القديس ثاوفيلوس البطريرك الأنطاكي السابع

القديس ثاوفيلوس البطريرك الأنطاكي السابع

أحد آباء الدفاع عن المسيحية (169 ـ 181 أو 185+)

 

قال فيه المؤرخ أوسابيوس القيصري (264 ـ 340+) ما يأتي: «في ذلك الوقت (أي في السنة الثامنة من حكم الامبراطور مرقس أوراليوس) اشتهر ثاوفيلوس سادس أسقف على كنيسة أنطاكية من عهد الرسل، لأن كرنيليوس الذي خلف هيرون كان الرابع، وبعده أقيم ايروس (أوروس) أسقفاً، وهو الخامس في الترتيب»[1] وإذا ابتدأنا بسلسلة أساقفة أنطاكية بالرسول بطرس مؤسس الكرسي، وأول أساقفته، يعد ثاوفيلوس الأسقف السابع لأنطاكية[2].

 

ولادته ونشأته:

ولد ثاوفيلوس وثنياً في إحدى مدن ما بين النهرين، ـ دجلة والفرات ـ كما يستدل من كتابه الدفاعي الموجه إلى أورتوليكس. ودرس العلوم اليونانية، والتاريخ، وشعر هوميروس واسيود، ومناقشات أفلاطون، وتعمق في دراسة الفلسفة، وألم باللغة العبرية[3].

 

تنصره:

لم تُجدِ العلوم الفلسفية ثاوفيلوس نفعاً، فقد كان معذب الضمير، مضطرب النفس غير مقتنع بعبادة الأوثان، وكان متعطشاً إلى معرفة الإله الحقيقي، وإدراك سر حقيقة الحياة بعد الموت. ويذكر في كتابه الدفاعي الموجه إلى أورتوليكس، انه لما درس أسفار أنبياء النظام القديم في الكتاب المقدس، انكشفت أمام ناظريه الحقائق الإلهية فاستنارت عين بصيرته بنور الهي عجيب، وتبين له عمل الروح الإلهي الذي لقن أولئك الأنبياء أموراً جليلة، قبل وقوعها بمدة طويلة، ووقعت في الموعد الذي حدده لها الوحي الإلهي. وخاصة ما تنبأ به أولئك الأنبياء عن السيد المسيح، مخلص العالم، قبل مجيئه إلى العالم بالجسد، بقرون عديدة، وقد تمت هذه النبوات بالرب يسوع، بحذافيرها، وفي الزمن المحدد لها، والأمكنة المعينة لحدوثها، وبالكيفية التي ذكرها أولئك الأنبياء، وكأنهم كانوا شهود عيان. فآمن ثاوفيلوس بصدق الوحي الإلهي، وبحقيقة قيامة الأموات التي كان يرتاب فيها كثيراً. وهكذا وجد في الدين المسيحي ضالته المنشودة. فتنصر، وامتلأ من الروح القدس والحكمة، وفاح شذا فضائله، وعبقت منه الكنيسة المقدسة.

 

جلوسه على الكرسي الأنطاكي:

ولما فرغ الكرسي الرسولي الأنطاكي، بانتقال أسقفه كرنيليوس إلى الخدور العلوية سنة 196، انتخب مار ثاوفيلوس أسقفاً عليه، في فترة زمنية عصيبة.

 

الحملات الفكرية ضد المسيحية:

فقد واجه المسيحية، في فجرها، خاصة ابتداءً من أوائل القرن الثاني للميلاد، وحتى انعقاد مجمع نيقية عام 325م، خطران فادحان، أحدهما خارجي، والآخر داخلي، أما الخطر الخارجي فهو العداء العنيف الذي أثاره ضدها اليهود الحاقدون على الرب يسوع وأتباعه. فكانوا يفترون على الكنيسة افتراءات باطلة. كما وجّه ضدها كتّاب الوثنية الحاذقون في فن الجدل، سهام انتقاداتهم الحادة، مهاجمين العقائد المسيحية السمحة، بشخص السيد المسيح، وعجائبه، وموته، وقيامته، وحقيقة الوحي الإلهي، والقيامة العامة، والنعيم والجحيم، والخلود، والأبدية، وكانوا يرمون المسيحية بأشنع التهم كالإلحاد، والدعارة، وأكل لحوم البشر. مستندين بذلك إلى أقاويل العامة وظنونهم الفاسدة. أما الإلحاد فلرفض المسيحيين السجود لصنم أو تمثال، أما أكل لحوم البشر فلسوء فهم عقيدة تناول القربان المقدس وإيمان المسيحيين بأنهم بتناولهم الخبز والخمر المقدسين إنما هم يتناولون جسد الرب يسوع ودمه الأقدسين تحت شكلي الخبز والخمر. أما تهمة الدعارة، فقد نشأت لدى أعداء المسيحية، من التفسير الشهواني لكلمة «المحبة» و«قبلة السلام».

وكان الشخص البارز بين من أثار هذه الحملات الفكرية التهجمية ضد المسيحية في القرن الثاني للميلاد، هو الفيلسوف اليوناني كلسوس. وبالقيام بهذه الحملة الفكرية تمكن اليهود والوثنيون، من إثارة عامة الشعب ضد أتباع السيد المسيح، ليبرروا بذلك الاضطهاد الجسماني الذي أثاروه ضدهم بغضة وعدواناً، للتنكيل بهم، وتعذيبهم، ومحاولة إبادتهم، ما لم ينكروا الإيمان بالسيد المسيح ويرتدوا إلى الوثنية. ومما ساعدهم على بلوغ أربهم، اعتبار الأباطرة الرومانيين، الديانة المسيحية، غير شرعية. لذلك فمن أقرّ بأنه مسيحي عرّض نفسه للموت، لأنه يعد من أعداء المملكة.

الدفاع عن المسيحية:

أما رد الفعل الذي بدا من المسيحيين، فهو أنهم لم يقدموا على القيام بدفاع عسكري، لأنهم لا يؤمنون بالعنف، وقد أمروا بمحبة الأعداء، ولكنهم لم يتنازلوا للدولة الوثنية عن مبادئهم الدينية، لذلك جنّد آباء الكنيسة الميامين وعلماؤها الفطاحل، أنفسهم لصد هذه الهجمات الفكرية العدائية، واستنكار الاضطهادات الجسدية، بكتابات وجهوها إلى القيصر، أو رجال المشيخة، أو إلى الجمهور، أو بعض الخاصة من اليهود والوثنيين، صدوا بها سهام أعدائهم إلى نحورهم، ونفوا عن المسيحية التهم الباطلة التي حاول أولئك الأعداء إلصاقها بهم. ثم أقاموا الحجج الدامغة على صحَّة الدين المسيحي، وسموّ تعاليمه، وبرهنوا على صحة مجيء السيد المسيح الذي تنبأ عنه الأنبياء، وانتظرته الشعوب. وربطوا العقائد المسيحية بكتابات أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، ليوضّحوا بأن المسيحية لم تكن بدعة حديثة، كما اتهمها أعداؤها، بل هي مؤسسة إلهية قديمة جداً ومحترمة. وأن رسالة الرب يسوع هي رسالة الفداء التي كان العالم بأمس الحاجة إليها للتكفير عن خطاياه، ونيل السعادة الأبدية.. وهاجم أولئك العلماء سخافة الديانة الوثنية الفاسدة، واليهودية الضالة، الحاقدة، التي ابتعدت عن ينابيع الوحي ولم تفهم النبوات فلم تؤمن بالمسيح. وقد دعي أولئك الآباء والعلماء بكتّاب الاحتجاج أو علماء الدفاع عن عقائد المسيحية وآدابها.

وممن برز في هذا المضمار، في القرن الثاني للميلاد، اريستيد فيلسوف أثينا الذي رفع احتجاجه إلى القيصر في حدود 140م وقد وُجدت نسخة احتجاجه باللغة السريانية في خزانة كتب دير طور سينا[4]. والقديس يوستينوس الذي استشهد سنة 166م ولأهمية كتاباته سنتناول ترجمة حياته ومؤلفاته بالتفصيل بعد الانتهاء من دراستنا ترجمة القديس ثاوفيلوس. كما ألف أثيناغورس الاثيني رسالته المعنونة بـ«التماس لأجل النصارى» التي وجهها إلى القيصرين مرقس اوراليوس ولوقيوس أوراليوس بين سنة 176 ـ 178م.

 

الهرطقات الخبيثة:

أما الخطر الذي جابه المسيحية من الداخل، عصرئذ، فهو ظهور الهرطقات الخبيثة التي حاول أعداء المسيحية دسها بعقائدها القويمة، لبلبلة الأفكار السليمة، وتشويشها، وزرع الشكوك في صحة ما تسلمته الكنيسة من الرسل الأطهار من تعاليم إلهية صحيحة، وتقاليد شريفة. فنهض آباء الكنيسة مدافعين أيضاً عن تعاليمها وتقاليدها، وبإرشاد الروح القدس وقيادته، فحصوا الأسفار المقدسة التي يتألف منها كتاب العهد الجديد الآن، وبسلطانهم الرسولي أقرّوا بأنها أسفار قانونية، موحى بها من الله. كما نبذوا الكتب المزورة.

كان لدفاع آباء الكنيسة ومعلميها عن الحق المسيحي، ثمار طيبة، فقد نالت المسيحية بذلك احترام الأوساط العلمية والفلسفية التي كانت تهتم بالنواحي الفكرية. كما جذبت انتباه العديد من المفكرين فدرسوا العقائد المسيحية، الأمر الذي مهد أمامهم الطريق للتعرف على المسيح المخلص، وكان خير وسيلة لاقتناعهم بسمو الدين المسيحي، فتنصروا. كما دفع آباء الكنيسة إلى تحديد العقائد المسيحية والدفاع عن صحتها.

 

مار ثاوفيلوس يدافع عن المسيحية:

قال أوسابيوس القيصري (340+): «وقد ناضل ثاوفيلوس مع غيره (ضد الهراطقة الذين كانوا كالزؤان مفسدين الحصاد النقي الذي للتعاليم الرسولية). وهذا ما يتضح من بحث جليل الشأن كتبه ضد مرقيون. وقد حفظ إلى اليوم هذا المؤلف أيضاً مع باقي المؤلفات». وهذه المؤلفات الأخيرة هي التي ذكرها أوسابيوس بقوله: «فلا يزال باقياً لثاوفيلوس ثلاثة مؤلفات أولية موجهة إلى اتوليكوس، ومؤلف آخر عنوانه «ضد هرطقة هرموجينس» فيه يقتبس بعض الشهادات من رؤيا يوحنا، وأخيراً بعض كتب تعليمية أخرى»[5] كلها تصلح لتعليم المسيحي وتهذيبه.

كان مار ثاوفيلوس أديباً، بليغ العبارة باللغة اليوناينة، وكاتباً طويل الباع في الإنشاء. وفي كتاباته، دحض ببراهين قاطعة افتراءات اليهودية، وتهجمات الوثنية، مستنكراً الاضطهادات التي أثارها أباطرة الرومان وحكامهم ضد المسيحية الودعاء الذين تحملوا صنوف العذاب بصبر جميل. معلناً براءتهم مما أُلصق بهم من تُهم باطلة، كما فنّد بكتاباته آراء الهراطقة، ونبذ تعاليمهم الفاسدة، نبذ النواة، وذلك في مؤلفاته ضد مرقيون وهرموجانيس الإفريقي التي ذكرها أوسابيوس. وله كتاب في تكوين العالم وأصل الإنسان، أشار إليه في رسالته الثانية إلى أوتوليكوس، كما له كتاب في التعليم المسيحي. وذكر هيرونيموس (331 ـ 420) أنه عنّ لمار ثاوفيلوس جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد[6]، وكتب في تفسير الإنجيل، وفي شرح أمثال سليمان[7] وأنه أول من صرّح بأن كاتب الإنجيل الرابع هو يوحنا الرسول[8]. ومما يؤسف له أنه لم يبقَ من مصنفاته هذه كلها سوى نتف ولم يصلنا سوى كتابه الذي ينطوي على ثلاث رسائل نفيسة وجهها إلى اتوليكوس الذي قال عنه ثاوفيلوس انه كان أحد أصدقائه الوثنيين الذين مجّدوا آلهتهم، وأنه كان حاكماً في أنطاكية[9]، وقد ألّف كتباً سخر فيها من الدين المسيحي، وأنّب ثاوفيلوس لاعتناقه هذا الدين وأخذ يهزأ من فكرة الإله غير المنظور، وأرونا إلهكم؟! وأرونا ميتاً عاد إلى الحياة؟! وقيل أن أوتوليكوس هذا كان شخصاً وهمياً جعل منه الأسقف ثاوفيلوس هدفاً للنصح والإرشاد[10]، وهذا الرأي ضعيف.

وقد فنَّد مار ثاوفيلوس ادعاءات أوتوليكوس وافتراءاته الباطلة ضد المسيحيين، متناولاً بالبحث في رسالته الأولى، طبيعة اللّـه ومظهراً أن اللّـه تعالى غير منظور، ولكن المؤمن النقي القلب يراه لا بالعين المجردة، بل بالإيمان، ويراه أيضاً بالتأمل بمخلوقاته العجيبة التي خلقها وأوجد لها نظاماً عجيباً تسير بموجبه، وهو أيضاً يدبرها بحكمته.

ويستهل رسالته الثانية بخلاصة ما جاء في الأولى عاقداً المقارنة بين سمو التعاليم المسيحية، وعجز الخرافات الوثنية، وتطرَّق إلى النبوات التي أوحى بها اللّـه إلى أنبيائه والتي تمت بحذافيرها فيما بعد. كما يسخر من الفلاسفة الذين يدّعون الحكمة وهم يعبدون أصناماً لاحسّ لها، مما يبرهن على جهلهم.

وفي رسالته الثالثة رد على قول أوتوليكوس أن الدين المسيحي حديث العهد. فربط ثاوفيلوس حقائق الدين المسيحي بنبوات العهد القديم وذكر أن أولئك الأنبياء أقدم من فلاسفة اليونان ومشترعيهم.

ومما يقوله ثاوفيلوس لأوتوليكوس: «إنك تسيء الحكم على اللّـه لأنك لا تمارس عبادته. وقد كنت أنا أيضاً كذلك أرفض الإيمان به، ولكنني بعدما أعملت الفكر أصبحت مؤمناً. وعندي في اللّـه ما يضمنني، فإذا صحّ عزمك سهّلت عليك طاعة اللـه»[11] ويقول أيضاً: «إن اسم المسيح يدل على الممسوح، وهو اسم شريف يبعث في القلب سروراً، وجدير بغاية الوقار، فإذاً لهذا السبب ندعى مسيحيين  لأننا نمسح بزيت مقدس»[12].

 

لفظة التثليث:

ومما هو جدير بالذكر، أن بعض اللاهوتيين يعتقدون بأن مار ثاوفيلوس هو أول من استعمل لفظة التثليث في الثالوث الأقدس والجوهر الواحد[13] علماً بأن المكاشفة بالثالوث الأقدس جاءت في الإنجيل المقدس وسائر أسفار العهد الجديد، وهي واضحة بتعابيرها. كما أن ثاوفيلوس لم يشعر بحرج في استعمال هذه اللفظة، وإلا لكان حاول شرحها والتعريف بها[14].

 

انتقاله إلى جوار ربه:

بعد ما خدم مار ثاوفيلوس الكرسي الأنطاكي نحو ثلاث عشر سنة، انتقل إلى الخدور العلوية بين سنة 181 و185 وعيدت له الكنيسة الشرقية في 23 تموز والكنيسة الغربية في 18 تشرين الأول[15].

 

الهوامش

————————————————

([1])ـ تاريخ الكنيسة لأوسابيوس القيصري، تعريب القس مرقس داود، طبعة القاهرة 1960 ص191 (ك4: ف20).

([2])ـ تبدأ سلسلة أساقفة أنطاكية (أي بطاركتها) بالرسول بطرس الذي خلفه آفوديوس، فإغناطيوس النوراني، فايرون (هيرون) فكرنيليوس، فايروس (اوروس) ثم ثاوفيلوس.

([3])ـ تاريخ كنيسة أنطاكية ـ لخريسوستموس بابا دوبولس ـ تعريب الأسقف استفانس حداد، منشورات النور1984ص100 والدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة للبطريرك أفرام الأول برصوم حمص 1940 مج1 ص217.

([4])ـ الدرر النفيسة ص 235.

([5])ـ تاريخ الكنيسة لاوسابيوس(ك 4: ف24).

([6])ـ اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية للبطريرك أفرام برصوم طبعة بغداد 1976 ص522.

([7])ـ بطريركية أنطاكية للدكتور نيل ص25 وتاريخ الكنيسة السريانية الانطاكية للمطران (البطريرك بعدئذ) يعقوب الثالث بيروت 1953ج1 ص111.

([8])ـ دئرة المعارف البريطانية طبعة9مج 10 ص818.

([9])ـ الدرر النفيسة ص 217و Who is who in the early Church, pp, 118,

([10])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية العظمى لأسد رستم ـ بيروت 1958 ج1ص 75 عن:

BARDY, G. OP. CIT, 19

([11])ـ الدرر النفيسة ص217.

([12])ـ تاريخ الكنيسة السريانية المطران (البطريرك بعدئذ) يعقوب الثالث بيروت1953 ج1 ص113 عن بطريركية أنطاكية لنيل ص29.

([13])ـ الدرر النفيسة ص219 والخريدة النفيسة ج2 ص51.

([14])ـ كنيسة مدينة اللّـه أنطاكية ـ أسد رستم ص 78.

([15])ـ كلندار الربان صليبا بن خيرون ـ تاريخ الكنيسة السريانية للبطريرك يعقوب ص114.

 

للأعلى