سبل وضوابط السرينة والتعريب

سبل وضوابط السرينة والتعريب

بنيامين حداد

 

آباؤنا السريان (الكلدواشوريون)، يُعتبرون من اوائل الرواد في التلاقح بين اللغات، واقتراض المصطلحات اللغوية، في شتي حقول المعرفة الانسانية، وابتكار فنون نقلها الى لغتهم، وسرينتها بل وتعريبها، فهم الاساتذة الاوائل الذين علموا اخوتهم العرب فنون التعريب.

عملية السرينة أو التعريب، هي نقل المفردة اللغوية اللاسامية من قبل السريان والعرب، يضعونها على نظام كلامهم واسلوبهم، وعلى وزن لغتهم، ويدعى اللفظ حينئذ (مُسريناً) او (مُعرباً). 

ونود هنا ان نميز بين (المعرب) و (الدخيل) فالمعرب هو اللفظة الاجنبية التي تقترض بعد تخضع لعملية تحوير وتغيير، وسنتعرض لذلك في اللاحق من حديثنا. اما الدخيل، فهو اللفظ الاجنبي الذي يقترض ويستخدم كما هو دون اي تغيير.

كان الكتبة السريان قد احتكوا باليونان، وأثرت اللغة اليونانية في لغتهم السريانية منذ عصور سبقت المسيحية، وبخاصة في منطقة (اسرونيا) شمال بلاد النهرين، ومركزها الرها (اورفه) الحالية ضمن بلاد تركيا.

وبعد انتشار المسيحية، تمكن المصطلح اليوناني المسرين من ان يفرض وجوده في لغة التعليم السرياني في المدارس الكبرى في الرها ونصيبين وحران والمصيصة وغيرها من مدارس الاديرة والكنائس. والعوامل التي مكنت من دخول المصطلح اليوناني في السريانية، ومن ثم في العربية بيسر وبشكل واسع هي:

1-رغبة العلماء والكتبة السريان في الاطلاع على علوم الاغريق وآدابهم.

2-سيما وان تأثيرات بنهرينية واضحة بينة بدت في الآداب اليونانية، لذا مال السريان الى ترجمتها ودراستها برغبة واندفاع من يحاول رد بضاعته اليه.

3-انقان السريان للغة اليونانية.

4-كون معظم العهد الجديد (الاناجيل الاربعة والرسائل واعمال الرسل) قد كُتبت اصلاً باللغة اليونانية.

وفي فترة القرون السبعة الاولى للميلاد، احتكت اللغة السريانية باللغة الفارسية والاوردية السنكريتية واللاتينية وغيرها… واقترضت الكثير من مفرداتها بعد ان خضعت لعملية السرينة، ومن ثم منحتها لشقيقتها العربية.

بداً التعريب عند العرب منذ العصر الجاهلي، ولقد تعلموا فن التعريب من العلماء السريان، لان الذين ادخلوا الديانة المسيحية الى الجزيرة العربية منذ القرن الثالث الميلادي، بل وربما قبل ذلك، كانوا من السريان (الكلداشوريين)، قدموا من اعالي بلاد بيت النهرين ومن عيلام، اي انهم كانوا من تلامذة مدارس الرها ونصيبين وجنديشابور وغيرها. واستمر التعريب حتى القرن التاسع الميلادي، عصر ازدهار الدولة العباسية وتأسيس بغداد على يد الخليفة ابي جعفر المنصور، الذي سعى الى الانفتاح على ثقافات وافكار الامم آنذاك، متوسلاً الى ذلك بالعلماء السريان حصراً، والذين كانوا على احتكاك بالامم خارج الجزيرة العربية، واطلعوا على ثقافاتهم وآدابهم، وبخاصة اليونانية منها، فترجموا وكتبوا، فضلاً عن اتقانهم للغتهم السريانية وكذلك العربية شقيقة لغتهم.

و في عهد الخليفة العباسي المأمون، فيلسوف الخلفاء العباسيين، والشخصية المنفتحة على كل الافكار، شرقية كانت او غربية، تطور بيت الحكمة الشهير في العاصمة بغداد، ذلك الصرح الثقافي الكبير، فازدهرت حركة الترجمة ونقل العلوم من قبل الاساتذة والعلماء السريان، وصار لعمليتى السرينة والتعريب ضوابط وقواعد وقوانين واصول ثابتة حتمتها وحكمتها طبيعة مشرقية اللغتين السريانية والعربية.

كانت المصنفات اليونانية تنقل الى السريانية، ومنها الى العربية، وخلال ذلك كان يعمد الى سرينة وتعريب المصطلحات والالفاظ اليونانية، فسرينت وعربت المئات من المفردات والمصطلحات اليونانية، وخاصة تلك التي كانوا بحاجة اليها، والتي لم يكن لها حضور في اللغتين السريانية والعربية، فسرينوا وعربوا مصطلحات في الفلسفة والميثولوجبا والحكمة والادب والموسيقى، وفي العلوم الطبيعية والصناعات والطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء، كما سرينوا وعربّوا الكثير من اسماء النباتات والحيوانات والاحجار والمعادن، واسماء الادوية والاغذية وغيرها مما في مختلف حقول المعرفة الانسانية. 

وفي سرينة وتعريب تلك المفردات، كانوا يعمدون الى تغيير في ابنيتها واصواتها واوزانها، يبدلون من اصواتها ما ليس من اصوات اللغتين السريانية والعربية، الى ما هو اقرب منها فحرجاً، سيحركون الساكن ويسكنون المتحرك، ويزيدون وينقصون وفق ما تقضيه السليقة المشرقية السامية في السريانية والعربية، الا ان هناك ما كان يترك دون تغيير، خاصة اذا ما اتفقت اصواته مع اصواتهم.

والكلام في السريانية والعربية وغيرهما من الشقيقات السامية، قد بني على الاصوات المتباعدة المخارج، فالسريان (الكلداشوريون) والعرب يكرهون جمع ما كان قريب المخارج من بعضه في لفظة واحدة، وبسبب ذلك كانوا يعمدون الى التغيير وابدال الاصوات القريبة المخارج بأخرى بعيدة المخارج.

ومعروف ان في السريانية كما في العربية من الاصوات ما لا يجتمع في لفظة واحدة، ومن هنا كان من سهل التعرف على المفردة الغريبة المسرينة او المعربة من قبل الباحثين اللغويين. ومن امثلة ذالك:

عدم اجتماع صوتي الجيم والقاف في السريانية او العربية في الكلمة واحدة، نحو المنجنيق (سلاح)، والقبج (طير)، والجوق (فرقة) والجردقة (رغيف)، والجوسق (قصر) والجوالق (كيس كبير) وغيرها..

ولا يجتمع الصاد والجيم في كلامهم، كما في: الجص والاجاص والصولجان والصنجة (الميزان) وغيرها..

ولا ترد النون وبعدها راء في كلمة واحدة، نحو: نرجس ونورج ونردين ونارنج وغيرها..

ولا ترد الزاي بعد الدال، كما في مهندس، وهنداس.

ولا يركب لفظ من باء وسين وتاء، كما في: بستان وبستوقا (قلة) و الستيباج نبت يعرف بالحسكة).

ولا تجتمع سين مع ذال، كما في: ساذج، سذام (اسم بقلة) وسذاب (نبت طبي) وسوذانق (طير الشاهين) وغيرها..

ولا الصاد مع الطاء، نحو: الاصطفلين (نبت يشبه الجزر).

ولا الطاء مع الجيم، كما في: طاجن (مقلاة) وطازج..

ولا راء مع اللام، كما في: اسطرلاب وغيرها..

وبسبب هذه الخصائص في لغاتنا السامية، لئلا في اجتماع 

الأصوات المذكورة في لفظة واحدة، وكذالك بسبب خلو ابجدياتنا السامية من بعض الأصوات الواردة في الابجديات اللاسامية، مثل: (ج: ch) صوت بين الجيم والشين، (ذ) الزاي المثلثة، صوت بين الزاي والشين، في السريانية والعربية وصوت (v) الافرنجي، وصوت (p) الباء المثلثة في العربية. كان الابدال لازماً في عرف آبائنا في عملية تعريب او سرينة اللفظة لئلا يُدخلوا في كلامهم ما ليس من اصواتهم، هذا فضلاً مما اجروه من تغيير في بنية اللفظة، كزيادة صوت او نقصان صوت، او ابدال حركة باخرى، او اسكان حرف متحرك وبالعكس كما ذكرنا..

فلقد ابدلوا في العربية الجيم التي بين الجيم والكاف ( الجيم غير المعطشة، الجيم المصرية القاهرية)، فجعلوها جيماً معطشة او كافاً او قافاً، فقالوا: ترنجبين وجوالق وجوز واسفنج واترنج ومنجنيق وجنس وزنجيل وغيرها، بالجيم العربية المعطشة، في حين ان اصلها بالجيم غير المعطشة (الجيم المصرية).

وقالوا في العربية ايضاً: كربك او قربك (الحانوت)، والاصل فيها بالجيم المصرية، الجيم غير المعطشة. وقالوا: كدّى (تسول واستعطى) بالكاف، في حين ان اصلها بالجيم غير المعطشة او بالجيم المصرية. في حين ان السريان ابقوا لفظ الجيم غير المعطشة (الجيم المصرية القاهرية) دون تغيير او ابدال لاحتفاظهم بهذا الصوت في ابجديتهم، والذي يعبر عنه حرف (ܓ: كامل)، لذلك قالو: 

(كوزا: ܓܵܘܙܵܐ) الذي في العربية بالجيم (جوز)، وقال السريان (لكما: ܠܓܡܐ) وهو في العربية (اللجام)، وقالوا: (كصا: ܓܲܨܵܐ) اي الجص، و (اطروكا: ܐܸܛܪܘܓܐ) اي الترنج، و (كنسا: ܓܸܢܣܵܐ) اي الجنس، و ( كولقا: ܓܘܼܠܩ̈ܐ) اي الجوالق، و (اسبوكا: ܐܸܣܦܘܓܵܐ) الاسفنج، و (زنكبيلا: ܙܲܢܓܒܝܼܠܵܐ) الزنجيل، وكلها بالجيم المعطشة في العربية كما رأينا.

وابدلوا في العربية الصوت الذي بين الباء والفاء، اي صوت (p) الافرنجي او الباء المثلثة (ب) بالباء العربية، فقالوا: بطاقة، بستوقة، بقصم، برزخ، برواز وغيرها..

والاصل في جميعها باء مثلثة (p).

اما في السريانية فقد ابقوا على (p) هذا، ولم يبدلوا، لوجوده في ابجديتهم، فقالوا:

ܦܸܣܬܩܵܐ ݂ ܦܣܬܘܿܩܵܐ (بستقا)، (بستوقا). 

وفي احيان كثيرة نطقوا السين شيناً، وذلك لقرب الصوتين من بعضهما مخرجاً، فقالوا:

شرطي في العربية بدلاً من ܐܣܛܪܛܝܘܛܐ، وشرب بدلاً ܣܪܵܦ وشأن بدلاً (سان)، وشيرازا بدلاً سير (رباط): ܫܝܼܪܵܙܵܐ في السريانية. وشواظ بدلاً من (سوزا) اي شدة الحريق.

وابدلوا صوت الهاء جيماً معطشة (جيم عربية)، فقالو في العربية: 

برنامج بدلاً من برنامه، وخرج بدلا من خورا، وساذج بدلاً من ساده، طازج بدلاً تازه، وسيرج بدلاً من شيره، ديباج بدلاً من ديباه، بابونج بدلاً من بابونه (زهرة)، ونموذج بدلاً من نموده وغير ذلك..

اما في السريانية فقد عبروا عن هذه الهاء الاخيرة بصوت الكامل (ܓ) اي الجيم غير المعطشة المصرية، فقالوا: ܟܲܪܓܵܐ بدلاً من خوره (الخرج) و ܫܝܼܪܲܓ بدلاً من شيره (السيرج)، وقالو: ܙܝܼܒܲܓ بدلاً من زيوه (زئبق)، و ܕܒ݂ܓܵܐ بدلاً من ديبه (ديباج):..

كما ابدلوا هذه الهاء الاخيرة قافاً قي كلتا اللغتين السريانية والعربية، فقالوا:

الجوالق وفي السريانية ܓܘܼܠܩܵܐ بدلاً من كواله. وقالوا: فستق وفي السريانية ܦܸܣܬܩܵܐ بدلاً من بستة، وباشق وفي السريانية ܒܵܙܝܩܵܐ بدلاً من باشة(طير)، وطابق وفي السريانية ܛܵܒܩܵܐ بدلاً تابه…

وابدلوا صوت الكاف قافاً، فقالوا:

قنب وفي السريانية ܩܲܢܒܵܐ، وغراماطيق وفي السريانية ܓܪܡܛܝܩܝ. وراووق وفي السريانية ܪܵܘܘܩܵܐ، وهرطقة وفي السريانية ܗܲܪܵܛܝܼܩܘܼܬ݂ܵܐ، وقميص وفي السريانية ܩܲܡܝܼܨܬܵܐ، واقليد وفي السريانية ܩܠܝܼܕܵܐ، وقرطاسوفي السريانية ܩܲܪܛܵܝܣܵܐ، وايقونة وفي السريانية ܐܝܩܘܢܵܐ، وابريق وفي السريانية ܐܒܼܪܝܩܵܐ…  وكلها في الاصل بصوت الكاف.

وابدلوا صوت التاء طاءً، فقالو طازج بدلا من تازه، واصطبل وفي السريانية ܐܣܛܒܠܝܢ، وطاولة وفي السريانية ܛܒܠܝܬܐ، بدلاً من تابل، واسطوانة وفي السريانية ܐܸܣܛܘܿܢܵܐ، والطراز والطاجن وغيرها، وكلها في اصلها بالتاء

وابدلوا في العربية صوت الزاي ضاداً، فقالوا: روضة بدلاً من (ريَز)، بالياء المخففة، والضيزن بدلاً من (زيان) اي امرأة شر. وضبطر (الاسد) بدلاً من (زواتر )، وضغر (سيء الخلق) بدلاً من (زكور)… 

كما ابدلوا الزاي من الصاد، فقالوا: رصاص بدلاً من (ارزيز)، وقصر (بيض الثوب) بدلاً من (كازر)…

وكذلك ابدلوا السين صاداً، فقالوا: صنج بدلاً من (سنج)، وصندل بدلاً من (سندل)، وصندوق.. والاصل فيها بالسين.

وابدالات اخرى كثيرة اجروها اثناء عمليتين السرينة والتعريب.

وفي ختام هذه الدراسة السريعة، اود ان اتعرض للفظة (السريان)..

أعتقد ان لا احد يشك في ان العرب لم يأتوا من الجزيرة العربية الى مناطق الهلال الخصيب (العراق والشام)، ومعهم لفظة السريان. هذه الصيغة، صيغة (السريان) كان مولدها على السنة العرب، اخذوه بعد ان احتكوا بالسريان، السكان الاصليين، الشعب الذي كان يغطي المساحة الجغرافية للهلال والخصيب كله. وكان السريان هم انفسهم من قام بتعريب اسمهم (ܣܘܪ̈ܝܐ) باضافة صوت النون في آخره. وهو شأنهم في تعريب اسماء اقوام اخرى،

فقد قالوا مثلاً: رومان في اسم الروم وقالوا في تعريب سكان ايطاليا، طليان، وقالوا في تعريب كلدو او كلدة كلدان، وقالو في سكان افريقيا السود سودان، وما الى ذلك.

اذن نحن السريان انفسنا من وضع مصطلح السريان على السنة اخوتنا العرب، كصيغة معربة للفظة ܣܘܪ̈ܝܐ او ܣܘܪ̈ܝܝܐ. هذه اللفظة التي كانت تدل على كل شعب الهلال الخصيب بكل ما اتخذوه من تسميات. وهذه الحقيقة نلمسها في التراث العربي كله، فقد نعت العرب الكتبة والعلماء والاطباء والمترجمين بكلمة السريان دون تفريق بينهم سواء من كان يعمل التسمية الاشورية او الكلدانية او السريانية، لأن لفظة السريان المعربة عن (ܣܘܪ̈ܝܐ) كانت تشملهم جميعهم ايّا كان انتماؤهم الكنسي.

 

منقول من موقع

المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية