29 ) ” وضع له لاوي مأدبة عظيمة في بيته وكان هناك جمع كثير من العشارين وغيرهم متكئين معهم ” ( 30 ) ” فتذمر الفريسيون وكتبتهم على تلاميذه قائلين لماذا تأكلون وتشربون مع العشارين والخطأة ” ( 31 ) ” فأجاب يسوع وقال لهم لا يحتاج المتعافون الى طبيب لكن ذوو الاسقام ” ( 32 ) ” اني لم آتِ لأدعو صديقين بل خطأة الى التوبة ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 9 : 9 – 13

     لاوي هو متى الذي أبقى الانجيلي اسمه ليطلع الناس على أصله ومنشأه ويمجدوا الله الذي يرفع اليه حتى متواضعي الحرفة

( مشاجرة في الصوم )

     ( 33 ) ” وقالوا له لماذا تلاميذ يوحنا يصومون كثيراً ويواظبون على الصلاة وكذلك تلاميذ الفريسيين وتلاميذك يأكلون ويشربون ” ( 34 ) ” فقال لهم هل تستطيعون أن تصوّموا بني العرس مادام العريس معهم ” ( 35 ) ” ولكن ستأتي أيام يرتفع فيها العريس عنهم وحينئذ يصومون في تلك الأيام “( 36 ) ” وقال لهم مثلاً ليس أحد يشق رقعة من ثوب جديد ويجعلها في ثوب بالٍ والا فيكون الجديد قد شُق والرقعة من الجديد لا تُوافق البالي ”    ( 37 ) ” ولا يجعل أحد خمراً جديدة في زقاق عتيقة والا فتشق الخمر الجديدة الزقاق وتُراق وهي تتلف الزقاق ” ( 38 ) ” لكن ينبغي أن تُجعل الخمر الجديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعاً ” ( 39 ) ” وما من أحد يشرب المعتقة ويُريد الجديدة لأنه يقول ان المعتقة أطيب ”

     سبق الكلام على تعليم المسيح في حقيقة الصوم في شرح بشارة متى 9 : 14 – 17

 

 

( الاصحاح السادس )

( فرك السنبل يوم السبت )

     ( 1 ) ” وفي السبت الأول الثاني اجتاز بين الزروع وكان تلاميذه يقلعون سنبلاً ويفركون بأيديهم ويأكلون ” ( 2 ) ” فقال لهم قوم من الفريسيين لماذا تفعلون ما لا يحل في السبوت ” ( 3 ) ” فأجابهم يسوع قائلاً أوَ ما قرأتَم ما فعل داود حين جاع هو والذين معه ”              ( 4 ) ” كيف دخل بيت الله وأخذ خبز التقدمة وأكل وأعطى الذين معه وهو لا يحل أكله الا للكهنة وحدهم ” ( 5 ) ” ثم قال لهم ان ابن البشر هو رب السبت أيضاً ”

     سبق الكلام على عمل التلاميذ المذكور وشكاية الفريسيين وجواب المسيح في الشرح متى 12 : 1 – 8

( شفاء يد يابسة يوم السبت )

     ( 6 ) ” ودخل المجمع في سبت آخر وجعل يُعلم وكان هناك رجل يده اليمنى يابسة ”     ( 7 ) ” وكان الكتبة والفريسيون يُراقبون هل يشفي في السبت لكي يجدوا ما يشكونه به ”  ( 8 ) ” وعلم بأفكارهم فقال للرجل اليابس اليد قم وقف في الوسط فقام ووقف ”              ( 9 ) ” فقال لهم يسوع أسألكم أعَمل الخير يحل في السبت أم الشر أن تخلص نفس أم تهلك” ( 10 ) ” ثم أدار نظره في جميعهم وقال له امدد يدك ففعل فعادت صحيحة كالأخرى ”        ( 11 ) ” فامتلأوا سفهاً وفاوض بعضهم بعضاً فيما يفعلون بيسوع ”

     مر الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 12 : 9 – 14

( انتخاب الاثني عشر رسولاً )

     ( 12 ) ” وفي تلك الأيام خرج الى الجبل ليصلي وقضى ليلته في الصلاة الى الله ”       ( 13 ) ” فلما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر وسماهم رسلاً ”                ( 14 ) ” سمعان الذي سماه أيضاً بطرس واندراوس أخاه ويعقوب ويوحنا وفيلبس وبرتلماوس ” ( 15 ) ” ومتى وتوما ويعقوب ابن حلفا وسمعان المدعو الغيور ”             ( 16 ) ” ويهوذا أخا يعقوب ويهوذا الاسخريوطي الذي أسلمه ”

     كان للسيد المسيح تلاميذ كثيرون يتبعه منهم عن قرب اربعة وثمانون فمن هؤلاء اختار اثني عشر رسولاً على عدد أشهر السنة الاثني عشر أو اسباط اسرائيل الاثني عشر وسبعين مبشراً على عدد السبعين ارزة أو السبعين شيخاً. وانتبه الى ان في ترتيب اسامي الرسل يضع لوقا ومرقس اسم متى قبل توما الا ان متى عينه يضعه بعد توما تواضعاً منه. ثم ان قوماً سمّوا برتلماوس يسوع وقال عنه آخرون انه نتانائيل وافهم بيهوذا أخ يعقوب تدّاوس ولم يُوضع اسم الاسخريوطي آخر الكل الّا بسبب وقاحته وخبثه لكن مرتبته هي بعد سمعان بطرس ويعقوب

     راجع تفسير ذلك في شرح بشارة متى 10 : 1 – 14

( خطاب يسوع بعد نزوله من الجبل )

     ( 17 ) ” ثم نزل معهم ووقف في موضع سهل هو وجماعة تلاميذه وجمهور كثير من الشعب من كل اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا ” ( 18 ) ” ممن جاءوا ليستمعوه ويُبرأوا من أمراضهم ومن المعذبين بالأرواح النجسة وكانوا يُشفون ” ( 19 ) ” وكان كل الجمع يطلبون أن يلمسوه لان قوة كانت تخرج منه وتُبريء الجميع

     انظر شرح بشارة متى 4 : 24 و 25

( التطويبات وما يخالفها )

     ( 20 ) ” ورفع عينيه الى تلاميذه وقال طوبى لكم أيها المساكين فان لكم ملكوت الله ”   ( 21 ) ” طوبى لكم أيها الجياع الآن فانكم ستشبعون طوبى لكم أيها الباكون الآن فانكم ستضحكون ” ( 22 ) ” طوبى لكم اذا أبغضكم الناس ونفوكم وعيروكم ونبذوا اسمكم نبذ شرير من أجل ابن البشر ” ( 23 ) ” افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم في السماء لان آباءهم هكذا فعلوا بالانبيآء ” ( 24 ) ” لكن الويل لكم أيها الاغنيآء فانكم قد نلتم عزاءكم ” ( 25 ) ” الويل لكم أيها المشبعون فانكم ستجوعون الويل لكم أيها الضاحكون الآن فانكم ستنوحون وتبكون ” ( 26 ) ” الويل لكم اذا قال الناس فيكم حسناً فان آبآءهم هكذا فعلوا بالأنبياء الكذبة ”

     قد تكلمنا بالتفصيل على ذلك في شرح بشارة متى 5 : 3 – 12

( أخص الافعال البارة المطلوبة منا )

     ( 27 ) ” لكن أقول لكم أيها السامعون أحبوا أعدآءكم وأحسنوا الى مَن يُبغضكم ”        ( 28 ) ” وباركوا لاعنيكم وصلوا لأجل مَن يُعنتكم ” ( 29 ) ” ومن ضربك على خدك فقدّم الآخر. ومَن أخذ ردآءك فلا تمنعه ثوبك ” ( 30 ) ” وكل مَن سألك فأعطِه. ومَن أخذ مالك فلا تطالبه به ”

     تقدم تفسير ذلك في شرح بشارة متى 5 : 39 – 45

     ( 31 ) ” وكلما تُريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا أنتم بهم ”

     سبق شرحه في بشارة متى 7 : 12

     ( 32 ) ” فانكم ان أحببتم من يُحبونكم فأية منة لكم فان الخطأة يُحبون مَن يُحبهم ”      ( 33 ) ” وان أحسنتم الى مَن يُحسن اليكم فأية منة لكم فان الخطأة هكذا يصنعون ”          ( 34 ) ” وان اقرضتم الذين ترجون أن تستوفوا منهم فأية منة لكم فان الخطأة يُقرضون الخطأة لكي يستوفوا منهم المثل ” ( 35 ) ” ولكن أحبوا أعدآءكم وأحسنوا وأقرضوا غير مؤملين شيئاً فيكون أجركم كثيراً وتكونوا بني العلي فانه مُنعم على الغير الشاكرين والأشرار” ( 36 ) ” فكونوا رحمآء كما أن أباكم هو رحيم ”

     انظر تفسير ذلك في شرح بشارة متى 5 : 46 – 48

     ( 37 ) ” لا تدينوا فلا تُدانوا. لا تقضوا على أحدٍ فلا يُقضى عليكم اغفروا يُغفر لكم ”    ( 38 ) ” أعطوا تُعطوا. انكم تُعطَون كيلاً صالحاً ملبداً مهزوزاً في أحضانكم لانه بالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم ” ( 39 ) ” وقال لهم مثلاً. هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى أليس كلاهما يسقطان في حُفرة ” ( 40 ) ” ليس تلميذ أفضل من مُعلمه ولكن مَن هو كامل يكون مثل معلمه ” ( 41 ) ” ما بالك تنظر القذى الذي في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينك ” ( 42 ) ” وكيف تقدر أن تقول لأخيك يا أخي دعني أخرج القذى من عينك وأنت لا تُبصر الخشبة التي في عينك. يا مرآءي أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذٍ تنظر كيف تخرج القذى من عين أخيك ”

     قال القديس يوحنا الذهبي الفم ان كثيرين اذا رأوا عند الرهبان والمتوحدين ثوبين خاطبوهم بالآية القائلة ” لا تقتنوا ثوبين ” وهم يخطفون ثياب غيرهم ظلماً. كذلك اذا رأوا الراهب يأكل قوته اليومي يلومونه مع انك تراهم يدمنون المسكرات ويستعملون الشراهة في الأكل فانهم يضرون أنفسهم اذ ينظرون النقص الصغير أي القذى في عين غيرهم وهم لا يفطنون للخشبة أي الخطايا الكبرى التي يرتكبونها

     وانتبه هنا الى حسن المجازاة التي يعد بها السيد المسيح والى التشبيه الذي يستخدمه لاظهار ما تكون فان مَن يكيل الحنطة يلبّد بيده الكيل ويزيد عليه بحيث ان الحنطة تفيض من الكيل في حضن المشتري الذي يحمله. فكذا يكون فيض الله في مجازاته مالم ننقص من الكيل ونغشّ فيه لاننا نُعامَل كما نُعامِل غيرنا. ثم ان كنا خطأة فاننا نعجز عن اصلاح الاخرين وان حاولنا اصلاحهم سقطنا معهم في حفرة الشرّ بسبب أفعالنا السيئة وجسارتنا على عمل ما لا نقوى عليه ”

     راجع شرح بشارة متى 7 : 1 – 9

( مثل الشجرتين الجيدة والفاسدة )

     ( 43 ) ” ما من شجرة جيدة تُثمر ثمراً فاسداً ولا شجرة فاسدة تُثمر ثمراً جيداً ”         ( 44 ) ” لأن كل شجرة تُعرف من ثمرها فانه لا يُجتنى من الشوك تين ولا يُقطف من العليق عنب ”

     أي انه لا يمكن ان يصدر من الانسان المصرّ على الشر الّا الأعمال الشريرة لانه اذا كانت شروره صادرة عن غير ارادة منه فلا يُعد شريراً وبالنتيجة لا يستحق العقاب عليها. ويسأل البعض قائلين ألا يقدر الانسان ان يرجع من الشر الى الخير ؟ فنجيب انه ممكن ان يصير الطالح صالحاً والصالح طالحاً اما المقصود من كلام المسيح فذلك الشرير الذي يستمر في شروره فهذا لا يمكنه أن يصير صالحاً

     انظر الشرح في بشارة متى 7 : 16 – 18

     ( 45 ) ” الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح والرجل الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر. لانه من فضلة القلب يتكلم الفم

     قال السيد له المجد ” من فضلة القلب يتكلم الفم ” لأن ما ينطق به اللسان هو نتيجة ما يحويه القلب شراً كان أم خيراً. ان اللسان يتعذر عليه أحياناً لداعي الخوف أو الحياء اظهار ما ينطوي عليه القلب من الشر والرداوة. الا انه لا شيء يمنع القلب من أن يفكر في الشر كل حين كقلوب اليهود التي كانت تضمر الشر للمسيح وتعد له الصلب والتعذيب وفي أفواههم كانوا يتهمونه انهُ ببعل زبوب يخرج الشياطين

( مثل مَن بنى بيته على الصخرة ومَن بناه على التراب )

     ( 46 ) ” لماذا تدعونني يارب يارب ولا تفعلون ما أقوله ” ( 47 ) ” كل من يأتي اليّ ويسمع كلامي ويعمل به أبين لكم مَن يُشبه ” ( 48 ) ” يشبه رجلاً بنى بيتاً وحفر وعمق ووضع الأساس على الصخر فلما جاء السيل اندرأ النهر على ذلك البيت فلم يقوَ على أن يُزعزعه لأنه كان مؤسساً على الصخر ” ( 49 ) ” والذي يسمع ولا يفعل يُشبه رجلاً بنى بيته على التراب بغير أساس واندرأ النهر عليه فسقط للوقت وكان سقوط ذلك البيت عظيماً ”

     انظر شرح بشارة القديس متى 7 : 21 – 27

 

 

( الاصحاح السابع )

( شفاء غلام قائد المئة )

     ( 1 ) ” وبعد ما أتمّ هذا الكلام كله على مسامع الشعب دخل كفرناحوم ” ( 2 ) ” وكان لقائد المئة عبد مريض قد أشرف على الموت وكان عزيزاً عليه ” ( 3 ) ” فلما سمع بيسوع أرسل اليه شيوخ اليهود يسألونه أن يأتي ويشفي عبده ” ( 4 ) ” فلما جآءوا الى يسوع سألوه بالحاح قائلين له انه مستحق أن تصنع له هذا ” ( 5 ) لأنه يحب أمتنا وقد بنى لنا مجمعاً ” ( 6 ) ” فمضى يسوع معهم وفيما هو غير بعيد من البيت أرسل اليه قائد المئة أصدقآء قائلاً له يارب لا تتعب نفسك فاني لا أستحق أن تدخل تحت سقفي ” ( 7 ) ” من أجل ذلك لم أحسب نفسي مستحقاً أن أجيء اليك ولكن قل كلمة فيبرأ فتاي ” ( 8 ) ” فاني أنا رجل مُرتب تحت سلطان ولي جند تحت يدي أقول لهذا اذهب فيذهب وللآخر ائت فيأتي ولعبدي اعمل هذا فيعمل ” ( 9 ) ” فلما سمع يسوع تعجب والتفت الى الجمع الذي تبعه وقال أقول لكم اني لم أجد مثل هذا الايمان ولا في اسرائيل ” ( 10 ) ” ورجع المرسلون الى البيت فوجدوا المريض قد تعافى ”

     قد سبق شرح هذه الأعجوبة في بشارة متى 8 : 5 – 13

( قيامة ابن أرملة نائين )

     ( 11 ) ” وفي اليوم التالي كان مُنطلقاً الى مدينة نائين وكان تلاميذه وجمع كثير مُنطلقين معه ” ( 12 ) ” فلما اقترب من باب المدينة اذا ميت محمول وهو ابن وحيد لأمه وكانت أرملة وكان معها جمع كثير من المدينة ” ( 13 ) ” فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها لا تبكي ” ( 14 ) ” ودنا ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال أيها الشاب لك أقول قم ”  ( 15 ) ” فاستوى الميت وبدأ يتكلم فسلمه الى أمه ” ( 16 ) ” فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين لقد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه ” ( 17 ) ” وذاع عن يسوع هذا الخبر في كل اليهودية وجميع النواحي التي حولها ”

     كان يسوع قد وصل الى باب الاغنام عندما لقي ابن الأرملة الميت وقد تحنن عليه لاستحقاقه وأمه الرحمة اذ كان وحيداً وشاباً وهي كانت أرملة. ومن البين ان السيد قال للمرأة لا تبكين كمن يثبت لها انه سيُبطل بكاءها باقامته ولدها ثم قال للولد الميت قُم. كذي سلطان على الموت والحياة لانه يستخدم الأمر ويعلن انه يقول من ذات نفسه بقوته لا يقوة غيره. ولما قام الشاب سأله الناس كيف نلت الحياة بعد الموت فأجاب. شعرت اني استيقظت من نومي. فحقّ اذن للشعب أن يأخذ الخوف لمعاينته ميتاً يقوم على حين غفلة وان يقول مردداً قد قام ما بيننا نبي. لكنه كان بعيداً عن الاعتقاد كالواجب في السيد المسيح بُعدَ الله عن مخلوق حقير أو نبي صغير لأن المسيح هو اله بالطبع.

( ارسال يوحنا اثنين من تلاميذه الى المسيح )

     ( 18 ) ” وأخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله ” ( 19 ) ” فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسلهما الى يسوع قائلاً أأنت الآتي أم ننتظر آخر ” ( 20 ) ” فأقبل الرجلان اليه وقالا ان يوحنا المعمدان أرسلنا اليك قائلاً أأنت الآتي أم ننتظر آخر ” ( 21 ) ” وفي تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأوجاع وارواح شريرة ووهب البصر لعميان كثيرين ” ( 22 ) ” فأجاب وقال لهما اذهبا وأعلما يوحنا يما سمعتما ورأيتما ان العميان يُبصرون والعرج يمشون والرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُبشرون ” ( 23 ) ” وطوبى لمن لا يشك فيّ ”

     انظر شرح بشارة متى 11 : 2 – 7

( مديح يوحنا )

     ( 24 ) ” فلما انصرف رسولا يوحنا جعل يقول للجموع عن يوحنا ماذا خرجتم الى البرية تنظرون أقصبة تحركها الريح ” ( 25 ) ” أم ماذا خرجتم تنظرون أانساناً لابساً لباساً ناعماً. هوذا الذين في اللباس الفاخر والترف هم في قصور الملوك ” ( 26 ) ” أم ماذا خرجتم تنظرون أنبيا. نعم اقول لكم وأفضل من نبي ” ( 27 ) ” ان هذا هو الذي كتب عنه هآءنذا مرسل ملاكي أمام وجهك يهيي طريقك قدامك ” ( 28 ) ” فاني أقول لكم انه ليس في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه ”              ( 29 ) ” فلما سمع جميع الشعب والعشارون برّروا الله معتمدين بمعمودية يوحنا ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 11 : 8 – 19

( رفض الفريسيين ليوحنا ويسوع )

     ( 30 ) ” وأما الفريسيون ومعلمو الناموس فرفضوا مشيئة الله فيهم اذ لم يعتمدوا منه ” ( 31 ) ” وقال الرب بماذا أشبه رجال هذا الجيل ومن يُشبهون ” ( 32 ) ” يشبهون صبياناً جلوساً في السوق يصيحون بعضهم ببعض قائلين زمرنا لك فلم ترقصوا نحنا لكم فلم تبكوا ” ( 33 ) ” جآء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فقلتم ان به شيطاناً ”            ( 34 ) ” وجاء ابن البشر يأكل ويشرب فقلتم هوذا انسان أكول شريب للخمر محب للعشارين والخطأة ” ( 35 ) ” وتبرأت الحكمة من جميع بنيها ”

     سؤال : لماذا لم يكن يوحنا يأكل ويشرب ؟ أجيب ان يوحنا كان محتاجاً للصوم بعكس السيد المسيح الذي كان القداسة ذاتها وما اقترف خطية وبالتالي كان غير محتاج الى الصوم للتكفير عن الاثم وأيضاً لو امتنع عن الأكل لعَدّ الناس المأكول حراماً ونجساً أو لعدّوه هو انساناً ساذجاً لا يقدر على قمع اهوائه وزجر النفس عن شهوتها الّا باماتة الجسد واتعابه على مثال ما صنع يوحنا

     انظر شرح بشارة متى 11 : 16 – 19

( الخاطئة الباكية عند قدمي يسوع )

     ( 36 ) ” وسأله أحد الفريسيين أن يأكل معه فدخل بيت الفريسي واتكأ ”

     صدرت دعوة هذا الفريسي عن حب المجد الباطل فرغب في مدح الناس لهُ ان أجلس على مائدته مَن كان يحسبه نبياً. وقد رضى المسيح بالدخول الى بيته وقبول دعوته ليعلنه انه ليس انساناً فقط بل الهاً متجسداً وان البشر ملطخون بالذنوب فهو ديانهم وغافر خطاياهم. وقد كان سيدنا يلبي طلب الفريسيين ليشفيهم من أمراضهم الروحية التي قادتهم الى أن يتآمروا على قتله ثم ليُبدي تواضعه ودعته وانه كاره للكبرياء فلا يمتنع حتى عن أرذال الناس ان طلبوه بالتوبة ونية سليمة

     ( 37 ) ” واذ امرأة خاطئة في المدينة لما علمت انه متكىء في بيت الفريسيّ جاءت بقارورة طيب ” ( 38 ) ” ووقفت من ورائه عند رجليه باكيةً وجعلت تبل رجليه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب

     وقع الحادث في مدينة نائين حيث كانت المرأة. وافهم بقارورة الطيب قنينة ملتوية الرأس. وانك تسأل كيف كانت المرأة واقفة وعند قدمي المسيح معاً ؟ فأقول انه لهُ المجد كان متكئاً ورجلاه من وراءه ممدودتان فقامت من ورائه أيضاً لأنها كانت خائفة ان تظهر امامه وهو عارف بآثامها ثم بسبب تعظيمها لجلاله لم تقم أمامه وان كانت قد تجاسرت على الدنو منه فلأنها كانت نادمة وباكية على خطاياها وطالبة المغفرة وقد ألهمتها النعمة العلوية ان طالب الصفح بالتوبة يأذن لهُ الرب بالأتيان اليه. وهي لشدة ايمانها وقوة توبتها اهطلت الدموع الغزيرة حتى بلّت رجلي المخلص ولاعتقادها انه قادر على ان يغفر خطاياها وانه لا يرفض ندامتها الصادقة مسحتهما بشعر رأسها ليتقدس الشعر بهذا المسح وقبّلتهما لتواضعها وحبها. وانتبه الى انها دهنتهما بالطيب كما يُدهن به أوليآء الله وكما يمسح الملوك والكهنة وقد قبل السيد هذه المسحة كما قبل أن يتجسد وكما قبل أبوه رائحة الذبائح والمحرقات. وكانت هذه الخاطئة قد سمعت بان السيد تكلم مع السامرية وغفر لها ذنوبها فلذلك كانت قوية القلب في تقدّمها اليه كالى اله متجسد لا كالى انسان لا غير ودليل ذلك بين من انها التمست غفرا خطاياها ومعلوم عند الجميع ان لا يغفر الخطايا غير الله. اذن يلزم عدّ المسيح الهاً قد تأنس من دون أن يمس التبدّل لاهوته .

     ( 39 ) ” فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك قال وهو يحدث نفسه لو كان هذا نبياً لعلمَ من هذه المرأة التي تلمسه وما حالها اذ هي خاطئة ” ( 40 ) ” فأجاب يسوع وقال له با سمعان عندي شيء أقولهُ لك. فقال قل يا مُعلم ” ( 41 ) ” قال كان لمداين مديونان على أحدهما خمس مئة دينار وعلى الآخر خمسون ” ( 42 ) ” واذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما كليهما فقل لي أيهما يكون أكثر حباً له ” ( 43 ) ” فأجاب سمعان وقال هو فيما أظنّ الذي سامحه بالأكثر. فقال له بالصواب حكمت ”

     لام الفريسي في نفسه سيدنا لان الناموس يرسم عدم اختلاط الطاهر بالنجس وكانت المرأة زانية. فعرف المسيح أفكار مضيفه وأعلن بذلك نفسه الهاً لان الله وحده انما يعرف أفكار القلوب ثم أراد تجريده من ظنّه الرديّ فضرب له المثل الحاضر وقد أعنى بالمديونين خاطئين وبدينهما المعاصي والآثام التي تثقلهما فأولهما كثير الخطايا وثانيهما قليلها كمثل الفريسي المتكبر أو كبارّ من الابرار المفتخرين على غير صواب وهدى بفضلهم وبرّهم مع انهم في حاجة الى نيل الغفران وان كان لهُ المجد قد سأل مضيفه على أي الاثنين أكثر حباً للمداين المسامح لهما الدّين فليس لانه غير عارف بل لاثارة اكبر انتباه في نفس مخاطبه وكان يفتخر بانه دعا المسيح اليه ولا يعتني كثيراً بانالته الراحة والكرامة الواجبتين لجلاله. وفعلاً اعترف سمعان المضيف بالحقيقة صراحةً واقرّ ضمناً ان الخاطئة تحبّ السيد بالغ المحبة شديدتها لانه غفر لها كثيراً

     ( 44 ) ” ثم التفت الى المرأة وقال لسمعان أترى هذه المرأة. أنا دخلت الى بيتك فلم تسكب على رجلي ماء وهذه بلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها ” ( 45 ) ” أنت لم تقبلني وهذه منذ دخلت لم تكف عن تقبيل قدمي ” ( 46 ) أنت لم تدهن رأسي بزيت وهذه دهنت قدمي بالطيب ” ( 47 ) ” لأجل ذلك أقول لك ان خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنها أحبت كثيراً والذي يُغفر له قليل يُحب قليلاً ” ( 48 ) ” ثم قال لها مغفورة لكِ خطاياكِ ”

     شاءَ السيد تبيين انه يعرف مَن المرأة التي تبلّ رجليه بدموعها بسبب ندامتها على معاصيها فقابل عملها وعمل سمعان وافهمه انه لم يسكب الماء على رجليه كما يُفعل مع الغريب المثقّل بالتعب بعكس ما اجرته المرأة الخاطئة التي غسلتهما بالدموع وانه لم يقبّله مبدياً المحبة والوداد وهي لم تكف منذ دخوله البيت عن تقبيل قدميه لشدة محبتها. وانه لم يدهن رأسه بالزيت كما يُصنع عادة مع التعبان من الحرّ فلهذه الاسباب وخاصة لخلوص نيتها في توبتها التي تظهرها غُفرت لها خطاياها. أما مَن يُغفر له قليل فانما يحب قليلاً وقد دلّ بهذه العبارة عن الفريسي المفتخر بدعوته الى بيته والظانّ انه غير محتاج كثيراً الى رحمة الله فان ما يناله من المغفرة قليل لان عمله لا يدل على محبة كبيرة. وانك تعلم أيضاً ان السيد أوضح بخطابه انه عارف حق المعرفة أفكار المرأة ومقصدها من اتيانها اليه وناظر حتى في اعماق قلبها ومطاويه لانه يذكر محبتها وندامتها وطلبها المغفرة بالثناء الوافر

     ( 49 ) ” فجعل المتكئون يقولون في أنفسهم مَن هذا الذي يغفر الخطايا أيضاً ”          ( 50 ) ” فقال للمرأة ان ايمانكِ خلصكِ فاذهبي بسلام ”

     كان اعتقاد الفريسيين ان الله وحده قادر على غفران الذنوب فاثبتهم السيد في هذا الاعتقاد وغفر الخطايا بالفعل فاذن هو الله حقاً ولو انه صار انساناً مثلنا. وان سألتَ الآن مَن هذه التي اعلنها السيد ان ايمانها خلصها وانها نالت الحياة بعد ان كانت ميتة في المعاصي؟ اجبت مع القديس افرام : ان هذه الخاطئة كانت تُدعى مريم .

 

 

( الاصحاح الثامن )

( مثل الزارع )

     ( 1 ) ” وبعد ذلك جال في المدن والقرى يكرز ويُبشر بملكوت الله ومعه الاثناعشر ”     ( 2 ) ” ونسآء كان قد أبرأهنّ من أرواح شريرة وأمراض. وهنّ مريم التي تُدعى المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين ” ( 3 ) ” وحنة امرأة كوزي قهرمان هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات كنّ يبذلن من أموالهنّ في خدمته ”

     قصد السيد بجولانه افادة الناس وتبشيرهم بملكوت الله وبما يلزمهم من تغيير عاداتهم السيئة بسيرة صالحة حتى يصبحوا مالكين الحياة وعدم الفساد وكان رسله معه وأيضاً تبعته بعض النساء اللواتي نلنَ شفاء النفس والجسد فذكر لوقا بعضهن وكنّ يخدمنَ سيدنا ويظهرنَ لهُ محبتهنّ ببذلهنّ المال والمساعدة

     ( 4 ) ” فلما اجتمع جمع كثير وأتوا اليه من جميع المدن قال بمثلٍ ” ( 5 ) ” خرج الزارع ليزرع زرعه وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق فوطىء وأكلته طيور السمآء” ( 6 ) ” والبعض سقط على الصخر فلما نبت يبس لأنه لم تكن له رطوبة ” ( 7 ) ” وبعض سقط بين الشوك فنبت الشوك معه فخنقه ” ( 8 ) ” وبعض سقط في الأرض الصالحة فلما نبت أثمر مئة ضعف. قال هذا ونادى مَن له أذنان سامعتان فليسمع ” ( 9 ) ” فسأله تلاميذه ما هذا المثل ” ( 10 ) ” فقال لهم أنتم قد أعطيتم معرفة أسرار ملكوت الله وأما الباقون فأكلمهم بأمثال لكي ينظروا ولا ينظروا ويسمعوا ولا يفهموا ” ( 11 ) ” وهذا هو المثل . الزرع هو كلمة الله ” ( 12 ) والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي ابليس ويذهب بالكلمة من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا ” ( 13 ) ” والذين على الصخر هم الذين يسمعون الكلمة ويقبلونها بفرح ولكن ليس لهم أصل وانما يؤمنون الى حين وفي وقت التجربة يرتدوا” ( 14 ) ” والذي سقط في الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون بالهموم والغنى وملذات الحياة فلا يأتون بثمر ” ( 15 ) ” وأما الذي سقط في الأرض الجيدة فهم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد وصالح ويُثمرون بالصبر

     قد سبق الكلام على هذا المثل في شرح بشارة متى 13 : 3 – 8 و 18 – 23

( النور على منارة )

     ( 16 ) ” ليس أحد يُوقد سراجاً فيغطيه بانآء أو يضعه تحت سرير بل يضعه على منارة ليرى الداخلون نوره ”

     انظر شرح بشارة متى 5 : 15

     ( 17 ) ” فانه ليس خفي الا سيظهر ولا مكتوم الا سيعلم ويُشهر ” ( 18 ) ” فتبصروا كيف تسمعون لأن من له يُعطى ومَن ليس له فالذي يظنه له يؤخذ منه ”

( مجيء أم يسوع واخوته اليه )

     ( 19 ) ” وأقبلت اليه أمه واخوته فلم يقدروا على الوصول اليه لأجل الجمع ”            ( 20 ) ” فأخبر وقيل له ان أمك واخوتك واقفون خارجاً يريدون ان يروك ”                   ( 21 ) ” فأجاب وقال لهم ان أمي واخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها ” 

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 12 : 46 – 50

( تسكين يسوع العاصفة والبحر )

     ( 22 ) ” وفي أحد الأيام ركب سفينة هو وتلاميذه وقال لهم لنجز الى عبر البحيرة فأقلعوا ” ( 23 ) ” وفيما هم سائرون نام. فنزل على البحيرة عاصفة ريح فامتلأوا من المآء وحصلوا في خطر ” ( 24 ) ” فدنوا اليه وايقظوه قائلين يا معلم يا معلم قد هلكنا. فقام وانتهر الريح وهيجان المآء فسكنا وحدث هدوء ” ( 25 ) ” فقال لهم أين ايمانكم . فخافوا وتعجبوا وقال بعضهم لبعض مَن تُرى هذا فانه يأمر الرياح والبحر فتطيعه ”

     سبق الكلام على هذه الحادثة كلها في شرح بشارة متى 8 : 18 , 23 – 27

( شفاء مجنون في بقعة الجرجسيين )

     ( 26 ) ” ثم أرسلوا عند بقعة الجرجسيين التي تقابل عبر الجليل ” ( 27 ) ” فلما خرج الى البر استقبله رجل من المدينة به شيطان من زمان طويل ولم يكن يلبس ثوباً ولا يأوى الى بيت بل الى القبور ” ( 28 ) ” فلما رأى يسوع صاح وخرّ له وقال بصوت عظيم مالي ولك يا يسوع ابن الله العليّ أسألك ألا تعذبني ” ( 29 ) ” فانه كان يأمر الروح النجس أن يخرج من الرجل لأنه كان قد استحوذ عليه من زمان طويل وكان يُربط بسلاسل ويُحبس بقيود فيقطع الربط ويُساق من الشيطان الى البراري ” ( 30 ) ” فسأله يسوع قائلاً ما اسمك. فقال جوقة لأن شياطين كثيرين كانوا قد دخلوا فيه ” ( 31 ) ” وسألوه أن لا يأمرهم بالذهاب الى الهاوية ” ( 32 ) ” وكان هناك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجبل فسألوه أن يأذن لهم أن يدخلوا فيها فأذِن لهم ” ( 33 ) ” فخرج الشياطين من الرجل ودخلوا في الخنازير فوثب القطيع عن الجرف الى البحيرة فاختنق ” ( 34 ) ” فلما رأى الرعاة ما حدث هربوا وأخبروا مَن في المدينة وفي الحقول ” ( 35 ) ” فخرجوا ليروا ما حدث وأتوا الى يسوع فوجدوا الرجل الذي خرجت منه الشياطين جالساً عند قدمي يسوع لابساً صحيح العقل فخافوا ”        ( 36 ) ” وأخبرهم الناظرون كيف أبرئ المجنون ” ( 37 ) ” فسأله جميع جمهور بقعة الجرجسيين أن ينصرف عنهم لأنه استحوذ عليهم خوف عظيم فركب السفينة ورجعَ ”        ( 38 ) ” فطلب اليه الرجل الذي خرجت منه الشياطين أن يكون معه فصرفه يسوع قائلاً ”   ( 39 ) ” ارجع الى بيتك وحدّث بما صنع الله اليك فذهب وهو ينادي في المدينة كلها بما صنع اليه يسوع ” 

     قد سبق الكلام على هذه المعجزة في شرح بشارة متى 8 : 28 – 34

     واعلم ان الرجل لم يطلب ان يكون مع يسوع الّا لخوفه من أن تعود اليه الشياطين كما من قبل فلم يأذن له السيد باتمام مرغوبه لانه كان من الوثنيين وبالتالي لم يكن لائقاً بان يتولى البشارة الجديدة. ثم رفضه المخلص لئلا يتهمه اليهود بانه مخالف للناموس باستصحابه رجلاً وثنياً بل أرجعه الى ذويه ليخبرهم بما صنع اليه الله وبهذه العبارة سمّى السيد نفسه الهاً .

( اقامة ابنة يائيرس وشفاء نازفة الدم )

     ( 40 ) ” فلما رجع يسوع قبله الجمع لانهم كلهم كانوا ينتظرونه ” ( 41 ) ” واذا برجل اسمه يائيروس وهو رئيس المجمع أتى وخرّ عند قدمي يسوع وسأله أن يدخل الى بيته ”    ( 42 ) ” لأن له ابنة وحيدة لها نحو اثنتي عشرة سنة قد أشرفت على الموت. وبينما هو منطلق كان الجموع يزاحمونه ” ( 43 ) ” وان امرأة بها نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة وكانت قد انفقت معيشتها كلها على الأطبآء ولم يستطع أحد أن يشفيها ” ( 44 ) ” ودنت من خلفه ومست طرف ثوبه وللوقت وقف نزف دمها ” ( 45 ) ” فقال يسوع مَن لمسني . واذ أنكر جميعهم قال له بطرس والذين معه يا مُعلم أيكون الجموع يضايقونك ويزحمونك وتقول مَن لمسني ” ( 46 ) ” فقال يسوع قد لمسني واحد لاني شعرت بأن قوة قد خرجت مني ”   ( 47 ) ” فلما رأت المرأة أنها لم تخفَ جآءت مرتعدة وخرّت له وأخبرت أمام كل الشعب لأية على لمسته وكيف برئت للوقت ” ( 48 ) ” فقال لها يا ابنة ايمانك أبرأكِ فاذهبي بسلام ”    ( 49 ) ” وفيما هو يتكلم جاء واحد من ذوي رئيس المجمع وقال له ان ابنتك قد ماتت فلا تُتعب المعلم ” ( 50 ) ” فلما سمع يسوع هذا الكلام أجابه لا تخف آمن فقط فتبرأ ”           ( 51 ) ” ولما جاء الى البيت لم يدع أحداً يدخل معه الا بطرس ويعقوب ويوحنا وأبا الصبية وأمها ” ( 52 ) ” وكان جميعهم يبكون ويلطمون عليها فقال لهم لا تبكوا انها لم تمت ولكنها نائمة ” ( 53 ) ” فضحكوا منه لعلمهم بأنها قد ماتت ” ( 54 ) ” فأمسك بيدها ونادى قائلاً يا صبية قومي ” ( 55 ) ” فرجعت روحها وقامت في الحال فأمر بأن تُعطى طعاماً ”          ( 56 ) ” فدهش أبواها فأوصاهما بأن لا يقولا لأحدٍ ما جرى ”  

     مرّ تفسير ذلك كله في شرح بشارة القديس متى 9 : 18 – 26

     روى اوسابيوس ان هذه المرأة كانت وثنية من مدينة فنادا بالقرب من قيصرية فيلبّس وبعد نيلها الشفاء أقامت امام بيتها نصباً عليه صورة السيد المسيح من نحاس وامامها صورتها راكعة ويداها على صدرها وقد نبت بجانب النصب شجيرة ذات رائحة طيبة وشكل غير مألوف وبلغ علوها حتى ذيل رداء المسيح فكانت تسكّن الاوجاع وتزيلها وتشفي الامراض على اختلافها. قال اوسابيوس انه رأى الشجيرة والتمثالين اللذين بقيا حتى زمن يوليانوس الجاحد أي مدة ثلثمائة سنة ثم كسرهما اليهود والوثنيون .

 

 

 

( الاصحاح التاسع )

( بعثة الرسل وسلطتهم )

     ( 1 ) ” ودعا الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وعلى شفاء الأمراض ” ( 2 ) ” وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويبرئوا المرضى ” ( 3 ) ” وقال لهم لا تحملوا في الطريق شيئاً لا عصاً ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضة ولا يكن لكم ثوبان ”            ( 4 ) ” وأيّ بيت دخلتموه فهناك امكثوا ومن ثَمّ لا تخرجوا ” ( 5 ) ” ومَن لا يقبلكم فاذا خرجتم من تلك المدينة فانفضوا أيضاً غبار أرجلكم شهادة عليهم ” ( 6 ) فخرجوا وطافوا في القرى يُبشرون ويشفون في كل موضع ”

     راجع شرح بشارة متى 10 : 1 – 14 ومر 6 : 7 – 11

( تحير يسوع عند سماعه بأعمال يسوع )

     ( 7 ) ” وسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان يجري على يديه فتحير لأن بعضاً كانوا يقولون ” ( 8 ) ” ان يوحنا قد قام من الأموات وبعضاً يقولون ان ايليا قد ظهر وآخرين يقولون قد قام نبي من الأولين ” ( 9 ) ” فقال هيرودس ان يوحنا قد قطعت أنا رأسه فمن هذا الذي أسمع عنه أموراً كهذه وكان يطلب أن يراه ”

     انظر شرح بشارة القديس متى 14 : 1 و 2

     ( ذهاب يسوع مع تلاميذه الى البرية واعجوبة تكثير خمس الخبزات والسمكتين )

     ( 10 ) ” ولما رجع الرسل أخبروه بجميع ما صنعوا فأخذهم وانصرف الى موضع قفر على انفراد عند مدينة تُدعى بيت صيدا ” ( 11 ) ” فعلم الجموع بذلك وتبعوه فقبلهم وكلمهم عن ملكوت الله والمحتاجين الى الشفاء أبرأهم ” ( 12 ) ” وأخذ النهار يميل فدنا اليه الاثنا عشر وقالوا له اصرف الجموع ليمضوا الى القرى والحقول التي حولنا فينزلوا ويجدوا قوتاً لأننا ههنا في مكان قفر ” ( 13 ) ” فقال لهم اعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتين الا ان نمضي ونبتاع لهذا الشعب كله طعاماً ” ( 14 ) ” وكانوا نحو خمسة آلاف رجل. فقال لتلاميذه أجلسوهم جماعات خمسين خمسين ” ( 15 ) ” ففعلوا هكذا وأجلسوهم جميعاً ” ( 16 ) ” فأخذ الخمسة الارغفة والسمكتين ونظر الى السماء وباركهما وكسر وأعطى تلاميذه ليقدموا للجميع ” ( 17 ) ” فأكلوا جميعهم وشبعوا ورُفع ما فضل اثنتا عشرة قفة من الكسر ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 14 : 13 – 21

     أمر سيدنا بجمع الكسر لئلا تُعدّ الاعجوبة سحراً ووهماً اما اذا حُفظت الفضلات يوماً أو يومين صدّق الجميع بحقيقة المعجزة الالهية

( اعتراف بطرس بالمسيح )

     ( 18 ) ” وفيما هو يصلي على انفراد كان التلاميذ معه فسألهم قائلاً من نقول الجموع اني هو ” ( 19 ) ” فأجابوا يقولون انك يوحنا المعمدان وآخرون انك ايليا وآخرون ان نبياً من الأولين قد قام ” ( 20 ) ” فقال لهم وأنتم مَن تقولون اني هو . أجاب بطرس قائلاً انك مسيح الله ” ( 21 ) ” فنهاهم منتهراً عن أن يقولوا ذلك لأحد ”

     سبق الشرح على ذلك في بشارة متى 16 : 13 – 20

( انباء يسوع بموته وقيامته ووجوب حمل الصليب )

     ( 22 ) ” قائلاً انه ينبغي لابن البشر أن يتألم كثيراً ويُرذل من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث ” ( 23 ) ” وقال للجميع مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني ” ( 24 ) ” لأن مَن أراد أن يُخلص نفسه يهلكها ومَن أهلك نفسه من أجلي يُخلصها ” ( 25 ) ” فانه ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها ” ( 26 ) ” لأن مَن يستحي بي وبكلامي يستحي به ابن البشر اذا جآء في جلاله وجلال الآب بين الملائكة القديسين ” ( 27 ) ” وبالحق أقول لكم ان قوماً من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتى يَرَوا ملكوت الله ”

     انظر شرح بشارة متى 16 : 21 – 28

( تجلي الرب )

     ( 28 ) ” وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد الى الجبل ليصلي ” ( 29 ) ” وبينما كان يُصلي تغير منظر وجهه وصار لباسه أبيض بارقاً ”           ( 30 ) ” واذا برجلين يُخاطبانه وهما موسى وايليا ” ( 31 ) ” ترآءيا في مجدٍ وكانا يتكلمان عن خروجه الذي كان مزمعاً أن يتممه في أورشليم ” ( 32 ) ” وكان بطرس واللذان معه قد أخذهم ثقل النوم فلما أفاقوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه ” ( 33 ) ” وفيما هما منصرفان عنه قال بطرس ليسوع يا مُعلم حسن لنا أن نكون ههنا فلنصنع ثلاث مظال واحدة لك وواحدة لموسى وواحدة لايليا. ولم يكن يدري ما يقول ” ( 34 ) ” وفيما هو يقول ذلك جآءت سحابة فظللتهم فخافوا عند دخولهم في السحابة ” ( 35 ) ” وكان صوت من السحابة يقول هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا ” ( 36 ) ” وعندما كان الصوت وُجد يسوع وحده فصمتوا ولم يُخبروا أحداً في تلك الأيام بشيء مما رأوه ”

     قد مرّ الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 17 : 1 – 8

     لم يطلب بطرس ثلاثة بيوت بل ثلاث مظالّ لان السيد كان قد أوصى رسله ألّا يقتنوا ذهباً ولا بيوتاً ولأن المظالّ تبقى يسيراً ثم تزول . واما طلبه هذا فنشأ عن جهله ان المسيح سيتألم ويُصلب أو ان المظالّ ليست من هذا العالم بل تُنصب للابرار في عالم النور. وقد دعاها الكتاب المظالّ الابدية لثبوتها ما دام الله رباً. وانتبه الى ان السحابة التي ظلّلت الرسل الثلاثة قد دخل فيها موسى وايليا. وفيما يختص بموسى قال المفسرون انه لم يكن من اللائق ان يُبعث ثم يموت واننا نقول أيضاً ان كثيراً من الموتى قاموا من القبور في العهد القديم والجديد فاذن لم يكن بلائق ان يموتوا. وسائلٍ ما سبب التجلي؟ فالجواب انه قُصد به المخاطبة في القيامة والملكوت ولهذا السبب بُعث موسى من القبر وترآءى ايليا

( شفاء سقيم يقع في رؤوس الأهلة )

     ( 37 ) ” وفي اليوم التالي فيما هم نازلون من الجبل استقبله جمع كثير ” ( 38 ) ” واذا برجل من الجمع صاح قائلاً يا مُعلم أتوسل اليك أن تنظر الى ابني فانه وحيد لي ”        ( 39 ) ” وان روحاً يأخذه فيصرخ بغتةً فيخطبه فيزبد زلا يكاد يفارقه وهو يرضضه ”       ( 40 ) ” وقد سألت تلاميذك أن يخرجوه فلم يستطيعوا ” ( 41 ) ” فأجاب يسوع وقال أيها الجيل الغير المؤمن الأعوج الى متى أكون معكم وأحتملكم . عليّ بابنك الى ههنا ”             ( 42 ) ” وفيما هو يدنو صرعه الشيطان وخبطه ” ( 43 ) ” فانتهر يسوع الروح النجس وأبرأ الصبي وسلمه الى أبيه ”

     ان عجز التلاميذ عن اخراج الروح متأتٍ عن انهم مع السيد المسيح وقد كانت الهبة ممنوعة عنهم اذ ذاك ولم يكن جائراً لهم اجتراح الآيات بحضوره لكن بعد ان أرسلهم اثنين اثنين أخذوا يأتون بالمعجزات والعجائب الكثيرة

     انظر شرح بشارة متى 17 : 14 – 21

( انباء يسوع بموته ثانية )

     ( 44 ) ” فبهت الجميع من عظمة الله . واذ كانوا متعجبين جميعاً من كل ما فعل قال لتلاميذه أودعوا أنتم هذه الكلمات في آذانكم ان ابن البشر مزمع أن يُسلم الى أيدي الناس ”   ( 45 ) ” وأما هم فلم يفهموا هذا الكلام ”

     سبق الكلام على هذا في شرح بشارة متى 17 : 22 و 23

( مجادلة الرسل على التقدم . وضرورة التواضع )

     ( 46 ) ” وداخلهم فكر في مَن هو الأعظم فيهم ” ( 47 ) ” فعلم يسوع أفكار قلوبهم فأخذ صبياً وأقامه بين يديه ” ( 48 ) ” وقال لهم من قبل هذا الصبي باسمي فاياي يقبل ومَن قبلني فقد قبل الذي أرسلني لأن الأصغر بينكم جميعاً هو يكون الأعظم ”

     راجع شرح بشارة متى 18 : 1 – 5

( مَن ليس عليكم فهو معكم )

     ( 49 ) ” أجاب يوحنا قائلاً يا مُعلم رأينا واحداً يُخرج الشياطين باسمك فمنعناه لأنه لا يتبعنا ” ( 50 ) ” فقال لهم يسوع لا تمنعوه لأنه مَن ليس عليكم فهو معكم ”

     انظر شرح بشارة متى 12 : 30 ومر 9 : 38

     ان الرسل اذ رأوا الرجل قالوا لهُ : ان كنت تريد اجتراح المعجزات وعمل القوات باسم المسيح لزمك اتباعه والتتلمذ لهُ والّا فامتنع عن عملها باسمه. وما استخدموا لمنعه هذه الحجة الّا لاعتقادهم انه لا يؤذن لغيرهم اخراج الشياطين بعد ان سلّمهم السيد سلطان اخراجهم . ولما استفتوا المسيح في الأمر قال لهم لا تمعنوه لأنه لا يقدر على أن يعمل القوات باسمي ثم يرجع فيشتمني مثلما يصنع معي اليهود وهو ليس ضداً لكم ان أخرج الشياطين باسمي بل يعمل ما تعملونه ويثبّت كرازتكم. ومما يقضي بالعجب هو ان ذاك الرجل طاع الرسل وكفّ عن العمل وارتأى فريق انه كان من الذين تتلمذوا للبشارة وقال آخرون انه كان من المرضى الذين شفاهم المسيح

( ذهاب المسيح الأخير من الجليل )

     ( 51 ) ” وعندما تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق الى أورشليم ”                  ( 52 ) ” فأرسل امام وجهه رُسلاً فمضوا ودخلوا قرية السامريين لكي يُعدوا له ”            ( 53 ) ” فلم يقبلوه لان وجهه كان متجهاً الى أورشليم ” ( 54 ) ” فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا له يارب أتريد أن نطلب أن تنزل نار من السماء وتأكلهم ”                  ( 55 ) ” فالتفت وزجرهما قائلاً لستما تعلمان من أيّ روح أنتما ” ( 56 ) ” فان ابن البشر لم يأتِ ليهلك نفوس الناس بل ليخلّصها ومضوا الى قرية أخرى ”

     أيام الارتفاع هي آلامه وموته وصعوده وقد أرسل من رسله يوحنا ويعقوب امام وجهه كمخبرين عن قدومه ليفيدا الناس انه آتٍ اليهم وكان عارفاً وهو الله انهم لا يقبلونهما ومع ذلك أرسلهما ليعلمهما الصبر على المكروه ويعدّهما الى الثبات وقت آلامه بعيدين عن الارتياب فيه. اما السامريون فلم يقبلوهما لانهم عرفوا انهما ومعلمهما ومَن معه سيذهبون الى أورشليم لعبادة الله والاحتفال بالعيد. ومن الاكيد ان عدم قبول المسيح أو قبوله كانا متعلقين باختيارهم ولو ان السيد قادر على جعلهم يقبلونه معما نواه من الذهاب الى أورشليم. وقد طلب التلميذان اللذان قد ارسلهما ان تنزل نار من السماء وتأكل أهل المدينة عقاباً على عملهم كما فعل ايليا عندما أنزل النار على الانبياء الكذبة فزجرهما المخلص وعلّمهما ألّا يلتهبا غضباً على المذنبين الخطأة وأفهمهما انهما ليسا من روح الناموس الذي انما ينتقم بحسب العدالة ولا من روح الانجيل الذي انما يريد الصبر على الخطأة وانتظارهم ريثما يتوبون لان ابن البشر يريد خلاص النفوس وعلى تلاميذه ان يريدوه مثله. ثم مضى السيد الى قرية أخرى دعاه اليها أهلها الاخيار وقبلوه فيها مع تلاميذه بمسرة ورضى

( ما قاله السيد لمن طلبوا أن يتبعوه )

     ( 57 ) ” وفيما هم سائرون في الطريق قال له واحد أتبعك الى حيث تمضي يارب ”     ( 58 ) ” فقال له يسوع ان للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكاراً وأما ابن البشر فليس له موضع يُسند اليه رأسه ” ( 59 ) ” وقال لآخر اتبعني . فقال يارب ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي ” ( 60 ) ” فقال له يسوع دع الموتى يدفنون موتاهم وأنت فامضِ وبشر بملكوت الله ” ( 61 ) ” وقال له آخر أتبعك يارب لكن ائذن لي أولاً أن أودع أهل بيتي ”               ( 62 ) ” فقال له يسوع ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر الى الورآء يكون أهلاً لملكوت الله ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 8 : 19 – 22

     واعلم ان الطالب الثالث كان مقيداً أيضاً بحب العالم وقد رآء السيد غير ممكّن في الفضيلة فمنعه عن اتباعه واثبت لهُ منعه ببرهان وتشبيه لان مَن هو قابض بيده على آلة الفلاحة ويفلح الارض ان نظر الى ورائه ففلاحته تكون غير معتدلة الخطوط يلزمه الّا يلتفت الى الأرضيات

 

 

 

( الاصحاح العاشر )

( انتخاب التلاميذ الاثنين والسبعين )

     ( 1 ) ” وبعد ذلك عين الرب اثنين وسبعين آخرين وأرسلهم اثنين اثنين امام وجهه الى كل مدينة وموضع أزمع أن يأتي اليه ” ( 2 ) ” وقال لهم ان الحصاد كثير وأما العملة فقليلون فاسألوا رب الحصاد ان يُرسل عملة الى حصاده ” ( 3 ) ” اذهبوا ها أنا مُرسلكم مثل خراف بين ذئاب “

     كان هؤلاء من ارباب الايمان النشيط فضمّهم لهُ المجد الى الرسل لينشروا معهم البشارة الجديدة ويكرزوا بالتوبة واعداد طريق الرب. وقد بعثهم اثنين اثنين ليكون للواحد سلوان بالاخر ولانه لهُ المجد مركّب من اثنين اللاهوت والناسوت

     انظر أيضاً شرح بشارة متى 9 : 37 , 38

     ( 4 ) ” لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا حذآء ولا تسلموا في الطريق على أحد ”           ( 5 ) ” وأيّ بيت دخلتموه فقولوا أولاً السلام لهذا البيت ” ( 6 ) ” فان كان هناك ابن سلام يستقر سلامكم عليه والّا يرتد اليكم ” ( 7 ) ” وامكثوا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مما عندهم لأن العامل مستحق اجرته. لا تنتقلوا من بيت الى بيت ” ( 8 ) ” وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يُقدم لكم ” ( 9 ) ” واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله ” ( 10 ) ” وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا الى شوارعها وقولوا ”   ( 11 ) ” اننا ننفض عليكم حتى الغبار الملتصق بنا من مدينتكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب ملكوت الله ” ( 12 ) ” اقول لكم ان سدوم في ذلك اليوم تكون أخف حالة من تلك المدينة ”

      مر الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 10 : 9 – 15

     المسيح رب السلام فلم يرد منع تلاميذه عن السلام بل انما قصد أن يكونوا يقظين في الكرازة على شبه ما قصد اليشع في قوله لتلميذه جحزي : اذا وجدت رجلاً فلا تباركه. أي لا تتلّهَ في الطريق وتقصّ الحكايات وما هو خبرك. كذا شاءَ السيد أن يتمسكوا بالاجتهاد في الخدمة وأن يكمّلوا بالنشاط ما أرسلوا لأجله ثم أعلنهم أن يقولوا السلام لكل بيت يدخلونه وان البيت ان كان غير مستحق للسلام فسلامهم يرجع اليهم ولو انهم سلّموا على أهله وقبلوهم أهله بلطف وفرح. وقد أعنى لهُ المجد أولئك الذين يرغبون في ضيافة الغير طلباً للشهرة والمجد لا محبةً لله تعالى. ومن نصائح السيد أيضاً أن لا ينتقل مرسلوه من بيت الى آخر لئلا تحملهم الشراهة وحبّ الراحة المادية على هجر منزل لآخر ولئلا يتهمهم الناس بخفة العقل وبُعد الثبات على الصخرة أي الفضيلة الثابتة

( تقريع مدن خاطئة )

     ( 13 ) ” الويل لكِ يا كورزين الويل لكِ يا بيت صيدا لأنه لو صُنع في صور وصيدا ما صُنع في صور وصيدا ما صُنع فيكما من القوات لتابتا من قديم جالستين في المسوح والرماد” ( 14 ) ” لكن صور وصيدا ستكونان أخف حالة منكما في الدين ” ( 15 ) ” وأنتِ يا كفرناحوم ولو ارتفعت الى السمآء فانه سيهبط بك الى الجحيم ” ( 16 ) ” مَن سمع منكم فقد سمع مني ومَن احتقركم فقد احتقرني ومَن احتقرني فقد احتقر الذي أرسلني ”

     راجع شرح بشارة متى 11 : 21 – 23 و 10 : 40

( رجوع التلاميذ وسعادتهم )

     ( 17 ) ” ورجع الاثنان والسبعون بفرح قائلين يارب ان الشياطين أيضاً تخضع لنا باسمك ”

     بعد ان عمل التلاميذ الايات والعجائب عادوا الى يسوع وقالوا لهُ. ما عدا العجائب التي أتيناها باسمك كشفاء الأمراض وما أشبه ان الأبالسة خضعوا لنا فطردناهم من أجسام بني الانسان وكان ذلك باسمك. واعلم ان كلمة أيضاً تدل على ان الجملة التي تحويها مرتبطة بما قبلها كما هو المعنى الجاري في الاستعمال الذي لم يبتعد عنه الكتاب

     ( 18 ) ” فقال لهم اني رأيت الشيطان ساقطاً من السماء كالبرق ”

     انتبه الى التشبيه البديع وهو تشبيه سقوط الشيطان بسقوط البرق . فان البرق يضيء اضاءة كبرى ولا يبطيّ حتى يزول ويتلاشى ضياؤه وهكذا خُلق الشيطان ذا نور وضياء ساطع ثم اضمحل ضياؤه بمعصيته فكان سقوطه تاماً كالبرق. فأراد السيد أن يعلمهم سبب خضوع الشيطان لهم ومعنى كلامه : انا عالم بان الابالسة تخضع لكم ولكن لاحظوا انكم قبلتم مني سلطة اخضاعه كما ان البرق يخيف الناظرين عند ظهوره وبزواله يزول خوفهم هكذا لما خُلق الشيطان كان مخيفاً وبعد سقوطه صار يخاف من الناس الفضلاء. وكما ان البرق يظهر ويجوز بغتةً كذلك الشيطان خُلِق وفَقَدَ ضياءه بغتة أي تبدّل عاجلاً سريعاً. وكما ان البرق يظهر فوق السماء وينطفيء في هبوطه الى الأرض هكذا الشيطان خُلق في السماء ثم هبط باثمه الى أسفل. قال القديس افرام. ان الشيطان لم يسقط من السماء. ولا البرق من السماء يسقط . لكنه كالغمامة يبدو في الأعالي وكالبرق أي في لحظة سقط الشيطان تحت الصليب . ثم كما ان البرق يسقط ولا يرجع الى مكانه كذلك الشيطان قد سقط سقوطاً ولن يعود الى مقامه .

     ( 19 ) ” وها أنا قد أعطيتكم سلطاناً أن تدوسوا الحيات والعقارب وقوة العدوّ كلها وليس شيء يضركم ” ( 20 ) ” ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السموات ” ( 21 ) وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال اعترف لك يا أبتِ رب السماوات والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والعقلاء وكَشفتها للأطفال. نعم يا أبتِ لأنه هكذا حسن لديك ” ( 22 ) ” كل شيء قد دُفع اليّ من أبي وليس أحد يعلم مَن الابن الا الآب ولا مَن الآب الا الابن ومَن يريد الابن أن يكشف له ” ( 23 ) ” ثم التفت الى التلاميذ وقال طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنظرون ” ( 24 ) ” فاني اقول لكم ان كثيرين من الانبياء والملوك ودّوا أن يروا ما أنتم رآءون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا ”

     راجع شرح بشارة متى 11 : 25 – 27 و 13 : 16 و 17

     انظر كيف عبر السيد عن سلطان تلاميذه على قهر الشيطان . فكأنه قال : كما ان الحيّات والعقارب تضرّ الناس . كذلك الشيطان وقواته يضرّون النفس والجسد . اما أنتم فلا شيء يؤذيكم ولا تقوى عليكم قوات اللعين الّا انه ينبغي ألّا ينالكم الافتخار بخضوع الروح لكم لئلا يقع لكم ما وقع للشيطان الذي طُرد من السماء بسبب كبريائه. فطبيعتكم ضعيفة اما قدرتي فهي تشدّدكم على جميع مَن يستطيعون الاضرار بكم سواء كانوا من الأرواح غير المنظورة ومن القوات المحسوسة . وافرحوا بان اتعابكم ومزاولتكم الفضيلة تجعلكم مستحقين السعادة الخالدة . واعلم ان في السماء لا قرطاس ولا محبرة ولا كتّاب يكتبون مثلنا وما أعنى السيد بالكتابة يراد به ان الله يذكر الرسل ولا يغيب اسمهم عن علمه ويجعلهم وارثين الملكوت وقال قوم : العجب كل العجب ان السيد يمنعهم عن ان يفرحوا بموهبة المعجزات التي منحها اياهم. فالجواب انه لم يصدّهم عن الاغتباط بها بل عن الافتخار الكاذب بها وعن المجد الباطل

( وجوب محبة الله والقريب وقصة السامري )

     ( 25 ) ” واذا واحد من علمآء الناموس قام وقال مجرباً له يا مُعلم ماذا أعمل لأرث الحياة الابدية ”

     افهم بالكاتب هنا معلّم الكتاب أو الناموس لا مَن يخطّه. وهل هو عينه الذي يذكره متى   ( فصل 23 ) قال فريق بالانكار ودليلهم ان هذا تقدّم مجرباً السيد وليس ذاك بمجرب. ثم ان لوقا يكتب عن كاتب آخر بعد الخبر الحاضر فلو كان الكاتبان واحداً لما ذكره مرتين . وخالف آخرون فادّعوا انهما واحد بعينه . وسبب تجربة هذا الكاتب ان جال اذ ذاك قوم في البلد يلومون المسيح على انه يقول بعدم نفع الناموس وبتعاليم جديدة مفادها ان مَن يؤمن به يرث الحياة الابدية وكان الرجل من صفّهم يطلب المجد ويتصنّع في القول فاستعلم عما يجب فعله . ونيّته أن يتهم السيد بمحبة البُطل ان كان جوابه : اعمل ما اعلّمه لترث الحياة. وأن يتهمه بمخالفة الناموس ان قال لهُ : الناموس لا يفيدك شيئاً . وقد بدأ بتسميته معلماً لينفخ فيه روح الكبرياء بكلام التملّق والثناء

     ( 26 ) ” فقال له ماذا كتب في الناموس كيف تقرأ ” ( 27 ) ” فأجاب وقال أحبب الرب الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك وكل ذهنك وقريبك كنفسك ” ( 28 ) ” فقال له بالصواب أجبت اعمل ذلك فتحيا ” ( 29 ) ” فأراد أن بُزكي نفسه فقال ليسوع ومَن قريبي ”

     جاوبه يسوع بخلاف مرغوبه لانه كان يريد سماع مثل هذه العبارة : اترك الناموس واتبع تعليمي . لكن السيد قال لهُ . اعمل تبعاً للمكتوب في الناموس فتحيا حياة الابد وظن الكاتب انه لا مثيل لهُ وانه أفضل الناس أجمعين فسأل : مَن قريبه وما كان سؤاله الا صادراً عن الشغف بالافتخار الكاذب لان مذهبه في الفضيلة ان الانسان انما يحبّ من يحبّه وحسب ان السيد سيحمله على المذهب عينه فيجيب : أحبب محبك فيقول لهُ : وهذه سنّتي أيضاً حتى يقدّم لمخاطبه فرصة يمدحه فيها على صيانته الناموس ومرسوماته . اما السيد لهُ المجد فقرأ فكره في مطاوي نفسه ومثّل بما يدلّ على ان كمال الناموس لا ان يحب المرء أقاربه ومحبيه بل مَن يبغضونه أيضاً ومَن ليسوا من اقاربه . واعلم ان الابن صار قريباً للانسان بأخذه الجسد وقد قال للكاتب : احبب الرب الهك أي الآب ثم عقّب بقوله : احبب قريبك أي الابن وما أحلى محبتهما وما اردّها علينا فان اباءنا الجسديين واخوتنا من نوعنا يظلموننا زمن ميلادنا وزمن موتنا . اما الله القريب منا أكثر من غيره فانه يصوّرنا ويخلق لنا النفس وسضعها فينا حتى نصير بشراً . وأيضاً هو قريب منا اكثر من كل عضو فينا لان بين عضو وآخر يوجد مكان اما الله فموجود مع نفسنا وجسدنا ورأسنا وقلبنا ولا مكان بينه وبين هذه كلها

     ( 30 ) ” فعاد يسوع وقال كان رجل منحدراً من أورشليم الى أريحا فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ثم مضوا وقد تركوه بين حي وميت ”

     مقصدُ السيد من مَثله تعليم الكاتب ان بدون محبة القريب لا تنفع معرفة الناموس ولا ظنّ المرء بذاته ان لا مثيل لهُ ولا الكهنوت ولا مقام اللاوي أيضاً . والكاهن واللاوي ما رؤُفا بالذي ضربه اللصوص . وكان الكاتب أيضاً يعتقد ان لا قريب له غير بني ملته أو مَن تجمعهم به وشائج القرابة فأثبت لهُ يسوع ان القريب يتناول التفقّه والتعلم يبحث ويسأل كثيراً فافهمه المسيح أن يخفّف شيئاً من روح تفتيشه وان يتعلم منه لهُ المجد مَن المحتاج الى اعانة المحبة في هذا العالم

     ( 31 ) ” فاتفق أن كاهناً كان منحدراً في ذلك الطريق فأبصره وجاز ” ( 32 ) ” وكذلك لاوي وافى المكان فأبصره وجاز ” ( 33 ) ” ثم ان سامرياً مسافراً مرّ به فلما رآه تحنن ”   ( 34 ) ” فدنا اليه وضمد جراحاته وصبّ عليها زيتاً وخمراً وحمله على دابته وأتى به الى فندق واعتنى بأمره ” ( 35 ) ” وفي الغد أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال اعتنِ بأمره ومهما تُنفق فوق هذا فانا أدفعه لك عند عودتي ” ( 36 ) ” فأيّ هؤلاء الثلاثة تحسبه صار قريباً للذي وقع بين اللصوص ” ( 37 ) ” قال الذي صنع اليه الرحمة . فقال له يسوع امضِ فاصنع أنت كذلك ”

     وقعَ المثل حقاً في زمن هوشع عندما أتى شلمناصر الى السامرة وسبى بني اسرائيل وأرسلهم الى أشور ثم جاء مَن بحمات وسفرديم وأسكنهم قرى السامرة فتسلطت عليهم السباع وكادت تفنيهم لولا ان شلمناصر عينه أمر بأن يصعد اليهم كاهن من اسرائيل ليعلمهم الناموس فيرجعوا عن معاصيهم وهكذا صار اذ صعد اليهم كاهن ولاوي فعلماهم مراسيم الله فانقطعت الحيوانات لكنهم ما عتّموا ان عادوا الى ضلالتهم وعادت اليهم السباع فهرب الكاهن واللاوي . وفي ذاك الزمن كان يهودي يفلح كرماً فقبض اجرته ونزل من أورشليم الى اريحا فلقيه بعض الوثنيين وكان لهم ثأر على اليهود فضربوه وجرّدوه من ثيابه وتركوه بين حيّ وميت وفي الساعة عينها جاز الكاهن الهارب المشار اليه في تلك الطريق فرآه فخاف ان يمسكه اللصوص وأسرع في سيره وكذا اللاوي الذي تبعه رأى المجروح فتركه . وفي اليوم عينه نزل أحد البابليين الذين يحرسون أورشليم وكان قاصداً اريحا لزيارة أهله فوقعت عينه على الرجل المطروح فرثى لسوء حالته وأخذته به الشفقة فدنا اليه وضمد جراحاته وصبّ عليها زيتاً وخمراً وحمله على دابته . وأتى به الى الفندق في اريحا . واعتنى بأمرهِ . وفي الغد أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق . وقال اعتن بأمره ومهما تنفق فوق هذا ادفعه لك عند عودتي . فعدّ الامر في نظر الناس عاراً على بني اسرائيل . واعلم ان كلمة سامري تعني حارساً ثم دُعي به مَن سكن السامرة التي اشتراها عمري بوزنتين فضّة . ويلزمنا الآن الدلالة على المعنى الروحي في المثل فان الانسان يمثل الجنس البشري : وأورشليم هي الفردوس والحياة الصالحة بتقوى الله . واريحا بعكسها أي أرض اللعنة . واللصوص هم الذين عرّوا الانسان أي سلبوه نعمة عدم الموت والقداسة والعفة وضربوه أي قادوه الى السجود للاصنام والى فساد الزناء والشهوات على اختلافها . اما الكاهن فهو ملكيصادق وناموس موسى . واللاوي رمز للانبياء الذين أتوا بعد الناموس وبذلك استبان ان الناموس الطبيعي وكتاب موسى لم يقويا على شفاء الطبيعة الآدمية من ادناس المعصية وضارّ مفاعيلها . فأتى حينئذٍ السامري أي المسيح الذي سمّوه سامرياً وتقدّم نحو جنسنا فصبّ عليه خمر دمه المقدس وزيت الميرون المطيّب أو خمر محبته وزيت رحمته وحمله على دابته أي حمل الجسد الذي أخذه من طبيعتنا او الصليب الذي أركبه على عاتقه وأتى به الى الفندق وهو المحل الذي يبيت به الناس ويتناولون فيه الراحة ومعناه قابل الكل. واعنى بالغد بشارة الانجيل التي هي كيوم جديد يأتينا بصباح بهج وشمس منعشة . وبالدينارين الشريعتين القديمة والجديدة أو جسد السيد ودمه الطاهرين , وبصاحب الفندق رؤساء الكهنة ومدبري الكنيسة . وبالانفاق بالزيادة تعليم العهدين . وبعودته مجيئه الثاني للدينونة العمومية . وبعد ان أكمل السيد رواية مثله استنتج مقصده وأعلن الكاتب ان قريب الانسان ليس ابن جنسه أو وطنه فقط ثم قال لهُ : امضِ فاصنع انت كهذه الرحمة

( يسوع في بيت مرتا ومريم )

     ( 38 ) ” وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امرأة اسمها مرتا في بيتها ”               ( 39 ) ” وكانت لهذه أخت تُسمى مريم وكانت جالسة عند قدمي يسوع تسمع كلامه ”        ( 40 ) ” وكانت مرتا مرتبكة في خدمة كثيرة فوقفت وقالت يارب أما يعنيك أن أختي قد تركتني أخدم وحدي فقل لها تساعدني ”

     كانت هاتان المرأتان من فضليات النساء وكانت مرتا الكبرى وهي التي ارتبكت باحضار الطعام للسيد وتلاميذه ثم تشكّت لهُ من ان أختها مريم لا تساعدها . وسائلٍ لأي الاسباب لم تقل رأساً لاختها أن تقوم باعانتها؟ الجواب انه يحتمل انها أومأت اليها أولاً ورفضت طلبها أو انها رأتها جالسة عند قدمي يسوع تسمع كلامه فلم تَرَ من اللياقة أن تستدعيها لئلا يظن بها انها تحتقر تعليم ربنا . ولنقتدِ نحن بعمل مرتا فلا نقاطع أحداً في كلامه ولا نمنعه عن مواصلته لئلا يُفكر الغير اننا نبغضه

     ( 41 ) ” فأجاب الرب وقال لها مرتا مرتا انك مهتمة ومضطربة في أمور كثيرة ”       ( 42 ) ” وانما الحاجة الى واحد فاختارت مريم النصيب الأصلح الذي لا يُنزع منها ”

     دأب الكتاب تكرير الكلام لغرضين الأول لاثبات القول كما اذا روجع الحق الحق فان كان السامعون مؤمنين غير مرتابين أكتفي بالقول مرة واحدة : الحق . ومثل ذلك القول : باطل في باطل . وباطلة الأباطيل . أو أدباً أدّبني الرب . الثاني للتحذير من عمل لا يفيد أو ضار كما في الآية الحاضرة : أي انكِ يا مرتا مضطربة بسبب أعداد مآكل غير لازمة والمطلوب قبل كل شيء ان يخاف الانسان الله عز وجلّ وها مريم اهتمت بان تتعلم مخافة الله التي تقودها الى الملكوت . وهذه المخافة لا يقوى أحد على أن ينزعها منها . وانتبه الى ان السيد كان يقبل دعوة داعيه لقصد ان يعلمهم خوفه تعالى وان قلتَ : لِمَ لام مرتا وهي تخدمه باجتهاد وفضلاً عن ان محبة الغرباء من الفضائل الممدوحة؟ قلت انما لامها لكثرة ارتباكها بالامور الزمنية غير مقتدية باختها مريم المجتهدة في كسب الروحيات . لكنه لهُ المجد لم يرذل محبة المساكين ولا ضيافة الغرباء بل انما غايته ان نترك الاهتمام بالجسدي وقت اقتباسنا الروحي

 

 

 

 

( الاصحاح الحادي عشر )

( الصلاة ووجوب المثابرة عليها )

     ( 1 ) ” وكان يصلي في بعض المواضع فلما فرغ قال له واحد من تلاميذه يارب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه ” ( 2 ) ” فقال لهم اذا صليتم فقولوا أيها الآب ليتقدس اسمك ليأتِ ملكوتك ” ( 3 ) خبزنا كفافنا اعطنا كل يوم ” ( 4 ) ” واغفر لنا خطايانا فانا نغفر لكل مَن أساء الينا ولا تُدخلنا في تجربة ”

     ما الصلاة التي علمها يوحنا تلاميذه؟ قال قوم انها هذه : اللهم أهلنا الى ملكوتك والتمتع فيه بالسعادة مع ابنك . وروى آخرون غيرها فقالوا هي هذه : أيها الآب : أرِني يوم ميلاد ابنك . واننا لا نقبل هذه الرواية لأن يوحنا عمد الابن ورأى الروح وسمع صوت الآب فما حاجته الى مثل هذه الصلاة . وقال فريق ثالث ان يوحنا كان يصلّي قائلاً : توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات . وقال فريق رابع ان صلاته : أيها الآب اسمعني صوتك . أيها الابن أرِني وجهك . أيها الروح أرِني نزولك واعلن قوتك . وانما نعدّ صحيحاً رأي من رووا الصلاة الاولى

     راجع تفسير الصلاة الربانية في شرح بشارة متى 6 : 9 – 13

     ( 5 ) ” ثم قال لهم مَن منكم يكون له صديق فيمضي اليه نصف الليل ويقول له يا صديق أقرضني ثلاثة أرغفة ” ( 6 ) ” لأن صديقاً لي قدم عليّ من سفرٍ وليس عندي ما أقدم له ”  ( 7 ) ” فيجيب ذلك من داخل قائلاً لا تعنني فان الباب قد أغلق وأولادي معي في الفراش فلا أستطيع أن أقوم وأعطيك ” ( 8 ) ” أقول لكم انه ان لم يقم ويُعطِه لكونه صديقه فانه يقوم للجاجته ويعطيه كل ما يحتاج اليه

     أفادنا السيد بمثل الصديق امرين الأول ألّا نملّ في الصلاة وان نجتهد في سبيلها كل الاجتهاد . الثاني ألّا نقطع رجاءنا من اجابة مطلوبنا ولو صلينا كثيراً وما استُجيب لنا . وافهم بالصديق السيد المسيح الذي يحبّ الناس أجمعين ويرغب كل الرغبة في خلاصهم ولو ابطأوا في المجي اليه حتى الى نصف الليل أي لم يؤمنوا به الّا بعد زمن طويل . وافهم بالثلاثة أرغفة الاقانيم الثلاثة المقدسة وبالصديق القادم من سفر الملاك الذي يأتي الينا في آخر حياتنا. وبالاولاد في الفراش من لم يؤمنوا لا عن خبث وشرّ بل عن نية سليمة وهم كالاطفال في بعدهم عن الأعمال الشريرة المتعمدة. وبالسرير أو الفراش الراحة. ولاحظ ما يمكن استنتاجه هنا من المعاني أولاً ان الذين يؤمنون في نصف الليل أي في آخر حياتهم ان أتوا وقرعوا باب الله ورحمته فانه تعالى يفتح لهم لاجل لجاجتهم ويستجيب طلباتهم ويعطيهم الخبز أي الايمان بالثالوث الاقدس. ثم ان الملائكة الذين يأتون اليهم لأخذ نفوسهم يفرحون بهم شديد الفرح ثانياً ان الذي لا يملّ أن يصلّي ينال مرغوبه ولو كان صعباً ويقع لهُ ما يقع لرجلٍ يذهب الى صديق لهُ في منتصف الليل وهو الوقت الذي يصعب فيه كل الصعوبة ان يلبي الناس طلب بعضهم . فطلب منه ان يقرضه ثلاثة أرغفة فيؤخر الصديق تلبية الطلب محتجاً ان الاولاد معه في السرير ويخاف أن يوقظهم اذا قام . الّا انه يعطيه مطلوبه في آخر الأمر ان لم يكن بسبب الصداقة فبسبب اللجاجة فكأن السيد أراد ان يقول : انتم لجّوا في الصلاة واحتملوا بصبر وطول روح تأخير الله عنكم لانكم تفوزون في الآخر بالمطلوب – ثالثاً أي كاهن أخذ الله حبيباً صديقاً يمضي اليه في زمن الضرورة ويلتمس باسم الثالوث الأقدس الغفران للخطأة الذين يأتونه فان كان الله يقول ان بابه مغلوق أي ان العاصين عليه غير أهل للرحمة والغفران فانه في آخر الأمر يمنحهم الصفح بسبب لجاجة الكاهن الذي يتضرع اليه وهكذا يُلبس الخطأة سلاح البرّ رابعاً ان آدم ذهب الى السيد المسيح في نصف الليل أي في منتصف القرن السادس للخليقة وطلب منه العماد وجسده ودمه الأقدسين وبيته السماوي أو سعادته الخالدة لبنيه أي للآباء والأنبياء

     ( 9 ) ” وأنا أقول لكم اسألوا فتعطوا . اطلبوا فتجدوا . اقرعوا فيفتح لكم ”                ( 10 ) ” لأن كل مَن يسأل يُعطى ومَن يطلب يجد ومَن يقرع يُفتح له ” ( 11 ) ” مَن منكم يسأله ابنه خبزاً فيعطيه حجراً أو سمكةً فيعطيه حيةً بدل السمكة ” ( 12 ) ” أو اذا سأل بيضةً يُعطيه عقرباً ” ( 13 ) ” فاذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لابنائكم فكم بالحري أبوكم من السمآء يمنح الروح الصالح لمن يسأله ”

     مر تفسير ذلك في شرح بشارة متى 7 : 7 – 11

( في شفاء أخرس وتجديف الفريسيين )

     ( 14 ) ” وكان يُخرج شيطاناً وكان ذلك أخرس ” ( 15 ) ” فقال بعضهم انه ببعل زبوب رئيس الشياطين يخرج الشياطين ” ( 16 ) ” وآخرون طلبوا منه آية من السماء لكي يجربوه” ( 17 ) ” فعلم أفكارهم فقال لهم كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب وبيتٍ ينقسم على نفسه يسقط ” ( 18 ) ” فان انقسم الشيطان على نفسه فكيف تثبت مملكته لانكم تقولون اني ببعلزبوب أخرج الشياطين ” ( 19 ) ” وان كنت أنا ببعل زبوب أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يُخرجونهم فمن أجل هذا هم يحكمون عليكم ” ( 20 ) ” وان كنت أنا باصبع الله أخرج الشياطين فقد اقترب منكم ملكوت الله

     انظر شرح بشارة متى 12 : 22 – 28

( في القوي المتسلح )

     ( 21 ) ” واذا كان القوي المتسلح يُحافظ على داره تكون أمتعته في أمان ”              ( 22 ) ” ولكن اذا جآء عليه مَن هو أقوى منه وغلبهُ فانه يذهب بجميع أسلحته التي كان يعتمد عليها ويُقسم غنائمهُ ” ( 23 ) ” مَن ليس هو معي فهو عليّ ومن لا يجمع معي فهو يفرق ”

     راجع شرح بشارة متى 12 : 29 – 30

( في عودة الروح النجس الى الانسان )

     ( 24 ) ” ان الروح النجس اذا خرج من الانسان طاف في أمكنة لا مآء فيها يطلب راحةً فاذا لم يجدها يقول أرجع الى بيتي الذي خرجت منه ” ( 25 ) ” فيأتي فيجده مكنوساً مزيناً ” ( 26 ) ” فيذهب حينئذٍ ويأخذ سبعة أرواح آخرين شراً منه فيأتون ويسكنون هناك فتكون أواخر ذلك الانسان شراً من أوائله

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 12 : 43 – 45

     الروح النجس هو الذي كان في الشعب الاسرائيلي زمن عبوديته في مصر ثم هرب منه لأن موسى طرده . وبعد ان طاف على الشعوب الوثنية رجع الى الاسرائيليين ودخل فيهم ومعه سبعة أرواح شراً منه . وقد قال ارميا النبي ان ايّلة ولدت سبعة وكذا السيد المسيح شفا المجدلية من سبعة شياطين بل طردهم منها

( في تطويب أم يسوع )

     ( 27 ) ” وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت له طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما ” ( 28 ) ” فقال بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها ”

     قالت المرأة ان مَن ولدت رجلاً مثل المسيح تستحق الطوبى وهي فعلاً مطوّبة فنسب السيد المسيح في جوابه الطوبى لحافظي وصايا الله .

( آية يونان وملكة التيمن )

     ( 29 ) ” ولما ازدحمت الجموع طفق يقول ان هذا الجيل جيل شرير يطلب آية فلا يُعطى آية الا آية يونان النبي ” ( 30 ) ” لأنه مثلما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن البشر أيضاً لهذا الجيل ” ( 31 ) ” ملكة التيمن ستقوم في الدّين مع رجال هذا الجيل وتحكم عليهم لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان وههنا أعظم من سليمان ”          ( 32 ) ” رجال نينوى سيقومون في الدّين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بكرز يونان وههنا أعظم من يونان ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 12 : 39 – 42

( العين البسيطة )

     ( 33 ) ” ليس أحد يوقد سراجاً ويضعه في خفية ولا تحت المكيال لكن على المنارة لينظر الداخلون نوره ” ( 34 ) ” سراج الجسد العين فاذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً واذا كانت شريرة فجسدك أيضاً يكون مظلماً ” ( 35 ) ” فاحذر أن يكون النور الذي فيك ظلاماً ” ( 36 ) ” فان كان جسدك كله نيراً ليس فيه جزء مظلم فكل شيء يكون نيراً كما اذا أضآء لك السراج بلمعانه ”

     راجع شرح بشارة متى 6 : 22 و 23

( توبيخ يسوع للفريسيين والكتبة وعلماء الناموس )

     ( 37 ) ” وفيما هو يتكلم سأله فريسيّ أن يتغذى عنده فدخل واتكأ ” ( 38 ) ” فأخذ الفريسي يفتكر في نفسه ويقول ما باله لم يغتسل أولاً قبل الغذآء ” ( 39 ) ” فقال له الرب انتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكاس والصفحة وداخلكم مملوء خطفاً وشراً ”         ( 40 ) ” أيها الجهال أليس الذي صنع الخارج هو صنع الداخل أيضاً ”

     انظر شرح بشارة متى 33 : 25

     ( 41 ) ” مع ذلك فقد بقي لكم أن تصدقوا مما في أيديكم فيكون كل شيء نقياً لكم ”      ( 42 ) ” لكن الويل لكم أيها الفريسيون فانكم تعشرون النعنع والسذاب وسائر البقول وتتعدون العدل ومحبة الله وكان ينبغي ان تعملوا هذه ولا تتركوا تلك ”

     راجع شرح بشارة متى 23 : 23

     ( 43 ) ” الويل لكم أيها الفريسيون فانكم تحبون صدور المجالس في المجامع والتحيات في الأسواق ”

     سبق الكلام على مثل هذه الآية في شرح بشارة متى 23 : 6 و 7

     ( 44 ) ” الويل لكم فانكم مثل القبور المستورة يمشي الناس عليها وهم لا يدرون ”

     راجع شرح بشارة متى 23 : 27

     ( 45 ) ” فأجاب واحد من علمآء الناموس وقال له يا مُعلم انك بقولك هذا تشتمنا نحن أيضاً ” ( 46 ) ” فقال وأنتم أيضاً يا علمآء الناموس الويل لكم فانكم تحملون الناس أحمالاً شاقة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال باحدى أصابعكم ”

     انظر شرح بشارة متى 23 : 4

     ( 47 ) ” الويل لكم فانكم تشيدون قبور الأنبيآء وآباؤكم قتلوهم ” ( 48 ) ” فأنتم شهود بأنكم راضون بأعمال آبائكم لأنهم قتلوهم وأنتم تشيدون قبورهم ” ( 49 ) ” ومن أجل ذلك قالت حكمة الله أرسل اليهم أنبيآء ورسلاً فمنهم مَن يقتلون ومَن يطردون ” ( 50 ) ” لكي يُطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبيآء الذي سفك منذ انشآء العالم ” ( 51 ) ” من دم هابيل الى دم زكريا الذي قُتل بين المذبح والبيت . نعم أقول لكم انه يُطلب من هذا الجيل ”            ( 52 ) ” الويل لكم يا علمآء الناموس فانكم أخذتم مفتاح المعرفة فلم تدخلوا أنتم والداخلين منعتموهم ” ( 53 ) ” وبينما هو يقول لهم هذا جعل الفريسيون وعلمآء الناموس يُلحدون عليه بحدة ويُعنتونه ليتكلم عن أشيآء كثيرة ” ( 54 ) ” وهم يراصدونه طالبين أن يصطادوا من فمه شيئاً لكي يشكوه ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 26 : 29 – 36

 

 

 

( الاصحاح الثاني عشر )

( في التحذير من الرئاء والخوف )

     ( 1 ) ” وفيما اجتمع حوله ربوات من الجمع حتى داس بعضهم بعضاً جعل يقول لتلاميذه احذروا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرئاء ”

     راجع شرح بشارة متى 16 : 6 – 12

     ( 2 ) ” فانه ليس خفيّ الّا سيظهر ولا مكتوم الّا سيعلن ” ( 3 ) ” لذلك كل ما قلتم في الظلمة سيسمع في النور وما قلتم في الأذن في المخادع سيكرز به على السطوح ”            ( 4 ) ” وأقول لكم يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد وليس له بعد أن يفعل أكثر ”         ( 5 ) ” لكني أبين لكم ممن تخافون خافوا ممن اذا قتل له قدرة أن يلقي في جهنم . نعم أقول لكم من هذا خافوا ”

     راجع شرح بشارة متى 10 : 26 – 28

     ( 6 ) ” أليس خمسة عصافير تباع بفلسين ومع ذلك فواحد منها لا يُنسى أمام الله ”      ( 7 ) ” بل شعر رؤوسكم جميعه محصىً فلا تخافوا فانكم أفضل من عصافير كثيرة ”         ( 8 ) ” وأقول لكم كل مَن يعترف بي قدام الناس يعترف به ابن البشر قدام ملائكة الله ”      ( 9 ) ” وكل مَن ينكرني أمام الناس يُنكر أمام ملائكة الله ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 10 : 29 – 32

( التجديف على الروح القدس )

     ( 10 ) ” وكل مَن قال كلمةً على ابن البشر يُغفر له وأما مَن جدّف على الروح القدس فلا يُغفر له ”

     القول الحاضر يصحّ على ظاهره ان حصر في زمن المسيح فان الناس نالهم الشك في الابن لانه كان متأنساً لابساً جسداً اما في الروح فلم يكونوا يرتابون ولكن في أيامنا لا عذر للمجدف على السيد المسيح أيضاً لانه يعرفه الهاً . الّا ان الخطايا كلها تستحق المغفرة ان تاب الرجل عنها وان كانت لا تغفر فسببه ان الشيطان يبقى متسلطاً وان المجدّف يرضى بهذا التسلط عليه

     انظر أيضاً شرح بشارة متى 12 : 31 و 32

     ( 11 ) ” فاذا قادوكم الى المجامع والحكام وذوي السلطان فلا تهتموا كيف أو بماذا تحتجون أو ماذا تقولون ” ( 12 ) ” لأن الروح القدس يُعلمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولوه ”

     راجع شرح بشارة متى 10 : 18 – 20

 

( رفض المسيح أن يكون مقسم تركة )

     ( 13 ) ” وقال واحد من الجمع يا مُعلم قل لأخي يقاسمني الميراث ” ( 14 ) ” فقال له يا رجل مَن أقامني عليكم قاضياً أو مقسماً ”

     كان الرجل ذا طمع وظلم وكان لهُ أخ من الذين هم تابعون للمسيح ومعلوم انهُ لهُ المجد أمر برذل المقتنى وهجر الاموال فظنّ الطالب ان السيد سيقول لأخيه : تبعتني وأنا أكفيك فاعطِ أخاك مالك . وهكذا يكون لهُ اكبر مغنم فعرف يسوع ما يخالجه ولم يَرَ الفرصة مفيدة لخير مخاطبه ولكماله . ثم انه لو قال لهُ : اقسما مقتناكم كما بالعدل لكان أجاب الطمّاع مثلما قال المصري لموسى : مَن أقامك علينا رئيساً . فلهذا المعنى رفض سيدنا الحكم بين الفريقين وتقسيم الميراث رَفضَ الهٍ ذي سلطان عظيم وانما جاء الى العالم ليميز ويقسم المؤمنين عن غير المؤمنين لا لتوزيع المواريث الدنيوية

     ( 15 ) ” وقال لهم احذروا وتحفظوا من كل بخلٍ لأنها ليست حياة أحد بكثرة أمواله ”

      يطلب السيد الاحتراس من البخل على عمومه سواء كان في كل الامور أو في بعضها قليلها وكثيرها لان حياة الانسان لا تزاد في هذا العالم بزيادة المقتنى والمال ولا حياة العالم الآتي تكثر وتطول بما يجمعه الرجل في الحياة الدنيا واثباتاً لهذا المبدأ الصادق ذكر لهُ المجد المثل الآتي

     ( 16 ) ” وكلمهم بمثلٍ قائلاً رجل غني أغلت له أرضه كثيراً ” ( 17 ) ” ففكر في نفسه قائلاً ماذا أصنع فانه ليس لي موضع اخزن فيه غلالي ” ( 18 ) ” ثم قال أصنع هذا أهدم اهرآئي وأبني أكبر منها وأخزن هناك جميع أرزاقي وخيراتي ” ( 19 ) ” وأقول لنفسي يا نفسي ان لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة فاستريحي وكلي واشربي وتنعمي ”        ( 20 ) ” فقال له الله يا جاهل في هذه الليلة تُطلب نفسك منك فهذا الذي اعددته لمن يكون ” ( 21 ) ” فكذا مَن يدّخر لنفسه وهو غير غني بما لله ”

     وجه سيدنا المثل لمداواة المبتلين برذيلة الشراهة وبداء القسوة وعدم الرحمة والغنيّ هنا هو كل الاغنياء الذين تجذبهم الاموال الى جمعها فيتحملون من المتاعب والجهد قسماً وافراً ولا يفوتك التفكّر والاعتبار بما يقوله الرجل في نفسه . ولأنه يريد حصر التنعم في نفسه لا غير ولا يشاء الترحم على المحتاج ثم لا ينظر الى المستقبل فلذلك يقول أخزن غلالي واهدم اهراءي الحالية لأبني اكبر منها واوسع واقول لنفسي كلي واشربي ومن البين ان لهُ سلطان على أن يتفوه بهذه العبارات وهو غافل عن ان ليس لهُ قدرة على البقاء وعلى مواصلة العيشة سنين كثيرة. وقد استولت عليه في عماه هذه الافكار وغرق في بحرها فلذا قال لهُ الله : يا جاهل . لانه يحكم في الامور التي لا يعرفها فلم يقصد تعالى الانتقام منه بل تعريفه جهله وعماه . ولما كان عزّ وجلّ قابضاً علينا ومتسلطاً على حياتنا وموتنا وعلى ان يخرجنا من العالم متى شاء وهو عالم حق العلم بزمن خروجنا هذا. أمكنه ان يقول للغني أيضاً : في هذه الليلة تطلب نفسك منك ويأخذونها وبهذا لاشى افكاره المظلمة ومقاصده في توسيع أهرائه وخزن غلاته ثم اعلمه ان الملائكة تطلب نفوس الاغنياء وتسحبها منهم بالقسر والاغتصاب. اذن لا يبقى الّا ان يُسأل الغني أو بالاولى يَسأل هو نفسه : وهذه الخيرات التي اعددتها لسنين عديدة لمن تكون ولم تبقى ؟ واجاب داود النبي على هذا السؤال بقوله : لا يأخذ المرء معه شيئاً عند موته. ومن يدّخر له الدخائر أي يجمع الفضة فلا تكون غنياً بالله أي ليس في حالة ترضي الله كمثل هذا الغني الذي خُطف منه مالهُ خطفاً والتزم قسراً ان يتركه لغيره

( في الاتكال على الله وطلب السماويات )

     ( 22 ) ” ثم قال لتلاميذه فلهذا أقول لكم لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون ” ( 23 ) ” فان النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس ” ( 24 ) ” تأملوا الغربان فانها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخزن ولا هُري والله يقوتها فكم أنتم بالحري أفضل من الطيور ” ( 25 ) ” ومَن منكم اذا هَمّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة ” ( 26 ) ” فان كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر فلمَ تهتمون بالبواقي ”                ( 27 ) ” تأملوا الزنابق كيف تنمو انها لا تغزل ولا تنسج وأنا أقول لكم ان سليمان في كل مجده لم يلبس كواحدة منها ” ( 28 ) ” فاذا كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل وفي غد يُطرح في التنور يُلبسه الله هكذا فكم بالأحرى يُلبسكم يا قليلي الايمان ” ( 29 ) ” فلا تطلبوا ما تأكلون أو ما تشربون ولا تقلقوا ” ( 30 ) ” لأن هذا كله تطلبه أمم العالم وأبوكم يعلم أنكم تحتاجون الى هذا ” ( 31 ) ” بل اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كله يُزاد لكم ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 6 : 25 – 33

     ( 32 ) ” لا تخف أيها القطيع الصغير لأنه قد حسن لدى أبيكم أن يُعطيكم الملكوت ”     ( 33 ) ” بيعوا ما هو لكم وتصدقوا . اجعلوا لكم أكياساً لا تبلى وكنزاً في السموات لا ينفذ حيث لا يقربه سارق ولا يفسده سوس ” ( 34 ) ” لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم ”

     انظر شرح بشارة متى 6 : 19 – 21

     وانتبه الى ان سيدنا يسمّي المؤمنين اجمعين قطيعاً صغيراً لا الرسل وحدهم فيجعل المناسبة بينهم وبين الملائكة الذين لم يعصوه . ودليل قولنا يستفاد من كلامه هذا : قد شاءَ ابوكم أن يعطيكم الملكوت. والملكوت لا يعطاه الرسل فقط بل كل المؤمنين. وقال فريق آخر ان المراد بالقطيع الصغير الذين لم يقتنوا الاموال الطائلة وكانوا مساكين في بدء البشارة فقال لهم : لا تخافوا . لأنهم جمعوا في فقرهم ضروب الفضائل وهذا هو الغنى الحقيقي الذي يُنيل السماء لان الملكوت يأخذونه بدلا من ايمانهم ومحبتهم وتعلقهم المخلِص بالمسيح. ثم ان كلام ربنا : بيعوا مقتناكم . مقول للمؤمنين اجمعين وخاصة للرسل ليكونوا متجردين من كل عائق بقصد نشر البشارة الجديدة

( ضرورة الاستعداد لمجيء الرب )

     ( 35 ) ” لتكن أحقاؤكم مشدودة وسرجكم مُوقدة ”

     الحقُو أو الوسط نوعان جسدي وروحي فالأول شدّهُ نافع للعمل والسفر. اما الثاني فشدّه يلجم الشهوة بالعفّة والقداسة لان الشهوة مركزها الصلب والكلى ولذلك يطلب سيدنا ان تكون أوساطنا مشدودة دائماً. وأيضاً السراج نوعان جسدي وروحي فالأول هو السراج المادي الممكن اضاءته والثاني هو العقل الذي يفيضه الله من فضله. وعليك ان تفهم معنى الآية عن الحقو والسراج الروحانيين

     ( 36 ) ” وكونوا مثل رجالٍ ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى اذا جآء وقرع يفتحون له للوقت ” ( 37 ) ” طوبى لأولئك العبيد الذين اذا جآء سيدهم وجدهم ساهرين . الحق أقول لكم انه يشدّ وسطه ويتكئهم ويدور يخدمهم ”

     اعدّوا للرب كل ما يريد حتى اذا جَاءَ قويتم على استقباله بالسيرة الفاضلة والايمان الصادق واعناهما السيد بكلمة الفتح . اما العبيد الذين يجدهم بعيدين عن الاثم فانه يجلسهم في ملكوته ويطوف عليهم لخدمتهم وبهذا اعلن سيدنا الاكرام الذي يكرّمهم به في السماء

     ( 38 ) ” ان جآء في الهجعة الثانية أو جآء في الهجعة الثالثة ووجدهم كذلك طوبى لأولئك العبيد ”

     الهجعات هي أقسام الحياة البشرية فكما ان مَن يحرسون المدن أو القطعان في الليالي يقسمون كل ليلة الى أربع أو ثلاث هجعات هكذا تقسم حياتنا الى هجعات هي الطفولية والشباب والهرم وقد تمتدّ الطفولية الى سن الرابعة عشرة وفي طورها قد لا يكون العقل كاملاً وبالتالي قد لا يحسب العمل الشرير على المرء اثماً كما يحسب العمل الجيد للاستحقاق ولهذا المعنى ذكر السيد الهجعة الثانية والهجعة الثالثة وفيهما تستوجب الاعمال الصالحة الملكوت السماوي . ومن الاكيد ان الاطفال ان تعمّدوا ينالون السعادة الخالدة كالشبان والشيوخ الصالحين . وأول الهجعات أيضاً بان تكون الاولى من زمن آدم الى المسيح والثانية من تجسده الى صعوده والثالثة من صعوده الة مجيئه الثاني وقُل عن العالم الحاضر ليلاً وادعُ العالم الآتي نهاراً

     ( 39 ) ” واعلموا هذا أنه او علم ربّ البيت في أية ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته يُنقب ” ( 40 ) ” فكونوا أنتم أيضاً مستعدين لأنه يأتي ابن البشر في ساعة لا تظنونها” ( 41 ) ” فقال له بطرس يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضاً ” ( 42 ) ” فقال الرب مَن ترى الوكيل الأمين الذي يقيمه الرب على خدمهِ ليعطيهم مكيال القمح في حينه ”          ( 43 ) ” طوبى لذلك العبد الذي يأتي سيده فيجده يعمل هكذا ” ( 44 ) ” في الحقيقة أقول لكم انه يُقيمه على جميع ما هو له ” ( 45 ) ” ولكن ان قال ذلك العبد في قلبه ان سيدي يبطيء في قدومه فجعل يضرب العبيد والامآء ويأكل ويشرب ويسكر ” ( 46 ) ” يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وساعة لا يعلمها ويفصله ويجعل نصيبه مع الكافرين ”            ( 47 ) ” فالعبد الذي علم ارادة سيده ولم يُعدد ولم يفعل بحسب ارادته يضرب كثيراً ”        ( 48 ) ” والذي لم يعلم وعمل ما يستوجب به الضرب يُضرب يسيراً وكل مَن أعطي كثيراً يُطلب منه كثيراً ومَن أودع كثيراً يُطالب بأكثر ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 24 : 43 – 51

( النار التي يريد المسيح اضطرامها )

     ( 49 ) ” اني جئت لألقي ناراً على الأرض وما أريد الا اضطرامها ” ( 50 ) ” ولي صبغة أصطبغ بها وما أشد تضايقي حتى تتم ” ( 51 ) ” أتظنون اني جئت لألقي على الأرض سلاماً . أقول لكم كلا بل شقاقاً ” ( 52 ) ” فانه من الآن سيكون خمسة في بيت واحد يُشاق ثلاثة منهم اثنين واثنان ثلاثة ” ( 53 ) ” يُشاق الأب الابن والابن الأب والأم البنت والبنت الأم والحماة كنتها والكنة حماتها ”

     افهم بالنار نعمة الروح القدس التي لا تنقص بالتوزيع بل تزيد كالنار التي يكثر اضطرامها ان نقلتها من محل الى آخر وكان سيدنا يرغب اعطاءها منذ البدء لفائدة الناس : ثم افهم بالصبغة آلامه وسفك دمه وسيدنا يريد ان يتمّ ذلك عاجلاً لان منه ينشأ للناس خيرات وافرة وحسنات عميمة أي القيامة وعدم الموت وهبات الروح القدس وقد سمّى موته صبغة أو معمودية دلالةً على انه لا يُضبط في حالته بل كمن ينزل في الماء ليعتمد ثم يصعد هكذا سيقوم عاجلاً . وأيضاً انه جاء ليلقي شقاقاً أي ان كثيرين من تبّاعه سيضعون الايمان والسيرة الفاضلة فوق القرابة ولاجل محبة الله لا يكترثون لعلاقات الدم والنسب

( توبيخ المسيح الناس على عدم تمييزهم الوقت )

     ( 54 ) ” وقال أيضاً للجموع اذا رأيتم سحابةً تطلع من المغارب قلتم للوقت ان المطر يأتي فيكون كذلك ” ( 55 ) ” واذا هبت الجنوب قلتم سيكون حرّ فيكون ” ( 56 ) يا مرآءون تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسمآء فكيف لا تميزون هذا الزمان ” ( 57 ) ” ولماذا لا تحكمون بالعدل من تلقآء أنفسكم ”

     قد مر تفسير هذه الآيات في شرح بشارة متى 16 : 2 و 3

( وجوب مسالمة الخصم )

     ( 58 ) ” اذا ذهبت مع خصمك الى الحاكم فاجتهد وأنت في الطريق أن تتخلص منه لئلا يجرك الى القاضي فيسلمك القاضي الى المستخرج والمستخرج يلقيك في السجن ”            ( 59 ) ” أقول لك انك لا تخرج من هناك حتى توفي آخر فلسٍ ”

     راجع شرح بشارة متى 5 : 25 و 26

 

 

 

( الاصحاح الثالث عشر )

( ضرورة التوبة )

     ( 1 ) ” وفي ذلك الزمان حضر قوم واخبروه عن الجليليين الذي خلط بيلاطس دمآءهم بذبائحهم ” ( 2 ) ” فأجاب وقال لهم أتظنون ان هؤلآء الجليليين كانوا اكثر اثماً من سائر الجليليين حيث نُكبوا بمثل ذلك ” ( 3 ) ” أقول لكم لا بل ان لم تتوبوا تهلكوا جميعكم كذلك ” ( 4 ) ” أم تظنون ان اولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج بجانب سلوام وقتلهم كانوا أكثر استئهالاً من سائر الناس الساكنين في أورشليم ” ( 5 ) ” أقول لكم لا بل ان لم تتوبوا تهلكوا جميعكم كذلك ”

     قال قوم ان بيلاطس قتلهم انتقاماً من هيرودس الذي قتل يوحنا المعمدان فما امكنه ان يثئر من هيرودس عينه فاثأر من اليهود وقال فريق ثانٍ ان الرومانيين حرّموا عليهم ذبح الذبائح فما أطاعوا فلذلك أرسل بيلاطوس فقتلهم. فحصلت لبضعهم فرصةً لتجربة سيدنا فأرسلوا اليه ليروا ما يجيب به حتى اذا قال : ان قَتلَهم وَقَعَ ظلماً واعتداءً ثلبوه أمام الحاكم الروماني وادّعوا انه يخالف الناموس وينقض بتعاليمه شريعة الرومانيين الّا انه له المجد أجاب بحضّ مخاطبيه على التوبة وقرنَ بذكر الحادث المخيف ذكر سقوط البرج في سلوام الذي هو أشدّ هولاً قصدَ ان يثبت السامعين في الاقبال على التوبة والايمان به لئلا يدركهم الهلاك ويقضي عليهم في مجيئه الثاني

( مثل التينة العقيم )

     ( 6 ) ” وقال أيضاً هذا المثل . كان لرجل تينة مغروسة في كرمه فجآء يطلب فيها ثمراً فلم يجد ” ( 7 ) ” فقال للكرّام ها انا لي ثلاث سنين آتي وأطلب ثمراً في هذه التينة فلا أجد فاقطعها فلماذا تعطل الأرض ” ( 8 ) ” فأجاب فقال له يا سيد دَعها هذه السنة أيضاً حتى أعزق حولها وأنقي دمالاً ” ( 9 ) ” فان أثمرت والّا فتقطعها فيما بعد ”

     اظهر هنا سيدنا عنايته بالشعب اليهودي الذي لم يصنع ما يستحق به هذه العناية وحملهم على التوبة بانه غفر لهم هذه المرة أيضاً وصبر عليهم ليرجعوا اليه تعالى ويثمروا ثمار الصلاح حتى اذا أبوا الانقياد لكلامه ونصائحه حلّ بهم الغضب الرباني وعاقبهم عدله الفوقاني. وفسر آخرون المثل عن زمان التوبة فقالوا : التينة تمثل الشعب . والرجل الطالب منها ثمراً هو الله . والكرم ارض الميعاد . والثمار هي البرّ والقداسة . والكرّام أو الفلاح ابن الله الحبيب . وقال غيرهم ان الكرّام هو الناموس أو الملائكة والانبياء والرسل وان الثلاث سنين تعني المرات الثلاث التي سبى الاعداء اليهود فيها ولم يفهم هؤلاء انها تدعوهم الى التوبة . والقطع هو اهلاك اليهود وملاشتهم لتقوم البيعة المقدسة بدل جماعتهم وتعطي ثمار القداسة . وقد اراد الكرّام الاصطبار سنة والمدلول بالسنة على زمان التجسد الالهي حتى صعود الرب أو زمن السبعين اسبوعاً حتى يفلح حول التينة أي يصنع أمامهم المعجزات والآيات ويلقي التعاليم والمواعظ . فاذا ما انتفع الشعب الاسرائيلي من هذه كلها لاشاهم الرب وأبطل كهنوتهم وسبوتهم وناموسهم ومن المعلوم ان بعد أربعين سنة أتى الرومانيون وخرّبوا اليهودية بواسطة فسبسيانوس

( شفاء المرأة المنحنية في يوم السبت )

     ( 10 ) ” وكان يعلم في أحد المجامع يوم السبت ” ( 11 ) ” واذا بامرأة بها روح مرضٍ منذ ثماني عشرة سنة وكانت منحنية لا تستطيع أن تنتصب البتة ” ( 12 ) ” فلما رآها يسوع دعاها وقال لها انكِ مطلقة من مرضكِ ( 13 ) ” ووضع يديه عليها وفي الحال استقامت ومجدت الله ”

      كان الروح في المرأة من ابليس اللعين فطرده سيدنا منها لا بالصلاة أو بالالتماس من آخر بل بسلطان الهي اعلاناً بانه اله متأنس وقد وضع يده عليها اظهارَ ان جسده أفاد الفعل الالهي على شبه ما تصنع النار في الحديد عند اتحادها به فانه يضيء ويحرق كالنار عينها فليس اذن للمسيح فعلين كقول الخلقيدونيين أي فعلاً الهياً وفعلاً انسانياً لان ليس في المسيح اقنومان بل في المسيح الفعل واحد مبدأه اللاهوت ومنتهاه في جسده المنّفس بنفس عاقلة كنفسنا . وعليه كان وضع يده مانحاً العافية التي بسببها مجّدته المرأة .

      ( 14 ) ” فأجاب رئيس المجمع وهو مغتاظ لابرآء يسوع في السبت وقال للمجمع لكم ستة أيام للعمل ففيها تأتون وتستشفون لا في يوم السبت ” ( 15 ) ” فأجابه الرب وقال يا مرآءون أليس كل واحد منكم يحلّ ثوره أو حماره في السبت من المذود وينطلق به فيسقيه ” ( 16 ) ” وهذه ابنة ابراهيم التي ربطها الشيطان منذ ثماني عشرة سنةً أما كان ينبغي أن تُطلق من هذا الرباط يوم السبت ” ( 17 ) ” ولما قال هذا خزي كل مَن كان يقاومه وفرح كل الجمع بجميع الأمور المجيدة التي كانت تصدر منه ”

     ان رئيس المجمع أخفى حسده تحت ثوب غيرته على حفظ السبت وكان أكثر معجزات سيدنا يأتيها في السبوت بسبب اجتماع المرائين لمشاهدتها لكن السيد لم يسكت عن تعنيف أعدائه فدعاهم مرائين والرائي مَن فكرَ في قلبه غير ما يعنيه كلامه كما هو بالواقع هذا رئيس المجمع الذي ملأ الحسد نفسه وبدت غيرة كاذبة على لسانه ثم قال لهم : ان كنتم يوم السبت ترحمون البهيمة فتقدمون لها الطعام والشراب فلِمَ تلوموني لاني أرحم البشر في السبت واشفي مريضاً أي اخلّص من المرض بنتاً لابراهيم أي من نسل ابراهيم . وتسأل هل في مقدرة الشيطان أن يربط الناس ؟ فالجواب ان ابليسَ من ذاته لا يقوى على تقييد الناس بمرض ما لم يأذن لهُ الله ولهذا لم يقوَ على مهاجمة ايوب الّا بسماحه تعالى ولا على الخنازير الا بعد استئذان الرب ولو كان الاضرار في مقدرته لأفسد الكثيرين . ولمَ يأذن الله بان يضرّ الشياطين الناس ؟ انما يأذن لأسباب أولاً لامتحان فضيلة الناس كما في حادث ايوب ثانياً لاصلاحهم من المعاصي التي هم فيها غارقون كما في حادث الرجل في كورنتس . ثالثاً لمعاقبتهم على رداءتهم ويكونون قد أعدّوا نفسهم مأوى للشيطان . رابعاً استدراك ما قد يصلون اليه من تهيئتهم نفسهم مسكناً لعدوّ الله والبشر فيسبق تعالى ويلجم شرّهم بهذه الطريقة كما في حادث الصبيان المجانين . خامساً لمقاصد أخرى معروفة لديه ومجهولة منا . وقدّر ان سبباً من هذه الاسباب كان داعياً لربط المرأة ثمان عشرة سنة . ومن رواية الانجيلي يظهر ان الحساد لحقهم الخزي والعار وان الشعب كان يسرّ بالمعجزات ويغتبط بها . وهنا نسأل اليهود : ما فائدة حفظ السبت . فان أجابوا ان حفظه عمل صالح وهو حفظ وصية كوصية لا تقتل . قلنا ان ابراهيم واسحاق ويعقوب ما حفظوا السبت وقد نالوا التبرير وقد عرفوا الله وعبدوه حق عبادته لكنهم لم يعرفوا السبت . وأيضاً يُرذَل الانسان لغير حفظه السبت كما رُذل اهل سادوم وعامورا بسبب نجاستهم . ثم آخاب الملك قد حفظ السبت ورُذل . ومتاتيا حارب في السبت ونال المجد والشرف . اذن ليس السبت بالشرط الضروري للخلاص أو للعمل الصالح وأيضاً ليس كل ما يقع في السبوت ينجسها لأن الموتى قد يفارقون هذه الحياة يوم سبت ولا ينجّسونه . وتحدث للنساء العادة يوم السبت وتقع لهنّ وللغير وقائع عديدة ولا يُقال ان حرمة السبت انتهكت . وما القصدُ من فرض السبت على اليهود الّا ليصدّوا عن العمل اليدوي وليُحيوا ذكر الله . ثم ان كلمة السبت معناها الراحة وهو مأخوذ من ان الله خلق الخلائق في ستة أيام واستراح في السابع ففرضه يوم راحة لينال العبيد عندهم الخلاص من العناء والتعب . وأيضاً كما ان الآب ينزل في السبوت المطر ويُنمي الزرع ويحيي ويميت ولا لوم عليه كذلك لا لوم على الابن ان ابرأ المرضى يوم السبت ولا لوم على يشوع بن نون الذي أحاط باريحا يوم سبت ولا على مَن يصعدون بهائمهم من الحفرة ان سقطت فيها يوم السبت ولا على الكهنة الذين يقرّبون أيضاً الذبائح ويسرجون السرج . ثم ان المسيح اتى عمل خيرٍ بشفائه المريض يوم السبت فاذن قد كرّمه تكريماً ومَن يعمل الصالح في يوم عظّمه ورفع قدره . اما من يأتِ فيه شراً أو يمنع فيه خيراً قلّل اكرامه كما فعل اليهود . اذن يلزم القول ان سيدنا كرّم السبت أكثر من اليهود . واعلم ان الناموس سُنّ للمخلوق اما المسيح فهو الله فلا ناموس عليه وبالتالي لا يلزمه حفظ السبت . وأيضاً ان سيدنا فرض هذا الناموس لانه هو الكلمة الذي نزل الى جبل سينا وأعطى الناموس . وواهب الناموس ليس خاضعاً لهُ . هذا ما قاله مار ساويرس . ثم ان سيدنا غير السبت بالاحد ليكون يوم راحة واجب الحفظ من النصارى أجمعين

( مَثل حبة الخردل )

     ( 18 ) ” وكان يقول ماذا يشبه ملكوت الله وبماذا أشبهه ” ( 19 ) ” انه يُشبه حبة خردل أخذها رجل وألقاها في بستانه فنمت وصارت شجرة عظيمة واستظلت طيور السمآء في أغصانها

     قد مر الكلام على هذا المثل في شرح بشارة متى 13 : 31 و 32

( مَثل الخميرة )

     ( 20 ) ” وقال أيضاً بماذا أشبه ملكوت الله ” ( 21 ) ” انه يُشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع ”

     راجع شرح بشارة متى 13 : 38

     افهم بملكوت الله هنا البشارة بالانجيل وبالمرأة أما اللاهوت أو نعمة الله

( في عدد مَن يخلصون )

     ( 22 ) ” وكان يجتاز في المدن والقرى يُعلم وهو سائر الى أورشليم ” ( 23 ) ” فقال له واحد يا رب هل الذين يخلصون قليلين . فقال لهم ” ( 24 ) ” اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق فاني أقول لكم ان كثيرين سيطلبون ان يدخلوا فلا يستطيعون ”

     انظر شرح بشارة متى 7 : 13 و 14

     كانت عادة سيدنا عندما يُلقى عليه سؤال اما ان يجيب رأساً واما ان ينقل مخاطبه الى شيء آخر ثم يرجع الى ما يخالج قلبه وأيضاً كان يعرف أفكار مَن أمامه ولو سكتوا يبكّتهم . وكل هذه الطرق انما كان يستخدمها لفائدتهم . ومن البين ان في جوابه هنا لم يقل نعم مثبتاً قول السائل لان ذلك لم يكن نافعاً لخير السامعين فتحرّى اذن فائدتهم وقال اجتهدوا أن تدخلوا في الباب الضيق واعنى بالباب حفظ الوصايا ووصفه بالضيق لانه يُطلب من الداخلين فيه ايمان مجرّد من الشكّ وسيرة مقرونة بالصلاح والقداسة . ثم حذّرهم لهُ المجد من الندم على فوات الفرصة اذ قال ان كثيرين في العالم الآتي عندما يرون الأبرار داخلين بالمجد الى الملكوت يتمنون الدخول معهم ولكن لا يفيد التمني اذ ذاك فتيلاً

     ( 25 ) ” فاذا دخل رب البيت وأغلق الباب فوقفتم خارجاً تقرعون الباب وتقولون يا رب افتح لنا فأجابكم قائلاً لا أعرفكم من أين أنتم ”

     انظر شرح بشارة متى 25 : 10 و 11

     رب البيت هو السيد المسيح والواقفون خارجاً هم من سيريدون الدخول ولا يستطيعون لأنهم محرومو الفضائل . والحالة تشبه حالة انسان يصنع  عرساً فيدخل معه الى منزلة اقاربه واصدقاؤه ويبقى الغرباء والاجانب خارجاً. كذلك يدخل الله الابرار الى ملكوته ويترك الآثمة الهالكين في العذاب الأبدي أما هؤلاء فيردّدون منادين ومكررين النداء دلالةً على رغباتهم الشديدة في السعادة ملتمسين الدخول فيجيبهم الرب . ما حفظتم وصاياي ولذلك لا أعرفكم

     ( 26 ) ” حينئذ تبتدئون تقولون انا أكلنا وشربنا أمامك وقد علمت في شوارعنا ”

     وقع الأكل والشرب مع المسيح في الزمن الذي تردّد فيه على الارض مع البشر فقد اشترك مع كثيرين في تناول الطعام : ثم ان اليهود الخادمين في الهيكل أمام الرب كانوا يأكلون من الذبائح الناموسية ويشربون معها وأيضاً ان النصارى يعيّدون الاعياد ويدخلون الكنائس ومع ذلك لا يحفظون الوصايا ولا يعملون أعمالاً صالحة . وجميع من ذكروا قد سمعوا تعليم السيد لأنه علّم في شوارع مدن اليهود وأسمع صوته بواسطة مرسليه وخدّام البيعة في أقطار المسكونة داعياً الى الملكوت ولكن لا يدخله الّا مَن حفظ وصاياه

     ( 27 ) ” فيقول أقول لكم اني لا أعرفكم من أين أنتم . ابعدوا عني يا جميع فاعلي الأثم” ( 28 ) ” هناك يكون البكاء وصريف الأسنان اذ ترون ابراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبيآء في ملكوت الله وأنتم مطرودون الى خارج ” ( 29 ) ” وسيأتون من المشارق والمغارب والشمال ويتكئون في ملكوت الله ”

     راجع شرح بشارة متى 8 : 11 و 12

     فاعلو الأثم هم الكذابون والشاهدون بالزور وما اشبه . هؤلاء جزاؤهم البكاء أي العذاب وأشدّ من البكاء صريف الاسنان وكلهم يتعذّب تبعاً لمقدار معاصيه وجرمه لكن الجميع يبكون ويصرّون باسنانهم من شدة العذاب وهوله . ثم ان السيد وجّه كلامه لمخاطبه وأفهمه ما معناه : ان ابيتم الدخول الى السماء باتباع وصاياي فانكم سترون فيها ابراهيم واسحق ويعقوب وغيرهم وانتم مطرودون خارجاً عنها

     ( 30 ) ” فهوذا آخرون يكونون أولين وأولون يكونون آخرين ”

     انظر شرح بشارة متى 19 : 30 و 20 : 16

 

( هيرودس يقصد قتل سيدنا )

     ( 31 ) ” وفي ذلك اليوم دنا اليه قوم من الفريسيين وقالوا له اخرج واذهب من هنا فان هيرودس يُريد أن يقتلك ” ( 32 ) ” فقال لهم اذهبوا قولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل ” ( 33 ) ” ولكن ينبغي لي أن أسير وغداً والذي بعده لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم :

     الذين دنوا من يسوع هم الفريسيون حسّاده وكانوا يبغضونه بسبب عمله المعجزات وتعلّق الشعب به . ويريدون اخراجه من أورشليم فاتخذوا اسم هيرودس حجّة وكأنهم يشفقون على سيدنا فطلبوا منه الهرب . أما هو لهُ المجد فعرف أفكار ضمائرهم وحوّل كلامه عن هيرودس . اذن بقوله الثعلب اشار الى فكرهم المستور والخدّاع والى حسدهم المطوي في قلبهم وبعبارة أخرى ان ارادة الفريسيين الشريرة هي الثعلب ودليل ذلك من قوله : هذا الثعلب لا ذلك الثعلب فالاشارة بهذا الى ارادتهم الحاضرة امامه . ولو شاءَ الدلالة على هيرودس لقال : ذلك . وقال فريق آخر انه سمّى ثعلباً الفريسي مخاطبه . ويردّ هذا الرأي بان الثعلب تشمل تسميته كل الفريسيين لا واحداً منهم . فللجميع قال سيدنا : اني باقٍ عندكم واخرج الشياطين ولو ان عملي هذا يكدّركم ثم اشفي المرضى ولو ابيتم ذلك . واكثر من اتيان المعجزات ليزيد تعلق الجماهير بي ويأتوا اليّ من كل مكان وبلد . واعنى باليوم السنة الاولى من كرازته . وبغداً السنة الثانية وباليوم الثالث سنة آلامه وموته وقيامته ففيها كمّل تدابيره الالهية . وافهم بكلمة أكمّل لا نهاية حياته بل نهاية تدابيره على الارض واوّل عبارته بانه يجب عليّ العمل اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أمضي الى الآلام والموت باختياري وتمام رضاي وسيكون موتي في أورشليم لأن فيها سفك دم جميع الانبياء . واعلم ان كلمة ” لا يمكن ” لا تدّل على النفي المطلق بل على ان قتل الانبياء يجري عادة في أورشليم

( نبوة يسوع بخراب أورشليم )

     ( 34 ) ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وؤاجمة المرسلين اليها كم من مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها فلم تُريدوا ” ( 35 ) ” هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً واني أقول لكم انكم لا تروني حتى يأتي زمان تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 23 : 37 – 39

     قال القديس ساويرس ان الأنبياء لم يموتوا كلهم في أورشليم لان دانيال توفاه الله في بابل. وارميا استأثرت به رحمة الله في مصر . فقل اذن ان المسيح لم يشمل كل الأنبياء بعبارته بل نظر خاصة الى نفسه وصلبه . وبمعنى آخر قُل ان اليهود الذي مركزهم الأكبر في أورشليم هم الذين قتلوا أنبياء الله الصادقين . أما الأنبياء الكذبة فكان غيرهم يقتلونهم

 

 

( الاصحاح الرابع عشر )

( شفاء رجل فيه استسقاء )

     ( 1 ) ” ودخل بيت أحد رؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزاً وكانوا يترصدونه ”     ( 2 ) ” واذا أمامه رجل به استسقاء ” ( 3 ) ” فأجاب يسوع وخاطب علمآء الناموس والفريسيين قائلاً أيجوز الشفاء في السبت أم لا ” ( 4 ) ” فصمتوا . فأخذه وأبرأه وصرفه ”

      ان الفريسيين أتوا عن خبث ورئاء بالرجل المستسقى حتى اذا شفاه سيدنا شنّعوا فيه قائلين انه يخالف الناموس واذا لم يشفه قالوا عنه انه غير قدير بل ضعيف قارن ضعفه بالكبرياء . ولا يمكننا تأويل عملهم بغير هذا المعنى لانهم أتوا بالرجل المريض يوم السبت الى بيت الفريسي وفي وقت اقامة الوليمة . وقد كان الداعي مشتركاً معهم بالرداءة . ولمّا كان يسوع حكمة الله ومطلعاً على أفكار قلوبهم ألقى عليهم السؤال ليكشف الغطاء عن مكرهم فصانوا الصمت فوبخهم وحاجهم بحادث البهيمة الساقطة في حفرة . ثم انهم كانوا عارفين ان الصدّ عن الخير في السبب اهانة للسبت عينه . ولاحظ انه أبرأ الرجل نظير ما يفعل الاله القادر على كل شيء مظهراً انه هو الكلمة الذي صار انساناً لأجلنا

     ( 5 ) ” ثم أجاب وقال لهم مَن منكم يقع حماره أو ثوره في بئرٍ فلا ينشله للوقت يوم السبت ” ( 6 ) ” فلم يستطيعوا أن يجيبوه عن هذا ”

مرّ لنا عن المرأة المنحنية ان المسيح دافع عن نفسه بمثل الحمار والثور اللذين يُحلّان من القيود . اما هنا فبرهانه مأخوذ من الحمار والثور الساقطين في البئر فيرفعان لئلا يختنقا . وقد صمت أعداؤه الأراذل لأن دليه أفحمهم فامسوا بُكماً لا يقوون على الاحتجاج بشيء

( خطاب يسوع للمدعوين )

     ( 7 ) ” وضرب مثلاً للمدعوين وهو يُراقب تخيرهم أول المتكآت فقال لهم ” ( 8 ) ” اذا دُعيت الى عُرسٍ فلا تتكىء في أول المتكآت فلعلهُ دُعي اليه مَن هو أكرم منك ”                ( 9 ) ” فيأتي الذي دعاك واياه يقول لك أخلِ الموضع لهذا فتأخذ لك متكأ في الموضع الأخير وأنت خجل ” ( 10 ) ” ولكن اذا دُعيت فامضِ واتكىء في آخر موضع حتى اذا جاء ذاك الذي دعاك يقول لك ارتفع أيها الحبيب الى فوق فحينئذٍ يكون لك المجد أمام المتكئين معك ”  ( 11 ) لأن كل مَن رفع نفسه اتضع ومَن وضع نفسه ارتفع ”

     بعد ان أتى سيدنا بالمعجزة رأى الفريسيين يختارون أمكنة أعلى من درجتهم فكان الأمر فرصة لتوبيخهم وتعليمهم وألقى عليهم وصية ليشعروا من ذاتهم بجهلهم وكبريائهم ويخزوا بسبب دناءتهم فلا يصنعون ما يريدون في الولائم ودلّهم خاصة على التمسك بالتواضع اذ قال : امضِ وَاتكئ في آخر موضع ليبجّلك غيرك وتُبديَ دعتك وتواضعَك أمام كل المدعوين . والضابط العام وضع قانوناً على الناس أجمعين في كل الظروف والمقامات بقوله ان مَن يرفع نفسه يتضع وبالعكس

     ( 12 ) ” وقال للذي دعاه اذا صنعت غدآء أو عشآء فلا تدعوا أحبآءك ولا اخواتك ولا اقربآءك ولا الجيران الأغنيآء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك منهم المكافأة ” ( 13 ) ” ولكن اذا صنعت مادبةً فادعُ المساكين والجدع والعرج والعميان ” ( 14 ) ” فتكون مباركاً اذ ليس لهم ما يكافئوك به فتكون مكافأتك في قيامة الصديقين ”

     لم ينهِ السيد عن دعوة الأصدقاء والأقارب والاخوة بل قصد افهام الغير ان دعوة هؤلاء لا تفيد لانهم سيردّون لنا المثل كما تفيد دعوة المساكين والجدع والعرج ومَن شابههم لأن الله يهبنا مكافأة في العالم الآتي عن دعوتنا لهم . وقال آخرون انه يتعين ألّا ندعو المساكين الأشرار ومُراد سيدنا ان في دعوتنا الغير الى الأكل والشرب لا تنظر الى القرابة الطبيعية بل الى الفضيلة ولو كان ذووها من الناس الفقراء الحقيرين . والبين من كلام المسيح ان المدعوين معه في بيت الفريسي كانوا من الأبرار المساكين لذلك أعلن مضيفه ما تكون مكافأته

( مَثل العشاء العظيم )

     ( 15 ) ” فلما سمع هذا بعض المتكئين قال له طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله ”    ( 16 ) ” فقال له ان رجلاً صنع عشآء عظيماً ودعا كثيرين ” ( 17 ) ” فأرسل عبده في ساعة العشآء يقول للمدعوين هلموا فان كل شيء قد أعدّ ” ( 18 ) ” فطفقوا كلهم واحد فواحد يعتذرون فقال له الأول قد اشتريت حقلاً ولا بدّ لي أن أخرج وأنظره فأسألك أن تعذرني” ( 20 ) ” وقال الآخر قد تزوجت امرأة فلا أستطيع أن أجيء ” ( 21 ) ” فرجع العبد وأخبر سيده بذلك فحينئذٍ غضب رب البيت وقال لعبده اخرج سريعاً الى شوارع المدينة وأزقتها وأتِ بالمساكين والجدع والعميان والعرج الى ههنا ” ( 22 ) ” فقال العبد يا سيد قد قُضي ما أمرت به وبقي محل ” ( 23 ) ” فقال السيد للعبد اخرج الى الطرق والأسيجة واضطررهم الى الدخول حتى يمتلئ بيتي ” ( 24 ) ” فاني أقول لكم انه لا يذوق عشآئي أحد من أولئك الرجال المدعوين ”

     كان اعتقاد اليهود ان الصديقين بعد القيامة يأكلون ويشربون مأكلاً ومشرباً ماديين في الملكوت فظنوا ان السيد يتكلم عنهما عند ذكره المجازات وهذا ما يدلك على الداعي الى قول من قال طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله . والة ما حمل سيدنا على اعطائه المثل . وافهم بالرجل فيه الله فيه عزّ وجلّ . وبالعشاء اتقان خيرات العالم الآتي واعدادها أحسن أعداد . وبالكثيرين اليهود . وبعبيده الرسل . وبوقت العشاء زمن مجيء المسيح الذي كملت فيه نبوات النبيين . وبالحقل المشترى المقتنى الجديد وبخمسة فدادين البقر الاجتهاد وراء تحصيل المال الارضيّ الذي يكون سبباً لفقدان النعيم . وبرب البيت المسيح نفسه . وكان لهُ المجد في بدء الامر لم يأذن للامم بالدخول في الشعب المختار الّا انه أرسل فيما بعد رسله الى العالم والمدن لدعوة العشارين والخطأة ومن ليسوا يهوداً للدخول في بيعته المقدسة فأتاه كل مَن آمن به

 

 

( لزوم الكفران بكل شيء لاتباع السيد المسيح )

     ( 25 ) ” وكان يسير معه جموع كثيرون فالتفت وقال لهم ” ( 26 ) ” ان كان أحد يأتي اليّ ولا يُبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه واخوته وأخواته بل نفسه أيضاً فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً ” ( 27 ) ” ومَن لا يحتمل صليبه ويتبعني فلا يستطيع ان يكون لي تلميذاً ”

     راجع شرح بشارة متى 10 : 37 و 38

     ( 28 ) ” فانه مَن منكم يُريد أن يبني بُرجاً ولا يجلس أولاً ويحسب التفقة هل عنده ما يُكمله به ” ( 29 ) ” لئلا يضع الاساس ثم يعجز عن الاتمام فيبتدئ جميع الناظرين يسخرون منه ” ( 30 ) ” قائلين ان هذا الرجل قد شرع في بناء ولم يستطع أن يُتم ” ( 31 ) ” أم أيّ ملك يخرج ليحارب ملكاً آخر ولا يجلس أولاً ويُشاور نفسه هل يستطيع أن يُلاقي بعشرة آلاف مَن يأتي عليه بعشرين الفاً ” ( 32 ) ” والا فيرسل سفارة وهو بعيد ويلتمس ما هو من أمر الصلح ” ( 33 ) ” فكذلك كل واحد منكم ان لم يرفض جميع أمواله فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً ” ( 34 ) ” الملح جيد ولكن اذا فسد الملح فبماذا يُملح ” ( 35 ) ” انه لا يصلح للأرض ولا للمزبلة بل يطرح خارجاً . مَن له أذنان سامعتان فليسمع

     مقصد السيد من مثَلي باني البرج والملك المحارب غيره أن يدلنا على ان مَن يرغب في التتلمذ لهُ يلزمه ترك الاموال الارضية والتعلق بالروحيات وان لم يكن شاعراً من نفسه انه سيهجر التعلق بالدنيويات فواجبه عدم التتلمذ لئلا يبتدئ في أمر ولا يكمّله فيسمى عمله عاراً عليه بين الناس ويناله العذاب . فبناء البرج حصين يقرب بعلوه حتى السماء ويُؤلفه الأعمال الصالحة ويُصعد عليه بالتجارب وقمع الاهواء . وافهم أيضاً بالبرج البرارة وبنفقاته اماتة شهوات الجسد وبتكميل بنائه السعي المتواصل في البرّ لان الانسان لا يمكنه أن يبدأ بالخير وينتهي بالشرّ . ثم شبه سيدنا التتلمذ لهُ بالحرب لان تلاميذه يقاتلون الشيطان وجنوده والجسد وشهواته المؤذية واعنى بالملك العقل وبالعشرة الآلاف العشر الحواس الجسدية والنفسية وختم بما معناه : ان كل مَن لم يترك مقتناه الجسدي للتمسك بالروحيات لا يقدر على أن يكون تلميذاً لي وكل مَن سار سيرة مكرّمة مزينة بالفضائل ثم مال عنها الى ملك الرذائل ورفض اصلاح خلله وتقويم اعوجاجه أمسى أرذل من كل الناس ومثله مثل الملح النافع لكل الاطعمة فاذا تغير طبعه امسى لا يصلح لشيء وارذل من الزبل

     انظر أيضاً شرح بشارة متى 5 : 13

( الاصحاح الخامس عشر )

( مثل الخروف الضالّ )

( 1 ) ” وكان العشارون والخطأة يدنون منه ليستمعوه ” ( 2 ) ” فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين ان هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم ” ( 3 ) ” فخاطبهم بهذا المثل قائلاً ” ( 4 ) ” أيّ رجل منكم اذا كان له مئة خروف فاضاع واحداً منها لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي في طلب الضالّ حتى يجده ” ( 5 ) ” فاذا وجدهُ يحمله على منكبيه فرحاً ”           ( 6 ) ” ويأتي الى البيت ويدعو الأصدقآء والجيران ويقول لهم افرحوا معي فاني وجدت خروفي الضال ” ( 7 ) ” أقول لكم انه هكذا يكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثر مما يكون بتسعة وتسعين صديقاً لا يحتاجون الى التوبة ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 18 : 12 – 14

( مثل الدرهم المفقود )

     ( 8 ) ” أم أية امرأة اذا كان لها عشرة دراهم فأضاعت منها درهماً واحداً لا تُوقد سراجاً وتكنس البيت وتطلبه باهتمام حتى تجده ” ( 9 ) ” فاذا وجدته تدعو الصديقات والجارات وتقول افرحنَ معي فاني وجدت درهمي الذي أضعته ” ( 10 ) ” أقول لكم انه هكذا يكون فرح عند ملائكة الله بخاطئ واحدٍ يتوب ”

     ان المرأة لا تلام اذا طلبت ما ضاع منها بل يفرح معها الكثيرون اذا لقيت درهمها وكذا أنا لا ألام اذا قبلت الخطأة التائبين اليّ بل أمدَح على عملي وأنتم أيضاً افرحوا معي برجوع الخطأة الراجعين الى الندامة وأوّل المرأة باللاهوت والدرهم الضائع بالطبيعة البشرية الهالكة في المعصية والتسعة دراهم التي لم تفقد بالملائكة وافهم بالسراج جسد سيدنا الذي اتحد بلاهوته فأضاءَ بني البشر الذين نالهم العمى بسبب ضلالهم . وبكنس البيت وطلب الدرهم باهتمام اعتناء المسيح بالعالم ودعوته الخطأة اليه وكما تدعو المرأة جاراتها وصديقاتها للفرح معها بوجود مفقودها هكذا السيد يدعو الملائكة والابرار القريبين منه والمحبين للبشر ليفرحوا معه بمن يتوبون ويكون سرورهم كبيراً لانه يعقب الحزن والكدر . وبعد الاكتئاب يشعر المرء بعذوبة الاغتباط اكثر من سائر الأوقات . فضلاً عن ان رجوع الخطأة المتصلبين نادر والنادر يفرح به مَن يجده اكثر من فرحه بما امامه . وفسر أيضاً المرأة بكنيسة اليهود التي اوقدت سراجاً أي وضعت على الجلجلة ابن الله الحبيب . وفسر العشرة دراهم بالعشر وصايا . وقد انطفأ السراج أي نور السيد المسيح عن اليهود بموته على الصليب لكنه اضاءَ اضاءة عقلية للامم والشعوب

( مثل الابن الشاطر )

     ( 11 ) ” وقال رجل كان له ابنان ” ( 12 ) ” فقال أصغرهما لأبيه يا ابتِ اعطني النصيب الذي يخصني من المال فقسم لكل منهما معيشته ”

     يدعو السيد المسيح ابا رجلاً وافهم بالابن الاكبر طغمة الملائكة البرَرَة بكمال افكارهم وفضل سيرتهم وبالابن الاصغر جوقة الخطأة ذوي الرأي السخيف الصبياني . وسمّى لهُ المجد الآب أباً لهذين الابنين لا بالطبيعة بل بالذخيرة والنعمة لانه هو وحده ابن الآب بالطبيعة وقد صار شبيهاً بنا بتجسده من البتول الطاهرة وانما يمنحنا البنوة بالذخيرة بقوة العماد الذي نقتبله . وان سألت ما المفهوم بالنصيب الذي يطلبه أصغر الولدين ؟ قلتُ انه الحرية التي ميز بها تعالى النفوس التي خلقها وأعطاها الناموس الطبيعي والناموس المكتوب وهو ناموس موسى وزيّنها أيضاً بالحكمة والمعرفة ومن الواضح ان في المثل يخيّل سيدنا ان هذه النفوس تطلب نصيبها أي حريتها وهي غير موجودة بعد الّا انها ستُوجد يوماً ما وهي موجودة بنوعٍ في سابق علم الله . وان قلتَ كيف قسمتها من ميراث لآب وهي غير مخلوقة بعد فافهم ان السيد المسيح كمعلّم كاملٍ سامٍ انما ذكر المثل ليعلّم كيف كانت حالة من خُلقوا ويسمعونه وكيف أَن طَبَعَهم الله على التمييز والحرية . ومن الأكيد انهم لم يخاطبوا الله بالكلام الشفهي بل هي رواية حال يمثلها ربنا أيضاً في قوله قسم لهما ماله دلالة على ما أعطاهما من الحرية التي يستخدمونها لا سيما في زمن الشباب والحرية واحدة يتساوى فيها البررة والخطأة .

     ( 13 ) ” وبعد أيام غير كثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء له وسافر الى بلد بعيد وبذّر ماله هناك عائشاً في الخلاعة “

     ضبط الابن ما كان يمتلكه كحريته وماله وهجر الله وهو معنى سفره الى البلد البعيد أي انه ابتعد عنه تعالى وما أراد حفظ وصايا فأتلف بسلوكه القبيح ورذائله حريته التي هي نعمة كبرى الهية ولاشى سلطان نفسه على اهوائه بتركها تسود عليه . واعمال تمييزه باقباله على محو القداسة فيه وهتك الطهر والعفاف بحيث امسى كالحيوان وعاش غير مفكّر بيوم الدين الرهيب وبعدل وانتقام الله الديان

     ( 14 ) ” فلما أنفق كل شيء له حدثت في ذلك البلد مجاعة شديدة فأخذ في العوز ”     ( 15 ) ” فذهب وانضوى الى واحد من أهل ذلك البلد فأرسله الى حقله يرعى الخنازير ”

     بعد ان مسّ حريته التلف بما أتاه من ضروب الرداءة ضربته الخطية بالجوع وكانت ارادته الخبيثة ملتهبة بنيران الشرّ والخبث فأكلت هذه النيران كل ما كان قد اقتناه من الفضائل فتعرّى منها واحتاج في فقره الى غيره فقصد الشيطان وخضع لهُ وهو المعني بقول لوقا     ” واحد من أهل ذلك البلد ” ومن المقرّر ان صاحب الخطية المعنية يضبطه شيطانها لا غيره فالزاني يكون تحت سلطان شيطان الزنى والسارق تحت أمر شيطان السرقة . وزيد : ان الشيطان أرسله الى حقله يرعى الخنازير دلالةً على شهوة الزنى التي تملكت فيه فالحقل هو حانوت المعصية وماخور الخنازير أي الزناة الفاجرين الفاسقين وما أطبق التشبيه لان الخنازير أسمج الحيوانات منظراً واكثفهم مأكلاً ومشرباً .

     ( 16 ) ” وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله ولم يعطِه أحد “

     كان اشتياقه شديداً الى الزنى والعادة ان الفاسق لا يشبع من فسقه ولو أكثر منه اكثاراً. والخطية شبيهة بالخرنوب الذي عجوتهُ صعبة الانكسار ولو ان داخله حلو فان الزاني يرى خطيته حلوة في أولها الّا ان الندامة تعقب فعلته الشنعاء . وأوّلَ أيضاً الخرنوب بأفعال النجاسة التي هي فراغ الفضيلة أو بالخراب الذي لا عمار فيه أي لا خير وهو مأكول الخنازير ودليل الشراهة المرافقة الزناء . وافهم بالقول ” انه لم يعطهِ أحد ” انه كان يفعل فعل الدعارة ولا تشبع شهوته ويطلب المزيد ولا ينال

     ( 17 ) ” فرجع الى نفسه وقال كم لأبي من أجرآء يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعاً ” ( 18 ) ” أقوم وأمضي الى ابي وأقول له يا أبتِ قد خطئت الى السماء وأمامك ”    ( 19 ) ” ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً فاجعلني كأحد اجرائك ”

     الرجوع الى النفس هو التفكّر في السعادة الاولى التي كان بها مشمولاً في بيت أبيه . والاجراء هم الخطأة الذين يتوبون فيجلسون على أبواب الكنيسة لان بيت أبي تأويله البيعة المقدسة الّا ان خوف الله المدلول عليه بالخبز موجود في قلوبهم وبحق يُدعون أجراء عاملين للبرّ والتقوى واعلم ان مَن يعمل الصلاح ينقاد لاحد ثلاثة اما للفضيلة أو للأجر في الآخرة أو لخوفه من العذاب والغاية الاولى هي غاية البنين في بيت ابيهم اما الثانية فهي غاية الخدامين والثالثة غاية العبيد وكان الابن الشاطر محروم كل هذه الغايات أي ليس فيه خوف الله ولا عمل صالح فخالجه فكر الرجوع الى أبيه ليقول ان خطيته بلغت حتى عنان السماء ولا يستحق ان يدعى ابناً بسبب معاصيه كما كان في بدء الامر بل يرغب في أن يكون كالاجراء الذين لم يقبلوا بعدُ المعمودية بل يُنتَظر منهم أن تكمل توبتهم

     ( 20 ) ” فقام وجاء الى أبيه وفيما وهو بعيد رآه أبوه فتحنن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبلهُ ”

     قيامه الى أبيه هو رجوعه الى الربّ تائباً وعندما كان قلبه مملواً من أفكار التوبة كانت مراحم أبيه فائضة ولهذا المعنى أسرع أبوه اليه ولم تشمئز نفسه من قذارة ابنه المتلوّث بحمأة الخنازير فانظر حنان العليّ الذي لم يصبر الى أن يأتي اليه الخاطئ بل يسرع نحوه ويقرع على باب قلبه واذا آنس منه ندماً انحنى عليه وعانقه ونسي عصيانه ومخالفاته وقبّل شفتيه النجستين ولا يعاف رائحتهُ النتنة ولا خشونة جسمه الذي افسدته ادناس الخطية

     ( 21 ) ” فقال له الابن يا أبتِ قد خطئت الى السماء وأمامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً ”

     اعلن الابن قداسة الله ونجاسة نفسه وبقوله اخطأت الى السماء اقرّ بأن الله فيها وانها مقرّ الابرار من الناس وان الخاطئ يفقدها ويهجر الله باقترافه الخطية . وقائلٍ لاي الاسباب لم يقل لابيه : اجعلني كأحد اجرائك وكان قد قصد هذا القول ؟ الجواب ان محبة أبيه سبقته وما أبت عليه مغفرةً ثم ولو انه لم يقل ذاك القول بلسانه فقد قاله بحاله وبما أظهره في هيئته من الذلّ والاتضاع والندم .

     ( 22 ) ” فقال الأب لعبيده هاتوا الحلة الأولى وألبسوه واجعلوا في يده خاتماً وفي رجليه حذآء ” ( 23 ) ” وأتوا بالعجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح ” ( 24 ) ” لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد . فطفقوا يفرحون ”

     افهم بالعبيد الملائكة الذين يفرحون برجوع التائب والكهنة أيضاً الذين يعمّدون وبالحلة المعمودية الغافرة للخطايا . وبالخاتم الايمان والبنوة التي هي عربون الحياة الآتية والعودة الى السيادة على الشيطان والخطية والى الميراث السماوي والى الاشتمال بنعمة الروح القدس . وبالحذاء السيرة الفاضلة وطريق البرّ والقداسة طبقاً لمرسومات الانجيل وبالعجل ابن الله الوحيد المسمّى أيضاً خروفاً والمسمّي نفسه ثوراً ووُصف بالمسمّن لانه شبعان من العلف بسبب عظمة لاهوته . وبالاكل والفرح الشركة في الاسرار المقدسة وفيها الابن الضالّ يغتبط بغفران آثامه وبمواهب النعمة والروح ثم الله وابراره يلتذون برجوعه وندامته وقد كان ميتاً عن الاعمال الصالحة بكثرة الشرور التي تدنس بها لان محبة الدعارة موت والاستغراق في الجسديات موتٌ عن الروحيات ثم قد كان شارداً في عيشة ردية هالكاً في بحرها . اما الآن فأتته الحياة بالنعمة ورجع الى الله .

     ( 25 ) ” وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما أتى وقرب من البيت سمع أصوات الغنآء والرقص ” ( 26 ) ” فدعا أحد الغلمان وسأله ما هذا ” ( 27 ) ” فقال له قد قدم أخوك فذبح أبوك العجل المسمن لأنه لقيه سالماً ”

     يراد بالابن الاكبر جماعة الصالحين الابرار في هذه الدنيا وبالحقل المكان الذي يجري فيه الخير وان عامل الصالحات كالعامل في حقل يحيا حياة تعب ومشقات وكذا لا يقوى المرء على اتيان البرّ بدون تعب وأوَّل البيت كما مرّ بك بالبيعة أو بالعالم ان أردتَ واصوات الغناء بكرازة الانبياء والرسل أو بفرح الملائكة ومسرّتهم برجوع الخاطئ الى التوبة . وقد استعلم الابن الاكبر احد الغلمان الحاضرين العالمين بسبب الرقص والغناء فأجابه بما تفسيره : ان أخاك عاد من حمأة الخطية الى طهر الفضيلة فأشركه ابوك في الاسرار المقدسة لانه لقيه سالماً من العطب بعد ان كان ميتاً في الخطية

     ( 28 ) ” فغضب ولم يُرد أن يدخل . فخرج أبوه وطفق يتوسل اليه ” ( 29 ) ” فأجاب وقال لأبيه كم لي من السنين أخدمك ولم أتعدّ وصيتك قط وأنت لم تُعطني قط جدياً لأتنعم مع أصدقائي ” ( 30 ) ” ولما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن ”

     غضب الابن الاكبر ممثّل لغضب الكتبة والفريسيين الذين كانوا يأبون رجوع العشارين والخطأة الى التوبة وأيضاً لغضب بعض الصديقين في أيامنا هذه الذين يتماهون في ارجاع العاصين الى الطاعة وفي قبولهم ويعلنون أفعالهم السيئة . وان الأب خرج ليقنع ابنه باللين والتودة بان يتخلّق باخلاقه أي بان يرضى كل الرضى بتوبة التائب ويفرح معه كما يفرح الملائكة العلويون بانابة الشاردين الى الله . فأخذ الابن يذكر ما كان عليه في سلوكه الماضي مدة زمان طويل من حفظ الوصايا والائتمار بالاوامر والسعي وراء مرضاة أبيه ومن كلامه ما معناه : اني لم ازنِ ولم أسرق ولم آخذ الكذب والخداع ديدناً ولم تعطني جدياً لأتنعم به مع اصدقائي . وافهم بالجدي في المعنى الروحي الشهوات القبيحة فانها تجعل المرء وقحاً تائهاً ذا خفة وطيش جموحاً يتعذر كبحه ومظلم العقل والادراك لا يفقه ما الله والفضيلة . والجدي أسود اللون يتسلق الصخور غير منتبه للمخاطر وغير حذر من المهالك وأيضاً قد شبّه ربنا بالجداء الأشرار الهالكين الذين سيقيمهم من عن شماله في الدينونة العامة . اذن ان المراد بقوله : لم تعطني جدياً ان عنايتك سندتني ولم أترك وصاياك وان وصاياك هدتني فلم أتعلّق بشهوات النفس ولم تعطني روحاً مظلمة ولم تسلمني الى المعرفة الباطلة ليقسو قلبي كما قسا قلب فرعون ولم تأذن لي بان أسلك في طريق الملاهي والآثام التي يمثلها الجدي بل كما أمرتني حفظت ارادتك وصددتُ عن اتباع ارادتي المائلة بي الى الشرّ ولذلك لم أتنعم مع افكاري الخبيثة ولم التذ بشهواتي النجسة التي يعدّها الانسان الجاهل اصدقاءَ له في حياته . ومن المعلوم ان اتباع الشهوة والاميال الغريزية يرجع بالانسان الى حالة الطفولية التي لا يميز فيها النافع من الضارّ وقد يلذّ لهُ هذا الاتباع لانه اثارة لشهوات الحواس والجسد الّا انه وخيم العاقبة شديد الضرر

     ( 31 ) ” فقال له يا بني أنت معي في كل حين وكل ما هو لي فهو لك ” ( 32 ) ” ولكن كان ينبغي أن نتنعم ونفرح لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد ”

     جواب الأب هو الثناء العاطر على ولده ومفاده . أنت حافظ وصاياي في كل آن واين . أنت مقيم دائماً في حضن الكنيسة ومواصل الصوم والصلاة . ومن الثابت ان مادام الرجل يفكّر في الله فهو مع خالقه يفرّح القلب بالتأمل في الخيرات السماوية التي يكون مالكاً لها بالنعمة ويتأمل نيلها بالرجاء يوماً في سعادة لا انقطاع لها ولاحظ هنا الفرق بين حالة البارّ وحالة الخاطئ التائب فالاول مع الله في دولته شريك مواهبه يتصرف بها مثلما تقتضيه حالة الشريك أما الثاني فانه ينعم عليه بان يأكل ويشرب من الخيرات الروحية . وقبوله لا يجعل له دالة حالاً كم للابرار لأن الجرح ولو بَرِيءَ الّا ان أثره باقٍ في الجسم ولا يقوى صاحبه على ما يقوى عليه مَن لم يمسّه عطب . وان شئت ان تعرف ما الادلّة التي كان الأب قادراً على ايضاحها لاقناع ابنه الاكبر بما عمله فاعلم اننا نحصرها في أربعة . الأول : يا ابني مَن يرى ميتاً يحيا ولا تنال قلبه الرحمة عليه . فأخوك حُيي فحملني قلبي على اتيان ما فعلتُ . الثاني : عندما قابلني أخوك قال بصوت الندامة . خطئت الى السماء وامامك فحركت هذه العبارة مني احشاء الرحمة والتحنن وما عادتي أن اكون قليل الرحمة فلذلك قبلتهُ وصنعت معه ما صنعتُ. الثالث : أنا لم أجرّدك مما لك ولم أعرّك من حلتك لألبسه اياها ولم آخذ من أصبعك الخاتم لأضعه في أصبعه فمن مالي منحته كما انّ ما عندك قد أتاك من خيري . الرابع كما اني أبوك فأنا أبوه واني اكرمك لفضيلتك واتحنن عليه لرجوعه عن غيّه ولقيامته من حالة التعاسة والموت الادبي الذي كان سائداً عليه . وانتبه الى ان عادة مخلصنا ان يدعو الله اباً عندما يعاملنا بالرأفة واللين . وديّاناً ان اراد الانتقام منا بسبب معاصينا وتأديبنا كما نستحق . وملكاً ان اعلنه ذا سلطان وأمر . ومانحاً الهبات والعطايا . وربّ بيت ان شاء اظهار عنايته بالخلائق . وقد نظرتَ انه سمّى نفسه في المثل الحاضر اباً بسبب شفقته وغزارة رأفته .

 

 

 

 

( الاصحاح السادس عشر )

( في وكيل ظالم صنع بحكمة )

     ( 1 ) ” وقال لتلاميذه كان رجل غنيّ له وكيل فوشي به اليه بأنه يبذر أمواله ”

     ان هذا المثل قد أَعنى به مخلصنا حالة الاغنياء الذين ينفقون أموالهم في غير سبيله تعالى وعلى خلاف الواجب واللياقة . والرجل الغنيّ يمثل الأب السماوي مالك الغنى كله وواهب المواهب والاموال لبني البشر . اما الوكيل فهو رمز الى كل مَن يقتني المال من ذهب وفضة وعقار ومنقول فهو وكيل عليه . لهُ فيه حق الانتفاع اذ لا بدّ ان يهجره يوماً . والوشاية هي الشكاية من صاحب المال الذي يستخدمه اما لظلم الناس وقهرهم أو لثلب شرفهم وهدم سمعتهم أو لاشباع شهواته الدنسة أو للافتخار الباطل فانين المظلومين وتبرّؤ الفضيلة يشيان امام الله باعمال الاغنياء الظالمين .

     ( 2 ) ” فدعاه وقال له ما هذا الذي أسمع عنك أدّ حساب وكالتك لأنه لا يمكن أن تكون لي وكيلاً بعد ” ( 3 ) ” فقال الوكيل في نفسه ماذا أصنع فان سيدي يعزلني عن الوكالة ولا أستطيع الفلاحة وأخجل أن أستعطي ” ( 4 ) ” قد علمت ماذا أصنع حتى اذا عزلت عن الوكالة يقبلونني في بيوتهم ”

     دعوة الله للناس قبل السيد المسيح كانت بالناموس الطبيعي ثم بشريعة موسى والانبياء . وقول الله للغنيّ المبذّر ” ما .. اسمع عنك ” مشابه لما قاله من ان صراخ سادوم وصَل اليّ فهو عارف بكل شيء وانما يستخدم نوع التعبير المذكور للتوبيخ والتقريع ثم انما يطلب الحساب من كل انسان في الآخرة عندما يعرّيه من مقتناه وينقله من العالم فلا يظلّ وكيلاً بعد ويمتنع عن ظلم المساكين . واذ علم الوكيل من الناموس وصوت ضميره انه سيدان ويحكم عليه فكر كالابن الشاطر في وجه الحيلة ليتمكن من العيشة براحة وكان ذلك يوم وفاته فقال : لا استطيع الفلاحة أي لم اقتن الملكوت السماوي أو لا اقدر على العمل والعيشة من تعب يدي على شبه مَن يحفر الآبار لان العالم الآتي هو عالم المكافأة لا التعب والكدّ . وأيضاً لا اقوى على الاحسان والرأفة بالفقير لان العالم الآتي تُعطى فيه الأجرة كل حسب استحقاقه . وفسر بعضهم عبارة لا استطيع الفلاحة باني لا اقدر ان أحفر في الارض وأخفي فضّة سيدي لاني راحل عنها وتارك الدنيا . ثم اني استحيي ان اطلب الحسنة والصدقة ممن لا يرحمون لان هناك لا يتصدّق أحد ولا العذارى الحكيمات يعطين الجاهلات من زيتهن ولكني أجد حيلة وهي ان أعطي في هذا العالم شيئاً قليلاً فآخذ بدلاً منه في العالم الآتي مالاً كثيراً وان وهبتُ ما تحت يدي هنا اخفّف ثقل خطاياي حتى اذا خرجت من اعالم الفاني يقبلني سكان العالم الخالد في النعيم واتمتع معهم باللذات الأبدية

     ( 5 ) ” فدعا كل واحد من مديوني سيده وقال للأول كم عليك لسيدي ” ( 6 ) ” قال مئة بث زيت . فقال له خذ صكك واجلس مُسرعاً واكتب خمسين ” ( 7 ) ” ثم قال للآخر وأنت كم له عليك . قال له مئة كرّ حنطة . فقال له خذ صكك واكتب ثمانين ” ( 8 ) ” فأثنى السيد على وكيل الظلم لأنه صنع بحكمة فان أبنآء هذا الدهر أحكم من أبنآء النور في جيلهم ”

     دعا المظلومين مديونين وسمّوا مديوني سيده لان المال ليس لهُ بل لسيده وانما هو وكيل عليه . ثم وهب واحداً خمسين بالمئة من دينه واعطى الآخر عشرين . وافهم بالزيت الرحمة . واذ ذهب خمسين بث زيت فكأنه قال للموهوب لهُ . اني مظهر لك نصف الرحمة الواجب ان تكون فيك . واتى بعدئذٍ بذكر الحنطة دلالةً على ان الاغنياء يخطفون من المساكين نوعي غلّة نافعين أكثر من غيرهما لمعيشة الانسان وهما الحنطة والزيت . واستوجب وكيل الظلم الثناء من السيد لانه اصلح نفسه بعد فسادها بالظلم والاعتداء على الغير وبانفاق الاموال في غير سبيلها فكان عمله حكمة وصلاحاً لانه بدّل قسوته رحمة واستغفر بتصدّقه عن معاصيه

( تفسير المثل بتطبيقه على الطبيعة البشرية )

     افهم بالرجل الغني السيد المسيح لهُ السجود . وبالوكيل عقل الانسان المسلّط على النفس والجسد يدبّرهما كيفما يشاء وان الانسان بما فيه من الحواس والقوى العقلية والجسدية وبما يرتبك به من الاهتمامات والمطالب المتعددة يشبه مملكة أو بيتاً يقتضي تدبيراً . فوُشي بالعقل الى الله أي تقدمت الشكوى عليه بانه يسيء السلوك ويسير سيراً شقياً فيهلك حريته بالمعصية ويبدّد سلطته الشخصية في الخلاعة . فغضب الله على العقل ولم يُرد ان يتركه يواصل تدبيره وطلب منه حساباً عن طهارة جسده وصلاح افكاره وكان الانسان قد شاخ وطعن في أيامه فقال : لا اقدر الآن على اتيان الاعمال الصالحة وقد كنت قادراً فيما مرّ فلم اعمل . ثم لا يمكني ان اطلب من الناس ان يعطوني أو يعيروني أعمالهم الصالحة لان كلاً يعتني بأمر نفسه . واذ ذاك عاد العقل الى صوابه واستدعى الى محكمته النفس والجسد وامرهما بحفظ الطهر والعفاف والوصايا . وافهم بالزيت سرّ رحمة الله الذي بدونه لا يقوى أحد على صيانة بالعفة وبالحنطة النعمة التي تطهّر وتقدّس . وقد تسمّى العقل وكيل الظلم لان النفس بارادتها واختيارها تميل الى الشرّ بتحريض العقل وادراكه الامور على غير ما هي

     ولا بدّ من تأويل تسمية أبناء الدهر وأبناء النور ولذلك معانٍ متعددة . الأول أبناء الدهر هم الأغنياء ذوو الاحسان والرحمة . وأبناء النور هم ذوو الفضل والقداسة وتفسير الآية انه يسهل على الأغنياء أن ينالوا البرارة بأعمال الرحمة والشفقة أكثر مما يسهل على القديسين البررة من أن يزيدوا درجة فضائلهم والنعمة المبررة فيهم بامتدادهم في أعمال الأماتة والتقشف فيكون المعنى انه يسهل على الأغنياء أن ينالوا الملكوت السماوي بأعمال التصدّق والرحمة أكثر مما يسهل على الرهبان ودليل ذلك ان الأغنياء يصيبون البرّ بتوزيع مالهم اما الرهبان فيلزمهم الصوم والصلاة ومقاتلة الأرواح النجسة والشهوات الذاتية وهذه أعمال صعبة جداً باطنية في الانسان وأشد قسوة من ايهاب المال – الثالث : المحسن بماله يلحقه المدح والمجد لأن الناس تنظر اليه والى افعاله اما مزاولة الفضائل فخفية مستورة وعليه يسهل على الأغنياء المتصدقين اتيان عمل الرحمة لأن لهم مشجعاً في اطراء الناس لأعمالهم أما العابدين المتوحدين فان لم يكن لهم من نفوسهم معين ومشجع فما أصعب ما يلاقونه في سبيل القداسة وليس المعنى ان هؤلاء أقل درجة في الفضيلة وفي المجازاة السماوية من أولئك – الرابع : ان أكثر الناس يفرحون بمشاهدة الغني مساعداً المحتاج ويثنون عليه . واذا رأوا ذوي التقوى يباشرون أعمالاً متعبة لا يمدحونهم لأنهم لا يعرفون أن يقدّروا فضل العمل حق قدره اذ يبهرهم الظاهر . ولهذا المعنى يُسمّي الأغنياء أحكم من غيرهم لما ينالونه من المدح والثناء – الخامس ابناء العالم أحكم أي انه ينالهم تعزية وسلوان لما يكسبونه في الحياة الدنيا اما الزّهاد فيتجردون من حطام الدنيا ناظرين الى عالم آخر روحاني محض . السادس : ابناء النور هم الشياطين لانهم من نور خُلقوا فابناء العالم أحكم لانهم يتوبون بعد اقتراف المعصية بعكس الأبالسه الذين لم يتوبوا بعد ان أخطوا

     ( 9 ) ” وأنا أقول لكم اجعلوا لكم أصدقآء بمال الظلم حتى اذا أدرككم الاضمحلال يقبلونكم في المظالّ الابدية ”

     هذا استنتاج السيد لهُ المجد ما أراد أن يعلّمه بالمثل فقال ما معناه : أشير عليكم أن تجعلوا لكم من أموال الدنيا وما فيكم من الاهواء والشهوات أصدقاء وأصحاب فاحسنوا بالمال على الفقراء . والمال ظلم لأنه يجمع بالاثم في كثير من المواقع ويدعو الى ظلم الغير فان أنفقتموه على المساكين فتحوا لكم النعيم الخالد الذي وعد به الله مَن احتمل في العالم الفقر والفاقة . وأيضاً سمي المال ظلم بالنسبة الى غناء العالم المزمع

( في الأمانة وعدم امكاننا أن نعبد ربين )

     ( 10 ) ” الأمين في القليل أميناً في الكثير والظالم في القليل يكون ظالماً في الكثير ”    ( 11 ) ” فان كنتم غير أمنآء في مال الظلم فمن يأتمنكم على مال الحق ” ( 12 ) ” وان كنتم غير أمنآء فيما ليس لكم فمن يُعطيكم ما هو لكم ”

     الامانة في القليل أي في خيرات هذا العالم التي تعدّ قليلة تافهة بالنسبة الى خيرات الآخرة التي لا نهاية لها . أو الامانة في اقتناء خيرات هذا العالم وعدم استخدامها لما يهين الله تورث الانسان حقاً على ان يأتمنه العليّ على اموال السماء وان كان المرء غير امين في خير العالم الذي ليس لهُ لانه فانٍ وزائل عنه أي لا يتصرف فيه التصرف الممدوح الذي يأمره تعالى به فكيف يتوصل الى نيل الخيرات الثابتة الباقية التي يعدّها الله لمحبيه الامناء

     ( 13 ) ” لا يستطيع عبد أن يعبد ربين لأنه اما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يُلازم الواحد ويرذل الآخر . لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال ”

     قد مرّ أيضاح ذلك في شرح بشارة متى 6 : 24

( توبيخ المسيح للفريسيين )

     ( 14 ) ” وكان الفريسيون الذين هم بخلآء يسمعون هذا كله ويستهزئون به ”           ( 15 ) ” فقال لهم أنتم تزكون أنفسكم أمام الناس لكن الله عالم بقلوبكم لأن الرفيع عند الناس هو رجس أمام الله ”

     كان الفريسيون يحبون الفضة والكبرياء فأخذوا يسخرون بربنا . وكان ناموس موسى يَعِدُهم باموال العالم وخيراته اما السيد لهُ المجد فشرع يعلّمهم التصدّق بالفضة على المحتاجين والتجرّد من محبتها لينالوا السماء . ووبخهم على تعظيم نفوسهم وتبرير ذاتهم واعلانهم عن اشخاصهم انهم افضل من غيرهم واعظم ممن سواهم

     ( 16 ) ” بقي الناموس والأنبيآء الى يوحنا ومنذ اذ يُبشر بملكوت الله وكل يغتصب نفسه اليه ”

     انظر شرح بشارة متى 11 : 12

( وجوب تتميم الناموس واثم اطلاق الزوجة )

     ( 17 ) ” وأن تزول السماء والأرض أسهل من أن يسقط نقطة واحدة من الناموس ”

     راجع شرح بشارة متى 5 : 18

     ( 18 ) ” كلّ مَن طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى ومَن تزوج التي طلقها زوجها فقد زنى ”

     انظر شرح بشارة متى 15 : 31 و 32 و 19 : 3 – 9

( في الرجل الغني والمسكين لعازر )

     ( 19 ) ” كان رجل غنيّ يلبس الأرجوان والبز ويتنعم كل يوم تنعماً فاخراً ”

     غاية السيد من هذا المثل ان يبين للاغنياء وجوب التصدق على المساكين والّا كان مأواهم النار وبئس المصير وندموا حين لا ينفع الندم . وهل وقع الحادث بالفعل كما يرويه المخلص . فقد اختلف المفسرون فمنهم مَن أجاب بالانكار قالوا : ان السيد اخترعه ليلقي تعاليمه السامية ولو انه وصف مضبوط لواقعة حال لا يتعذر وجودها . واجاب فريق مميزاً قال : ان جزءاً من المثل جرى فعلاً وذلك كل ما يُروى انه وقع في زمن مضى كوجود رجلين احدهما غني يُدعى نفتالي من سبط دان والآخر لعازر . وأما الجزء الآخر الذي يروي ما سيحدث فقد زاده المخلص وذلك لان الابرار لم ينالوا النعيم ولا الاشرار سقطوا في العذاب حتى يُقال ان لعازر يتلذذ متنعماً وان الغني تعذب لان الرسول بولس يقول ” لم ينالوا الموعد ..لكي لا يكملوا دوننا ” ( عب 11 : 39 و 40 ) ثم نقول ان بعض المثل حدث في الواقع وقد كان الغني من بني اسرائيل وانك تستنتج ذلك من مناداته ابراهيم بكلمة يا ابتاه ومن جواب ابراهيم بكلمة يا ابني ثم من قوله : عندهم موسى والانبياء . وأيضاً كان الغني من الكهنة . لانه موصوف بلبس الحرير والارجوان . وروى القديس كيرلّس انه من سبط دان وان اسمه نفتالي كما تقدّم . اما لعازر فكان من عامّة الناس ومن قبيلة الجبعونيين يقوم بباب بيت الغني على مزبلة تُدعى حتى الآن باسمه . وكانت الجروح والقروح تغطّي جسمه وكثيراً ما يطمر رجليه في تراب المزبلة قصدَ ان ينال بعض التخفيف لاوجاعه واعلم وفّقك الله الى كل خير ان الغنى والفقر في ذاتهما لا يُعدّان شراً لكن سوؤ استخدامهما يجعل المرء من الاخيار أو الاشرار . فكل غني مقرون ببخل شرّ وان صحبته الرحمة والتصدّق كان خيراً لصاحبه . وكذا الفقر مع الصبر والاحتمال والخضوع فضيلة . وبدون تسليم لعناية الخالق رذيلة . وقد أوضحنا هذه المبادئ في تأليفنا المعنون : في العناية الربانية .

     ( 20 ) ” وكان مسكين اسمه لعازر مطروحاً عند بابه مُصاباً بالقروح ” ( 21 ) ” وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة الغني ولم يعطهِ أحد وكانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه ”

     هنا وصف حالة الغني اولاً . ولم يذكر اسمه لعدم استحقاقه ان بسميه الله بلسانه وشفتيه. فأخبر عن شغفه بالزهو والافتخار الباطل والكبرياء وعن شرهه وبذخه . ثم وصف حالة المسكين الذي سمّاه اعلاناً لصبره الجميل واحتماله الشدّة والبأساء . وقد اختلف الشراح في معنى لعازر . فقال قوم بأن تأويله مسكين . وقال آخرون بانه يُعني حنوناً واما نحن فنقول ان تفسيره عون الله . فلعازر كان مصاباً بالجذام بعكس الغني الذي كان صحيح الجسم . ثم لاشتهائه أن يأكل ويشبع كان يزحف على يديه ورجليه في المزبلة ليلتقط الفتات المطروح خارجاً من مائدة الغني فيختلط بالكلاب التي تترك فضلة الطعام وتلحس المادة السائلة من جسده . لا بقصد أن تعذّبه بل لان عادتها اذا ما اصابها جرح ان تلحسه فيشفى . وقابلْ هنا بين ثياب الغني وحلله المغطية جسده وبين لحس الكلاب للقروح المخرجة القَيح والصديد .

     ( 22 ) ” ثم مات المسكين فنقلته الملائكة الى حضن ابرهيم ومات الغني أيضاً فدفن في جهنم ” ( 23 ) ” فرفع عينيه وهو في العذاب فرأى ابرهيم من بعيد ولعازر في حضنه ”     ( 24 ) ” فنادى قائلاً يا أبتِ ابرهيم ارحمني وأرسل لعازر ليغمس في الماء طرف أصبعه ويُبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب ”

     المدلول بحضن ابرهيم هو الاشتراك معه بالنعيم . نعم ان الانفس لا تقبل السعادة بالفعل قبل القيامة الا انها تشعر بالخيرات المعدة لها . وكما انتقل لعازر من الحزن الى الفرح انتقل الغني من الفرح الى الحزن وأخذ يشعر بانه سيتعذّب في النار . وهنا لاحظْ التمييز الذي يضعه الله الديان بين الاشرار والابرار فمن الاكيد ان الاشرار يتعذّبون ويضجون من هول العذاب . ثم ان الغني دعا ابراهيم اباه لا لانه ابوه الطبيعي بل اما لان ابراهيم جدّ آل اسرائيل وكان الغني منهم اما لان ابراهيم معروف بحبّه الفقراء والمساكين وبتعليمه عبادة الله الحيّ كالواجب وبعطفه على مَن مسّهم الضرّ ولكن شتّان بينه وبين الغني الهالك الذي يتوسل اليه . فابرهيم أحبّ الفقراء والغني رذلهم وأبغضهم . وسائلٍ لماذا لم يذكر الغني غير اسم ابراهيم أو اسامي أخرى معه كداود ؟ فالجواب ان ابرهيم كان أعرف من غيره لحالتي الفقر والغنى ثم كان كبير الشفقة على المساكين وأيضاً كان يفوق الناس كلهم بعواطف رحمته وحنانه .

     ( 25 ) ” فقال ابرهيم تذكر يا ابني انك نلت خيراتك في حياتك ولعازر كذلك بلاياه والآن فهو يتعزى وأنت تتعذب ” ( 26 ) ” ومع هذا كله فبيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أثبتت حتى ان الذين يريدون أن يجتازوا من هنا اليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبروا الينا ”

     سمّى ابراهيم مُناديه يا ابني اما لانه كان من الشعب الاسرائيلي اما لاعلانه ان القرابة بين الصالحين والطالحين ولو ثبت وجودها لا تفيد شيئاً . ثم افهمه انه نال سعادته في العالم وان لعازر نال فيه الفقر والاوجاع فلذلك تبدّلت تعاسته الى سعادة ومن هنا تعلم ان النفس بعد فراق الجسد بالموت تظلّ متذكرة أعمالها وعالمة بما أتته من الشرّ أو احتملته منه لان الشرّ نوعان أي اثم ومعصية وهو شر حقيقي واما مرض وضربات وهذه ظاهرها شرّ الا انها تؤول الى الخير ولا تُعدّ شروراً حقاً . وقابل أيضاً ابرهيم بين حالتي تعزية المسكين وعذاب الغني في الآخرة وما كان سببهما الّا ان هذا تعزّى في الدنيا وذاك تعذّب فيها . وتدرّج بعد ذلك الى وصف الهوة بين الفريقين الهالك والخالص وافهم بالهوة صوت الرب الصباؤوت الذي يعزل الصالحين من الطالحين أو الرقيع الذي على رؤوسنا لان الاشرار يبقون ههنا أسفل والأخيار يصعدون الى ما فوق الرقيع

     ( 27 ) ” فقال أسألك اذن يا أبتِ أن ترسله الى بيت أبي ” ( 28 ) ” فان لي خمسة اخوة حتى يشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضاً الى موضع العذاب هذا ” ( 29 ) ” فقال له ابرهيم ان عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم ” ( 30 ) ” قال لا يا أبتِ ابرهيم بل اذا مضى اليهم واحد من الأموات يتوبون ” ( 31 ) ” فقال له ان لم يسمعوا من موسى والأنبياء فانهم ولا ان قام واحد من الأموات يصدقونه ”

     من الغريب ان الغني الذي لم يعتني بنفسه في الدنيا يريد الآن الاعتناء باخوته الذين كانوا مثله بلا رحمة ولا شفقة على الفقراء . وفي تأويل الاخوة الخمسة اختلاف فعلى رأينا انهم الاغنياء القساة الفؤاد أو اليهود كلهم . وعلى رأي آخر انهم الحواس الخمس ولكن هذه الحواس قد بطلت وتلاشت بالموت فلا يمكن ان يفكّر الغني فيها . اما حواسه الباطنية التي في النفس فهذه يتعذر ان تنال البرارة بدون ان تتبرر معها الحواس الجسدية وان كانت هذه لم تتبرر فتلك مثلها أيضاً . ثم ان كان يتكلم عن حواس الاحياء فهذه الحواس هي عشر خمس نفسية وخمس جسدية اذن يظهر لك عدم صحة هذا الرأي الذي يفهم بالاخوة الحواس . وما دللنا عليه الّا لتوبيخ مَن يحاولون تفسير الكتب المنزلة وهم لها جاهلون . وقد اعنى ابرهيم بجوابه ان الاحياء لهم في ناموس موسى وكتب الانبياء ما يكفي لردعهم عن الظلم والمعصية ومشهور ان قام ابن الارملة وابنة يائيرس ولعازر من القبور ومَن شاهدوهم لم يؤمنوا .

     ويمكنك ان تجعل للمثل تأويلاً آخر وهو ان ترى في الغنيّ الشعب اليهودي . وفي لعازر المسكين الشعب الوثني المضروب بالقروح أي بالعادات الحنفية : وفي الكلاب الانبياء الذين يحاولون استئصال الخطية من هذا الشعب . فلعازر انتقل الى الملكوت أي الشعب الوثني دخل في حضن البيعة المقدسة . والغني يتعذّب أي ابتعد عن الله وما نال هبة قبول الانجيل وهو تائه في العالم يشتهي نيل الملكوت والنبوة والخلاص – وأيضاً لا مانع من أن ترى في الغني شعب اسرائيل . وفي لعازر سرّ المسيح المتأنس الذي كان راغباً في ان يتناول من اليهود اعمالاً صالحة لا فتاتاً . وفي الكلاب سرّ الوثنيين الذين يلحسون جراح المسيح أي يأكلون جسده ويشربون دمه . أو ترى في لعازر سرّ الرسل وفي الكلاب سرّ الوثنيين الذين قبّلوا جراح الرسل الاطهار وفي هذا القدر كفاية .

 

 

 

 

( الاصحاح السابع عشر )

( وصايا الرب فيما يتعلق بالشكوك والمغفرة )

     ( 1 ) ” وقال للتلاميذ لا بد أن تقع الشكوك ولكن الويل لمن تقع على يده ” ( 2 ) ”  انه خير له لو علق في عنقه حجر الرحى وطُرح في البحر من أن يشكك أحد هؤلاء الصغار ”

     انظر شرح بشارة متى 18 : 6 و 7

     ( 3 ) ” احترزوا لأنفسكم . اذا خطئ اليك أخوك فوبخه وان تاب فاغفر له ”              ( 4 ) ” وان خطئ اليك سبع مراتٍ في اليوم ورجع اليك سبع مراتٍ قائلاً انا تائب فاغفر له ”

     انظر شرح بشارة متى 18 : 21

( وصايا الرب في الايمان والتواضع )

     ( 5 ) ” وقال الرسل للرب زدنا ايماناً ” ( 6 ) ” فقال الرب لو كان لكم ايمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذه التوتة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم ”

     راجع شرح بشارة متى 17 : 20

     لم يطلب الرسل زيادة الايمان فيهم الّا لأن السيد لهُ المجد كان يكثر الكلام فيه والحمل عليه ومثّل لهم بحبة الخردل التي هي أصغر الحبوب لكنها اذا نبتت كبرت وتعاظمت وصارت شجرة . ومعنى كلامه : انتم تظهرون اضعف من الناس اجمعين فاذا تمسكتم بالايمان صرتم به ثابتين وعلى الآيات الباهرات قادرين بحيث ان قلتم للشجرة انقلعي انقلعت وانغرسي في البحر انغرست . وذكر لهُ المجد من الشجر التوت والجمّيز لانهما أكثر الاشجار اصولاً في بطن الارض فانقلاعهما اكبر صعوبة من غيرهما وانتبهْ الى ان قول المخلص ” لو كان لكم ايمان ” لا يعني انه لم يكن فيهم ايمان فانهم كانوا قد رذلوا الشهوات واجترحوا المعجزات وشاهدوا كيف عامل المعلم الالهي الكنعانية وقائد المئة واثنى الطيب على ايمانهما فمن المستحيل انهم لم يكونوا مؤمنين . وان اعترض أحد بانهم عجزوا عن شفاء الذي مسّه الشيطان فنجيب انه لم يكن لائقاً أن يشفوه وسيدنا حاضر فضلاً عن انهم أعلنوا ان الشياطين كانت تخضع لهم . فاذن قُلْ ان السيد لم يلمهم على عدم ايمانهم بل انما قصد ابعادهم عن السقوط في الكفر وعن الوهن في الايمان لانهم لم يسألوه هبة الزيادة في الايمان سؤال متواضع خائف من ضعفه بل قالوا لهُ زدنا كأناس واثقين بذاتهم ومفتخرين بانهم اقتنوا شيئاً وبانهم غير محتاجين الّا الى زيادة وكمال . ولما كان لاسمه السجود فاحص القلوب والكلى عرف نيتهم فوبخهم وأعطاهم مثل حبة الخردل . وربّ سائلٍ يقول : لماذا تصعب مزاولة الفضيلة ولأي الأسباب ترك الربّ الشيطان يحاربنا . فاعلم أولاً ان الله جعل ممارسة الفضيلة صعبة لتتمرن نفسنا على مخافته . ثانياً لتخلص محبتنا لهُ من الشوائب بشدة ما نقاسيه من الشدائد . ثالثاً لنعرف ضعفنا واننا لا نقوى على قهر الشيطان عدونا بدون اعانة نعمته العلوية . رابعاً ليفتضح خبث الأبالسة وكرههم لبني البشر فنعلم ان العذاب الخالد الذي هم فيه قد استوجبته أفعالهم فعاقبهم تعالى بعدل . خامساً لنشعر في العالم الآتي بحلاوة المكافأة ولذات المجازات بعد احتمال القهر والبؤس في العالم الحاضر

   ( 7 ) ” مَن منكم له عبد يحرث أو يرعى اذا رجع من الحقل يقول له ادخل سريعاً واتكئ ” ( 8 ) ” ألا يقول له أعدد ما أتعشى وتمنطق واخدمني حتى آكل وأشرب وبعد ذلك تأكل أنت وتشرب ” ( 9 ) ” فهل عليه أن يشكر ذلك العبد لأنه فعل ما أمر به ” ( 10 ) ” لا أظن . وكذلك أنتم اذا فعلتم جميع ما أمرتم به فقولوا انا عبيد بطالون انما فعلنا ما كان يجب علينا فعله ”

     انما مقصد ربنا أن نتجرد من الكسل والمجد الباطل فافهمنا ان العبد يعمل ما يجب عليه وبالاكراه . وهكذا نلتزم عمل ما تأمر به الفضائل لا في المساء فقط أي في آخر حياتنا زمن الهرم بل دائماً وفي كل طور من أطوار عمرنا على شبه العبيد الذين بعد أن يشتغلوا النهار كله في سوق البقر والفلاحة في الحقول يؤمرون بالعمل في المنازل عند المساء . فلنعمل اذن كل يوم عمل خلاصنا ولا نمل في ممارسة الخير . وكما لا فضل للعبد فلنقل لنفوسنا لا فضل لنا في خدمة الرب وبذلك نتجافى عن المجد الباطل والفخر الفارغ . وبعد ان نشتغل في سبيل محبة المساكين لنعلن نفوسنا اننا عبيد بطالون

( شفاء عشرة رجال برص )

     ( 1 1 ) ” وفيما هو منطلق الى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل ”               ( 12 ) ” وعند دخوله الى قرية استقبله عشرة رجال برصٍ ووقفوا من بعيد ”                ( 13 ) ” ورفعوا أصواتهم قائلين يا يسوع المعلم ارحمنا ” ( 14 ) ” فلما رآهم قال لهم امضوا وأروا الكهنة أنفسكم وفيما هم ذاهبون طُهروا ”

     اعتبر انطلاق يسوع وجولانه في البلاد وانتقاله من مكان الى آخر بما هو انسان لا بما هو اله . لأن الله لا يُقال عنه انه منطلق أو محدود بمكان . وكان لهُ المجد ينتقل في البلاد للكرازة ولعمل الآيات . فاستقبله عشرة برصٍ أي صادفوه على الطريق خارج المدن والقرى التي كانوا يُطردون منها . ووقفوا بعيداً عنه لنهي الناموس باقتراب الابرص من انسان صحيح الجسم ثم قالوا ما معناه . انك تنازلت من سمائك وتجسدت لخلاص الجميع ولشمولهم بالرحمة والاحسان . فأرسلهم الى الكهنة الّا انهم طُهروا في فعل رجوعهم بقوته القادرة . ولو لم يكونوا قد طهروا لما كان أرسلهم ليتحقق الكهنة تطهيرهم . وأيضاً لو لم يكونوا قد طهروا لما كانوا يخضعون لأمره بالذهاب . لكن رأوا أجسادهم شُفيت أو أخذت تشفى ثم كمل شفاؤها قبل بلوغهم مقرّ الكهنة ليعلموا ان السيد هو الشافي لا الناموس أو الكاهن

     ( 15 ) ” وان واحداً منهم لما رأى أنه قد بَرئ رجع يُمجد الله بصوت عظيم ”            ( 16 ) ” وخرّ على وجهه عند قدميه شاكراً له وكان سامرياً ” ( 17 ) ” فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طُهروا فأين التسعة “( 18 )” ألم يوجد مَم يرجع ليمجد الله الا هذا الأجنبي” ( 19 ) ” وقال له قم وامضِ فان ايمانك قد خلصك ”

     رجع واحد من العشرة يشكر يسوع وكان سامرياً ولم يكن عارفاً بالناموس . اما التسعة الآخرون فكانوا عالمين بمرسومات الشريعة فاستوجبوا شديد الملامة واستحق السامري ثناء المخلص الذي قال له : ايمانك خلصك من موت برصك . واعلم ان اثنتين منحتا هذا الابرص الحياة . وهما نعمة يسوع والايمان به اما التسعة فلم تحييهم الّا نعمة يسوع

( تعليم في شأن ملكوت الله )

     ( 20 ) ” ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم وقال ان ملكوت الله يأتي بغير ترقب ” ( 21 ) ” ولا يُقال انه هنا أو هناك لان ملكوت الله في داخلكم ”

     سمعه الفريسيون ينادي مرات كثيرة بالملكوت . فألقوا عليه السؤال لا للاستفادة بل للسخرية والاستهزاء . ومفاد قولهم . ما هذه السلطة التي تنادي بها ألا تدري أننا متأهبون لقتلك قبل أن تأتي بها . فأجابهم ان ملكوت الله لا يأتي لكم لانكم لا تستحقونه وانكم ترصدون الاماكن لتعرفوا أين هو فلا يُقال عنه انه في هذا الموضع أو في ذاك . وها تستخدمون حريتكم سوء استخدامها وتبحثون عن الازمنة والامكنة بدون فائدة . فارجعوا الى حسن استعمال ارادتكم تروا ملكوت الله في داخلكم . واقبلوا تعليمي تتنعموا بعد القيامة بالملكوت . وغيروا الآن أفعالكم الماضية المذمومة تُعطوا بدون مهلة هذا الملكوت عينه

     ( 22 ) ” وقال لتلاميذه ستأتي ايام تشتهون فيها أن تروا واحداً من ايام ابن البشر فلا ترون ”

     وجّه كلامه الى تلاميذه توجيهاً مخالفاً لما قاله للفريسيين الفاسدي الضمائر . وانما يكلمهم عن الشدائد التي تصيبهم والاضطهاد الذي يلحقهم بعد صعوده الى السماء . ثم عن المصائب التي تحدث للمؤمنين في منتهى العالم فقال : عند حلولها تشتهون ان يكون لكم يوم واحد من الأيام التي تقضونها الآن معي ولا تنالون . وقائلٍ ان التلاميذ كان لهم ضيق في زمن تردّد السيد معهم ؟ فالجواب ان الضيقات والأحزان التي تحلّ بهم بعد صعوده وبالمؤمنين في آخر العالم هي فادحة بالنسبة الى ذاك الضيق الذي مثله بالمقابلة اليها مثل البثرة الخفيفة بالنسبة الى الآكلة

     ( 23 ) ” وسيقال لكم هوذا هناك هوذا هنا فلا تذهبوا ولا تتبعوا ” ( 24 ) ” لانه مثلما ان البرق البارق مما ورآء السماء يلمع الى ما ورآء السماء كذلك يكون ابن البشر في يومه” ( 25 ) ” ولكن ينبغي له اولاً أن يتألم كثيراً ويُرذل من هذا الجيل ”

     انظر شرح بشارة متى 4 : 24 – 27

    ( 26 ) ” وكما كان في أيام نوح كذلك يكون في أيام ابن البشر ” ( 27 ) ” فانهم كانوا يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون الى يوم دخل نوح التابوت فجآء الطوفان وأهلك الجميع ” ( 28 ) ” وكما كان في أيام لوط فانهم كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون ” ( 29 ) ” ولكن يوم خرج لوط من سدوم أمطر الله ناراً وكبريتاً من السماء فاهلك الجميع ” ( 30 ) ” كذلك يكون في اليوم الذي يظهر فيه ابن البشر ”

     راجع شرح بشارة متى 24 : 27 – 39

     ( 31 ) ” فمن كان في ذلك اليوم على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل يأخذها . ومَن كان في الحقل فلا يرجع الى ورائه ” ( 32 ) ” تذكروا امرأة لوط ” ( 33 ) ” مَن طلب أن يخلص نفسه يُهلكها ومَن أهلَكها يُحييها ”

     انظر شرح بشارة متى 24 : 16 – 18

     ( 34 ) ” أقول لكم انه سيكون في تلك الليلة اثنان في فراش واحد فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر ” ( 35 ) ” واثنتان تطحنان معاً فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى ويكون اثنان في الحقل فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر ” ( 36 ) ” فأجابوا وقالوا له أين يارب ” ( 37 ) ” فقال لهم حيث تكون الجثة فهناك تجتمع النسور ”

     سبق تفسير ذلك في شرح بشارة متى 24 : 28 و 40 و 41

 

 

 

 

( الاصحاح الثامن عشر )

( في قاضي الظلم وملازمة الصلاة )

     ( 1 ) ” وقال لهم مثلاً في انه ينبغي أن يصلوا كل حين ولا يملوا ” ( 2 ) ” قال كان في مدينة قاضٍ لا يخشى الله ولا يهاب البشر ” ( 3 ) وكان في تلك المدينة أرملة تأتي اليه قائلة انتقم لي من خصمي ”

     ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هذا المثل واننا نختصر أقوالهم ونذكر قوة مضمونها . واعلم ان برهان مخلصنا البالغ في السداد يرجع الى هذا القول : اذا كان قاضي الظلم الذي لا يخاف الله قد انتقم للارملة من خصمها فباولى حجة الله القاضي العادل يجري الحق وينتقم لمختاريه القديسين من الشيطان ان كانوا يتوسلون اليه طالبين عونه العلوي . ومن الثابت ان ذلك قاضٍ اثيم والله ديّان عادل لا يحيد عن العدل ولا يخالف الاستقامة . ثم ابليس باغض البشر والله محب لهم . فهذا الفكر يهدينا في تفسيرنا الحاليّ شيئاً فشيئاً . واننا نثبت صحة قولنا من عبارة مخلصنا هذه : أترى الله لا ينتقم لمختاريه الذين يصرخون اليه نهاراً وليلاً . وبناءً على ذلك نقول ان القاضي الظالم هو الارادة الانسانية المائلة منذ البدء الى الشرّ . وقال آخرون انه الشهوات الباطنية والخارجية التي تحاربنا بدون انقطاع . والامران سواء لان الارادة والشهوة لا تخافان الله ولا تستحيان من الناس . اما المدينة فهي جسدنا . ثم الارملة هي الطبيعة البشرية الشقية فينا . وقد دُعيت ارملة لسببين . الاول كما ان الارملة محرومة معونة الرجل كذلك الطبيعة البشرية التي تسلطت عليها الشهوات محرومة المعونة . الثاني . كما ان الارملة ملتزمة أن تبقى كرهاً في الترمّل كذلك الرجل الطالب العفة والعفيف فعلاً ملتزم ان يحتمل محاربة الشهوة التي هي خصمه . وان الطبيعة البشرية تطلب الانتقام من خصمها والخلاص من الشهوة التي تميل بها الى الشر وبالتالي تلتزم قتالها

     ( 4 ) ” فبقي زماناً لا يشآء وبعد ذلك قال في نفسه اني وان كنت لا أخشى الله ولا أهاب البشر ” ( 5 ) ” ولكن لأجل ان هذه الارملة تزعجني أنتقم لها لئلا تأتي أخيراً وتقمعني ”    ( 6 ) ” ثم قال الرب اسمعوا ما قال قاضي الظلم ” ( 7 ) ” أتُرى الله لا ينتقم لمختاريه الذين يصرخون اليه نهاراً وليلاً أو يتأنى في أمرهم ”

     ظلّت الارملة أي الطبيعة البشرية تأني مدة طويلة الى الديان . أي تقدّم الصلوات والدعية الصالحة لتنجو من قتال الشهوات . والديان لا يريد ازاحة هذه الحرب بل أبقى الاهواء تحارب. الّا انه لكثرة الطلب والإلحاح اراد اخيراً التلبية وبهذا قصد مخلصنا ان يعلمنا ان مداومة الصلاة للرب وفي بيته لا بدّ انها تنجينا من الضيق الذي نقع به وبالتالي يجب ان نلازمها . وان الله يخلص المختارين من الضيق كلما رفعوا اليه قلوبهم بنية صالحة .

     ثم اننا نستفيد من هذا المثل من عدة أمور ” 1َ ” لم ينسب المسيح الرحمة والعدل للقاضي الظالم الّا ليجعلنا واثقين شديد الثقة بالرب ” 2َ ” انما ذكر الارملة لانها أضعف من غيرها وهي محتاجة أكثر من سواها الى الاعانة . ولهذا المعنى يقوى كل انسان مهما كان وهنه على التماس الهبات من الله ” 3َ ” شرط الصلاة مواصلتها . وهذا ما أجرته الارملة من ترددها الى القاضي ووقوفها في باب بيته . فنالت مرادها . فبالصلوات المتواصلة ينتصر ذوو الفضل على الشهوات الضارّة . واذا كان الله يترك الاهواء مدة طويلة تعذّبنا بالمحاربة فما قصده الّا تقويتنا ومكافأتنا في دار الخلود . واننا الآن ذاكرون شيئاً من تفاسير العلماء . قال ايبوليط ان قاضي الظلم هو المسيح الدجّال . والارملة كنيسة اليهود . والخصم البيعة المقدسة. وان كنيسة اليهود تتوسل الى الدجّال ليرجع اليها أولادها من البيعة المقدسة . وفسر موسى ابن الحجر ان القاضي هو العقل ذو الجسارة الكبرى الذي لا يخشى الله ولا يستحيي من الناس . وان المدينة هي الانسان لكثرة الحواس فيه واجتماعها . وان الارملة هي النفس المترملة أو المجردة من الاعمال الصالحة . وان الخصم هو الجسد مع شهواته فان النفس تطلب ان يخضع لها . ولا تنقطع عن الالتماس من العقل ان يكره الجسد قصدَ ان يزاول الفضيلة فقضى العقل في ذاته قائلاً : وان كنتُ لا أخاف الله الذي يوصي دائماً باتباع الفضيلة . ولا استحيي من البشر الذين يحملون دائماً على العفاف وعلى التجافي من النجاسة الّا اني اكراماً للنفس المسكينة التي هي كالارملة الضعيفة اغصب الجسد واقمعه لئلا يخضع للشهوة الدنسة

     وأوّل تيطس البصري بان قاضي الظلم والاثم هو الله . ومعنى ذلك انه يحاكم الأثمة عن ظلمِهم لا ذوي الفضل والبرارة اذ لا عقابَ على البرَرة . وقال الكاتب عينه ان المدينة هي الدنيا الحاضرة . وان الارملة كل نفس انتمت الى البيعة بعد ان كان الشيطان بعلها فطردته عنها وتبعت السيد المسيح . وان الخصم هو الشيطان اللعين لان بطرس الرسول يدعوه خصماً ويشبهه بالاسد الذي يزأر حول الانسان طالباً افتراسه . وهذا الخصم لا يرجع عن خبثه الا ان الله سمع صراخ النفس واستدعاءها فاعتقها من قيود ابليس . مغتصبها وانت ايها الانسان ان سمعت هذا القول : ان الله يدين ذوي الاثم فلا تخشَ وتخَف لان الله عادل ولا يظلم أحداً

     تفسير آخر : قاضي الظلم هو الشيطان ولا يعرف للعدل معنى في أحكامه وأعماله . وقد كان قوياً فيما مضى وشديد الظلم . اما الآن فسقطت قدرته من درجتها الأولى لان الله حكم عليه وطرده من أماكن كثيرة وكسر شوكته . والمدينة هي الخليقة أو العالم . فكان الشيطان في العالم لا يخاف من الله الخالق العظيم ولا يستحيي من الناس الذين خلقهم الله على صورته ومثاله . والارملة هي طبيعتنا الانسانية التي خسرت النعمة عندما انتهكت حرمة الوصية في جنة عدن . فاتى المسيح وخطبها عروساً له ليطهرها من كل دنس وكانت في المدينة أي في الأرض التي لعنها الله وعند الشيطان الذي أكثر من ظلمها . فنالها ضيق عظيم من شيطان عبادة الاصنام الرجسة ومن شيطان الزنى ومن شيطان نهم البطن . فطلبت بالحاح الخلاص من رئيس الشرّ لانها لم تكن عارفة بالرب . فلم يرد هذا المارد وكيف يريد ترك فريسته الّا ان الله أوجب عليه تركها . فأعطى الانسان مقدرة على هجر ابليس وقواته وحاكم عدوّ جنسنا أقسى محاكمة . وعادة الله في عنايته الفوقانية ان ينتقم من ابليس فيطرده ويسلب منه فريسته لترجع هذه الى معرفته العلوية . فقد طرد شيطان الضلالة من بلعام فعرفت نفس هذا النبي خالقها . وأيضاً طرد الروح الشرير من شاول بواسطة قيثارة داود

     وقال لعازر اسقف بغداد ان القاضي هو اما فرعون أو بختنصر اللذين سبيا كنيسة اليهود. فأمست أرملة لأنها اقتيدت الى الجلاء بعذاب شديد . وان الخصم هو العبودية والمصائب التي نزلت باليهود وقد اشتكوا على فرعون بواسطة يوسف وعلى بختنصر بواسطة دانيال فقُبلت شكواهم بواسطة هذين الفاضلين وخلصوا من السبي .

     واعلم ان الله أب رحوم على خليقته ينتقم لمختاريه أحسن انتقام وأعدله وأسرعه . كما اثبت السيد لهُ المجد في العدد التالي

     ( 8 ) ” اقول لكم انه ينتقم لهم سريعاً ولكن اذا جآء ابن البشر تُرى هل يجد الايمان على الارض ”

     يتعين الايمان بامور ثلاثة ” 1ً ” بوحدة الله وتثليث أقانيمه ” 2ً ” بوجود عنايته         ” 3ً ” بصحة مواعيده لنا ولا بدّ ان سيتممها كلها ان ثبتت النفس في محبته وعلى الايمان به. واعلم ان الاستفهام انكاري . فكلمة ” هل يجد ” تدل على النفي . لأن في مجيء الله لثاني مرة يكون المؤمنون حقاً قليلي العدد . أما نحن فعلينا أن نؤمن بما وعد السيد المسيح من الخيرات والحياة الخالدة والمكافأة على أعمال البرارة والصلاح

( مثل الفريسي والعشار )

     ( 9 ) ” وقال هذا المثل لقوم كانوا يثقون بأنفسهم بأنهم صديقون ويحتقرون غيرهم ”   ( 10 ) ” رجلان صعدا الى الهيكل ليصليا أحدهما فريسي والآخر عشار ”

     غاية السيد المسيح من هذا المثل أن يعلّمنا أمرين . أولهما الابتعاد عن الافتخار الكاذب بأعمال الفضل التي نأتيها . ثانيهما القيام بالصلاة على ما تقتضيه شروطها لئلا نفقد ما فيها من المنافع الجليلة . وقد مثّل برجلين متساويين في قوة الرجولية بدون اعتبار ثروتهما ومقاهما . وان شئتَ أن تعرف ما الفرّيسية فاعلم انها الهرطقات السبع التي نشأت بين الشعب الاسرائيلي بعد رجوعه من الجلاء . وكان ذووها يميزون أنفسهم بادعائهم بانهم حافظون لوصايا الله ومواظبون على الصوم والصلاة . وبالتالي بانهم أكمل من سواهم . وكلمة فريسي تأويلها مميز عن غيره . أما العشارية فهي وظيفة من يجبي العشور ويجمعها . وقد عُرف ذووها بالظلم والخطف والسرقة لذلك كان الفريسي يعدّ فضائل ذاته وينفي عنه الظلم وسلب الأموال . وعوض أن يشبّه نفسه بالرجال الصالحين كموسى والأنبياء أخذ يبرّر نفسه ويذّم غيره . فكان عمله داعياً لان يدينه الرب الدينونة التي يستوجبها فنعلم نحن ان مَن ليس خاطفاً فاجراً لا يكون ضرورةً صالحاً . ثم ان الاختبار يدل على ان التفتيش عن عيوب الغير ورذائلهم مضرّ كل الضرر وغير نافع بشيء فلنحذره كل الحذر

     ( 11 ) ” فكان الفريسي واقفاً يصلي في نفسه هكذا . اللهم اني أشكرك لاني لست كسائر الناس الخطفة الظالمين الفاسقين ولا مثل هذا العشار ” ( 12 ) ” فاني أصوم في الاسبوع مرتين وأعشر كل ما هو لي ” ( 13 ) ” أما العشار فوقف عن بعد ولم يُرد أن يرفع عينيه الى السماء بل كان يقرع صدره قائلاً اللهم ارحمني انا الخاطئ ”

     صوم الفريسيين مرتين في الأسبوع كان وقوعه يومي الاثنين والخميس . بحيث يفطرون يومين ويصومون في اليوم الثالث . ومنهم مَن كان يبدّل اليومين المشار اليهما بالأربعاء والجمعة وكلهم يحسبون السبت للراحة المأمور بحفظها فيه . ثم تعشير المال هو أخذ واحد من عشرة من الأموال والمقتنيات قصدَ ايهابه بيت الله . ولاحظْ هيئة العشار في مقابلته بهيئة الفريسي . فقد كان ذاك بعيداً عن هذا لا يرفع عينه الى السماء لنخس ضميره خجلاً من أعماله مخالفاً عادة بعض الناس الذين يرفعون نظرهم في صلواتهم الى السماء . ولأن قلبه في صدره كان منبع الأفكار الشريرة أخذ يضربه دلالةً على توجعه كما يفعل بعضهم في أحزانهم فانهم يقرعون صدورهم وما أوفق صلاته لحالته فان كلامه هو كلام خطأة أغضبوا الله فتبكتهم أفكارهم ويندمون

     ( 14 ) ” أقول لكم ان هذا نزل الى بيته مبرراً دون الآخر لأن كل مَن رفع نفسه اتضع ومَن وضع نفسه ارتفع ”

     افتخر الفريسي افتخاراً كاذباً فزاد حالته ذنباً وكثرت خطاياه . واتضع العشار فأزال تواضعه اثمه ومعاصيه . وقد شاء سيدنا افهامنا ان الخاطئ التائب المتواضع أفضل من قديس تنفخه الكبرياء . وان فضيلة التواضع تمحو الخطايا بالتوبة . بعكس الافتخار الكاذب والكبرياء فكلاهما مهلك للقداسة مزيل للصلاح . وقد جرى كالمثل البالغ في الصحة ان كل مَن رفع نفسه اتضع ومَن وضع نفسه ارتفع . ويجب على الناس أن يعدّوه مبدأ أعمالهم وسلوكهم

( في اطفال قدموا الى يسوع )

     ( 15 ) ” وقدموا اليه الاطفال ليلمسهم فلما رآهم التلاميذ زجروهم ” ( 16 ) ” فدعاهم يسوع وقال دعوا الصبيان يأتون اليّ ولا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت الله ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 19 : 13 – 15

     ( 17 ) ” الحق أقول لكم ان مَن لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخله ”

     راجع شرح بشارة متى 18 : 3

( الرئيس الغني )

     ( 18 ) ” وسأله رئيس قائلاً ايها المعلم الصالح ماذ أعمل لأرث الحياة الأبدية ”          ( 19 ) ” فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحاً انه لا صالح الا الله وحده ” ( 20 ) ” قد عرفت الوصايا . لا تقتل . لا تزن لا تسرق . لا تشهد بالزور . أكرم أباك وأمك ”               ( 21 ) ” فقال كل هذا قد حفظته منذ صباي ” ( 22 ) ” فلما سمع يسوع ذلك قال له واحدة تعوزك بعد بِع كل شيء لك ووزعه على المساكين فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ”  ( 23 ) ” فلما سمع ذلك حزن لانه كان غنياً جداً ” ( 24 ) ” فلما رآه يسوع قد حزن قال ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله ” ( 25 ) ” لأنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الابرة من ان يدخل غني ملكوت الله ” ( 26 ) ” فقال السامعون فمن يستطيع اذن أن يخلص ” ( 27 ) ” فقال ما لا يُستطاع عند الناس مستطاع عند الله ”

     انظر تفسير ذلك في شرح بشارة متى 19 : 16 – 26

( في ترك كل شيء واتباع المسيح )

     ( 28 ) ” فقال بطرس هوذا قد تركنا كل شيء وتبعناك ” ( 29 ) ” فقال لهم الحق اقول لكم انه ما من أحد ترك بيتاً أو والدين أو أخوة أو امرأة أو بنين لأجل ملكوت الله ”             ( 30 ) ” الا ينال في هذا الزمان أضعافاً كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الابدية ”

     راجع شرح بشارة متى 19 : 27 – 29

( انباء يسوع بموته وقيامته )

     ( 31 ) ” ثم أخذ الاثني عشر وقال لهم هوذا نحن صاعدون الى أورشليم وسيتم كل ما كتب بالأنبياء عن ابن البشر ” ( 32 ) ” فانه سيسلم الى الأمم ويُهزأ به ويُشتم ويُبصق عليه” ( 33 ) ” وبعد أن يجلدوه يقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم ” ( 34 ) ” فلم يفهموا من هذا شيئاً وكان هذا الكلام مخفىً عليهم ولم يعلموا ما قيل لهم ”

     انظر شرح بشارة متى 20 : 17 – 19

( ابراء أعمى في اريحا )

     ( 35 ) ” ولما اقترب من أريحا كان أعمى جالساً على الطريق يستعطي ” ( 36 ) ” فلما سمع الجمع المجتاز سأل ما هذا ” ( 37 ) ” فأخبر بأن يسوع الناصري عابر ”               ( 38 ) ” فصرخ قائلاً يا يسوع ابن داود ارحمني ” ( 39 ) ” فزجره المتقدمون ليسكت فازداد صراخاً يا ابن داود ارحمني ” ( 40 ) ” فوقف يسوع وأمر أن يقدّم اليه . فلما قرب سأله ” ( 41 ) ” ماذا تُريد أن أصنع لك فقال يا رب أن أبصر ” ( 42 ) ” فقال له يسوع أبصرْ ان ايمانك خلصك ” ( 43 ) ” وفي الحال أبصر وتبعه وهو يمجد الله وجميع الشعب الذين رأوه سبحوا الله ”

     راجع شرح بشارة متى 20 : 29 – 34

 

 

 

 

 

( الاصحاح التاسع عشر )

( في زكّا العشار )

     ( 1 ) ” ثم دخل أريحا واجتاز فيها ” ( 2 ) ” واذا برجل اسمه زكّا كان رئيساً على العشارين وكان غنياً ” ( 3 ) ” فطلب أن يرى يسوع مَن هو ولم يستطع من الجمع لأنه كان قصير القامة ” ( 4 ) ” فتقدّم مُسرعاً وصعد الى جميزة لينظره لأنه كان مزمعاً أن يجتاز بها”

     عادة العشارين ان لا يسرقوا سراً وبالخفية بل في الظاهر والعلانية . وكان زكّا رئيس هذه الطائفة فاشتهى أن ينظر يسوع وكان ذلك بدء ايمانه به . اما عدم مقدرته على مشاهدة المخلص فسببها . اولاً ان جموع كثيرة كانت تابعته فما كان يتسنّى لكل ان يدنو منه ويراه كالواجب . ثانياً ان زكّا كان قصير القامة . وقد كانت نفسه أيضاً محرومة الاعمال الصالحة أي ضئيلة البرّ ليس لها مقام في الصلاح وبين الابرار . وصعوده الى جمّيزة دلالة على ارتكابه الاعمال الشريرة الّا ان قلبه لم يخلُ من فكر جيد صالح لانه كان راغباً في مشاهدة المسيح ويقول في نفسه . طوبى لمن يدخل يسوع في بيته

     ( 5 ) ” فلما انتهى يسوع الى الموضع رفع طرفه فرآه فقال له يا زكّا أسرع انزل فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك ” ( 6 ) ” فأسرع ونزل وقبله فرحاً ” ( 7 ) ” فلما رأى الجميع ذلك تذمروا قائلين انه حلّ عند رجلٍ خاطئ ” ( 8 ) ” فوقف زكا وقال للرب هآءنذا يا رب أعطي المساكين نصف أموالي وان كنت قد غبنت أحداً في شيء أردّ أربعة أضعاف ”          ( 9 ) ” فقال له يسوع اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت لأنه هو أيضاً ابن ابرهيم ”         ( 10 ) ” لأن ابن البشر انما أتى ليطلب ويخلص ما قد هلك ”

     عرف السيد المسيح فكر زكا لانه اله ينظر في اعماق القلب فاستدعاه اليه فقال زكا لنفسه : انه عرف اسمي وفكري فلا بدّ انه يعرف أيضاً كل أفعالي فيلزمني تغيير حالي السيئة والتعويض عما سلبت على الفقراء وعلى الذين غبنتهم . وأخذ الحاضرون يتذمرون من استقبال السيد للعشار وهم جاهلون ما في قلب زكّا من الندامة ومن الانقلاب الى الصلاح . الّا ان زكّا اظهر هذا الانقلاب وصنع ما يأمره الناموس ( خروج 22 : 1 ) به . ومفاده ان السارق لا يُقتل بل يفي الواحد أربعة . وقد شهد السيد لهُ المجد بما ناله زكا من نعمة التبرير. فقد حصلت الحياة الروحية لسكان بيته اجمعين . أو افهم بالبيت شخص زكا جسده ونفسه المائتين في الخطية واللذين اعتقهما منها المخلص . وزاد لهُ المجد : انه جاءَ ليُحيي ابن ابراهيم ويخلّصه من الخطيئة . أو عنى بابن ابراهيم لا زكّا وحده بل كل مَن يتشبهون به في ايمانه . وهؤلاء يأتون من المشرق والمغرب . وبعد ان كانوا قد هلكوا وماتوا في المعصية ينالون الخلاص وحياة روحية سامية

( في مثل عشرة الأمناء )

     ( 11 ) ” واذا كانوا يسمعون هذا زاد فقال مثلاً لأنه كان قد قرب من أورشليم وكانوا يظنون ان ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال ” ( 12 ) ” فقال . رجل شريف الجنس ذهب الى بلدٍ بعيد ليأخذ لنفسه ملكاً ويعود ”

     لم يكن الرسل يُدركون حق الادراك أقوال السيد المسيح ولا يفهمونها حتى اليوم الذي قبلوا فيه الروح وأعطاهم الحكمة . ولهذا السبب ظنوا ان بعد صعودهم الى أورشليم يظهر ملكوت الله . فقال لهم المثل الحاضر ليغيروا أفكارهم ويعلمهم ان ظهوره انما يكون في مجيئه الثاني عندما يجازي كلاً حسب أعماله ويحاسب اليهود الاشرار على بغضهم اياه . وافهم بالرجل الشريف الجنس السيد المسيح عينه . وما أشرف جنسه فهو ابن الله طبعاً ومن بيت داود الملك لانه صار انساناً . وبعد ان تألم ومات وقام من القبر صعد الى السماء وهو المفهوم بالبيت البعيد . وانما انه صار انساناً قيل عنه انه يأخذ الملك ويعطي الحياة وما أشبه. اما بما انه له فلهُ مساواة كاملة بالآب والروح القدس . ثم سوف يرجع الينا وذلك في المجي الثاني للدينونة

     ( 13 ) ” فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمنآء وقال لهم تاجروا حتى آتي ”

     العبيد هم كل الذين منحهم مواهب الروح سواء كانوا رسلاً أم معلمين أم قسوساً أم شمامسة . والمنا يطلق على الدرهم وعلى الكتّان والحرير . ووزنه مثقال ونصف مثقالٍ . وهو الدرهم الذي ألقته الارملة في الخزانة . وفي المعنى الروحي الأَمْناء هي مواهب الروح القدس وقد اعطاها الرسل والعبيد ليفيدوا منها الناس . واستعمل عدد العشرة لانه عدد كامل ودليل ذلك انك عندما تعدّ العشرة ترجع الى ماهي مؤلفة منه لتصل اليها . ثم التطويبات في لوقا عشرة وحواس الانسان في نفسه وجسده عشر وحرف الياء وهو أول حرف اسم يسوع قيمته في حساب الجمل عشرة واعلم ان المقصود هنا ليس بالضبط عدد العشرة بل الكثرة التي يدل عليها هذا العدد . وافهم بالمتاجرة العمل بالمِنَح الروحية . فيلزم كل مَن نالها ان يستخدمها على قدر طاقته

     ( 14 ) ” وكان أهل مدينته يبغضونه فأنفذوا في أثره رسلاً قائلين لا نُريد أن يملك علينا هذا ” ( 15 ) ” فلما أخذ الملك ورجع أمر أن يُدعى عبيده الذين أعطاهم الفضة ليعلم ما بلغت تجارة كل منهم ” ( 16 ) ” فأقبل الأول وقال يا سيد ان مناك قد ربح عشرة أمناء ”    ( 17 ) ” فقال له أحسنت أيها العبد الصالح قد وجدت أميناً في القليل فليكن لك السلطان على عشر مدن ” ( 18 ) ” ثم جاء الثاني وقال يا سيد ان مناك قد كسب خمسة أمناء ”            ( 19 ) ” فقال لهذا أيضاً وانت كن على خمس مدن ” ( 20 ) ” وجاء الآخر فقال هوذا مناك الذي كان عندي موضوعاً في منديل ” ( 21 ) ” لأني خفت منك لكونك رجلاً قاسياً تأخذ ما لم تضع وتحصد ما لم تزرع ”

     اهل المدينة هم اليهود الذين كانوا يبغضون السيد المسيح . وقد صرخوا امام بيلاطس أنْ لا ملك لنا غير قيصر . فعندما يعود يسوع في ظهوره الثاني للدينونة سيأمر باستحضار البشر اجمعين ليحاسبهم حسب أعمالهم . فالرابح بتجارته سيقول له ُ : يا سيد المنحة التي منحتنيها قد ربحت بها نفسي ونفس آخرين غيري . فيسميه اذ ذاك الملك الديان صالحاً لانه عمل في زمنه ولم يُضع أوقاته واستخدم الهبة التي أعطيها . ثم يعطيه المكافأة اللازمة التي يرمز اليها السيد في المثل بالسلطان على عشر مدن أو خمس مدن . اما غير الرابح بالتجارة وهو الذي وضع المنا في المنديل . أي لم يتاجر به فيتمحّل اعذاراً فارغة وهو مذنب . لانه ان كان يعرف سيده رجلاً قاسياً فلِمَ لم يضع فضته على مائدة الصيارفة ويكمّل بذلك شيئاً مما أمر به . لان السيد كان قادراً في هذه الحالة ان يستوفي ماله مع بعض الربى

     ( 22 ) ” فقال له من فمك أدينك أيها العبد الشرير قد علمت اني رجل قاسٍ آخذ ما لم أضع واحصد ما لم أزرع ” ( 23 ) ” فلماذا لم تجعل فضتي على مائدة الصرف حتى اذا قدمت أستوفيها مع ربى ” ( 24 ) ” ثم قال للحاضرين خذوا منه المنا وأعطوه للذي معه العشرة الأمناء ” ( 25 ) ” فقالوا له ياسيد ان معه عشرة أمناء ” ( 26 ) ” اني أقول لكم كل مَن لهُ يُعطى فيزداد ومَن ليس له يؤخذ منه ما هو له ”

     شهر أولاً السيد تعنيفه للرجل غير العامل بوصاياه وبهباته . ثم أصدر الحكم في حقه فقال ما معناه : ان كنتَ تعرف مطلوبي منك فلِمَ لم تحفظ وصاياي وشرائعي . لِمَ لم تستعمل مواهبي التي ميزتك بها على ما سواك وتضعها على المائدة . أي تلقيها على مسامع المؤمنين وتنبّه ضمائر طالبي ارشادك . وتعلّم وتحذّر الغير عاقبة معصيتي وتكسب لي النفوس العديدة وتجعلها طاهرة مقدسة . ثم ان السيد لهُ المجد يأمر ملائكته العاملين ارادته بأن ينزعوا المنحة السامية ممن أعطيها ولم يستفد بها . فينزعونها ويسلمونه للقضاء المبرم. اما مَن كانت لهُ المواهب وعمل بمقتضاها وربح في هذه الدنيا . فانه تعالى اسمه يعطيه المجازاة في السعادة الخالدة ويزيده خيراً . اما العبد الذي لم يعمل ولم يتاجر فتؤخذ منه غصباً موهبة الروح القدس لانه أبى أن يتاجر بها وان يربح شيئاً

     ( 27 ) ” فأما أعدائي الذين لم يُريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم الى ههنا واذبحوهم أمامي ” ( 28 ) ” ولما قال هذا تقدم صاعداً الى أورشليم ”

     هنا المسيح لهُ المجد أشار الى خراب بيت المقدس والى الشدائد التي قاساها اليهود من الرومانيين ثم الى كفرهم وما حفظ لهُ من الاعذبة في الآخرة 

( في دخول يسوع أورشليم باحتفاء )

     ( 29 ) ” واذ اقترب من بيت فاجي وبيت عنيا عند الجبل المسمى جبل الزيتون أرسل اثنين من التلاميذ ” ( 30 ) ” قائلاً اذهبا الى القرية التي أمامكما وعندما تدخلاها تجدان جحشاً مربوطاً لم يركب عليه أحد من الناس قط فحلاه وأتيا به ” ( 31 ) ” فان سألكما أحد لماذا تحلانه تقولان له هكذا ان الرب يحتاج اليه ” ( 32 ) ” فذهب المرسلان فوجدا كما قال لهما ” ( 33 ) ” وفيما هما يحلان الجحش قال لهما أربابه لماذا تحلان الجحش ”             ( 34 ) ” فقالا ان الرب يحتاج اليه ” ( 35 ) ” ثم أتيا به الى يسوع وألقيا ثيابهما على الجحش وأركبا يسوع ” ( 36 ) ” وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم على الطريق ”               ( 37 ) ” ولما قرب من منحدر جبل الزيتون طفق جميع جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوتٍ عظيم على كل ما شاهدوا من القوات ” ( 38 ) ” قائلين مبارك الملك الآتي باسم الرب السلام في السماء والمجد في العلى ” ( 39 ) ” فقال له بعض الفريسيين من بين الجمع يا معلم انتهر تلاميذك ” ( 40 ) ” فأجابهم قائلاً أقول لكم انه ان سكت هؤلاء صرخت الحجارة ”

     قد مرّ الكلام على هذه الآيات كلها في شرح بشارة متى 21 : 1 – 16

( في بكاء يسوع على أورشليم )

     ( 41 ) ” ولما قرب ورأى المدينة بكى عليها قائلاً ” ( 42 ) ” لو علمت أنتِ أيضاً في يومكِ هذا ما هو لسلامك لكنه الآن خفي عن عينيك ” ( 43 ) ” انها ستأتي ايام يُحيط بكِ فيها أعداؤكِ بمترسة ويحاصرونك ويضيقون عليك من كل جهة ” ( 44 ) ” ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر لانكِ لن تعرفي زمان افتقادكِ ”

     انظر شرح بشارة متى 24 : 2 ووجه ال 406 و 407

     معنى عبارات السيد : اني اتيت لأخلصكِ ايتها المدينة لانك في سوء حال واردتُ ان أرجعكِ الى حال الكرامة والنموّ والازدهار وأخلّصكِ من الشرور الحالّة فيكِ واجعلكِ تتنعمين باللذات الروحية فأنتِ ترفضين ولذلك ستصيبكِ هذه الشرور واخصها ان يسبيكِ الرومانيون الآتون من المغرب .

( في طرد يسوع الباعة من الهيكل )

     ( 45 ) ” ثم دخل الهيكل وشرع يُخرج الذين يبيعون ويشترون فيه ” ( 46 ) ” قائلاً لهم مكتوب ان بيتي بيت الصلاة وانتم جعلتموه مغارة للصوص ” ( 47 ) ” وكان يعلم كل يوم في الهيكل وكان رؤساء الكهنة والكتبة ووجوه الشعب يلتمسون أن يهلكوه ” ( 48 ) ” فلم يجدوا ما يصنعون به لأنه جميع الشعب كانوا متعلقين به بالاستماع له ”

     قد سبق الكلام على تطهير الهيكل في شرح بشارة متى 21 : 12 و 13

 

 

 

( الاصحاح العشرون )

( سؤال رؤساء اليهود ليسوع عن سلطانه )

     ( 1 ) ” واذ كان في أحد الأيام يُعلم الشعب في الهيكل ويُبشرهم أقبل عليه رؤساء الكهنة مع الشيوخ ” ( 2 ) ” وخاطبوهُ قائلين قل لنا بأي سلطان تفعل هذا ومَن الذي أعطاك هذا السلطان ” ( 3 ) ” فأجاب يسوع وقال لهم وأنا أيضاً أسألكم عن كلمة واحدة فقولوا لي ”    ( 4 ) ” معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس ” ( 5 ) ” ففكروا في أنفسهم قائلين ان قلنا من السماء يقول فلماذا لم تؤمنوا به وان قلنا من الناس يرجمنا الشعب جميعاً لانهم موقنون بأن يوحنا نبيّ ” ( 7 ) فأجابوا أنهم لا يعلمون من أين هي ” ( 8 ) ” فقال لهم يسوع ولا انا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا ”

     سبق الكلام على هذا في شرح بشارة متى 21 : 23 – 27

( مثل الكرامين الخائنين وغضب الفريسيين )

     ( 9 ) ” وجعل يقول للشعب هذا المثل . انسان غرس كرماً وسلمه الى عملة وسافر زماناً طويلاً ” ( 10 ) ” وفي أوان الثمر أرسل عبداً الى العملة ليعطوه من ثمر الكرم فجلدوه وأرسلوه فارغاً ” ( 11 ) ” فعاد وأرسل عبداً آخر فجلدوه أيضاً وأهانوه وأرسلوه فارغاً ”   ( 12 ) ” فعاد وأرسل ثالثاً فجرحوا هذا أيضاً وأخرجوه ” ( 13 ) ” فقال رب الكرم ماذا أصنع اني أرسل ابني الحبيب لعلهم اذا رأوه يهابونه ” ( 14 ) ” فلما رآه العملة تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث لنقتله حتى يصير الميراث لنا ” ( 15 ) ” فطرحوه خارج الكرم وقتلوه . فماذا يفعل بهم رب الكرم ” ( 16 ) ” انه يأتي فيميت أولئك العملة ويدفع الكرم الى آخرين فلما سمعوا هذا قالوا حاشى أن يكون ذلك ” ( 17 ) ” فنظر اليهم وقال فما هو هذا المكتوب ان الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأساً للزاوية ” ( 18 ) ” كل مَن سقط على هذا الحجر يتهشم ومن سقط هو عليه يطحنه ” ( 19 ) ” فهمّ رؤساء الكهنة والكتبة ان يُلقوا عليه الأيدي في تلك الساعة ولكنهم خافوا من الشعب لانهم علموا انه قال هذا المثل عليهم ”

     انظر شرح بشارة متى 21 : 33 – 46

( في وجوب اداء الجزية )

     ( 20 ) ” فرصدوه وارسلوا اليه جواسيس يُرآءون انهم صديقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه الى رياسة الوالي وسلطانه ” ( 21 ) ” فسألوه قائلين يا معلم قد علمنا انك بالصواب تتكلم وتعلم ولا تأخذ بالوجوه بل تعلم طريق الله بالحق ” ( 22 ) ” أيجوز لنا ان نُعطي الخراج لقيصر أم لا ” ( 23 ) ” ففطن لمكرهم فقال لهم لماذا تجربونني ”              ( 24 ) ” أروني ديناراً . لمن الصورة والكتابة . فأجابوا وقالوا لقيصر ” ( 25 ) ” فقال لهم أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” ( 26 ) ” فلم يستطيعوا أن يأخذوه بكلمة امام الشعب وتعجبوا من جوابه وسكتوا ”

     راجع شرح بشارة متى 22 : 15 – 22

( في افحام يسوع للصدوقيين )

     ( 27 ) ” ودنا اليه قوم من الصدوقيين الذين يقولون بعدم القيامة وسألوه ”              ( 28 ) ” قائلين يا معلم كتب لنا موسى ان مات لرجلٍ اخ وله امرأة ومات عن غير ولدٍ فليأخذ أخوه المرأة ويُقم نسلاً لأخيه ” ( 29 ) ” وكان سبعة اخوة أخذ أولهم امرأة ومات عن غير ولد ” ( 30 ) فأخذ الثاني المرأة ومات عن غير ولد ” ( 31 ) ” ثم أخذها الثالث وكذلك السبعة ولم يُخلفوا نسلاً وماتوا ” ( 32 ) ” وفي آخر الكل ماتت المرأة ” ( 33 ) ” ففي القيامة لمن منهم تكون المرأة لان السبعة اتخذوها امرأة ” ( 34 ) ” فقال لهم يسوع ان أبناء الدهر يزوجون ويتزوجون ” ( 35 ) ” أما الذين استحقوا الفوز بذلك الدهر وبالقيامة من بين الأموات فلا يزوجون ولا يتزوجون ” ( 36 ) ” ولا يمكن ان يموتوا بعد لانهم مساوون للملائكة وهم أبناء الله لكونهم أبناء القيامة ”

     انظر شرح بشارة متى 22 : 23 – 30

     ذكر يوسيفوس ان اليهود بعد رجوعهم من السبي انقسموا الى سبعة هرطقات وقد تكلمنا عن ذلك في تفسير المعمودية في شرح بشارة متى فليراجع . فمنهم الصدوقيون الذين ينتمون الى صادوق معلمهم . هؤلاء هيجوا الاضطهاد على بشارة الانجيل وعلى يعقوب أخي الرب وما زالوا يشون به حتى قُتل كما صاروا سبباً للرومانيين ليفحصوا عن انسال داود ويقتلونهم وكان الصدوقيون متمسكون بخمسة أسفار موسى ولم يكونوا يقبلون الانبيآء ولا يعتقدون بالروح القدس وكانوا يكفرون بالقيامة وبالملائكة وبسائر الغير منظورات . اما الفريسيون فكانوا يعتقدون بالقيامة ولكنهم يقولون ان في القيامة أكل وشرب وزواج . وكان الصدوقيون يعيرون الفريسيين على ذلك ولاجله سألوا المسيح عن خبر المرأة ذات السبعة رجال التي ماتت بلا بنين

( في حقيقة القيامة )

     ( 37 ) ” فأما أن الموتى يقومون فقد بينهُ موسى عند العليقة اذ قال ان الرب هو اله ابراهيم واله اسحق واله يعقوب ” ( 38 ) ” وهو ليس اله أموات وانما هو اله أحيآء لان الجميع يحيون له ” ( 39 ) ” فأجاب قوم من الكتبة وقالوا يا معلم حسناً قلت ”                ( 40 ) ” ولم يتجاسروا بعد أن يسألوه شيئاً ”

     راجع شرح بشارة متى 22 : 31 – 33

( سؤال يسوع للفريسيين عن نسبة المسيح الى داود )

     ( 41 ) ” ثم قال لهم كيف يقولون ان المسيح هو ابن داود ” ( 42 ) ” وقد قال داود نفسه في سفر المزامير قال الرب لربي اجلس عن يميني ” ( 43 ) ” حتى أجعل أعدآءك موطئاً لقدميك ” ( 44 ) ” فداود يدعوه رباً فكيف يكون هو ابنه ”

     راجع شرح بشارة متى 22 : 41 – 46

( تحذير المسيح تلاميذه من الكتبة )

     ( 45 ) ” ثم قال لتلاميذه وجميع الشعب يسمعون ” ( 46 ) ” احذروا من الكتبة الذي يرومون أن يمشوا بالحلل ويحبون التحيات في الاسواق وصدور المجالس في المجامع وأول المتكآت في العشاء ” ( 47 ) ” الذين يأكلون بيوت الارامل بعلة تطويل صلواتهم فهؤلاء ستنالهم دينونة أعظم ”

     انظر شرح بشارة متى 23 : 5 و 6 و 14

 

 

 

 

 

( الاصحاح الواحد والعشرون )

( في فلسي الأرملة )

     ( 1 ) ” ولاحظَ فرأى الأغنياء يُلقون تقادمهم في الخزانة ” ( 2 ) ” ورأى أيضاً أرملة مسكينة قد ألقت هناك فلسين ” ( 3 ) ” فقال في الحقيقة أقول لكم ان هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من الجميع ” ( 4 ) ” لأن جميع هؤلاء ألقوا في تقادم الله مما فضل عندهم وأما هذه فمن عوزها ألقت كل المعيشة التي كانت لها ”

     افهم بالخزانة الصندوق الذي كان المتصدقون يلقون فيه صدقاتهم كل على قدر طاقته . وبالفلسين دانقين أو ذهبيّين ومن هنا تعلم ان العطية لا تقوم بكثرتها أو بقلتها . بل بالارادة الصالحة التي تجريها . والنية هي مبدأ العمل كما يبين من الفعلة الذين أتوا الساعة الحادية عشرة فاستحقوا الأجرة عينها التي تناولها مَن أتوا من بدء النهار . وسبب ذلك انهم استحقوا بنيتهم بقدر ما استحق هؤلاء بعملهم والله ينظر الى النية

( انباء يسوع بخراب أورشليم )

   ( 5 ) ” واذ كان بعض يقولون عن الهيكل انه مزين بالحجارة الحسنة وتحف النذور قال ” ( 6 ) ” هذا الذي تنظرون ستأتي أيام لا يُترك فيها منه حجر على حجر الا يُنقض ”           ( 7 ) ” فسألوه قائلين يا معلم متى يكون هذا وما العلامة التي تكون اذا أوشك أن يقع هذا ” ( 8 ) ” فقال احذروا أن تضلوا لأن كثيرين سيأتون باسمي قائلين اني أنا هو والزمان قد اقترب فلا تتبعوهم ” ( 9 ) ” فاذا سمعتم بحروب وفتن فلا تفزعوا فانه لا بدّ أن يكون هذا أولاً ولكن لا يكون المنتهى في الأثر ” ( 10 ) ” حينئذٍ قال لهم ستقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ” ( 11 ) ” وتكون زلازل شديدة في أماكن شتى وأوبئة ومجاعات وتكون من السماء مخاوف وعلامات عظيمة ”

     ما رواه متى من هذا الخطاب مستوفى أكثر مما رواه سائر البشيرين فانظر الشرح هنالك ص 24

     ( 12 ) ” وقبل هذا كله يُلقون أيديهم عليكم ويضطهدونكم ويسلمونكم الى المجامع والسجون وتُقادون الى الملوك والولاة لاجل اسمي ” ( 13 ) ” فيؤول ذلك لكم شهادةً ”      ( 14 ) ” فضعوا في قلوبكم أن لا تفكروا من قبل فيما تحتجون به ” ( 15 ) ” فاني أعطيكم فماً وحكمةً لا يقدر جميع مناصبيكم على مقاومتها ولا مناقضتها ” ( 16 ) ” وستسلمون من الوالدين والاخوة والأقارب والاصدقاء ويقتلون منكم ” ( 17 ) ” وتكونون مُبغضين من الكل من أجل اسمي ” ( 18 ) ” ولا يهلك من رؤوسكم شعرة ” ( 19 ) ” وبصبركم اقتنوا أنفسكم”

     قد مرّ الكلام على مضطهدية المسيحيين وواجباتهم في شرح بشارة متى 10 : 17 و 24 : 9 – 14

     ( 20 ) ” واذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود فاعلموا حينئذٍ ان خرابها قد اقترب ” ( 21 ) ” فحينئذٍ الذين في اليهودية فليهربوا الى الجبال والذين في داخلها فليخرجوا والذين في البلاد فلا يدخلوها ” ( 22 ) ” لأن هذه أيام انتقام لكي يتم كل ما كتب ” ( 23 ) ” الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام فانه سيكون ضنك شديد في الارض وسخط على هذا الشعب” ( 24 ) ” ويسقطون بحد السيف ويُسبون الى جميع الأمم وتدوس الأمم أورشليم الى أن تتم أزمنة الأمم ”

     انظر شرح بشارة متى ص 24

     قال يوسيفوس المؤرخ انه قتل من اليهود عند افتتاح المدينة 1100000 وأسر منهم 79000 . وعذب كثيرون ثم قتلوا . وقتل في ضواحيها 250000 فبلغ كل القتلى 1447000 وقال ان الرومانيين صلبوا ممن أسروا من اليهود مدة الحصار خلقاً كثيراً حتى لم يبقَ مكان لنصب الصلبان ولم يجدوا صلباناً كافية لصلب أولئك الاسرى . وقال ان كثيراً من اليهود كانوا يبلعون حبوب الذهب الذي عندهم ويهربون الى الرومانيين وكانوا يستخرجون ذلك الذهب حين ازالتهم للضرورة . أما الرومانيون والسريانيون فلما شعروا بذلك فكانوا يشقون بطونهم ويستخرجون الذهب من امعائهم وأهلكوا منهم ربوات لهذا السبب . وقال انه مات كثيرون في المدينة من شدة الجوع فاشتد بهم الجوع حتى أكلوا الأحذية وان بعض النساء قتلت أولادها وأكلتهم . وقال لو قابلنا مصائب جميع الناس منذ الخليقة بما قاساه اليهود لوجدناه أعظم من جميعها . وزاد هول الحصار بان بداءته كانت في عيد الفصح وكان حينئذٍ على قول البعض ثلاثة آلاف الف في تلك المدينة . ونقول ان ما أصابهم لهو أقل مما يستحقونه لان لا في الزمان الماضي ولا في المستقبل تجاسر أحد جسارة هائلة مثلما تجاسر اليهود على صلب المسيح

( علامات في السماء عند مجيء يسوع الثاني ثم ظهور ابن البشر )

     ( 25 ) ” وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم وعلى الارض كرْب للأمم حيرة من عجيج البحر وجيشانه ” ( 26 ) ” وتزهق الناس من الخوف وانتظار ما يأتي على المسكونة فان قوات السماوات تتزعزع ” ( 27 ) ” وحيتئذٍ يشاهدون ابن البشر آتياً على سحابةٍ بقوة وجلال عظيمين ” ( 28 ) ” واذا أخذ يقع هذا فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن فداءكم قريب ” ( 29 ) ” وقال لهم مثلاً انظروا الى التينة والى سائر الأشجار ” ( 30 ) ” فانها اذا أورقت علمتم أن الصيف قد دنا ” ( 31 ) ” كذلك أنتم اذا رأيتم أن هذا وقع فاعلموا ان ملكوت الله قريب ” ( 32 ) ” الحق أقول لكم انه لا يزول هذا الجيل حتى يكون الكل ” ( 33 ) ” السماء والأرض تزولان زكلامي لا يزول ”

     انظر شرح بشارة متى 24 : 29 – 35 

( في لزوم السهر لأن ابن البشر يأتي بغتة )

     ( 34 ) ” فاحترسوا لأنفسكم أن لا تثقل قلوبكم في الخلاعة والسكر والهموم المعاشية فيقبل عليكم بغتة ذلك اليوم ” ( 35 ) ” لأنه مثل الفخ يُطبق على جميع المقيمين على وجه الأرض كلها ” ( 36 ) ” فاسهروا وصلوا في كل حين لكي تستأهلوا أن تنجو من جميع هذه المزمعة أن تكون وأن تقفوا بين يدي ابن البشر ” ( 37 ) ” وكان في النهار يُعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى جبل الزيتون ” ( 38 ) ” وكان الشعب كلهم يبكرون اليه في الهيكل ليستمعوه ”

     راجع شرح بشارة متى 24 : 37 – 51

 

 

 

 

 

 

 

( الاصحاح الثاني والعشرون )

( في مشاورة رؤساء الكهنة على يسوع وخيانة يهوذا )

     ( 1 ) ” وقرب عيد الفطير المسمى الفصح ” ( 2 ) ” وكان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب ” ( 3 ) ” فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطيّ وهو أحد الاثني عشر ” ( 4 ) ” فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يسلمه اليهم ” ( 5 ) ” ففرحوا وعاهدوه أن يُعطوه فضةً ” ( 6 ) ” فواعدهم وكان يطلب فرصةً ليسلمه اليهم بمعزل عن الجمع ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : – 5 و 14 – 16

     ( 7 ) ” وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح ” ( 8 ) ” فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً امضيا فأعدّا لنا الفصح لنأكل ” ( 9 ) ” فقالا له أين تُريد أن نُعد ”               ( 10 ) ” فقال لهما اذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء فاتبعاه الى البيت الذي يدخله ” ( 11 ) ” وقولا لرب البيت المعلم يقول لك أينو يكون المنزل الذي آكل فيه الفصح مع تلاميذي ” ( 12 ) ” فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة فأعدا هناك ” ( 13 ) ” فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدّا هناك ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : 17 – 19

     اعلم ان في عيد الفصح لم يكن لأحد من سلطان على منزله . لان الآتين من غير أورشليم اليها كانوا يقيمون في أي بيت يريدونه أو يسهل لهم فيه الاقامة . وكانت الأسواق والأماكن العمومية تغص بالجماهير الوفيرة . وكان سيدنا قد ألهم صاحب العليّة بان يحفظها لاكل الفصح . وفيها رسم الأسرار المقدسة وألقى تعاليمه واقتبل رسله هبات الروح . وقد حفظها الرسل لأنفسهم واتخذوها كنيسة وظلّت على هذه الحال حتى خراب أورشليم . وهنا مسألة ذات خطورة تضاربت فيها أقوال المعلمين والشرّاح . وتحريرها هل أكل السيد المسيح واليهود الفصح معاً أو أكله السيد قبلهم ؟ فقد أجاب يوحنا ذهبي الفم ومار افرام واندراوس في الميمر السادس في حساب السنين والأزمنة وايبوليطس وأوسابيوس وافلابيوس وغيرهم كثيرون ان اليهود لم يكونوا أكلوا الفصح عند صلب يسوع . ودليلهم ان يوحنا الانجيلي قد كتب بأن اليهود لم يدخلوا ديوان بيلاطوس لئلا يتنجسوا حتى يأكلوا الفصح . وأيضاً ان المسيح أتى الى بيت عنيا يوم السبت وكان ذلك ستة أيام قبل الفصح . فاذن يكون أكل الفصح واقعاً يوم الجمعة لأن من الأحد الى الجمعة ستة أيام . وقال آخرون ان السيد أكل الفصح في زمنه الناموسي أي في ليلة الجمعة . ودليلهم ما قاله مرقس من انه أكله في يوم الفطير الذي كانوا يذبحون فيه الفصح . وأكثر المعلمين اليونان والسريان ان مخلصنا تناول الفصح الناموسي في زمنه بخلاف اليهود الذين تأخروا عن أكله ليصلبوا المسيح

     ( 14 ) ” ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه ” ( 15 ) ” فقال لهم لقد اشتهيت شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم ” ( 16 ) ” فاني أقول لكم اني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله ” ( 17 ) ” ثم تناول كأساً وشكر وقال خذوا فاقتسموا بينكم ”    ( 18 ) ” فاني أقول لكم اني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : 19

( في رسم يسوع سر الافخارستيا )

     ( 19 ) ” وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً هذا هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم . اصنعوا هذا لذكري ” ( 20 ) ” وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلاً هذه هي الكاس العهد الجديد بدمي الذي يُسفك من أجلكم ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 26 : 26 – 28

     شكر السيد بعد أخذه الخبز ليزيل عنه اللعنة لأنه كان يؤكل باللعنة حسبما قال الرب لآدم : بعرق جبينك تأكل خبزك ثم انه باركه ليمنحنا به المغفرة وليدلنا على انه يحلّ فيه زمن القداس . وانتبه الى انه لهُ المجد وصف العهد بدمه بانه جديد وانما فعل ذلك ليجعل العهد الأول عتيقاً .

( انباء يسوع بتسليم يهوذا اياه )

     ( 21 ) ” ومع ذلك فها ان يد الذي يسلمني معي على المائدة ” ( 22 ) ” وابن البشر ماضٍ كما هو محدود ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه ” ( 23 ) ” فطفقوا يسألون بعضهم بعضاً من كان منهم مزمعاً أن يفعل ذلك ”

     مرّ تفسير هذه الآيات في شرح بشارة متى 26 : 21 – 25

( مجادلة الرسل في أيهم يحسب الاكبر )

     ( 24 ) ” ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يحسب الأكبر ” ( 25 ) ” فقال لهم ان ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطين عليهم يُدعون مُحسنين ” ( 26 ) ” وأما أنتم فلستم كذلك ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر والذي يتقدم كالذي يخدم ” ( 27 ) ” فانه مَن أكبر المتكئ أم الذي يخدم أليس المتكئ . فأنا في وسطكم كالذي يخدم ”

     انظر شرح بشارة متى 20 : 25 – 28

     ( 28 ) ” وأنتم الذين ثبتم معي في تجاربي ” ( 29 ) ” فأنا أعد لكم الملكوت كما أعدهُ لي أبي ” ( 30 ) ” لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط اسرائيل الاثني عشر ”

     انظر شرح بشارة متى 19 : 38

     من العجب ان الرسل هجروا التفكير بما هو كبير الأهمية في ذاك الزمن وأخذوا يتخاصمون في الرئاسة . أما سيدنا فما وبخهم بل استخدم شقاقهم لتقويم عوجهم وتعليمهم التواضع مثبتاً تعليمه بمثل نفسه

( نبوات يسوع بسقوط بطرس ونصائحه )

     ( 31 ) ” وقال الرب سمعان سمعان هوذا الشيطان سأل أن يُغربلكم مثل الحنطة ”

     وجّه السيد كلامه الى سمعان وقال ما تأويله : يريد الشيطان أن أتخلى عن العناية بكم كما تخليت عن أيوب وقصده أن يقلقكم ويفزعكم . وكما ان الحنطة يلزمها شدة وتعب لتتغربل هكذا يريد الشيطان تعذيبكم أشد التعذيب . ومن الأكيد ان الشيطان لا يقوى على الاضرار بأحد بدون اذن الله . ودليل ذلك مما حدث لأيوب . وكذا لم تقدر الشياطين على الدخول بالخنازير بدون سماحه تعالى . وان سألت لأي الاسباب يأذن الله بأن يجرّب الشيطان بني آدم ؟ أجبت . أولاً . لكي يعتادوا على سهامه فلا تؤثر فيهم . ثانياً . ليزدادوا فضلاً واستحقاقاً . ثالثاً . ليعرفهم الغير بأنهم مختارون لأن الرب يجرّب أحبّاءه . رابعاً . ليتطهروا من بقايا الخطية وادناسها . خامساً . ليكونوا قدوة لسواهم ومرآة يرى أمثالهم فيها ما يلزم اجراؤه فيظفروا من كل شدّة . ومن عبارة السيد نعلم ان الشيطان طلب أن يجرّب الرسل كما طلب اللاجاون الدخول في الخنازير . فاذن لم يكن قادراً من قبل ذلك على تجربتهم وغربلتهم لأن السيد لم يأذن لهُ وقد ترك لهُ المجد رسله ضعفاء ذوي وهن قبل آلامه كما هو واضح من هربهم ومن كفر بطرس به ليشعروا بضعفهم وبأنهم من ذلتهم ليسوا بشيء . الّا انه لم يتخلّ عنهم تماماً وهذا ما أبانه في العدد الآتي

     ( 32 ) ” لكني صليت من أجلك لئلا ينقص ايمانك وأنت متى رجعت فثبت اخوتك ”

     قال السيد ” صليت ” لقرب زمن آلامه ثم لأجل ضعف سامعيه لانهم لم يكونوا يكرموه كالواجب . ومن الواضح ان السيد لم يقل ذلك لضعفه فانه عرف مقصد ابليس وفضحه ثانياً من انه سبق فاعلم سمعان عما يصيبه من الكفر به . ومثل هذين الأمرين لا يعرفهما غير الله وما كان موضوع الطلب فانك تعلمه من ان سمعان كان حائزاً لأمرين هما المحبة والايمان بالسيد لهُ المجد ففقد بكفره الايمان الّا ان المحبة بقيت راسخة في قلبه . فيكون اذن موضوع الطلب أن يرجع الايمان الى نفسه ولا يهلك مع غير المؤمنين فبذلك أعلن ربنا انه لم يتخلّ التخلّي كله عن تلميذه . ولأي الأسباب أذن الربّ بسقوط تلميذ ؟ انما كان ذلك لحكمة كبرى وهي أن يجرّب بطرس ضعفه ويعرفه حق معرفته ويرى كيف تميل الطبيعة الانسانية الى المعصية والخطية حتى اذا رأى بعد اهتدائه من هم ضعفاء من اخوته ومن أعضاء الكنيسة ثبّتهم وسند ضعفهم وترأف بحالهم وأرجعهم الى الصواب والهدى بكل تؤدة ورحمة .

     ( 33 ) ” فقال له يا رب أنا مستعد أن أمضي معك الى السجن والى الموت ”             ( 34 ) ” قال اني أقول لك يا بطرس انه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات انك تعرفني . ثم قال لهم ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : 33 – 35

     وانتبه الى أمر ذي بال وهو ان سيدنا رضي باختياره التام بان يتألم ولم يكرهه أحد على ذلك ودليل رضاه انه عرف بما سيحدث لهُ من العذاب وأخبر به سمعان والتلاميذ في مواضع كثيرة وأيضاً ان اليهود ارادوا امساكه فما أذن لهم بل اجتاز ما بينهم ولم يؤذوه ثم انه احيا كثيرين كانوا قد ماتوا كابن الارملة وابنة يائيرس ولعازر وأيضاً انه لم يختفِ بل بعد العشاء السري قصد مكاناً يعرفه يهوذا

     ( 35 ) ” لما أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا حذاء هل أعوزكم شيء ” ( 36 ) ” قالوا لا . فقال لهم أما الآن فمن له كيس فليأخذه وكذلك مَن له مزود ومَن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً ”

     لم يقل سيدنا ببيع الثوب لمشترى السيف الّا لافهام سامعيه بانهم محتاجون الى اعانة ومساعدة . وقد ذكّرهم بالسيف انهم كانوا من قبل بدون خوف ولا وجل راسخين في نعمته ولا اهتمام لهم باقتناء ما يحتاجون اليه اما الآن فلانه يسلم نفسه الى الآلام سيكون لهم احتياج مدة زمن وجيز ليتحققوا ضعفهم . ويعترض معترض بان السيد عندما ارسلهم الى الشعب للكرازة وللتبشير أمرهم الّا يأخذوا كيساً فكيف يأمرهم هنا بأخذ السيف ؟ فالجواب انه منحهم اذ ذاك المقدرة على عمل المعجزات بقوله اشفوا المرضى واقيموا الموتى وما اشبه . ومن أجل هذا كان الناس يكرمونهم اكبر اكرام . اما هنا فبسبب الامه الحاضر منع عنهم قوة المعجزات وأمرهم بأخذ السيف الى ان يقبلوا الروح القدس فيتركون عند قبولهم آلة القتل هذه. وافهم حق الفهم ان السيف لم يكن ليقاتلوا به بل ليستدلوا بذكره الى ان صالبيه الماكرين سيقومون عليهم ويضطهدونهم . وأيضاً أشار بأخذه الى القتال والخراب الذي حلّ بأورشليم وبالمؤمنين زمن فسبسيانوس وذلك بعد أربعين سنة من موته . وأيضاً أخذ السيف وبيع الثوب يعنيان ترك الراحة واتخاذ المتاعب . أو أنه بامره بهما شاءَ ان يظهر قدرته اذ أذن بان يقطع سمعان أذُن ملكوس بالسيف الذي كان معه . ثم وضعها في محلها وشفى الجرح . وبذلك وبّخ يهوذا والقابضين عليه معلناً انه باختياره يتألم وعلّم تلاميذه الصبر والاحتمال

     ( 37 ) ” فاني أقول لكم انه ينبغي أن يتم فيّ هذا المكتوب ان قد أحصي مع الأثمة لان ما يختص بي آخذ في التمام ” ( 38 ) ” فقال يا رب ان ههنا سيفين . فقال لهم يكفي ”

     صلب اليهود مخلصنا مع الأثمة بين لصين ولهذا السبب أتى الرومانيون وانتقموا لهُ من الشعب الخائن وبدّدوه في اقطار الارض . ومنذ الآن يشهد السيد بان كلما يتعلق به من النبوات سينال تمامه في آلامه وصلبه وموته . وهل أدرك التلاميذ غرض المسيح من كلامه ؟ فالجواب بالنفي . ودليله انهم قالوا لهُ : ان ههنا سيفين . وما مصدر هذين السيفين . قال القديس يوحنا الذهبي الفم انهما من سكاكين الفصح واذ علم التلاميذ بان اناساً سيأتونهم اخذوهما معهم للمدافعة وهاتان السكّينان سموهما سيفين . ورأى فريق ثالث ان التلاميذ بعد ان سمعوا بأن اليهود آتون لقتالهم استحضروا السيفين للدفاع عن معلمهم الذي قال لهم : يكفي لا بمعنى ان السيفين كافيان للقتال لأنه لهُ المجد لم يشأ قط ارسالهم الى القتال بل بمعنى أنْ امتنعوا عن القتال . ولم يكونوا قد فهموا ما مراده بعبارته : الذي ليس لهُ فليبع ثوبه وليشترِ سيفاً

( يسوع في جبل الزيتون وصلاته في البستان )

     ( 39 ) ” ثم خرج ومضى على عادته الى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ ” ( 40 ) ” فلما انتهى الى المكان قال لهم صلوا لئلا تدخلوا في تجربة ” ( 41 ) ” ثم فُصل عنهم نحو رمية حجر وخرّ على ركبتيه وصلى ” ( 42 ) ” قائلاً يا أبتِ ان شئت فأجِزْ عني الكاس لكن لا تكن مشيئتي بل مشيئتكَ ” ( 43 ) ” وترآئ له ملاك من السماء يُشدده . ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة ” ( 44 ) ” وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الارض ” ( 45 ) ” ثم قام من الصلاة وجآء الى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن ” ( 46 ) ” فقال لهم ما بالكم نائمين قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ”

     سبق الكلام على ذلك في شرح بشارة متى 26 : 36 – 46

( في قبلة يهوذا وقطع اذن ملكس )

     ( 47 ) ” وفيما هو يتكلم اذا بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبلهُ ” ( 48 ) ” فقال له يسوع يا يهوذا أبقبلةٍ تسلم ابن البشر ” ( 49 ) ” فلما رأى الذين حوله ما سيحدث قالوا له يا رب أنضرب بالسيف ” ( 50 ) ” وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى ” ( 51 ) ” فأجاب يسوع وقال قفوا لا تزيدوا . ثم لمس أذنه فأبرأه ”

     راجع شرح بشارة متى 26 : 47 – 55

     ان الضارب هو سمعان وقطع الاذن اليمنى وقد أراد اظهار محبته لسيده فقصد قطع الرأس الّا ان ملكوس امال رقبته وانحنى فلم يصب السيف الّا الاذن التي قطعت من فوق

( في خطاب يسوع للقوم )

     ( 52 ) ” ثم قال يسوع للذين جآءوا اليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ كأنما خرجتم الى لصٍ بسيوف ٍ وعصي . ” ( 53 ) ” اني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا عليّ أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة ”

     راجع شرح بشارة متى 26 : 55 و 56

     تكلّم السيد عن ساعة اليهود وسلطان الظلمة ليشابه بين عملهم الشرير والظلام وكأنه قال : كما ان ضمائركم مظلمة بالخبث والشرّ هكذا انما يليق بكم اجراء اعمالكم الشائنة في الليل وان هذا زمن الظلام معلن لقباحة نفوسكم فانتم كاللصوص تفعلون فعلكم وفي وقت الظلمة تنشرون سلطانكم الظالم وسوف تلاقون جزاء اعمالكم في الظلمة وفسر أيضاً : هذه ساعتكم بأنْ : يؤذن لكم الآن وللشيطان معلمكم بان تضعوا في حيز العمل نياتكم الشريرة

 

( في اقتياد يسوع الى بيت رئيس الكهنة ونكران بطرس الاول )

     ( 54 ) ” فقبضوا عليه وقادوه الى بيت رئيس الكهنة وكان بطرس يتبعهُ من بعيد ”     ( 55 ) ” وأضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس فيما بينهم ”            ( 56 ) ” فرأته جارية جالساً عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت ان هذا أيضاً كان معه ”       ( 57 ) ” فأنكره قائلاً يا امرأة اني لست أعرفه . ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : 57 و 58 ثم 69 و 70

( في نكران بطرس الثاني )

     ( 58 ) ” وبعد قليل رآه آخر فقال أنت أيضاً منهم . فقال بطرس يا رجل أنا لست منهم ”

     راجع شرح بشارة متى 26 : 71 و 72

( في نكران بطرس الثالث وتوبته )

     ( 59 ) ” وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلاً في الحقيقة هذا أيضاً كان معه فانه جليليّ” ( 60 ) ” فقال بطرس يا رجل لا أدري ما تقول وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الدّيك ”      ( 61 ) ” فالتفت الرب ونظر الى بطرس فتذكر بطرس كلام الرب اذ قال انك قبل ان يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات ” ( 62 ) ” فخرج بطرس الى خارج وبكى بكاءً مراً ”

     انظر شرح بشارة متى  26 : 73 – 75

( في الاهانات التي احتملها يسوع عند قيافا )

     ( 63 ) ” وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزأون به ويضربونه ” ( 64 ) ” وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين تنبأ مَن الذي ضربك . ” ( 65 ) ” وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولونها عليه مجدفين . ”

     انظر شرح بشارة متى 26 : 67 و 68

     ( 66 ) ” ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤسآء الكهنة والكتبة وأحضروه الى محفلهم وقالوا ان كنت أنت المسيح فقل لنا ” ( 67 ) ” فقال لهم ان قلت لكم لا تؤمنون ”    ( 68 ) ” وان سألتكم لا تجيبوني ولا تُطلقوني ” ( 69 ) ” ولكن من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله ” ( 70 ) ” فقال الجميع أفأنت ابن الله . فقال لهم أنتم تقولون اني أنا هو ” ( 71 ) ” فقالوا ما حاجتنا الى شهادةٍ انا قد سمعنا من فمه ”

     راجع شرح بشارة متى 27 : 1 و 2

 

 

 

( الاصحاح الثالث والعشرون )

( حضور يسوع أمام بيلاطس واستنطاقه )

     ( 1 ) ” فقام جميع جمهورهم ومضوا به الى بيلاطس ” ( 2 ) ” وطفقوا يشكونه قائلين انا وجدنا هذا يُفسد أمتنا ويمنع من أدآء الجزية لقيصر ويدّعي أنه هو المسيح الملك ” ( 3 ) ” فسأله بيلاطس قائلاً هل أنت ملك اليهود . فأجابه قائلاً أنت قلت ” ( 4 ) ” فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع اني لم أجد على هذا الرجل علةً ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 11 – 14

( في حضور يسوع أمام هيرودس واقتياده ثانية الى بيلاطس )

     ( 5 ) ” فلجوا وقالوا انه يُهيج الشعب اذ يُعلم في اليهودية كلها مبتدئاً من الجليل الى ههنا ” ( 6 ) ” فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل هل الرجل جليليّ ” ( 7 ) ” ولما علم أنه من ايالة هيرودس أرسله الى هيرودس وكان في تلك الأيام في أورشليم ” ( 8 ) ” فلما رأى هيرودس يسوع فرح جداً لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها ” ( 9 ) ” فسأله بكلام كثير فلم يُجبه بشيء ” ( 10 ) ” وكان رؤسآء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة ” ( 11 ) ” فازدراه هيرودس مع جنوده وهزأ به وألبسهُ ثوباً لامعاً وردّه الى بيلاطس ” ( 12 ) ” وتصادق هيرودس وبيلاطس في ذلك اليوم وقد كانا من قبل متعاديين ”

     كانت العداوة مستحكمة بين بيلاطوس وهيرودس بسبب ما ارتكبه بيلاطس من القتل نكاية بهيرودس عندما قطع رأس يوحنا . وارتأى فريق آخر ان سبب هذه المذبحة صادر عن ان بيلاطوس وجد الناس يقدمون ذبائح محرمة عليهم

     ( 13 ) ” فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظمآء والشعب ” ( 14 ) ” وقال لهم قدّمتم اليّ هذا الرجل كأنه يفتن الشعب وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة ً مما تشكونه به ” ( 15 ) ” ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلتكم اليه وهوذا لم يُصنع به شيء من حكم الموت ” ( 16 ) ” فأنا أؤدّبه وأطلقه ”

( في تفضيل اليهود برأبا على يسوع وطلبهم صلب يسوع )

     ( 17 ) ” وكان لا بدّ له أن يطلق لهم في كل عيد رجلاً ” ( 18 ) ” فصاحوا كلهم جملةً قائلين ارفع هذا وأطلق لنا برأبا ” ( 19 ) ” وكان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل ” ( 20 ) ” فناداهم بيلاطس مرةً أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع ”        ( 21 ) ” فصرخوا قائلين اصلبه اصلبه ” ( 22 ) ” فقال لهم مرّةً ثالثةً وأي شرّ صنع هذا اني لم أجد عليه علةً للموت فأنا أؤدّبه وأطلقه ” ( 23 ) ” فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يُصلب واشتدّت أصواتهم ” ( 24 ) ” فحكم بيلاطس ان يجري مطلبهم ”           ( 25 ) ” فأطلق لهم الذي طلبوهُ ذاك الذي القي في السجن لأجل فتنة وقتل وأسلم يسوع لارادتهم ” ( 26 ) ” وبينما هم منطلقون به أمسكوا سمعان رجلاً قيروانياً كان آتياً من الحقل وجعلوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع ”

     راجع شرح بشارة متى 27 : 15 – 26

( في ذهاب يسوع الى الجلجلة )

     ( 27 ) ” وكان يتبعه جمهور كثير من الشعب والنسآء اللواتي كن يلطمنَ وينحن عليه ” ( 28 ) ” فالتفت يسوع اليهنّ وقال يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكنّ وعلى بنيكنّ ” ( 29 ) ” فها انها تأتي أيام يُقال فيها طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثديّ التي لم ترضع ” ( 30 ) ” حينئذٍ يبتدئون يقولون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا” ( 31 ) ” لأنهم ان كانوا صنعوا هذا بالعود الرطب فماذا يكون باليابس ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 31 و 32

     ( 32 ) ” وأتي معه بآخرين مجرمين ليقتلا ” ( 33 ) ” ولما بلغوا الى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمَين أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار ”                 ( 34 ) ” فقال يسوع يا أبتِ اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون واقتسموا ثيابه بينهم واقترعوا عليها ”

     راجع شرح بشارة متى 27 : 33 و 34

     وسائلٍ هل غُفر لليهود او لا فان كانوا قد مُنحوا المغفرة فكيف الجواب على هذا القول : الذي يأخذ بالسيف فبالسيف يهلك . وعلى هذا الآخر . اما اعداءي فأتوا بهم واذبحوهم لانهم لم يريدوا ان أملك عليهم . وان كانوا قد حُرموا المغفرة فقول السيد المسيح على الصليب طالباً المغفرة عبث هو وباطل ؟ فقد أجاب بعض المفسرين أن مخلصنا عمل بمقتضى مشورته وقد قال لهُ المجد : باركوا لاعنيكم وذلك على شبه تعليمه المتواضع عندما غسل ارجل تلاميذه. وأجاب فريق آخر بالخلاف قالوا : لم يغفر لليهود ولا الآب غفر لهم . ومن البين ان هذا الجواب يزيد الاعتراض ارتباكاً . اما الجواب الصحيح على رأينا فهو ان العبارة تُقال اما لمعناها الحقيقي الظاهر فيها لأول وهلة واما للدلالة على معنى آخر بطريق المجاز أو الاستعارة . ومن هذا الباب الثاني قول السيد عينه : صلّوا لئلا يكون هربكم في السبت . فليس مراده ان يحفظوا السبت لانه هو حلّه اذ أذِن باقتلاع السنبل وفرْكه وأكله ولكن انما قاله اثباتاً لخراب أورشليم ودلالةً على العذاب الذي يحلّ باهلها وقد يكون هذا العذاب الذي يحلّ باهلها وقد يكون هذا العذاب فادحاً هائلاً لا يحترم راحة السبوت . وأيضاً ان ارميا طلب الصلاة للقرية السابية وداود دعا عليها بان يُمسك باطفالها ويُضرَب بهم الصخرة فمراد داود ان السابي الظالم يستوجب العقاب ومُراد ارميا ان يفهم مواطنيه انهم لا يعتقون سريعاً من السبي كما كانت الانبياء الكذبة تؤملهم بل عليهم ان يصبروا أو يحتملوا . وأيضاً ان قوله لهُ المجد : لا يدرون ما يعملون يظهر مناقضاً لقوله الآخر : لو لم آتِ وأكلّمهم لما كان لهم خطيئة . أو الآن قد رأوا وابغضوا . أو وهذا هو الوارث تعالوا نقتله . فالجواب ان هذه الاقوال يجب ان نفسرها لا كما هي في حرفيتها بل بالمعاني المناسبة لها وانك تدرك ذلك ان علمتَ ان اليهود كانوا يعدّون مخلصنا ضالاً فجرّدهم من فكرهم هذا بطلب الغفران لهم واعلمهم ان قصده خلاصهم وفي قصده هذا لا ضلالَ ثم ان المعرفة على نوعين منها ما تكون كاملة في ذاتها ومنها ما تكون معرفة حقاً الّا انها بالنسبة الى غيرها هي ألّا معرفة . فالقول هنا لا يدرون معناه انهم لا يعرفون غوامض الاسرار التي اعلن الله وجودها ولا سرّ الصليب الذي يتمّ الآن. ويمكن تفسير اغفر لهم بان يُقال ان السيد المسيح تكلم على مثال من يقول للقاضي : اغفر لهذا الشقي الذي لا يرتدع عن معاصيه . أي لا تبالِ بما يفعله في حقك وفي حق شرائعك . فلا يريد أن يطلب منه ألّا يعذبه أو ألّا ينزل به العقوبة اللازمة

     تفسير آخر . ان المسيح كان عارفاً بأن اليهود لا ينالون المغفرة لانهم لا يتوبون . ومن لا يتُب فلا ينال المغفرة ومع ذلك طلب لهم المغفرة ليبين للبشر عموماً ولليهود خاصّة ان لا يقطعوا رجاءهم من نيل الغفران ومن الخلاص لان الله يساعد كل الناس عليهما

     تفسير آخر أيضاً :  يا أبتِ انا عارف انهم يعملون بدون معرفة وانهم رابحون في عملهم فاغفر لهم أي اتركهم يتممون مرغوبهم الرديّ . وقد قال بعضهم ان طلبة الابن للغفران لم يقبلها الآب . وهذا مردود لان الابن يكون أرحم من أبيه والأمر محال وغير لائق بشأن الله العظيم . وقال آخرون ان الآب قبل الطلبة وغفر الّا ان اليهود لما كذّبوا قيامة الابن وقالوا ان تلاميذه سرقوا جسده أعاد الخطية عليهم وقال مار ساويرس ان من ماتوا من اليهود قبل القيامة خلصوا لانه غُفِر لهم . اما من بقوا على رأيهم الخبيث بعد ان نظروا الظلمة والعجائب وقت الصلب وما استفادوا من هذه العجائب فلم يُغفر لهم

( في اقتسام الجنود ثياب يسوع وفي التجاديف عليه )

     ( 35 ) ” وكان الشعب واقفين ينظرون والرؤسآء يسخرون منه معهم قائلين قد خلص آخرين فليخلص نفسه ان كان هو مسيح الله المختار ” ( 36 ) ” وكان الجند أيضاً يهزأون به مُقبلين اليه ومقدمين له خلاً ” ( 37 ) ” وقائلين ان كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك ”    ( 38 ) ” وكان عُنوان فوقه مكتوباً بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية هذا هو ملك اليهود ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 35 – 44

( في أقوال يسوع المصلوب الأخيرة )

     ( 39 ) ” وكان أحد المجرمين المصلوبين يجدّف عليه قائلاً ان كنت أنت المسيح فخلص نفسك وايانا ” ( 40 ) ” فأجاب الآخر وانتهره قائلاً أما تخشى الله وأنت مشترك في هذا القصاص ” ( 41 ) ” أما نحن فبعدل لأنا نلنا ما تستوجبه أعمالنا وأما هذا فلم يصنع شيئاً من السوء ” ( 42 ) ” ثم قال ليسوع يا رب اذكرني متى جئت في ملكوتك ” ( 43 ) ” فقال له يسوع الحق أقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس ” ( 44 ) ” وكان نحو الساعة السادسة فحدثت ظلمة على الأرض كلها الى الساعة التاسعة ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 44 و 45

     أراد لصّ الشمال ان يثير الغيرة في قلب مخلصنا لينجّي ذاته وينجيهما . فأجابه لصّ اليمين ان كنت َ فيما مضى نبذت خوف الله فخفْ الآن وأنت في العذاب واندم على الشرور التي عملتها . وانتبه الى ان لصّ الشمال واليهود قد اعترفوا بان السيد المسيح خلّص أناساً آخرين . فاعترافهم هذا توبيخ لاحبارهم ورؤسائهم . ثم لاحظ حماقتهم فلأن المخلص صرخ  ” ايلي ايلي ” ظنوا انه يستدعي ايليا لاعانته . وقد جرت العادة باستعمال هذه اللفظة في كل اللغات وهي منقولة عن قوله لهُ السجود وهو على خشبة الصليب

( في موت يسوع وما حدث من المعجزات )

     ( 45 ) ” وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه ” ( 46 ) ” ونادى يسوع بصوت عظيم قائلاً يا أبتِ في يديك استودع روحي . ولما قال هذا أسلم الروح ”               ( 47 ) ” فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلاً في الحقيقة كان هذا الرجل صديقاً ”     ( 48 ) ” وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر لما عاينوا ما حدث رجعوا وهم يقرعون صدورهم ” ( 49 ) ” وكان جميع معارفه والنسآء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 50 – 56

( في دفن يسوع )

     ( 50 ) ” واذا برجل اسمه يوسف وهو مشير صالح صدّيق ” ( 51 ) ” ولم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم وكان من الرامة مدينة اليهود وكان هو أيضاً ينتظر ملكوت الله ”               ( 52 ) ” هذا دنا الى بيلاطس وسأله جسد يسوع ” ( 53 ) ” وأنزلهُ ولفه في كتان ووضعه في قبر منحوت لم يكن قد وُضع فيه أحد ”

     راجع شرح بشارة متى 27 : 57 – 61

( فيما حدث من دفن يسوع الى قيامته )

     ( 54 ) ” وكان يوم التهيئة وقد أخذ السبت يلوح ” ( 55 ) ” وكانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل يتبعن فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده ” ( 56 ) ” ثم رجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً وفي السبت قرّرنَ على حسب الوصية ”

     انظر شرح بشارة متى 27 : 61 – 66

     ان النساء اعددن مرتين الحنوط والاطياب ومضين بها الى القبر ودليل ذلك ان مرقس ذكر اسماء ثَلاث منهن أي مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وصالومة . وقال انهن اعددن هذه الاطياب في السبت ثم قال لوقا ان النساء اعددن ذلك قبل السبت أي في يوم الجمعة وما ذكر اسماءهن . فاذن الاعداد مختلف والزمن أيضاً . وجعلت عناية الله ان يكون الفبر قريباً . أولاً ليسهل الذهاب اليه . ثانياً لتظهر القيامة واضحاً للجميع

 

 

 

( الاصحاح الرابع والعشرين )

في قيامة يسوع من القبر واتيان النساء الى القبر واخبارهن الرسل بما رأين

     ( 1 ) ” وفي أوّل الاسبوع باكراً جداً أتين الى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددنه ”  ( 2 ) ” فوجدن الحجر قد دُحرج عن القبر ” ( 3 ) ” فدخلن فلم يجدنَ جسد الرب يسوع ”   ( 4 ) ” وبينما هنّ متحيرات في ذلك اذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس برّاق ” ( 5 ) ” واذ كنّ خائفات ونكسنَ وجوههن الى الأرض قالا لهنّ لماذا تطلبن الحي بين الأموات ”            ( 6 ) ” انه ليس ههنا لكنه قد قام . أذكرنَ كيف كلمكنّ وهو في الجليل ” ( 7 ) ” اذ قال انه ينبغي لابن البشر أن يُسلم الى أيدي أناس خطأة ويُصلب ويقوم في اليوم الثالث ”              ( 8 ) ” فذكرنَ كلامه ” ( 9 ) ” ورجعن من القبر وأخبرنَ الاحد عشر وجميع الباقين بهذا كله ” ( 10 ) ” ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهنّ هنّ اللواتي أخبرن الرسل بهذا ” ( 11 ) ” فكان عندهم هذا الكلام كالهذيان ولم يصدقوهنّ ”

     راجع شرح بشارة متى 28 : 1 – 8

     ان الرسل عندما سمعوا بان سيدنا حيّ لم يصدقوا بل استهزأوا بهذا الخبر . ولا عجب فان كان توما لم يؤمن بقول الرسل فبأولى حجة لا يمكن للرسل ان بؤمنوا بقول النساء

( في اتيان بطرس الى القبر وظهور يسوع لتلميذين سائرين الى عماوس )

     ( 12 ) ” فقام بطرس وأسرع الى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجباً في نفسه مما كان ” ( 13 ) ” وان اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم الى قرية اسمها عماوس بعيدة عن أورشليم ستين غلوة ” ( 14 ) ” وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها ”

     سؤال . مَن التلميذان اللذان كانا سائرين يوم أحد القيامة ؟ الجواب انهما كانا من الاثنين والسبعين تلميذاً . وعلى قولٍ هما كلاوبا ولوقا الذي أخفى اسمه تواضعاً . أو برنابا على رأي آخر . وان سألت ما كلاوبا ؟ فاعلم انه أخو يوسف خطيب مريم العذرآء وقد صار أسقف أورشليم بعد أخوه يعقوب . والاثنان كانا يتحدثان في آلام السيد وفي ظروف امساكه والحكم عليه وصلبه وموته . وقد ذكر ان عماوس تبعد ستين غلوة عن أورشليم أي ثمانية أميال . لأن الغلوة خمسة خطوط والخط أربعمائة ذراع وكل سبعة خطوط ونصف ميل واحد . وكل ثلاثة أميال فرسخ واحد

     ( 15 ) ” وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما ”    ( 16 ) ” ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته ” ( 17 ) ” فقال لهما ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين ” ( 18 ) ” فأجاب واحد منهما اسمه كلاوبا أفأنت وحدك غريب عن أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام ” ( 19 ) ” فقال لهما وما هو. قالا له ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلاً نبياً ذا قوة في الفعل والقول أمام الله والشعب كله ” ( 20 ) ” وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه ”                ( 21 ) ” ونحن كنا نرجو انه هو المزمع أن يفدي اسرائيل ولكن مع هذا جميعه فاليوم الثالث هو لحدوث ذلك ” ( 22 ) ” الا ان نساء منا أدهشننا لأنهن بكرنَ الى القبر ” ( 23 ) ” فلم يجدنَ جسدهُ فأتينَ وقلنَ انهن رأين مظهر ملائكة قالوا انه حي ” ( 24 ) ” فمضى قوم من الذين معنا الى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه ”

     اقترب السيد منهما ولم يعرفاه لان قوته منعت أن ينظراه كما هو فظنّاه غريباً . وذلك ليتمكنا من محادثته ومذاكرته مطوّلاً . وهو عينه قادهما الى هذه المذاكرة بسؤاله عما يتحاوران فيه . وقد دعياه غريباً لان سكان أورشليم كان لهم زيّ ثياب مخصوص وكان السيد بثياب مخالفة لهذا الزيّ . ومعنى كلامهما : أتجهل ما حدث يومي الجمعة والسبت الماضيين ونحن في يوم الأحد غير بعيدين بالزمن عمّا حدث . ألا تعلم ما وقع ليسوع الاله خالق البلاد والأماكن الذي صار انساناً وتلقب باسم الناصري والجليلي وبالنبي العظيم بل هو رب الانبياء ومانح النبوة وكانت قوته كبرى في التعليم وصنع المعجزات . وقد رجونا مدةً ان يكون المخلص المزمع الّا ان اليهود صلبوه ومات واليوم هو الثالث لموته ودفْنه وقد اخبرتنا نساء ذهبن باكراً الى قبره انهن شاهدن ملائكة قالوا لهنّ انه حيّ . وذهب ممّن معنا سمعان ويوحنا فشاهدا ما شاهدن . ومن المعلوم ان والدة الله ومريم المجدلية رأتاه أيضاً والمجدلية دعته بلقب يا معلم كما في انجيل يوحنا

     ( 25 ) ” فقال لهما يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الايمان بكل ما نطقت به الأنبياء ”  ( 26 ) ” أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل الى مجده ” ( 27 ) ” ثم أخذ يفسر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء ما يختص به في الأسفار كلها ”

     بحقّ سمّاهما قليلي الفهم لانهما ما فهما أقوال كتب الانبياء التي ذكرت من قبلُ ظروف آلامه وقيامته . وكان لازماً ان يحتمل سيدنا الموت والصلب اللذين يسميهما مجداً ولولا صلبه وموته لما أظلمت الشمس وزلزلت الأرض وحدثت المعجزات الدالة على انه اله . فهذه كلها تُدعى مجداً حقيقياً . وقد ذكر المخلص تأييداً لكلامه آيات الكتب المنزلة من أسفار موسى والانبياء

     ( 28 ) ” فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق الى مكان أبعد ” ( 29 ) ” فألزماه قائلين امكث معنا لأن المساء مُقبل وقد مال النهار فدخل ليمكث معهما ”   ( 30 ) ” ولما اتكأ معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما ” ( 31 ) ” فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما ” ( 32 ) ” فقال أحدهما للآخر أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب ” ( 33 ) ” وقاما في تلك الساعة ورجعا الى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين ” ( 34 ) ” وهم يقولون لقد قام الرب في الحقيقة وترآءى لسمعان ” ( 35 ) ” فأخذا هما يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز ”

     جرت عادة الناس بان يلحّوا في منتهى النهار على عابري الطريق الذين يسافرون معهم بان يقبلوا الضيافة في بيوتهم . وهذا ما صنعه كلاوبا الذي تأويله حسن ووافقه عليه لوقا رفيقه . فقد طلبا من السيد المتظاهر بالانطلاق الى مكان بعيد ان يستريح الليل عندهما . ولما اتكأ معهما وبما انه كان أكبر منهما وذا علم ومعارف طلبا منه أن يبارك الخبز . وقد كانت بركته تبعاً لقوم بهذه العباره : باسم الآب والابن والروح القدس . مقرونة برسم اشارة الصليب . وما تناولا من يده الخبز حتى انفتحت عيون عقليهما وعرفاه فغاب للحال عنهما واختفى ولم يذق شيئاً . وقد شهدا بأن قلبيهما كانت مضطرمة أي تحترق مثل الخشب عند مخاطبته . وبعد ذلك أسرعا في المجي الى الرسل الاحد عشر واطلعاهم على ما رأيا وتكلما . فمن هنا تعلم ان هذين التلميذين لم يكونا من الرسل بل من الاثنين والسبعين . وكان يهوذا الاسخريوطي قد هلك ومتياس لم يدخل في عدد الرسل . ثم اني ارتأي ان السيد المسيح ترآءى لسمعان في رجوعه من القبر بعد أن تردّى ثياباً ولو ان هذا الظرف غير مذكور في الانجيل لان المسيح عمل اشياء كثيرة ولم تكتب كما شهد يوحنا

( في ظهور يسوع لتلاميذه ووعده اياهم بارسال الروح )

     ( 36 ) ” وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم السلام لكم انا هو لا تخافوا ” ( 37 ) ” فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً ” ( 38 ) ” فقال لهم ما بالكم مرتعدين ولماذا أثارت الأوهام في قلوبكم ” ( 39 ) ” أنظروا يديّ ورجلي . اني أنا هو. جسوني وانظروا فان الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي ” ( 40 ) ” وعند قوله ذلك أراهم يديه ورجليه ”

     كان ظهور المخلص في المساء عند غروب الشمس يوم الاحد أي ليلة الاثنين بينما يتحدث رسله في أمر قيامته ومشاهدة بعضهم اياه . وبادأهم بالسلام كما كان يفعل وقَصْده السني أن يزيل خوفهم . وروى يوحنا انه دخل عليهم والأبواب موصودة أو مقفلة فرأوه ما بينهم فجأة . واعلم هنا ان سيدنا صنع ثلاث معجزات تشبه الواحدة الأخرى أي انه وُلد من أمه دون أن يفك ختم بكارتها . وقام من القبر دون أن يفك الأختام التي وضعها عليه اليهود . ودخل العلّية وابوابها مقفلة . واذ نظرهم خائفين من رؤيته شدّد عزيمتهم وأفهمهم انه هو الذي اختارهم منذ الابتداء وسلّطهم على الشياطين وانه هو الذي تألّم وقام . ولما كانت معرفة الافكار الخفية خاصّة بالله وكان لهُ المجد الابن المساوي بالجوهر لأبيه عرف الارتياب الذي خالج قلوبهم وقال ما مفاده : ان كنتم تظنّوني خيالاً فمدّوا اليّ أيديكم وجسّوني فانّ لي لحماً ودماً والروح المحض لا لحم ولا دم لهُ . ثم انظروا جراح يديّ ورجلي تتحقّقوا اني أنا الذي صلبت وقمتُ . وهكذا تمّ بالفعل اذ كشف لهم عن موضع المسامير والحربة

     ( 41 ) ” واذ كانوا غير مصدقين بعدُ من الفرح ومتعجبين قال أعندكم ههنا طعام ”      ( 42 ) ” فأعطوه قطعة من سمك مشويّ وشهد عسل ” ( 43 ) ” فأخذ وأكل أمامهم ثم أخذ الباقي وأعطاهم ”

     جرت عادة الناس اللذين يفاجئهم فرح عظيم على غير انتظار ان لا يصدقوا ما يرون أو يسمعون وهذا ما وقع للتلاميذ أعينهم فتنازل أيضاً مخلصنا لاقناعهم وطلب منهم طعاماً يأكله ليحقّق لهم قيامته فأعطوه وأكلوا أكلا حقيقياً معهم . وهذا ما أثبته أيضاً بطرس اذ قال : اننا نحن أكلنا وشربنا معه . وقد أكل لهُ المجد سمكاً اشارة الى طبيعتنا الغارقة من قبل في بحر الشهوات الّا انها باتحادها باللاهوت نجت من الغرق وتخلّصت من وَهْن الخطية ورخاوة لذتها المميتة . وتطهرت وتقدّست فصارت لذيذة لله كالعسل لانها تزينت بالفضائل وخاصة في محبة الرب وأيضاً بواسطة تجسد الابن اتحد جنسنا بالنار العقلية واشترك باللاهوت فظهر كالمشوي متجرد من ضعف الشهوات والاهواء فصار يتلقى الأوامر السماوية ويقبلها بسهولة كما يقبل الشمع كل كتابة ورسم فيه . وهنا مسألة : كيف يأكل السيد المسيح بعد قيامته . أجاب فريق انه لم يأكل حقاً ولا يمكن أن يقال عنه انه أكل أكلاً خيالياً بل كان يضع القوت في فمه ويمضغه ويبلعه ولكن لا يقتات جسده به بل كان هذا القوت يفنى ويتلاشى بقوة الروح ثم يعود الى العناصر التي أخذ منها على شبه أكل الآب والملاكين في العهد القديم عندما تناولوا الطعام بدعوة ابراهيم . وقال فريق آخر انه أكل الطعام كما تأكل النار الذبائح . وادعى فريق ثالث انه لم يُدخل لهُ المجد الطعام الى معدته بل كان يلاشيه في الهواء . اما نحن فنثبت ان أكل وشرب حقاً بعد القيامة ولو اننا عاجزون لقلة ادراكنا عن تفسير ذلك . لأن أعمال السيد عجيبة فائقة الطور المألوف بين الناس ولذلك سمّاه اشعيا عجيباً . وكما كانت أفعاله قبل القيامة خارقة المعتاد . هكذا أيضاً بعدها . ومن تلك حبله بدون زرع بشري وميلاده بدون نقض البكارة . ومشيه على المياه وتغيره على الجبل من كثافة الاجسام الى لطافة الارواح وصومه أربعين يوماً بدون أن يجوع وتنجيته نفسه عندما أرادوا طرحه على الجبل . ومن هذه ظهوره ظهوراً محسوساً يمكن الشعور به بالحواس . وتبيين آثار الحربة والمسامير في جنبه ويديه . وأكله وشربه . ورؤية جسده كأجساد باقي البشر وكان لابساً ثياباً ولو ان ثيابه الاولى أخذها الجنود عند صلبه وكفنه أخذه سمعان ويوحنا . وان سألتْ ما الحكمة في كل هذه؟ أجبتُ ان أعماله غير المألوفة بعد القيامة قصَدَ بها دفع الشكوك واثبات قيامته . اما افعاله قبل القيامة ليحقق انه صار انساناً من دون تغيير . ثم كما انه أخفى جسده المائت تحت بهاء اللاهوت عند تمجده في جبل طابور كذلك أخفى بهاء مجده وعظمة جسده غير القابل للموت بعد قيامته تحت اعراض جسد مثل اجسادنا وغايته ان يراه تلاميذه لان الانسان في الحياة الدنيا لا يقوى على رؤية مجد جسد قام من الأموات وهو غير قابل للموت ثانية

     ( 44 ) ” وقال لهم هذا هو كلامي الذي كلمتكم به اذ كنت معكم أنه ينبغي أن يتم كل ما كتب عني في ناموس موسى وفي الانبياء والمزامير ” ( 45 ) ” حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب ” ( 46 ) ” وقال لهم هكذا كتب وهكذا كان ينبغي للمسيح أن يتألم وأن يقوم في اليوم الثالث من بين الاموات ” ( 47 ) ” وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا في جميع الأمم ابتدآء من أورشليم ” ( 48 ) ” وأنتم شهود لذلك ” ( 49 ) ” وأنا أرسل اليكم موعد أبي فامكثوا أنتم في المدينة الى أن تُلبسوا قوة من العلاء ”

     افهمهم انه من قبل آلامه وموته وقيامته كان قد ذاكرهم في كل هذه الأمور وان اتمامها كان ضرورياً لتحقيق ما كتب موسى والأنبياء وجاء في المزامير عن التدابير الربانية . وبعد ان فسر لهم ذلك فهموه . ومن كلامه ان ابتداء البشارة يكون من أورشليم لأنه أهين فيها ورُذل منها فيجب أن يكون ابتداء مجده فيها ومدحه وتعظيمه منها . وفوّض الى تلاميذه أن يكونوا شهود موته وآلامه وقيامته ووعدهم بارسال الروح القدس تحقيقاً لنبوة يوئيل القائل : يكون روحي على كل ذي جسد . وأعلنهم ان الروح عينه يكون لهم قوّة مشدّدة يلبسونها وتلبسهم كالثياب 

( في صعود الرب الى السماء )

     ( 50 ) ” ثم خرج بهم الى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم ”

      قاد يسوع رسله الى بيت عنيا ليذكّرهم بقيامة لعازر فيها . ويدلهم على أن يأخذوا يكرزون فيها بقيامته لهُ المجد وبالقيامة العمومية التي تدلنا عليها قيامته . ثم منحهم بركته وهي مثل البركة التي نالها تلميذا عمّاوس وما أشرفها وما أنفعها ومن يستقصي وصفها . وقد ارتأى قوم انه لهُ السجود باركهم بشكل صليب . ويُسأل هنا : لماذا قال رفع يديه ولم يقل يده واننا نعلم ان الانسان يبارك بيمينه المالكة القوة والسلطة ؟ فالجواب ان استخدام اليدين أقوى من استخدام واحدة . وجاء في رسائل مار بولس انه قوّاهم بأسلحة من اليمين والشمال لينتصروا على الشرور . واعلم ان البركة حلّت على النفس والجسد . وقال فريق ان السيد المسيح لم يمنح تلاميذه غير بركةً بسيطة . لكنا نقول ان البركة هنا هي رسامتهم أساقفة ودليل ذلك اننا عند رسامة الأساقفة نتلو الفصل الحاضر على المرتسم ثم نبارك بطريق الرفرفة على رأسه وكان قد رسمهم شمامسة عندما أرسلهم اثنين اثنين وخوّلهم سلطاناً على شفاء الأمراض وطَرْد الأرواح الشريرة وقد عُرف الشمامسة بأنهم مطهرون من الأمراض والأرواح . ثم رسمهم قسوساً عندما نفخ فيهم في العلية وقال لهم : من غفرتم لهم زلّاتهم غُفرت ومن أمسكتموها عليهم أمسكت . وربّ معترض يقول : كيف رسمهم شمامسة وقسوساً وأساقفة ولم يكونوا معمّدين ؟ فاعلم انه لهُ المجد منحهم في العلية هبتين وهما العماد والكهنوت أما العماد فلما نفخ فيهم وأما الكهنوت فعندما سلمهم سلطان الحلّ والربط . قال يعقوب السروجي ان السيد المسيح عمّد تلاميذه في العلية يوم عيد العنصرة ولكن الرأي مردود لأن في ذاك اليوم قبلوا مواهب الروح القدس وأصبحوا كاملين أقوياء لمصادمة كل عدوّ .

     سؤال : أين تردّد السيد المسيح بعد قيامته في مدة الأربعين يوماً الى يوم صعوده الى السماء ؟ قال فريق انه كان يذهب الى أبيه في السماء ثم ينزل على الأرض . وقال آخرون انه كان يتردد الى الفردوس ثم يأتي الى الناس . ورأينا ان لا نُعطي رأياً لأن لا سَند لنا في الكتب المنزلة

     ( 51 ) ” وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد الى السماء ”

     كان القديس لوقا يعرف ان الناس تبحث عن مقام السيد المسيح بعد قيامته فأراد ارشادهم وقال انه صعد الى السماء . واعلم ان مخلصنا ولو انه في السماء الا انه موجود في كل مكان بما انه اله وبالتالي لا يحدّه شيء وهل انشقت السماء عند صعوده اليها وولوجه فيها فقد اختلفت الأقوال وأثبت بعضهم وأنكر آخرون والصحيح انه ليس من لزوم انشقاقها فقد خرج له المجد من احشاء والدته ولم تفسد بتوليتها . ومشى على البحر ولم يغرقه . ودخل العلية والأبواب مقفلة . وأخرج منذ البدء ضلعاً من آدم ولم يفتح لهُ جنبه . وأجرى المياه من الصخرة ولم يشقها . وكذلك تخرج الأثمار وأوراق الاشجار من الاشجار عينها ولا تشقها . أفلا يقدر لهُ السجود وجسده ممجد غير قابل للموت ان يدخل السماوات بدون أن تنشق أمامه.

     ( 52 ) ” فسجدوا له ورجعوا الى أورشليم بفرح عظيم ” ( 53 ) ” وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون الله ويباركونه . آمين ”

     عاد الرسل كما أوصاهم معلمهم الى أورشليم فرحين مسرورين لأنهم أكدوا قيامته وحادثوه وقبلوا وعده بارسال الروح . وقد واظبوا على الذهاب الى الهيكل واظهروا تعظيمهم لهُ وهم يعرفون ان النبوة والنعمة فارقتاه على شبه ما فعل داود ازاء شاول فقد كرّمه وهو عارف ان منحة الملك قد انفصلت عنه . وروى أناس ان الرسل ظلوا في الهيكل ولم يقيموا بأمكنة لا فائدة روحية منها ولم يكتفوا بزيارته من مدة الى أخر كما يفعل النصارى الذين لا يحبون البيعة بل واصلوا الاقامة يسبحون الله ويغظمونه والسنتهم تلهج بذكر آلائه وبالثناء عليه لانه أرسل وحيده الى العالم وأعطى البشر الخلاص . وانهى الانجيلي كتابه بكلمة آمين اعلاناً ان الرسل مجّدوا حقاً الاله العظيم في هيكله . اه .

 

 

 

 

كتاب

الدر الفريد

في

تفسير العهد الجديد

تأليف

العلامة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي السرياني

مطران مدينة امد ( ديار بكر )

الجزء الثاني

يحتوي

على تفسير بشارتي لوقا ويوحنا

عني بترجمته وتهذيب عباراته وطبعه على نفقته

الراهب عبد المسيح الدولباني السرياني الارثوذكسي

طبع بمصر سنة 1914م

كل نسخة غير مختومة تعد مسروقة

حقوق الطبع محفوظة

 

 

 

 

( تفسير بشارة يوحنا الانجيلي )

( المقدمة للمؤلف )

( وفيها سبعة فصول )

( الفصل الأول )

( في كلام المؤلف )

     أيها الأخ القارئ لا بدّ ان ما قلناه مختصراً وبعبارات موجزة قد وقع لديك موقع الاستحسان وبعد أن قطعنا الأنهر الثلاث أي بعد ان روينا ورتّبنا تفاسير العلماء وشروحهم على الاناجيل الثلاثة السابقة بلغنا بعونه تعالى الى النهر الرابع الى انجيل يوحنا المتكلم بالالهيّات . فان مياهه العذبة فاضت على الارض وجرت الى المسكونة كلها جمعاء . وأنت أيها الراغب في الروحيات المفرح قلبك بالاقوال المخلصية صلّ لأجلي أنا الضعيف لأجني معك ثمار الكلام الالهي

( الفصل الثاني )

( في منشأ يوحنا وحرفته ونوع معيشته )

     هو ابن زبدى وكان رجلاً صياداً فقيراً . تستدلّ على ذلك من انه كان يصطاد في بحيرة صغيرة وليس لهُ ولأخيه ولأبيه الّا شبكة بالية يصلحونها عند كل حادث لعجزهم عن مشترى شبكة جديدة قوية . وبالتالي لم يرسله والده الى المدارس ولا أدخله مدينةً يقتبس فيها العلوم بل كل ما كان في وسعه انه علّمه صناعة صيد السمك الحقيرة . وكان من قرية تُدعى بيت صيدا موقعها في الجليل ولم يكن ليوحنا ادنى المام بالقراءة والكتابة ولم يخالط غير الصّيادين الذين مدار حديثهم في طبخ الحيتان ومرقة السمك ولكن بعد حلول الروح القدس عليه وعلى رفاقه أخذ ينطق بالأقوال السامية التي لا يصل اليها أقوى العقول البشرية

( الفصل الثالث )

( في ما امتاز به يوحنا في الشريعة الجديدة )

     سُمّي يوحنا في الشريعة الجديدة ابن الرعد لانه كان كالرعد في السماء يُبلّغ أقوال الربّ المسكونة كلها . وأيضاً ابن الاحساس لأنه أحس ادراكه بتجسد الربّ فقال : الكلمة صار جسداً وحلّ فينا . وكما دُعي في العهد العتيق ابرام ابراهيم وسراي سارا ويعقوب اسرائيل وفي العهد شاول بولس وسمعان صفا كذلك دُعي يوحنا ابن الرعد حتى اذا تذكّر تبديل اسمه يتذكّر معاً نعمة سيده وهبات عونه . فبحق وصواب اتكأ على صدر مخلصنا في العشاء السري ورضع البان العلوم الالهية . ثم ان الروح في العلّية وهبه الحكمة كما وهب رفاقه الرسل فتكلم على اسمى الامور الالهية وذكر لنا ان في البدء كان الكلمة وان الايمان بالسيد المسيح هو الحياة الخالدة وما أشبه مما يأتي في مواطنه

 

( الفصل الرابع )

( في الشروط الواجبة للاستفادة من كلامه وفي موته )

     نشر يوحنا البشارة في افسس فسمعها الملائكة والبشر لأن القديس بولس يقول : فقد عرف حكمة الله الرؤساء والسلاطين . فمن ثَمّ ان كان الملائكة والناس قد اصغوا لكرازة يوحنا فمن شروط مَن يرغب في سماع كلامه ان يكون بعيداً عن جلبة الاشياء العالمية ويأتي الى الاجتماعات البيعية بروح التواضع والايمان قاصداً ان يتلقى تعليماً مملؤاً حياة ثم عليه ان يحفظ في قلبه ويضع في عمله ما يُبشَر به ليكون من ورثة الملكوت . وذهب بعض قليلي الادراك الة ان يوحنا الانجيلي لم يمت بل هو حي كاخنوخ وايليا وما دروا ما معنى الكتاب القائل : ” ولم يَقل يسوع انه لا يموت بل ان شئت أن يثبت الى ان أجيء فماذا لك ” وكان الواجب عليهم أن يستنتجوا ان الذين بشروا بالقيامة لا بدّ ان يموتوا ليقوى من يسمعونهم ويتتلمذون لهم على التصديق . وأيضاً لا بدّ أن يكونوا معتقدين ان حياة أخرى في العالم الآتي محفوظة لهم وبسببها يرذلون الآن هذه الحياة الحاضرة . ثم نقول لهدم رأي المذكورين ان القديس يوحنا الذهبي الفم أثبت في تفسير الأناجيل ان يوحنا الانجيلي مات وان جسده في افسس اما نفسه ففي الفردوس مع نفوس سائر القديسين . وستتحد بجسده عند القيامة وترتفع الى ما فوق الرقيع . وعلى هذا الاعتقاد كيرلّس وساويرس واثناسيوس واوسابيوس الذي ذكر بصراحة في تاريخه الكنسي ان يوحنا مات . ومن أقوال اثناسيوس في عظته الثالثة والأربعين : ان قبور القديسين والشهداء باقية حتى يومنا وقد رأيناها ومنها قبر بطرس وبولس في رومية وقبر يوحنا في افسس

( الفصل الخامس )

( في انجيل يوحنا وما الداعي الى كتابته )

     بقي الرسل بعد صعود ربنا الى السماء في أورشليم وفي المدن التي حولها . وكانوا ينادون بالكلمة حتى الزمن الذي تتلمذ فيه بولس واذ ذاك أعدّ بطرس العدّة للسفر الى رومية بسبب سيمون الساحر . فمضى أيضاً يوحنا الى مدينة افسس حيث اجترح المعجزات العديدة . وحدث في هذه الاثناء ان متى ومرقس ولوقا كتبوا أناجيلهم وانتشرت . فأقبل على مطالعتها الناس على اختلاف طبقاتهم فكان الأمر داعياً اهل افسس الى ان يطلبوا بالحاح من يوحنا ان يكتب لهم سيرة السيد المسيح لانه كان معه منذ البدء . وبعد ان اطلع عليه السلام على ما حرره مَن قبله . رأى الكتابة آية في الضبط لكنه لاحظ انها لا تحوي الكلام الوافي عن لاهوت المسيح ومولده الأزلي ولا عن بدء تعليمه حتى الزمن الذي طُرح فيه يوحنا في السجن . فأثنى على رغبة أهل افسس الطالبين منه أن يكمل ما نقصه الانجيليون وأجاب طلبهم وكانت كتابته باللغة اليونانية . ولو انه يذكر بعض أخبار رواها الانجيليون قبله . فانما وقع لهُ ذلك لما توخّاه من الغاية وتأييدها بما يلزم لافادة الناس . ولما قصده من تنسيق الحوادث بالتتابع على نهج واضح جليّ . وذهب آخرون الى ان الرسل انفسهم توسلوا اليه راجين ان يكتب انجيلاً حتى يتمكنوا فيما بعد ان يؤيدوا أقوالهم بآياته . واسندوا مذهبهم الى كلام اوسابيوس المؤرخ القائل : بعد ان كتب الثلاثة أناجيلهم طلب الرسل من يوحنا ان يكتب لهم انجيلاً أيضاً . ثم أخبروه بما وقع لبولس وباهتدائه لكنه لم يلبّ الطلب حالاً فأتاه بطرس وبولس والحّا عليه حتى رَضي وأتمّ العمل .

( الفصل السادس )

( في موضوع انجيل يوحنا )

     تكلم يوحنا في بدء كتابه عن لاهوت السيد المسيح ولم يحذُ حذوَ مَن تقدّمه من ذكر اعمال الرب بالجسد . وقصْده السني ان ينفي كون المسيح انساناً ساذجاً فيهدء تجديف بولس السميساطي . وأقواله عن السيد المسيح نوعان شريفة ووضيعة فمن الأول قوله في البدء كان الكلمة . وان من رآه رأى الآب وما أشبه . ومن الثاني قوله ان الآب أعطاه ان تكون لهُ الحياة في ذاته وانه أرسله وهو أعظم منه وانه انسان يقول الحق وسأل أعداءه لماذا يطلبون قتله . ورُوي عنه هذا الحادث الغريب وهو انه بينما كان يكتب نزل المطر فأمر الغمام بالتبدّد والتلاشي فأطاعه وانقطع المطر .

( الفصل السابع )

( في انتقاله من هذه الحياة )

     لحقه الاضطهاد فنُفي بأمر دوميطيانوس الى جزيرة بطمس ثم عاد الى افسس بعد موت هذا الطاغية ومات فيها بسلام الرب بعد ثلاث وسبعين سنة وقد ضمّن انجيله خمسة أمثال ومن الشهادات خمس عشرة . وتأويل اسمه الشفقة والحنان

( الاصحاح الأول )

( في تجسد الكلمة )

     ( 1 ) ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله ”

     البدء نوعان أزلي وزمني ففي كلام موسى يؤخذ بالمعنى الزمني وأيضاً بالمعنى الزمني فسر الآيات التالية : ان الذي خلقهما من البدء ذكراً وأنثى خلقهما . وأنت منذ البدء وضعت أساسات الارض . وهو قتّال الناس منذ البدء . وفي معنى الأزل خذ كلام الثاولوغس في مقالته الاولى عن الابن ونصّه . انه هو القديم منذ البدء : وقال يوحنا الذهبي الفم في تفسير الآية الحاضرة : ان قوله في البدء انما معناه : منذ الازل ودائماً أي كان الكلمة في الأزل ولا ابتداء لوجوده . وقال القديس كيرلس ولو فرضنا ان كلمة البدء تعني البدء والأوّل فلا يستنتج ان للكلمة بدءاً زمنياً لأن الانجيلي وضع هذا البدء عينه قبل كل زمان اذ قال كان بحيث لا زمانَ ولا ابتداءَ أعلى من البدء المذكور في يوحنا . وبناءً على ذلك نقول ان الكلمة كان في بدء يعلو كل ابتداء وزمان أي كان في الازل والأبد ودائماً . ويسأل لأي الاسباب سمّاه يوحنا كلمة ؟ فالجواب ان الابن سُمّي كلمة لانه مولود من الآب كما ان كلمتنا العقلية يلدها عقلنا الذي هو روحي محض وأيضاً لأن الابن باعتباره ابناً وحيداً لله غير قابل الآلام والولادة الزمنية . ثم كما ان بوجود العقل توجد فينا الكلمة لأن العقل ان لم يدرك ويعقل لا يكون عقلاً كذلك منذ وجود الآب وُجد الابن أي الكلمة بحيث لا يمكنك ان تدلّ على زمن أو تتصوّره من دون أن يكون الابن الكلمة . وان فرضت كون الآب عديم الكلمة مدةً فانه يكون بلا ريب عديم الحكمة والمعرفة لاننا نعني بالابنِ الكلمةِ حكمةَ الله ومعرفته . وحاشا لله المتعالي ان نتصوّر فيه مثل هذا العيب . واعلم ان كلمة العقل يمكن اظهارها بالخطوط أو بالاحرف فتراها اذ ذاك الاعين . كذلك الابن الكلمة امكنه أن يظهر بالجسد ويتأنس مثلنا من دون أن يفقد شيئاً ما مما لهُ في الآب . وأيضاً كما ان كلمة عقلنا تبقى كلها في قائلها وتصل كلها الى أذن السامعين وتتجسم كلها في الكتابة وتبقى مع ذلك روحانية ولو أخرجَت الينا من النفس كذلك الابن الكلمة باقٍ كله في أبيه وكله في الجسم وفي العالم ولا يحصره حدّ . ثم ان كلمتنا الصادرة عن نفسنا تكشف عما في ضمائرنا ومثلها أيضاً الابن الكلمة كشف لنا الغطاء عما كان في الآب مخفياً وهو شهد بذلك وما أصدقه شاهداً بقوله : كلما سمعته من الآب عرفتكم به – ولماذا قال في البدء ولم يقل في الأول ؟ أجيب ان كلمة البدء سابقة اللفظ الأول وأيضاً الأول لهُ ثانٍ وان كان للأول وجود فلا بدّ من وجود ثانٍ . أما البدء فهو موجود ويكون موجوداً ولا يحتاج الى آخر يأتي بعده ولزيادة ايضاح نذكر هذا المثل : اذا وضع رجل حجراً في البناء سُمّي هذا الحجر رئيسياً وان وضع حجراً آخر دعوناه حجراً ثانياً ومن هذا القبيل يقال ليوم الأحد انه الأول من أيام الأسبوع – ثم بدء هذا العالم هو أوله أو الساعة الأولى التي خُلق فيها وما قبلها لا يُدعى زمناً لكن ما بعدها

     وعلينا أن نحدّد ما معاني لفظ ” كلمة ” فهي أولاً لا تدلّ على مخصص ما كما يدل اسم يسوع والله والمسيح . ثانياً لا تدلّ على اقنوم أو ذات كما في الانسان ثالثاً تدلّ على الابن الأزلي المولود من الآب وفي هذا المعنى احذر من أن تجعل الولادة كولادة الأجسام واقعة في الزمان والمكان وأيضاً ولو ان الكلمة لا تفارق النفس فان ذلك من باب النظام المألوف لأن الله قادر أن يفرقهما اما في الله فلا تنفصل الكلمة عن الآب وان كانت قد صارت جسداً . ولا قيمة لما قاله تبّاع أريوس من ان تسمية الكلمة بالأبن يجعله بعد الآب ويكون ثانياً لأن الأبن وُجد معاً عندما وُجد الآب . ولا بداية لأحد منهما ولا بعدية لواحد بالنسبة الى الآخر

     ولاحظ هنا انه قال في البدء كان الكلمة لا الابن أو يسوع أو المسيح اما لأن بعضهم تسمّى باسم يسوع وباسم المسيح اما لأن تسمية الابن تجعلنا نفكّر بالجسد وبالأبوة والبنوة أو تظهرْ ان الآلهة متعددون عند النصارى كما عند الوثنيين

     وفسر اليونان وتوما الحرقلي في البدء كان الكلمة ان البدء معناه الرأس وان الابن كان في الرأس أي في الآب .

     واعلم ان الكلمة كان أزلياً فوق الأزمنة وان كلام يوحنا في البدء لا يشبه كلام موسى القائل أيضاً في البدء لأن هذا يتبعه كلمة خلق وذاك تتبعه كلمة كان فالخلق يدل على زمن والكون يدل على الأزل .  وجرت عادة أهل البيان والكتابة انهم يستعملون الكلمة الواحدة أو التركيب عينه بمعنى مختلف تستنتجه من نص العبارة ومن المتعلقات السابقة واللاحقة

     فمما تقدّم يكون البدء على أنواع ثلاثة الأولى بدء هو علّة لما يأتي بعده كما اذا قلنا المسيح بدء تبريرنا لان نيلنا النعمة صادر عنه وبه . الثاني بدء ليس بعلة ما بعده كما هو بدء الشغل في المعاصر والبيادر الثالث بدء أي الأزل الذي ليس فيه بعد وقبل وهذا هو معنى البدء في يوحنا أما معنى البدء في موسى فراجع للنوع الثاني ومن المستحيل أن ترجعه الى المعنى الثالث . ولتباع أريوس مغالطات عديده في كلمة البدء لأنهم يجدّفون على الكلمة الأزلي بأنه مخلوق . ونحن نقول انه لو كان مخلوقاً للزم يوحنا القول : في البدء خلق الله الكلمة لكن هذا الانجيلي السامي التعاليم الصحيحة عرفه أزلياً ونفى عنه الخلق لأنه قال فيما بعد ان به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كوّن فان كان يخلق الأشياء كلها فيستحيل أن يكون مخلوقاً أو أصغر من الآب . وان كان قد وُصف بانه شاب وشيخ في آيات أخرى فما ذلك الّا لكونه صار انساناً

     وفي الآية الأولى عينها يقال أيضاً ” والكلمة كان عند الله ” فاذاً دلّ لا على الكلمة المسموعة والمتجسمة امامنا بالصوت أو بالاحرف بل على الاقنوم الثاني لا على عرَض لان لا عرَض في الله بل على جوهر وذات لا على شيء مؤنث بل على اقنوم فيه تعالى . ثم ان لفظ عند لا يدلّ هنا على مكان بل على ان الكلمة مولود من الآب وان الكلمة اقنوم غير اقنوم الآب . وزيد في الآية عينها ” وكان الكلمة الله ” اعلاناً انه مساوٍ في الجوهر للآب الذي وُلد منه فاسمعوا يا كفرة ويا اريوسيون كيف ان يوحنا كشف الغطاء عن لاهوت السيد المسيح وأضاءَ بتعليمه البشر كما تضيء الشمس الأعالي . فكلما تكلمنا عن الكلمة فاننا نتكلم على الله لا على عمل من أعماله

     ( 2 ) ” هذا كان في البدء عند الله ”

     بعد ان فسرنا كلمة بدء بالأزل نعلم حق العلم ان الكلمة كان في الأزل لا في الزمان . وفي الله انفِ كل النفي متى والزمان وعدم الوجود . وبهذه الآية ادحضْ قول من يجدّفون بانه كان زمان لم يكن فيه الابن وقول من يضعون في الله اقنوماً واحداً لا ثلاثة أقانيم . وما أبدع يوحنا في تعبيره عن الابن بالكلمة فانه دلّ بها على الآب لأن الكلمة لا تكون وحدها . ودلّ بها على طريقة ولادة الابن . فكما ان العقل يلد الكلمة وتبقى فيه هكذا ولد الآب ابنه وبقي هذا فيه . وبنوع ما يمكن القول ان الآب هو العلة وان الكلمة هو المعلول . وان بحثت عن الاسباب التي حملت يوحنا على مراجعة لفظ ” الكلمة ” قلتُ : لم يذكره غيره من الانجيليين فأراد ذكْرَه عوضاً عنهم ورَسمه في عقول الناس وقلوبهم .

     ( 3 ) ” كل به كوّن وبغيره لم يكوّن شيء مما كوّن ”

     بقوله ” كلّ ” شمل كل الاشياء ولم يحصر منها عنه شيئاً سواء كانت ظاهرة محسوسة أو روحية غير محسوسة كالملائكة والشياطين . فالكلمة ضابط الكل بدون استثناء وهو خالق الكل وبذلك يتبين انه اله . وللهراطقة الشروح الغريبة في أمر الاقانيم وفعل الخلق . ومقصد الاريوسيين ان يعطوا لكل من الثلاثة طبيعة متميزة . ومن عبارات سفاهتهم ان النجّار والقدّوم والمكان ثلاثة أشياء مختلفة متميزة . فالآب في فعل الخلق هو العلة الفاعلة كالنجّار في عمله الكرسي . والابن في الفعل عينه هو كالقدوم في يد النجار . ويسمونه العلة الآلية . ونسبة الخليقة اليه كنسبة القدّوم الى الكرسي . والروح القدس هو كالمكان . لان الخليقة صارت به في المكان والزمان على شبه وجود الكرسي بعد انجازها في محل ووقت . اما الاعتقاد الصادق فهُو ان الابن مساوٍ لأبيه في فعل الخلق لانه مع الآب واحد وكما يقيم الآب الموتى كذلك الابن . وأيضاً ان الروح القدس مساوٍ للآب والابن في الفعل عينه وانما هم ثلاثة أقانيم لهم طبيعة واحدة وجوهر واحد . ولهذا المعنى صحّ قول يوحنا ان بغير الكلمة لم يكوّن شيئاً مما كوّن . وبعبارة أخرى أن لولا الكلمة لما وُجدت المخلوقات ولا الملائكة ولا شيء آخر . ومما لا يحتاج الى مراجعة ان الكلمة لم يكوّن الخلائق الّا بالاتحاد مع الآب والاثنان أبدعا كل شيء بدون استثناء

      ( 4 ) ” فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس ”

     عبر بالحياة عن القوة التي خلقت . وهذ القوة لا يدركها ضعف أو نقصان . وكما ان مياه البحر لا تقدر على تنقيصها مهما اغترفت منها كذلك قوته العلوية على خلق الاشياء . وأيضاً لك ان تفسر الحياة بالايمان به أي من فضله نشأ لبني البشر ان يعرفوه الهاً ويؤمنوا به . ثم لا بأس من تأويل الحياة بالعناية . أي منه هذه العناية الشاملة البشر والمخلوقات . ولما كانت آلام المسيح وما أذاقه اليهود من الأعذبة هي التي أعطتنا الحياة من موت الخطية كان لنا أن نسميها حياة أيضاً . ولاحظ أيضاً ان الحياة ليست للكلمة فقط بل وللاقنومين الآخرين أيضاً . أي للأب وللروح القدس ولا فرق ما بينهم فيها . وقد كذب تباع مقدونيس في حق الروح القدس اذ قالوا عنه انه مخلوق وبالتالي لا يشترك في التكوين والحياة مع الابن والآب . ولكن لا نرى ان يوحنا أشار الى ما يريدونه بنوع من الانواع ولا يفيدهم تفسيرهم ان الحياة كانت في الكلمة أي مخلوقة منه . وان الانجيلي اعنى بالحياة الروح القدس . لأن الحياة هنا الموصوفة بانها نور العالم انما تدلّ على الكلمة المتجسد كما يتضح من المتن وكما فسر يوحنا المعمدان بشهادته عن نفسه بانه ليس هو النور بل بان النور هو المسيح . ومن المثبت بالاستقراء ان الهراطقة يستخدمون كلمات الكتب المنزلة لغاياتهم الفاسدة ولا يريدون أن يميزوا بين معناها في محل ومعناها في آخر . فقد يكون المفهوم بالروح الله مثلاً أو نفس الانسان . فيدّعون انها هي الروح القدس ويبنون على ذلك تأويلاتهم الفارغة من الهدى والصواب .

     اما كون الحياة هي نور الناس فليست تلك التي يحيون بها الحياة الطبيعية ويتحركون بها. بل انما هي الايمان بيسوع المسيح . والدليل على هذا التفسير انها تُدعى نوراً . ومن يدعو الحياة الشاملة للبشر والبهائم نوراً . اما كيف تكون الحياة ايماناً وتستحق ان تدلّ عليه. فانك تعلمه من ان الايمان يطرد موت الجهل أو بالاولى موت الخطية ويبدّد ظلمات الضلال . ومفعوله هذا السامي لا في قلوب فئة دون أخرى بل في الجميع . فاستنتج اذن ان الشعوب كلها أعطوا الحياة الروحية . وكما ان النور يضيء على الناس أجمعين بدون فرق بين رجل وآخر . هكذا الايمان بالكلمة أو عنايته السامية ممتدة للجميع وناشرة لواءها عليهم . ثم كما ان النقصان لا يصيب النور . كذلك الكلمة ابدع المخلوقات كلها وهو معتنٍ بها ولم يمسه نقصان . وان أردت ان تفهم بالحياة ما سببته آلام السيد المسيح لنا بمقتضى ما سبق لنا ذكره فقلْ : ان هذا الآلام أوجدت لنا النور أي بالصليب فُتحت أعين الوثنيين الذين كانوا عمياناً عن الحق . وأيضاً لا يمنع شيء من أن تفسر مع بعضهم لفظ ” الحياة ” الحياة الناطقة فينا أي تلك التي تأتينا من القوة العاقلة التي تهبنا التمييز والنطق .

     ( 5 ) ” والنور يضيء في الظلمة والظلمة لا تدركه ”

     اعنى بالنور الصليب في العالم بين اليهود ذوي الادراك المظلم فانه أشرق عليهم وظلّوا ضالين وأيضاً فسر النور بالابن الوحيد الذي بدّد الظلام المحيط بنا . أو بالسيد المسيح الذي أنار الشعب الاسرائيلي . أو بكرازته التي أزالت من العالم الموت والضلالة . وقال الثولوغوس ان النور هو الكلمة . والظلمة اما العالم المظلم أو الجسد الذي اكتنفته الانوار الزاهية باتحاده بالكلمة .

     وأوّل الظلمة التي وُصفت بعدم الادراك . اما بالشيطان الذي حاول خداع السيد المسيح فعجز وناله الوهن . واما بالموت الذي لم يتسلّط على ربنا لهُ المجد تسلّطاً دائماً . واما بالشعب اليهودي الذي لم يُفهم مَن كان السيد لانه لهُ السجود اخفى لاهوته في الجسد البشري الذي اتخذه منا . أما اليهود لم يؤمنوا به بارادتهم

     ( 6 ) ” كان رجل مرسل من الله اسمه يوحنا ” ( 7 ) ” هذا جاء للشهادة لكي يشهد للنور حتى يؤمن الجميع على يده ”

     الكلام هنا على يوحنا الذي قد سُمّي أيضاً ملاكاً واتصف بصفة الملاك . وهي ان لا يقول شيئاً من عند نفسه بل ينطق بما يسمعه . وقد دلّ عليه بانه رجل ولم يذكر مولده وأبويه . لان غاية الانجيلي الافصاح عن ارساليته لا غير . وارساليته السامية ان يشهد للكلمة الذي عبر عنه هنا بالنور . ولكن اياك ان تعتقد بان الكلمة كان محتاجاً لغيره بان يشهد لهُ بل انما البشر واليهود وما تميزوا به من الميل الى الارض وضمائرهم غير المستقيمة كل هذه أوجبت ان يشهد يوحنا للسيد له المجد أنه اله أخفى لاهوته في الجسد . لانهم لا يطيقون النظر الى مجد اله لضعف بصائرهم . وكما ان المسيح رضي بان يتأنس لاجل البشر كذلك رضي بان يشهد لهُ عبده وان يعمّده

     ( 8 ) ” لم يكن هو النور بل كان ليشهد للنور ” ( 9 ) ” كان النور الحقيقيّ الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم ”

     نفى الانجيلي عن يوحنا كونه النور وأثبت ذلك للكلمة . لأن اليهود ظنّوا في حماقتهم الاول أعظم من الثاني . فهدم هذا الظنّ وافهمهم ان يوحنا عبد ومبشر لا غير وما أرسله الله الّا شَاهداً . وكأنه بكّت الشعب الكافر على قبوله العبد وصلبه السيد الذي شهد العبدُ لهُ . وأراد أيضاً زيادة بيان فنعت الكلمة بانه النور الحقيقي تمييزاً لهُ عن يوحنا المدعو سراجاً . واعلاناً انه ينير بالايمان به كل انسان . وانارته هذه صادرة عن قوته المخصوصة به دون غيره . وان كان البشر يعمون نفوسهم عن الايمان به . فانما اثمهم في رقبتهم فلا يلومون الّا نفسهم. ومثل ذلك مثل الشمس التي ترمي بأشعتها على الخلائق كلها فمن لا يرى نورها فانما ذنبه عليه لا عليها . أو مثل الرعد الذي يقصف ويُسمع الجميع فمن كان اصمّ فانما لومه على ذاته لا على الرعد . ومن الاكيد ان مَن يأتي من الناس الى هذه الدنيا يقوى على مشاهدة النور ان شاء . ويمكنك ان تتوسع في التأويل فتقول ان السيد المسيح كان نوراً حقاً قبل تأنسه وبقي نوراً في تأنسه وثبت نوراً بعد تأنسه بدون انقطاع . وهو ينير بعنايته خطوات الناس أجمعين

     ( 10 ) ” كان في العالم والعالم به كوّن والعالم لم يعرفه ” ( 11 ) ” أتى الى خاصته وخاصته لم تقبله ”

     كان السيد المسيح قبل تجسده في العالم كالخالق في خليقته . ولم يُخلق مع العالم لأنه غير مخلوق تعالى لهُ المجد تعالياً رفيعاً . لكنه برز من الخفية الى الظهور . وان سألت ما الدليل على انه كان في العالم كالخالق ؟ أجبت ان العالم كوّن به فاذن هو خالقه أما العالم وهم بنو البشر فلارتباكهم في الأرضيات لم يعرفوه ولا عرفوا أباه . ووُجد من بينهم مَن خافوا الله واتقوه فكانوا به عارفين قبل تجسده . ومنهم ابرهيم الذي اشتهى أن يرى يومه . وداود الذي أشار اليه بقوله . قال الرب لربي اجلس عن يميني . ولما أتى لهُ المجد بالجسد الى خاصته من دون أن تبطل أزليته رفضت خاصته قبوله . وافهم بالخاصة كل البشر بدون استثناء لانه خلقهم ثم ان اليهود رفضوا تعليمه رغماً عن دلالة الانبياء اليه بالوضوح الكافي . ولقساوة قلوبهم لم يروا في عجائبه ومعجزاته ما يهتدوا به الى انه المخلّص من الموت والشيطان والضلال .

     ( 12 ) ” فأما كل الذين قبلوه فأعطى لهم سلطاناً أن يكونوا أبناء الله الذين يؤمنون باسمه ” ( 13 ) ” الذين لا من دم ولا من مشيئة لحم ولا من مشيئة رجل لكن من الله وُلدوا”

     كافأ السيد الذين قبلوه ان يكونوا ابناء الله واخوة الكلمة . ومن الظاهر ان كل البشر قادرون على أن يعتمدوا ويصيروا أبناء الله واخوة المسيح . فقد أعطوا هذا السلطان . أي باختيارنا وحريتنا لا بالاكراه نقوى على أن نصبح ابناء الله . ولما كان العماد ولادة شاءَ الانجيلي ان يميز ما بينه وبين الولادة من المرأة . وغايته ان يبين ان الميلاد من المعمودية أشرف وأفضل من الميلاد الحقير من المرأة . فاذنْ المولودون من المعمودية ليسوا من دم أي من ميلاد من امرأة أو من جبلة قديمة زمنية فاسدة . ولا من مشيئة رجل وامرأة يتزوجان بل من مشيئة الروح أو من ارادة الله . وقد وُلدوا بالروح وبالايمان . اما بالروح فلأنه منحة نعطاها وتجعلنا ابناء الآب . واما بالايمان فلأننا نتطهّر من الضلالة والطغيان . فلنثبت اذن على حال المعمودية قديسين ابراراً غير مدنسين بالخطية

     ( 14 ) ” والكلمة صار جسداً وحلّ فينا وقد أبصرنا مجده مجد وحيد من الآب مملؤاً نعمة وحقاً ”

     انما صار الكلمة جسداً ليجعلنا روحانيين . وانما ولد من امرأة ليلدنا ولادة روحية بالعماد. وانما صار الله ابن انسان ليجعل الناس أبناء الله أو ليجعلهم الهيين . وانما تنازل من علوه الينا ليصعدنا الى السماء . أما حلوله فينا فعندما نأكل جسده ونشرب دمه . وان سألت كيف صار الله جسداً ؟ فجوابي مختصر لكنه مفحم وهو ان الله قادر على كل شيء . وقد يجوز سؤال الفخار أتقدر أن تجبل انساناً حياً من طين مع انه مستحيل ولا يجوز أن يسأل الله عن ذلك ولا ان كيف صار الكلمة جسداً . لان لا عسير على الله بل كلّ خاضع لارادته فيعمل ما شاء . لذلك سؤالك يستدلّ منه ان الله ضعيف مع ان بولس الرسول يسميه القوة والحكمة . وكما ان ميلاد الابن الأزلي من الآب لا يدركه عقل مخلوق ولا يفهم انسان كيف تمّ الخلق من العدم . كذلك صيرورة الكلمة جسداً فوق الادراك . ومن المعجزات غير المدركة ان النار تلتهب في العوسجة ولا تحرقها وان مياه النيل تتحول دماً للمصريين وماء زلالاً للعبرانيين . وأن يكون عمود النور ضوءاً للعبرانيين وظلاماً قاتماً لفرعون وجنوده : وان يفتح السيد عيني الأعمى بالطين ويحول الماء خمراً جيداً . ويشبع من كسرة خبز آلافاً من الجياع . ويحيي ميتاً مرّ عليه في القبر أربعة أيام . وان يُولَد من عذراء بدون زرع بشري وبدون فكّ ختم بتوليتها . وأن يقوم من القبر من دون كسر الاختام الموضوعة عليه . وأن يدخل العلية والأبواب موصدة . واننا نعلم حق العلم حدوث هذه المعجزات ولو اننا لا ندرك كيف تمت . وكذلك نعلم حق العلم ان الكلمة صار جسداً لكنا لا نقوى على ادراك كيفية ذلك . ومن المؤَكد ان اموراً عديدة لا نعرف كيف هي ولا كيف أجريت ومع ذلك لا ننكر وجودها . ومن يدرك عدد الكواكب والملائكة ورمال البحار والشعر . ومع ذلك لا ينكر وجودها عاقل فيه ذرّة من الفهم وهل يكون ذا ادراك مَن قال . أنا لا أعرف ثقل الأرض وكيل البحر فاذن لا ثقل للأرض ولا كيل للبحر . وان كان الهراطقة أعينهم يقرّون بأنهم لا يدركون جيداً انتخاب يعقوب واسحق ورذل عيسو واسماعيل فكيف يريدون ادراك صيرورة الكلمة لحماً

     ومن اعتراضاتهم كيف صار الكلمة لحماً دون أن يلحقه التغير ؟ فالجواب انه ترآءى للانبياء في القديم باشباه شتى ولم يتغير فهو مثل الذهب يدخل النار وتدخله ولا يعتريه تبديل. وأيضاً يتحول الخبز جسداً عند التقديس وتبقى اعراضه ظاهرة غير متغيرة . ثم ان مياه العماد تصير بنوع ما روحية لانها تلد في النفوس النعمة وجوهرها لا يتغير . كذلك قُلْ بان الكلمة صار جسداً ولم يتغير . وللمعلمين في هذا المعنى أقوال عديدة . قال القديس فيليكسينوس : كما انه صار جسداً بدون أن يناله تغير كذلك صار لعنة بسبب آثامنا من دون أن ينقلب طبعه لعنةً . وكما انه صار لعنةً أي ميتاً من جرى تعويضه عن خطايانا ولم يطفيء الموت حياته . كذلك لما صار جسداً لم ينقلب لاهوته بشراً . وقال موسى ابن الحجر : المخلوق قابل التغير ولذلك يتغير أما الكلمة فغير قابل التبديل ولهذا المعنى لما صار جسداً لم يتغير . ومن يدّعي كاذباً انه تغير يجدّف بأن لاهوته قد تغير . ولا يفقه ان الشيء الواحد بعينه قد يكون لأناس ضياء ولآخرين ظلاماً كعمود النور المذكور أنفاً . وكالمياه عينها التي بانت دماً للمصري وعذبة للعبراني

     ثم اننا نعلم من نفس الآية ان الكلمة بصيرورته جسداً . اتحد مع الجسد البشري والنفس الناطقة أيضاً . لأن عادة الكتاب اطلاق الجزء على الكل . فيقولون جسداً ويعنون الانسان كله المركب من جسد ونفس . وانما صار جسداً ليجعلنا هيكلاً لهُ ويحلّ فينا . وليكن بالغاً في الثبوت لديك ان حلوله في الجسد لم يكن بطريق الشركة البسيطة معه على شبه اضاءة النور للحائط أو اصابة النار بحرارتها من يقتربون منها بل كان اتحاده بالجسد اتحاداً جوهرياً مثل النفس والجسد فينا أو مثل النار والحديد بحيث صار اقنوماً واحداً وطبيعة واحدة . وبذلك نفحم النساطرة والخلقيدونيين الذين يقولون ان في المسيح طبيعتين . واننا أيضاً نهدم مذهب أوطاخي بكلمة حلّ فينا . لان تباعه يقولون بامتزاج الطبيعتين على شبه اختلاط الخمر بالماء بحيث يفسدون بذلك الاتحاد البديع الغير المدروك الذي نعتقد به .

     ثم ان الابن ولو صار جسداً فانه لم يفقد مجد لاهوته ولم يستر صغره عظمته السامية . ولهذا المعنى قال الانجيلي : وقد ابصرنا مجده أي نحن الرسل الذين كنّا رفاقاً لهُ في حياته على الأرض ومن الأكيد ان البشر رأوا أيضاً مجده في ميلاده اذ قد ترآءى نجم يدلّ عليه . ونادت الملائكة مبشرة بظهوره . وبعد ذلك شهد الآب لهُ في عماده ونزل الروح عليه . وقد كان هذا المجد لائقاً بالابن الوحيد لانه اله وملك لا مثيل لهُ في المجد يضبط بقدرته الأشياء كلها بسلطان ذاته لا بسلطان معطى لهُ من آخر على شبه الأنبياء والملوك . وما كان هذا المجد ؟ هو تأنسه وتنازله وهو اله الى ان يصير جسداً . هو المعجزات التي جرت زمن ميلاده وعملها في سني تبشيره وتدابيره الخلاصية . وقد اجترحها كاله بسلطان لائق به . هو قول الآب المعلن ان هذا ابني الحبيب ثم نزول الروح عليه . هو تجديده السماويين والأرضيين بتجسده . ولزيادة ايضاح لهذا المجد وصفه الانجيلي بانه مجد وحيد لئلا يختلط بمجد الملائكة والانبياء أو سائر الخلائق لان الكلمة وحيد الآب ووحيد في ميلاده بالجسد اذ لم يكن له اخوة وولدته أمه بدون أوجاع لا كعادة النساء اللواتي ينالهن آلام ويجري منهن دم واخلاط وتقطع لاولادهن الصرّة . واعلم ان قوله رأينا مجده مجد وحيد ولو ان ظاهره التشبيه الّا انه لا يحوي ادنى ارتياب ولا ينقّص شيئاً من المجد . ومعنى الآية ان مجده ليس مجد جسد أو انسان بل مجد الوحيد من الآب مع انه صار جسداً على شبه ما تقول اذا رأيت ملكاً وأردت أن تصفه بهذه العبارة : رأيته مثل الملك فانما قصدك اثبات انه ملك حقاً لا انه يشبه ملكاً آخر . ثم ان الكلمة ممتلئ نعمة من ذات طبيعته لا بفضل آخر عليه . وبذلك يفحم الهراطقة القائلين انه له المجد اقتبس النعمة من غيره على شبه ما نقتبسها نحن اذ ليس لنا نعمة الّا من الله نستحقها بأفعالنا وأيضاً هو مملؤ حقاً لانه الله وطبعه الحق وهو الحق ولم يمسه تغيير عندما تجسد

     ( 15 ) ” ويوحنا شهد له وصرخ قائلاً هذا هو الذي قلت عنه ان الذي يأتي بعدي قد جُعل قبلي لأنه أقدم مني ”

     الانجيليون الثلاثة السابقون أتونا بشهادات من الأنبياء . أما يوحنا الانجيلي فروى لنا شهادة يوحنا المعمدان . وكان ذا فضل ملحوظ المنزلة وكلمة مسموعة ذا سلطان . واطنب يوسيفوس المؤرخ في الثناء على يوحنا المعمدان . ومن البين ان هذا البارّ رأى السيد المسيح وشهد لهُ منقاد لالهام علوي كما يظهر من نص الكتاب القائل . ان الذي ترى الروح نازلاً عليه . لا يمكنه أن يشهد بغير الصدق . ولهذا السبب كان لشهادته قيمة بالغة وهو اذ شاهد المخلص صرح بوجه كله فرح وابتهاج . وكأنه أعدّ لشهادته العدّة فسار سيرة تقشف وفضيلة حتى اجمع على حبه قلوب اليهود وأخذوا يقبلون على الاستفادة من نصائحه وكلامه. وفيما هم في هذه الحالة شهد للسيد لهُ المجد . فما أنفع ما قال وما أوقع ما كان كلامه اذ ذاك فهو عندهم أفضل من الصوت الذي جاءَ من السماء للشهادة ليسوع . ولما كان السيد قد صار انساناً لاق أن يشهد له الانسان لما لشهادته من النفع والتأثير على بني جنسه .

     ولنتأمل الآن في عبارات الشهادة . نَرَى يوحنا يسير تدريجاً في عمله فيبتدئ . بالصغير لينتهي الى الكبير . مثلما يعمل الطائر مع فراخه عندما يمرّنهم على الطيران . فانه بشر أولاً بتجسد السيد واعلنه انساناً . ثم شهد بانه اله . واذ كان اليهود يوهمون ان يوحنا هو المسيح الموعود به . لم يأول جهداً في جدة الامر في أن يعلنه أعظم منه . وانتبه هنا الى عدة أمور  ” 1ً ” ان السيد كان حاضراً أمام يوحنا أو في الأقل كان على مرأى منه فأشار الشاهد اليه بقوله ها هو ” 2ً ” كثيراً ما كان المعمدان يتكلم على السيد في غيابه . وذلك متحصل من كلمة : قلت عنه ” ً3 ” كان ظاهر السيد كظاهر كل الناس ليس فيه كبير عظمة فاقتضت الحالة ان يدلّ المعمدان اليه . ومن المعروف انه لهُ المجد كان يأذن لأدنياء القوم وللخطأة ان يدنوا منه كما يبين لك من مثل السامرية والزانية ” ً4 ” القول : ” يأتي بعدي ” . يعلم ان يوحنا رسول الله سيأتي بعده مُرسله أي الملك السماوي ولذلك كان ميلاد الرسول سابقاً بستة أشهر لميلاد المخلّص . وانما نتكلم على الميلاد الجسدي لان مولد الكلمة الازلي لا بدء له وهو سابق لظهور لا يوحنا وحده بل المخلوقات كلها جمعاء . وهذا ما اثبته المعمدان عينه بقوله : ” لانه أقدم مني وقد جُعل قبلي ” وكما فسر القديسان افرام وفيلكسينوس : كان قبلي بلاهوته ثم اتى بعدي بمولده بالجسد . اما القديس الذهبي الفم فارتأى ان الاتيان فيما بعد انما قيل عن كرازة المسيح لا عن ولادته من البتول عليها السلام . وخلاصة قوله ان السيد أقدم مني بالعظمة والكرامة فلا تظنوا أنْ بسبب كرازتي قبله جُعلت أعظم منه كلا بل أنا عبده ورسوله واصغر منه بكثير وسيأتي للبشارة بعدي . وفسر الاريوسيون كلمة ” كان قبلي ” بان ذلك اشارة الى ازلية وجود الكلمة قبل العالم . ونقض الذهبي الفم تأويلهم بقوله : لو كان هذا مقصد المعمدان لما اقتضى الأمر ان يقول : ” انه أقدم مني ” لأن عبارته هذه تكون اذ ذاك فضلة لا موجب لوجودها . ومن يجهل ان الله الكلمة هو قبل يوحنا المعمدان .

     ( 16 ) ” ومن امتلائه نحن كلنا أخذنا ونعمةً مكان نعمةٍ ”

     ذهب فيلكسينوس وغيره ان الآية من كلام المعمدان . وقال الذهبي الفم وموسى ابن الحجر انها ليوحنا الانجيلي ونحن تابعون لرأيهما ومن عبارات هذه الآية نعلم ان المسيح ينبوع النعمة والصلاح ومعين الحياة الخالدة تفيض خيراته الغزيرة على جميع الناس ولا يمسه نقصان وكما ان معين الماء الفائض لا ينقص مهما استقى الناس منه . وأيضاً كما انك توقد من مصباح واحد آلافاً وربوات من المصابيح والمصباح باق على حاله كذلك الكلمة يهب من امتلائه ولا ينقص . وقد أخذ منه الرسل الاثنا عشر والمعمدان والاثنان والسبعون تلميذاً وملايين من الناس واجترحوا بقوة روحه المعجزات والقوات واغترفوا من مياهه العذبة . وهو لهُ المجد على ما هو بدون تبديل أو نقصان كالبحر الذي تؤخذ منه الأمطار ويستقي منه الناس وهو باق كما هو بعد مرور آلاف من السنين . أما المراد بنعمة مكان نعمة فهو ان الشريعة الجديدة حلّت محل العتيقة فبهذه تخلص اليهود من العبودية وخطاياهم لا بأعمالهم بل بفضل الله ونحن بتلك حصل لنا مجاناً النجاة من العبودية والخطايا أيضاً لا باستحقاق أفعالنا . وان قابلت بين النعمتين وجدت الجديدة أشرف وأفضل لأنها لا تسرع في الانتقام بل تترك للمجرم زمناً ومحلاً للتوبة .

     ( 17 ) ” لأن الناموس أعطي بموسى وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح حصلا ”

     المقابلة في الآية بين الناموسين ناموس موسى وشريعة المسيح وبين الهيكلين والذبيحتين والختانين أي الختان اللحمي وختان المعمودية . فموسى أمر باتخاذ خروف لتضحيته في بيت بيت أما المسيح فضحى بذاته . موسى بسط يديه على الجبل والمسيح مدّهما على الصليب . موسى أوجب اللعنة على كلٍ مَن لم يعمل بما هو مكتوب في الناموس أما المسيح فقد صار بدلاً منا لعنة . وأيضاً اختصّ الحق والنعمة والسلطان بالمسيح لأنه من ذاته يغفر الآثام ومن ذاته يعطي نعمة الروح القدس بالعماد . وبظهوره في العالم بطلت الرموز التي كانت تشير اليه لأنه الحق . أما ناموس موسى ولو انه أعطي بالنعمة فقد كان ظلّ المستقبل أي كان صورة ومثالاً لما يأتي . وقد أعطاه المسيح عينه عبده وخادمه ولذلك قيل : الناموس أعطي بموسى أما العهد الجديد فحصل بالمسيح ولم يُعطاه .

     ( 18 ) ” الله لم يرهُ أحد قط . الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر ”

     ان صحّ أن لم ير أحد الله . فلماذا قيل ان موسى تكلم معه وجهاً لوجه . ولِم ادّعى اشعيا قائلاً . اني رأيت الرب ؟ فالجواب ان الناس والملائكة أيضاً لا يقوون على مشاهدة الله من ذاتهم وليس الله شكل محسوس ليترآءى لنا كما يترآءى الانسان لانسان آخر . وبما انه لا شكل خاص به جاء في الكتب . انه عزّ وجلّ ظهر باشباه كثيرة للانبياء . وزدْ أيضاً على الاعتراض ما كتبه من الطوبى للانقياء القلوب لانهم يعاينون الله . وما قاله السيد لهُ المجد من ان ملائكة الاطفال ينظرون وجه أبي في كل حين ليشمل جوابنا تفسير كل هذه الآيات . وبناءً عليه نقول ان مرأى الله قد يُعنى به النظر الباطني والتفكّر المتواصل فيه . وأيضاً قد يكون نظراً جسدياً . اذ لا يستحيل أن يرفع النفس الناطقة بقوة علويته لتشاهده ولو انها في هذه الحياة . واعتقد بصحة هذه التفاسير . وذهب قوم الى ان كلمة ” الله ” في الآية الحاضرة انما تعني الآب لا غير . وعن طبيعته واقنومه قيل انهما غير منظورين لمخلوق اما الابن فانه ترآءى في القديم بعدة اشباه فواضح من ان دانيال رآه شبه حجر . ومن ان أشعيا تكلم عنه لما رأى مجده . وأيضاً ظهر الروح بشبه حمامة على الاردن وعلى الرسل في العلية . فاذن احصر كلمة الله بالآب وعنه قُلْ أنْ لم يره أحد . اما نحن فلا نرى لهذا التفسير صحة . ونردّه بهذه العبارة : ان الابن الوحيد الذي في حضن الآب أخبر بأن لم يَرَ الله أحد . فان كان الابن في حضن الاب قال انه لم يَرَ أحد الآب . فاستنتج أن لم يَرَ أحد الابن أيضاً لانه بطبعه واقنومه غير منظور . ومن الأكيد ان الابن مساوٍ للآب في الجوهر والطبيعة وهو مع الآب في الأزل بدون انفصال وظهوره في الجسد لم يفصله عنه . وهو لهُ المجد أخبرنا بالخفايا فأعلمنا ان الله واحد مثلث الاقانيم . وان هذه الاقانيم هي الآب والابن والروح القدس لها حياة واحدة وذات واحدة لا يختلف منها واحد عن الآخر بغير الاقنومية . وان الابن الذي هو الاقنوم الثاني صار انساناً وظهر بين البشر . واستنتج بعض الشرّاح من قوة التعبير في اللغة اليونانية ان الانجيلي يعني ” بحضن الآب ” خفايا اللاهوت . بحيث يكون المعنى على هذا النسق : ان الوحيد للآب أخبرنا خفايا أبيه التي يدعوها حضنه .

( في شهادات يوحنا المتعدّدة )

     ( 19 ) ” وهذه هي شهادة يوحنا اذ أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت ” ( 20 ) ” فاعترف ولم يُنكر واعترف اني لست المسيح ”

     كان اليهود عارفين مَن يوحنا وابن مَن هو ومع ذلك أرسلوا يسألونه : مَن أنت اما الداعي الى عملهم هذا فهو على رأي بعضهم ان اليهود لم يقبلوا شهادة يوحنا الاولى عن المسيح على اظهار عواطفهم وكانوا يعدّون قبوله معلماً والخضوع لهُ من العيوب الفاضحة . ومما زاد حنقهم ان يوحنا كرّر شهادته بان السيد أعظم منه . فأرسلوا اليه قصْدَ ايقاعه في الخداع وحَمْله على أن يقدّم نفسه مسيحاً ومعلماً . وكان صاحب منزلة سامية عندهم فقالوا : ان رضي باعلان نفسه مسيحاً انتصرنا على يسوع . فأتاه قوم من الكهنة واللاويين المتظاهرين بالفضيلة والتقوى . وقد سألوه ثلاث مرات تبعاً لما رواه الانجيلي وفي الثلاث مرات اعترف بانه ليس المسيح وأبى أن يجيب تبعاً لشهواتهم

     ( 21 ) ” فسألوه اذن ماذا أايليا أنت فقال لست اياه . ألنبي أنت أجاب كلّا ”

     واذ رأى الفريسيون انهم ما استفادوا فتيلاً من سؤالهم رجعوا الى طريقة أخرى فطلبوا منه هل أنت ايليا . وكانوا ينتظرون مجيء هذا النبي قبل المسيح ليعدّ كل شيء . وبين الاثنين أكبر مشابهة . لان يوحنا كان بتولاً كايليا وكاهناً مثله ولهُ سلطان مثله على التعميد . ومن الأكيد ان ايليا سيأتي قبل مجيء المسيح الثاني للدينونة كما أتى يوحنا قبل مجيئه الأول . فضلاً على ان يوحنا ظهر طبقاً لقول الملاك لزكريا متصفاً بالروح وبقوة ايليا . وفي جواب يوحنا بالنفي صعوبة وهو ان سيدنا قال ان ايليا جاء ولم يقبلوه فكيف قال يوحنا انه ليس ايليا؟ . أجيب ان يوحنا جاء شبه ايليا بالروح والخدمة والقوة لا بالذات عينها . ولما رأى الفريسيون انهم ما استفادوا شيئاً واذ كانوا عالمين ان موسى وعدهم بالنبي العظيم سألوا المعمدان . ألنبي أنت . وقد كانت الظنون تتناولهم فيه . فمنهم من يعتقد بانه المسيح ومنهم مَن يحسبه النبي الموعود . وآخرون يحسبونه مسيحاً ونبياً . وكان فريق رابع يعدّه ملكاً ومخلصاً . فأجاب يوحنا أيضاً : كلّا . وبهذا ردعهم عن مقصدهم الشرير وارتأى قوم ان قول موسى الموعود به ان الله سيقيم لكم نبياً قد تحقق في يشوع بن نون وفي سائر الأنبياء . لكن هذا الرأي مخالف لاعتقاد اليهود اذ كانوا يحسبون النبيّ المشار اليه أعلى درجة من سائر الأنبياء وأفضل ممن سواه

     ( 22 ) ” فقالوا له فمن أنت لنرد الجواب على الذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك ”     ( 23 ) ” فقال أنا صوت صارخ في البرية قوّموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي ”

     وشاء السائلون ان يعرفوا ما رأي يوحنا في نفسه . ولانهم كانوا واثقين بصدقه طلبوا منه أن يلقّنهم ما يردّون به جواباً على مرسليهم . وهنا أيضاً حاول تبطيل اعتقادهم وقال بكل تؤدة وهدوّ : انا صوت صارخ في البرية . وكان اشعيا قد تنبأ بذلك فذكر المعمدان الكلام عينه. وانما دُعي عليه السلام صوتاً لأن الكلمة تظهر بالصوت والله الكلمة الخفيّ ظهر بواسطة صوت يوحنا . وأيضاً يضمن الصوت الكلمة ويوصلها الى السمع وهو يبقى خارجاً عن الأذن . كذلك يوحنا أدخل الكلمة بكرازته في قلوب سامعيه أي جعله معروفاً وبقي هو خارجاً . وزيد ” في البرية ” لانه كان يبشر في برية اليهود . والبرية أي القفر الخراب ممثلة اليهود المقفرة قلوبهم من الايمان والعمل الصالح . ولما كانت العادة أن تُعدّ الطريق قبل سفر الملك لئلا يعثر فيها واكراماً لعظمته . وكان يسوع الملك الاعظم والسلطان الاكبر دعا المعمدان الناس الى ان يقوّموا الطريق ويخفضوا العالي ويرفعوا المنخفض أي يجرّدوا قلوبهم من الخطايا وادناس المعاصي ومن أعالي الكفر ومنخفض الهلاك . وان كان مثل هذه العبارات غير موجودة بالصراحة في يوحنا فانه أشار اليها ضمناً بذكره اشعيا . ومن كلام هذا النبي : قوّموا السبل أي افتحوا قلوبكم لنعمة الكلمة ومهّدوا لها سبلاً لتدخل وتحلّ فيكم . وأيضاً حوّلوا الطريق أي اهجروا عبادة الاصنام الكاذبة وميلوا الى الرب يسوع واستبدلوا أعمالكم السيئة بأعمال صالحة .

     ( 24 ) ” وكان المرسلون من الفريسيين ” ( 25 ) ” فسألوه وقالوا له فلم تعمد ان كنت لست المسيح ولا ايليا ولا النبي ” ( 26 ) ” أجابهم يوحنا وقال أنا أعمد بالماء ولكنّ بينكم من لستم تعرفونه ”

     كانت الفريسية هرطقة عند اليهود فاصحابها أرسلوا اليه بعضاً منهم وكانوا كهنة ولاويين واذ نظروا ان اللين لم يجذبه اليهم وانهم عاجزون عن خداعه غيروا طريقهم وأخذوا يلومونه قائلين : ان لم تكن المسيح ولا ايليا ولا النبي فلمَ تزاول التعميد وكأنهم ينتظرون ان يغير صدقه ويقول : أنا المسيح . أما هو فقال : ان معموديتي بالماء لا غير فهي غير كاملة لأنها ظلّ تلك التي سيعطيها المسيح وتحوي الكمال والحقيقة وتهب الروح القدس . ثم صرّح بان المسيح المخلص بينهم أي اما بين المجتمعين أمامه . أو لأنه من صف الشعب الاسرائيلي ولكنهم لا يعرفونه

     ( 27 ) ” هو الذي يأتي بعدي وقد جُعل قبلي الذي أنا لا أستحق أن أحلّ سير حذائه ”    ( 28 ) ” وكان ذلك في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمد ”

     فسر القديس افرام وفيلكسينوس عبارة ” يأتي بعدي وقد جُعل قبلي ” بان الكلمة ولو صار انساناً لكنه اكرم مني . وبما انه اله هو أقدم مني لأن الخالق أقدم من مخلوقاته . ودلالة على شرف المسيح قال المعمدان بانه غير أهل لحلّ سير حذائه . ومن المعلوم ان حل ّ الحذاء من الخدمات الدنيئة الواطئة . فمعنى عبارته أنا لا استحق أن أكون معدوداً بين أصغر خدمه الذين يزاولون أدنى الأمور . وبالمعنى الروحي ان سير الحذاء هو تدبير المسيح بالجسد فيكون المعمدان قد أراد انه لا يقدر على ان يدرك سراً واحداً ولو أدنى الاسرار من حياة المسيح واسرار سياسته بالجسد فانظر يا أخي الى تواضع يوحنا ومع انه أعظم الناس يضع نفسه بين أحقر العبيد ونحن مع امتلائنا من الشرور والرذائل نريد أن نُدعى معلمين واساقفة ومطارنة وان ننال كل الالقاب الشريفة . وقد سمع اليهود جواب يوحنا فسكتوا لعجزهم عن جواب ما . وهم المستوجبون كل اللوم لأنهم أبوا قبول السيد المسيح ورفضوا شهادة يوحنا المتحلّي بصفات عجيبة باهرة . ولاحظْ ان الانجيلي أراد تعيين مكان هذا الخطاب ليثبت أولاً صحة الكلام وليظهر ان الشهادات للمسيح أعطيت في وسط الجمع ولم تخفَ على أحدْ : وقيل ان ذلك جرى في عبر الأردن في بيت عنيا . وهنا أقوال . فاما بيت عنيا كانت اثنين الأولى بالقرب من أورشليم حيث بيت لعازر وقبره . والثانية بجانب الاردّن . فتكون هذه الثانية المدلول عليها في الآية . واما وُضع من أحد النسّاخ بطريق السهو والغلط كلمة ” بيت عنيا ” لان بيت عنيا الحالية المشهورة تبعد عن الاردن اثني عشر ميلاً . أو ان كلمة عبر تؤخذ بالمعنى المتسع وتدلّ على بلاد كبيرة بالقرب من الجليل ومن غدران الاردن

     ( 29 ) ” وفي الغد رأى يوحنا يسوع مقبلاً اليه فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم ”

     بينما كان يوحنا يعمّد المتقاطرين اليه ويعظهم ويسمع اعترافهم بخطاياهم رأى السيد المسيح مقبلاً اليه . وقال فريق انه أتى ليعتمد . ورأى آخرون انه أتى ليشهد له يوحنا فاغتنم هذه الفرصة وتكلم عنه . فسماه حملاً لطهره وخلوّه من الخطايا ولأنه حمل آثام العالم أجمع . وقد دلّ بقوله ” هوذا ” انه كان يكرز عنه كثيراً وان سامعيه كانوا مشتاقين لأن يشاهدوه . وفي تسميته لهُ المجد ” حملاً ” معانٍ متعددة . أولاً . ان الآباء الأقدمين الذين ماتوا لم يكونوا حملان الله بل عبيده فهم اذن منفرقون بالحالة والتسمية عن السيد المسيح . ثانياً . سُمي السيد حملاً تحقيقاً لنبؤة أشعيا القائل كمثل الحمل اقتيد الى الذبح . ثالثاً والعادة ان الحمل الناموسي كانت خطايا الشعب توضع على رأسه كذلك السيد المسيح حمل على عاتقه خطايا العالم . وأيضاً كان يذبح بدلاً من الشعب والمسيح تألم ومات عوضنا . ثم الحمل الناموسى كان بريئاً من العيوب والعاهات . والمسيح الحمل الالهي بريء من كل دنس الخطية . رابعاً صوف حمل الناموس كان يصنع منه ثياب للعراة . والمسيح ألبس آدم حلّة المجد التي فقدها في الفردوس خامساً موسى بخروف الفصح أبطل ابليس المفسد وأمات سلطانه . والمسيح بموته أبطل الخطية ولاشاها . ومن الأكيد ان أشعيا لم يدعهُ حملاً عند ذكره الآلام الّا ليحمل اليهود على الافتكار أمام الخروف الفصحي بذاك الذي سيذبح حقاً لأجلهم . وليدلهم على ان الرموز ستعبر يوماً وتزول وتتجدّد في محلها الاشياء الحقيقة .

     واعلم ان كلمة حمل الله تعني ابن الله . ولبيان ذلك نقول : ان المضاف الى اسم الجلالة يتخذ أحد هذه المعاني الأربعة . فاما يكون مختصاً بطبع الله كقولك : المسيح ابن الله ووحيد الله . واما يدل على انه منتخب من الله كقولك هرون كاهن الله ورسول الله . واما ينسب اليه تعالى ومثل ذلك اليهود شعب الله . واما يكون ملك الله ومثاله : خليقة الله . وتسمية المسيح حمل الله تابعة لأول هذه المعاني

     وقد وصف هذا الحمل بانه يرفع الخطية . ولم يقل رفع لان السيد لم يكن قد مات وقد رفع الخطية بموته والآن يرفعها عندما نندم عليها ونقتل سرّ التوبة . وهو له المجد قرّب مرة واحدة الذبيحة فكفّر عن خطايانا كلها وبقوة هذه الذبيحة يمكننا أن ننال الطهر كل حين . وانتبه الى ان سيدنا اتخذ عدّة اسماء وهي – 1ً . الوحيد لانه بدون اخوة وبلا مثيل –        2ً . الابن لانه ولد من الآب الأزلي قبل كل الدهور وهو لم يلد  3ً . الكلمة لانه ولد بلا وجع ولا اخلاط سالت معه من الاحشاء التي كان فيها كما تُولد الكلمة من العقل . ولأنه أخبر عن مخفيات الآب كما نخْبر بكلمتنا عن المخفي فينا . وأيضاً لأنه لم يسبقه الآب لأن الآب لم يكن في وقت بدون كلمة – 4ً . المسيح لان الروح القدس مسحه لكونه ولد بالجسد – 5ً . يسوع لانه مخلّص – 6ً . وكان طفلاً وصبياً ورجلاً ودُعي بهذه الأسماء كما يشهد الانجيل لانه صار انساناً فمرّ في أطوار الطفولية وفي سنّ الصبيان والشباب والرجال – 7ً . الحمل في المعمودية لانه أخذ آثامنا وغرقها في مياه العماد كما غرق فرعون في البحر – 8ً . الختن لانه شريكنا في العماد . وسائلٍ كيف صدّق الناس يوحنا في تسميته السيد المسيح حمل الله ومسيحاً مع ان هيئته الخارجية لم تكن لتشهد لهُ الا بانه انسان ؟ فالجواب انهم صدقوا لحسن ظنّهم بالمعمدان الشاهد اذ كان في القفار يزاول الزهد والاماتة والفضائل كما صدّق الناس فيما بعد بشارة الرسل بسبب اجتراحهم المعجزات .

     ( 30 ) ” هذا هو الذي قلت عنه انه يأتي بعدي رجل قد جُعل قبلي لانه أقدم مني ”       ( 31 ) ” وأنا لم أكن أعرفه لكن لكي يظهر لاسرائيل جئت أنا أعمد بالماء ”

     اعلن المعمدان ان المسيح أفضل منه لانه لهُ المجد يمنح بالمعمودية الروح القدس ولم يكن المعمدان يعرفه قبل ان أتى اليه واعتمد منه وكان ذلك بعناية ربانية . واذ انفتحت السماوات وهبط الروح على السيد علم يوحنا ان مَن امامه هو المخلص . وكان لاسمه السجود قد اتى بالمعجزات الباهرة زمن مولد . الّا ان يوحنا كان اذ ذاك رضيعاً فلم يعلم بها . وبناءً على ذلك معنى كلامه لليهود هو هذا : لا تظنوا اني أشهد له بسبب شدة محبتي له وتعلقي به فأنا لم أكن أعرفه لكن الوحي العلوي أعلمني به واني بتدبير من الله خرجت صغيراً الى القفر وبقيتُ فيه ثلاثين سنة فما تربيت معه ولا معرفة شخصية سبقت لي به ولذلك صدّقوا ما أشهد به . والآن جئت اعمّد بالماء قصْدَ اظهاره وطلباً لتطهير القلوب وتسهيل الطرق لتؤمنوا به حقّ الايمان . ومن البين ان الناس كانت تقطر الى الكاروز العظيم طالبين منه معمودية توبة واستماع مواعظه . ولم يرسل تعالى نبيّه معمداً الّا ليتمكن اليهود من معرفة شرف عماد السيد المسيح وما سيرسمه من ضرورتها .

     ( 32 ) ” وشهد يوحنا قائلاً اني رأيت الروح مثل حمامة قد نزل من السماء واستقرّ عليه ” ( 33 ) ” وأنا لم اعرفه لكنّ الذي ارسلني لاعمد بالماء هو قال لي ان الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس ” ( 34 ) ” وانا عاينت وشهدت ان هذا هو ابن الله ”

     يستنتج ان يوحنا وحده رأى الروح لانه يقول : اني رأيت ولم يقل قد رأت الجموع . وأيضاً انه رآه بأعين الروح لا الجسد على شبه ما كان يراه الانبياء . لأنه لو رآه بعين الجسد لكانت الجماهير حوله رأته مثله أيضاً . وارتأى آخرون ان بعض         الناس الصالحين الذين كانوا هناك رأوا الروح أيضاً . وقال فريق آخر ان الرؤية اشترك فيها الحضور . وربّ معترض يقول : لماذا لم يؤمنوا به ان كانوا قد رأوه ؟ أجيب ان اليهود لم يؤمنوا به حتى في الزمن الذي تكاثرت فيه منه العجائب والمعجزات . ثم اعلم ان الروح لم يظهر بطبيعته الازلية بل تحت شكل الحمام . وكان قد ظهر للاقدمين بشبه النار على حسب ما كانوا يفقهون اما الآن فاقتضت العناية الالهية ان يبدو بشكل الحمامة . واعتقد متين الاعتقاد ان الروح واجب لهُ الاكرام عينه الذي للابن لانه لا يقلّ درجة عنه . وقد اعلن المعمدان ان الآب أرجعه من البرية بالهامه السماوي . وبالهامه أيضاً افهمه ما العلامة التي يستدلّ بها على السيد المخلص . ومن الأكيد ان الابن لم يكن محتاجاً لحلول الروح عليه لكن ليراه يوحنا ويشهد لهُ فلا يكذّبه سامعوه . وأيضاً لم يحلّ الروح على السيد المعتمد الّا ليعرفه الناس وينتفي من عقولهم ان الابن هو يوحنا لا غيره .

     ولما كانت اثبات لاهوت السيد المسيح غاية الانجيلي أولاً . وأيضاً غاية المعمدان الذي كان في اعماله وقوله كلها يرمي الى اثباتها اختصر كل كرازته بقوله عاينتُ وشهدتُ ان هذا هو ابن الله . فبعد ان سمّاه حملاً سمّاه ابناً أيضاً ليثبت عظمته ولاهوته وانه مخلّص البشر وربهم وشفيعهم الذي لا تردّ لهُ شفاعة وقد تأنس لنجاتهم من الويلات

( أيضاً في شهادة المعمدان ودعوة بطرس واندراوس )

     ( 35 ) ” وفي الغد أيضاً كان يوحنا هناك هو واثنان من تلاميذه ”

     مقصد الانجيلي ان يبين كون المعمدان اتبع ترتيباً في كرازته وظلّ أياماً كثيرة يدعو الناس الى يسوع المخلص . ففي اليوم الأول جاء الكهنة واللاويون اليه وألقوا سؤالهم كما مرّ ثم في اليوم الثاني رأى يسوع مقبلاً اليه فسماه حمل الله . وفي هذا اليوم عينه اعتمد لهُ المجد ولم يروِ الانجيلي ظروف العماد لأن الانجيليين السابقين رووها وهو لا يذكر الا ما نقّصوا فيه كما انه لم يروِ ما وقع للمعمدان من السجن والاستشهاد .

ومن المعلوم ان السيد ذهب حالاً بعد عماده الى البرية وعند رجوعه ظهر ليوحنا ولاثنين من تلاميذه . فيكون معنى في الغد أي بعد زمن أو في يوم آخر . اعتراض : لماذا قال الانجيلي في الغد مع وجود أيام عديدة بين المعمودية والشهادة الآتي ذكرها التي وقعت بعد تجربة السيد في البرية . حلّه . عادة الكتاب أن يقول مثلاً : في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان مع ان ستاً وعشرين سنة مرّت بين الحادثين . وأيضاً أن يقرن بين خراب أورشليم وانتهاء العالم وما بين الأمرين زمان بلغ نهايته الطول . فاستخدم الانجيلي الطريقة عينها . وكأنه أراد تنسيق الحوادث فعين لكل منها يوماً أي الأول لسؤال الفريسيين والثاني للعماد المخلصي والثالث وهو الأول تاريخياً بعد رجوع السيد من البرية لتسميته حمل الله . والرابع لذهابه الى الجليل . والخامس لعرس قانا الجليل

     ( 36 ) ” فنظر الى يسوع ماشياً فقال هوذا حمل الله ”

     استخدم المعمدان لا قوى نفسه فقط بل جوارحه أيضاً للكرازة بالسيد المسيح وها الآن ينظره ماشياً فيدلّ لا بالصوت والكلام فقط بل بعينه ويديه ووجهٍ طافح سروراً . وقد مرّ بنا انه دعاه حمل الله . والآن يراجع التسمية ليجعلها راسخة في قلوب سامعيه وأكبر اقبالاً على اتباع ابن الله . واننا نرى السيد المسيح يصون السكوت كالعريس ولا يتكلم ولكن آخرين يكلمون العروس بدله ليأتوا بها اليه . فان يوحنا يخاطب البيعة أي نفوس المؤمنين ليجعلها تابعةً عريسها . وكما ان العروس لا تسعى وراء خاطبها ولو ملَكاً أعلى منها درجة . كذلك السيد نزل من السماء وخطب البيعة ليصعدها الى دار الخالدة

     ( 37 ) ” فسمع التلميذان كلامه فتبعا يسوع ”

     كان خطاب المعمدان أو شهادته أمام الجميع لا بينه وبين التلميذين ولأجل ذلك عرفا أن لا غشّ فيها فأظهرا الخضوع لمعلمهما ومضيا وراء يسوع الذي يعمد بروح القدس ويحمل خطايا البشر . وهما طالبان بكبير الرغبة أن ينالهما نصيب أوفر من تعاليمه وأن يتفقّها أكثر في مدرسته . أما مَن سواهم فما تبعوا يسوع بسبب الحسد الذي استولى على قلوبهم . ودليل ذلك مما قالوا فيما بعد ونصه يا معلم ان الذي شهدت عنه يعمّد أيضاً . وأيضاً لماذا نحن نصوم وتلاميذ المسيح لا يصومون . فيتضح هنا ان ارادتنا هي التي تنفر عن هبات الله لكنها متى شاءت نيلها وجدتها بالقرب منها تابعةً لها ومساعدة على الرغبة الصالحة .

     ( 38 ) ” فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما ماذا تُريدان فقالا لهُ رابي الذي تفسيره يا معلم أين تسكن ” ( 39 ) ” فقال لهما تعاليا وانظرا فأتيا ونظرا حيث يسكن وأقاما عنده ذلك اليوم . وكان نحو الساعة العاشرة ”

     لم يسأل السيد تابعيه وهو فاحص الكلى والقلوب الّا أولاً ليطمئن قلباهما فيطلبان منه ما يريدان وثانياً ليعدّهما الى استماع بشارته ويزيل خجلهما ولم يكونا من قبل من المتعلمين معه لا سيما وان المعمدان كان قد أخبر عنه لهُ المجد الأمور العجيبة . وقد صدر السؤال عن المسيح كانسان لا يعرف مع انه عالم بكل الأمور قبل حدوثها . وقد سألاه أولاً عن محل اقامته كأنهم يطلبان منه السرّ عما يريدانه وسمّياه معلماً لرغبتهما في أن يصيرا تلميذين له واننا نعلم ان يسوع الاله المتأنس الذي لا تسعه السماوات قد أقام ببيتٍ لم يكن لهُ . فدعاهما الى مأواه قصد أن يأنسا به ويظهر لهما انهما مقبولان عنده . فللوقت تبعاه ولما كانت الشمس قد دنت من الغروب وكانت الساعة العاشرة باتا عنده قصد أن يسمعا تعليمه ويستفيدا من كلامه وكانت رغبتهما في الاستفادة كبرى حتى ان احدهما خرج ليصطاد سامعين آخرين ويأتي بهم الى يسوع . وانظر ما أعظم ما كان اجتهاد السيد في الكرازة والتعليم فانه كان في كل زمن يبشر بملكوت الله سواء كانت الساعة عاشرة أم غير عاشرة . وقد أكمل الضيفان عند يسوع النهار كله والليل التابع حتى الصباح

     ( 40 ) ” وكان اندراوس أخو سمعان بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعا يسوع ” ( 41 ) ” فوجد أولاً سمعان أخاه فقال له قد وجدنا ماسيا الذي تأويله المسيح ”

     ذكر الكاتب اسم أحد التلميذين وهو اندراوس اما الثاني فهو يوحنا الانجيلي عينه وعادته الّا يذكر اسمه تواضعاً كما هو مرويّ عندما شاهد الدم والماء نازلين من صدر يسوع المسيح. وخالف فريق آخر فقالوا ان التلميذ الثاني كان معروفاً مشهوراً فما كانت حاجة الى تسميته كما انه لم تكن حاجة الى تسمية التلاميذ الاثنين والسبعين أو على الاقل الى تسمية واحد منهم اما تسمية اندراوس فلأنه اصطاد اخاه سمعان ليكون مبشراً وكان قد أعجبه التعليم الذي سمعه فأسرع الى أخيه طلباً لاشراكه في الحسنات الجليلة التي اقتبسها من ماسيا وكانت النفوس تتوق أشد التوقان الى مشاهدة المسيح لانها كانت معذبة في انتظارها اياه فلما بدت طلعته في العالم أتى الفرج والاغتباط جميع المنتظرين ولاحظ انه قال ماسيا لا مسحاء ولا مسيحاً ما أياً كان لتمييزه عن غيره ممن يدّعون انهم مسحاء ولأعلانه انه منتظر منذ أزمنة عديدة

     ( 42 ) ” وجاء به الى يسوع فنظر اليه يسوع وقال انت سمعان ابن يونا انت تُدعى كيفا الذي تفسيره صفا ”

     لم يتمهل سمعان في المجيء الى يسوع بعد ان عرف من أخيه أموراً عديدة عن هذا المعلم السامي وفي نظر يسوع اليه دلالة على انه لهُ المجد قد سبق فعرفه وقرأ في وجهه كل عواطف قلبه فانه كشف له عن اسم أبيه بقوله أنت سمعان بن يونا ثم أعطاه اسم كيفا أي صخرة وتنبأ له بما سيجعله في بيعته وبذلك جذبه الى الايمان به . وقد غيَّر له الرب اسمه كما غير في العهد القديم اسم ابرام بابراهيم وسراي بسارا ويعقوب باسرائيل وهوشع بيشوع. وقد يأتي الشياطين بالعجائب وتكون كالخيالات لا حقيقة لها لكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا معرفة ما يأتي لأن الله اختص وحده بمعرفة المستقبل فهو يعلمه ومَن يريد أن يكشف لهم عنه

( في دعوة فيلبس ونثنائيل )

     ( 43 ) ” وفي الغد أراد يسوع الخروج الى الجليل فوجد فيلبس فقال له اتبعني ”         ( 44 ) ” وكان فيلبس من بيت صيدا من مدينة اندراوس وبطرس ” ( 45 ) ” ووجد فيلبس نثنائيل فقال له ان الذي كتب عنه موسى في الناموس والانبياء قد وجدناه وهو يسوع من الناصرة ” ( 46 ) ” فقال له نثنائيل أمن الناصرة يكون شيء صالح . فقال له فيلبس تعال وانظر ”

     سبق لنا الكلام ان لفظ ” في الغد ” تدل على ان الانجيلي يكتب الحوادث بنظام وترتيب . فبعد ان أخبر عن دعوة بطرس شاء ان يقص كيف تتلمذ ليسوع فيلبس ونثنائيل . وقد علمت ان اندراوس تبع المسيح عاملاً بمشورة المعمدان . ثم ان سمعان تبعه عاملاً بمشورة اندراوس اما فيلبس فعمل بدعوة السيد عينه الذي كان يعرفه بالروح . وقد دلّ الكاتب على القرية التي خرج منها فيلبس اعلاماً بأن المسيح أخزى الحكماء والعلماء واختار رسله من البلاد الحقيرة ليعلن بهم قوة ساعده وينشر الخلاص . وقد جعلهم لهُ السجود عواميد ثابتة في كنيسته التي هي المدينة المقدسة في العالم . ولما كان فيلبس يدرس الكتب المنزلة ويعرف الأنبياء والناموس وينتظر الموعود به داخله الفرح مما لقي في يسوع فأراد أن يشرك غيره بذلك واذ وجد نثنائيل أخبره بأن يسوع المعروف أمام الناس بأنه ابن يوسف ومن الناصرة هو المخلص الموعود . وكانت الناصرة ذات شهرة غير حميدة وفيها يسكن الشعوب واليهود مختلطين فلذلك أخذ العجب من نثنائيل مأخذه فقال : هل يخرج منها شيء صالح . فضلاً عن انه طالع في الكتب ان المخلص يظهر من بيت لحم فأجاب فيلبس بما قاله اندراوس لسمعان وعمل نثنائيل ما عمله سمعان أي انه قبل الى يسوع بشوق مفرط

     ( 47 ) ” ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً اليه فقال عنه هذا هو في الحقيقة اسرائيليّ لا غش عنده ” ( 48 ) ” فقال له نثنائيل من أين تعرفني . أجاب يسوع وقال له اني قبل أن يدعوك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك ”

     بعد ان بكّت نثنائيل فيلبس على تصديقه ان من الناصرة شيئاً صالحاً احتقر كل عاطفة بشرية وأتى فكّرم الحق فمدحه السيد على خلوص نيته من الغش ولجذبه اليه لم يبتدئ باعلامه انه وُلد في بيت لحم لا في الناصرة لئلا يكون له سبباً لزيادة الشك بل أعلمه انه عارف به من قبل وباسمه وبالموضع الذي كان فيه وبدعوة من فيلبس لهُ وبزمن خطابهما معلناً انه مطلع على الخفايا وانه رآه بالروح وبالتالي انه أعظم من الناس وانه اله . وروى بعضهم ان نثنائيل هو برتلماوس . وقد كان عارفاً بالكتب المنزلة كما يستبين ذلك من اجوبته. قيل انه قتل انساناً في أيام شبابه ثم حفر تحت التينة وطمره ولما كشف المسيح له الغطاء عن هذا الأمر اعترف نثنائيل بانه اله . ومن المعلوم ان السيد أشار اشارة خفية الى الحادث الّا ان مخاطبه فهم الاشارة من دون ابطاء . وروى فريق آخر ان عندما قتل هيرودس اطفال بيت لحم اخفت أم نثنائيل ابنها تحت التينة فنجا ولهذا المعنى ذكر مخلصنا التينة

      ( 49 ) ” أجاب نثنائيل وقال له يا معلم أنت ابن الله أنت ملك اسرائيل ” ( 50 ) ” أجاب يسوع وقال له لأني قلت لك اني رأيتك تحت التينة آمنت انك ستعاين أكثر من هذا ”            ( 51 ) ” وقال له الحق الحق أقول لكم انكم سترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر ”

     شعر نثنائيل بأن السيد عالم بالمخفيات علم الله بها فقال لهُ أنت ابن الله . وسائلٍ لماذا لم يطوّبه السيد المسيح كما طوّب سمعان بطرس عند اعترافه به انه ابن الله ؟ فالجواب ان الاعترافين مختلفان لأن بطرس أراد اعلانه ابناً طبيعياً لله ونثنائيل أعلنه ابناً بالنعمة لا غير أو انساناً لا أكثر ودليل ذلك انه اتبع كلامه بقوله : أنت ملك اسرائيل الذي ينتظر الجميع مجيئه . اما ابن الله الطبيعي فهو ملك الخلائق كلها لا اسرائيل وحده فلأجل هذا السبب لم ينل نثنائيل الطوبى . وكأن السيد له المجد أراد اعلان انه اله فأعْلم ان السموات تكون مفتوحة وملائكة الله تصعد اليها وتنزل منها على الأرض معترفين بانه اله ولو ظهر انساناً . وقد تحقق هذا القول في زمن الميلاد المخلصي أولاً ثم عندما غلب لهُ المجد ابليس اللعين بصلبه وقبره وصعوده . وتأمّلْ ما لطف سيدنا وحنانه فانه يرفع أفكار مخاطبه من الأرض الى أعلى ليجذبه الى الاعتراف به بانه اله وكأنه يقول لهُ : مَن يخدمه الملائكة أتعدّه انساناً قط . كلّا بل هو أعظم .

 

 

 

( الاصحاح الثاني )

( في عرس قانا الجليل )

     ( 1 ) ” وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ”

     قال موسى ابن الحجر ان هذا اليوم الثالث ليس الثالث بعد العماد لكن الثالث بعد رجوعه من البرية . اما القديس ايبوليطوس بابا رومية فقد رتب الأيام بان قال : اليوم الأول هو ذاك الذي تبع فيه التلميذان السيد المسيح . والثاني هو يوم خروجه لهُ المجد الى الجليل والثالث هو يوم العرس . وتجاسر أحد الهراطقة المدعو غايوس على التنديد بيوحنا لانه خالف قول الانجيليين السابقين . الذين أثبتوا ان السيد بعد عماده مضى الى الجليل حيث عمل معجزة الخمر . ولكن ايبوليطوس أجاب هذا الضالّ بان بيّن موافقة الأناجيل الأربعة قال ما معناه : خرج السيد بعد عماده الى البرية ولما كان تلاميذ يوحنا والشعب يتناظرون فيمن هو رجع بعد أربعين يوماً وترآءى ليوحنا الذي سمّاه حمل الله . وفي مدة غيابه فتش الناس عنه كثيراً ولذلك رأى الرجوع اليهم وفي اليوم الثالث لرجوعه كان العرس في قانا فلا مناقضة البتّة بين كتبة الأناجيل الأربعة . وان سألت : عرس مَن كان ؟ اجبتُ مع مار ساويرس انه كان عرس نيقوديموس وكان رئيس المتكأ لعازر الذي من بيت عنيا . اما قانا فهي مدينة في بلاد الجليل

     ( 2 ) ” فدعي يسوع وتلاميذه الى العرس ”

     قال يوحنا الذهبي ان السيد المسيح كان معروفاً في كل الجليل ولذلك دعوه وأمه الى الحضور في احتفال العرس . وقال يعقوب السروجي انه لهُ المجد ألهمهم أن يدعوه فدُعي كسائر الناس وقصد بمجيئه فائدة الحاضرين . وكما انه يأخذ شبه العبد وهو سيد الجميع بدون استثناء كذلك شاء أن يتكيء مع الخطأة في العرس حتى اذا أتى بالمعجزة الباهرة اعتقد الناس بانه اله حقاً وأيضاً أراد أن يعلن ان الزواج طاهر مقدس ثم رأى الفرصة سانحة ليدعو الناس الى استماع تعاليمه والايمان به . وقد أعطى لاسمه السجود مثالاً صالحاً للأغنياء حتى لا يصدوا عن الاختلاط بالفقراء اذا دُعُوا معهم الى اجتماع ما .

     ( 3 ) ” وفرغت الخمر فقالت أم يسوع له ليس عندهم خمر ”

      قال القديس يوحنا ان المسيح لم يعمل قبل عماده آية غير انه جلس بين العلماء في الهيكل وعمره اذ ذاك اثنتا عشرة سنة فأدهشهم بحكمته . لأنه لو أتى بالمعجزات لما احتاج الى شهادة يوحنا ليصير معروفاً وانما صدّ عن عمل الآيات في سني شبابه لئلا يُقال عنه انه خيال وقد قالوا عنه ذلك بعد ان نظروا تدابيره وأعماله مع انه ظهر واضحاً انه ينمو بالجسم وانه في سن الرجال ولو عمل آيات في صباه لشنّع كثيراً في حقه المنافقون واليهود الطالبون أن يقتلوه . أما مار ساويرس فقد قال ان أعجوبة قانا هي الأولى بعد عماده لهُ المجد لكنه أتى بعجائب في أماكن أخرى كتكسيره الأصنام عند دخوله مصر . لكنا نخالف هذا الرأي وننضم الى رأي يوحنا الذهبي ثم نقول معه ان العذراء مريم كانت عالمة حق العلم مما رأته في الحبل به وفي ولادته انه قادر على كل شيء وعلى اتيان معجزة فلذلك قالت لهُ ان ليس عندهم خمر. وقال مار يعقوب السروجي عن لسان العذراء : كما انه حُبل به بلا زواج وأجرى الحليب من ثديّ كذلك هو قادر أن يملأ الأجاجين خمراً بدون احتياج الى عنب الكرمة . وذكر مار افرام انه لهُ المجد أعلمها قبل أن يمضيا الى العرس ان الخمر سينقص وانه سيعمل معجزة لايجاده أي يحوّل الماء خمراً ولهذا السبب ذكّرته بما قاله لها . وقال آخرون انها سمعت ما قاله يوحنا عنه فعلمت انه قادر على صنع الآية فطلبتها منه رحمةً لأهل المنزل وطلباً للافتخار به على شبه ما أراد اخوته عندما قالوا لهُ : اظهر نفسك للعالم أي اصنع العجائب وقصدهم أن يمجدّهم الناس بسببه

     ( 4 ) ” فقال لها يسوع ما لي ولكِ يا امرأة . لم تأتِ ساعتي بعد ”

     يمكن تأويل هذا الجواب بأمرين الأول انه انتهرها لان طلبها ليس روحانياً وانما يصدر عنها كصدور الأوامر عن الأمهات اللواتي اعتدن أمر أولادهنّ ومن واجبها أن تسجد لهُ لا ان تأمره باتيان المعجزات لأن عملها مختص بالله وحده التي يفعلها متى يشاء وحيثما يشاء وكأنه قال لأمه : اياكِ أن تجري مرة أخرى على هذا المنهاج . وانما سبب انتهاره الّا يظن به الناس انه يفتخر بصنع المعجزات افتخاراً باطلاً بل يصنعها منقاداً لروح الخير والافادة . الثاني أراد أن يفهمها ان الواجب أن يطلب منه الآية المحتاجون اليها لا ان تطلبها هي ليروا الأعجوبة ويقدروها حق قدرها : فيكون جوابه لا جواب مَن ينتهر بل مَن يعين أمه وأهل المنزل على الطلب . أما قوله لم تأتِ ساعتي بعد فليس المعنى ان الأزمنة والساعات تحصر عمله أو تصدّه عن العمل فهو خالقها ويتصرّف بها كما يريد بل انه يفعل كل شيء في وقته وان أفعاله انما تجري في الزمان المناسب لها فيكون المعنى : أني سأعمل الآية في الساعة التي أعرفها موافقة والى الآن لا يعرفني أهل المنزل والّا كانوا التمسوا مني معجزة فانتظري يا أمي الآن – وبعبارة أطول : أتأخر عن صنع الآية حتى يعلم أهل البيت نفاد الخمر ونقصانه فتكون معجزتي اذ ذاك كبيرة القيمة في أعينهم ثم ان المدعوين أجمعين لا علم لهم بنفاد الخمر فأترك لهم الوقت ليشعروا بذلك قصد أن يمدحوا ترأفي بهم ويمدحوا عملي والمشروب الذي يُقدّم لهم . ثم انه لهُ المجد صنع المعجزة ليظهر انه غير خاضع للزمن والساعة وليكرّم والدته المجيدة ويزيل عنها الخجل وقال فريق ان معنى كلامه لم تأتِ ساعتي . انه ليست الآن ساعة خروجه من البيت وقد علم ان الخمر نفد ثم هو باقٍ لا يخرج وانه مستعد أن يصنع الآية ولهذا السبب قالت مريم للخدام اعملوا مهما يأمركم به . وفسر فريق آخر تفسيراً مخالفاً قالوا ما معناه : لماذا تطلبين أن أصنع هذه الآية . ولا نفع للطلب . فأنا ذو قوة وحول أصنع المعجزات عند حلول زمنها سواء طلبتِ أم لا وانكِ ترين الأمور رأياً بشرياً أما رأيي فالهي . ثم صنع المعجزة ليعلمنا طاعة والدينا . وقال مار افرام ان السيد لم ينتظر الساعة ليستعين بها على العمل الّا انه كان منتظراً الساعة الأولى من السنة المقبولة التي بشر بها أشعيا فلما حلّت صنع معجزته . وقال القديس فيلكسينوس : أراد السيد تعليم أمه انه لم تأت بعد الساعة التي يلزمه اعلانها فيها أن : لست أمي بالطبع وبالتالي يلزم ألّا تخاطبيني كما تخاطب الأم ابنها الطبيعي . ومن المعلوم ان السيد عاش مع والدته وأطاعها وأكرمها ووُلد منها حقاً أما هنا فطلب منها ألّا تلزمه بان يكشف لها أمام الناس انه ليس ابنها بالطبع بل بالتدبير . لأن ساعة هذا الكشف هي عندما كان على الصليب معلقاً فالتفت اليها والى يوحنا الحبيب قائلاً : أيها الشاب هذه أمك . وقد قال بعضهم ان معنى الآية : لم تأتِ ساعتي . أنتظر قليلاً لعمل اعجوبة الخمر التي تطلبينها .

     ( 5 ) ” فقالت أمه للخدام مهما يأمركم به فافعلوه ”

     كيف أوصت مريم البتول الخدّام بالطاعة لابنها ان لم تكن متأكدة انه سيجترح الآية . فقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم . انها عرفت انه مريد وقادر ثم أرادت أن تنفي عنه وصمة التكبر عليها من جرى جوابه ولذلك قالت للخدام ما قالت وهي واثقة ان ابنها سيعمل ما طلبت ولكنها انتظرت قليلاً الى ان نفد الخمر كله وعرف الناس الحضور نفاده . وقال مار افرام ان السيد أفهمها انه سيعمل المعجزة وانه سبق فأخبرها انهم سيحتاجون الى خمر والّا ما كانت طلبت منه شيئاً . وما أبدع كلام يعقوب السروجي ونصه : وان كان السيد قد امتنع ظاهراً الّا انها تقدّمت الى الخدم وأمرتهم بان يملأوا الأجاجين ماءً لمعرفتها معرفة يقينة ان من جعل الحليب في ثدييها سيبدل الماء خمراً

     ( 6 ) ” وكان هناك ست أجاجين من حجر موضوعةً بحسب تطهير اليهود تسع كل واحد منها مترين أو ثلاثة ” ( 7 ) ” فقال لهم يسوع املأوا الأجاجين ماءً فملأوها الى فوق ”

     انما وضعت الاجاجين لان بلاد فلسطين خالية من الينابيع والأنهر والناس في عرس يحتاجون الى التطهير من النجاسة والغسل لكثرة وفودهم والظروف الداعية لذلك كما اذا أصابهم أحتلام أو مسوا ميتاً وما أشبه . وبما ان هذه الأجاجين كانت معدّة للتطهير عُرف ان الخمر أو عصيراً آخر لم يدخلاها وان سألت ما كانت تسع ؟ اجبتُ ان المترين أو الثلاثة تقدّر بمئة جرّة ماء ثم ان أردت ان تعلم لأي الاسباب أمر بأن تملأ ماءً ولماذا لم يخلق فيها الخمر من دون مادة سابقة أقول : انما فعل ذلك لئلا يظن الناس ان آيته خيال لا حقيقة لها . ثم قصد ان يرى الجمهور بعينيه التبديل الذي حدث وكما انه سبحانه هو الذي يصعد الحياة في أغصان الكرمة لتعطي عنباً فيعصر خمراً كذلك بدّل مادة الماء بمادة الخمر سداً لتخرّصات تباع ماني القائل بوجود خالقين في العالم أي خالق الخير وخالق الشرّ لأنه لو كان للشر خالق لما قوي على أن يأخذ من أعمال خالق الخير ليعلن بها قوته وبعبارة أخرى لما قدر يسوع على ان يأخذ ماءً وهو خير ليحوله خمراً وهو شرّ على زعمهم . وانك ترى ان السيد أمر الخدّام بوضع الماء في الأجاجين ليكونوا شهداء على آيته ولئلا يتهمه متعنِّت بانه أتى هو بالخمر ووضعه فيها . قال القديس افرام : لو لم يكن لهُ المجد قد قال لأمه اني صانع المعجزة لما أطاع الخدّام أمره وملأوا الست الأجاجين رغماً عما وصتهم به العذراء الطاهرة . ومن عبارات مار ساويرس : لم يأمر تلاميذه بأن يملأوا الأجاجين بل أمر الخدّام الذين هم شهود غرباء عنه . وقد ملأوها الى فوق حتى لا يبقى محل ليخلط أحد فيها الخمر فصاحت على رأي بعضهم طافحةً على مثال ما ترى كيلاً طافحاً حتى فوق أطرافه فاستدل من هنا على عظم الاعجوبة

     ( 8 ) ” فقال لهم استقوا الآن وناولوا رئيس المتكأ فناولوا ” ( 9 ) ” فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المحوّل خمراً ولم يكن يعلم من أين هو وأما الخدام الذين استقوا الماء فكانوا يعلمون دعا رئيس المتكأ العروس ” ( 10 ) ” وقال له كل انسان انما يأتي بالخمر الجيدة أولاً فاذا سكروا فعند ذلك يأتي بالدون أما أنت فأبقيت الخمر الجيدة الى الآن ”

     رئيس المتكأ ليس مَن يجلس في صدر المجلس بل هو رجل ذو خبرة ومهارة يفوض اليه تنظيم الحفلة ويذوق المأكل والمشرب قبل توزيعه على الحضور فهذا عندما ذاق الخمر وجدها لذيذة جداً قال القديس الذهبي الفم : لم يرَ الآية عند اجتراحها كلها مَن في العرس بل عرفها أولاً الخدّام ثم بلغت بالتدريج الى الجميع وكانت الخمرة فائقة في الحسن والجودة ليس في الخمور الطبيعية ما يفضلها ومن أوصافها انها جديدة عتيقة . جديدة على ذوق الحضور الذين ما شربوا مثلها لا في العرس ولا في حياتهم ولأنها صُنعت جديداً بأمر الله . وعتيقة أي تفوق بلونها ورائحتها وتركيبها كل مشروب معروف . قال القديس افرام ان طعم الماء تغير خمراً اما لونه فبقي كما هو . وقال أيضاً ان في كل من الاجاجين كانو نوع الخمر مختلفاً طعماً ورائحة . وما كان جواب العريس على ملاحظة رئيس المتكأ فان الانجيلي لم يروِه لعدم لزوم معرفته اذ ان المقصود من الرواية المعجزة الباهرة لا غير . وانما سُئل العريس ولم يسأل الخدّام لتكون الشهادة أكثر تحققاً وهذا ما شاءَهُ المسيح فضلاً عن ان الخدّام لا يصدّقون عادة في اثباتهم قال الذهبي الفم : لم يعرف بالمعجزة الّا الخدّام والعريس ورئيس المتكأ . اما القديس افرام ومار يعقوب فخالفاه وقالا ان كل الحاضرين عرفوها . وفي المعنى الرمزي كان الخمر الأول ممثلاً للناموس اما الخمر الذي صنعه السيد فدالّ على الانجيل

     ( 11 ) ” هذه الآية الأولى صنعها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه ”

     هذه الآية هي الأولى بالنسبة الى المعجزات التي عملها السيد فيما بعد في قانا لأنه شفى فيها عبد الملك وأتى بعجائب أخرى . وقال مار افرام ان هذه هي الآية الأولى الظاهرة لأنه لهُ المجد كان مواصلاً عمل الآيات وهو مدبّر القوات العلوية والدنيوية . وقال القديس الذهبي ان الجميع لم ينتبهوا حق الانتباه للآية وما عرفوا مجده حق معرفته الّا انهم علموا بالعمل العظيم الذي يُذكر في العالم ما دام الناس فيه أما التلاميذ فكانوا من ذوي الرأي السديد فهدتهم المعجزة الى الايمان بالسيد ولو ان بعض أصحاب العقول المتكبرة أبوا الّا انكار الفضل واتباع الظلم

( ذهاب يسوع الى كفر ناحوم ثم الى أورشليم وطرده الباعة من الهيكل )

     ( 12 ) ” وبعد هذا انحدر الى كفرناحوم هو وأمه واخوته وتلاميذه ولبثوا هناك أياماً غير كثيرة ” ( 13 ) ” وكان فصح اليهود قد قرب فصعد يسوع الى أورشليم ”                ( 14 ) ” فوجد في الهيكل باعة البقر والخراف والحمام والصيارفة على موائدهم ”

     نزل السيد الى كفرناحوم قصد أن يريح أمه فلا تجول معه في الأماكن البعيدة التي يقصدها ليكرز فيها . وافهم باخوته أولاد يوسف . واعلم انه لهُ المجد اعتمد في شهر كانون الثاني ثم صام وعند رجوعه لم يطل الاقامة حتى رجع الى الجليل وحضر العرس ثم في نيسان صعد الى أورشليم لأن الناموس كان يأمر أن يحتفل الناس بالاعياد في هذه المدينة . فوجد لهُ المجد في الهيكل باعة الخرفان والبقر والصيارفة . وكان الفريق الاول يبيع الحيوانات لذبحها كقرابين . والفريق الثاني لصرف المال اذ كان يعدّ الهيكل بيت تجارة ( طالع بقية القصة في شرح انجيل متى 21 : 12 و 13 ) ومن المختلف عليه ان متى يضع هذا دخول السيد في عيد الفصح قبل آلامه ومن نص انجيل يوحنا نرى الخلاف . فلحلّ هذه الصعوبة قُلْ اما ان السيد أخرج الباعة من الهيكل مرتين الأولى في بدء كرازته كما هو مسطور هنا والثانية في آخرها كما روى متى واما متى غير الزمن وما يجب أن يكون زمن العماد وضعه زمن الآلام لان العماد دليل على الآلام واعلم ان مخلصنا منذ ان وُلد حتى عماده في سنّ الثلاثين حفظ مرسومات الناموس الطبيعي والمكتوب وانتصر على كل خطية ولم يكن في جسده حركة شهوة ولا في نفسه ميل الى شيء من المعصية لانه ليس مولوداً من زواج فلا تدغدغه شهوة

      ( 15 ) ” فصنع صوتاً من حبال وأخرج جميعهم من الهيكل والخراف والبقر وأيضاً ونثر دراهم الصيارفة وقلب الموائد ” ( 16 ) ” وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا ولا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة ” ( 17 ) ” فذكر تلاميذه أنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني ”

     اخرج لهُ المجد الباعة بالسوط ليبين ان الناموس بطل وان زمن الذبائح انقضى وحلّ محله العماد وزمن جسده ودمه الأقدسين وانه ذبح نفسه تعويضاً عن المعصية وان الذبائح الناموسية هي ظلّ ذبيحته ولانه أتى لا بدّ من ابطالها وعبادة الله بالروح والحق . أيضاً اخرج الباعة دلالةً على خراب الهيطل واظهاراً لغيرته على تمجيد الله وتنظيف المكان المعدّ لعبادته . ثم أخرج الصيارفة وقلب موائدهم ليخرج معهم العمل الحرام معلناً بباهر العمل سلطانه الالهي. ولما كانت الكباش تجمع للبيع والشراء لا للذبائح بكّت أصحابها على مقصدهم الرديّ ثم دعا الله أباه وان كانوا قد سكتوا عند سماعهم هذه التسمية فلأنهم أوّلوا انه ابن الله بالنعمة لا بالطبيعة . فامام هذه الاعمال تذكّر التلاميذ قول داود : غيرة بيتك أكلتني

     ( 18 ) ” فأجاب اليهود أية آية تُرينا حتى تفعل هذا ” ( 19 ) ” أجاب يسوع وقال لهم انقضوا هذا الهيكل وأنا في ثلاثة أيام أقيمه ”

     قال بعضهم ان اليهود خاطبوه بلين وانكر آخرون قالوا : بل بغضب ومعنى الآية : انك تريد تبطيل الذبائح التي أدخلها موسى بآيات ومعجزات من الله وأنت لا تصنع آية فكان جوابه لهُ المجد : انقضوا هذا الهيكل الخ وهو عالم انهم يجرّبوه ولا يلتمسون الآية بخلوص النية وبايمان القلب . وقد حسبوه مثل موسى ويشوع واليشع الذين أتوا بالمعجزات لكنه وعدهم بأن يُريهم آية موته وقيامته فأراد بنقض الهيكل موته المخلصي وباقامته في ثلاثة أيام قيامته المجيدة من القبر . فهذه الآية الباهرة التي لم يعمل أحد مثلها ذكر لهُ المجد انه قادر على اجرائها وقد تمّت فعلاً . واعلم ان غياب الشمس ومضيها من الشرق الى الغرب لا يُعدّان آية لأن هذه حالة الطبيعة أما كسوفها ووقوفها فعجيبان وقيام الأرض على لا شيء أو تبعاً لرأي على المياه ثم وقوفها ليسا بغريب في أعيننا اما تزلزلها فهو خارق المعتاد . وأيضاً من المألوف أن يلد انسان آخر ومن غير المألوف ان يلد ثوراً أسداً أو تلد فرس شبلاً واننا ندعو اعجوبة كلّ شيء يغيره الله في مألوف طبع مخلوقاته فان اظهر مثلاً في اقنومه الامور الباهرة قلنا : الامر غير عجيب لأن تلك الامور لائقة بشأنه العالي . اما ان اظهر ما هو وضيع قلنا عجباً . ولهذا المعنى ليس عندنا بالكبير ان يكون مولوداً في الأزل من الآب لكن ولادته من عذراء بالجسد وصيرورته انساناً من الأشياء العجيبة . ومثل ذلك ارتكاض يوحنا في احشاء والدته عند ملاقاة ابن الله المتأنس ومنحه العماد لسيده السامي ثم تحويل سيدنا الماء خمراً . فلمثل هذه الاسباب ذكر لهُ المجد موته وقيامته لا سيما وانه سبق فعرف ان الأرض ستتزلزل والصخور تتشقق والشمس تظلم والروح يخرج من الهيكل بشبه حمامة في زمان صلبه . لأنه وقع الخوف اذ ذاك على الطبائع الثلاث أولا على غير الحساسة كاظلام الشمس وتزلزل الارض وتشقق الصخور ثانياً على الحاسة كالقائد الروماني ومن معه ثالثاً على الملائكة وهي الطبيعة الروحية ولم يروِ الانجيليون شيئاً من هذا لانه يتعذر وصف ما يحدث للملائكة الروحيين وصفاً مادياً . وكأن سيدنا قال : عندما ترفعوني على خشبة العار أي الصليب ويقع الشك في قلوب الناظرين اليّ ويظنون اني انسان تعرفون اذ ذاك اني اله واني واجب الوجود بالنسبة الى الاصنام التي هي كل العدم . ولكن النساطرة يدّعون ان الهيكل الذي يشير اليه السيد انما هو الانسان المسيح الذي يسكن فيه الله ونردّ ادّعائهم بان الانجيلي قال : الكلمة صار جسداً وجاء في بولس ان الله أرسل ابنه مولوداً من امرأة وان أجابوا بأن بولس عينه قال : أخذ ابن الله شبه العبد . نقول ان ذلك مثبت لمعتقدنا بان الكلمة أخذ شبه العبد باقنومه بتأنسه من البتول وليس باقنوم آخر . ثم لو كان كلامهم صادقاً لكان يوحنا قد قال : انه يعني هيكل لاهوته ولكنه ذكر هيكل جسده لنفهم ان الجسد هو جسد ابن الله الاقنوم الثاني من الثالوث وان ابن الله هو الذي وُلد بالجسد في الزمن وتسمّى يسوع ومات وقام . وان لم يرد النساطرة قبول هذا الاعتقاد فلا فضل لهم على اليهود لأن اليهود اعتقدوا انهم صلبوا انساناً وهذا هو معتقد النساطرة عينه . قال الذهبي الفم في شرحه الآية الحاضرة سمّى يسوع جسده هيكلاً لكن احذر من ان تظن ان الساكن منفرق عن المسكون فيه بل انه هو هو بعينه اله وانسان وكله يعرف انساناً وكله يعرف معاً الهاً . قال القديس فيلكسينوس ان السيد لهُ المجد سمّى اقنومه هيكلاً وقد قال : انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه . وفي المعنى الروحي نحن المؤمنون مع الملائكة جسد المسيح وهيكله وكلّنا مجتمعون فيه ومتحدون به كما نجتمع في الهيكل ونتحد بعضنا ببعض بارادتنا لنيل الكمال حتى يكون الله كلاً في الكل وأيضاً المسيح هيكل لأن أباه ساكن فيه وفي يسوع كمال اللاهوت وهو وأبوه واحد . ومن البديع تسمية النصارى المعمودين هياكل الله بالنعمة التي يعطونها وبحلول الروح عليهم . واننا نعلم ان الله ساكن في مخلوقاته والخليقة كلها ساكنة بنوع ما فيه . لانه يحفظها ويعطيها الوجود وبدون عنايته تعود الى العدم

     ( 20 ) ” فقال له اليهود انه في ستٍ وأربعين سنةً بُني هذا الهيكل أفتقيمه أنت في ثلاثة أيام ” ( 21 ) ” أما هو فكان يعني هيكل جسده ” ( 22 ) ” ولما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا فآمنوا بما كتب وبالكلام الذي قاله يسوع ” ( 23 ) ” واذ كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه حين شاهدوا آياته التي صنعها ”

     فهم اليهود كلام السيد عن هيكل الحجارة . وكانوا قد بقوا ست وأربعين سنة يعملون لبنائه وما كانت هذه المدة بلازمة لهم الّا ان الحروب المتواصلة مع مجاوريهم ألزمتهم عدة مرات بالانقطاع عن الشغل تبعاً لما رواه يوسيفوس المؤرخ فضلاً عن انه البناء الاول الذي كان أمتن وأعظم تنظيماً وحسناً لم تتجاوز مدة اقامته عشرين سنة . وأيضاً التلاميذ أعينهم لم يدركوا معنى كلام سيدنا الا بعد قيامته وحلول الروح عليهم في العلية كما شهد يوحنا نفسه . ثم ان السيد أتى بالمعجزات في هذه المدة أمام الجماهير المتقاطرة للاحتفال بالفصح فآمن كثيرون به ولو ان ايمانهم لم يكن كاملاً كما يتضح من الآية الآتية

     ( 24 ) ” أما يسوع فلم يكن يأتمنهم على نفسه لأنه كان عارفاً بكل أحد ”                 ( 25 ) ” ولأنه لم يكن محتاجاً الى شهادة أحد عن الانسان لأنه كان يعلم ما في الانسان ”

     كان من المحقق لدى مخلصنا ايمان الصادقين بايمانهم وعدم ايمان الكاذبين والمرائين . وقد آمن به كثيرون من أجل آياته ومجدّوه كمعلم ومن جملة هؤلاء نيقوديموس الذي أتاه في الليل . ثم ان آخرين لخوفهم من اليهود كانوا يأتونه في السرّ وخفية الظلام فما كان يلقي عليهم تعليمه كله لضعفهم ووهن ارادتهم وهو لا ينظر للكلام بل للقلوب وللافكار . ولا يحتاج الى ان يدلّه آخر عليها لانه يفحص ما في طيات الكلى ويعلم مستورات الضمائر

 

 

 

( الاصحاح الثالث )

( في محادثة يسوع ونيقوديموس )

     ( 1 ) ” وكان رجل من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود ” ( 2 ) ” فجاء الى يسوع ليلاً وقال له يا معلم نحن نعلم أنك أتيت من الله معلماً لأنه لا يقدر أحد أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعملها ما لم يكن الله معه ”

     نيقوديموس كان تابعاً لهرطقة الفريسيين ومن رؤسائهم وكان في بدء أمره يميل الى السيد المسيح ومن مبادئه ان لا يحكم الّا بعد سماعه الأمور وتحقيقها . وهو الذي جاءَ بالحنوط لتكفين جسد المخلص ولو انه مستوجب الملامة الّا انه لم يكن كغيره من تابعي مذهبه بل كان ممن آمنوا سراً وخافوا الاعتراف جهاراً لئلا يصيروا خارج الجماعة ولذلك يروي الانجيلي انه جاءَ ليلاً الى يسوع لما كان مبتلى به أيضاً من المرض الأدبي السائد على اليهود . ثم ولو انه أقرّ للسيد بانه أتى من الله فلم يوبخه لهُ المجد على ضعفه ولم يقل لهُ : ان كنت تعتقد اني من الله فلماذا تأتيني ليلاً وما ذلك لا ليتم كلام الانبياء من انه لاسمه السجود لا يكسر قصبة مرضوضة وهنا القصبة هي نية نيقوديموس المتقلقلة غير الثابتة فلم يُرد المسيح كسرها أي لومه على عمله وأيضاً لم يُرد أن يُصلح لهُ عبارته الدالة على ان المسيح محتاج الى معونة الله وبالتالي انه غير الله بل تركه مدة في درجة ادراكه السفلي الأرضية لئلا يصعب عليه سماع لفظ ابن الله الطبيعي فاظهر له بالأعمال سلطانه الألهي وما خاطبه الّا فيما يرفع به فهمه شيئاً فشيئاً الى اقتباس الحقيقة كلها

     ( 3 ) ” فأجاب يسوع وقال له الحق الحق أقول لك ان لم يولد أحد ثانيةً فلا يقدر أن يُعاين ملكوت الله ”

     كلمه سيدنا بصورة الغائب حتى لا يمس عواطفه بأذى وقال : ان لم يولد الانسان من المعمودية المعدّة كولادة ثانية وبالتالي ان لم ينل بواسطتها هبات الروح القدس فلا يقدر أن يفوز بالايمان بلاهوتي وبالملكوت الخالد . وكما ان المرءَ بولادته من المرأة يرى العالم المنظور الحاضر هكذا بولادته من العماد يصبح كأنه ناظر المملكة الروحية السماوية لانه يدرك اذ ذاك ما هي . اعتراض . كثيرون لم يعتمدوا ونالوا الملكوت وهم ابراهيم وهابيل والانبياء أجمعون : حلّه : ان سيدنا لم يقل عن الذين كانوا في الماضي بل عن الذين سيولدون أي من زمن مجيئه فصاعداً مَنْ لم يولد مِن الماء والروح فلا ينال السماء وافهم هذه العبارة بأن الأعمال الصالحة في المميزين لازمة ضرورة للحصول على سعادة الملكوت ولذلك لا تحمل الآية على اطلاقها من دون قيد . وبهذه العبارة شاءَ السيد ان يبعد مخاطبه عن التفكّر بميلاد الجسد وان يجذبه الى الايمان . وفسر آخرون الآية بما يَأتي : جبلتُ الانسان من طين وماء فتبع الفساد والآن أريد أن أجبله من ماء وروح ليتبع الصلاح وأنا الخالق في الحالتين وقد صار الانسان في الاولى نفساً حية والآن اجعله روحاً محيياً . وان سألت هل من تبرروا باعمالهم بدون عماد يحرمون الملكوت ؟ اجبتُ : كلّا ومنهم لص اليمين الذي لم يعتمد اما من اعتمد فانه يرث الملكوت بشرط ان لا يشرد عن الهدى والصواب فان كثيرين مدعوون اما المختارون فقليلون . وكما ان الشبكة جمعت كثيراً من الاخيار والاشرار ثم طرح الصيّاد الاشرار كلهم هكذا الكنيسة تجمع بالعماد من كل شعب وجنس ثم من يتهاون منهم ولا يتجرّد من البالي والعتيق فيه متمسكاً بالفضيلة فنصيبه الرذل والهلاك وبئس المصير

     ( 4 ) ” فقال له نيقوديموس كيف يمكن أن يولد انسان وهو شيخ ألعله يقدر أن يدخل جوف أمه ثانية ويولد ” ( 5 ) ” أجاب يسوع الحق الحق أقول لك ان لم يولد أحد من الماء والروح فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله ”

     يا نيقوديموس انك تسمّي يسوع معلماً فلِمَ لم تقبل كلامه ولِمَ تظهر عدم ايمانك وارتيابك في كلامه وتسأله كيف يتم ذلك : فان كان الله يريد أمراً ألا يمكنه أن يفعله . ألا تفْقه ان السيد يكلمك على الميلاد الروحاني لكنك رجل باقٍ غارقاً في الماديات واسمع الآن جوابه الذي معناه كما ان الله يجبل الولد في الاحشاء بالميلاد الطبيعي كذلك في العماد يكون الماء بمقام الاحشاء والروح بمقام الجابل ولهذا المعنى يسمّى العماد ميلاداً ثم ان القيامة يقال لها أيضاً ولادة لان الذي يقوم بعد ان مات كأنه يخلق ثانية ويُولد من جديد

     ( 6 ) ” ان المولود من الجسد انما هو جسد والمولود من الروح انما هو روح ”         ( 7 ) ” لا تعجب من قولي لك انه ينبغي لكم أن تولدوا ثانيةً ”

     المولود من الجسد ينسب الى الجسد فيقال لهُ جسدي وكذلك المولود من الروح يُقال لهُ روحي فبهذه الأقوال يبعد السيد مخاطبه عن الجسديات والماديات . وتسأل كيف ان جسد سيدنا وُلد من الروح مع انه لحم ومادة ؟ أجيب ان لم يُولد من الروح فقط بل من جسد العذراء الطاهرة أيضاً . ولو لم يكن هذا صادقاً لما مست الحاجة الى أن يرسل الله ابنه مولوداً من امرأة . وكان لهُ المجد عارفاً بقلق النفس المضطربة في نيقوديموس وعالماً بأن الشك سائداً فيها لغلاظة ادراكه الفريسي وها يأخذ يبين لهُ الحقيقة بالامثال والتشابيه بشيء يقرب من الروح ويبتعد ولو بالظاهر عن كثافة المادة

     ( 8 ) ” فان الروح يهُب حيث يشاء وتسمع صوته الا أنك لست تعلم من أين يأتي ولا الى أين يذهب هكذا كل مولود من الروح ”

     قال قوم ان المراد بالروح هنا الريح المخلوقة ودليل ذلك أن ينسب لهُ صوت ومشيئة وهبوب أما المشيئة فلا تعني الارادة الحرة هنا بل قوة الريح الشديدة التي تعصف ولا أحد يقوى على ضبطها وعادة الكتاب المنزل أن ينسب ارادة للغير المحسوس أيضاً فيقول مثلاً الخليقة خضعت للباطل بارادتها . وافهم بالصوت هبوب الأرياح وضجتها التي تسمعها وأنت جاهل من أين تأتي والى أين تنتهي . فمعنى تشبيه السيد يكون هذا : ان كانت الريح المتحركة في الفضاء لا يدرك الانسان هبوبها واتجاه حركتها مع انه يسمع لها صوتاً فكيف يفتّش عن فعل روح الله . وان كان المرء عاجزاً عن ضبط هبوبها فبأولى حجة لا يقوى على ضبط فعل روح الله ولا يفيده في ضبطه ناموس أو حدود طبيعية أو شيء آخر أياً كان . وقال فريق انّ المفهوم بالروح هنا الروح القدس الذي هو اله غير محدود فلا يعرف الانسان مكانه وانتقاله ومجيئه وذهابه لأنه مالئ المسكونة ومن ثمّ اعلم ان لهذا الروح مفاعيل ثلاثة الأولى قبل العماد فان أهل بيت كرنيليوس قبلوه قبل أن يغتسلوا بماء هذا السر . الثاني بعد العماد كما قبله أهل السامرة . الثالث في فعل العماد كما يقبله الناس اليوم . وقد دلّ على سلطة الروح بقوله يهبّ حيث يشاء لأنه كامل كل الكمال ولا أحد يقدر عليه وهو قادر على الكل . ثم دلّ على أفعاله المحيية بذكره صوته فالرجل الروحاني يفهم هذا الصوت ويشعر به كما شعر به الرسل الّا ان الرجل الحيواني لا يدركه . وأخيراً دلّ على انه غير محدود بالقول : انك لا تعرف من أين يأتي ولا الى أين يذهب فهو غير مدرك كالآب والابن . فمعنى الكلام يكون : ما أقوله لك الآن يا نيقوديموس من الشروح والأدلة كله روحي وكذا المولود من الروح روحيّ أيضاً ليس فيه مادة كما في الولادة الطبيعية .

     ( 9 ) ” أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا ” ( 10 ) ” أجاب يسوع وقال له أتكون معلماً في اسرائيل ولا تعلم هذا ” ( 11 ) ” الحق الحق أقول لك اننا انما ننطق بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا ”

     وبّخ سيدنا مخاطبه المقدّم نفسه معلماً لاسرائيل وكأنه يريد أن يذكّره بأقوال الأنبياء وبالحوادث العجيبة التي وقعت في القديم وكلها رموز للعماد المسيحي من ذلك مجاز آل اسرائيل في البحر وفي الأردن وتطهّر نعمان وتشابيه الأنبياء العديدة القائلين : الشعب المولود الذي يصنعه الرب أيضاً يجدّد مثل النسر وأيضاً أصبّ عليكم ماءً طاهراً وأعطيكم روحاً جديدة وما أشبه ذلك . وكان نيقوديموس عارفاً بكل هذه ولذلك قال له سيدنا : ننطق بما نعلم أي أنت انما تعرف ما رأيت أو ما سمعت أما أنا فاني اله ناظر الى المخلوقات كلها وعارف بما هي عليه ومعرفتي أعلى من معرفتك التي هي صادرة في مبدئها عن الحواس . وقد تكلم سيدنا بضمير الجمع أما لأنه شمل معه الأب والروح واما لأنه يتكلم عن نفسه فقط . ولكن رغماً عن شهادة السيد عن نفسه وشهادة الآب له في المعمودية وهبوط الروح القدس عليه بشبه حمامة فان الناس لم يقبلوها ولم يؤمنوا به الايمان المطلوب منهم

     ( 12 ) ” ان كنت قد قلت لكم الأرضيات ولم تؤمنوا فكيف ان قلت لكم السماويات تؤمنون ”

     استدلّ بعضهم بعبارة ان كنت قلت لكم الأرضيات . ان كلمة الروح السابقة هي عن المخلوق لا عن روح القدس لأن معنى قول السيد . اني أتيتكم ببرهان أخذته من الأمور الأرضية أو المخلوقة وأنتم لا تذعنون فكيف تقدرون على ان تتعلموا السماويات واني قد كلمتكم عن الميلاد الروحاني الذي من المعمودية . أو كما قال آخرون : اني خاطبتكم في مولدي من البتول فكيف اذا خاطبتكم في مولدي الأزلي من الآب . فسمى لهُ المجد المعمودية ومولده من البتول شيئاً أرضياً لأنهما جريا على الأرض ولأنهما بالمقابلة الى ولادته الأزلية شيء أرضي حثير ولاحظْ انه لم يقل : لم تفهموا بل لم تؤمنوا لأن الايمان وحده يجعل الناس مقبولين أمام الله

     ( 13 ) ” ولم يصعد أحد الى السماء الا الذي نزل من السماء ابن البشر الذي هو في السماء ”

     ان نيقوديموس دعا مخلصنا معلماً وظنّه كأحد الانبياء فأراد لهُ المجد يُفهمه انه أكبر من الانبياء فقال : أنا نزلت من السماء وأصعد انا نفسي الى السماء وليس من الانبياء مَن نزل ثم صعد وانتبهْ الى ان الذي نزل هو هو بعينه الذي يصعد وهو ابن البشر : قال يوحنا الذهبي في هذا الصدد . لا يسمّي السيد جسده ابن البشر بل كلّه وعادة الكتاب أن يدعو المسيح تارةً كله الهاً وتارةً كله انساناً فيأخذ له التسمية أما من اللاهوت واما من الناسوت . وقال موسى ابن الحجر صار الكلمة انساناً وتسمى باسامي ذليلة كرجل وابن الانسان وابن البشر دلالةً على تجسده لكنه بقي في السماء وكان فيها وفي الأرض معاً لانه اله ولا حدود تحصره والّا ما أمكنه القول انه ابن البشر الذي هو في السماء . فهو اذن لم ينتقل بل ترآءى على الارض ما بيننا بدون مغادرة سمائه . وفي المعنى عينه قال بولس الرسول عن المسيح انه الانسان الثاني الرب من السماء . وقد استنتج تاودورس النسطوري من لفظ ابن البشر ان المسيح انسان محض ونردّ استنتاجه الفاسد بان هذه التسمية لا يمكنها ان تضلنا اذ ان الكلمة دُعي بهذا الاسم أيضاً لانه صار جسداً وسماه الآباء بهذا الاسم أيضاً ولو انه دنيّ بالنسبة الى الله لانه أراد أن يتأنس . وما قول تاودورس في تسمية السيد المسيح باسم ابن أو وحيد أو كلمة أنستنتج مثله انه واحد من ابناء البشر أو كلمة من كلماتنا أو وحيد لأبيه وأمه فقلْ اذن انه دُعي بابن البشر لانه اذ هو ابن الله الطبيعي صار انساناً بدون تغير أي أخذ الجسد الذي كان لآدم قبل تجاوزه الوصية . وان رغبتَ في ان تعرف ما كانت عليه حالة آدم قبل معصيته ذكرت لك ما وصفها به فيلكسينوس قال : الخالق الشريف خلق آدم خلقة شريفة أي            . 1ً . جعله غير مائت . 2ً . غير متألم . 3ً . غير مائل الى الخطية . 4ً . ممتازاً بالسلطة على افعاله وحائزاً على حرّية ذات اختيار . 5ً . نبياً عارفاً بالاشياء الخفية . 6ً . ذا علم وحكمة روحانية يميز ما في طبائع المخلوقات ويعرف ماهيتها . 7ً . ممتلئاً فطنة وحكمة نفسانية     . 8ً . ملكاً على المخلوقات المنظورة . 9ً . مرتبطاً بخالقه بالتأملات . 10ً . لا تدغدغ الشهوة جسده ولا تميل بنفسه الى الخطية . اما معنى خلقه غير مائت ان حياته خالدة ابدية وقد كان في نفسه أقلّ درجة من الملائكة لارتباطه بالجسد وكان في جسده أفضل من سائر الحيوانات لامتيازه عليهم بعدم الموت وقد ناقض العلماء رأي فيلكسينوس هذا قالوا : خلق آدم مائتاً قابلاً للموت في طبيعته لكنه لو حفظ الوصية لكان تعالى أنعم عليه بامتياز الخلود . ونحن نتبع هذا المذهب لاننا نعتقده صحيحاً . ثم تأويل غير متألم انه لا يمس جسده المرض ولا الهرم ولا ينال نفسه الحزن والخوف والارتياع لأن الاوجاع والعاهات والحزن والموت في الكآبة كل هذه جزاء المعصية فلما ارتكبها آدم نزلت به وتسلطت عليه . وتفسير غير مائل الى الخطية اننا لا ندرك ما الافكار التي كانت تخطر في نفسه الّا انه كان متجرّداً من الميل القسري الى الأثم فكان باختياره أن يرضى به وان يندم فيما بعد على عمله وان لا يرضى بمخالفة الله فلا يضع سبباً للندامة ولو خلقه الله مائلاً بالاكراه الى المعصية لما كان مستوجباً الملامة والعقاب عليها ولهذا المعنى كانت حرّيته ذات اختيار ودليل ذلك انه تجاوز أمر الله بدون مانع أو رادع. وقيل أيضاً انه خُلِقَ نبياً عارفاً لانه أعطى الحيوانات اسماءها ودعا الخليقة شريكته امرأة وعرف انها ضلع من اضلاعه استُلّ منه وهو نائم فقال هذا عظم من عظامي ولحم من لحمي. وأيضاً كان ذا حكمة وافهمْ بذلك خاصة من الروح القدس وقد نال هذه الحكمة عينها الرسل في العلية وبعض المتوحدين في العالم وسينالها القديسون في دار الخلود . وتكون هذه الحكمة عينها عملية تهدي المرء في اعماله وترشده في افعاله وقد حصلها آدم وقد أعطيت القديسين لكن لا بالقدر الذي كان في أب البشر . وأيضاً تسلّط آدم أكبر تسلّط على حيتان البحار وعلى الحيوانات والطيور ولم يكن يحتاج للقبض على شيء منها الّا لأن يناديها فتأتيه صاغرة طائعة وأيضاً كانت لهُ قدرة على العناصر الأربع وعلى الشمس والقمر وفصول السنة بحيث ان المخلوقات المنظورة كانت تسمع لصوته وندائه سمعها للملائكة وكما غيّر موسى الفصول والعناصر في ضربات مصر وكما أوقف يشوع نور الشمس كذلك كان لآدم أن يفعل واذ رأى الشياطين سلطته هذه غضبوا لانها لم تكن لهم وكان آدم ترابياً أدنى درجة منهم فأخذ رئيسهم شبه الحيّة وأسقطوه من الفردوس . وأيضاً كان آدم مربوطاً بعبادة خالقه والنظر الى سموه وعارفاً ان ذلك حق الله عليه ولما كان سيد الشهوات وضابطاً نفسه عن كل حركة معصية لم يظلم عقله ظلام ولم يردعه مانع عن اصدار أفعال الديانة فكان تجاه الله كولد لا يعرف غير والدته وما تطلبه منه الطبيعة من سدّ احتياجها بحيث ان أول أفعال أبينا الأول كان عبادة الله وثانيها الالتفات الى احتياج نفسه فوضع الله شريعة ألّا يأكل من ثمر شجرته فكان ثالث أفعاله أن تجاوز هذه الوصية وما تجاوزها حتى سطت الشهوات عليه وفقد الهبات السامية التي فيها . اعتراض على هذه الشروح المأخوذة من فيلكسينوس . كيف كان المخلوق يأكل ويشرب ويتزوج وهو غير قابل الآلام . فان الكاتب عينه يجيب : من الأكيد ان الانسان كان يأكل ويشرب بدليل ان الحيوانات والأشجار بثمارها خلقت لأجله . وأيضاً كان يتزوج بدليل وجود الذكر والأنثى . أما انه كيف كان يأتي هذه الأفعال وهو غير قابل الموت فلا نستطيع ادراك ذاك ولم يكن بينه وبين الملائكة فرق في غير جسده وحواسه الّا اننا نعلم حق العلم ان الخطية لم تفسد تكوينه الأول لكن حريته حملته على التعدّي وأضعفت قواه فبلغ الى ما نشاهده الآن في كل انسان وفينا أعيننا فالأرض عصته وأخذت تنبت لهُ شوكاً وقرطباً ثم شرعت الأمراض والموت والآلام تنتابه فالجسد الذي أخذه سيدنا هو في الحالة التي كانت لآدم قبل المخالفة وبرئ من كل العيوب التي سلطت عليه بعد المخالفة ولأنه لهُ السجود لم يُولَد من زواج أو زرع بشري كان بالتالي معتقاً من الآلام والجوع والعطش والاحتياج الى النوم ومن الأمراض والحزن والخوف وحركات الشهوة والميل الى المعصية ومن الموت ولم يكن في جسده ما يميل به الى شيء منها الّا انه بارادته واختياره وحباً بخلاصنا احتملها مثلنا وأتته من الخارج لا من ذاته فقبلها وقد كُتب اقتات وتعب وخاف وجاع لكنه لم يكتب انه أكل بعد الجوع أو شرب بعد العطش أو استراح بعد التعب بخلاف ما يقع لنا وروي ان عرقه نزل منه على الأرض كقطرات دم فذلك لم يكن طبيعياً بل هو دبره لاظهار سلطانه الالهي لكنه لم يُكتب انه مرض لان جسده كان مُعافى سليماً ليس فيه محل لجراثيم الأمراض ومن المقرّر ان الانسان حاوٍ للطبيعة البشرية ولدنس الخطية الأصلية هذا ان لم يرتكب الفعلية أيضاً ثم خاضع لسلطان الموت والآلام . فالله الكلمة أخذ الطبيعة لما اتحد بها ثم لاشى الآلام والموت اذ حملها عليه باختياره لأجلنا ولم يرتكب الخطية ولا ولد مدنساً بها بل لاشاها بعدم قبوله لها . ثم انه لهُ المجد اختصّ بأشياء أربعة الأول طبيعي كأخذ نفساً وجسداً مثلنا وكالحبل به وتربيته الثاني ناموسي كاختتانه وتقدمته القرابين واحتفاله بالأعياد . الثالث تدبيري أو متعلق بما قصده من خلاص البشر كاحتماله الجوع والعطش والتعب والخوف والنوم وما أشبه . الرابع خارق المألوف في الطبيعة كالحبل به بلا زواج وخروجه من الاحشاء بدون فك ختم بكارة أمه وقيامته من القبر بدون كسر الأختام الموضوعة على الحجارة . واعلم انه لو كان المسيح انساناً لا غير لما أوجبت الحالة على الانجيليين أن يرووا لنا شيئاً عن ميلاده وسلوكه في الحياة وتدابيره وما احتاج اليه لأن هذه الأمور تعرض لكل انسان بل لأنه اله متأنس أرادوا اعلامنا بها ثم ان المسيح شعر بالآلام والجوع والعطش وما أشبه شعوراً حقيقياً لا خيالاً ولو لم تكن طبيعته قابلة من ذاتها هذا الشعور . هذا ما رأينا نقله عن تأليف فيلكسينوس المعلم المفضال الذي يتبعه الأرمن ولو ان علماء السريان واليونان يناقضونه في قوله ان آدم كان غير قابل الآلام وان آلام المسيح وجوعه وعطشه وما أشبه هي تدبيرية بل على رأيهم هي طبيعية ولو انها ارادية وغير ملومة والظاهر لنا ان اختلافهم في هذه المسألة الثانية هي لفظية أكثر مما هي معنوية لأن الفريقين يعدان آلام السيد حقيقية لا خيالية

     ( 14 ) ” وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن البشر ”

     قرن هنا خبر صليبه بخبر العماد لأن في العماد أعطانا غفران خطايانا وبصليبه عوّض عن الاهانة التي ألحقت بالله بسبب هذه الخطايا وكذا القديس بولس صنع بقوله لعل بولس صُلب عوضكم أو باسم بولس اعتمدتم . ثم انظر كيف ان هذا المعلم الالهي يُرجع فكر مخاطبه الى الرموز التي جرت في العهد القديم وهذه الرموز دالّة على الحقيقة المستقبلة وكأن يسوع يقول : ان اليهود قد نالوا الشفاء بنظرهم الى حية النحاس المرتفعة التي كانت رمزاً لصلبي فبأولى حجة ينال الشفاء ومعونة كبرى مَن يؤمنون بي أنا المرتفع على الصليب . والعجيب انه تعالى أدّب آل اسرائيل بالحيّات ليبطلوا تذمرهم في حقه ثم أشفاهم بحية نحاسية . وكان من قبل قد سقط آدم بواسطة الحيّة التي تمثل ابليس فأراد جلّ جلاله أن يقدّم الحيّة رمزاً الى ما كان مزمعاً أن يرفع آدم وبنيه من سقطته . فان سخر بنا عبدة الأوثان بسبب ان صليب مخلصنا حقارة وذلّ فلنقل لهم ان الحية التي هي أحقر المخلوقات قد وهب النظر اليها الحياة ثم ان الايمان بالصليب جدّد العالم ورفعه الى درجة الحياة الحقيقية وكما انه لم يكن سمّ في حية النحاس كذلك لا خطية في المصلوب وكما ان الحية كانت واحدة كذلك السيد المسيح هو واحد وله طبيعة واحدة . ولماذا قال : ينبغي أن يرفع ابن البشر . ولم يقل : أن يُعلق ؟ فالجواب انه ارتفع ليطرح الشياطين الماردين من علوّ كبريائهم وبسحقهم سحقاً وليشير الى كلامه : وأنا اذا ما ارتفعت عن الأرض جذبت اليّ كل أحد . ومن البين ان مخلصنا استخدم الأمور الحقيرة ليقنع الناس بها ويجذبهم الى الايمان به

     ( 15 ) ” لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” ( 16 ) ” لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ”

     انما ارتفاع السيد على الخشبة كانت الغاية منه أن يراه الناس متألماً ويؤمنوا به معتقدين انه اله غير متألم فلا يهلكون في جهنم بل ينالون الخيرات والنعيم الأبدي . وقد ذكر الحياة الأبدية لأن الكلمة كانت اذ ذاك شائعة تتداولها الألسنة فالخبز يتحول جسد المسيح والخمر دمه وماء الأردن عماداً محيياً والشيخ يجدّد شبابه والايمان بالمصلوب المرتفع شبه حية النحاس يصير حياة لنا خالدة لا انقطاع لها لانه هو ايمان بالله وحيد الله . وكأن هذا الخطاب أذهل عقل نيقوديموس فقال له السيد ما تأويله . لا تعجب من اني سأرتفع وان الأب رضي بصلبي لا ضعفَ في الصلب بل الآب أحب العالم محبة كبرى حتى شاءَ أن يصلب ابنه . ولولا رضاه لما قوي اليهود على تعذيبه بعذاب الصلب واما غاية صلبي ان يؤمن بي الناس فلا يصيبهم هلاك بل ينتصرون على اعدائهم أي شهوتهم والعالم وابليس كما اني سأنتصر على الموت والعذاب والقبر وكل اعدائي بقيامتي ممجداً . فالعظمة والكرامة والتسبيح لله الذي أشفانا من لدغة الخطية وسمها بارتفاعه على خشبة الصليب

     ( 17 ) ” فانه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم ”             ( 18 ) ” من آمن به فلا يُدان ومن لا يؤمن فقد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد ”     ( 19 ) ” وهذه هي الدينونة ان النور جاء الى العالم والناس أحبوا الظلمة على النور لأن أعمالهم كانت شريرة ”

     للسيد مجيئان الأول لغفران المعاصي والذنوب والثاني للدينونة فقال عن ذاك لم آتِ لأدين العالم . وعن هذا : متى يأتي ابن البشر بمجد أبيه يقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله . فمن آمن به لهُ المجد فلا يلحقه عذاب ومن لا يؤمن فيعذب لأجل عدم ايمانه واعماله الشريرة . وقيل في الماضي : قد دين لان عادة الكتاب ان يصوّر المستقبل كالماضي ثم لأن عدم الايمان في الانسان هو عينه حكم عليه ودينونة اذ ان ضميره يبكّته . وعليك ان تلاحظ ما يسمّي به المسيح نفسه أولاً بعد أن دعا ذاته ابن البشر أخذ تسمية ابن الله ثانياً يدعو نفسه النور والخطأة ظُلمة لانهم يفضلونها على النور ولأجل تفضيلهم سينالون جزاءً قاسياً وأولْ كلام ربنا على هذا المنوال . جئت الى الناس وهم لم يتركوا معاصيهم ويؤمنوا بي ولو كنت أتيت لأدينهم لكان لهم سبب مخافة وعلّة ابتعاد عني لكني ما جئت الّا لأغفر لهم ذنوبهم . فأي جواب يعطونه يوم أطالبهم الحساب . انا النور اتيت اليهم بذاتي فاثمهم أكبر وملامتهم أعظم في تركهم الاقبال اليّ وعدم هجرهم الظلام للسير في النور الساطع . وهم رفضوا الخلاص وهل ألام ان كنت لا أترأف على من يبتعد عني ولا يريد نيل رأفتي . ولماذا أبوا الاتيان اليّ . فلأن أعمالهم شريرة ويريدون مواصلتها والبقاء في الظلام لئلا اذا أتوا الى النور ينكشف الغطاء عنها فيشملهم الخجل وتبكيت الضمير

     ( 20 ) ” لأن كل مَن يعمل السيئات يبغض النور ولا يُقبل الى النور لئلا تفضح أعماله ” ( 21 ) ” فأما الذي يعمل الحقّ فانه يُقبل الى النور لكي تظهر أعماله لأنها مصنوعة في الله”

     معنى الآيتين : مَن يريد ان يمشي دائماً عبى طريق الشرّ لا يأتي اليّ ومن يرغب في عمل الصلاح يؤمن بي لأن الأول يريد أن يحيا حياة الوثنيين والثاني حياة السماء قال مار يوحنا : ان كلام السيد موجّه في حق الوثنيين واليهود الذين كان واجباً عليهم ان يقبلوا الى الايمان المستقيم وقد دلّ عليهم بوصفهم اذ هم الذين يعملون السيئات ويعيشون في الضلالة . ولماذا لم يطيل مخلصنا خطابه مع نثنائيل كما أطاله مع نيقوديموس فما ذلك الّا لأن نيقوديموس كان أكبر اجتهاداً في معرفة الحق ثم أتى من تلقاء نفسه الى مخلصنا وكان اتيانه في الليل أي في ساعة موافقة للتعليم وأيضاً كان عارفاً بالكتب فجاراه المسيح في معرفته وأجابه تبعاً لما يريده ويطلبه واذ كان لهُ المجد عالماً بباطنه افهمه ان عدم الايمان دينونة للانسان وان عدم الاقبال الى تعاليمه الخلاصية او عدم اعتناقها انما يتأنى عن التورّط بالأعمال الردية ويحسن بنا أن نقول كلمة في حق الهراطقة يدّعي النسطوري ان كلمة الآية 13 : الذي نزل من السماء تدلّ على مجيّ المسيح الثاني . فنردّ ادّعاءه بان تفسيره مخالف لنصّ الكتاب الذي يعلن ان بعد هذا النزول تجسّد الابن ومخالف لقول الملاك جبرائيل الذي يشهد للعذراء : ان قوّة العليّ تظللك ثم لقول الرسول بولس المعلن ان الله أرسل ابنه متأنساً من المرأة وأيضاً هذا الذي نزل يقال عنه انه سيصعد الى السماء ليأتي ثانية بمجد ليدين الناس . ثم ان تاودورس شريك النسطوري في اعتقاده الكاذب يرى ان شفاء العبرانيين لم يحصل برؤية حية النحاس بل بالقوة الخفية التي فيها وهكذا الايمان بالمصلوب لا يعطي الخلاص والحياة بل الايمان بالله الساكن في المصلوب . وما أرذل هذا التفسير واسقمه فموسى لم يقل : ان بالقوة الخفية كان الملدوغ ينال الشفاء ولا المسيح قال ان الحياة تُعطى بالايمان بالله الساكن في المصلوب بل ان الذي ينظر الى الحية كان يشفى وان المسيح سيرفع كما رفع موسى الحية في البرية . واننا نسأل الهرطوقي : ما الايمان الذي كان سيدنا يطلبه ممن يبتغون الشفاء . أكان يطلب ان يؤمنوا بانه انسان ومعلّم ونبي . وما الحاجة الى مثل هذا الايمان ويكفيهم فتح الأعين ليروه انساناً ويسمونه نبياً فاذن كان يطلب ان يروا فيه انساناً لكن ان يؤمنوا به الهاً . أي ولو ظهر حاملاً جسداً ومائتاً ومحكوماً عليه بالموت من اليهود انه فيه قوة الله وهو بذاته غير قابل الموت والدينونة وفي هذا القدر كفاية .

( شهادة يوحنا للمسيح الذي يكرز ويعمد )

     ( 22 ) ” وبعد ذلك أقبل يسوع وتلاميذه الى أرض اليهودية وكان يتردّد هناك معهم ويعمد ” ( 23 ) ” وكان يوحنا يعمد في عين نونٍ بقرب ساليم لكثرة الماء هناك وكانوا يُقبلون ويعتمدون ” ( 24 ) ” لأنه لم يكن يوحنا بعد قد ألقي في السجن ”

     كان سيدنا يصعد في الاعياد الى أورشليم قصدَ ان يعلّم ويشفي ثم اذا ما انقضى الاحتفال بها يذهب الى حيث تجتمع الجماهير وهذا ما أجراه الآن من اتيانه الى الاردن للكرازة وللشفاء . وفي تلك الآونة كان يوحنا في عين نون وهي اما عين ماء أو قرية يكثر فيها الماء ويصلح لذلك اجراء العماد فيها . وكان هذا البارّ مواصلاً الكرازة لتقريب المقبلين اليه من يسوع ومن الايمان به وقد عين الانجيلي خلافاً لمن تقدّموه زمن الحوادث الحاضرة التي جرت قبل ان يحبس يوحنا

     ( 25 ) ” وكانت مناظرة بين تلاميذ يوحنا واليهود في شأن التطهير ”

     روى فيلكسينوس ان تلاميذ يوحنا وبعض اليهود ظنوا ان يوحنا عينه هو المسيح وان المسيح لم ينل عظمة وكرامة بين الشعب الّا بشهادة ابن زكريا . فقادهم هذا الظن الفاسد الى مشاجرة في شأن التطهير أي في المعمودية أي هل يسوغ ليسوع ان يعمد أو لا وما هي صفة معموديته . قال القديس يوحنا الذهبي الفم : كان الحسد متسرباً في قلوب تلاميذ المعمدان واذ رأوا سيدنا وتلاميذه يعمدون بدت فيهم مفاعيله المؤذية وأخذوا يقولون جهاراً ان معمودية المعمدان أفضل من معمودية يسوع ووقعت مشاجرة بين تلميذ من تلاميذ يوحنا ويهودي كان قد عمّده تلاميذ المسيح ولما لم يقتنع الواحد بكلام الآخر أتى الاثنان الى يوحنا ليفصل بينهما وقال آخرون انهما انقادا لتحريض تلاميذ المعمدان الطالبين اثارة الغيرة في نفس معلمهم

     ( 26 ) ” فأقبلوا الى يوحنا وقالوا له يا معلم ذاك الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت شهدت له ها انه يعمد والجميع يُقبلون اليه ” ( 27 ) ” فأجاب يوحنا وقال لا يستطيع الانسان أن يأخذ شيئاً ما لم يعطَ له من السماء ” .

     معنى السؤال : يا معلّم ان الذي كان معك بشبه تلميذ وشهرته بواسطة شهادتك لهُ قد هجرك ويأتيه الناس ليعتمدوا منه . وها نقدّم لك رجلاً قد مضى اليه وقبل المعمودية من تلاميذه وما أبدع ما أجاب به المعمدان واننا موضحون بقدر امكاننا ما معاني عباراته في الآيات التالية . وقد سمّاه انساناً لئلا يزيد ثائر غضبهم وحسدهم فأعلمهم ان ليست شهادته التي جعلت السيد معروفاً بل السماء هي التي أعلنت مقامه وعظمته وأعطته ما هو طبيعي لهُ فمن خالفه يكون مخالفاً لله عينه . وفسر القديس افرام وفيلكسينوس كلام يوحنا بان : الانسان الصانع المعجزات والمعلّم التعاليم انما يكون لهُ الأمران لا من ذاته بل من هبة السماء. وانا قد منحتني السماء ان اكرز واعمّد كخادم الابن . ومما يؤيد هذا التفسير الآية التابعة التي تأويلها الواضح : أنتم معترفون باني شهدت لكم باني لست المسيح ولذلك لم أجذب الناس الى الايمان بي فانما انا رسول من لدن الآب لأنادي امام ابنه واكون خادماً له أو انا المبشر المتقدم امام الابن المخلّص لاعلن العالم قدومه السعيد

     ( 28 ) ” أنتم تشهدون لي بأني قلت لكم انني لست المسيح بل أنا مرسل أمامه ”        ( 29 ) ” مَن له العروسة فهو العروس وأما صديق العروس الواقف يسمعه فهو يفرح فرحاً لصوت العروس ففرحي هذا قد تمّ ”

     العروسة هنا هي الكنيسة والعروس المسيح خطبها بالمعمودية وتمّ عقد زواجه عليها بالقيامة لانه بالقيامة جعل النفوس مقرونة بنفسه والأجسام مُوَحّدة بجسده . وفضّل استخدام اسمي العروسة والعروس بدل الرجل والمرأة دلالة على الافراح السماوية وفي رسائل بولس ان اقتران الرجل والمرأة سرّ عظيم لانه يرمز الى اختلاط المسيح بكنيسته . وأيضاً انما سمّى العروسة لانها هي التي تنتقل الى بيت العريس بدعوته وكذا الكنيسة خطبها المسيح بصوت تعليمه لأن الايمان من السمع والسمع من كلمة الله تبعاً لما أثبته الرسول المذكور عينه . فالمعمدان أعلن انه اجتهد شديد الاجتهاد كما يفعل الصديق الشديد المحبة لتتبع الكنيسة المسيح . وسمى نفسه صديقاً محباً أولاً حتى لا يرتاب فيه تلاميذه ان وضع نفسه في درجة اذلّ . ثانياً حتى يعرفوا انه لم يحزن عند سماعه بعظمة السيد بل ان فرحه لا يعادلهُ شيء . ثم وصف نفسه بأوصاف الخادم فقال انه الواقف يسمعه ومعنى الواقف المستعدّ للخدمة من دون ابطاء ويمكن تأويله بان بعد ان تبعت العروسة عريسها وقف يوحنا عن مواصلة التعميد دلالةً على ان عمله اكتمل وان خدمته بلغت حدودها . ومعنى يسمعه ان العريس خطب بصوت تعليمه عروسته الكنيسة ويوحنا يتلقى أوامره ليجريها بالضبط وبدون امهال وما أشدّ فرحه عندما يبلغ أذنيه صوت المسيح المعلّم الأكبر . وما أكمل سروره واغتباطه عندما يصل الى معرفته ان خطبة سيدنا قد كملت وان بشارته المحيية تمّت بالفعل في العالم وبطلت ان تكون عملاً مقصوداً اجراؤه . وهو قد أعان على تحقيقها كما أراد منه سيده وأمره به

     ( 30 ) ” وله ينبغي أن ينمو ولي أن أنقص ” ( 31 ) ” لأن الذي جآء من العلآء هو أعلى من الكلّ والذي من الأرض هو أرضي وبالأرضيات ينطق والذي أتى من السماء هو فوق الكل ”

     نموّ السيد هو تعظيمه بين الناس وواجب لهُ هذا التعظيم وينبغي ان يعترفوا به انه المسيح وابن الله وانتبه ان السيد لا ينمو ولا يتعظم ولا يزيد في اقنومه لأن عظمته طبيعية وانما نموه أو تعظيمه باعتبار في عقول الناس ومعرفتهم . ولما كان واجب التعظيم عندهم فرسوله أيضاً لا بدّ ان يُكرّم ويُعظم بسببه . وبمثل هذه الأقوال السديدة كان المعمدان يهدّيء غضب مخاطبيه ويلطف من ثائر حقدهم . ومما عني به شديداً افهامهم ان السيد غير محتاج الى أحد لانه كافٍ نفسه بنفسه فقد أتى من السماء وهو فوق الكل أياً كانوا . وقابل نفسه بهذا السيد السامي فقال انه من الارض وقال القديس افرام ان الأرض احطّ منزلة من السماء فاذن كرازة يوحنا أقلّ درجة من كرازة السيد . وأوضح المعمدان فكره بما لا يترك فيه ريب لاحد اذ عقّب كلامه بانه ينطق بالارضيات أي بالامور غير السامية الموافقة طبيعة الارضيين اما ذاك الذي من الأعالي فهو خزانة المعارف وينطق بها كلها

     ( 32 ) ” وبما عاين وسمع يشهد ولكن ليس أحد يقبل شهادته ” ( 33 ) ” والذي قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق ”

     المسيح صادق الكلمة في قوله انه ابن الله بل هو عارف بكل خفي وظاهر فلا يأتي الّا بالحق وتأويل معاينته وسمعه لا انه اقتبل معرفة من غيره . كلّا بل ان أخباره عن نفسه لا أصدق منه ولا احقّ . لكن قليلاً من الناس وهم التلاميذ وبعض اليهود الصادقي الادراك والارادة قبلوا شهادته ورفضها غيرهم . وعبّر المعمدان عن فكره هذا بان قال : ليس أحد يقبل شهادته ولم يقل قبلها القليل لئلا يستنتج سامعوه ان قبولها من القليل دلالة على انها كذب . اما من قبلوا الشهادة فقد بينوا ان الآب الذي أرسل ابنه حق وصدق فان كلمة ختم تعني بين واوضح وأثبت . ومن لم يقبلوها فكأنهم جدّفوا على الآب وادّعوا انه كذاب أجارنا الله من ذلك ولك أيضاً ان تؤوّل الآية بان الذي قبل شهادة المسيح الله وأدرك معاني كلامه أثبت وبيّن لكم ان المسيح أعظم مني وانه الاله الحق ففي التأويل الأول كلمة الله تكون موضوعة عوض الآب . وفي الثاني بدل المسيح . وتسأل ما شهد به السيد المسيح عن ذاته؟ أجيب أن يؤمنوا به انه الله وابن الله الحقيقي لا انه معلم أو نبي كغيره

     ( 34 ) ” لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله لأن الله لا يُعطي الروح بمقدار ”             ( 35 ) ” الآب يحب الابن وقد جعل في يده كل شيء ” ( 36 ) ” من يؤمن بالابن فله الحياة الأبدية ومَن لا يؤمن بالابن فلا يعاين الحياة ولكن غضب الله مستقر عليه ”

     الانبياء والملائكة واولياء الله يقبلون الروح بمقدار لانهم محدودون لا يطيقون قبوله كله اما المسيح فقبله كله لانه الله ولا يفيد قبوله انه أصغر من الآب المعطيه : كلّا . بل هو مساوٍ للآب في الطبيعة والذات والقدرة والآب بحبه وهو الخالق لكل الاشياء انما قيل ” قد جعل بيده كل شيء ” لانه صار انساناً فالنتيجة الضرورية لهذه المقدمات ان مَن يؤمن بيسوع الاله المتأنس فانه ينال الحياة الخالدة ومن لا يتبعه مؤمناً به يعذّبه الله أشد العذاب في النار وهذا معنى غضب الله . وانتبه جيداً الى ان الايمان يجب ان يمتد الى الثالوث الأقدس كله وان الايمان وحده لا يجعلنا نرث الحياة المؤبدة بل انما يطلب منه السيد المسيح الأعمال الصالحة فالمحروم من الايمان يدينه الرب والذي هو ذو ايمان ومحروم العمل الصالح يعذّبه الله في جهنم . ومن واجباتنا الضرورية ان نحصّل الأمرين كما ان الانسان يلزمه عينان لا عين واحدة . ثم ان بعض نسخ الكتاب تزيد : وبعد هذه أسلم يوحنا . أي بعد شهاداته المذكورة واعماله الباهرة سُجن المعمدان . وليس لهذه العبارة من ذكر في الترجمة المعروفة بالبسيطة. فيوحنا كتب منذ بدء انجيله الى هنا ما لم يكتبه الانجيليون قبله كما انه يكتب في الفصل الآتي ما تركوه لانهم بعد القاء يوحنا في السجن لم يذكروا من حسد الفريسيين ليسوع الذي كان يعمّد أكثر من يوحنا

 

 

 

 

 

( الاصحاح الرابع )

( ذهاب يسوع الى الجبل )

     ( 1 ) ” ولما علم الرب أن الفريسيين قد سمعوا أن يسوع يتخذ تلاميذ ويعمد أكثر من يوحنا ” ( 2 ) ” مع ان يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه ” ( 3 ) ” ترك اليهودية ومضى أيضاً الى الجليل ”

     أبان الانجيلي ما كان ذكره فيما مضى من معمودية يسوع وقال ان التلاميذ كانوا يعمدون وان معلمهم لم يكن يعمد . والسبب لأن الروح لم يكن قد أعطي بعد والمعمدان عينه شهد بأنه سيعمد بالروح . وما الفرق بين معمودية يوحنا ومعمودية التلاميذ ؟ فالجواب ان الثنتان كانتا محرومتي الروح فلا يظهر فرق بينهما . وان الفريقين انما غايتهما أن يأتيا بالمعمودين الى سيدنا ويهدياهم الى تعليمه والايمان به . وانما الروح لم يكن قد وُهب لأن يسوع لم يكن قد مُجد أي صُلب . وأيضاً لم يكن سرّ الثالوث الآب والابن والروح القدس قد أعلنه سيدنا بل كان سراً مخفياً . اما التلاميذ فكانوا يعمدون باسم المسيح لمغفرة الذنوب فيقولون : يُعمد فلان لمغفرة خطاياه أو باسم الله الذي أرسل المسيح للخلاص نعمدك لتكون تلميذاً للمسيح الذي يؤمن به . ولما كان اليهود قد شرعوا يكيدون المكايد للسيد ترك اليهودية تهدئة لغضبهم وقصد الجليل وانما غايته أن يعلنهم انه ليس خيالاً . فتارة كان يهجرهم ويتحول الى غير بلادهم ليبين انه صار انساناً حقاً وتارةً كان يفلت من بين ايديهم ولا يرونه ليوضح لهم انه اله حقاً ولا يقوى أحد على ضبطه وامساكه

( في المرأة السامرية )

     ( 4 ) ” وكان لا بدّ له أن يمرّ في السامرة ”

     الأسباب التي حملت مخلصنا على أن يمر بالسامرة هي ” 1ً ” أن يفتقد السامريين وما كان اليهود يخالطونهم . فأظهر انه عابر طريق لئلا يزيد غضب اليهود ” 2ً ” كان بالمكان الذي اجتاز به بئر دُفن بالقرب منها ابراهيم واسحق ويعقوب وغيرهم من أولياء الله فزارهم لهُ المجد كمحبيه ” 3ً ” بعد ان رفضه اليهود ذهب الى الشعوب لعلمه انهم يستفيدون من تعاليمه . والسامريون نسبة الى السامرة وقد أخذت اسمها من صاحبها سامير وكان الاسرائيليون يقيمون بجبالها الى أن تركوا عبادة الله فسباهم شلمناصر وأسكن بلادهم أجانب عنهم فسلّط الله عليهم السباع الى أن أتاهم كاهن ولاوي وعلّماهم عبادة الله . وقد تكلمنا على ذلك في شرح بشارة لوقا 10 : 31 – 36 فراجعها ان شئت . وكانوا يقبلون كتب موسى لا غير ويعدّون أنفسهم من بني اسرائيل وينتسبون الى ابراهيم فيدعونه أباهم ويقولون ان أصله كلداني مثلهم . أما اليهود فكانوا يرذلونهم رذلاً ولا يتعاملون معهم وما أعمق أحكام الله فان السامريين رجعوا الى الله تخلصاً من السباع واليهود أبوا الرجوع اليه مع انهم كانوا تحت نير السبي .

     ( 5 ) ” فأتى الى مدينة من السامرة تسمى سوكار بقرب الضيعة التي أعطاها يعقوب ليوسف ابنه ” ( 6 ) ” وكانت هناك عين يعقوب وكان يسوع قد تعب من المسير فجلس على العين . وكان نحو الساعة السادسة ”

     سوكار كانت قرية شكيم (تك 34 ) وتسمى اليوم نابلس وهي التي قتل أهلّها شمعون ولاوي لانهم دنّسوا دينة أختهما وبعد أن تملكها يعقوب أعطاها يوسف ابنه . وذكر يوحنا اسمها لسببين الأول ليخبر بما هي المدينة التي تلمذ فيها يسوع السامريين والثاني ليُعْلِمَ اليهود وأجدادهم مرذولون منذ القديم بسبب نقضهم الناموس ثم سمى البئر عيناً لأنها كانت تنبع ويجرى فيها الماء . وانما لم يدخل مخلصنا مع تلاميذه المدينة لأنه شاء أن يصطاد الى الهدى المرأة ولئلا يعطي سبب تذمر لليهود منقاداً لما أوصى به رسله من أن لا يدخلوا مدينة السمراء . وتأمل هنا حنانه كيف لم يمنع رحمته عن هؤلاء الناس . فانه وان لم يمضِ اليهم قادهم اليه وخرجوا لملقاه كعابر طريق فقطع بذلك ملامة اليهود . وأيضاً أتعب نفسه ولو كان تعبه حقيقياً لقال الانجيلي ان تلاميذه تعبوا مثله فبارادته تعب كما بارادته جاع فأوضح حقاً انه قد صار انساناً لا خيالاً . وانما تعب ليزيل عنا تعب الآثام وهو القائل : تعالوا اليّ أيها التعبون لأريحكم . ثم ليعلمنا أن نخدم نفسنا ولو كان في هذه الخدمة تعب لنا فلا نترك الآخرين يخدموننا ونتجرد من كل شيء زائد غير لازم لحالتنا . ومن البين ان هذا المخلص يأتينا في كل عمل من أعمال حياته بالأمور المجيدة والجديدة الفائقة الوصف . ولم يلهم السامريين الخروج اليه بل جلس أيضاً لفائدتهم على العين في نصف النهار زمن شدة الحرّ فما أعظم اتضاعِ الخالق الذي يستريح على الأرض ليعطي الراحة ابناء البشر على الأرض

     ( 7 ) ” فجآءت امرأة من السامرة لتستقي مآءً فقال لها يسوع أعطيني لأشرب ”         ( 8 ) ” وكان تلاميذه قد مضوا الى المدينة ليبتاعوا لهم طعاماً ”

     أتت المرأة من دون دعوة خارجية بحيث لم تقدّم لليهود فرصة التشكي من مخلصنا وبواسطتها نال أهل السامرة الفوائد الروحية الكبرى . وقد طلب منها السيد أن يشرب . قال قوم انما طلب لعلمه انها لا تعطيه . وقال موسى ابن الحجر : طلب الماء ليبطل بطلبه المرسومات الناموسية الجارية بين اليهود ويعلن انه واضع الناموس وربه ولا يخضع لهُ . ثم ان عطشه هو الذي أراده كما أراده أيضاً على الصليب اتماماً للنبوات وهنا أذن به ليكون سبباً لتعليم المرأة . فلا نهتم بكل ما ليس ضرورياً ولا سيما لنهم البطون

     ( 9 ) ” فقالت له المرأة السامرية كيف تطلب أن تشرب مني وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية واليهود لا يخالطون السامريين ” ( 10 ) ” أجاب يسوع وقال لها لو كنت تعرفين عطية الله ومَن الذي قال لكِ اعطيني لأشرب لكنتِ أنت تسألينه فيعطيك ماءً حياً ”

     عرفت المرأة ان سيدنا يهودي من لهجة كلامه ومن ثيابه وظنت ان العطش اضطره الى ان يتجاوز الناموس : اما هو له المجد فأصلح اعتقادها به وأعلنها انه لا يريد شرب الماء بل منْحها ماء الحياة . وشرع أولاً يكشف الغطاء عن ذاته ليقودها الى الاصغاء لكلامه . قال فيلكسينوس انه سمّى نفسه الله لانه قال : عطية الله وهي عطيته . ثم ماء الحياة هو يسوع عينه أو الحياة الأبدية تبعاً لفيلكسينوس أو الروح القدس تبعاً للذهبي الفم . وقد فهمت السامرية عينها قيمة العطية بعد ان بين لها ما هي

     ( 11 ) ” قالت له المرأة يا رب انه ليس معك ما تستقي به والبئر عميقة فمن أين لك الماء الحي ” ( 12 ) ” ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته ” ( 13 ) ” فأجاب يسوع وقال كلّ من شرب من هذا الماء يعطش أيضاً وأما مَن شرب من الماء الذي أنا أعطيه له فلن يعطش الى الأبد ” ( 14 ) ” بل الماء الذي أعطيه له يكون فيه ينبوع ماء ينبع الى الحياة الأبدية ”

     أخذت المرأة تكرّمه بسبب تأثير عباراته فيها فسمّته رباً أي سيدها لكنها لم تفهم انه يكلّمها لا على ماء مادي بل على ماء روحي . ولأنها تعدّ نفسها من اليهود ويعقوب أباها وانه شرب مع بنيه من ماء لم يَرَ أحسن منها ولا أطيب قالت : ان كان لك بئر أحسن وأفضل تَكُون أعظم من يعقوب . ولم يثبت سيدنا كلامه اتضاعاً منه لكنه أخذ يصف طيب الماء الذي يعطيه وجعله أفضل من كل ما سواه تاركاً المرأة تستنتج ان مخاطبها أعظم من يعقوب كما قالت . قال مار فيلكسينوس : المياه تعني حياة الأبد التي تعطى بدلاً من الايمان بالمسيح . أما مار يوحنا الذهبي الفم فيقول ان التسمية تعني الروح القدس الذي يسمّى أيضاً ناراً . ومثل هذه التسمية لا تدلّ على طبيعة الروح بل على مفاعيله التي هي الغيرة والطهر أو النار الآكلة الخطايا والحرارة في التقوى ثم عذوبة النعمة المطفئة الشهوات وحلاوة الالهامات الربانيّة والسلوان الالهي الذي يدخل الضمائر والتنظيف من دنس الهفوات والمعاصي . ومن أوصاف الماء الموهوب من السيد انه غزير جداً ومَن شربه يكتفي به دائماً فلا يعود يعطش

     ( 15 ) ” فقالت له المرأة يا رب اعطني هذا الماء لكيلا أعطش ولا أجيء أستقي من ههنا ” ( 16 ) ” فقال لها يسوع اذهبي وادعي رجلكِ وهلمي الى ههنا ” ( 17 ) ” أجابت المرأة وقالت انه لا رجل لي . فقال لها يسوع قد أحسنت حيث قلتِ انه لا رجل لي ”           ( 18 ) ” لأنه كان لك خمسة رجالٍ والذي معك الآن ليس رجلكِ فبالحق تكلمتِ في هذا ”     ( 19 ) ” قالت له المرأة يا رب أرى انك نبي ”

     طلبُ المرأة الماءَ دلالة واضحة على انها آمنت بالمسيح . وقولها ” حتى لا أعطش ” اقرار بانها عرفت قدر النعمة . وان الماء أفضل من ماء بئر يعقوب وان مخاطبها أكبر من يعقوب وانما تريد مياهاً روحية لا تطفيء الى الطهر والفضيلة وتكفيها مؤتة المجيء الى ينبوع ماء مادي لتستقي . فدعاها السيد لمقصد سني الى أن تأتي معها برجلها ليشترك بالروحيات التي سيهبها اياها اما هي فما أرادت باديء بدء ان تقول شيئاً عن حالتها الزواجية فأنكرت كون لها بعلاً وغايتها الاستعجالُ في أخذ الماء الحي واخفاء ما هي عليه من عدم الانتظام في العيشة المرتبة مع زوج شرعي . ولا بدّ انها قالت في نفسها : انما أتكلم مع انسان لا يعرف طيّات القلوب ومستورات الضمائر فغير يسوع لها اعتقادها بقوله . أن كان لكِ خمسة رجال . وبذلك كشف لها عن أمرين الأول فضح الخمسة الرجال الذين عاشوا معها والثاني سوء حالتها الخفية الحاضرة مع الرجل الأخير الذي تساكنه . قال القديس افرام : ان هذه المرأة تزوجت خمسة رجال واحداً تِلْوَ الآخر وكانوا يموتون فاعتقد فيها الناس انها قَاتِلَتُهم ولئلا يعيروها مواطنوها بعار الترمّل ساكنت رجلاً وما جامعته لئلا يموت . وزعم آخرون انها كانت زانية وان مَن تساكنه لم يكن بعلاً شرعياً . وان الخمسة الرجال الذين تزوّجت بهم لم يكن يعرفهم أحد ودليل هذا انها خافت مما أفشى المسيح من حالتهم وحالتها معهم وهو غريب عن سوكار . ولما تحققت بما لا ريب فيه انه عالم بخفيّ أمرها اعترفتِ بانه نبي

     ( 20 ) ” ان آباءنا سجدوا في هذا الجبل وانتم تقولون ان المكان الذي ينبغي ان يسجد فيه هو أورشليم ” ( 21 ) ” فقال لها يسوع آمني بي أيتها المرأة انها تأتي ساعة تسجدون فيها للآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم ” ( 22 ) ” أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم لان الخلاص هو من اليهود ”

     مفاد سؤال السامرية : أيهما الافضل : أهذا جبل السامرة الذي سجد فيه للرب آل ابراهيم واسحق ونحن نسجد فيه أيضاً أم أورشليم التي تسجدون فيها لهُ انتم ايها اليهود ؟ فلم يجب لهُ المجد صريحاً على مسألتها غير المفيدة لانه لا فرق عنده بين السامريين واليهود فيما يشاءُ ان يجريه . ولظنّها ان عبادة الله محدودة في مكان اعلنها انه يليق وينفع السجود لعزّته العلوية لا في جبل السامرة واورشليم فقط بل في كل الأمكنة والمدن والبلدان لكنه افهمها فضل اليهود في السيرة على غيرهم أي انهم سجدوا للاله الحق لا كأهل السامرة الذين انما يعبدون الهاً محسوساً مادياً كاذباً والاله الحق واجب الوجود رب المسكونة بأجمعها . وانتبه الى انه جلّ اسمه يخلط ذاته مع اليهود فيقول : نسجد وما ذلك الّا لتواضعه وحنانه على المرأة التي كانت تظنه نبياً لا غير . ثم افهم بالخلاص أو الحياة التي يقول لهُ المجد عنها انها من اليهود اما الايمان الصحيح أو مجيئه بالجسد ولا أحد ينكر ان المسيح المخلّص هو حياة النفوس وبالايمان به يحيا البشر

     ( 23 ) ” ولكن تأتي ساعة وهي الآن حاضرة اذ الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب انما يريد مثل هؤلآء الساجدين له ” ( 24 ) ” لأن روح الله والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ” ( 25 ) ” قالت له المرأة قد علمت ان ماسيا الذي هو المسيح آتٍ فمتى جآء ذلك فهو يخبرنا بكل شيء ” ( 26 ) ” فقال لها يسوع أنا المتكلم معك هو ”

     الساعة الحاضرة هي الزمن الذي فيه يأخذ المسيحيون الذين ليسوا يهوداً ولا سمرةً يسجدون للاله الحقيقي بالروح في كل مكان وبالحق المجرد من كل رموز فكلمة الروح تنفي سجود أهل السامرة المحدودين بالمكان . وكلمة الحق تنفي عبادة اليهود المركّبة من أشكال الذبائح الرمزية . ولما كان الله روحاً محضاً أي غير جسم وغير منظور ولا محدود وجبت لهُ خدمة الروح غير محدودة أيضاً . وهنا ضرب السيد المسيح الناموس بالبطلان وأعلن وجود الله في كل مكان وبالتالي وجوب العبادة والصلاة في كل مكان . وهكذا قاد مخاطبته بالتدريج الى ان يعلنها مَن هو : ” 1ً ” رأته عطشان ” 2ً ” ميزته من ثيابه انه يهودي ” 3ً ” اقرّت انه نبياً والآن ستصل الى الدرجة الأخيرة من معرفته أي ستسجد لهُ كاله وكان بين السامريين سائداً الاعتقاد بان المسيح سيأتي لانهم طالعوا في الكتب المنزلة قول الله : نعمل انساناً كصورتنا ومثالنا وأيضاً قول موسى : سيقيم لكم نبياً . ثم فهموا ما ترمز اليه الحية والعصا فسألت المرأة عن المسيح متى يأتي فأعلنها السيد انه هو هو بعينه

     ( 27 ) ” وعند ذلك جآء تلاميذه فتعجبوا انه يتكلم مع امرأة لكن لم يقل أحد ماذا تُريد ولماذا تكلمها ” ( 28 ) ” فتركت المرأة جرّتها وانطلقت الى المدينة وقالت للناس ”          ( 29 ) ” هلموا انظروا رجلاً قال لي كل ما صنعت أليس هو المسيح ” ( 30 ) ” فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه ”

      بعد أن أكمل السيد تعليم المرأة رجع تلاميذه وأخذهم العجب من انه وهو الشريف الطائر السمعة العالي المقام يخاطب امرأة فقيرة ويترأف بحالتها . ولأدبهم وصيانتهم درجتهم لم يسألوه عن شيء في أمرها أما هي فلشغفها بالروحيات تركت جرّتها أي الجسديات ومضت فأشاعت الخبر بين سكان مدينتها قائلة : هلموا انظروا رجلاً . وبالحكمة صنعت في قولها ولم تسمه المسيح حتى اذا خرجوا اليه اصطادهم بكلامه الى الايمان به ولاعلامهم ان الرجل أكبر من سائر الرجال ولاشتعال قلبها بالتوبة وبمحبة الله لم تستحِ من أن تقول الحق أي انه كشف لها عن سلوكها وسيرتها الخفية . فلا يهمها الّا أمر واحد وهو ان تجذب الجميع اليه . وأوّل كلامها الاستفهامي ” أليس هو المسيح ” لا بأن فيه شكاً وارتياباً بل بانه دعوة الى التحقق واثبات انه المسيح فعلاً . وقد أثر كلامها تأثيره المطلوب فجعل الناس يأتون من البلدة الى السيد

     ( 31 ) ” وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين يا معلم كلْ ” ( 32 ) ” فقال لهم ان لي طعاماً آكله لستم تعرفونه أنتم ” ( 33 ) ” فقال تلاميذه فيما بينهم ألعلّ أحداً جاءه بما يأكل ” ( 34 ) ” فقال لهم يسوع ان طعامي أن أعمل مشيئة من أرسلني واتمم عمله ”

     ألحّ التلاميذ على يسوع بأن يأكل لكثرة محبتهم لهُ ولمشاهدته تعباً من الطريق والحرّ وتعليم المرأة أما هو فأعلنهم ان الطعام الذي يطلبه هو خلاص بني أدم ودعوتهم الى أن يؤمنوا به . وكما نحن نشتهي الأكل لتقوية جسدنا كذلك هو مشتاق الى حياة أنفسنا والى خلاصنا وهذا هو الأكل الروحي اللذيذ ولم يُدرك التلاميذ معنى عباراته ثم لم يجسروا على أن يسألوه هل أتاه أحد بطعام لكنه بين لهم ظاهراً مراده من ان طعامه هو اتمام مشيئة الآب الذي يريد ارجاع الناس الى العبادة الحقة لخلاصهم وحمْلهم على الايمان الصادق
( 35 ) ” ألستم تقولون انه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد وها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الى المزارع انها قد ابيضت للحصاد ” ( 36 ) ” والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثماراً للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معاً ”

     أشار بالمزارع والحصاد الى السامريين الخارجين اليه من المدينة والى النفوس العديدة المستعدّة لقبول الكرازة والفريقان مثل السنبل المبيض الذي لا ينقصه الّا أن يُحصد وهما يطلبان البشارة للايمان . ومعلوم لمن طالع الكتب المنزلة ان الأنبياء كانوا يتكلمون كثيراً بالألغاز والأمثال ويستخدمون لفظ الحقول والزرع والحصاد والأرض ليوضحوا بها ما يريدون قوله ليرسخ بزيادة في عقول سامعيهم وقلوبهم . ثم ان سيدنا راعى تشبيهه فقال ان الحاصد ينال أجرته ليعني ان الذي يكرز يُعطى المكافأة . وافهم بالمزارعين هنا الأنبياء وبالحاصدين هنا الرسل وكلا الفريقين ينال ثمار اتعابه ويستريح فرحاً بعكس ما يحدث في الزرع الأرضي لأن ان حصده مَن لم يزرعه فانه يفرح وحده أما الزارع فلا يصيب مغنماً . لكن في النظام الروحي للزارع أجر وللحاصد أجره وبناءً على هذا المبدأ الأنبياء الزارعون والرسل الحاصدون يكافأون معاً ويفرحون معاً وما ذلك الّا لأن الله أرسل الفريقين وخصّ كل واحد بعمل ثم من هنا يتضح لك تشابه العهدين القديم والجديد اللذين يرميان الى غاية واحدة .

     ( 37 ) ” وفي هذا يصدق ما قيل ان واحداً يزرع وآخر يحصد ” ( 38 ) ” اني أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه فان آخرين قد تعبوا وأنتم دخلتم على تعبهم ”

     من الامثال السائرة بين الناس بزمن سيدنا ان واحداً يزرع وآخر يحصد فقال لهُ المجد بتحقق المثل في الانبياء والرسل ومعنى عباراته : الانبياء زرعوا في قلوب الناس وها الزرع قد نشأ وربا فأنتم تحصدون الآن لانكم تبشرون البشارة الحسنة وتجعلون القريب والبعيد تلميذاً لي . وقد سمّى نفسه زرعاً وهو بدأ بالكرازة اما الرسل فقد سمعوا صوته وعملوا بمقتضى طلبه وقدّموا اليه ثماراً بني البشر وهو لهُ المجد أعلنهم ان الكرازة متعبة لكنّ الانبياء أتموها والرسل وصلوا بعد انتهاء التعب . وانما قال ذلك لئلا يخافوا مما يفوّض اليهم عمله ولتشديد عزائمهم على اجراء ما يطلبه من ردّ الناس اليه

     ( 39 ) ” فآمن به في تلك المدينة سامريون كثيرون من أجل كلام المرأة التي كانت تشهد ان قد قال لي كل ما صنعت ” ( 40 ) ” ولما سار اليه السامريون طلبوا اليه ان يقيم عندهم فمكث هناك يومين ” ( 41 ) فآمن أناس أكثر من أولئك جداً من كلامه ”               ( 42 ) ” وكانوا يقولون للمرأة لسنا من أجل كلامكِ نؤمن الآن لأنا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو في الحقيقة مخلص العالم ”

     انما آمن الناس أولاً لكلام المرأة التي شهدت ان يسوع قال لها كل ما صنعت فكان برهانهم  هذا : يستحيل ان تمدح المرأة مَن وبخها على أفعالها السيئة ان لم يكن نبياً عظيماً والهاً . ولذلك أيضاً طلبوا اليه الاقامة عندهم وما أبعد عملهم عن عمل اليهود هؤلاء ينظرون المعجزات ويطردونه وأولئك لم يروا بعد آية ويلتمسون منه البقاء معهم وما ألطف سيدنا وأحنّه لأنه لبى الطلب وأقام يومين ما بينهم . وآمن الناس ثانياً لما شاهدوا بأعينهم وتحققوه بانفسهم ولئلا يعيرهم اليهود لأنهم صدّقوا كلام امرأة بغيّ قالوا ما معناه : سمعنا من يسوع أقوالاً ومعاني سامية صيرتنا نعتقد انه مخلص العالم . وما أكبر استحقاقهم فانهم ما نظروا عجائب منه ومع ذلك آمنوا لأنهم طابقوا بين ما يعرفونه من الدلالة على المسيح في الكتب المنزلة وبين ما شهد يسوع به لنفسه فتأكدوا الحقيقة وجاهروا بها أي بان يسوع محيي بني الانسان وهو الموعود به منذ الدهر

( في ذهاب يسوع الى الجليل وشفاء ابن القائد )

      ( 43 ) ” وبعد اليومين خرج من هناك ومضى الى الجليل ” ( 44 ) ” لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه ” ( 45 ) ” فلما أتى الى الجليل قبله الجليليون لانهم عاينوا كل ما صنعه في اورشليم في العيد لانهم هم ايضاً جاءوا الى العيد ” ( 46 ) ” فأتى أيضاً الى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً ”

     مكث السيد يومين عند السامريين مكرّماً معظماّ ثم مضى الى الجليل الى مدينة قانا التي حول فيها الماء خمراً ليثّبت سكانها في الايمان وكأنه سُئل لماذا لم يمضِ الى كفرناحوم مدينته بل الى الجليل فأجاب لهُ المجد : ليس لنبي كرامة في وطنه ودعاها وطنه لانه عاش فيها في الجسد وتخفيفاً لقضاء الله عليها ولم يكن له فيها كرامة لأن سكانها لم يكونوا يؤمنون بمعجزاته والعادة ان الناس انما يكرّمون في المدن الغريبة أكثر من المدن التي هي مسقط رأسهم اما أهل الجليل فقبلوه بفرح لا سيما لانهم رأوا آياته في بلادهم وفي أورشليم عندما احتفلوا فيها بالعيد . ومن هذا القبيل يفضل السامريون مَن سواهم لانهم آمنوا به بدون آية

     وكان رئيس للملك ابنه مريض في كفر ناحوم ” ( 47 ) ” فسمع أن يسوع قد جاء من يهوذا الى الجليل فانطلق اليه وسأله أن ينزل ويبريء ابنه لأنه كان قد قارب الموت ”         ( 48 ) ” فقال له يسوع ان لم تعاينوا الآيات والعجائب لا تؤمنون ”

     ان الذهبي الفم يدعو هذا الرئيس ملكاً لانه كان سيداً في مقاطعته ومن أسرة الملوك أو لأنه كان من أهل المناصب السامية في المملكة ويدعوه الانجيلي هنا من الرؤساء الموظفين عبيد الملك . والتسميتان صحيحتان . وهذا هو غير ذلك القائد الذي ذكره متى واورد ما قاله ليسوع من انه لا يستحق ان يدخل لهُ المجد تحت سقف بيته اما العبد الحاضر فانه يتوسل اليه ليأتي به الى بيته ثم ذلك جاءَ اذ كان يسوع نازلاً من الجبل وهذا جَاءَ اليه من مدينة سوكار الى قانا الجليل وأيضاً عبد القائد كان مخلعاً اما ابن هذا الرئيس فكان مصاباً بالحمى وقد دنا من يسوع وليس في قلبه ايمان عظيم بدليل انه الحّ عليه بالنزول معه الى بيته فوبخه سيدنا بسبب قلة ايمانه وكانه ذمّ كفر ناحوم واثنى على أهل السامرة الذين آمنوا بدون معجزات

      ( 49 ) ” فقال له الرئيس يا رب انزل قبل أن يموت ولدي ” ( 50 ) ” فقال له يسوع امضِ فان ابنك حي . فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع له ومضى ”

     لم يصدر الحاح الرجل على مخلصنا بالنزول الّا عن خوفه من أن يموت ابنه فلا يقوى لهُ المجد على اقامته من الموت . فالسيد وهب الابن الشفاءَ والابَ الايمانَ اما القائد المذكور في متى فانه كان كامل الايمان ووعده مخلصنا بان يمضي معه الى بيته اما هنا فلم يمضِ لضعف ايمانَ من دعاه لكنه لاسمه السجود أعطى بكلمةٍ لا غير هبةَ الشفاء من المرض . ولا عجب فانه الخالق للكائنات كلها يقول لها كوني فتكون . فكان الأمر علة لنيل الأب الكمال في الايمان

     ( 51 ) ” وفيما هو منحدر استقبله غلمانه وبشروه قائلين ان ابنك حي ”                 ( 52 ) ” فاستخبرهم في أية ساعة أخذ في العافية فقالوا له أمس في الساعة السابعة فارقته الحمى ” ( 53 ) ” فعرف الأب أنها الساعة التي قال له فيها يسوع ان ابنك حي . فآمن هو وأهل بيته جميعاً ” ( 45 ) ” هذه آية ثانية صنعها يسوع بعد مجيئه من اليهودية الى الجليل”

     ان عبيد الرئيس كانوا مسرعين لاعلام سيدهم بشفاء ابنه وبان لا لزوم لاستدعاء يسوع وما كانوا عارفين بكلمة مخلصنا اما هو فسألهم ما الذي سبّب شفاء ابنه ليعرف هل وقع حادث ما أو كَفّت كلمة يسوع واذ عيّنوا لهُ الساعة السابعة لمفارقة الحمى تحقق لديه ان كلمة المسيح هي الشافية فشاركه في ايمانه أهل منزله . وكانت هذه الآية الثانية بالنسبة الى آية الخمر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( الاصحاح الخامس )

( في شفاء سقيم منذ ثمان وثلاثين سنة )

     ( 1 ) ” وبعد هذا كان عيد اليهود فصعد يسوع الى أورشليم ” ( 2 ) ” وان في أورشليم عند باب الغنم بركةً تسمى بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة ”

     بعد آيات متعددة اجترحها السيد كان عيد العنصرة فصعد له المجد الى أورشليم وقد ذكرنا ان عادته الاحتفال بالاعياد في هذه المدينة ليشترك مع اليهود فيها وليجذبهم الى الايمان به . واعلم ان ما يُدعى هنا موضع معمودية هو ما يُقال لهُ أيضاً بركة واياك ان تفهم بالمعمودية ما هو ناموسي منها بل هو معين ماء كانوا يغسلون فيه الذبائح لتجريدها من الدم ثم الامعاء والكروش وما أشبه . وأيضاً يغتسل فيه المرضى بعد تحريك الماء . قال غريغوريوس اللاهوتي ان في الكتاب ذكراً لخمس معموديات . وقال موسى ابن الحجر انها ست اما نحن فنرى انها سبعة الاولى هي التي اعتمد بها بنو اسرائيل عندما اجتازوا البحر تبعاً لما قال بولس : ان اباءَنا اعتمدوا في البحر . الثانية هي الناموسية وهي التي يُغسل فيها الكروش أو الاجسام . الثالثة هي الطوفان الذي لاشى معاصي البشر أيام نوح . الرابعة معمودية يوحنا . الخامسة معمودية الدم أي القتل السادسة عماد النور وعنه قال غريغوريوس المذكور : انهم يعتمدون هناك في النار معمودية نهائية هي أشد تعباً واطول مدة من غيرها . السادسة المعمودية الحالية التي ندعوها أيضاً ناموسية واسمها بالعبرانية بيت حسدا أي العار لأن فيها يعتمد المرضى والمخلّعون وذوو العاهات . السابعة معمودية الدموع . وفسر آخرون حسدا برحمة هذا هو معناها في اللغة العبرانية لأن المراحم يهطل غيثها هنا على المسقومين . وكانت هذه المعمودية ظلّ معموديتنا الحقيقية التي رسمها السيد المسيح . فتلك تشفي أمراض الجسد وهذه أمراض النفس . الأولى فعل ملاك والثانية عمل الروح القدس .

     وفي الاولى ينال الشفاء واحد من المرضى لا أكثر اما في الثانية فكثيرون يشفون بل كل مَن يريد نيل الصحة اياً كان عدد الطالبين . وزيد ان كان لبركة بيت حسدا خمسة أروقة أي أربعة من الاربع الجهات ورواق فوق عين سلوام .

     ( 3 ) ” وكان مضطجعاً هناك جمهور كثير من المرضى من عميان وعرج ويابسي الاعضاء ينتظرون تحريك الماء ” ( 4 ) ” وكان ملاك الرب ينزل أحياناً في البركة ويُحرك الماء فالذي كان ينزل أولاً من بعد تمويج الماء كان يبرأ من كل مرض مسه ”

     الملاك المدلول عليه هو ميخائيل مدبر الشعب وان أردت معرفة السبب الذي لأجله يُعطى الشفاء قلتُ ان ماء البركة كان بعيداً عن الهيكل ويُغسل فيه الذبائح ومع ذلك كان مانح الشفاء فبأولى حجة الذبائح التي تُذبح في الهيكل وبالقرب من قدس الاقداس يجب أن تكون أقوى فعلاً وأدعى الى ان تهدي اليهود الى الشفاء والايمان بالله . وقيل احياناً لأن زمن تحريك الماء كان مجهولاً ولم يكن يتمّ في كل وقت ودبّرت ذلك عناية الله حتى لا يُقال ان الماء عينه حاوٍ لقوة الشفاء في ذاته ولذلك كان لتمويج المياه ضجّة وحركة يسمعها العميان اعينهم فمن يغتسل الاول ينل الشفاء . وقيل ان جسد النبي أشعيا كان مدفوناً هناك ثم كانت الذبائح حتى قبل سليمان تنظف في ذاك المكان فلما أتى هذا الملك بنى فوق البركة قبّة ومن حواليها أربع قباب أخرى ولو كان كل المغتسلين ينالون الشفاء لنسوا الله ولظنّوا ان ليس في الأمر كبير عجب ولكن انما شاء تعالى تأديبهم ووضعهم في حالة تذكّرهم انهم لعونه محتاجون

     ( 5 ) ” وكان هناك رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين سنةً ” ( 6 ) ” فلما نظر يسوع هذا مُلقى وعلم أن له زماناً كثيراً قال له أتحب أن تبرأ ” ( 7 ) ” فأجاب السقيم يا رب ليس لي انسان اذا تموّج الماء يُلقيني في البركة بل بينما اكون متقدماً ينزل قبلي آخر ”

     هذا السقيم غير المخلّع الذي ذكره متى وقد ألقى سيدنا سؤالاً عليه 1ً . ليعلن صبره على وجعه مدة الثمان والثلاثين سنة وفضيلته في انه لم ينله الضجر والتذمر – 2ً حتى لا يتهمه الناس بانه يفتخر بعمل المعجزات – 3ً . ليقرّبه بمخاطبته الى محبته والى الايمان به فهو له المجد كالطبيب يشوّق المريض الى الشفاء حتى يسمع منه ويتبع ما يأمره فيشفى والسيد شفاه هنا بكلمة واحدة – 4ً حتى يعرف الحاضرون قوّة السيد ويقرّوا بأنه الخالق العظيم . ولاحظ في جواب العليل انه لم يكن . يعرف مَن مخاطبه وانه لم يظهر قلّة صبر على حالته ولم يفكّر بان مكلّمه يستهزيء به ولكنه أجاب بسذاجة نعم أريد الشفاء

     ( 8 ) ” فقال له يسوع قم احمل سريرك وامشِ ” ( 9 ) ” فللوقت برئ الرجل وحمل سريره مشى وكان ذلك سبتاً ” ( 10 ) ” فقال اليهود للذي شُفي انه سبت فلا يحل لك أن تحمل سريرك ”

      ان السقيم المذكور في متى كان لهُ مَن يحمله اما هذا فلم يكن له أحد وقد كشف عن أفكاره للسيد الذي أمره بالقيام ليتحقق المعجزة ولئلا يظن ان شفاءه خيالي . ومن الواضح ان الذي قال للنور كن فكان هو عينه يقول للسقيم قُمْ فيقوم ولما كان اليهود واقفين بالمرصاد لسيدنا فقد هاجوا على المتعافى الحامل سريره وعدّوا عمله وعمل شفائه تجديفاً ومخالفةً للناموس وكان الواجب عليهم ان يمجّدوا واهب الشفاء ويعظموه وما أرذلهم فانهم لم يلوموا معمودية سلوام التي كانت تشفي باعجوبة يوم السبت لكنهم يلومون المسيح ويشكونه كمعتدٍ على شريعة موسى

     ( 11 ) ” فأجابهم ان الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامشِ ” ( 12 ) ” فسألوه مَن الرجل الذي قال لك احمل سريرك وامشِ ” ( 13 ) ” وكان الذي شُفي لا يعلم مَن هو لأن يسوع كان قد اعتزل عن الجمع الذي في ذلك المكان ”

     السقيم يعلن شفاءه ويمدح المحسن اليه مع انه يظهر له حسد سائليه وعدم اهتمامهم بالسبت . وان مبداءه أن يطيع من أولاه الخير العظيم ويسمع كلامه ولو انه لا يعرف اسمه . وكان السيد قد اعتزل لا بسبب خوفه من أعدائه لكن ليشهد غيره لأعماله المجيدة في غيابه ولئلا يزيد النظر اليه غضباً على غضب . والعادة ان رؤية المحسود تثير عواطف الغضب في الحسود وأيضاً اعتزل لئلا يتهمه أحد بحبه المجد الباطل

     ( 14 ) ” وبعد هذا وجده يسوع في الهيكل فقال له ها انك قد عوُفيت فلا تخطأ بعد لئلا يصيبك أعظم ” ( 15 ) ” فذهب ذلك الرجل وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه ”          ( 16 ) ” ولهذا كان اليهود يضطهدون يسوع لأنه صنع هذا في السبت ”

     بعد ان نال السقيم الشفاء هجر الولائم والشوارع وجدّ في ممارسة الفضيلة وفي التردّد المتكاثر الى الهيكل حيث لقيه سيدنا مرة فأفهمه انه كان عالماً بسبب مرضه الناتج عن الخطية وانه عارف أيضاً بما سيحصل له ونهاه عن المعصية التي كانت في الماضي علة تخلّعه وتساءل موسى ابن الحجر : ما كانت خطيئته ؟ فأجاب : لا علم لنا لأن العلماء لم يرووا لنا شيئاً من ذلك في كتاباتهم ولا يليق بنا أن نخترع ونقول غيرالصحيح الّا ان أحد الشرّاح المشرقيين قال : ارتكب السقيم الاثم مع امرأة ميتة لذلك وبخه المسيح وحذره من الرجوع الى الخطية في المستقبل واننا نردّ هذا القول لأن وجوده في الهيكل يدلّ على عفته . وأيضاً الذهبي الفم مدح الرجل بعد شفائه لأنه أذاع أن يسوع أبرأه . وقال موسى الموصلي انه بنية سليمة تقوية كان يشهر ان المسيح أبرأه وما أراد أن يخفي الآية . ولما كان ايمانه قوياً شاء أن يجذب اليهود الى اعتقاده لكن الأخبار متناقضة عنه فمن قائلٍ : انه عندما رأى أعداء يسوع قد أخذ الحنق منهم مأخذه لحلّ شريعة السبت اتفق معهم على المحسن اليه وعرّفهم اسمه . ومن قائلٍ انه هو الذي لطم يسوع على خدّه ولهذا السبب حذّره يسوع من الخطية . ولما سقط بالاثم عند لطمه المخلص يبست رجلاه وكانت من قبل مخلعتين وأصابه العمى . والله أعلم بالصواب في كل هذه . وفي المعنى الروحي ان المخلع ممثل لجنسنا الساقط في الخطية وان السرير هو لذة الحياة التي شُغف بها طبعنا الانساني . وان الثمان والثلاثين سنة هي الزمن الطويل الذي بقينا فيه في حالة الاثم ودنسه . فالسيد أتى وبكلمة نجّانا وشفى أوجاع نفسنا . واعلم ان الماء لا يخلّص من الاثم بذاته بل بقوة الروح القدس الحالة فيه

( في ان يسوع يشارك الآب في العمل )

     ( 17 ) ” فأجابهم يسوع ان أبي حتى الآن يعمل وأنا أيضاً أعمل ” ( 18 ) ” فازداد اليهود لأجل هذا طلباً لقتله ليس لأنه كان ينقض السبت فقط بل أيضاً لأنه كان يقول ان الله أبوه مساوياً نفسه بالله . فأجاب يسوع وقال لهم ”

     أعنى بعمل الآب الشفاء الذي كان يحصل من العماد في البركة فان الآب يجريه بواسطة الملاك وفي أيام السبوت ولم يكن أحد يلومه أو يلوم الملاك فكأن سيدنا يقول ” الآب يحلّ السبت ولا يدينه أحد منكم وأيضاً أحله فلماذا تلوموني وأنا والآب واحد . واعلم ان الكلام على المسيح يكون عالياً مثاله : أنا والآب واحد وأبي يعمل وأنا أعمل . ومَن رآني رأى الأب . واما كلاماً وضيعاً مثاله : لا يستطيع الابن أن يعمل شيئاً من تلقاء نفسه . وأعطاه السلطان أن يحكم . وأبي الذي أرسلني هو أعظم مني ودُعي انساناً ورجلاً وعبداً واما يتوسط بين الارتفاع والانخفاض ومثاله ان يسوع المسيح هو مخلص . أما النساطرة فلا يطلقون على سيدنا الّا الأقوال الوضيعة ولذلك يسمونه ابن النعمة . والخلقيدونيين ينسبون الكلام الرفيع العالي الى لاهوته والعبارات الوضيعة الى الانسان المولود من مريم وبذلك يضعون فيه طبيعتين . أما نحن فننسب الكلام الشريف لطبيعة الله الكلمة . لا بما انه اله لكن بما انه صار انساناً والكلام الوضيع الى الكلمة أيضاً . وكثيرة هي الأسباب التي قيل لأجلها هذا النوع الثاني ” 1ً ” لاثبات تأنسه ” 2ً ” من أجل ضعف السامعين الذين يعجزون عن استماع الأمور العالية فقد اقتضى جذبهم لمعرفة الحق وللايمان به بواسطة عبارات وضيعة ” 3ً ” لتعليمنا التواضع ” 4ً ” لتبيين ان اقنوم السيد المسيح هو غير اقنوم الآب . وقدّرْ ما اشبه من الاسباب الأخرى . اما نسبة العبارات العالية فانما سببها واحد وهو ايضاح شان عظم طبيعته . ولو كانت كل أقوال السيد عالية لما قبلها اليهود ولو كانت كلها دالة على خضوع لما كانت تفيدنا شيئاً الّا انه لهُ المجد مزج النوعين معاً فصارت أقواله بغاية الاعتدال . وأيضاً يسوغ تأويل الآية : أبي يعمل حتى الآن بان نقول : انه يشرق شمسه على الاخيار والاشرار وينزل غيثه على الصالحين والفجّار ويجري الانهار والعيون وينبت الزروع والاشجار ويزينها بالاثمار ويقيت كل ذي جسد ويصوّر الاطفال في الارحام ويخلق لهم نفوساً ويميت ويحيي وأنا أيضاً قادر على أن أعمل مثله واعمل فعلاً . وقد منحتُ الشفاء يوم السبت لاني ابن الله والله . والناموس أنا وضعته عليكم انتم الخلائق فلا يسوغ لكم العمل يوم السبت اما لي فيسوغ . فبقوله أبي يعمل وأنا أعمل بين انه مساو للآب وان عملهما واحد . وكان اليهود يطلبون قتله لاسباب ثلاثة  1ً . لأجل نقضه السبت . 2ً . لقوله ان الله أبوه . 3ً . لقوله انه مساو لله . والعجب ان اليهود لا يفهمون ان كثيرين نالوا البرارة ولم يحفظوا سبتاً كنوح وابراهيم وغيرهما وان اناساً نقضوا السبت وما خطئوا بل هم بررة فايليا مشى أربعين يوماً وكان باراً ومتتيا حارب أربعين يوماً وانتصر ويشوع بن نون حلّ السبت بالقتال عندما أحاط سبعة أيام باريحا والكهنة يقرّبون الذبائح ويسرجون القناديل ويجرون الختانة في السبت . وانما سُنّ السبت للتذكر في الله وللترحم على العبيد والحيوانات والأجراء وكان سيدنا مزمعاً ان ينزل يوم السبت الى محل الموتى ليمنحهم الراحة فمن هذه كلها استنتج ان لا لوم على المسيح في عمله الخير ومنحه الشفاء أيام السبوت لا سيما وان الشعب كان يجتمع في تلك الآونة ويطلب تكريم اليوم المقدس بمعجزة . والآن نردّ على النساطرة قائلين : ان كان السيد يسمي نفسه ابن النعمة فما كان لليهود ان يطردوه وهم بنو النعمة أيضاً وكيف يثورون عليه لانه سمّى نفسه ابناً طبيعياً لله ولانه قال انه مساوٍ لله . وضعْ دائماً امام عينيك ان المسيح ولو انه ابن الآب بطبعه فقد صار انساناً بدون تغيير . ولا تقل : ان اليهود غلطوا في استنتاجهم من كلامه انه ابن الله حقاً منقادين الى عدم ادراك منهم . كلّا لم يغلطوا بل فهموا كلامه حق الفهم وهو اعلنهم بالصراحة انه ابن الله مساوٍ لله . وفي هذا المعنى قد فهموا كلامه لهُ المجد أحسن من النساطرة فايمان أولئك أحسن من ايمان هؤلاء

     ( 19 ) ” الحق الحق أقول لكم ان الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً الا ما يرى الآب يعمله ذاك فهذا يعمله الابن أيضاً على مثاله ”

     عدم المقدرة تكون على انواع متعددة  1ً . بمعنى المستحيل ومثاله : لا يقدر الله ان يكذب أو ان يكون شريراً – 2ً . بمعنى الضعيف كقولك ان دم الثيران لا يقدر أن يغفر الخطايا –    3ً كعدم اللياقة كما اذا قلت : لا يستطيع بنو العرس ان يصوموا والعريس معهم – 4ً . كعدم الارادة . مثاله : ما استطاع ان يعمل هناك آية بسبب عدم ايمانهم أي لم يرد – 5ً . بمعنى المستحيل طبعاً نحو لا يمكن ان يولد الانسان مرتين من احشاء والدته – 6ً . بمعنى الحاصل غالباً نحو لا يمكن ان تخفى مدينة مبنية على جبل وقد تخفى ان كان أمامها جبل آخر أرفع علواً – 7ً . بدل نقصان المقدرة أو عدم موافقة الزمان مثال الاول ان الطفل لا يقدر على حمل السلاح والمحاربة . ومثال الثاني لا يقدر الرجل في الوقت الواحد ان يحارب في مدينة ويدرس في مدينة أخرى . ولأي أحد هذه المعاني يلزم ارجاع عدم مقدرة الابن المذكورة في الآية ؟ فالجواب انه يتعين ارجاع عدم مقدرته الى النوع الأول بسبب المساواة بين الآب والابن في الطبيعة ومن ذلك ان أشعة الشمس لا تقوى على الاضاءة من نفسها أي انه يلزم اتحادها بالقرص الذي تصدر منه وليس المعنى انها لا تقدر أن تعطي نوراً . وأيضاً . لا يكون العقل بدون النفس ولا تكون النفس بدون العقل وكذا لا يكون الابن بدون الاب ولا يعمل الابن شيئاً مخالفاً للآب ولا الآب يخالف الابن لأن عمل الاثنين واحد اما اعتراض الهراطقة من ان الآية تدلّ على ضعف الابن فمردود لانه طهر البرص وأتى بالمعجزات الباهرة ووضع الشرائع بسلطان ذاته ومعنى كلامه : اني لا أعمل شيئاً من ذات نفسي في يوم السبت ولا أصنع العجائب الّا متبعاً ما يعمله الآب في يوم السبت عينه فمقدرتي هي مقدرته وعدم مقدرتي عدم مقدرته وارادتي وارادته واحد أيضاً . وأياك ان تستنتج ان سيدنا لا قوة لهُ على العمل باختياره وارادته . فان كان الناس اعينهم متحلّين بمثل هذه القوة التي تمكّنهم من ان يكونوا صالحين أو طالحين فبأولى حجة يكون ابن الله متحلياً بها ومسلّطاً على العمل . فاذن قوله : لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً ما لم يرَ الآب عامله دالٌ على وحدة الذات والفعل والقوة والارادة في الاقنومين . ولما كان الآب قادراً على كل شيء فان الابن يكون ضرورةً قادراً مثله على كل شيء . ثم الابن يعمل على مثال الآب أي انه كالآب يعتني بالمخلوقات وكما ان الآب خلقهم وغفر ذنوبهم وأقام الموتى وعمل يوم السبت فهو أيضاً عمل ويعمل مثله

     ( 20 ) ” لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما يعمل وسيريه أعظم من هذه الأعمال لتتعجبوا أنتم ”

     دليل سيدنا على انه لا يخالف الآب ولا الآب يخالفه ان الآب يحبه وبسبب هذه المحبة يريه كل ما يعمله وبالتالي قد شفى السقيم في السبت بارادته . وانما قال سيدنا ان الآب يطلعه على الخفيات والمستقبلات ليهدّي اليهود ويخلّصهم من جنونهم ويحملهم على ان يميلوا اليه ويسمعوا كلامه ولا يغضبوا عليه عند كل معجزة يأتيها لخيرهم وكانوا قد نالهم العجب لما منحت كلمة من فيه الشفاء والصحة فأفهمهم انهم سيزيدون تعجباً مما سيحدثه بسلطانه . وذلك تمّ بقيامته من بين الاموات وانتصاره على الموت وسيتمّ أيضاً بقيامة الناس العمومية وبالدينونة ومعاقبة الأشرار ومكافأة الابرار ومثل هذه الأعمال العظيمة يستبين امامها شفاء المخلّع شيئاً طفيفاً

( الابن يشارك الآب في اقامة الموتى ودينونتهم )

     ( 21 ) ” لأنه كما أن الآب يُقيم الموتى ويُحييهم كذلك الابن يحيي مَن يشاء ”            ( 22 ) ” لأن الآب لا يدين أحداً بل أعطى الحكم كله للابن ” ( 23 ) ” ليكرم الابن جميع الناس كما يكرمون الآب ومَن لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله ”

     انتبهْ جيداً الى ان الموتى الذين يقيمهم الابن لا يكونون غير الذين يقيمهم الآب الّا انه أراد زيادة تبيين لوحدة الآب والابن في العمل وللمساواة ما بينهما وتعليمنا ان الابن بقوة الآب عينها يبعث الموتى وأيضاً يحيي مَن يشاء بالسلطان الواحد مع الآب . وأيضاً اثباتاً للوحدة عينها ونفياً لكل مخالفة ما بينهما قال ان الاب أعطى الحكم كله للابن . وانما الآب أعطاه الحكم حتى يضطر الى الاعتراف به وبلاهوته الذين لا يريدون أن يؤمنوا به لخوفهم من انه وهو الديان الرهيب يدينهم دينونة هائلة . اذن الكرامة الواجبة للابن ان يؤمن به جميع الناس ويقروا بانه اله طبعاً ومساوٍ للآب بالذات بدليل ان كرامته يلزمها ان تكون مساوية بكرامة الآب عينه وبالتالي يصدق القول ان مَن لا يكرم الابن يكون بالفعل عينه غير مكرّم للآب . وهنا نحكم على اليهود والاريوسيين بانهم على ضلال مبين لانهم ينقصون اكرام الابن ويضعونه في غير درجة اكرام الآب ويريدون ان يفسروا الآيات الحاضرة تفسيرهم لما قاله السيد عندما أرسل رسله وقال لهم من قبلكم يقبلني . ولكن غفلوا على ان الرسل خدم السيد وتلاميذه ومهما كان الاكرام الموجّه اليهم فلا يمكنه ان يساوي الاكرام الذي يتعين توجيهه للابن وهل يتساوى المخدوم والخادم والملك وعبده . فالآيات مختلفات جداً فاعلم ذلك حرسك الله من كل ذهول عن محجة الهدى

     ( 24 ) ” الحق الحق اقول لكم ان مَن يسمع كلامي ويؤمن بمن أرسلني له الحياة الأبدية ولا يصير الى دينونة لكنه قد انتقل من الموت الى الحياة ”

     كرّر كلمة الحق دلالةً على ان القول صدق لا غشّ فيه واثباتاً له بما يمكن من الاثبات . اما الايمان بمرسل المسيح فهو الاعتقاد بأن الآب اله طبعاً وبالتالي الاعتقاد أيضاً بأن ابنه اله طبعاً مثله لأن الأمرين يتعلق أحدهما ضرورةً بالاخر . وما الحكمة من هذا الاعتقاد ؟ الحكمة منه انه يَهَبُ النعيم الأبدي وصاحبه لا يُعذّب ولا يُدان دينونة جهنم بل ينتقل من الموت الذي هو الافتراق عن الله أو العذاب الموقت في هذه الدنيا الى النعيم الدائم غير الفاني : واعلم ان قوله بمن أرسلني . مظهر انه مولود أزلياً من الآب وان أمره مسلم للآب أيضاً وانه اقنوم غير اقنوم الآب وبذلك يجب أن يسدّ فم سيليبلّوس المجدّف على الله بانه اقنوم واحد لا غير وأفواه المثلثين الواضعين ثلاث علل وثلاثة آلهة بل ان الأقانيم الثلاثة أي الآب والابن والروح القدس علة واحدة واله واحد . وهذا هو الاعتقاد الحق

     ( 25 ) ” الحق الحق أقول لكم انها تأتي ساعة وهي الان حاضرة يسمع فيها الأموات صوت ابن الله والذين يسمعون يحيون ”

     هل رأيت أعظم من هذا السلطان الذي تظهر مفاعيله في القيامة وهو ان الصوت المسموع الصادر من ابن الله يقيم الموتى . ولا تحسب مثل هذا القول كلاماً فارغاً أو حاوياً لافتخار باطل . فان قائله لهُ المجد يقول ان ساعة تحقيقه حاضرة لا مستقبلة فلا يمكن ان يدخل عليك الشك والارتياب . وان سألت متى تحقق ؟ قلتُ في قيامة لعازر وكأن سيدنا قال : يتمّ تحقيقه وأنا متردّد بينكم لاني أنادي الموتى وأنا قائم بين جمعكم فيقوم مَن اناديهم وأيضاً الأزمنة كلها واحد في عيني الرب ولا يصعب عليه أن يقيم الموتى متى يشاء ويريد فان قدرته هي اليوم كما كانت من قبل وتكون هي عينها بعد ربوات من السنين والى الأبد

     ( 26 ) ” لأنه كما أن الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته ”

     للحياة معنيان الأول حيات اللاهوت والثاني حياة المخلوق الصادرة بالابداع عن الخالق . فالابن أخذ الحياة الأولى التي هي غير مخلوقة لأننا نعترف به بانه مولود غير مخلوق وهذه عينها هي حياة الآب التي هي له في ذاته ومن ذاته . فالحياتان في الحقيقة واحد لا أكثر ولو خالفنا تباع أريوس ونسطور في هذا المعتقد . ولفظة كما تدلّ على المساواة التامة في امتلاك هذه الحياة أما الآب فانه يمتلكها من ذاته فليس وجوده من آخر بل انما هو الوجود وعلته وأقنومه هو رأس وبداية غيره أما الابن فلأنه مولود فقد قيل عنه انه أخذ الحياة أو ان الأب أعطاه الحياة وليس انه أعطاه الحياة بل جعل أن تكون هذه الحياة له في ذاته وبعبارة أخرى الابن أقنوم مميز عن اقنوم الآب ولو انه تجسّد فقد بقي واحداً ولم يصر اثنين كما جدّف النساطرة . وهل ولادته من الآب تحمل معها نقصاً . كلّا . ولهذا المعنى قال انه يأتي ليدين وانه مثل الآب يكرّم من يشاء . وكل الاختلاف بيننا وبين الهراطقة في تأويل كلمة أعطى . فان وضعتها في المخلوقين دلّت على نقصان في المعطى لهُ كما اذا أعطى ملاك ملاكاً آخر شيئاً أي أفاده علماً أو كما يعطي الاب ابنه طبيعته أي يفيده امتلاكها أو كما يهب سيد عبده عطيّة اما ان قلتها عن الأقانيم الثلاثة فلا تعني نقصاناً ما فالآب أعطى ابنه الحياة أي ولده في الأزل وأعطى الابُ الحياةَ الروحَ القدس أي انبثق منه في الأزل . والثلاثة متساوون بالعظمة والحياة . فافقهْ هذا تكنْ على هدى وصواب

     ( 27 ) ” وأعطاه سلطاناً أن يُجري الحكم بما أنه ابن البشر ”

     ليس للآب والابن حياة واحدة بعينها بل السلطان الواحد أيضاً ولم يلد الآب ابنه ولادة أزلية فقط بل في هذه الولادة عينها ولده ديّاناً أيضاً أي ذا سلطان ليخلق ويحكم ولما تأنّس الابن لم يتغير بل بقي لهُ هذا السلطان واستخدمه ولو انه صار انساناً . وكان اليهود يرونه انساناً مثلهم ومن شعبهم ثم اذا ما سمعوا كلامه وتعاليمه يرونها تعاليم الهٍ وهم يعجزون عن ان يوفقّوا بين الرؤية الحسية والسماع الذهني فيسطوا عليهم الشك فشاءَ لهُ المجد ازاحة ارتيابهم وكأن معنى كلامه : تروني انساناً وعقلكم يخبركم بأن قولي دالّ على انه اله . وانا اؤيد قولي بالأعمال والعجائب التي تحقق ما يحملكم عليه عقلكم أي اني اله حقاً

     ( 28 ) ” ولا تتعجبوا من هذا لأنها تأتي ساعة يسمع فيها جميع مَن في القبور صوت ابن الله ” فيخرج الذين عملوا الصالحات الى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات الى قيامة الدينونة ”

     نصّ الآية معلن ان سيدنا يتكلم على قيامة البشر العمومية وانما غايته في كلامه نفي شبهة من قلوبهم وهي ان الايمان به كافٍ للخلاص . كلّا ليس بكاف بل الحياة الخالدة انما تكون نصيب المؤمن الذي يزاول الأعمال الصالحة وهذا ما أعلنه يعقوب بقوله : الايمان بلا أعمال ميت . ومَن لا يعمل الصلاح يخرج الى قيامة الدينونة أي الى عذاب لا انتهاء له . والآن نوجّه خطابنا الى اليهود ونقول : ظهر الله في بهاء امجاده لموسى ولأشعيا وخاطبهما بكلام سام يذهل العقول ثم أتى بالمعجزات الباهرة والآيات العظيمة . وهكذا قوي آباؤكم على ثلاثة أشياء أولاً على رؤية الله بصور عجيبة رهيبة ثانياً على سماع كلامه ووصاياه ثالثاً على ما هو أعظم من الكلام أي على مشاهدة أعماله ولهذه المعاني آمنتم بالله حسن ايمانه وما كذّبتم كلامه ولا معجزاته لأنه مكّنكم من رؤيته . كذلك السيد المسيح ترآءى كانسان وأتى بأبدع الكلام وأبهر الآيات فلماذا تكذّبون بكلامه وعجائبه لأنكم رأيتموه . وان قلتم ان الانبياء عملوا المعجزات . فاعلموا انهم عملوها بالصلاة وامر الله اما المسيح فقد عملها بسلطان ذاته وبقوته .

     ( 30 ) ” لا أستطيع أنا أن أعمل من نفسي شيئاً . كما أسمع أحكم وحُكمي عادل لأني لست أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني ”

     لا يحتاج يسوع الى سماع تعليم الّا انه أراد بهذا الكلام اثبات حقيقة الدينونة فهو يحكم بارادة الآب وبالقضاء والحكم الذي يستخدمه مع الناس تبعاً لأرادة أبيه يكون حكمه مقروناً ضرورةً بالاستقامة والعدل . ومشيئته هي مشيئة الأب والاثنتان واحدة كما انه والاب واحد . ولو كان للابن مشيئة مخالفة لما للاب لعددناه غير مستوجب ان يُبشر باسمه . وانما اعلن وحدة المشيئتين لأجل شفاء اليهود من مرض قلوبهم ولازاحة الشكوك التي تسود عليهم في حقيقة ما قاله من انه سيقيم الموتى وسيدين وما أشبه

( الشهادات التي يشهد بها ليسوع )

     ( 31 ) ” وان كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي حقاً ” ( 32 ) ” انما الذي يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهد لي بها هي حق ”

     لأي الأسباب شهد السيد لنفسه في مواقع أخرى ؟ الجواب . لا بدّ من ان نعرف ما الأزمنة التي تكلم فيها سيدنا عن نفسه فاذ ذاك يمكنا الدلالة على غرضه أما هنا فقد غضب اليهود عليه لمنحه الشفاء مخلّعاً في السبت ولتعظيمه نفسه بالكلام السامي كقوله اقيم الموتى ومن يسمع كلامي ينل حياة الأبد وقد انتقل من الموت الى الحياة . وكأنهم أرادوا أن يعيروه أو يعيروه بالفعل على انه انما يقول العظائم عن ذاته . وكان مطلعاً على خفايا افكارهم وهو الاله العارف بكل شئ فشاء أن يسبق اعتراضهم فقال ما قال ثم استشهد بالآب وبيوحنا وبالمعجزات التي يجترحها وأول قدّمه هو أبوه الذي يلمح اليه بكلمة آخر بمقتضى ما رآه قوم أما نحن فاننا نعتقد ان كلمة آخر تدل على يوحنا كما يتبين ذلك من الآيات التابعة .

     ( 33 ) ” أنتم أرسلتم الى يوحنا فشهد للحق ” ( 34 ) ” وأما أنا فلا أقبل شهادةً من انسان ولكنني أقول لكم هذا لتخلصوا أنتم ” ( 35 ) ” ذاك كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أحببتم أن تبتهجوا بنوره ساعةً ”

     يوحنا اذن هو الشاهد الأول وشهد للحق الذي هو يسوع وقد أرسل اليه اليهود طالبين شهادته لأنه كان عظيماً في أعينهم ويعلمونه لا يرائي وان نظرت الى شهادة يوحنا وبحثت عنها وجدت انها من الله لا من انسان لأن يوحنا عندما أرسله الآب أعلمه ان الذي ينظر الروح نازلاً عليه فهو المسيح لذلك قال سيدنا ان الشهادة ليست من انسان . وأفهم مخاطبيه انه انما يذكر ما قاله يوحنا عنه لا لاحتياجه الى يوحنا بل لأنه مخلوط المنزلة امام اليهود فكلامه في شهادته يكون صدقاً وبالتالي حاملاً على أن يطلبوا الأيمان والحياة باتباع المسيح وما أحنّ المخلص وأحكمه في استخدامه كل الطرق لهداية الناس الى الخلاص . ثم اثنى على المعمدان بما يستحقه فسماه سراجاً وقد اقتبس ضوءَه البهي من شمس البرارة أي السيد المسيح ثم قال ما معناه : أرسلتم اليه مفتخرين بمعارفكم وحالتكم وأردتم أن يعلن نفسه المسيح الموعود به أما هو فأعلن نفسه مَن كان أي صوت صارخ في البرية وسراجاً ينير أمام سيده المخلص العظيم فتحول افتخاركم عاراً وسخرية

     ( 36 ) ” وأما أنا فلي شهادة أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال التي أعطى لي الآب أن أتممها هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي بأن الآب قد أرسلني ”                 ( 37 ) ” والآب الذي أرسلني هو شهد لي وأنتم لم تسمعوا صوته قط ولا رأيتم صورته ”   ( 38 ) ” وكلمته ليست ثابتة فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسله ”

     العجائب هس الشهادة الثانية وقد كانت تجذب اليهود الى الأيمان بالمسيح اكثر مما فعلته شهادة يوحنا لكنهم أبوا الانقياد اليها مع انها كان السيد يعملها بسلطان الآب عينه . الشهادة الثالثة هي الأب الذي أرسل ابنه وشهد له على نهر الأردنّ بقوله : هذا ابني الذي به سررت . لكنهم لم يريدوا ان يسمعوا صوته سماع قبول وكذلك موسى كلم الله والشعب لم يسمع صوته. وانما نسب يسوع صوتاً الى الاب ليقوي مخاطبوه على فهم عبارته ويجذبهم الى علم أفضل لكن الله لا صوتَ لهُ ولا شكل يدرك بالحواس بل هو أعلى وأسمى من كل الأشكال والنغمات والأصوات : ويا للعجب ان اليهود رفضوا هذه الشهادات ولم يصدقوا كلام يسوع وانما وقع لهم ذلك بتخلي الرب عنهم وهم الآثمون غير المطيعين وغير العاملين بناموس موسى فما كان شئ يؤهلهم الى الايمان بيسوع

     ( 39 ) ” أنتم تبحثون في الكتب لأنكم تحسبون أن لكم فيها الحياة الأبدية فهي التي تشهد لي ” ( 40 ) ” وأنتم لا تريدون أن تقبلوا اليّ لتكون لكم الحياة ”

     ان له المجد يرسلهم الى الكتب الى الكلام الذي ألقي في جبل سينا الى الأنبياء الذين أوضحوا من هو . الى الناموس الذي هو ظلّ شريعة الانجيل . والناموس برجاله يشبه رجلاً نحوياً ان عرف شيئاً من الكلام وتركيبه فهو لا يعرف الحكمة وأسباب الأشياء أما الانجيل برجاله فيشبه فيلسوفاً ماهراً ذا علم واسع لا آخر له . وأيضاً الناموس مثل الرسم والصورة والخطوط اما الانجيل فهو الحقيقة الكاملة . ومعنى قول مخلصنا : فتشوا في الكتب وتأملوا فيها وقد تكلمتْ عني بالصراحة وشَهدت لي شهادة باهرة لكنكم لا تريدون الاقبال اليّ . الّا انه تعلمون منها اني لا أتكلم منقاداً للباطل . ثم ان القصد من تفتيشكم نيل الخلاص فالخلاص فيّ وأنتم ترفضونه

     ( 41 ) ” اني لا أقبل المجد من الناس ” ( 42 ) ” لكنني قد عرفتكم ان ليس فيكم محبة الله ” ( 43 ) ” أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني وان أتاكم آخر باسم نفسه تقبلونه ”            ( 44 ) ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وانتم تقبلون المجد بعضكم من بعض ولا تبتغون المجد الذي من عند الله وحده ”

     لا أقبل مجد الناس لأن طبيعتي غير محتاجة الى مجدكم على شبه الشمس التي تقبل ضوءها من سراج ضئيل . وبعد ان رفضتم الايمان رغماً عن شهادة يوحنا ومعجزاتي وآيات الكتب فاني انسب رفضكم الى رداءة قلوبكم وأوبخكم على خبثكم فانتم قد حرمتم أنفسكم محبة الله التي لا تستقرّ فيكم . والغريب فيكم اني مرسل من الاب وترفضوني ولو أتاكم مسيح كذّاب باسم نفسه وادّعى انه الله وهو الضالّ المضلّ فلا تتأخرون عن قبوله والواجب ان تطردوه . لكن من كان مثلكم بعيداً عن الله ويتظاهر مرائياً انه خائف منه ويعمل الشرور الفظيعة ويطلب مدحة الناس ويفضلها على مدحة الله فلا يقدر ان يؤمن لانه متصلب في معصيته

     ( 45 ) ” لا تظنوا أني أشكوكم عند الآب لان لكم مَن يشكوكم موسى الذي فيه رجاؤكم ” ( 46 ) ” فلو كنتم تؤمنون بموسى لكنتم تؤمنون بي لانه كتب عني ” ( 47 ) ” فان كنتم لا تؤمنون بكتبه فكيف تؤمنون بأقوالي ”

     موسى الذي ما حفظوا أوامره ولم يؤمنوا بعجائبه بل واصلوا التذّمر عليه في البرية هو الذي يشهد على رداءتهم . ولو كانوا صدقوا كلامه وكلام سائر الانبياء لما تمهلوا عن قبول المسيح والايمان به وبعجائبه . ومشهور كلام موسى في المسيح ونصّه : سيقيم لكم الرب نبياً من اخوتكم فله اسمعوا . وبناءً عليه فلأنهم لا يؤمنون بكتب موسى فلا يقدرون على الايمان بكلام المسيح ويشبه الأمر ما يعمله ملك من ارساله صورته ورسله الى الشعب . فان قبل الشعب الصورة والرسل اعلن بذلك قبوله الملك وان احتقرهما ورذلهما كان فعله علامة بيّنة على رفضه

 

 

 

 

 

( الاصحاح السادس )

( في تكثير يسوع خمس الخبزات والسمكتين )

     ( 1 ) ” بعد ذلك انطلق يسوع الى عبر الجليل وهو بحر طبرية ” ( 2 ) ” وتبعه جمع كثير لانهم كانوا يعاينون الآيات التي يصنعها في المرضى ” ( 3 ) ” فصعد يسوع الى الجبل وجلس هناك مع تلاميذه ” ( 4 ) ” وكان الفصح عيد اليهود قد قرب ”

     ترك يسوع أورشليم وذهب الى الجليل ليهديء غضب حاسديه من أجل شفاء السقيم ولكن تبعته الجماهير بسبب عجائبه مع ان الواجب اتباعه بسبب تعاليمه الخلاصية وقد أشار الانجيلي بكلمة عمومية الى كل آيات مخلصنا من دون تفضيل لأن غرضه انما هو الكشف عن التعاليم . وكان لهُ المجد لا يحبّ الضجّة والاضطراب بل يميل الى الاقامة بالأماكن الهادئة طلباً للصلاة ولمناجاة الله ولتعليمنا ذلك ولهذا المعنى قيل انه صعد الى الجبل

     ( 5 ) ” فرفع يسوع عينيه فرأى جمعاً كثيراً مقبلاً اليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء ” ( 6 ) ” وانما قال هذا ليجربه لعلمه بما سيصنع ” ( 7 ) ” فأجابه فيلبس انه لا يكفيهم خبز بمئتي دينار حتى ينال كل واحد منهم شيئاً يسيراً ”

     عمل سيدنا مرتين آية الخبز ففي الاولى التلاميذ أنفسهم خاطبوا يسوع من أجل الجمع وفي الثانية هو الذي خاطبهم . ثم في رواية الانجيليين لم يتكلم لهُ المجد مع فيلبس وحده بل مع كل التلاميذ ولحلّ هذا الاعتراض قُلْ ان الانجيليين ما أرادوا تعيين تلميذ مخصوص بل قالوا : التلاميذ بوجه الاجمال . أو ان الآية وقعت مرتين ولماذا اذَنْ وجّه السؤال الى فيلبس ؟ أجيب لأنه كان محتاجاً الى التعلّم أكثر من غيره وهو الذي قال يا معلّم أرِنا الاب وحسبنا . فسيدنا أوضح لهُ أولاً عوز الناس الحضور الى خبز كثير حتى لا ينسى المعجزة بعد وقوعها بل يبقى ذكرها راسخ في قلبه . وقد كان لهُ المجد عالماً حق العلم بجواب تلميذه فجرّبه أي اختبره ليذكر التلميذ ذكراً جيداً كل ظروف الواقع وليقول له ما قاله : انه لا يكفيهم خبز بمائتي دينار فهو نفسه يقرّ بما في الآية الآتي وقوعها من الأمر الخارق المألوف الدالّ على سلطان وحنان .

     ( 8 ) ” فقال له واحد من تلاميذه وهو اندراوس أخو سمعان بطرس ” ( 9 ) ” ان ههنا غلاماً معه خمسة أرغفة من الشعير وسمكتان ولكن ما هذه لهذا العدد من الناس ”

     ان جواب اندراوس يظهره أفضل من فيلبس ولو انه لا يستدلّ منه بلوغه قمّة الكمال . وكأن هذا التلميذ فكّر بما صنعه أليشع الذي أشبع ألوفاً من خبز قليل ولذلك ذكر الخمسة أرغفة والسمكتين . وقوله : ما هذه لهذا العدد بَيّنَ عدم كفاية الموجود للمطلوب وانتبه الى أمرين الأول ان سيدنا وتلاميذه كانوا يأكلون أيضاً من خبز الشعير . الثاني ان السيد عمل آيته من مادّة سابقة لا كما عمل بعد القيامة عندما خلق الخبز والسمك والجمر على شط بحرية طبرية فهنا كثر الخبز الطبيعي وأخضع لسلطانه القاهر خليقته فسوّى منها ما أراد خلافاً لكذب تباع مرقيان

     ( 10 ) ” فقال يسوع مُروا الناس بأن يتكئوا . وكان في الموضع عشب كثير فاتكأ الرجال وكان عددهم نحو خمسة آلاف ” ( 11 ) ” وأخذ يسوع الارغفة وشكر وقسم على المتكئين وكذلك السمكتين على قدر ما شاءوا ”

     بعد ان انقطع رجاء التلاميذ من اطعام الشعب اجترح يسوع الآية ليبين لهم انه قادر على كل شيء وقبل أن ينظروا الأرغفة أمرهم باتكاء الجموع أمر خالق ذي عناية بخلائقه على العشب الكثير اللائق أن يكون موضع أكل فسمع التلاميذ والجمع كلامه وآمنوا أن سيكون لهم طعام والا لما جلسوا . ثم ان سيدنا شكر أو بارك . قال الذهبي الفم : أي صلّى ولم يصلّ عند صنعه المعجزات الا في هذا الموضع لتعليمنا أن نصلي ونشكر الله نعمته عندما نأكل الخبز . ولماذا صلّى في هذه الآية الصغيرة مع انه لم يصلّ في اجرائه المعجزات الأخرى ؟ اعلم انه أراد أن يعلن انه صلى بسلطان نفسه ولو كان محتاجاً للصلاة لصلّى في سائر المعجزات الكبيرة ثم انه صلّى ليعلم الشعب أمامه انه لا يخالف الله الآب . وما صلى له المجد الا مرتين هنا وعند قيامة لعازر . وتسأل قائلاً ان الخبز والسمك تكاثرا ولكن كيف تمّ ذلك ؟ أجيب : لا علم لنا لا سيما وان خاصة الأعجوبة أن يتعذر ادراكها . ويمكن القول انه كثر بقوته الخبزات كما استلّ ضلعاً من آدم وكبره وكثره وكما كثر المنّ في سلّة مَن كان يلتقط منه القليل بل كان يكثر الأكل على الموائد وفي فم الآكلين

     ( 12 ) ” فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا ما فضل من الكسر لئلا يضيع شيء منها ”    ( 13 ) ” فجمعوا فملأوا اثنتي عشره قفة من الكسر التي فضلت عن الآكلين من خمسة أرغفة الشعير ” ( 14 ) ” فلما عاين الناس الآية التي عملها يسوع قالوا في الحقيقة هذا هو النبي الآتي الى العالم ” ( 15 ) ” واذا علم يسوع انهم مُزمعون أن يأتوا ويختطفوه ويقيموه ملكاً انصرف الى الجبل وحده ”

     أمر بجمع الكسر حتى لا يظن أحد الأعجوبة خيالاً ثم شاء أن تبقى فضلات كثيرة لا للافتخار الباطل بل ليعرفه الناس انه رب الأنبياء . هؤلاء كانوا يكثرون الطعام بالقدر الكافي للمحتاجين أما المسيح فبالقدر الغزير الفائض وأيضاً جمع التلاميذ أنفسهم الكسر لترسخ المعجزة فيهم وهم مزمعون أن يكرزوا بها في العالم وانهم جمعوا اثنتي عشرة قفة بعدد الاثني عشر تلميذاً . والقفة هي أكبر من الزنبيل . وانظر الى سرور الشعب بعد ان ملأ البطون فانه سمّى السيد نبياً وكان لهُ المجد قد عمل آيات كثيرة امامه فما أعلنه النبيّ المنتظر ثم أراد اقامته ملكاً ليطلب منه القوت كما كان لأبائه في البرية اما سيدنا فانصرف الى الجبل ليعلمنا ان نرذل العالم وامجاده ونجتهد في ربح الآخرة

( في مشي يسوع على البحر )

     ( 16 ) ” ولما كان المساء نزل تلاميذه الى البحر ” ( 17 ) ” وركبوا السفينة عابرين في البحر الى كفر ناحوم وكان ظلام ولم يكن يسوع قد جاء اليهم ” ( 18 ) ” وكان البحر هائجاً بهبوب ريح شديدة ” ( 19 ) ” فلما جذفوا نحو خمس وعشرين غلوةً أو ثلاثين رأوا يسوع ماشياً على البحر وقد اقترب الى السفينة فخافوا ”

     قال القديس يوحنا : لما صار المساء ونظر التلاميذ ان يسوع لم يأتِ ظنّوه مضى الى كفر ناحوم وظنوا انهم يجدونه اما في هذه البلدة أو في الطريق وربما يكون قد أمرهم بالجلوس في السفينة وبالسير في البحر وان لم يكتب الانجيلي مثل هذا الأمر . ويكون سبب ذلك انهم نسوا حالاً آية الخبز فشاءَ أن تعصف عليهم الريح وتلطمهم الامواج ليأتي اليهم ماشياً وينجيهم فيقرنون اذ ذاك الآيتين معاً وتغرسان في ضمائرهم فاذن هبوب الريح ثم ارتفاع الامواج عليهم كانا بأمره وأحدثهما بعد ان ابتعدوا عن ساحل البحر خمس وعشرين غلوة أو ثلاثين والغلوة هي طول الفدّان . ثم ليأخذك العجب من سير جسد الانسان على سطح البحر الّا انه لم يكن البحر حاملاً سيدنا بل سيدنا هو حامل البحار والعالم كله . وميز بين هذه الآية وتلك التي رواها متى ففي هذه صرخ سمعان قائلاً ائذن لي ان آتي اليك اما في تلك فلم يقل شيئاً وأيضاً في الثانية قيل انه صعد السفينة اما في الاولى فلا شيء من ذلك . ثم متى أوصلهم الى ارض جنّاشر وروى ان الاضطراب كان شديداً بالغاً آخر حدود الشدة اما في يوحنا فلا ذكرَ لمثل هذين الظرفين

     ( 20 ) ” فقال لهم أنا هو لا تخافوا ” ( 21 ) ” فأحبوا أن يأخذوه في السفينة وللوقت وصلت السفينة الى الارض التي كانوا منطلقين اليها ”

     لما رأى التلاميذ شدة اضطراب البحر وظلام الليل ورجلاً ماشياً على البحر يدنو منهم نالتهم الرعبة فاقتضى الأمر ازالة خوفهم فقال ما تأويله : أنا معكم وابن الله ورب البرّ والبحر. ولم يرد ان يصعد الى السفينة لتكبر قوة الاعجوبة ويعظم في أعينهم شأن لاهوته الّا ان الاضطراب تلاشى وأوصلهم بدون مهلة الى اليبس فتكون في الآية عجائب اربع 1ً . اثار عليهم اضطراباً فهيّج البحر والريح – 2ً . سار على المياه 3ً . أسكت اضطراب الامواج –   4ً . أوصل السفينة حالاً الى اليبس في كفر ناحوم

( في خطاب يسوع عن الايمان به وعن سرّ القربان )

     ( 22 ) ” وفي الغد رأى الجمع الواقف عند عبر البحر ان لم يكن هناك الا سفينة واحدة وان يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه لكن تلاميذه مضوا وحدهم ” ( 23 ) ” على أنها جاءت سفن أخر من طبرية الى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز حيث شكر الرب ”         ( 24 ) ” فلما رأت الجماعة أن يسوع ليس هناك هو ولا تلاميذه ركبوا تلك السفن وأتوا الى كفر ناحوم يطلبون يسوع ” ( 25 ) ” فلما وجدوه في عبر البحر قالوا له يا معلم متى صرت الى ههنا ”

     في اليوم الذي سار فيه التلاميذ الى كفر ناحوم رأى الجمع الذي شبع خبزاً وسمكاً ان يسوع صعد الى الجبل ولم يذهب مع تلاميذه والشعب عينه فتش في السفن الآتية من طبرية عن المخلص فلم يجده فقصد كفر ناحوم والتقى به في عبر البحر فأخذه الانذهال وقال ما معناه : يا معلم لم تجلس في السفينة مع التلاميذ ولا في سائر السفن الراسية . ولم نرَ سفينة أخرى فما أتى بك الى هنا . اذن جئت ماشياً على المياه فكيف كان ذلك

     ( 26 ) ” أجابهم يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لكم انكم لم تطلبوني لانكم عاينتم الآيات بل لانكم أكلتم الخبز وشبعتم ” ( 27 ) ” اعملوا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن البشر لان هذا قد ختمه الآب الله ”

     لا تنفع وداعة المعلم في كل حين بل لا بدّ أن يثير من مدة الى أخرى في نفوس تلاميذه عواطف الاجتهاد ببعض كلام الزجر وهذا ما أجراه سيدنا مع مخاطبيه فأفهمهم انه لا يطلب اكرام الناس بل انما يريد تقويم المعوج فيهم وخلاص نفوسهم وقال : لم تؤمنوا بسبب العجائب ولم تأتوا اليّ الّا لاعدّ لكم مأكلاً ولتملأوا بطونكم اعملوا لا للطعام الجسدي بل للطعام الروحي وللتعليم الذي يقيت النفس . وقد سمى الأيمان مأكلاً باقياً الى الأبد بدليل انه قال : هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بمن أرسله ومَن يؤمن بي فله الحياة الأبدية ولا تظن أن سيدنا رذل الأعمال الصالحة أو لم يقتضِها مع الأيمان . كلا بل انما كان قصده تجريد الآتين اليه من المادي لحملهم على الروحي أي الأيمان به وبتعليمه أما ضرورة الأعمال فنستنتجها من آيات أخرى ولا سيما من وصف سيدنا للدينونة وذكره هناك الأعمال وما يدين به مَن أهملوها . أما مَن يعطي المأكل الروحي . فالجواب هو يسوع الذي يدعو نفسه ابن البشر ومختوماً من الآب ومعنى ذلك . الآب شهد وبين ان هذا الانسان الذي ترونه أمامكم هو الله . ثم ان يسوع كشف عن ذاته انه الله بواسطة آياته فان سيدنا عرف أفكار هؤلاء الناس مريديه فوبخهم على حماقتهم . ومرجع كلامه الى هذا : تريدون ان تعملوا ملكاً مَن شهد الآب في الاردن عنه انه ملك والله ومَن يظهره الآن لكم الهاً ليعطيكم مأكلاً روحانياً

     ( 28 ) ” فقالوا له ماذا نصنع حتى نعمل أعمال الله ” ( 29 ) ” أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله ” ( 30 ) ” قالوا له أية آية تصنع لنراها ونؤمن بك ماذا تصنع . ” ( 31 ) ” آبآؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب انه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا ”

     لم يسألوا ما يصنعونه لأتيان أعمال الله الا قاصدين أن يجذبوا مخلصنا لأعطائهم مأكلاً مادياً فوبخهم لانهم انما يؤمنوا به لأجل الطعام لا بسبب آخر والعجب انهم يطلبون أيضاً آية وقد عمل له المجد أمامهم آية الخبز . وما طلبهم الا ليحملوه على تجديد الآية عينها فذكروه بآية المنّ واجتهدوا في أن يلزموه باطعامهم فما همهم الا اشباع المعدة واتباع الشراهة . وما أرذلهم في مقابلتهم بين موسى ويسوع وبين المنّ والخبز الذي كثره المخلص في أيديهم وأفواههم . هذا في زعمهم حقير دنيّ بالنسبة الى ذلك الذي هو ثمين كثير القيمة مع ان أجدادهم عدوه حقيراً وتذمروا على الله من أجله وطلبوا ما هو أشرف منه أي الخبز . والآن بعد أن أعطوه اشتاقوا الى المنّ وطلبوه وهذه حالة الشراهة التي لا تكتفي بما يحضر لديها بل تتوق وراء الغائب عنها وقد أتوا بشهادة داود محرّفة مع ان التوراة تصرح بان موسى لم يعطكم أي خبزاً أو المنّ وسيدنا نفسه نفى من عقولهم كون موسى أعظم منه أو كونه أعطى مثله الخبز فلذلك قال

     ( 32 ) ” قال لهم يسوع الحق أقول لكم ان موسى لم يعطكم الخبز من السماء لكنّ أبي هو يعطيكم الخبز الحقيقى من السماء ” ( 33 ) ” لأن خبز الله هو النازل من السماء والواهب الحياة للعالم ”

     وصف الخبز المعطى من الآب بلفظ حقيقي لينكر كونه خيالاً وقال انه من الآب ليقربهم اليه . وأضافه الى الله لانه مشتق من الحياة تبعاً للقول : الخبز رأس حياة الانسان والمسيح أعطى الحياة جميع المائتين في الأثم والمعصية وبعد أن أكلوا خبزه عاشوا عيشة برّ وطُهر وأشار الى ان الخبز هو السيد عينه بقوله : النازل من السماء والواهب بني البشر الحياة . وهنا أعلن يسوع انه أقنوم مميز عن الآب هبط من الاعالى الى حشاء البتول وتجسد فعلاً لا ان ارادته حلت في العذراء كما يجدف النساطرة :

     ( 34 ) ” فقالوا له يا رب أعطنا في كل حين هذا الخبز ” ( 35 ) ” فقال لهم يسوع أنا خبز الحياة مَن يقبل اليّ فلن يجوع ومَن يؤمن بي فلن يعطش أبداً ”

     اليهود الغارقون في شهوات الجسد ما زالوا يعتقدون ان الخبز ماديّ ولذلك ألحوا على سيدنا بان يعطيه لهم كل حين فجرّدهم من سفاهة أفكارهم بقوله : أنا خبز الحياة قال الذهبي الفم : خبز الحياة هو الله ولما كان مقصد سيدنا أن يوصلهم الى الأسرار العلوية بادأهم بالكلام على لاهوته . قال فيلكسينوس : سمّى خبزاً اقنومه أي الكلمة المتجسد وشاء تعليمنا أن جسده لم ينزل من السماء لكن القوة التي نزلت من السمآء هي التي عملت الخبز جسداً سماوياً وأيضاً هي التي تحوّل الخبز الى جسده في سرّ القربان المقدّس وأيضاً لا مانع من أن نسمّي لاهوته خبزاً لأنه يحيينا ويواصل العناية بحياتنا ونأكله بواسطة تناول جسده على شبه الخبز الذي يقوّي ويحيي . وهو حياة حقيقية للميت والخاطيء ولكل مَن يؤمن به ولذلك مَن أكله لا يجوع ولا يعطش . وكما ان الملائكة والنفوس السعيدة قبلوا الحياة الخالدة مرة ولن يفقدوها ولن يموتوا بعد كذلك من يأكل الخبز هذا ينال حياة الأبد

     ( 36 ) ” لكن قلت لكم انكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون ” ( 37 ) ” كل ما يعطينيه الآب فهو يُقبل اليّ ومَن يُقبل اليّ لا أخرجه خارجاً ”

     رأيتموني بأوصافي في كتب الأنبياء ورأيتم شخصي يزاول المعجزات ورأيتم يوحنا يشهد لي فواجبكم أن تؤمنوا بي وأنتم ترفضون وسببه ان الايمان هبة من الآب ومَن يؤمن بي يعمل ارادة أبي ومن لا يؤمن يناقضها . وربّ معترض يقول : ان كان الاعطاء معناه الايمان فاذن لا لوم على مَن لم يعطيهم الآب ؟ الجواب ان الآب يعلق دائماً اعطاءه على ارادة الانسان فان كان المرء مستعداً أن يؤمن بالمسيح أعانه الآب وجعله مؤمناً . اذاً يُلام غير المستعد . أما مَن يؤمن بالسيد ويأتي اليه فلا يُحرم الملكوت أو لا يدخل الظلمة البرانية في جهنم

     ( 38 ) ” لأني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني ”              ( 39 ) ” وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن لا أتلف من كل ما أعطاني شيئاً لكنني أقيمه في اليوم الأخير ” ( 40 ) ” وهذه هي مشيئة أبي الذي أرسلني أن كل مَن يرى الابن ويؤمن به تكون له الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير ”

     يُسأل ما هي مشيئة الابن التي لا يريد عملها : ألتأنّس أم هدى الشعب أم قيامة الموتى أم الدينونة العادلة ؟ كلّا ومن ظنّ فيه انه يريد حرمان الناس خيراً عظيماً فقد ساءَ ظناً واعتقد بما هو شائن في حق الابن لكن أراد مخلصنا اظهار ان ارادته هي ارادة الآب حتى لا يتهمه اليهود بانه مخالف لهُ وبان ارادته غير خلاصهم ومنفعتهم الكبرى . وبيان ذلك ان ارادة الآب ان لا يُهلك الابن مَن آمنوا به وهم الذين أعْطيهم من الآب . وهذه عينها هي ارادة الابن لانه أتى لخلاص البشر فاذن كل ما أعطاه الآب لا يهلك منه شيء بعناية الابن أيضاً الذي ينجز ما يريده أبوه . وكل المؤمنين به يُنيلهم النعيم الأبدي لانه بعد ان يحرسهم في الحياة ينجّيهم من النار ويجعلهم في العالم المزمع ممجدين حاصلين عوض ايمانهم وسيرتهم الصالحة مكافأة سنيّة

     ( 41 ) ” فتذمر اليهود عليه لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء ”                ( 42 ) ” وقالوا اليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن نعرف أباه وأمه فكيف هذا يقول اني من السماء ” ( 43 ) ” فأجاب يسوع وقال لهم لا تتذمروا فيما بينكم ” ( 44 ) ” ما من أحد يقدر أن يُقبل اليّ ما لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير ”

     تذمّر اليهود لسببين أولاً لأنه تمنّع ان يعطيهم الخبز الماديّ ثانياً لادّعائه على زعمهم انه خبز الله وما كانوا يظهرون حقدهم وغضبهم بل حفظوه سراً لأملهم ان يصنع لهم ثانية اعجوبة تكثير الخبز . ثم ما كانوا عارفين بمولده الأزلي الخفيّ فذكروا مولده البشري الذي كانوا أيضاً جاهلين لظروفه . ولاستغراقهم في المادة كانوا عاجزين عن ادراك كيف هو ابن الآب بل حسبوا كلامه تجديفاً أما هو لهُ المجد فقال رداً على افكار قلوبهم الدنسة : تأبون ان يكون فيكم ارادة صالحة وترفضون تصديق كلامي باختياركم فلذلك لا تستحقوا ان يجتذبكم الآب اليّ . وسمّى بوضوح الله أباه رداً على ما تسارّوا به من انه ابن يوسف . وهنا اياك ان تعتقد بنفيّ الحرية في الانسان وتقول : ان كان الآب لا يجذب النفس الى الايمان فالمرء عاجز عن ان يؤمن نعم ان الايمان هبة سماوية كبرى . وبدون اعانة النعمة لا يقدر أحد عليه . الّا انه مقدم للجميع . ولا يكره أحد على قبوله . فالآب لا يجتذب قسراً ولا يغصب أحداً على الاتيان الى الابن بل انه يعامل كلاً تبعاً لحريته الشخصية . والانسان نفسه يرفض باختياره ان يؤمن . فمن يعمل صالحاً وتكون نيته مجرّدة من الغش يقبل دعوة الآب اما من صلّب رأيه ونغلت منه النية فيرفضها والآب يتخلّى اذ ذاك عنه . وانتبهْ الى أمر ذي أهمية وهو ان المسيح ينسب الى الآب الدعوة الى الايمان وينسب الى ذاته اقامة المؤمن في اليوم الاخير فلا تظنّ ان الفعلين مقسومين على كل من الاقنومين بل بما ان لهما كلاهما فعلاً واحداً في الحقيقة فما يقال عن الواحد ينبغي ان يفهم أيضاً عن الآخر

     ( 45 ) ”  قد كتب في الأنبياء انهم يكونون بأجمعهم متعلمين من الله فكل من سمع من الآب وتعلم يُقبل اليّ ” ( 46 ) ” لا أن أحداً رأى الآب سوى الذي هو من الله فهذا قد رأى الآب ” ( 47 ) ” الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله الحياة الأبدية ”

     قد علّمهم الله في الناموس وكتب الانبياء لاجل المسيح . وقيل باجمعهم دلالةً على الكثيرين أو على كل الذين تعلموا لا على كل الناس بدون استثناء فمن سمع التعليم سماع قبول آمن بالسيد ولئلا يظنّ اليهود الماديون ان الله يجذب الناس جذباً محسوساً منظوراً بالاعين الحسية اعلنهم يسوع ان الآب غير منظور وان جذبه في الباطن بالنعم الروحية وان الخلائق لا يقوون على مشاهدته بل انما يقوى عليها مَن هو من طبيعة الآب واله مثله واراد الاشارة الى لاهوته له المجد ثم عقّب بما مفاده : مَن آمن بي أنا ابن الله فانه ينال الحياة الأبدية التي فيها يقوى على مشاهدة الله وجهاً ازاء وجه

     ( 48 ) ” أنا خبز الحياة ” ( 49 ) ” آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا ” ( 50 ) ” هذا هو الخبز النازل من السماء لكي لا يموت كل من يأكل منه ”

     المسيح خبز الحياة لانه منحنا ان نحيا وان نعتني بحياتنا الزمنية والأبدية ومن يأكل من هذا الخبز فلا يموت كما حصل لآل اسرائيل في البرية فقد أكلوا من المن والسلوى ونالهم الموت وبذلك يفضل خبز سيدنا على كل عطية أياً كانت . ومن الآية يُنتج ان المنّ بقي لليهود مدة اقامتهم بالبرية ولم يدخل معهم ارض الميعاد بعكس الخبز الذي يقدمه سيدنا فانه يدوم الى منتهى العالمين لانه حاوٍ للاهوته الذي نأكله متجسداً فيدخل جسدنا ويصير فينا الحياة بالطبع التي لا بدء لها ولا منتهى . وقُلْ أيضاً كما تقدّم لنا ذكره ان اقنوم الكلمة نزل من السماء الى احشاء البتول الطاهرة وتجسد منها وفيها تجسداً حقاً لا ان ارادته نزلت كما يدعي النساطرة كذباً

     ( 51 ) ” أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء ” ( 52 ) ” ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى الأبد والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي لحياة العالم ”

     تبين مما تقدم ان الخبز انما يعني لاهوت المسيح وان الايمان به وقبول تعليمه ومناولة جسده في سر القربان هذه كلها مورثة الحياة الأبدية . واراد له المجد أن يحصر معنى الخبز هنا بجسده الذي ذُبح على الصليب مرة واحدة لخلاص البشر وقربه هو أولاً وأعطاه تلاميذه في العشاء السري ليغتذوا به ثم نعطيه نحن كهنة العهد الجديد ليغتذي به كل مؤمن ويحيا . ومن فوائده السامية انه يحولنا اليه عندما نأكله كما يحول جسدنا الطبيعي الى دمه ولحمه كل ما نتناوله من المأكول . والفرق اننا نحول الينا ما نأكله من سواه اما هو فانه يحولنا اليه ويجعل جبلتنا في حياته ومشمولة بقوته . ومن ثمّ بعدل وصواب نُدعى أعضاءه وكأننا في اقنومه الذي صار انساناً لأجلنا

     ( 53 ) ” فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين كيف يقدر هذا أن يُعطينا جسده لنأكله ”    ( 54 ) ” فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ان لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه فلا حياة لكم في أنفسكم ” ( 55 ) ” مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير ” ( 56 ) ” لأن جسدي هو مأكل حقيقي ودمي هو مشرب حقيقي ”

     الرجل الحيواني لا يفقه كلام الله وهذه حالة اليهود الذين تخاصموا قائلين : كيف يطعمنا هذا جسده . فشرع مخلصنا يوضح لهم عباراته بما لا يترك لسامعها ريباً في معناها . ومن المعلوم ان حياتنا الانسانية نحفظها بواسطة الأكل والشرب ولو ان لنا نفساً تحيي أجسامنا . اذ ان هذه النفس عينها لا تقدر على صيانة حياة الجسد بدون قوت . اذن هذه الطبيعة المركّبة فينا من روح وجسد تستعير حياتها أو صيانة حياتها من خارج والموت يقطعها . فسيدنا يقول : من يأكل جسدي فله الحياة في ذاته أو طبيعته . وكما ان العضو يبقى حياً ولا يموت ما دام في الجسد كذلك اعضاء السيد المسيح يفوزون بالحياة . والسيد المسيح لهُ الحياة في ذاته كذلك من يأكلون جسده تكون لهم الحياة عينها أي في ذاتهم ولا يحتاجون الى قوت آخر يصونها . واعلم ان ابن البشر الذي عبر به السيد عن نفسه يطلق على المسيح كله كما تطلق لفظة كلمة أو جسد أو الله وان جسده الذي نأكله هو جسد ابن الله والله فالمسيح ليس انساناً فقط ولا انساناً ساكناً فيه الله لا غير ولا انسانَ النعمة بل هو الله الذي صار انساناً حقاً وان كان انساناً لا غير فكيف يعطي الحياة الابدية ونحن نعلم ان الانسان ايامه كالعشب تزول سريعاً فكيف يعطي الغير ما ليس فيه . واي نبي أو صديق قال عن ذاته ان أكلَ جسده يمنح الحياة الخالدة . اذنْ قُلْ بنتيجة لازمة ان المسيح رب الانبياء والله المتأنس . أما جسده ودمه فهما مأكول روحاني والفرق بين هذا المأكول والمأكول المادي ان قليلاً من ذاك يشبع اما هذا فيقتضي القدر الكبير منه الأول بقوته الروحية يحيي والثاني بما يملأ به البطن . وقد نسمّي الجسد والدم اسراراً لانهما ليسا كما نراهما بالعين الحسية التي انما تنظر فيهما الخبز والخمر. كذلك السيد المسيح نرى فيه انساناً وهو اله والخبز والخمر تنظر العين فيهما اشكالهما لكنهما جسد ودم المسيح اللذان اخذهما من احشاء العذراء القديسة

     ( 57 ) ” من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه ” ( 58 ) ” كما أرسلني الآب الحي وأنا أحيا بالآب فالذي يأكلني يحيا هو أيضاً بي ” ( 59 ) ” هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ليس كالمنّ الذي أكله آباؤكم وماتوا . مَن يأكل هذا الخبز فانه يعيش الى الأبد .

     ثبوت سيدنا فينا ان يمزج جسده ودمه الاقدسين بجسدنا ودمنا فيتحد الأمران كاتحاد النار بالحديد وانارتها مادته السوداء وهكذا نثبت غير متزعزعين في هذا العالم ونتجدد في العالم الآتي . وشاء له المجد تفسير ما الحياة التي يعطيناها فقال ان الآب الذي له الحياة في ذاته اعطى الابن ان تكون لهُ هذه الحياة عينها في ذاته وانما الاعطاء باعتبار تجسّد سيدنا لا باعتبار لاهوته . فهذه الحياة الأزلية يُعطاها من يأكل جسد المسيح في هذه الدنيا وتبقى لهُ حتى القيامة وبعدها . وهي أفضل مما كان يهب المنّ في البرية لأن المنّ وهب حياة جسدية لها حدّ محدود وجسد المسيح يهب حياة لا حد لها

     ( 60 ) ” قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفر ناحوم ” ( 61 ) ” وان كثيراً من تلاميذه لما سمعوا قالوا هذا الكلام صعب مَن يستطيع سماعه ” ( 62 ) ” فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون من هذا فقال لهم أهذا يُشكككم ” ( 63 ) ” فكيف اذا رأيتم ابن البشر صاعداً الى حيث كان أولاً ”

     كل الآيات من 26 الى آخر الفصل قد قالها سيدنا في كفر ناحوم اما تلاميذه الذين تذمّروا منه مع الزنادقة وقالوا مَن يستطيع سماع كلامه وكان بينهم يهوذا فهم غير الاحد عشر ولما كان يسوع الهاً اطلع على افكارهم وقال ما مفاده : متى تنظروني صاعداً الى السماء من حيث أتيت فاذ ذاك تتحققون اني لست انساناً بل أنا اله واني لست من الأرض بل من السماء اتيتُ . ولست ابن يوسف بل ابن الله الآب . واني خبز الحياة وان جسدي مأكل ودمي مشرب . وانكم لتقرّون بهذه كلها رغماً عن انوفكم لاني أعرَف عند الجميع اني اله . وهنا نخاطب الهراطقة المنافقين فنقول : ان كان المسيح انساناً لا غير كما تدّعون بدون اثبات فكيف يصدق قوله من انه يصعد الى حيث كان أولاً . أفي اعتقادكم أن كان في السماء انسان قبل نزول المخلص الى الارض وصلبه وقيامته وفتحه أبواب النعيم . اذن قولوا معنا ان ابن البشر هو عينه ابن الله

      ( 64 ) ” الروح هو الذي يحيي وأما اللحم فلا يفيد شيئاً والكلام الذي كلمتكم به هو روح وحياة ”

     أوّل في المعنى الروحي الآية بان ينبغي أن تسمعوا كلامي سماع قبول حتى ترثوا الحياة الأبدية . اما ان كنتم تنظرون اليه نظر رجلٍ مستغرق في المادّة فلا تستفيدون منه شيئاً . ونظركم نظرُ مادةٍ ان قلتم مرتابين : كيف نزل من السماء وهو ابن يوسف وكيف يقدر ان يهبنا جسده . ويمكن التأويل بأن الانسان روح وجسد . فان سمع بجسده كلام المسيح خسر كل نفع لان الجسم يسمع الكلام سماع حيوان غير ناطق أي يسمع صوتاً ولا يفقه معنى . اما الروح والنفس فانها تدرك معاني الكلام وبادراكها المعاني تقتبس معرفة والمعرفة حياة النفس . وكأن سيدنا يقول : جسدكم لا يُدرك معنى كلامي لكن روحكم تفهم ما تكلمتُ به فاذا قبلتم حسن القبول ما أقوله كانت لكم من ورائه حياة الأبد . ولا مانع أيضاً من تأويل آخر وهو ان يُقال أن الروح القدس الذي ستقبلونه في العلية يكشف لكم الغطاء عن معنى ما أريده ويُحيي منكم النفوس اما جسدكم فان معرفته لا تنفع لأن لا فهم فيه . وادّعى تاودروس الهرطوقي ان معنى كلمة الروح هو ان جسد المسيح في القربان لا يُحيي بل الروح الذي فيه. والعجب ان هذا المجدّف لم يقرأ ان سيدنا انما يذكر دائماً جسده ويعلن ان أكله حياة العالم . وان كان لا ينفع فلماذا أعطاه المسيح مأكلاً ولكن فهم هذا الهرطوقي غارق في الجسديات . وكلام مخلصنا كله روح أي هو غريب عن الاكراه المادي ويجب تأمّله بعد التجرّد من كل أرضيّ اياً كان ومَن أدرك معناه وسمعه سماعاً روحياً نال الحياة

     ( 65 ) ” لكنّ قوماً منكم لا يؤمنون لأن يسوع كان عارفاً منذ الابتداء من الذين لا يؤمنون ومَن الذي سيسلمه ” ( 66 ) ” فقال من أجل هذا قلت لكم انه لا يقدر أحد أن يُقبل اليّ ما لم يعطَ له ذلك من أبي ” ( 67 ) ” من ذلك الوقت رجع كثيرون من تلاميذه الى الوراء ولم يعودوا يمشون معه ”

      كان سيدنا عارفاً بمن يؤمن ومن لا يؤمن قبل وقوع الحوادث ولذلك أثيت عن قوم من اليهود انهم لا يؤمنون وكأنه قال : أنا عالم حق العلم بمن لا يؤمنون بي قبل أن يولدوا وأيضاً بمن أعطاهم أبي أن يأتوا اليّ . وان سألت عمن تركوه منذ هذا الوقت ولأي سبب ؟ قلت انهم من غير الرسل الاثني عشر وانما أبوا مواصلة اتباعه لانهم لم يلاقوا عنده الماديات وافرة ورفضوا هجر العالم المحروم من الحياة الروحية وقد رجعوا الى الوراء أي رجعوا عن ممارسة الفضيلة وتركوا الايمان

     ( 68 ) ” فقال يسوع للاثني عشر ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا ”                   ( 69 ) ” فأجاب سمعان بطرس يا رب الى مَن نذهب . ان كلام الحياة الأبدية هو عندك ”    ( 70 ) ” وقد آمنا نحن وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله ”

     لم يكن سيدنا محتاجاً الى خدمة أحد ولا افتخارَ له من جولان تلاميذ ورسل معه فلذلك سأل الباقين حوله هل تريدون أن تمضوا . وما مدحهم على تعَلقهم به لأن الزمن لم يكن زمن مدح ولا انتهرهم انتهار غضب ليبعدهم عنه بل شاء اعلانهم انه لا يُكره أحداً على البقاء معه بل يريد أن يقبلوا انتخابه بملء اختيارهم . أما بطرس فبين في جوابه انهم يفضلونه على مَن هو أقرب وأعزّ لديهم وانه أحب الكل اليهم ومعنى كلامه : ان فارقناك فمن يكون ملاذنا وملجاءنا ومن سترنا واننا تركنا الأهل والوطن وتبعناك بسبب ان عندك كلام الحياة الخالدة وتعطي الحياة لمن يؤمن بك ونحن مقرّون الاقار التام بلاهوتك . وبين ان بطرس استخدم ضمير الجمع لأنه تكلم عن كل التلاميذ

     ( 71 ) ” فأجابهم يسوع ألم أكن أنا اخترتكم أنتم الاثني عشر وواحد منكم هو شيطان ” ( 72 ) ” قال ذلك عن يهوذا الاسخريوطي ابن سمعان لأنه كان مزمعاً أن يسلمه وهو أحد الاثني عشر ” 

     بعد ان هجر كثيرون وظلّ سمعان ورفاقه ما أراد له المجد اقلاقهم بل اوضح انه مريد لبقائهم معه لأنه اختارهم من قبل دلالةً على رضاه عنهم ولما كان سمعان قد شمل يهوذا في اعترافه أخرجه سيدنا من صفّ الصادقين المخلصين لكن لم يسمّه لئلا يزيد شراً ووقاحةً ولم يسكت عنه ليظهر انه عارف بمكره وباطنه الّا ان الانجيلي فضح الاسم وذلك يعد وقوع خيانته في زمن آلام المخلص

 

 

 

 

 

 

 

 

( الاصحاح السابع )

( في سفر يسوع الى اليهودية لعيد نصب المظالّ وتبشيره في الهيكل )

     ( 1 ) ” وبعد ذلك كان يسوع يجول في الجليل ولم يشاء الجولان في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون قتله ”

     تارة كان لهُ المجد يجول بين اليهود ولا يقوى أحد على القبض عليه وكأنه يعلّمهم ما هي قوته التي لا تقهر وسلطانه الذي لا يغلب . وتارة لم يكن ليسير ما بينهم بل يتحول عن بلادهم وهم يطلبون قتله ويحاولون القبض عليه فيفلت من أيديهم فيثبت لنا انه انسان وانه ولو الهاً فقد تجسد بمحض ارادته واختياره

     ( 2 ) ” وكان عيد اليهود لنصب المظالّ قد قرب ” ( 3 ) ” فقال له اخوته تحوّل من ههنا واذهب الى اليهودية ليرى تلاميذك أيضاً أعمالك التي تصنعها ”

     فهمنا سابقاً ان يسوع صعد الى الجبل عند قرب حلول عيد الفصح ومن الفصح الى عيد المظالّ ستة أشهر ولم يروِ لنا الانجيلي شيئاً عن هذا الزمن ما عدا آية السير على الماء ومعجزة تكثير الخبز والخطاب عن الايمان والقربان . وان كان قد سكت عن أمور عديدة فلأنها لا تفيد غايته . وقد أراد اخوة المسيح أي يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا أولاد يوسف أن يذهب الى اليهودية لنشر تعاليمه وانما كان الحامل لهم على تحريضه الحسد لا غير . الّا ان مفسرين غيرنا أوّلوا عبارتهم بما مفاده . ان شئت القاء تعاليم جديدة . ما لك والناصرة والجليل كله ففيها لا تلقى من يسمعك ويتبعك بل اذهب الى اليهودية حيث السامعون كثيرون . وكانت غايتهم أن ينالوا المجد من الناس بسبب شهوة مَن هو قريب لهم ثم اننا نعلم ان الجليل كانت الشعوب تسكنه وما كان فيه اهتمام كبير بالمسيح

     ( 4 ) ” فانه ليس أحد يصنع شيئاً في الخفية وهو يطلب أن يكون علانيةً . ان كنت تصنع هذه فأظهر نفسك للعالم ” ( 5 ) ” لأن اخوته لم يكونوا يؤمنون به ”

     أراد اخوة المسيح اثارة الخوف في قلبه كأنه لم يتكلم بالحق فاظهروا لهُ انه ان بقي على ما هو عليه في بلاد لا قيمة لها وفي نشر تعليم بالخفية فلا ينال فائدة تذكر ولهذا المعنى كان من مصلحته أن يظهر نفسه . وقد قال الانجيلي ان كلامهم هذا كان صادراً عن عدم ايمانهم به فلا يستحقون الملامة لعدم طاعتهم لهُ اذ لم يكونوا عارفين به معرفة كاملة . ولجهلهم انه ابن الله حقاً ما آمنوا به . وخالفنا في رأينا هذا القديس افرام الذي يلومهم لأن كلامهم ظاهره محبة وباطنه خيانة وكذلك موسى ابن الحجر الذي اثبت ان حسدهم كان شديداً على شبه حسد الأقارب الذين يمتعضون من ارتفاع فردٍ منهم وعلوه عليهم . ونحن لم ننقّد لاثبات رأينا الّا لان من هؤلاء الاخوة صار واحد اسقفاً على أورشليم وكان يهوذا ذا فضل وحسن سيرة

     ( 6 ) ” فقال لهم يسوع ان وقتي لم يحضر بعد وأما وقتكم فانه عتيد في كل حين ”

     اما ان نية مخاطبيه كانت تسليمه لليهود اما لا فان فرضتَ الأول كان المعنى : تريدون تسليمي لليهود لكن زمان صلبي وموتي لم يأتِ بعد ولماذا تستعجلون عليّ وتلحون ان اصعد. اما أنتم فلا مانع من ان تصعدوا لأن اليهود لا يطلبون قتلكم أو مضرتكم وانتم تابعون لطريقتهم في العمل والاهواء والاعتقاد . وان فرضتَ الثاني قُلْ : لا اصعد حسب الناموس كما كنت اصعد قبل عمادي ولكن اعلّم التعليم اللازم الذي يهدي الناس الى السجود لأبي والى السجود لي أيضاً ام انتم فاذهبوا ليفي كلّ منكم الزامات الناموس فأنتم مرؤوسوه وأنا ربّه

     ( 7 ) ” لا يقدر العالم أن يبغضكم أما أنا فيبغضني لأني أشهد عليه بأن أعماله شريرة ” ( 8 ) ” اصعدوا أنتم الى العيد وأما أنا فلست أصعد الى هذا العيد لأن وقتي لم يتم بعد ”      ( 9 ) ” قال هذا وأقام في الجليل ”

     يسمّي اليهود عالماً وهم لا يبغضون مَن يريد ما يريدونه ويسعى طبق سعيهم كما كان اخوة المسيح اما هو لهُ المجد فلأنه لا يطلب مجد الناس ولا يسكت عن اعمالهم الشريرة بل يوبخهم عليها فيبغضونه ولذلك قال : لستُ بمحتاج ان تبقوا معي فاذهبوا لاتمام ما يأمر به الناموس أما أنا فلا أصعد في هذا الوقت معكم ولا في أول أيام العيد بل في منتصفها لأن زماني لم يتم . وكان لهُ المجد قد رضي باختياره أن يُصلب في عيد الفصح التابع عيد المظالّ هذا وهو الذي عين وقت آلامه

     ( 10 ) ” وبعد أن صعد اخوته صعد هو أيضاً الى العيد لا صعوداً ظاهراً بل كمستترٍ ”   ( 11 ) ” فكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون أين ذاك ”

     صعدوا وتأخر ثم صعد لا صعوداً ظاهراً أفاد الفريقين اولاً مبغضيه لأنه قصد تخفيف حدّتهم وكسر تأثير هيجانهم ثانياً محبيه اذ أنجز رغبتهم وكان في مقدرته أن يزيل حقد اليهود لكنه ترك الحرّية تعمل طبق صفتها . وانظر هنا الى حكمته العلوية وتواضعه السامي وتعلّم أن تعيش بالحكمة وفي الخفاء عندما يزيد عدد أعدائك وتثور عليك الشهوات والاهواء ثم انه لهُ المجد كان معرضاً لعدوّين أولاً لحسد اخوته الراغبين في كشف أمره ثانياً لرئاء اليهود الراغبين في قتله وغير الذاكرين لاسمه بسبب شدّة بغضهم وهذه عادة الحاسدين المبغضين يدعون المكروهين منهم بغير أساميهم كما كان شاول يدعو داود ابن يسى

     ( 12 ) ” وكانت في الجموع مهامسة كثيرة في شأنه فبعضهم يقولون انه صالح وآخرون يقولون كلا بل هو يضل الشعب ” ( 13 ) ” غير أنه لم يكن أحد يتكلم فيه علانيةً خوفاً من اليهود ” ( 14 ) ” وعند انتصاف العيد صعد يسوع الى الهيكل وكان يعلم ”         ( 15 ) ” وكان اليهود يتعجبون قائلين كيف هذا يعرف الكتب ولم يتعلم ”

     المهامسة المشار اليها جعلت يسوع معروفاً وكان الشعب عموماً يعتقد انه صالح بعكس الكتبة والفريسيين والكهنة الذين ينفون عنه الصلاح ويصفونه بأنه مضلّ لعدم ادراكهم كلامه الالهي . ومع ان الشعب كان مؤمناً به فما كانت لهُ شجاعة كبرى على المجاهرة باتباعه لخوفه من رؤسائه فسقط في وهن العزيمة وان سألت لماذا أنتظر مخلصنا حتى نصف العيد للصعود . قلتُ حتى يشتاق الشعب لكلامه ولو اننا لا نرى في نصّ الانجيلي ما كان هذا الكلام. ثم لاحظْ مفعول هذا الكلام عينه فان اليهود أتوا ليمسكوه واذ سمعوه نالهم العجب وكأنهم نسوا ما أتوا اليه

     ( 16 ) ” فأجابهم يسوع وقال ان تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني ” ( 17 ) ” ان شاء أحد ان يصنع مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أنا أتكلم من عندي ”

     كانوا يتهمونه انه يضل الشعب وبالتالي ضدّ الله فاجاب على الأمرين قائلاً ” تعليمي ” لأنه هو صاحبه ويعرف كل العلوم من ذاته : ثم عقب ان تعليمه هذا هو لمرسله وبالتالي ليس مخالفاً لتعليم الله لأن الله مرسله فمن لا يقبل هذا التعليم الذي هو للآب يستحق الدينونة لا بل فقد دين . واستنتج هنا الى ان للاقنومين الآب والابن ولو متميزين تعليماً واحداً بعينه كما ان فعلهما واحد وقوتهما واحدة . فمؤدّى عبارة سيدنا : مَن يقلع الحسد من نفسه يعرف ان تعليمي من الله . ومن يتأمل في النبوات التي بارادة الله قيلت عني يفهم ان تعليمي من عند الله واني انطق بما يريده الآب ومن يرغب في اتباع البرّ يدرك ان تعليمي من الله أيضاً واني لا أتكلم بما لا يريده أو بما يخالفه . واعلم ان ” أم ” قد يكون معناها الانكار كما هي هنا

     ( 18 ) ” ان مَن يتكلم من عنده انما يطلب مجد نفسه فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق ولا جور عنده ” ( 19 ) ” اليس موسى أعطاكم الناموس وما أحد منكم يعمل بالناموس ”

     من لهُ تعليم خاص أو فضيلة باهرة اقتناها فانما يتكلم لينشر مجده اما انا فأطلب مجد مرسلي ولذلك لا داعيَ لي لأعلّم غيرالحق فلا تقولوا اذن اني مخالف للآب أو محب للفخر الباطل ومن هنا علينا نحن تباع المسيح ان نتكلم عن انفسنا بالتواضع والفطنة اقتداء بمثل مخلصنا . ثم لأن اليهود كانوا يريدون قتله قال . لا يعمل أحد منكم بالناموس فالناموس يأمر بان لا يُقتل انسان وانتم تطلبون قتلي فاذن تتعدّون مرسومات الناموس . الناموس لا ينهي عن عمل الخير وشفاء السقيم في السبت وانتم توبخوني لاني أشفيت المخلع وتريدون مجازاتي بالقتل فانتم اعداء الناموس . ومن الظاهر انهم لم يقبلوا تعليمه لانهم يأبون أن يحفظوا ناموساً أو شريعة

     ( 20 ) ” لماذا تطلبون قتلي . أجاب الجمع وقالوا ان بك شيطاناً من يطلب قتلك ”        ( 21 ) ” أجاب يسوع وقال لهم لقد عملت عملاً واحداً فعجبتم بأجمعكم ” ( 22 ) ” ان موسى أعطاكم الختان لا أنه من موسى بل من الآباء فتختنون الانسان في السبت ”           ( 23 ) ” فان كان الانسان يختن في السبت لئلا تنقض شريعة موسى أفتسخطون عليّ لاني أبرأتُ الانسان كله في السبت ” ( 24 ) ” لا تحكموا بحسب الظاهر لكن احكموا حكماً عادلاً ”

     أتهموه بان فيه شيطاناً منقادين لنفس طافحة حسداً وشراً بحيث لا تقدر على ضبطهما فيها اما هو فقرّعهم بما هم أهله فقال . شفيتُ المخلع فأتخذتم تتذمرون عليّ وانتم أعطيتم الختان من قديم ورسم عليكم اجراؤه في اليوم الثامن لولادة الذكر فان وقع يوم السبت أجريتموه بلا مانع ولا تعدّون السبت منقوضاً فلماذا انا الذي ابرأت الانسان في السبت اكون متعدياً على الناموس لا حافظاً له . وقد قال لهُ المجد ان موسى أعطاكم الختان مع ان ابراهيم رأس الآباء هو الذي باشره الاول لان موسى هو الذي خطّ شريعته في التوراة . وان سألت لماذا ناموس الختان يفضل على ناموس السبت ؟ أجبتُ لان الختان شريعة أقوى تأدية الى الاعتراف بسموّ الله والى عبادته وعند تنازع وصيتين في الزمن الواحد ينبغي تفضيل أقواهما على الاخرى . ثم قد قيل ان النفس التي لا تختتن تهلك فاجراء الختان في السبت مانع لهلاكها والافضل منع هلاكها من صيانة شريعة السبت . ثم زاد مخلصنا لتخجيل مخاطبيه الاراذل : انكم تحكمون رئاءً وتخطئوني لاني أبرأت في السبت ولا تتجاسرون على تخطئة موسى لا لأنه مكرّم لديكم بل خوفاً من أن يغضب الجمهور عليكم فاحكموا بالعدل وارتدعوا عن غيّكم

     ( 25 ) ” فقال اناس من اورشليم اليس هذا هو الذي يطلبون قتله ” ( 26 ) ” وها انه يتكلم علانيةً ولا يقولون شيئاً ألعل الرؤساء تيقنوا أن هذا هو المسيح ” ( 27 ) ” الا ان هذا قد علمنا من اين هو واما المسيح فاذا جاءَ فلا يعلم احد من اين هو ”

     ان سكان أورشليم كانوا شهوداً على آيات يسوع اكثر من غيرهم فلذلك أبدوا رأيهم بعد سماعهم كلام يسوع وبرهانه السديد وهؤلاء القائلون لم يكونوا في عداد مَن يطلبون قتله فلاموهم ولاموا أنفسهم أيضاً بالفعل عينه . وعليك ان تلاحظ هنا بنوع خاص كيف ان قوة كلام سيدنا أزالت غضب اعدائه الثائر فعدلوا ولو مدة عن طلب قتله كما يشهد بذلك القائلون المشار اليهم الّا ان هؤلاء يظهرون شراً من رؤسائهم وبيانه ان رؤساءهم بعد سماعهم كلامه حسبوه المسيح وما تجاسروا على القبض عليه لقتله اما المرؤوسون فادّعوا انهم عارفون به انه ابن نجار وما ذكروا ما قاله كتبتهم من قبلُ لهيرودس من ان المسيح من بيت لحم ومن زرع داود وان زمن ظهوره قد حلّ بل كذبوا على نفسهم بانهم لا يعرفون من أين يأتي . فَهُم اذن بدون فَهم . هُم أشرار متلونون حيناً يدّعون المعرفة وحيناً يبدون الجهلَ

     ( 28 ) ” فصاح يسوع في الهيكل وهو يعلم وقال انكم تعرفوني وتعلمون من أين أنا وأنا لم آت من عندي ولكنّ الذي أرسلني هو حق وأنتم لا تعرفونه ” ( 29 ) ” أما أنا فأعرفه لأني منه وهو أرسلني ”

     لم يَصحْ سيدنا الّا ليسمعه الناس وليعرفوا انه يلقي خطابه علانيةً ومفاد هذا الخطاب : أنا المسيح وانكم تتأكدون ذلك من أقوال الانبياء التي ترونها الآن تتمّ ومن آياتي . وأنا لست من الارض ولا ابن نجار بل من السماء وابن الآب وقد قلتُ ان أبي أرسلني فلم آتِ من عند نفسي ولما كنتم خبثاء أراذل لا تريدون ان تعرفوا أبي اما انا فاني معه ولست من بني البشر واني أعرفه حق معرفته وقد أرسلني لا كنبيّ بل ابناً طبيعياً مولوداً منه في الأزل فلست أخالفه .

     ( 30 ) ” فكانوا يطلبون أن يقبضوا عليه ولكن لم يُلقِ أحد يده عليه لأن ساعته لم تكن قد جآءت بعد ” ( 31 ) ” فآمن به كثير من الجمع وقالوا اذا جاء المسيح أفلعله يعمل آيات أكثر مما عمل هذا ”

     عدم القاء القبض عليه ناشيء عن انه قوة الله غير المقهورة ودالّ على انه عندما أمسكوه كان ذلك باختياره وهو الذي عيّن المكان والزمان اللذين يسلّم ذاته فيهما وانتبهْ نوّرك الله وهداك الى كل خير الى ان كثيرين قد أثر فيهم كلام سيدنا أحسن تأثير لانهم نظروا ببصيرتهم صدقه وأعجبوا بتواضع قائله وبالمعجزات الباهرة التي لم يروِها يوحنا فآمنوا به ولو ان ايمانهم لم يكن كاملاً أولاً لان كلامهم يدلّ على انهم يفرضون انه ليس المسيح ومع ذلك فان أقوالهم مخالفة لرؤسائهم وموبخة لهم على سلوكهم ثانياً لأن ايمانهم سببه الآيات التي رأوها والتعاليم الالهية التي سمعوها

( في ارسال اليهود شرطاً ليقبضوا على المسيح )

     ( 32 ) ” فسمع الفريسيون مهامسة الجمع بذلك في شأنه فأرسل رؤساء الكهنة والفريسيون شرطاً ليقبضوا عليه ” ( 33 ) ” فقال لهم يسوع أنا معكم بعد زماناً يسيراً ثم أذهب الى الذي أرسلني ”

     لما سمع الفريسيون ان الناس تتكلم فيه الكلام الصحيح المملوء مدحاً خافوا وزاد حنقهم فأرسلوا عبيدهم ليمسكوه فكان معنى جواب سيدنا : لا تتكلفوا مشقّة القبض عليّ الآن لأن ذلك لا يفيدكم فتيلاً بل يبقى زمان ولو قليلاً لحلول يوم صلبي ثم ولو انكم تواصلون اضطهادي في هذا الزمان الوجيز فأنا لا أعدل عن التدابير الخلاصية التي أريدها ولأجلها أتيتُ الى العالم واعلموا ان صلبي يكون باختياري ثم لا أمكث في ظلمة الموت بل أقوم منتصراً وأصعد الى الآب الذي أرسلني . ومن البين ان كلمة اذهب التي أوّلنا معناها بانتصاره على الموت وبصعوده قد القت الخوف في قلوب اعدائه مما سيقع بعد هذا الذهاب . وقد عرف لهُ المجد معرفة سابقة موته وزمنه وكل ظروفه فهو اذن اله لاننا نحن البشر لا نعلم ذلك بل نجهله كل الجهل

     ( 34 ) ” وستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تستطيعون أنتم أن تأتوا ”        ( 35 ) ” فقال اليهود فيما بينهم الى أين هذا مزمع أن ينطلق حتى لا نجده ألعله ينطلق الى شتات اليونانيين  ويعلم اليونانيين ” ( 36 ) ” ما هذا الكلام الذي قاله ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تستطيعون أنتم أن تأتوا ”

     يُسأل متى طُلب المسيح ؟ الجواب طلبه أولاً النساء اللواتي بكين زمن صلبه ونِحنَ على فقده . ثانياً اليهود أنفسهم لما أتاهم الرومان وسبوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيرين فذكروا اذ ذاك آياته وطلبوا منه ان ينجيهم من ظلم الفاتكين بهم وزاد سيدنا ان مخاطبيه عاجزون عن الاتيان حيث هوَ – 1ً . لاعلانهم ان موته اختياري وهو أراده 2ً . ليدلهم ان بعد موته لا يكون كسائر الناس بل يعمل للخلاص – 3ً . انه بعد قيامته يصعد الى الآب ويجلس عن يمينه. وكان الواجب ان يفرح اعداؤه بذهابه من بينهم لانهم يشتهون قتله والتخلّص من حضوره معهم الّا ان الخوف اعتراهم والحيرة أصابت افهامهم فأخذوا يبحثون الى اين يمضي وكان اليهود مجموعين كلهم في فلسطين فظنوا انه يذهب الى اليوانيين ليلقي عليهم تعاليمه وليهدّيء غضب مقاوميه

( في الماء المرموز به الى الروح )

     ( 37 ) ” وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع وصاح قائلاً ان عطش أحد فليأتِ اليّ ويشرب ”

     كان لليهود ثلاثة أعياد يحتفلون باقامتها رمزاً لما يأتي في البيعة المقدسة التي أخذتها ارثاً وتعيّدها بالروح : الاول عيد الفطير فبدلته الكنيسة بعيد الفصح والآلام المخلصية الثاني عيد البنديقوسطي الذي خلفه عيد حلول الروح القدس . الثالث عيد المظالّ فقام مقامه عيد التجلي في طور طابور أو على رأي بعضهم عيد الشعانين . قال بعضهم ان اليهود في هذه السنة عيّدوا عيد المظالّ والفطير معاً وخالفهم فريق آخر قالوا ان عيد المظالّ كان مأموراً باقامته في تشرين الاول ولم يكن ليؤذن بتأخير أو بابدال يومه . ومن مذهب تاودروس وتباعه ان الانجيلي كتب بالغلط وسهواً عيد المظالّ عوض عيد الفطير . والرأي مردود لان الانجيلي ومَن سبقوه كتبوا عن عيد الفطر كما سيأتي ذكره . واعلم ان عيد المظالّ كان تابعاً لعيد الغفران عندهم وكانت العادة ان اليوم الاول واليوم الاخير يُحتفل بهما بابهة ويدعوهما الناس عظيمين بسبب اقامة الطقوس والخدمة الدينية بدون انقطاع وتلاوة الكتب المنزلة . ولذلك تجتمع الجماهير للاستفادة . فاغتنم سيدنا الفرصة وزوّد الناس بتعاليمه الآتية . وقد التزم رفع الصوت ليسمعه الحضور وليعلن لهُ المجد ما يريد القاءه عليهم وأولاً أفهمهم ان دعوته النفوس الى مشربه الروحي ليس فيها شيء من الاقتسار أو ضبط الحرية بل انه يترك لاختيار كلّ ان يُقبل اليه

     ( 38 ) ” مَن آمن بي فكما قال الكتاب ستجري من جوفه أنهار مآء حيّ ”

     ان من يؤمن به يمتليء من مياه النعمة العذبة ومن هبات الروح القدس وتطفح نفسه سروراً وحياة . والمياه هي عبارة عن الحياة الأبدية التي تكون مجازاة سنية للمؤمنين . وقد استشهد لهُ السجود بكلام الكتب لأن سامعيه كانوا يطالعونها وهي لديهم اعزّ شيء ودليل بالغ في القوة . وافهم بالجوف القلب والنفس . وأوّل آخرون العبارة بان من يتبع الكتب المنزلة ويؤمن بي يمتليء نعمةً ويشبه نهراً لا ينفدُ ماؤه بل ينبع جارياً بغزارة وبما يكفي غيره من المستقين

     ( 39 ) ” وانما قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوهْ اذ لم يكن الروح قد أعطي بعد لأن يسوع لم يكن بعد قد مُجد ”

     سمّي الروح القدس ماءَ الحياة واعنى بالروح هباته السماوية ونعمته المبرّرة . سؤال ان لم يكن الروح قد أعطي فبمَ كان التلاميذ يجترحون المعجزات ؟ الجواب كان لهم ذلك من القوة الممنوحة من سيدنا عينه الّا ان هبات الروح كانت أشرف من هذه القوة التي أعطيت قبل الآلام وللانبياء أيضاً وقد اقتبلوا هذه الهبات في العلّية بعد صلب مخلصنا الذي عبر عنه الانجيلي بكلمة التمجيد . وكان لا بدّ ان تتلاشى العداوة بين الله والبشر فتعطى بعدئذ المواهب التي هي علامة مصالحة بين الفريقين فتغزر بها النبوات والعجائب وقد كانت نادرة حتى مجيء سيدنا

( في انشقاق اليهود وما قاله نيقوديموس )

     ( 40 ) ” وانّ قوماً من الجمع لما سمعوا كلامه قالوا هذا في الحقيقة هو النبي ”         ( 41 ) ” وقال آخرون هذا هو المسيح . وقال آخرون ألعل المسيح يأتي من الجليل ”         ( 42 ) ” ألم يقل الكتاب انه من نسل داود ومن قرية بيت لحم حيث كان داود يأتي المسيح ” ( 43 ) ” فوقع بين الجمع شقاق من أجله ” ( 44 ) ” وكان أناس منهم يريدون أن يمسكوه ولكن لم يلقِ أحد عليه يداً ”

     كان الشعب في شديد الاضطراب ولما كانوا لا يدركون كلامه حق ادراكه نالتهم الانقسامات فدعاه فريق نبياً وقال آخر مستنداً الى قياس : المسيح لا يأتي من الجليل وهذا يسوع من الجليل فاذن ليس هو المسيح . اما الفريق الاول فانه كان ضارباً في الحماقة لان الكتب تسمّي المسيح نبياً أيضاً فكلامهم لا ينفي كونه المخلّص الموعود به . ولم يستحقّ الفريق الثاني مَدْحَ سيدنا كما وقع لنثنائيل لان هذا كان محباً للحق ويريد الاطلاع عليهوهؤلاء كانوا يأبون الاهتداء والتعلّم . ولو كانوا صادقين لتقدموا اليه لهُ المجد وسألوه الايضاحات اللازمة لحلّ ارتيابهم . ومع كثرة الاختلافات وتضارب الآراء لم يقدر أحد على امساكه لانهم كانوا عاجزين يشعرون بقوة كبرى تدفعهم عن تحقيق نيتهم الشريرة وما ذلك الّا لان زمن الآلام لم يكن قد أتى . ولو عرفوا واجبهم لتابوا وخضعوا للفضيلة والايمان

     ( 45 ) ” ورجع الشرّط الى رؤساء الكهنة والفريسيين فقال لهم أولئك لِمَ لم تأتوا به ”  ( 46 ) ” فأجاب الشرّط انه ما نطق انسان قط بمثل ما ينطق هذا الرجل ” ( 47 ) ” فأجاب الفريسيون ألعلكم أنتم أيضاً قد ضللتم ” ( 48 ) ” هل أحد من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به ” ( 49 ) ” أما هؤلاء الجمع الذين لا يعرفون الناموس فهم ملعونون ”

     لم يخفّف الفريسيون شيئاً من حقدهم وغضبهم رغماً عما أسمعهم مخلصنا فأنّبوا عبيدهم على تمنعهم عن القبض عليه . اما هؤلاء فكانوا أقلّ منهم شراً اذ أفهموا أسيادهم ان كلام المسيح ليس كلام انسان بل كلام اله وخاف الفريسيون ان يتركهم الشرط وينتموا الى يسوع فلم يظهروا لهم امتعاضاً أو سخطاً . ثم كذبوا في قولهم أنْ لم يؤمن به احد من الرؤساء لان نيقوديموس كان رئيساً وفريسياً وآمن به وتبعه آخرون كثيرون . وأيضاً فضحوا حماقتهم بلَعنهم الشعب المؤمن به وفضّلوه وهم لا يدرون على انفسهم . فان كان جاهل الناموس نظر صدق كلام يسوع وتبعه فباولى حجة يلزم معلّم الناموس ان يؤمن ويتبعه . والناموس يدلّه عليه ويأمره باتباعه

     ( 50 ) ” فقال لهم نيقوديموس أحدهم الذي كان قد جاء الى يسوع ليلاً ” ( 51 ) ” ألعل شريعتنا تحكم على انسان ما لم تسمع منه أولاً وتعلم ما فعل ” ( 52 ) ” فأجابوا وقالوا له ألعلك أنت أيضاً من الجليل . ابحث في الكتاب وانظر انه لم يقم نبيّ من الجليل ” ( 53 ) ” ثم انصرف كل واحد الى بيته ”

     أفهمهم نيقوديموس بجرأة انهم لا يحكمون بالعدل لانهم سمعوا كلام الشرط ولا يريدون ان يسمعوا الشخص عينه الذين يعدّونه مذنباً تبعاً لما يأمر به الناموس فهم اذن جاهلون الناموس لا عارفوه ومعلموه وبذلك دعاهم الى التفحّص عن الأمر للحكم فيه بالعدالة والى البحث عن الذنب وتحقيق وجوده قبل اصدار الحكم . فما زادهم هذا القول المملوء حكمة الّا عمى وطغياناً لانهم أجابوا مخاطبهم بما يدلّ على غضب وعدم لياقة فقد استعلم منهم عن مرسوم الناموس بل ذكره لينير عقلهم فقالوا : امضِ وتعلّم الكتب فانك غير عارف بها ثم احتقروا الجليل ليصغّروا قيمة مخلصنا وافعاله العجيبة ونسوا كلام اشعيا القائل . جليل الشعوب . الشعب الجالس في الظلمه أبصر نوراً عظيماً

 

 

 

 

( الاصحاح الثامن )

( في المرأة الزانية )

     ( 1 ) ” ومضى يسوع الى جبل الزيتون ” ( 2 ) ” ثم رجع باكراً الى الهيكل فأقبل اليه الشعب كلهم فجلس يعلمهم ” ( 3 ) ” وقدّم الكتبة والفريسيون الى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط ” ( 4 ) ” وقالوا يا معلم ان هذه المرأة قد أخذت في الزنى ”       ( 5 ) ” وقد أوصى موسى في الناموس أن ترجم مثل هذه فماذا تقول أنت ” ( 6 ) ” وانما قالوا هذا تجريبا له ليجدوا ما يشكونه به . أما يسوع فأكب يخط بأصبعه على الارض ”       ( 7 ) ” ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم مَن كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر” ( 8 ) ” ثم اكب أيضاً يخط على الأرض ” ( 9 ) ” أما أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً وكان الشيوخ أول الخارجين وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة في الوسط ” ( 10 ) ” فانتصب يسوع وقال لها يا امرأة أين الذين يشكونكِ أما حكم عليكِ أحد ” ( 11 ) ” قالت لا يا رب . فقال يسوع ولا أنا أحكم عليكِ اذهبي ولا تعودي تخطئين ”

     قدّموا هذه المرأة ليسوع ليوقعوه في ما يشتكون به عليه وظنوا يسوع يسر بان يحكم في مثل هذا الأمر وتوهموا انهم يستطيعون تملقه بطلبهم نصيحته فيخدعوه ويصطادوه . ولما كان الرب عارفاً بأفعالهم الناقضة لحرمة الناموس أفهمهم ان حسب ناموس  يلزم الطاهر والعفيف غير المدنس فعلاً وفكراً باسم الدعارة أن يشهد عليها ويرجمها وكانوا كلهم مستوجبين الملامة وساقطين في الدنس فهجروا مكانهم واحداً بعد الآخر ويسوع يكتب خطاياهم على التراب ثم قال للمرأة أين مَن جاؤا بكِ شاهدين عليك قد سمعوا كلامي مثلما سمعتِ فتركوك وهربوا خجلين فامضي مثلهم ولا تعودي الى الاثم . فمن جرى ذلك صدرت الفوائدُ أولاً للمرأة فانه بصفته الهاً عرف توبتها فمنع رجمها تحقيقاً لما قاله من انه جاء لا ليدعو الابرار بل الخطأة الى التوبة . ثانياً لنا اذ نعرف ان الناموس الذي كان حاكماً بالعدل ويقتصّ من المذنبين بدون رحمة . قد مضى زمنه وتلاشت قوته وان باب النعمة فتح امام التائبين . ثالثاً للشاكين انفسهم اذ فضح لهُ المجد خبثهم ونجاسة قلوبهم ودعاهم الى اصلاح السيرة ليكون فيما بعد حكمهم بالحق . وبالفعل قد تعلّمت المرأة ان تصدّ عن المعصية وان تسير بالطهر والعفاف . وما اولى الكتبة الفريسيين بان يُقال لهم لا تدينوا لئلا تدانوا وانكم تنظرون القذى في عين أخيكم ولا تنظرون الخشبة التي هي في عين كل واحد منكم

( في شهادة يسوع لنفسه )

     ( 12 ) ” ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً أنا نور العالم من تبعني فلا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة ” ( 13 ) ” فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك فليست شهادتك حقاً ” ( 14 ) ” أجاب يسوع وقال لهم اني وان كنت أشهد لنفسي شهادتي حق لأني أعلم من أين جئت والى أين أذهب وأما أنتم فلا تعلمون من أين أتيت ولا الى أين أذهب ”

     شهد السيد لنفسه قال انا لست نوراً للجليل ولليهودية بل للعالم أجمع ولكل الامم والشعوب فمن تبعني وآمن بي فانه ينفي عن نفسه الضلالة ويسير في الحق والمعرفة التي تفيد حياة الأبد . وبناءً على ذلك افهم بالنور في الآية المعرفة والحق والحياة وبالظلام الضلالة أو عدم المعرفة والابتعاد عن الله . وقد ادرك الفريسيون ما يرمي لهُ المجد اليه فكذّبوه مجدفين فردّ تكذيبهم وحقق شهادته بدليل الاول انه خرج من الآب فاعلنهم انه ابن الله حقاً الثاني انه يعرف الى أين يذهب أي لا يمكث في ظلمة القبر ولا يبقى تحت سلطان الموت بل يقوم وتأويل كلامه : اني جئت من عند الآب وأنا ماضٍ اليه . وبهذا ترى مساواته الآب بالمجد والكرامة . وهنا اعتراض وحله . سبق له لاسمه السجود انه وبخ في الفصل الخامس مناقضي كلامه عندما اثبت الحكم لنفسه وانه كالآب يحيي الموت ثم قال ان الآب يشهد لهُ وان شهادته لو كانت وحدها لما كانت حقاً . اما هنا فانه يثبت ان شهادته حق فكيف تحلّ هذه المناقضة الظاهرة ؟ الجواب ان في كلامه الاول لم تكن الاعمال التي نسبها لنفسه قد كملت بالفعل فاقتضى اثباتها بان الآب الذي يعتقد به مناقضوه هو يشهد لهُ بها . اما هنا فلأن اعداءه كشفوا الغطاء عن شرهم وحاجّوه فقد اراد ان يبين لهم كذبهم رأساً فقال لهم ما قال ثم زاد لتبكيتهم انهم لاستغراقهم في الماديات المحسوسة لا يريدون ان يفهموا غيرها لانهم لا يرون باعينهم خروجه من الآب

     ( 15 ) ” أنتم انما تدينون بحسب الجسد وأنا لا أدين أحداً ” ( 16 ) ” وان أنا دنت فدينونتي حق لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني ” ( 17 ) ” وقد كتب في ناموسكم أن شهادة رجلين حق ” ( 18 ) ” أنا أشهد لنفسي وأبي الذي أرسلني يشهد لي ”

     ان اقوالكم وافعالكم لا تحوي شيئاً روحانياً فضلاً عن انكم لا تفقهون ما الروحاني فلذلك احكامكم جسدية دنيّة مجبولة بالاثم وانا لست مثلكم وأعلمكم اني لم آتِ في هذا مجيّ الاول لأدين ولو أردتُ ان أدين لعرفتم أنفسكم مذنبين مجرمين وبهذا أشار لهُ المجد الى الدينونة العامة التي يقضي فيها قضاءً مبرماً على الاشرار . ثم بيّن ان حكمه عدل وحكم أبيه عدل أيضاً ليعرف مخاطبوه ان أباه خصمهم وسيدينهم . ولو ان الناموس يقضي يوجود شهادتين حتى يثبت الحق الا ان الله ليس كاذباً كالانسان ولا قابلاً للانخداع فلا يلزمه ان يشهد آخر لهُ ومعه . والسيد المسيح شهد لنفسه وأبوه شهد لهُ أيضاً والشهادتان واحدة في ذاتهما لان القائلين متساويان في الطبيعة والسلطان وبالتالي في القول والشهادة الواحدة . ولاحظ ان ليس مراد مخلصنا أن يثبت كلامه بشهادة اثنين والّا لكان ذكر خدمة الملائكة لهُ وشهادة يوحنا الّا انه بذكر الآب قصد اظهار مساواته به ليس الّا

     ( 19 ) ” قالوا أين أبوك . قال يسوع انكم لا تعرفونني أنا ولا أبي ولو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ” ( 20 ) ” هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يعلم في الهيكل ولم يمسكه أحد لان ساعته لم تكن بعد قد أتت .”

     سأل الفريسيون لا عن مكان الآب أفي السماء أم على الارض بل عن ذاته ومن هو اله هو أم انسان . فكان جواب المخلص انهم لا يعرفونه هو نفسه فكيف يعرفون أباه والاثنان متساويان ومن المستحيل ان يعرف أحد الآب ما لم يعرف الابن وفي هذا المعنى قال اريسطو : ان الأب يعرف بابنه والابن يعرف بأبيه ويستحيل أن يُدعى أحد اباً بدون ابن أو ابناً بدون اب . هذه أقوال السيد المسيح لهُ المجد شهرها في الهيكل وعلّمها بسلطان ولم يتجاسر أحد سامعيه الذين يبغضونه ان يمسكه لانه لا يسلم ذاته الّا باختياره وفي الوقت الذي يشاءهُ وانما تألم وصُلب بارادته التامة

( في تنبؤ يسوع بموت الفريسيين في اثمهم وفي اثباته انه ابن الله )

     ( 21 ) ” وقال لهم يسوع أيضاً أنا أذهب وستطلبونني وتموتون في خطيئتكم . حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا ” ( 22 ) ” فقال اليهود لعله يقتل نفسه لانه يقول حيث اذهب أنا لا تقدرون انتم ان تأتوا ”

     اكثر له المجد من القول بانه يذهب ليخيف اعداءه بان بعد غيابه عنهم يطلبونه ليخلصهم فلا يجدونه وأيضاً ليعلنهم انه باختياره يذهب الى الموت حتى يقوم فيما بعد من بين الاموات . وبعد ان يصلبوه ظلماً وحسداً سيفتشون عن مكان ذهابه لا تفتيش مَن يريد الايمان به بل لاغراض سيئة ولذلك يموتون مصرّين على آثامهم ولو كان له المجد يذهب من هذا العالم كسائر الناس لكان اعداؤه قادرين ان يمضوا اليه عبر الطريق العمومية التي هي الموت ولما كان لكلامه معنى الّا انه سيعمل بعد موته أي يقوم ويرشد الناس ويؤسس الكنيسة ويصعد الى السماء

     ( 23 ) ” فقال لهم انتم من اسفل وأنا من فوق انتم من هذا العالم وانا لست من هذا العالم ” ( 24 ) ” فقلت لكم انكم تموتون في خطاياكم لانكم اذ لم تؤمنوا أني انا هو تموتون في خطاياكم ”

     ظن اليهود ان السيد يقتل نفسه فتكذيباً لظنهم قال ما تأويله : انتم ادنياء وسفليون . وافكاركم شريرة فتحسبون اني مهلك حياتي . اما انا فمن الأعالي السماوية ولا افعل شيئاً من هذا . انتم في العالم مجبولون بالاثم والشرّ اما انا فمن طبع الآب الأزلي ولو ان لي جسداً الّا اني بعيد عن ظنونكم المعوجة وعن شركم الشائن وعن افكاركم المادية وافعالكم الدنسة وقد اتيتُ لأرفع خطيئتكم لكنكم لا تؤمنون بي فجزاؤكم الذي تستحقونه هو ان تموتوا عاصين متصلبين في المعاصي

     ( 25 ) ” فقالوا له مَن انت . فقال لهم يسوع انا ذاك الذي كلمتكم عنه منذ الابتداء ”     ( 26 ) ” ان عندي كثيراً أقوله واحكم به في شأنكم ولكن الذي أرسلني هو حق والذي سمعته منه به اتكلم في العالم ”

     بعد ان سمعوا كلامه الذي فيه : اني أنا هو . سألوه بغش ومكر : من أنت ؟ وقد حسبوا انه سيجيب بانه واجب الوجود مساوٍ للآب . فكان جوابه هادماً لخداعهم ومعناه : انا لست كما تشاؤون ان تسمعوا وتبتغيه اهواءكم أي رجلاً مثلكم بل أنا ذاك الذي افهمتكم مَن هو واثبتتُ اني الله وابن الله بالعجائب التي عملتها وقد قلتُ كثيراً وعملت كثيراً لكن بما انكم لا تستأهلون ان تسمعوا كلامي فاتركوا سؤالي من أنا وكيف لا تنظرون الى عمل واحد من الأعمال التي اتيتها وكيف لا تسمعون قولاً واحداً من الأقوال التي القيتها عليكم . وبسبب انقيادكم الى الشرّ والى تجريبي تارةً تسألون عن هذا . وتارةً عن ذاك . وان رجعتُ الى اعمالكم فمنها يمكني ان أصدر حكمي ضدكم . ولكن أبي الذي ارسلني لا يريد ان ادينكم في مجيّ هذا الاول لانه ارسلني ليحيا العالم بي ولأقول ما سمعته منه نافعاً لخلاصكم

     ( 27 ) ” فلم يعرفوا أنه يقول ان أباه هو الله ” ( 28 ) ” فقال لهم يسوع اذا رفعتم ابن البشر فحينئذٍ تعرفون أني أنا هو وأني لست أفعل شيئاً من عندي ولكن كما علمني الآب كذلك أقول ” ( 29 ) ” والذي أرسلني هو معي ولم يدعني وحدي لاني أفعل ما يرضيه كل حين ” ( 30 ) ” وفيما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون ”

     لم يدرك اليهود ان السيد يثبت لهم ان أباه هو الله . ولو كان انساناً وعبداً رسولاً كما يدّعي الكفرة لقال الانجيلي انهم لم يعرفوا انه عن الله يتكلم لكنه ذكر اسم الآب ليوضح ان المسيح ابن طبيعي سمع ما قاله أبوه وبه يخاطب الناس . قال يوحنا الذهبي الفم : لما رأى مخلصنا ان اليهود لا يقتنعون بما أتاه من المعجزات اثباتاً لتعليمه أخذ يكلمهم في صلبه . ومفاد عباراته : لم تهتدوا بأفعالي وتعاليمي فمتى علقتموني على خشبة الصليب قصد قتلي تتأكدون اني المسيح الموعود به من الآيات الباهرات التي تحدث وتعلمون اني ضابط الكل غير مخالف للآب لأن الموت لا يضرني وتعرفون أيضاً قوتي من عدم مسّ التغير لطبيعتي واني لم ألقِ على آذانكم ما يخالف مشيئة أبي . لكن تكون الساعة ساعة غضب وانتقام ولو انها كاشفة لبصائركم اني الابن الأزلي الحبيب . وأبي الذي شاء أن أتجسد هو معي لأن طبيعته هي طبيعتي . ولأني لا أخالفه لا يدعني وحدي . فهو راضٍ عني كل حين وأنا لست مستوجباً الملامة لنقض السبت . فهذا الخطاب جعل كثيرين يؤمنون بهِ فمنهم مَن اعتقد انه المسيح المنتظر ومنهم من آمن ان ابن الآب مرسل منه ومنهم مَن صدق بصدق تعليمه وحقيقته . وكان ايمانهم به غير كامل وغير صحيح

( في الحرية الحقة وفي مَن هو من الله ومن هو من ابليس )

     ( 31 ) ” فقال يسوع لأولئك اليهود الذين آمنوا به ان انتم ثبتم على كلمتي فبالحقيقة تكونون تلاميذي ” ( 32 ) ” وتعرفون الحق والحق يحرّركم ” ( 33 ) ” قالوا له نحن ذرية ابرهيم ولم يستعبدنا احد فكيف تقول انت انكم تصيرون احراراً ”

     لما كان السيد عالماً بقلة ايمانهم وعدهم بشيء عظيم سام وهو ان يكونوا تلاميذه ان كانوا ثابتين في كلمته ثم ان يعرفوا حقاً من هو لأن عاداتهم وذبائحهم ومحرقاتهم ما كانت الّا ظلاً ورموزاً لا حقيقة بل الحق انما هو السيد المخلص الذي يراه البشر انساناً مثلهم لكنهم يؤمنون به انه ابن الله طبعاً وينظرونه يموت ويتألم فيؤمنون انع غير متألم وغير مائت بما انه اله . ومثل هذا الايمان يطلبه المسيح منا نحن اتباعه . ومن فوائد الايمان هذا انه مُعتق من قيود الخطية ومحرّر من عبوديتها . وقد اغتاظ اليهود من انهم ينالون الحرية بمعرفة الحق وعدّوا كأن ناموسهم ومعارفهم كذب وعبودية . ولانهم غارقون في المادة استحوا من تعييرهم بانهم عبيد للبشر . وما فهموا ان السيد يخاطبهم في عبودية الاثم وكان فخرهم انهم ابناء ابراهيم ونسوا تعبّدهم للمصريين اربعمائة سنة ولملوك بابل سبعين سنة . فجرّدهم لهُ المجد من معتقدهم بقوله :

    ( 34 ) ” فأجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم ان كل مَن يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة”

     ليس معنى كلامي اني احرّركم من عبودية الناس بل من عبودية الخطية التي خضعتم لها باختياركم . وانتبهْ الى ان الانسان ينتسب الى آخر ويعدّه أباه بثلاثة طرق اما بالولادة لانه من زرعه ونسله على شبه ما هم الاسماعيليون المتسلسلون من اسماعيل . واما بالانتخاب كما كان بنو اسرائيل من الله الذي فضّلهم على غيرهم من الأمم والشعوب واما بالايمان والسيرة الصالحة كما يُدعى الوثنيون الذين قبلوا ايمان المسيح ابناء ابراهيم أي انهم شبيهون بابراهيم في ايمانه وسلوكه امام الله . فاليهود كانوا محرومين من انتساب الانتخاب والايمان ولاجل حرمانهم استحقوا التوبيخ وقيل عنهم انهم اسرى الخطية عبيدها لان مختار الله وابن ابراهيم يلزمه الايمان للبرّ

     ( 35 ) ” والعبد لا يثبت الى الأبد وانما الابن يثبت الى الأبد ” ( 36 ) ” فان حرركم الابن صرتم أحراراً حقاً ”

     افهم بالعبد الناموس وتباعه فهو غير ثابت أي لا سلطان لهُ على ان يمنح لمن يريد لانه ليس بصاحب البيت وربه وانما الابن لانه الوريث ولهُ في منزل أبيه سلطة فهو قادر على منح المنح . وتأويل الآية كلها ان الناموس وكهنته عاجزون عن ان يعتقوا احداً من عبودية الخطية لان التخلص من الخطية انما يكون بسلطان الله لا بسلطان مخلوق لكن الابن ينجّي من الخطية واسرها لانه مساوٍ للآب في الطبيعة . ولا مانع من ان تفسر على هذا الوجه أيضاً : انكم تفكّرون في انكم ذرية ابراهيم وانكم مختارون لكن اعلموا انكم عبيد الاثم واثمكم يجعلكم خارجين عن دائرة الاستحقاق لغبطة الله وسعادته اما الابن الذي لم يعمل الاثم فهو مشمول بمحبة الله وانتم آمنوا بي اني ابن الله وقادر على تخليصكم من الخطية فاجعلكم مختاري الله احراراً . وبما اني الابن الطبيعي للآب فان اعتقتكم فلا يقدر أحد على ان ينقض حريتكم . وبقوله حقاً وصف الحرية بانها غير كاذبة وغير مستعارة من أحد وهي أقوى من الحرية التي يهبها انسان انساناً بل هي ذاتية بمعنى انها تنقل الانسان من درجته المناسبة لطبيعته الى درجة أعلى تجعله من ابناء الله وورثته

     ( 37 ) ” وقد عرفت أنكم ذورية ابراهيم ولكنكم تطلبون قتلي لأن كلامي لا محل له فيكم” ( 38 ) ” وأنا أتكلم بما رأيت عند أبي وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم ”

     دلّهم له المجد على انهم يطلبون قتله ظلماً فأفهمهم ان لا يفيدهم فتيلاً كونهم أبناء ابراهيم ومن نسله ما داموا يسعون في قتله ويتخذون وسيلة الى مآربهم كلامه الذي يأبون فهمه كما يجب . ولما كان أمامهم بصفة المعلم كان من واجبهم أن يكرّموه ملتمسين منه تفسير خطابه وعباراته غير محاولين قتله . ومن العادة ان المعلم لا يُلام بل يُكرّم وان سألت ما الكلام الذي لم يفهموه ؟ أجبت انه ذاك الذي أعلن فيه انه ذاهب الى أبيه والى انهم لا يستطيعون الذهاب معه . ومن كان مادياً وغارقاً في الخطية لا يقدر على ادراك ما هو ذهاب السيد الى أبيه وما يشبهه من الأمور الروحية المحضة . ولاحظ المقابلة التي أجراها مخلصنا بينه وبين أعدائه وبين كلامه وكلامهم وأبيه وأبيهم وأفعاله وأفعالهم فهو ينطق بكلام الحق الذي عرفه عند أبيه . وعبارة رأيت تدل على كمال المعرفة منذ الأزل لأن الابن لم يكن عارفاً ثم صار عارفاً بل كان عارفاً دائماً أبداً . أما اليهود فأفعالهم شريرة يعملون بما يتلقونه من ابليس أبيهم الذي لا يقدر على سماع كلمة بل يسعى بدون انقطاع في القتل وارتكاب المعاصي

     ( 39 ) ” أجابوا وقالوا له ان أبانا ابراهيم . فقال لهم يسوع لو كنتم بني ابراهيم لكنتم تعملون أعمال ابراهيم ” ( 40 ) ” لكنكم الان تطلبون قتلي وأنا انسان قد كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله وذلك لم يعمله ابراهيم ”

     ردّ السيد افتخارهم الكاذب بابرهيم فقال : أعمالكم الشريرة تجرّدكم من صفة البنوّة لابراهيم فقد كان ذا اتضاع ولين وايمان حيّ وأنتم ذوو كذب ومكر تريدون القتل وتسرّون بالكفر فأين أعمالكم من أعماله . فليس كل الذين من اسرائيل اسرائيليين . وانه لهُ المجد يقرّ بقرابتهم اللحمية وينفي عنهم القرابة الروحية التي تظهر بالأعمال الصالحة لأنه قال سابقاً قد عرفت انكم ذرية ابراهيم وهنا يقول لو كنتم بنيه لعملتم أعماله . ثم انه سمى نفسه انساناً تنازلاً منه وفضلاً ليقرّب اليه سامعيه وليقطع ما كان الهراطقة مزمعين أن يعترضوا به على تجسده لأنه ذاك الذي خرج من الآب وأتى الى العالم ثم ترك العالم ليعود الى الآب . خرج من الآب بالطبع وأتى ال