علاقة البطاركة والمفارنة بالخلفاء العباسيين

علاقة البطاركة والمفارنة

بالخلفاء العباسيين

 

بقلم مار غريغوريوس صليبا شمعون مطران الموصل وتوابعها

 

 

إن العباسيين الذين رأوا في العراق دار السلام، رأوا فيه أيضاً موطناً للكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأنطاكية، ومن هنا فإني أشير إلى المسيحيين في العراق بالسريان والكنيسة السريانية (وبالمناسبة أقول إننا نستهجن كلمتي اليعقوبية والمنوفيزتية الدخيلتين)، ولا غرو فإن الكنيسة السريانية هي إحدى أقدم الكنائس التي تأسست في الشرق، فمنذ العصور الأولى برزت كنيستان فقط في العراق، هما الكنيسة الشرقية القديمة، أو الكنيسة النسطورية كما يسمونها، إلا أننا سنشير إليها هنا بالكنيسة الشرقية القديمة، والثانية هي الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأنطاكية التي تأسّس كرسيها في أنطاكية حيث دعي المسيحيون أولاً، وقد اتخذها البطاركة السريان مقراً لهم ومن ثم انتقل الكرسي إلى أعالي ما بين النهرين، أما المفارنة السريان فقد اتخذوا تكريت مقراً لهم والتي ذهبت لها شهرة مستفيضة كنسياً وتجارياً وهي قريبة من بغداد عاصمة العباسيين، وخضعت للمفريان الذي كان بمثابة نائب عن البطريرك: في أبرشيات فارس وأذربيجان وأفغانستان إلى جانب أبرشيات العراق، أما بين النهرين وسورية وسواهما فقد خضعت مباشرة للبطريرك.

لقد رحب السريان بالعرب الفاتحين معتبرين إياهم محررين لا غزاة، لأن طابع الفتح كان دينياً وفكرياً وسلمياً، وقد مارس رؤساء الكنيسة مسؤولياتهم من منطلق قول السيد المسيح: «كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام» (مت 10: 16).([1]) ولما جاء العباسيون نحو سنة 750م كانت كلمة «فاروق» التي أطلقها السريان على الخليفة عمر بن الخطاب، مازالت متداولة تراود أذهانهم كما كان لماروثا مفريان([2]) تكريت (628ـ649)، الذي تميز بالحكمة وبعد النظر اليد الطولى في فتح ابواب تكريت أمام الفاتحين حاقناً بذلك الدماء([3])، وقد تعشق السريان الأرثوذكس العلم فاولوا له اهتماماً خاصاً بتأسيسهم المدارس وإقامة المعاهد في الكنائس والأديرة خاصة، إلى درجة أن كل كنيسة في فترة الحكم العباسي كانت ملحقة بها مدرسة أو معهد، فانجبت تلك المعاهد الثقافية والعلمية وجبات تلو الوجبات من المفكرين ورواد العلم والمعرفة اللائقين باحتلال مراكز كنسية عليا، إكليروساً كانوا أم علمانيين، ممن طارت لهم شهرة واسعة في الأدب والفلسفة والعلوم الأخرى، والذين خلفوا بحوثاً ومصنفات في مختلف العلوم والمعرفة عصر ذاك، إذ كانت ثقافتهم متعددة الجوانب.

في فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين سنة 750م كان يجلس على كرسي المفريانية في تكريت المفريان بولس الذي أقام علاقات وثقى مع قادة المسلمين من جهة، ومع جاثليق كنيسة المشرق القديمة من جهة اخرى وكان البطريرك أيوانيس الأول، أول من يحصل على فرمان من خليفة المسلمين في العهد الأموي، وذلك حين التقى بمروان الثاني في حران، وقد كلفه هذا الفرمان خمسين حمل جمل من السلع والهدايا الفاخرة([4])، إلا أن الخليفة نفسه وبعد فترة قصيرة واستناداً إلى وشاية مغرضة، أصدر أمراً بسجن البطريرك، ومن الطبيعي أن ينشرح صدر السريان لدى تسلم العباسيين مقاليد الأمور، حيث أطلق سراح بطريركهم المحبوب بعد أن أمضى قرابة خمس سنوات في السجن، وبذلك يكون هذا البطريرك قد عاصر العهدين الأموي والعباسي وغادر الحياة سنة 754.

لقد سجل المؤرخ الرهاوي المجهول صورة معتمة للكنيسة عن بداية العهد العباسي وبخاصة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، فبعد وفاة البطريرك إيوانيس مرت الكنيسة في فترة اضطراب استغرقت أربع سنوات وفي هذه الفترة تدخل أمير الجزيرة مقاتل بن الحكم في شؤون الكنيسة الداخلية دون موافقة الخليفة أبي جعفر، فقد أقام صداقة مع اسحق مطران حران الذي ادعى معرفته بالكيمياء تساعد على صنع الذهب والفضة، فلما شغر كرسي البطريركية انتهز الأمير الفرصة ليكافئ صديقه اسحق، فاوفده الخليفة إلى بعض الأقطار ليجمع مواداً كيمياوية ضرورية لصنع الذهب، وقبل نهاية السنة استدعى الخليفة اسحق لكي يطلعه على نتيجة جولته، فتبين له فشل اسحق في مهمته، فأمر بقتله ورمي جثته في نهر الفرات([5])، كما أن المنصور نفسه تدخل في شؤون الكنيسة بفرضه ضريبة باهظة على بطريرك آخر غير شرعي يدعى أثناسيوس النعال الذي أثار حرباً شعواء ضد البطريرك مار أيوانيس الشرعي، وكان له ضلع في سجن البطريرك من قبل مروان الثاني.

استمرت هذه الحالة من الفوضى في الكنيسة السريانية حتى عام 758 حين انتخب البطريرك جاورجي كأول بطريرك ينتخب شرعياً في العهد العباسي، وقد وضع نصب عينيه رفع شأن الكنيسة وترسيخ دعائم الكرسي الرسولي الأنطاكي ورقيه، لا سيما وهو لاهوتي بارع وخريج مدرسة قنسرين الذائعة الصيت، غير أن ذكاءه وعلمه سببا له متاعب جمة حيث سقط فريسة لمؤامرة خبيثة بهدف الحط من كرامته، ذلك أن أبا جعفر المنصور تلقى ما يفيد أن للبطريرك جاورجي مقدرة كافية لإنتاج الذهب عن طريق الكيمياء، فاستدعاه، لكن البطريرك نفى معرفته بالكيمياء ولما كان المال من أهم اهتمامات المنصور يومذاك لأجل بناء عاصمة جديدة لائقة بالخلافة، وبناء على مشورة غير حكيمة أمر بزج البطريرك في السجن الجديد حيث كان ثاودريط البطريرك البيزنطي ويعقوب جاثليق النساطرة نزيلين فيه، اضف إلى ذلك تدخل الخليفة مرة أخرى في شؤون الكنيسة الداخلية بالعمل على إقامة داؤد أسقف دارا بطريركاً آخر غير شرعي على الكرسي الأنطاكي في الوقت الذي كان البطريرك الشرعي يعاني في السجن ولمدة تسع سنوات، ولم يغادره حتى تولى الحكم المهدي ابن المنصور فأطلق سراحه مع الآخرين([6])، فأخذت تباشير السلام تلوح في سماء الكنيسة لاسيما وأن العديد من الخلفاء العباسيين رأوا في الأديرة المسيحية مكاناً هادئاً وصالحاً للاستجمام والراحة، فصار لها شأن رفيع لديهم واتخذوها منتجعات لهم، وكانوا ينفحونها بالهدايا الثمينة ويصغون بإرتياح إلى أحاديث الرهبان، وقد اعتاد الخليفة هارون الرشيد زيارة مدرسة دير مار زكا في طريقه إلى الرقة لدى سلوكه الطريق الصحراوي ما بين بغداد والرقة حيث كان يمضي وقتاً ممتعاً هناك بعيداً عن متاعب البلاط ويتبادل الأحاديث مع رئيس الدير وسكانه، فتكونت لديه صورة لامعة عن الكنيسة السريانية الارثوذكسية وتقاليدها وحياتها الروحية([7])، ذكر المؤرخ الرهاوي المجهول أن بعضهم وشوا بالمسيحيين إلى الرشيد بأنهم يتجسسون لحساب الروم، مطالبين هدم كنائسهم لكنه وبمشورة كاتبه يحيي البرمكي لم يُصغِ إليهم بل طردهم([8])، إلا أن الرشيد لم ينج دائماً من الدسائس التي كانت تحاك ضد المسيحيين، فبتأثير إحدى الدسائس أمر بهدم الكنائس في البصرة بحجة أن المسيحيين يعبدون الموتى في كنائسهم، ولكن لما اتضحت له الحقيقة عاد فأمر ببنائها وإذ أدركته المنية قبل تحقيق ذلك نفذ رغبته ابنه الأمين.

ومما يؤثر عن الخليفة المهدي أن شكوى رفعت إليه سنة 770م بخصوص كنيسة مار توما التاريخية وهي أقدم كنيسة مسيحية في الموصل، ومفادها أن خلافاً نشب حول قطعة أرض مجاوة للكنيسة أدعى ملكيتها كل من المسيحيين والمسلمين ولما لم يتوصلوا إلى حل، رفعوا القضية إلى الخليفة المهدي لدى زيارته الموصل، فأصدر في مدينة بلد القريبة من الموصل قراراً بإعطاء 400 ذراع من الأرض المتنازع عليها للمسجد المجاور للكنيسة والبقية وهي المساحة الأكبر لكنيسة مار توما([9])، إلا أن العهد الأكثر انفتاحاً وتسامحاً كان عهد الخليفة المأمون الذي تبنى سياسة المساواة نسجاً على منوال والده، واهتم في الوقت نفسه بالناحية الثقافية والعلمية حتى أنه تبنى سياسة ما يُعرف: «بيت الحكمة» الذي طارت له شهرة مستفيضة وغدا منتدى يقصده طلاب العلم بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو طائفتهم ومنهم العلماء السريان.

أما في ما يخص الشؤون الكنسية الداخلية والإدارية فنقول: لقد تمكن الراهب ابراهيم «ابيرام» من الحصول على فرمان من الخليفة يخوله صلاحيات البطريرك، بعد أن أقامه بعض الأساقفة المتمردين بطريركاً غير شرعي، بيد أن الكنيسة رفضته، حيث عقد مجمع من أربعين أسقفاً أختار بالإجماع الربان ديونيسيوس التلمحري ابن مدرسة «قنسرين» الشخصية العلمية والقوية الفذة، بطريركاً شرعياً على الكرسي الأنطاكي([10])، وفور تنصيبه شخص إلى بغداد والتقى بالخليفة المأمون فنال حظوة لديه وحصل منه على فرمان وترك لديه انطباعات جميلة حتى أن الخليفة أبدى رغبته في توطيد العلاقة بينه وبين البطريرك، نظراً لما توسّم فيه من حكمة ولباقة.

يخبرنا المؤرخ مار ميخائيل الكبير عن زيارة التلمحري للخليفة، أن الخليفة المأمون أصدر قراراً يقضي بأن: «كل مجموعة مؤلفة من عشرة أشخاص فما فوق بإمكانها إقامة رئيس لها ولا يحق لأحد مقاومته»، وقد تشبث بهذا القرار لعازر أسقف بغداد المتمرد على البطريرك، ومما قاله التلمحري في هذه الزيارة: «أنه أمر لا يصدق أن يصدر من عدالتكم مثل هذا القرار، أين عدالة أحكامكم ومتى صدر قرار مثل هذا من خليفة مثلك؟ فأنتم تعرفون أن بيننا عهوداً ومواثيق موقعة ومختومة بخاتم الخلفاء الذين فتحوا المدن، فإذا نكثتم بتلك العهود ومنعتم عنا شعائرنا ورئاستنا تكونون قدا ألحقتم الغبن بنا، لأن أمورنا ستضطرب وسننتهي إلى محاربة بعضنا البعض»، ويستطرد التلمحري فيقول: «قلت هذا بصوت عال وأنا أحرك يدي تجاهه كالذي يخاصم نداً له كما رفع هو الآخر صوته كمن يبارز نداً دون أن يبدي أمتعاضاً من الدالة التي أظهرتها تجاهه»، ويستطرد: «في يوم آخر دخلت إليه بطلب منه فرأيته جالساً على أريكته محاطاً بقضاة بغداد وفقهائها، فألقيت عليهم التحية ودعوت له، فأمر أن أجلس قبالته، فقال: لقد أنحيت باللائمة علي ظلماً أيها البطريرك بسبب القرار الذي أصدرته… قلت له لقد ثبت آباؤك المرحومون الرئاسة لنا وكانوا يزودوننا بالفرامين وأنت نفسك أعطيتني فرماناً في بدء خلافتك، وحيث أنك تلتزم جانب العدالة آمل أن لا تسن قوانين جديدة مجحفة، لاسيما لم يقم خليفة أكثر منك حكمة ومنطقاً وذو نفس كبيرة([11])».

لقد انعكست علاقة البطريرك التلمحري الطيبة مع الخلفاء والأمراء إيجابياً على مسيرة الكنيسة، فقد حقق نجاحاً باهراً في حل العديد من المشاكل المستعصية والتي خلقتها عوامل خارجية وداخلية، كوضعه حداً للخلاف المزمن القائم يومذاك بين مفريانية تكريت ورهبان دير مار متي، وحل مشكلة ابراهيم البطريرك غير الشرعي حيث رفع أمره إلى الخليفة المأمون فكتب رسالة إلى الأمير عبد اللّه جاء فيها: «لقد رفع إلينا المسيحيون مذكرة يشكون فيها من ابراهيم الذي يزعم أنه بطريرك، في الوقت الذي لهم ديونيسيوس بطريركاً، فاستدع يعاقبة تلك المنطقة واستفهم حول من يريدون الخضوع له فثبت رئاسته وساعد بما يناسب ولا يتعارض مع العدالة»، وإذ تأكد الأمير عبد اللّه أن غاية ابراهيم كانت مجرد إثارة الشغب لاغير، أمر بنزع إسكيمه، وحذره من أرتداء زي البطريركية([12]). لقد استشف الحكام العباسيون أن السريان ذوو عطاء وإخلاص للوطن والأمة وأن عطاءهم لا يقف عند شأن معين بل يتعداه إلى أكثر من ذلك، فوثقوا بهم واعتمدوهم في ميادين عدة وحتى السياسية منها، فهذا الخليفة المأمون مثلاً، وبعد لقائه بالبطريرك التلمحري وإعجابه بشخصيته وقوة إقناعه أحبه وتوسم فيه الخير للبلاد، فأوفده لحل مشكلة أهالي بياميا الأقباط في مصر السفلى الذين تمردوا على الدولة بسبب الضغوط القاسية التي مارسها عليهم عامل الخليفة في مصر، إذ أرهقهم بضرائب باهظة غير محتملة، فأصطحبه معه إلى مصر وهناك خيره ليصطحب من يشاء من الأساقفة إلى جانب بطريرك الإسكندرية، ويسافر إلى البياميين ويعطيهم عهداً بالأمان، لكن العامل كان قد قمع ثورتهم بالقوة ولدى وصول البطريرك أخبرهم بتصميم الخليفة على مغادرتهم المنطقة، فطلبوا مقابلته ليشرحوا له سبب تمردهم فلما نقل البطريرك الحقيقة إلى الخليفة، امتعض جداً من عامله ووعد بتصحيح كل شيء، ثم أرسل إليهم بعض معاونيه وتم الاتفاق، فترك البياميون المنطقة وتوجهوا إلى بغداد واستوطنوا فيها، وبذلك تكون وفادة التلمحري قد تكللت بالنجاح([13]).

كان التلمحري حريصاً على استمرارية علاقته الجيدة مع الخلافة العباسية حتى بعد وفاة المأمون، فقد سافر إلى بغداد لتقديم التهاني للخليفة المعتصم الذي ورث أخاه في الخلافة ولكن رغم ذلك فإن المؤرخ ميخائيل الكبير يسجل بعض حوادث مؤلمة من قبل من هم في موقع المسؤولية، يقول: «لقد غدا الناس في بعض الأحيان فريسة للحكام وقراراتهم المجحفة، وكان الحاكم يشدد أو يخفف من وطأة هذه الإجراءات بحسب مزاجه وهواه وغالباً ما كان يُعزي السبب إلى ضعف شخصية الحاكم الذي يخضع لوشايات حاشيته([14])».

حدث مثل هذا حتى في عهد المأمون نفسه الرجل الأكثر تسامحاً تجاه أهل الذمة حيث اقترف بعض الولاة جرائم بحق المسيحيين مثل تدمير كنائسهم وأديرتهم، فلما علم المأمون بذلك أصدر قراراً يمنع الولاة من إصدار أمر بهدم الكنائس قبل الحصول على موافقته، ولا يخفى أن أحداثاً كثيرة مؤسفة جرت في عهد هذا الخليفة أو ذاك دون أن يكون له علم بذلك، يقول الرهاوي المجهول: «إن مظالم شتى حدثت في عهد الملك أبي إسحق إرتكبها حكام ظالمون وولاة المدن([15])».

إن هدم الكنائس والأديرة أخذ بعداً سلبياً خاصة في عهد المتوكل الذي لم يكن متسامحاً تجاه أهل الذمة، حتى أنه رفض تعيين أي مسيحي في المراكز المهمة، لا بل أقال جميع الذين كانوا يخدمون في البلاط، كما منعهم من رفع الصلبان في الاحتفالات الدينية التقليدية كالشعانين ومن قرع أجراس الكنائس، كما منع أولاد المسيحيين من التعليم في المدارس الإسلامية، ولكن لا ننسى أن المتوكل كان قاسياً حتى على المسلمين([16])، وبعكسه كان حفيده المعتضد باللّه الذي وُشي إليه، بشاب مسيحي أتهم بأنه أهان الرسول،غير أن الخليفة، كما نقل ابن العبري لم يصدقهم بل قال: «إن هؤلاء يكذبون فأرسل من أنقذ ذلك الشاب([17])» وبعد وفاته خلفه ابنه المكتفي. لما سمع المكتفي بوفاة والده المعتضد وكان في الرقة غادرها فوراً إلى بغداد لتسلم الخلافة، فاقتفى آثار والده في التسامح مع الأديان، واحتفظ بجميع الموظفين المسيحيين الذين كانوا يخدمون في بلاط والده مثل قاسم بن قاسم بن عبيد اللّه الذي أعطي صلاحية صياغة القرارات الرسمية، كما عين صديقه الحميم حسين بن عمرو حاكماً على آمد (ديار بكر)، إضافة إلى كونه أميناً للخليفة كما أعلن أن كل مواطن كفء له الحق في المراكز المتقدمة في دوائر الدولة، الأمر الذي أهل العديد من المسيحيين لتقلد وظائف مرموقة في الدولة، إلا إن المسيحيين خسروا هذه الأمتيازات خلال عهد المقتدر.

نعود إلى مفريانية تكريت فنقول، إن الأمور هناك اضطربت كثيراً إلى درجة أن المفريان يوحنا الرابع صليبا اضطر إلى مغادرة تكريت (1089) والإقامة في الموصل([18])، أما خليفته ديونيسيوس موسى الأول، فقد صمم على إعادة مجد مفريانية تكريت، ويؤثر عنه قوله: «حتى ولئن بقيت خمس عائلات سريانية أرثوذكسية في تكريت»، ولما تسلم مجاهد الدين ولاية تكريت أرتبط بصداقة مع المفريان فاصطحبه لزيارة الخليفة المسترشد وأصدر له فرماناً، فشرع المفريان بترميم الكنائس ومنها كاتدرائية مار أحودامه المعروفة (بالكنيسة الخضراء)، وحثّ التكارتة في الشتات على العودة إلى تكريت، فاستجاب عدد منهم([19])، بعد وفاته خلفه المفريان إغناطيوس الثاني لعازر الذي نقل مقر المفريانية إلى الموصل سنة 1156، وذلك بناء على قرار مجمع دير مار برصوم الذي وضع نهاية لمركز تكريت المفرياني، وقد نال حظوة وكرامة لدى جمال الدين وزير الموصل الذي أوفده سنة 1161 إلى جاورجي ملك الكرج ليتوسط في الإفراج عن الأسرى المسلمين، فاصطحب وفداً من أعيان المسلمين ونفراً من المثقفين السريان إلى ملك الكرج، فرحب بهم وأكرم وفادتهم وأطلق سراح الأسرى([20]). ومجمل القول: إن العصر العباسي يعتبر عصر ازدهار ورقي واستقرار نوعي بالنسبة إلى السريان الذين كانت لهم اليد الطولى في الأزدهار العلمي والثقافي،  فنعم المسيحيون في هذا العهد بحرية لم ينعموا بمثلها سابقاً أو لاحقاً، إذ أن المسيحيين خسروا كل امتيازاتهم التي كانت لهم في العصر العباسي إلا أن فتوراً في علاقة الكنيسة مع الخلفاء أو الأمراء والولاة كان يحدث بين الحين والآخر، ويعود ذلك إلى عدة عوامل منها:

1 ـ تصرفات الولاة الذين لم يحترموا العهود المعطاة لرؤساء الدين المسيحيين.

2 ـ زيادة عدد المثقفين المسلمين، مما أدى إلى إسناد الوظائف الهامة إليهم، في حين كانت تسند من قبل إلى المسيحيين.

3 ـ الأثر السيء الذي تركته ما تسمى خطأً «بالحروب الصليبية» لكونها حروباً إفرنجية استعمارية ولئن دثرت بدثار مسيحي رياءً ونفاقاً.

4 ـ كما لا ننسى العوامل الداخلية في الكنيسة والتي لعبت دوراً كبيراً في اضطراب العلاقات مع الحكام.

 

الهوامش


([1]) ـ البطريرك زكا الأول عيواص ـ المجلة البطريركية الدمشقية، سنة 1995 ص 341.

([2]) ـ المفريان: كلمة سريانية تعني المثمر، الجاثليق تعني مطران عام، قال ابن العبري عن تأسيس المفريانية نقلاً عن المؤرخ يوحنا الأفسسي المعاصر لمار احودامة: «وأقام الأرثوذكسيون، جاثليقاً بيد الطوباوي مار يعقوب البرادعي أسقف الأرثوذكسيين الأمر الذي لم يصر أبداً في بلاد فارس، وجرى الأمر وقام جاثليق للمؤمنين من ذلك الوقت حتى يومنا هذا». تاريخ مختصر الدول ص 223.

([3]) ـ المجلة البطريركية السنة 11 ص 511 عن ابن العبري.

([4]) ـ التاريخ الكنسي لأبن العبري، جزء 1 سيرة البطريرك أيوانيس.

([5]) ـ  تاريخ مار ميخائيل الكبير ـ الترجمة العربية للمطران صليبا شمعون، جزء 2 ص 417.

([6]) ـ  فيه جزء 2 ص 420.

([7]) ـ المطران يوحنا ابراهيم ـ المراكز الثقافية السريانية ص71.

([8]) ـ الرهاوي المجهول ـ تعريب الأب البير أبونا، جزء 2 ص 14.

([9]) ـ تاريخ أبرشية الموصل السريانية ـ المطران صليبا شمعون ص 176 ـ 177.

([10]) ـ للمزيد عن حياة البطريرك التلمحري ـ انظر المجلة البطريركية ـ السنة 1981 مقال لقداسة سيدنا البطريرك زكا الأول.

([11]) ـ تاريخ ميخائيل الكبير، جزء 3 ص 32.

([12]) ـ المصدر نفسه ص 18.

([13]) ـ المصدر نفسه ص 44.

([14]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ص 171 الآب ألبير أبونا عن مار ميخائيل الكبير وابن العبري.

([15]) ـ تاريخ الرهاوي المجهول ص 50.

([16]) ـ لمحات من تاريخ نصارى العراق ـ سهيل قاشا ص 64.

([17]) ـ تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، جزء 2 ص 185 عن ابن العبري.

([18]) ـ التاريخ الكنسي لابن العبري، جزء 2 سيرة المفريان يوحنا.

([19]) ـ انظر سيرته في التاريخ الكنسي لابن العبري جزء 2.

([20]) ـ سيرته، في التاريخ الكنسي لابن العبري جزء 2.