القديس يوستينوس الفيلسوف

القديس يوستينوس الفيلسوف (167+)

 

وممن اشتهر أيضاً في ميدان الدفاع عن المسيحية وعقائدها السمحة وتقاليدها الشريفة في القرن الثاني للميلاد، القديس يوستينوس.

 

نشأته:

ولد يوستينوس وثنياً في مدينة نابلس في السامرة في فلسطين سنة 100 ـ 110 للميلاد. ودرس الفلسفة فصار فيلسوفاً سامرياً، وتقلب في المذاهب الفلسفية: الرواقية والأكاديمية، والفيثاغورية، وتبع خاصة الأفلاطونية فلم ترو هذه المذاهب الفلسفية ظمأه.

 

تنصره:

وفي مجال بحثه عن الحق كان كريشة في مهب الريح حتى كان ذات يوم يسير على شاطئ البحر في مدينة أفسس، شارد الذهن مضطرب النفس، إذا بشيخ طاعن في السن يرافقه ويخاطبه عن عدم جدوى النظريات الفلسفية في العقائد الدينية، وأرشده إلى أسفار الكتاب المقدس التي كتبها الأنبياء الأتقياء بوحي السماء، قبل ظهور الفلاسفة اليونان، وكان أولئك الأنبياء منزهين عن الكذب، وقد تنبّؤوا عن مجيء السيد المسيح وتمت نبواتهم بحذافيرها فيه. وختم الشيخ كلامه قائلاً ليوستينوس «عليك أيها الشاب الطالب المعرفة الحقيقية بمطالعة كتب هؤلاء الأنبياء لكي تستدل على معرفة الحق. وأن تطلب أولاً من اللّـه ليفتح لك أبواب الحياة ليهبط على قلبك النور السماوي، لأن هذه الأمور لا تُفهم ما لم يهب اللّـه ومسيحه معرفتها للإنسان». وغاب الشيخ من أمام عينيه فجأة، ولم يلتقه ثانية، ولكنه أخذ بمشورته فانكبَّ على دراسة أسفار الكتاب المقدس وخاصة أسفار الأنبياء، وعاشر أتباع السيد المسيح فأنار الروح القدس قلبه فتفتق ذهنه، وفهم أسرار الدين المسيحي وآمن بالرب يسوع واعتمد[1] وكان عمره نحو ثلاثين سنة، ولم يخلع ثوبه الفلسفي بل جال فيه مبشراً الطبقات المثقفة، ونفخ في الفلسفة اليونانية روحاً مسيحية فكان أول الفلاسفة المسيحيين، وزهد في الدنيا، ورسم كاهناً وقد دعاه أوسابيوس القيصري «محب الحكمة الحقيقية». وجادل الوثنيين واليهود وجذب عدداً غفيراً منهم إلى الإيمان المسيحي. وذهب إلى روما مرتين واختير للوعظ والإرشاد وأنشأ فيها مدرسة[2]. ويُعد أبرز كتّاب الدفاع عن المسيحية في القرن الثاني للميلاد.

 

أهم مؤلفاته:

قال أوسابيوس القيصري: «وقد نجح يوستينوس هذا في نضاله ضد اليونانيين، ووجه أحاديث متضمنة احتجاجاً ودفاعاً عن إيماننا إلى الإمبراطور أنطونينوس الملقب بيوس، والى مجلس الأعيان الروماني لأنه كان يعيش في روما»[3].

ويدوّن أوسابيوس في تاريخه مقدمة الدفاع الموجّه إلى أنطونينوس غير ذاكر فيما إذا كان دفاعاً واحداً أو دفاعين. وهذه هي المقدمة: «إلى الإمبراطور تيطس اليوس أدريان أنطونينوس قيصر أوغسطس وإلى فيريسيموس[4] وابنه الفيلسوف وإلى لوسيوس الفيلسوف ابن قيصر بالولادة وابن بيوس بالتبني، محب الاطلاع، وإلى مجلس الأعيان المقدس، وإلى كل الشعب الروماني، وأنا يوستيينوس بن بريسكوس وحفيد باكيوس الذي من فلافيانيا بوليس في فلسطين سوريا، وأوجه هذا الخطاب والالتماس نيابة عن المبغضين والمضطهدين ظلماً في كل أمة، وأنا واحد منهم»[5] ومما يقوله: «إن اللفظ «مسيحي» كاللفظ «فيلسوف» لا يشكل في حد ذاته جرماً أو براءة. وإن المسيحيين أبرياء. ولابتعادهم عن إتيان الشر يمثلون العنصر الأفضل في المملكة… وإن الإضطهاد يهيئ للمسيحيين ظرفاً يظهرون فيه تفوق دينهم على الأديان الوثنية… وإن الوثنية من عمل الشيطان»[6].

ويبدأ يوستينوس القسم الثاني من دفاعه الموجه إلى القيصر بذكر حكم الاعدام الذي أصدره حاكم رومة على ثلاثة من المسيحيين، وكان ذلك إن رجلا مسيحياً اسمه بطليموس اشتكى عليه لدى حاكم رومة بأنه مسيحيٌّ، فأمر الحاكم باعدامه. فتقدم مسيحي آخر اسمه لوسيوس سائلاً الحاكم لماذا حكمت على هذا الإنسان بالاعدام، مع أنه ليس بقاتل، ولا بسارق، ولم يرتكب ذنباً آخر سوى أنه يدعو ذاته مسيحياً؟ فأجابه الحاكم بقوله: وهل أنت مسيحي أيضاً؟ فأجاب لوسيوس نعم أنا مسيحي. فأمر الحاكم بأن يعدم لوسيوس مع رفيقه. واذا وجد شخص ثالث اعترف أيضاً بأنه مسيحي، وضمه الحاكم إلى الاثنين الأولين فقُتلوا في آن واحد. فأبتدأ يوستينوس احتجاجه بسرد وقائع هذه الحادثة الاليمة مبيناً الظلم الواقع على المسيحيين، ومما قاله: إنهم لو كانوا بالحقيقة قوماً أشراراً لما كانوا يقبلون الموت بفرح بسبب اعترافهم بدينهم»… وكتب يوستينوس أموراً أخرى للإمبراطور ملتمساً منه معاملة المسيحيين بالعدل والرحمة. مفنداً التهم الباطلة الموجهة ضدهم، وسماهم: «كرماً غرسته يد اللـه»[7].

وقد صدَّ يوستينوس هجمات اليهود الفكرية في محاورته مع تريفون اليهودي في أفسس التي دامت مدة يومين، ودونها يوستينوس بكتاب. وفيها برهن على اتمام النبوات التي ذكرها أنبياء العهد القديم بالرب يسوع، ماسيا المنتظر. ويشرح أن الناموس المسيحي هو ناموس الكمال وأنَّ ناموس موسى كان موقتاً، وان الشعب الذي يؤمن بالمسيح ويعمل بوصاياه يحق له أن يدعى شعب اللـه[8].

ويشرّع يوستينوس فيما كتبه من كتب الدفاع عن المسيحية، بعض عقائد المسيحية وطقوسها[9] وفي هذا المضمار يعد أول كاتب مسيحي، يكشف للوثنيين واليهود عن بعض طقوس المسيحية وفرائضها، فقد شرح كيفية قبول الفرد في حظيرة المسيح بعد قبوله الإيمان، واجتيازه الاختبار، وكيف أن المسيحيين يأخذونه إلى جدول ماء قريب، حيث يقبل سر العماد المقدس ثم يأتون به إلى حيث يجتمع المقدس. ويقول يوستينوس عن القربان المقدس انه يدعى سر الشكر «الافخارستية» ولايحق أن يتناوله الامن تمسك بالإيمان القويم الذي يتمسك به أتباع المسيح الحقيقيون ويكون قد تنقى من خطاياه وحفظ وصايا الرب يسوع، وتعاليمه الالهية. وان الخبز والخمر اللذين يتناولهما المؤمن، بعد تقديسهما، هما سر جسد الكلمة والمتجسد ودمه[10].

استشهاده:

أفحم يوستينوس فيلسوفاً وثنياً اسمه قريسقوس، فحقد هذا عليه، ووشى به، وبستة آخرين، لدى روستيكوس والي رومة، فاستجوبهم هذا، فاعترفوا بإيمانهم جهراً[11] وحاول الوالي اقناعهم بوجوب الخضوع للآلهة الوثنية والسجود لها فأبوا قائلين أنهم يخضعون للأوامر الإلهية الصادرة من السماء. ثم سأل الوالي القديس يوستينوس عن عمله، وكيف وصل إلى الإيمان بالمسيح، فقدم يوستينوس شهادته عن كيفية تفتيشه عن الإله الحقيقي حتى وجده. وبدأ القديس يشرح للوالي طريق الخلاص بالمسيح ونيل الحياة الأبدية فأجابه الوالي قائلاً: هل تظن بأنني إذا أمرت بضربك من الرأس إلى القدم وأعدمتك الحياة أنك تذهب إلى السماء. أجاب يوستينوس: إنني واثق من ذلك وليس لي فيه أدنى ريب أو شك… حينذاك اشتد غضب الوالي وحكم على يوستينوس ورفقائه الستة بقطع رؤوسهم، بعد تعذيبهم، فأخذهم الجلادون إلى موضع الاعدام، وقد امتلأت قلوبهم فرحاً، «لأنه قد وهب لهم لأجل المسيح لا أن يؤمنوا به فقط بل أن يتألموا لأجله» (في 1: 29) لذلك كانوا ينشدون الترانيم الروحية ممجدين اللـه. وبعد ضربهم بالعصي بضراوة ووحشية، ضرب الجلادون أعناقهم ففاضت أرواحهم الطاهرة إلى السماء، وأخذ المؤمنون أجسادهم المقدسة ودفنوها باكرام. وكان ذلك بين 163 و167 للميلاد.

ومما دوّنه مار يوستينوس في كتاباته التي دافع بها عن المسيحية قوله: «لو كنا ننتظر ملكاً أرضياً لما كنا نمضي إلى الموت بسرور بل كنا ننكر أننا مسيحيون لأن نهاية حياتنا هنا معناها نهاية ما نشتهي من ملك أرضي. على أننا نؤمن باللّـه الذي لا يخفى عليه شيء وهذا الاعتقاد يصير فضائلنا خالصة من الرياء وهوذا الأوثان مع رسوم عبادتها القاسية لا تقدر أن تضبط الأشرار لأن خدامها بشر لا تعرف ما في القلوب على أن الناس لو كانوا آمنوا مثلنا بوجود اله واحد مطلع على أسرار القلوب الخفية لكان الخوف يصدّهم عن الشر ويرتدون عن كل فكر شرير. ان الهنا الذي نعبده يحاسب على الأفعال والأقوال حتى الأفكار فإنه يؤاخذ على أدنى فكرٍ رديء»[12].

 

الهوامش

——————————————–

([1])ـ أوسابيوس القيصري التاريخ الكنيسة  4: 11 ص173.

([2])ـ الدرر النفيسة ص 191 ـ 192.

([3])ـ تاريخ الكنيسة لأوسابيوس (4: 11).

([4])ـ أي مرقس أوريليوس الذي كان اسمه الأصلي مرقس اينوس فيروس قبل ان يتبناه الامبراطور فدعي فيريسيموس.

([5])ـ فيه 4: 12.

([6])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية أسد رستم ص 69.

([7])ـ الدرر النفيسة ص192.

([8])ـ مدينة اللّـه أنطاكية ـ ص70.

([9])ـ مدينة اللّـه أنطاكية ـ ص70.

(4)ـA History of christianity, ray, petry, Duke 1962, V. 1, pp. 21 – 22 &  the Faith of The early fathers, W. jurgens Ohio 1970, pp. 50 – 57.

([11])ـ الدرر النفيسة ص 192.

([12])ـ تاريخ الكنيسة  ـ مدارس الاحد القبطية الأرثوذكسية بالجيزة 1952ج1 ص82 و83.