القديس مار إغناطيوس النّوراني

القديس مار إغناطيوس النّوراني (107+)

 

تمهيد:

تُعدّ ترجمة حياة مار إغناطيوس النوراني، بطريرك أنطاكية الثالث، أقدم تاريخ بيعي بعد أسفار الكتاب المقدس. دوّنها من رافقه إلى رومية حيث نال إكليل الشهادة، كما أن الرسائل السبع التي كتبها وبعث بها إلى بعض الكنائس وإلى زميله بوليقربوس أسقف أزمير تلي الأسفار المقدسة أهمية في الكنيسة المسيحية من النواحي الروحية والعقيدية والشرعية والتاريخية.

 

أصله:

هو سرياني الأصل على رأي أغلب المؤرخين الثقات[1] ويظن أنه ولد حوالي سنة 35م[2] ويقول المؤرخ تيلمون في معرض كلامه عن رسائله: «إن إنشاء القديس (إغناطيوس) يتبع حركات حرارته أكثر من أصول النحو، ويظهر أن لسانه لم يكن يكفي للتعبير عن جلائل أفكاره. وفي هذا نرى سمواً، ناراً، وقوة، وجمالاً روحياً. لم يكن عاماً أبداً، حتى ارتاب فيها بعض العلماء وقالوا هل هذه الرسائل البديعة هي من يراعة صدر النصرانية؟ كلها ملأى عواطف وهي إحساسات عميقة تقتضي التأمل فيها لكي تعرف وتفهم جيداً. وأنّا نجد في إنشائه من المزايا ما يدعونا للاعتقاد بأنه سرياني المنبت أكثر منه يونانياً. فإن فوسيوس يلاحظ منها سجية السريان في امتداد حبل الصفات ووفور النعوت»[3].

 

أسماؤه:

تنصر إغناطيوس في أنطاكية، وتتلمذ على أيدي الرسولين مار بطرس في أنطاكية ومار يوحنا في آسيا الصغرى. وبالإضافة إلى اسمه الأصيل (إغناطيوس) وهو باللغة اللاتينية، وقد ترجم إلى السريانية فصار «نورونو» أي النوراني، اتّخذ له اسماً حقيقياً آخر هو (ثاوفوروس) ومعناه (حامل اللـه)، وإذا حوّرت هذه اللفظة اليونانية يصير معناها (الذي حمله اللـه). من هنا جاء رأي بعضهم[4] أن القديس مار إغناطيوس كان أحد الأطفال الذين احتضنهم الرب يسوع ليعطي رسله الأطهار مثالاً للتواضع المسيحي حيث قال لهم: «الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت18: 1 ـ 4 ولو9: 46 ـ 49)، أما مار يوحنا الذهبي الفم (407+) فيؤكد أن مار إغناطيوس لم يرَ الرب يسوع في الجسد قط، إنما كان تلميذ الرسولين بطرس ويوحنا[5].

وسمّى يوحنا الصوّام أسقف القسطنطينية في آخر القرن السادس[6]، مار إغناطيوس (بيت اللّـه ومسكنه) ومن هنا جاءت الخرافة التي دسّت قصته لدى اللاتين الذين زعموا أن قلبه كان بعد وفاته متقطعاً ووجد فيه اسم «يسوع المسيح» مكتوباً بأحرف ذهبية، الأمر الذي يرفض جملةً وتفصيلاً لأنه يخالف الواقع التاريخي الذي يؤكد أنه لم يفضل من جثمانه الطاهر بعد استشهاده إلا أغلظ العظام.

 

تسقّفه على أنطاكية:

قال أوسابيوس القيصري (340+) في تاريخه الكنسي: «كما اشتهر أيضاً إغناطيوس الذي اختير أسقفاً لأنطاكية خلفاً لبطرس والذي ما تزال شهرته ذائعة بين الكثيرين»[7] وارتأى بعض المؤرخين أنّ ظروف الكنيسة في أنطاكية قضت بأن يسام أفوديوس على المسيحيين الذين من أصل أممي وثني. ذلك أن اليهود المتنصرين كانوا إلى ذلك الزمن يمارسون بعض الفرائض التي تقتضيها شريعة موسى. فرئس أفوديوس وإغناطيوس معاً في أنطاكية حتى انتقال أفوديوس إلى الخدور العلوية، فوحد إغناطيوس الفريقين، وأطلق على الكنيسة صفة (الجامعة). وهو أول من استعمل هذه اللفظة كنعت للكنيسة المسيحية.

ذكر مار يوحنا الذهبي الفم (407+) أن مار إغناطيوس رسم أسقفاً على أنطاكية بأيدي الرسل وخاصة مار بطرس ومار بولس. وأما أوسابيوس القيصري (340+) فيعين تاريخ تسقف مار إغناطيوس إلى أنطاكية سنة 68م أي بعد استشهاد الرسولين مار بطرس ومار بولس، ويجعل مار أفوديوس أول أسقف لأنطاكية بعد الرسول بطرس[8]. وللتوفيق بين الرأيين يرى بعضهم أن أوسابيوس أخطأ بتعيين تاريخ تسقف مار إغناطيوس، أو أن رسامته وأفوديوس أسقفين على أنطاكية تمت في آن واحد، كما ذكرنا، فصحَّ اعتبار مار إغناطيوس خليفة مار بطرس الرسول ومار أفوديوس في آن واحد.

مار أفوديوس بطريرك أنطاكية الثاني:

وهكذا يعتبر مار أفوديوس أول خليفة للرسول بطرس على الكرسي الرسولي الأنطاكي، ويعيّن أوسابيوس (340+) بدء رئاسته سنة 43، وقد سكت المؤرخون القدامى عن تفصيل ترجمة حياته، وينظّمه بعضهم في صف السبعين تلميذاً، ويسمونه رسولاً، ويعيّدون له، ويعتبره آخرون شهيداً، نال إكليل الشهادة في آخر عهد نيرون[9] ويقول آخرون: إنه مات حتف أنفه. وينسب إليه كتاب يدعى (النور‎) وضع على شكل رسالة وهو مفقود، ولا يُعرف مضمونه.

 

مار إغناطيوس الأسقف وحالة الكنيسة على عهده:

في رسالته إلى رومية، يسمي مار إغناطيوس نفسه أسقف سورية. ذلك أن أنطاكية كانت عاصمة سورية القديمة.

كانت مهمة الأسقف صعبة جداً، في الظروف القاسية التي كانت كنيسة أنطاكية تجتازها عصرئذ. وكان مار إغناطيوس يترجم بالعمل ما كتبه بعدئذ إلى زميله الأسقف بوليقربوس في موضوع رسالة الأسقف قائلاً، ومعناه: «اعرف سمو مركزك واحرص على سير الأمور الزمنية والروحية، بصورة صحيحة (في الكنيسة). اهتم بوحدة (الرأي) فالوحدة من أعظم النعم. ساعد الجميع كما يساعدك الرب وتحملهم بمحبة. واظب على الصلاة واسأل اللّـه ليهبك باستمرار حكمة. كن يقظاً ولا تدع عقلك يغفو وينام أبداً. كن دائماً وفي كل الأمور حكيماً كالحية ووديعاً كالحمامة (مت10: 16) لا يضطرب قلبك وأنت تجابه أهل البدع والأضاليل… اثبت كالسندان تحت المطرقة… لا تهمل الأرامل بل اعتن بهنّ لأنك سندهن، بعد اللـه، إن المصارع البارع ينتصر في النهاية برغم ما تصيبه من ضربات قاسية، فكم بالحري يجب علينا أن نتحمل كل شيء في سبيل اللّـه كي يتحملنا بدوره، ضاعف الغيرة، ميّز، الأزمنة، ولا تسمح أن يجري شيء (في الكنيسة) بدون إذن منك. ولا تقدم على شيء بدون الرب الإله، لا تزدر بالعبيد، اهرب من الأعمال القبيحة، وأشهر حربك عليها» هذا ما كان يمارسه مار إغناطيوس في خدمته للكنيسة كأسقف. محارباً الخرافات والأضاليل اليهودية والوثنية، التي حاول بعضهم دسّها في صلب العقائد المسيحية، كما ناهض البدع والهرطقات العديدة التي ولدت الشكوك بضلالتها، وحاولت عرقلة مسيرة نشر البشارة الإنجيلية.

كانت السلطة الرومانية تتحيّن الفرص للإيقاع بأتباع السيد المسيح وقد استشهد عدد هائل منهم في اضطهادات أثارها ضدهم القياصرة الرومان، ذلك أن التنكّر لدين الدولة، كان لدى الرومان واليونان، يعادل التآمر مع أعدائها، وبالتالي فهو التورط في الخيانة العظمى للوطن. وكان المسيحيون يعرفون جيداً أن عبادتهم الرب يسوع كانت تتنافى كل التنافي مع مطالب الحكومة الرومانية من كل مواطن بأن يعبد الإمبراطور الروماني وكانت الدولة الرومانية على أثر اتساع رقعة استعماراتها قد اعترفت بآلهة الشعوب الداخلية في حكمها، واعتبرت الدين اليهودي ديناً شرعياً لليهود الذين لهم حريتهم باعتقادهم باله واحد. واعتبرت المسيحية فرقة من فرق اليهود. ولكن اليهود أبوا أن يشاركهم المسيحيون الامتيازات التي يتمتعون بها، فأعلنوا للدولة أن المسيحيين ليسوا يهوداً، فزادت شكوك الدولة بنيات المسيحيين وكراهيتها لهم وأخذت تدوّن أسماءهم، مفتشة عن زعمائهم[10] لاسيما لما جبى الإمبراطور دمطيانوس (81 ـ 96) ضريبة الهيكل من اليهود، وأكره المسيحيين أيضاً على دفع هذه الضريبة وإرسالها إلى صندوق رومة. فأقلقت هذه الترتيبات بال القديس مار إغناطيوس وقضّت مضجعه لأن عدد المسيحيين كان آخذاً بالازدياد في سورية، وكان عددهم في أنطاكية وحدها قد بلغ نحو مئتي ألف نسمة[11] وكانت المقاومة للمسيحية قد أخذت أشكالاً عامة من عداوة شعبية وحملات فكرية واضطهاد جسماني وكان مار إغناطيوس يكثر من الصلاة والصوم طالباً إلى اللّـه تعالى أن يخفف الشدة عن المؤمنين، وأن يهبهم نعمة الصبر ليتحملوا صنوف العذاب في سبيل الإيمان، وكي يكونوا مستعدين لتقبل إكليل الشهادة حباً بالمسيح يسوع ربنا، وكان مار إغناطيوس ذاته، إبان اضطهاد دومطيانوس، توّاقاً إلى نيل إكليل الشهادة ليحظى بالحياة الأبدية مع الرب يسوع.

ولما هلك دومطيانوس هدأت عاصفة الاضطهاد على عهد نرفا (96 ـ 98) الذي ارتقى عرش الإمبراطورية وهو طاعن في السن، وأبطل اضطهاد المسيحيين، فتنفست الكنيسة الصعداء فترة قصيرة من الزمن، ولكن لما ملك الامبراطور تراجانوس (98 ـ 117) وكان يبغض أتباع الرب يسوع بغضاً شديداً، كابد المسيحيون في أيامه ما كابدوه في أيام نيرون (54 ـ 68) ودومطيانوس (81 ـ 96) فقد وافق تراجانوس على تنفيذ قانون نيرون الذي يعتبر التمسك بالدين المسيحي خروجاً على القانون، وتميّز الاضطهاد الذي أثاره على المسيحية في تشديد الخناق على قادتها الروحيين. فاستشهد العديد منهم في أماكن شتى. فصلب سمعان أسقف أورشليم وقتل كرزونوس أسقف الإسكندرية وألقى إغناطيوس أسقف أنطاكية إلى الأسود، كما سنرى. وربط عنق أكليمنضس أسقف روما بمرساة وطرح في البحر. ويرى الذهبي الفم (407+) أن إبليس وهو يهاجم الأساقفة في شدة تراجانوس، كان يحاول تثبيط عزيمتهم باقتيادهم إلى أبعد المواضع ليعانوا عذاباً أقسى وهم يجدون أنفسهم يجاهدون منفردين بعيدين عن أبنائهم الروحين، وصفر من التشجيع والتعزية ولكن خاب ظن إبليس وأتباعه فقد أظهر الآباء الروحيون وكذلك سائر المؤمنين، بطولات روحية عميقة، كانت خير وازع لتشديد الضعفاء وجذب الغرباء إلى حظيرة المسيح فصّح القول «إن دم الشهداء بذار الإيمان».

ومما يذكر بهذا الصدد أن بلينوس سكندس[12] حاكم بيثينية وهو من أشهر الولاة في زمانه، أزعجته كثرة عدد الشهداء، ذلك أنه حكم على بعض المسيحيين بالموت وحرم البعض من حقوقهم المدنية، فثارت عليه الجماهير، فارتبك، وكتب إلى الامبراطور تراجانوس يستشيره، وأخبره في رسالته بوضوح عن العدد الوفير من المسيحيين الذين تقدموا إلى نيل إكليل الشهادة بفرح معترفين بإيمانهم، يطلب إليه ليعرّفه عما يجب اتخاذه في هذه الحالة، وما قاله في رسالته: «إنني لم أجد في المسيحيين ما يستوجب القتل، ولم أجد فيهم شيئاً مشيناً، أو مخالفاً لشريعة المملكة سوى أنهم يستيقظون باكراً، ويرتلون بعض الترانيم للمسيح ربهم. ومع هذا فهم يحرمون الزنى والقتل وأمثالهما من الجرائم الأخلاقية ويفعلون كل شيء وفق الشرائع» وأضاف قائلاً: «إن عدد المسيحيين كثير في كل مدن بيثينية وقراها، وإنه لا يعرف كيف يتصرف معهم». فأجابه تراجانوس: «بألا يجري التفتيش على المسيحيين كما كانت العادة في زمن أسلافه، بل عندما يؤتى إليك بأناس منهم، اسألهم إن كانوا بالحقيقة كذلك، فإن أجابوا بالإيجاب، تهددهم بالقتل، وان أصروا على أنهم خدام المسيح اقتلهم. وان أنكروا إيمانهم وذبحوا للأوثان، أطلقهم». ومن ذلك الوقت لم يَعد الاضطهاد على المسيحيين عنيفاً، ولكنهم لم يكونوا آمنين على أنفسهم ذلك أنّ أعداءهم، من الحكام والشعب، كانوا يتحينون الفرص للإيقاع بهم بتوجيه التهم إليهم بمخالفة الشريعة فيحكم عليهم بالموت، بعد أن يساموا صنوف العذاب، وبهذه الصورة حصلت اضطهادات محلية في مقاطعات عديدة واستشهد عدد هائل من المؤمنين حباً بالمسيح يسوع[13].

 

الحكم على مار إغناطيوس بالموت:

وُشي بالأسقف إغناطيوس إلى حاكم أنطاكية بأنه زعيم المسيحيين وقد جذب عدداً كبيراً من اليهود والوثنيين إلى حظيرة المسيح، فاستقدمه الحاكم، واستجوبه، فاعترف القديس إغناطيوس بالإيمان بشجاعة فائقة، فحكم عليه بأن يساق إلى رومية ويُطرح هناك للوحوش الضارية لتفترسه.

وهناك رواية تقول: إن الحكم على مار إغناطيوس بالموت صدر مباشرة من الامبراطور تراجانوس وهي السنة 106 وقد تعجرف جداً لما حازه من الغلبة في العام الماضي على الداقييين والسكيثيين وغيرهم من الأمم، أثار الاضطهاد الشديد على المسيحيين لجذبهم لعبادة الأبالسة، وأخذ يهدد الأساقفة خاصة بالموت الزؤام ما لم يقدموا الذبائح للأوثان. وبرح رومية في تشرين الأول من عام 106، واجتاز أرمينية الصغرى، وبلغ سلوقية في كانون الأول، ودخل أنطاكية يوم الخميس سابع يوم من كانون الثاني من السنة 107، ووشي إليه بأسقفها البار مار إغناطيوس، فاستدعاه، فأسرع القديس بالمثول أمامه لعله يفدي بنفسه رعيته ويجنبها الشدة. وسأله الإمبراطور قائلا: من أنت أيها الروح الشرير حتى تعصي أوامرنا وتحث الناس أيضاً على عصيانها؟.

فأجاب القديس مار إغناطيوس قائلاً: لا يسمي أحداً ثاوفوروس روحاً شريرة لأن الأرواح الشريرة تهرب من أمام خدام اللـه.

قال الإمبراطور: ما معنى ثاوفورس؟

أجاب القديس: الحامل اللّـه في قلبه.

قال الامبراطور: من يكون هذا الذي يحمل اللّـه في قلبه؟

أجاب القديس: إن كل من يؤمن باللّـه الآب وبابنه الوحيد يسوع المسيح، وبروحه القدوس، الإله الواحد، ويعمل الصلاح لأجل اللّـه وحباً به تعالى، فهو يحمل اللّـه في قلبه.

قال الإمبراطور: إذن أنت تحمل اللـه!؟

أجاب القديس: نعم أنا احمل اللّـه في قلبي، لأن ربنا يسوع المسيح وعدنا بقوله: «الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي… واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً (يو14: 21 و23).

قال الإمبراطور: نحن أيضاً نحمل آلهتنا معنا في الحروب لتحارب عنا فنظفر بأعدائنا.

قال القديس: لا يمكن للأصنام عديمة الحس أن تكون آلهة.

قال الإمبراطور: دع عنك هذا الكلام واذبح للأصنام التي هي آلهتنا، فتظفر مني بالعطايا الفاخرة، وأجعل منك عظيم أحبار ديانتنا.

قال القديس: زادك اللّـه من غناه أيها الامبراطور الموقر، أنا خادم سيدي يسوع المسيح، وعبده، وكاهنه، وله وحده أقدم ذبائح الشكر، بل أنا على أتمّ الاستعداد لأقدم ذاتي ضحية على مذبح محبته.

ولما سمع الإمبراطور تراجانوس أجوبة القديس مار إغناطيوس استشاط غضباً وأصدر حكمه عليه بالموت، وأمر أن يكبل بالقيود الثقيلة ويساق إلى رومية حيث يطرح للوحوش الضارية في احتفالات الأعياد الوطنية، ليبتهج الشعب بمشاهدة الوحوش الشرسة وهي تفترسه بنهم، لعله يصير عبرة للآخرين فيقدمون الذبائح للأوثان.

فلما سمع القديس قرار الامبراطور، انبسطت أساريره وهش وبش، وقبّل الأغلال التي قيد بها، وهو يقول، أحمدك اللهم لأنك شهادة محبتي الكاملة لك، شرفتني أن أصفد بالأغلال الحديدية الثقيلة، مثل الرسول بولس صفيّك. وكل ما أتمناه الآن أن تسمح بأن تمزقني الوحوش سريعاً لأصل إليك… ثم صلى بدموع سخية لأجل كنيسة أنطاكية التي ساسها أربعين سنة، فلما شعر المؤمنون بذلك أسرعوا أفواجاً باكين، ومتبركين منه، مودعين إياه[14].

يشك بعض المؤرخين بصحة رواية محاكمة مار إغناطيوس أمام الامبراطور تراجانوس في أنطاكية. ذلك أن أوسابيوس القيصري (340+) ويوحنا فم الذهب (407+) يذكران أن القديس إغناطيوس حوكم أمام حاكم أنطاكية وليس الامبراطور. وبما أن الرواية تقول أن الامبراطور تراجانوس ذهب إلى أنطاكية لمناسبة الحرب الفرثية، وتعين تاريخ هذه الحرب في السنة 107 ويظهر لنا التناقض بمجرى حوادثها أنّ تلك الحروب وقعت بين السنتين 115 ـ 117 لا قبل ذلك[15] فيكون شكوك بعض المؤرخين بصحتها هي في مكانها، لأننا حتى لو أخرنا تاريخ استشهاد مار إغناطيوس إلى السنة 110 كما يفعل بعضهم، فإننا لا نستطيع أن نوفّق بين حادثة الاستشهاد وزيارة تراجانوس لأنطاكية، فالرواية مليئة بالتناقضات مما يدل على أنها موضوعة.

في الطريق إلى رومية:

كانت مسيرة مار إغناطيوس من أنطاكية إلى رومية مسيرة مجد وسؤدد للمسيحية المضطهدة المتعبة، في مستهل القرن الثاني للميلاد، كما يعد استشهاده من أهم حوادث التاريخ في ذلك الزمن.

غادر الأسقف إغناطيوس أنطاكية سالكاً طريق البر، على رأي بعضهم، وعبر آسيا الصغرى، مجتازاً أماكن شتى التقى فيها المؤمنين حتى وصل إلى ازمير، وكان يخفره عشرة جنود قساة، أوكلوا مهمة توصيله إلى رومية، بلغوا من القسوة والشراسة درجة كبيرة حتى أنّ القديس يسميهم فهوداً، فإنهم قد أساؤوا معاملته بقدر ما أحسن إليهم.

يقول أوسابيوس القيصري (340+): «وفي أثناء رحلته وسط آسيا وكان تحت حراسة عسكرية شديدة، كان يشدد الكنائس في المدن المختلفة حيثما حطّ رحاله، وذلك بعظات ونصائح شفوية. وكان فوق كل شيء يحثّهم ليحترسوا أشد الاحتراس من الهرطقات التي كانت قد بدأت تنتشر وقتئذ وينصحهم للتمسك بتقاليد الرسل. وكان علاوة على هذا يراه من الضروري أن يدعم تلك التقاليد بأدلة يكتبها، وأن يعطيها شكلاً ثابتاً ضماناً لسلامتها»[16].

ولما وصل إلى أزمير هرعت لاستقباله، والتبرك به، أساقفة مغنيزيا، وأفسس، وفيلادلفيا في وفود كنائسهم التي ضمت كهنة وشمامسة ومؤمنين ومؤمنات.

وارتأى بعضهم أن الجند أخذوا مار إغناطيوس في طريق البحر، فبعدما غادروا أنطاكية إلى سلوقية التي على مصب العاصي جاؤوا إلى مرفأ قيليقية أو بمفيلية، وأركبوه سفينة مخرت بهم عباب اليم بمحاذاة السواحل الآسيوية، حتى وصلوا إلى أزمير. وهناك هرع المؤمنون من كل حدب وصوب للتبرك منه ورافقه الكثيرون منهم إلى رومة، كما تقدمه مسيحيون من أنطاكية وغيرها في طريق أقصر وتوجهوا إلى رومة لينتظروه هناك.

وكان برفقته الشماس أغاثوده من سورية والشماس فيلون من قيليقية، وإذ كان مار إغناطيوس مكبلاً بالقيود ولا يقوى على الكتابة استكتب الشماس فيلون كما كان هذا أيضاً يسعف القديس في الوعظ.

يقول مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري مفريان المشرق (1286+) في كتابه تاريخ البطاركة ما يأتي: «أُسِر مار إغناطيوس في أنطاكية، وأرسل إلى رومية وفي طريقه ثبت في الإيمان المؤمنين الذين التقوه وكان يقول: «إني حنطة اللّـه النقية، ولابد أن أطحن بأنياب الوحوش الضارية، لأصير خبزاً لذيذاً يقدم على المائدة السماوية»[17].

ويذكر أيضاً عن القديس مار إغناطيوس انه كان يقول للمؤمنين الذين التقوه في أزمير «إني أرى بينكم شهداء كثيرين فتشددوا يا أحبائي في الإيمان والمحبة» وحثهم على التمسك بتعاليم الرب يسوع وما تسلموه من الرسل الأطهار، وتقديم واجب الطاعة للأسقف ولذوي الرتب الكهنوتية كافة، وان يفتكروا بالحياة الأبدية، ويتجنبوا أهل البدع الخبيثة التي حاول بعض الهراطقة دسها في صلب العقيدة المسيحية السمحة.

 

 

بوليقربوس أسقف أزمير (155+):

وفي ازمير التقى مار إغناطيوس أسقفها مار بوليقربوس الذي كان خدينه في التتلمذ على يد القديس يوحنا الإنجيلي، وهنأه بوليقربوس لاستحقاقه نيل إكليل الشهادة الذي تمناه هو لنفسه أيضاً، وقد استجاب الرب طلبة بوليقربوس واستشهد هو الآخر سنة 155م على عهد القيصر انطونينس بيوس(138 ـ 161) ذلك أن والي أزمير أمره أن يجحد السيد المسيح، أثناء الشدة التي أثيرت في المدينة ضد أتباع الرب، فأجابه القديس بوليقربوس: إن لي ستاً وثمانين سنة وأنا أخدم المسيح سيدي فلم أرَ منه إلا خيراً فكيف أنكره؟ فغضب الوالي وقال له: «إن لم تطع فستحرق حياً، فأجاب القديس أما نارك فتحرقني لحظة ثم أحيا إلى الأبد مع سيدي والهي في السماء. فأمر الوالي بحرقه، فدنا من النار وهو يصلي ويرنم مبتسماً مبتهجاً ولكن لم يكن للنار سلطان عليه فلم تؤثر فيه بأعجوبة. فأخبر اليهود الوالي فأمر فطعن بخنجر ففاض من دمه ما أطفأ النار ثم استلّ أحدهم سيفاً وضرب عنقه فنال إكليل الشهادة الذي كان يتوق إليه وذلك سنة 155 وقيل 156 وقد كتب هذا القديس عدة رسائل[18].

وهو الذي جمع رسائل القديس إغناطيوس، وأرسلها إلى أهل فيلبي مصحوبة برسالة منه إليهم كما سنرى.

 

 

رسائل مار إغناطيوس:

وخلال وجود مار إغناطيوس في أزمير كتب أربع رسائل نفيسة جداً وجهها إلى كنائس أفسس، ومغنيزية، وترلّس، ورومية.

وأُركب البحر من أزمير وأقلعت السفينة به وبصحبه، وجيء به إلى طروادة، فبعث من هناك بثلاث رسائل إلى فيلدلفيا وأزمير وأسقفها مار بوليقربوس. وواصلوا السفر، ورغب في أن ينزل في بوتبولي اقتداء بالرسول بولس، ولكن الرياح كانت معاكسة فاضطروا على مواصلة السفر حتى انتهوا إلى ميناء رومية.

 

وصوله إلى رومة واستشهاده:

في رومة استقبلته وفود الكنائس التي سبقته إلى عاصمة الإمبراطورية لتتبرك منه، وتودّعه الوداع الأخير، وفي مقدمتهم وفد أنطاكية، فودعوه بدموع سخية وقلوب مكلومة، ونفوس حزينة وصلوات حارة، وقاده الجند بسرعة فائقة إلى الكولوسيوم وهو الملعب الكبير والشهير في رومة، حيث كانت الجماهير الغفيرة قد اكتظت منتظرة مشاهدة أسقف أنطاكية يطرح للوحوش قبل انتهاء أعياد انتصار الرومان على الداسيين، تلك الأعياد التي دامت مئة وثلاثة وعشرين يوماً، سقط فيها عشرة آلاف مصارع تسلية للشعب الروماني، واستشهد فيها رفيقا مار إغناطيوس القديسان زوسيموس وروفس اللذان طرحا للوحوش الضارية في اليوم السابع عشر من شهر تشرين الثاني، وقيل بل في اليوم الثامن عشر من كانون الأول من السنة 107م وبعد يومين أي في العشرين من كانون الأول عُرّي القديس مار إغناطيوس من ثيابه وطرح إلى الوحوش، فجثا على ركبتيه راكعاً يصلي وهو منشرح الصدر منبسط الأسارير فرحاً، فهجمت عليه الوحوش الضارية ومزقته والتهمته ولم تبقِ من جسده الطاهر سوى العظام الخشنة. وكان المؤمنون وهم يشاهدون هذا المنظر الأليم ينتحبون ويتشفعون بالقديس.

 

رفاته:

ثم جمعوا بإكرام وتبجيل عظامه المقدسة ولفوها بكتان نفيس وأرسلوها إلى أنطاكية برفقة فيلون وأغاثودة الشماسين اللذين رافقاه إلى رومة. ودفنت ذخائره المقدسة في أنطاكية في ضريح لائق خارج باب دفنه، ثم نقلها الامبراطور ثاودورسيوس الصغير (379 ـ 395+) في سنيه الأخيرة إلى كنيسة بنيت في أنطاكية[19] دعيت على اسم الشهيد القديس مار إغناطيوس وفي القرن السابع نقلت رفاته الطاهرة إلى رومية ووضعت في كنيسة الشهيد البابا اكليمنضس[20].

 

ظهوره لتلاميذه بعد استشهاده:

ذكر كتبة سيرته أن تلاميذه بعد أن رأوا بأم أعينهم مشهد استشهاده المحزن، عادوا إلى الدار التي كانوا قد حلّوا فيها، وقضوا الليل ساهرين بدموع وصلوات ساجدين راكعين خاشعين طالبين من اللّـه تعالى العزاء وأن يمنحهم علامة وعربوناً أكيداً على ما يعقب موتاً كهذا من المجد. وفي ذعرهم وولههم استولى على بعضهم نعاس فرأوا القديس إغناطيوس داخلاً المكان وكأنه مسرع وهو يعانقهم. ورآه آخرون مصلياً لأجلهم ومباركاً إياهم. كما ظهر طيفه للبعض وهو يتصبّب عرقاً كرجل يخرج من جهاد عنيف شاق، وماثل أمام الرب بثقة عظيمة ومجد فائق الوصف. فتعزوا جداً بهذه الرؤى وانقلب حزنهم فرحاً لما ناله القديس الشهيد من الغبطة في السماء[21].

 

مكانته في الكنيسة السريانية وأعياده:

للقديس مار إغناطيوس النوراني مكانة مرموقة في كنيستنا السريانية، فهو شفيع كرسينا الرسولي الأنطاكي والجالس عليه، واسمه الكريم يسبق دائماً اسم البطريرك المنتخب لهذا الكرسي المقدس. بدأ ذلك سنة 878 عندما ارتقى إلى الكرسي البطريركي مار يشوع الذي اتخذ اسم إغناطيوس تيمّناً بمار إغناطيوس النوراني الشهيد وحذا حذو يشوع أربعة بطاركة بعده. ولما اعتلى الكرسي الرسولي الأنطاكي مار يوسف بن وهيب مطران ماردين سنة 1293م وهو إغناطيوس الخامس ثبتت هذه العادة من بعده وماتزال حتى اليوم[22].

وتعيّد كنيستنا السريانية للقديس مار إغناطيوس في 17 تشرين الأول ذكرى استشهاده كما تحتفل بذكرى دفن عظامه في 30 كانون الثاني[23].

أما اليونان فيعيّدون له في 20 كانون الأول، ويعيّد له اللاتين في 17 كانون الأول، ثم عيّدوا له في الأول من شباط. أما ذكرى وصول رفاته إلى أنطاكية فيحتفل بها اليونان في 29 كانون الثاني، واللاتين في 17 كانون الأول.

 

مؤلفاته:

عدا رسائله السبع المذكورة آنفاً، نسبت إليه في القرن الرابع، أربع رسائل أخرى موضوعة، وجّه اثنتين منها إلى يوحنا الرسول وواحدة إلى السيدة العذراء مريم والرابعة من السيدة العذراء إليه. وهذه الرسائل مزورة، ولم يذكرها أحد من القدماء.

كما عدّه بعضهم بين الذين ألّفوا نقضاً للهراطقة. ذلك أنه دحض آراءهم الفاسدة في رسائله السبع، دون أن يذكر أسماءهم، وكان همه أن يحثّ المؤمنين ليتجنبوهم وأن يصلّوا لأجلهم لعلهم يعودون إلى اللّـه بالتوبة.

وقد أدخل مار إغناطيوس في كنيسة أنطاكية عادة ترتيل المزامير بين جوقتين أسوة بالملائكة النورانيين الذين ظهروا له برؤيا[24] وانتقلت هذه العادة بعدئذ إلى سائر الكنائس المسيحية[25].

 

رسائله:

كتب مار إغناطيوس النوراني، وهو في طريقه من أنطاكية إلى رومة، سبع رسائل نفيسة، بعث بها إلى أهل الإيمان في أفسس، ومغنيزيا، وفيلادلفيا، وأزمير، وإلى زميله بوليقربوس أسقف أزمير. وقد احتلت هذه الرسائل الجليلة مكانتها اللائقة في الكنيسة المسيحية، حتى أنها تلت أسفار كتاب العهد الجديد المقدسة بالأهمية. ذلك أنها تتضمّن أهم مبادئ المسيحية السامية، وعقائدها السمحة التي تسلمتها الكنيسة من رسل الرب الأطهار، أولئك الذين أخذوها عن الفادي الإلهي مباشرة، وحافظوا عليها وصانوها سليمة نقية إذ صانهم الروح القدس، في هذا الشأن، من الخطل والزلل.

فقد كتب الرسول يوحنا إنجيله المقدس في أواخر القرن الأول للميلاد، بعد انتشار بعض الهرطقات الخبيثة التي أثارت حرباً فكرية طاحنة ضد العقائد المسيحية محاولة تشكيك المؤمنين بحقيقة لاهوت السيد المسيح وناسوته، وموته وقيامته، فيتصدى لهم تلميذ المسيح الحبيب، الرسول يوحنا، ويعلن في فاتحة إنجيله المقدس، أزلية ابن اللّـه الوحيد، وسر تجسده الإلهي، بقوله: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اللـه، وكان الكلمة اللـه» (يو 1: 1) إلى أن يعلن الناسوت الكامل الذي أخذه منا الكلمة الأزلي قائلاً: «والكلمة صار جسداً وحلّ فينا ورأينا مجده كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو 1: 14). ويؤكد هذا في رسالته الأولى قائلا «الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فان الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركةٌ معنا(1يو 1: 1 ـ 3).

وينسج مار إغناطيوس النوراني على منوال معلمه الرسول يوحنا فيدحض، في رسائله السبع، آراء الهراطقة وبدعهم الوخيمة، دون أن يذكر أسماءهم المشينة.

 

مضمون الرسائل بصورة عامة:

إلى جانب مناهضة الهراطقة، يقدم مار إغناطيوس في رسائله السبع النصح والإرشاد للمؤمنين الذين وجه إليهم هذه الرسائل ليبتعدوا عن النزاعات وأسباب الشقاق، ويأمرهم بالتمسك بالمحبة ووحدة الصفوف والالتفاف حول الأسقف والخضوع له لأنه يمثل اللّـه تعالى في الكنيسة. كما يوصي بتكريم الكهنة والتعاون مع الشمامسة ويوضح درجات الكهنوت الثلاث مما يدل على أن توزيع هذه الدرجات في الكنيسة رسولي المنشأ.

ويحث مار إغناطيوس المؤمنين على المواظبة على الصلاة وخاصة صلاة الجماعة برئاسة الأسقف. والاشتراك بسر الشكر (الأوخارستيا) ويؤكد على وجوب تناول القربان المقدس أي جسد المسيح ودمه الأقدسين لأن تناولهما ضروري للخلاص ولنمو المؤمنين في الحياة الروحية.

 

رسائله باللغة السريانية:

نقلت رسائل مار إغناطيوس السبع من اليونانية، اللغة التي كتبت بها، إلى السريانية في غضون القرنين الثاني والثالث للميلاد. ويوجد من هذا النقل ثلاث مخطوطات في خزانة لندن كتبت في القرون (6 ـ 9) ومخطوطة لرسالته إلى بوليقربوس في خزانة باريس من القرن التاسع ووجد في باسبرينة في طورعبدين بتركيا الرسائل إلى مغنيزيا، وترلّس، وفيلادلفيا وأسيا (أزمير)[26].

ونقل كورتن من السريانية إلى الانكليزية ثلاث رسائل وهي: إلى بوليقربوس، وأفسس، ورومية، معتمداً بذلك مخطوطات سريانية كتبت الأولى قبل عام 550م والثانية في القرن السابع أو الثامن، والثالثة كتبت سنة 931، ونشر كورتن الترجمة الانكليزية المذكورة عام 1845 بذلك فسح المجال لعلماء الاستشراق ليتناولوا بالدرس هذه الرسائل، آخذين بعين الاعتبار الترجمة السريانية، وكانت نتيجة دراساتهم أن النص السرياني مترجم عن النص اليوناني الأصيل الذي اعتبر النص المختصر، تمييزاً له من النص المطول الذي أضيف إليه زيادات لا تمت إلى الأصل بصلة[27].

واقتبست الكنيسة السريانية من رسائل مار إغناطيوس السبع، عبارات توجيهية، ووصايا أبوية، أنزلتها منزلة القوانين البيعية المجمعية التي لها سلطة الإلزام على المؤمنين، رأينا أن نعربها لفائدة القارئ الكريم وننشر أيضاً نصها السرياني. وقد اعتمدنا بذلك مخطوطة حديثة نسخت عام 1928م عن مخطوطتين نفيستين موجودتين في خزانة دير الزعفران في ماردين ـ تركيا، مكتوبتين على رق يعود تاريخ إحداهما إلى القرنين الثامن والتاسع والثانية إلى القرن العاشر. وقد حققت المخطوطة التي بين يدينا على المخطوطتين المذكورتين وعلى مخطوطة قديمة للقس دانيال، وفي كل هذه المخطوطات نواقص إذ سقط منها أوراق لقدمها.

واليك أيها القارئ الكريم نخبة طيبة من أقوال القديس مار إغناطيوس النوراني هي باقة عباقة من حديقة رسائله السبع، تمتع بقراءتها، وتأمل سموّها، وأحمد اللّـه تعالى لوصولها إلينا، سليمة، صحيحة، نقيّة، لتشهد لنا على صحة تعاليم الرسل، والآباء الرسوليين التي هي تعاليم الإنجيل المقدس ذاتها.

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس[28]:

مجّدوا يسوع المسيح كما مجدكم، واخضعوا للأسقف والكهنة لكي تتقدسوا بوحدة الطاعة.

إني مصفّد بالأغلال، لأجل اسم المسيح، ولكنني لم أبلغ الكمال بيسوع المسيح بل مازلت مبتدئاً في مدرسته، وها أنا اكتب إليكم كصديق إلى أصدقائه، حاثاً إياكم لتسلكوا بموجب روح اللـه. عالمين هذا أن يسوع المسيح هو مبدأ حياتنا وهو فكر الآب، كما أن الأساقفة في كل العالم هم في فكر يسوع المسيح.

لا ينبغي أن يكون لكم وأسقفكم (أونيسيموس) إلا فكر واحد بعينه، كما أنتم فاعلون، فان ارتباط قسسكم المكرمين بالأسقف يشبه ارتباط الأوتار بالقيثارة، فباتفاق عواطفكم ومحبتكم وتجانسها ترفع أصوات التسبيح والتمجيد ليسوع المسيح ربنا.

فان كنت أنا في مدة وجيزة، تأكدت بيني وبين أسقفكم (أونيسيموس) عقدة إخلاص داخلي هذا شأنه ليس فيه شيء عالمي (دنيوي) لكنه روحي كله، فكيف لا تُغبطون أنتم المتحدون معه في قلوبكم كاتحاد البيعة بيسوع المسيح، ويسوع بأبيه. فلنحذر مقاومة الأسقف إذا أردنا أن نظل خاضعين للـه.

لا يضل أحد، فان مَن يبتعد عن المذبح يحرم نفسه من خبز اللّـه (أف5) وإذا كانت صلاة شخصين متحدين لها مفعول كبير، فأي شيء لا تقدر عليه صلاة الأسقف متحدة بصلاة الكنيسة كلها؟. من لا يحضر الاجتماع فهو متكبر وقد دان نفسه، لقد كُتب «إن اللّـه يقاوم المتكبرين» (1بط5: 5 ويع4: 6).

أنا ضحية الصليب وان الصليب لنا خلاص وحياة أبدية. وإن إلهنا يسوع حملته مريم في أحشائها حسب التدبير الإلهي، فولد من نسل داود (يو7: 42 ورو1: 3) بقوة الروح القدس.

إن إبليس جهل أسراراً ثلاثة عجيبة تمت في صمت، هي: بتولية العذراء، وإيلادها، وموت الرب (يسوع) فسقطت مملكة (إبليس) القديمة. لأن اللّـه ظهر في الجسد، ليكمل النظام الجديد (رو6: 4) (ويمنح) الحياة الأبدية (للمؤمنين).

اذكروني كما يذكركم المسيح. صلوا لأجل كنيسة سوريا التي اختطفت منها حاملاً أغلالي إلى رومة، أنا آخر المؤمنين في أنطاكية ولكن اللّـه اختارني لأمجده.

سلام باللّـه الآب ويسوع المسيح رجائنا العام.

وفيما يأتي تعريب ما اُقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس ونُقل إلى السريانية وأُدخل مجموعة القوانين الكنسيّة في كنيستنا السريانية المقدسة:

فلنجتهد، ألا نوجد مقاومين الأسقف، لكي نوجد خاضعين للـه تعالى. لأنه بقدر ما يرى أحدهم الأسقف صامتاً، عليه أن يهابه أكثر، ذلك أن من يرسله رب البيت لإدارة شؤون بيته، يجب قبوله كقبولنا مرسله ذاته، فعلينا أن نكرّم الأسقف تكريمنا الرب يسوع نفسه.

اجتهدوا أن تعقدوا اجتماعاتكم بدون انقطاع، لتقديم آيات الشكر والتمجيد للـه تعالى دائماً. لأنه بقدر ما كنتم ثابتين معاً تدحرون قوة إبليس، وباتحادكم في الإيمان تتلاشى سلطته. لاشيء أفضل من السلام، فهو الذي يُبطل سائر حروب السماويين والبشر.

خير للإنسان أن يكون صامتاً وهو شيء (مهم) من ألا يكون شيئاً (مهماً) ويتكلم.

جيد جداً أن يعمل الإنسان، إن كان يعمل بما يعلم…

لا يؤذن بالعماد، ولا بإجراء النياحات (الصلاة عن الموتى) بدون الأسقف. فكل عمل يفحصه الأسقف هو مرضيٌّ لدى اللـه. فاتبعوا هذا لكي يكون كل ما تعملونه ثابتاً وأكيداً.

لتستيقظ إذن، قبل فوات الأوان، تائبين إلى اللـه، جميل أن نعرف (سلطة) اللّـه والأسقف، فان من يكرم الأسقف يُكرَّم من اللـه.

ومن يقوم بعمل ما (فيما يخص الكنيسة) بدون معرفة الأسقف يعبد الشيطان.

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في مغنيزيا:

لا ينبغي أن يتخذ من حداثة أسقفكم (دامسوس) سبباً للإفراط في الدالة عليه، بل وقروه لأنه يحمل هذه الأسقفية التي هي نفس سلطة اللّـه الآب. واني أعلم أن كهنتكم الأنقياء لم يستخفوا في حداثته الظاهرة، ولكنهم يخضعون لأبي ربنا يسوع المسيح أسقف الجميع. فكونوا إذن مسيحيين لا بالاسم وحسب بل بالفعل.

أن الرب (يسوع) لم يأتِ عملاً لا بذاته ولا برسله بدون الآب (راجع يو5: 19 و8: 28) وهو الأب واحد. وهكذا ينبغي لكم ألا تقدموا على عمل ما بدون الأسقف والكهنة،…فليس صالحاً إلا ما تصنعونه مشتركين. ولا يمدح أبداً ما عملتموه منفردين.

إن الذين كانوا يعيشون بموجب نظام العهد العتيق، واعتنقوا الرجاء الجديد، فلا يحفظون بعد السبت لكن يوم الأحد اليوم الذي فيه ظهر نجم حياتنا بوساطة موت الرب (يسوع المسيح). هذا السر الذي جحده كثيرون وهو ينبوع إيماننا، وصبرنا على تحمل ما يؤهلنا أن نصير تلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح معلمنا الأوحد.

ما أبشع هذا التناقض، إننا نتلفظ باسم يسوع المسيح ونعيش كيهود. فان المسيحية لم تؤمن باليهودية لكن اليهودية آمنت بالمسيحية التي إليها جاءت كل الشعوب المؤمنة باللّـه من كل لغة.

اذكروا أيضاً كنيسة سوريا. فأنا عضو منها حقير، وأنني بحاجة إلى اتحاد صلواتكم ومحبتكم، حتى بواسطة كنيستكم يمطر اللّـه ندى نعمة على كنيسة سوريا.

وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في مغنيزيا، ونُقل إلى السريانية، وأُدخل مجموعة القوانين الكنيسة في كنيستنا السريانية المقدسة:

إن الذين لا إيمان لهم، هم تحت سلطان رئيس هذا العالم (إبليس) أما المؤمنون المحبون فهم صورة اللّـه الآب، بالمسيح يسوع (ربنا). ما لم نرغب في الموت لأجله ونتشبه بآلامه. لا تكون حياته فينا.

إنني رأيت جماعتكم كلها (وعانقتكم) بالإيمان والمحبة بذات الأسقف، والقسس، والشمامسة، هؤلاء جميعاً الذين ذكرتهم سابقاً.

فأناشدكم، أن تجتهدوا لانجاز سائر أعمالكم، بالاتحاد في اللـه، تحت رئاسة الأسقف كأنه بمقام اللـه. والقسس كأنهم بمنزلة سفراء الملوك، والشمامسة بمنزلة الرسل.

فليكن اتفاقكم مع أسقفكم وسائر رؤسائكم (خير) مثال، وللتعليم (الصحيح) غير المزيف.

مثلما لم يعمل ربنا (يسوع) أي عمل بذاته أو بوساطة رسله بدون أبيه (السماوي) هكذا أنتم أيضاً لا تأتوا عملا (فيما يخص الكنيسة) بدون الأسقف والقسس.

عبثاً تحاولون (تبرير) ما تقومون به منفردين ـ بدون الأسقف ـ، كأنه واجب ملقى على عاتق كل واحد منكم، لوحده منفرداً.

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في ترلّس:

إن جسد المسيح الواحد، ودمه الواحد يوحدنا جميعاً، والمذبح الواحد والأسقف الواحد يحتاط به الكهنة والشمامسة. فلا تشتركوا الا في الأوخارستيا الواحدة.

إن الإنجيل ملاذي، وهو في نظري يسوع المسيح ذاته في الجسد.. إن يسوع المسيح هو كتبي، هذه الكتب التي لا تمس هي صليبه وموته وقيامته، والإيمان الذي أعطاه،

صموا آذانكم عن سماع الذي يشرح لكم الأسفار المقدسة بمفهوم يهودي. من الأفضل أن نصغي إلى إنسان مختون يبشر بالمسيحية من أن نسمع غير مختون يكرز باليهودية وإذا كانا كلاهما لا يخاطبانكم عن المسيح فليسا سوى نعوش وقبور.

لما كنت في ظهرانيكم ناديت جهراً قائلا بصوت هو صوت اللّـه عينه: اتحدوا مع الأسقف والكهنة والشمامسة تجنبوا الانقسامات وتمثلوا بيسوع المسيح فقد تمثل هو أيضاً بأبيه.

لقد سمع دعاؤكم… لأنه كما علمت، أن السلام عاد إلى كنيسة أنطاكية في سورية…

ما أسعد من تنتخبونه وترسلونه لتقديم التهاني باسمكم لأهل الإيمان المسيحي في أنطاكية على مثال سائر الكنائس. فقد أرسلت القريبة منها أساقفتها والبعيدة كهنة وشمامسة.

إن فيلون شماس قيلقية… يساعدني في الوعظ وهكذا أرابوس آغاتوبوس الذي زهد في كل شيء على هذه الأرض ليرافقني منذ تركت سوريا.

فيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى أهل الإيمان في ترلس ونقل إلى السريانية، وأُدخل مجموعة القوانين الكنسيّة في كنيستنا السريانية المقدسة:

إنكم بخضوعكم لأسقفكم كما ليسوع المسيح، تظهرون لي أنكم لا تسلكون بموجب الجسد بل بيسوع المسيح، الذي مات لأجلنا، لكي تخلصوا من الموت أنتم المؤمنين بموته، عليكم ألا تقدموا على عمل شيء (في الكنيسة) بدون الأسقف، كما أنتم فاعلون، وأطيعوا القسس أيضاً، كما لرسل يسوع المسيح رجائنا، لكي نوجد أحياء فيه. على الشمامسة أيضاً كخاصة يسوع المسيح (المعينين لخدمة أسراره) أن يُكرِّموا الجميع في كل شيء.

فهم لم يقاموا لخدمة الطعام والشراب، بل لخدمة كنيسة اللـه. فعليهم أن يحترسوا لئلا يجلب عليهم اللوم احتراسهم من النار. وليقدم كل واحد منكم الإكرام للشمامسة كما ليسوع المسيح. وليكرم الأسقف الذي هو بمقام الآب (السماوي) والقسس كما لمستشاري اللّـه ومجمع الرسل، فلا تدعى (أية جماعة) كنيسة بدون هؤلاء.

أما أنا فليس لأنني أسيرٌ وقادر على إدراك الأمور السماوية، ومواطن الملائكة، ورتب السلاطين (من الملائكة)، والأمور المنظورة وغير المنظورة، صرتم لي تلاميذ. وإننا لمحتاجون جداً ألا نوجد مرذلين من اللـه.

أتوسل إليكم، لا أنا بل بالأحرى، هي محبة المسيح تسألكم ألا تتناولوا سوى طعام الشكر (والحمد)، وأن تبتعدوا عن جذور (النباتات) الغريبة أي هرطقات الذين يشركون أنفسهم بيسوع المسيح (خادعين الناس) لكي يصدقوهم، (وفي عملهم هذا) يشبهون من دسَّ السم الزعاف في الخمر والعسل، لكيما إذا ما تناوله من لا معرفة له بحقيقته يشرب (كأس) الموت، بشوق. فاحذروا إذن من أمثال هؤلاء.

لتطب نفوسكم بالإيمان المملوء رجاء وهناء بدم (ربنا) يسوع المسيح.

صموا آذانكم عن سماع أي إنسان لا يكلمكم عن يسوع المسيح انه من نسل داود (وقد ولد) من مريم، ذلك الذي ولد، وأكل، وشرب حقاً. وصلب، ومات، حقاً على مرأى من سكان السماء والأرض، ومن تحت الأرض، وقام من بين الأموات حقاً، وقد أقامه أبوه كما سيقيمنا أيضاً أبو (ربنا) يسوع المسيح نحن المؤمنين به. الذي بدونه لا حياة لنا حقيقية.

فلو كانت آلامه خيالية وهمية كما يدّعي بعض الملحدين أي الذين لا إيمان لهم، وهم كذبة ومرتابون، فهل نافعي أن أصفد بالأغلال، ولماذا أصلي طالباً (إلى اللـه) أن تفترسني الوحوش؟ أأموت عبثاً؟ ألعل كلامي عن الرب محض كذب؟. اهربوا اذن من النباتات الضارة التي تنتج ثمار الموت، التي من أكل منها مات حالاً وهذه ليست كالغرسة التي غرسها الآب، فلو كانت مما غرسه الآب لظهرت كأغصان (لخشبة) الصليب، ولكانت ثمارها تثبت بدون فساد في آلام صليب ربكم الذي أنتم أعضاء (جسده).

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في رومة:

اقتبس أوسابيوس القيصري (340+) بعض العبارات من هذه الرسالة دوّنها في تاريخه الكنسي[31] رأينا أن نوردها ههنا وهي كالآتي: «من سوريا إلى روما أحارب وحوشاً برية، براً وبحراً، ليلا ونهاراً، إذ كنت موثقاً بين عشرة فهود أي جماعة من الجند لا يزدادون شراسة إلا أنّ أحسنت معاملتهم وعلى أي حال فإنني في وسط إساءاتهم ازداد تعلم شروط التلمذة ولكنني مع ذلك لست مبرراً[32].

ليتني أسر بالوحوش المعدة لي وإنني أصلي أن أجدها معدة، وسألاطفها لكي تبتلعني بسرعة ولكي لا تعاملني كما فعلت بالبعض الذين رفضت أن تمسهم بسبب الخوف وإن رفضت فسألزمها سامحوني، فإنني أعرف ما يلائمني.

لقد بدأت الآن أن أكون تلميذاً لا يحاولنّ أحد من المنظورين أو غير المنظورين أن يمنعني م الحظوة بالمسيح، فلتقبل إلي النيران والصليب، وهجوم الوحوش، وسحق العظام، وتمزيق الأطراف وسحق كل الجسد، وتعذيبات إبليس، إن كنت بذلك أصل إلى يسوع المسيح» آه.

 

ومما جاء في تلك الرسالة أيضاً:

أسألكم واحدة: أن تدعوني أقدم للـه سفك دمي لأن المذبح قد نصب، وبإمكانكم أن تجتمعوا حوله بالمحبة كجوقة ترتيل لأناس يعبدون اللّـه حسناً، فترنمون ترانيم الحمد للآب السماوي وابنه يسوع المسيح لأنه تنازل فجذبني من الشرق إلى الغرب مقيداً، لاعترف هناك باسمه العظيم وأصير لأجله ضحية حية. جيد جداً أن أرقد بعيداً عن العالم لأقوم للـه. فاستمدوا لي بدعائكم قوة لكي أكون مسيحياً لا بالكلام بل بالقلب، لا بالاسم فحسب بل بالفعل أيضاً. فالذي يجعل الإنسان مسيحياً ليس الكلام ولا الظواهر، بل شهادة النفس والثبات في الفضيلة.

أنا أكتب إلى جميع الكنائس قائلا: إنني ماضٍ لأموت في سبيل اللّـه فرحاً… دعوني إذن لأصير مأكلاً للأسود والدواب، فاني بواسطتها أصل إلى الله. فإنني حنطة اللّـه ينبغي أن أطحن لأصير دقيقاً ناعماً ليصبح خبزاً للمسيح يسوع نقياً خالياً من كل عيب. الأفضل أن تلاطفوا هذه الحيوانات، حتى تكون قبري، ولاتدع شيئاً يبقى من جسدي فلا أثقل على أحد بدفني.

لا لذة لي بخيرات العالم كلها، ولا فائدة ترجى لي منها، بل انه لأفضل لي بكثير أن أموت من أجل المسيح من أن أملك على الدنيا بأسرها؟ فإنني أقتفي أثر من مات لأجلنا، ولا أطلب سواه… ولم أعد أطلب قوتاً إلاّ خبز اللـه. الخبز السماوي، خبز الحياة، الذي هو جسد يسوع المسيح ابن اللـه، ولا أرغب في شراب سوى دم هذا الإله المتجسد ذاته… فاقبلوا إذن أن أموت من أجل يسوع المسيح… تحننوا عليّ أيها الأخوة ولا تمنعوني من أن أولد للحياة… دعوني أتمثل بآلام الهي… من كان اللّـه في قلبه يفهم رغباتي…

لم يُمْلِ الجسد علي هذه الرسالة، بل روح اللـه.

صلوا لأجل كنيسة سوريا. فبعد أن أُخِذتُ منها، لم يبق لها راعٍ سوى اللّـه تعالى.

 

من رسالته إلى بوليقربوس أسقف أزمير:

أحمد اللّـه الذي أنعم علي لأرى وجهك المقدس، وأبتهج بالرب الإله، وأرجوك بحق الموهبة التي نلتها منه تعالى، أن تواصل جهادك بهمة، واجتهاد أفضل.

انه لجدير بالمتزوجين، رجالاً ونساءً، ألا يعقدوا زواجهم بدون موافقة الأسقف. ليكون الزواج بروح اللـه، ولتقديس اسمه تعالى.

وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من رسالته إلى بوليقربوس أسقف أزمير، ونقل إلى السريانية، وأدخل مجموعة القوانين الكنسيّة لكنيستنا السريانية المقدسة:

لا يحيرك (ويقلقك) أولئك الذين يظنون أنفسهم شيئاً، ويعلّمون تعاليم غريبة. أما أنت فاثبت على الحق كجبار يتحمل (صابراً) فإذا كان المصارع الماهر يتحمل (الضربات التي تصيبه) وبالنهاية ينتصر. فكم بالحري يجب علينا أن نتحمل كل شيء في سبيل اللـه، لكي يتحملنا اللّـه أيضاً.

اهتموا بالأسقف، (معتنين به)، لكي يشملكم اللّـه بعنايته إنني أقدم نفسي لأجلكم يا من تطيعون الأسقف والقسيسين والشمامسة. وليؤهلني اللّـه وإياهم للحصول على حصة معه تعالى (في ملكوته السماوي).

يجدر بك أيها المغبوط من اللّـه يا بوليقربوس، أن تعقد اجتماعاً من المستشارين ليشيروا بما يليق لمجد اللـه، وتختار من هو محبوب كثيراً لديكم، ومجتهداً جداً، وبإمكانه أن يكون ويدعى المرسل من اللـه، ويرضى أن يذهب إلى سوريا. ليثنوا على محبتكم المضطرمة، لمجد اللّـه تعالى، فالمسيحي لا سلطة له على ذاته ولكنه يجب أن يكون مستعداً في كل حين لعمل مشيئة اللـه. وهذا عمل اللـه. ويصير عملكم أيضاً إذا أتممتموه.

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في فيلادلفيا:

تجنبوا الانقسامات وابتعدوا عن التعاليم الخبيثة يا بني النور لا تضلوا إن من يتبع مبتدع هرطقة لا يرث ملكوت اللـه. وليس له نصيب في آلام ربنا يسوع المسيح.

وفيما يأتي تعريب ما اقتبس من هذه الرسالة ونقل إلى السريانية، وأدخل مجموعة القوانين الكنسية السريانية المقدسة:

إن الذين مع اللـه، ويسوع المسيح، هم المتحدون مع أسقفهم. وكذلك الذين يتوبون ويعودون إلى الاتحاد بالكنيسة يصيرون أيضاً (أولاداً) للـه ليحيوا بيسوع المسيح. لا تضلوا يا أخوتي، إن كل من يتبع فاعل شقاق في كنيسة اللّـه لا يرث ملكوت اللـه. وكل من يتبع تعاليم غريبة لا يقبل آلام المسيح فاجتهدوا أن تتمسكوا بعقيدة واحدة. لا تشتركوا إلا بسر الشكر الواحد لأنه لا يوجد غير جسد واحد لربنا يسوع المسيح وكأس واحدة توحدنا بدمه ومذبح واحد….

عندما كنت عندكم، ناديت بصوت جهوري هو صوت اللّـه وقلت: اذعنوا للأسقف وللقسيسين والشمامسة. وظن أناس أنني تكلمت بهذا لسابق علمي بوجود تصدع في صفوفكم، يشهد لي من أنا مكبل بالقيود من أجل أسمه، ان أحداً لم يخبرني بذلك الانشقاق، ولكن الروح (القدس) كان ينطق فيَّ وبوساطتي كان يقول ذلك. إنكم بدون الأسقف يجب ألا تقدموا على عمل ما (بما يخص الكنيسة) وأقول لكم أيضاً أنني توقّعت أن السلام قد حلّ في كنيسة سوريا. فخليق بكم، ككنيسة اللّـه أن تختاروا شماساً ترسلونه إلى هناك كأنه مرسل من اللّـه ليقدم لهم التهاني ويشاركهم فرحتهم جميعاً، وهم مجتمعون يسبّحون اسم الرب. إن من يستحق القيام بهذه الخدمة سعيد بيسوع المسيح، وأنتم أيضاً تمدحونه وإذ ترغبون في ذلك لا يصعب عليكم القيام بهذا الأمر، لمجد اسم اللّـه (القدوس) كما فعلت بعض الكنائس المقدسة فبعضها أرسلت أساقفتها، وبعضها أرسلت قسساً وشمامسة.

 

من رسالته إلى أهل الإيمان في أزمير:

إنني أعلم وأؤمن أن الرب يسوع المسيح كان في الجسد حتى بعد قيامته (من الأموات) لما ظهر لبطرس ورفقائه بعد قيامته قال لهم المسوني وجسوني وانظروا إنني لست روحاً لا جسد له، وللحال لمسوه وآمنوا[33] وقد أكل يسوع وشرب أمامهم بعد قيامته كمن له جسد[34] على الرغم من اتحاده مع الآب السماوي بالروح. لو أن ربنا صنع (سائر أعماله) في الظاهر فقط، لكنت أنا أيضاً مكبلاً بالأغلال في الظاهر لا غير. فلماذا أسلمت ذاتي للموت بالنار والسيف بين أنياب الوحوش الكاسرة؟ إن من كان قريباً من (الاستشهاد) بالسيف فهو قريب من اللّـه ومن كان بين أشداق الوحوش الضارية فهو موجود مع اللّـه على أن يتحمل كل شيء لأجل اسم يسوع المسيح. وأنا أتحمل صنوف العذاب لكي أشترك بآلام الرب الذي صار إنساناً كاملا، هو يهبني قوة.

تجنّبوا الذين يمتنعون عن الأوخارستيا والصلاة، وينكرون أننا في الأوخارستيا نتناول جسد (الرب) يسوع ودمه، ذلك الجسد الذي تحمل الآلام من أجل خطايانا (ومات) وأقامه الآب السماوي بصلاحه. وهكذا فان الذين يكفرون بهبة اللّـه يموتون… وكان جديراً بهم أن يتمسكوا بالمحبة لكي يشتركوا بالقيامة. ابتعدوا عنهم..

أطيعوا الأسقف كما أطاع (الرب) يسوع المسيح أباه السماوي وأخضعوا للقسس خضوعكم للرسل، وأكرموا الشمامسة إكرامكم لشريعة اللـه. لا تعملوا شيئاً (فيما يخص الكنيسة) بدون الأسقف، ولا تكون الأوخارستيا صحيحة ما لم يحتفل به برئاسة الأسقف أو بتفويض منه.

إن الكنيسة هي حيث يوجد الأسقف، والكنيسة الجامعة هي حيث يوجد المسيح يسوع. بدون الأسقف لا يسمح بالعماد. ولا بالاحتفال بالأغابية (طعام المحبة وتوزيع الخبز) وكل ما يقره الأسقف مقبول لدى اللـه، وما يصنع (في الكنيسة) بأمره فهو الصحيح حتماً.

من يكرم الأسقف يكرمه اللـه. ومن يتصرف بدون معرفة الأسقف يعبد الشيطان.

لقد استجيبت صلواتكم لأجل كنيسة أنطاكية في سوريا. أنا قادم من هناك مصفداً بالأغلال الحديدية الثمينة لدى اللـه. أنا الصغير بين مؤمني هذه الكنيسة بل لا أستحق أن أكون في عداد المؤمنين فيها. ولكن إرادة اللّـه بنعمته تعالى رفعتني إلى هذا الشرف الأثيل.

 

الهوامش

———————————————–

([1])ـ الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 مج1ص 116 وتاريخ الكنيسة ـ مدارس الأحد القبطية الأرثوذكسية ـ الجيزة ـ 1952 مج1ص55.

 The Oxfod Dictionary of the Christian Chuch by cross 1958, pp. 676 and the Ealy Christian fathers, by C.C. Richardson, N.Y. 1970, v. 1, pp. 75.

([2])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية. أسد رستم ج1ص50.

([3])ـ تيلمون ـ التاريخ الكنسي مج2 في ترجمة القديس إغناطيوس تلميذ الرسل وأسقف أنطاكية الشهيد ص207 ـ 231.

([4])ـ منهم أنسطاس الكتبي في القرن التاسع عشر.

([5])ـ مواعظ الذهبي الفم مج1 خطبة 42 انظر أيضاً كنيسة مدينة اللّـه ج1ص49.

([6])ـ وقال البعضهم أنه يوحنا الأورشليمي.

([7])ـ أوسابيوس القيصري ـ التاريخ الكنسي، تعريب القس مرقس داود ـ القاهرة 1960ص151ك 3ف 36: 2.

([8])ـ أوسابيوس القيصري ـ الناريخ الكنسي ك3ف22.

([9])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ج1ص49.

([10])ـ  أسد رستم ـ كنيسة مدينة اللّـه ص 50 و51 و

Drehesm, Mrs Louis, Ealy Hist. of christ church 71 – 79.

([11])ـ موعظة الذهبي الفم مج1 خطبة 42.

([12])ـ أي بلينوس الصغير، دعي كذلك تمييزا له عن عمه المسمى بنفس الأسم، وكان صديقاً للأمبراطور تراجانوس (98 ـ 117) كما كان كاتبا ماهرا ولم يبق من كتابته سوى رسائله وقد جمعت في عشرة كتب (تاريخ الكنيسة لأوسابيوس ك 3ف23 عن «احتجاج ترتليانس»).

([13])ـ أوسابيوس القيصري ك3 ف23 عن احتجاج ترتيليانس ك2 ف2.

([14])ـ تاريخ الكنيسة 1952 مدارس الأحد القبطية بالجيزة ص73.

وتقديس السنة الطقسية بقراءة سير القديس اليومية ـ دير الدومينيكان ـ الموصل 1891ص99 ـ 101 والدرر النفيسة ج1 ص167 وتاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية للمطران سويريوس يعقوب (البطريرك بعدئذ) بيروت 1953 ج1 ص103.

([15])ـ كنيسة مدينة اللّـه ـ أسد رستم، ج1ص56.

([16])ـ تاريخ الكنيسة ـ يوسابيوس ك3 ف36: 4ص 151.

([17])ـ تاريخ البطاركة بالسريانية ـ لابن العبري ـ في ترجمة القديس مار إغناطيوس النوراني.

([18])ـ الدرر النفيسة ص184 و185 وتاريخ الكنيسة ـ مدارس الأحد القبطية الأرثوذكسية بالجيزة1952 ج1ص76.

([19])ـ الدرر النفيسة ص 168 ـ 169.

([20])ـ السنكسار للمطران ميخائيل عساف للروم الكاثوليك ـ حريصا ـ لبنان 1948 اليوم العشرون من شهر كانون الأول ص399.

([21])ـ تيلمون مج 2 ب 9 من ترجمة القديس إغناطيوس، وكنيسة مدينة اللّـه ـ لأسد رستم.

([22])ـ الكنيسة السريانية عبر العصور ـ للمؤلف ـ مجلة بين النهرين الموصل 1980م عدد 29 ص65.

([23])ـ كلندار القنسريني، وابن الصابوني والكلندار القديم، وآمد والقدس وابن خيرون.

([24])ـ الدرر النفيسة ص 169 وتفسير ابن الصليبي لانجيل متى 18: 2 والتاريخ الكنسي لابن العبري مج1 في ترجمة مار إغناطيوس النوراني.

([25])ـ تيلمون مج2 في ترجمة القديس إغناطيوس نقلا عن سقراط 1 ـ 6فصل 8 ص313.

([26])ـ اللؤلؤ المنثور للبطريرك أفرام الأول برصوم بغداد 1976 ص 168 و170، مخطوطات خزانة لندن تحت (14618 و17192 و12175) أما مخطوطة باريس فتحت رقم (62).

([27])ـ فيه وسلسلة (آباء الكنيسة ) منشورات النور بيروت 1970 ص 104 ـ  105.

Ante nicene fathers, A.C. Coxe, ann Arbor, Mi. U.S.A. Volume one: and the Oxford dictionary of the Christian Church, by Cross – 1958,

pp.676 – 677, and dictionary of the Apostolic Church, by j. Hastings N. y. 1919, Volume 1, pp. 594 – 604.

the Faith of the Early Fathera, W.A. jurgens cleverland, OHIO, U.S.A. 1970, Volume one pp. 17 – 28.

Early Christian Fathers C-C. Richardson N-y. 1970, pp. 74 – 130.

([28])ـ اعتمدنا في ترجمة هذه الأقوال على المخطوطات السريانية وبعض الموسوعات الانكليزية كما قارنا ذلك بما نشر بالعربية من أقواله خاصة في كتاب الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام برصوم حمص 1940مج1 ص 166 ـ 169 ـ و171 ـ 178 وكتاب القديس إغناطيوس الأنطاكي ورسائله للأب فيليب السمراني ـ بيروت 1966 والمصادر الانكليزية المذكورة سابقا وغيرها.

([29])ـ ܐܥܒܕܬ ؛ ܡܣܒܪܢܘܬ

([30])ـ ܣܪܝܩܐܝܬ.

([31])ـ ك3 ف 36: 7 و8 و9.

([32])ـ هذه العبارة تضمين لقول الرسول بولس الواردة في (1كو 4: 4)

([33])ـ (لو 24: 31).

([34])ـ (أع 10: 41).

 

للأعلى