الموارنة في التاريخ

 

من هم الموارنة

وما هي أهميتهم

لوجود الجمهورية اللبنانية

او وجود لبنان كقطر ؟

 

كلمة أولى

المقدمة

خـاتـمـة

1 أصـــــل مصطلح مــــوارنــــــة

هــــويـــة الــنــاســــك مــارون

ديــــــر مــــــــارون

4 الـمـصـادر الأولـــى عن ديـــر مـــــارون

5 الادعـــــاءات الــمــارونــيــة ووثائــــق مراسلات القرن السادس

6 مجمــع القسطـنـطـينيـة لــعــام 536 م ورسالة رهبان سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا

الموارنــة والقديـــس سمعان العمــودي

8 بطـرس القـصَّار ونـــقاش التـقديـسات الـــثـــلاث

9 الموقعون على رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا والوثائــق ذات الـصلة من المجمع

10 الموارنة ورسائـل الرهبان من سورية الجـنــوبـيـة

11 هل كـان رهبان ديـــر مــارون خلـقيدونـيين

12 هــرقـــل وصيغــة الإيــمــان المونــوثـيلــية

13 الملكـــيــون والمـــورانة والمـجـمـع الـسادس

14 قيام المــوارنـة ككــنيــسـة منـفـصلــة

15 مـــن هـــو يــوحــنـا مــــارون

16 يـــوحـنـا مــارون هـل كـان بطريـركــاً لأنـطاكــيـــة ؟

17 مــؤلــفــات يــوحـــنــا مــــارون

18 هـل كـان يوحـنـا مـارون قديـسـاً معترفاً به رسمياً ؟

19 علاقــة المــوارنــة بالـمــردة والجــراجــمــة

20 الـمـوارنـــة والمـونـــوثــيلـــيـة

21 علاقة الموارنة بكنيسة روما

22 إرسالية الأخ غريفون وفرنسيسكان آخرين إلى الموارنة

23 إرسالية جيوفاني باتيستا اليانو إلى الموارنة

24 إرسالية جيـروم دنديني إلى الموارنة

25 تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية

26 الهوامش

 

 

 

كلمة أولى

 

أثارت الأزمات المتتالية حديثاً منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي في لبنان تساؤلات حول الموارنة والدور الذي يلعبونه في المجتمع اللبناني . الموارنة هم مسيحيون متحدون بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية أو أتباع لها في اعترافهم الإيماني . ولكن ما هو أصل الطائفة  المارونية؟ وما هو الإرث الثـقافي لهذه الطائفة؟ وما هو مدى ارتباطها بطوائف مسيحية أخرى في الشرق الأوسط ؟

يعاني الموارنة اليوم مشكلة هوية خطيرة . فهم لم يستطيعوا حتى الآن من البت فيما إذا كانوا ينحدرون من شعب قديم يُدعى بالمردة (المتمردين Mardaites) أو أنهم عرب أو من أصل آرامي سرياني . وما لم يتوصل الموارنة إلى حل مشكلة الهوية هذه ، فإن صراعاتهم مع الطوائف الأخرى في لبنان لن تهدأ . يُعتبر هذا الكتاب ، في الجوهر، دراسة وتحليلاً لأصل الموارنة ، وتراثهم التاريخي ، كما يُعتبر تحرياً يرتكز إلى مصادر قديمة وحديثة كتبت بلغات عديدة ، مازال العديد منها على شكل مخطوطات

 

كان الموارنة ، في ايمانهم وليتورجيتهم وطقسهم وكتبهم الدينية وتراثهم من أصل سرياني أرثوذكسي (يعاقبة) حتى نهاية القرن السادس عشر بالضبط عندما أصبحوا أتباعاً للكنيسة الكاثوليكية الرومانية . في هذا الوقت، وبالتحديد في عهد الأمير فخر الدين المعني، بدأ البطاركة الموارنة في لعب دور مميّز في الشؤون الداخلية للبنان . ففي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر ، اكتسبت الكنيسة والطائفة المارونيتين نفوذاً متزايداً عندما اهتدى بعض الأمراء الشهابيين الحاكمين إلى المسيحية وانضموا إلى الكنيسة المارونية . منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى عهد البطريرك بولس المعوشي (ت 1975) ، تجلت السلطة الزمنية للبطاركة الموارنة في شؤون لبنان السياسية حيث أعرب البطاركة الموارنة عن آرائهم حول كل قضية تقريباً وصاروا يُعتبرون لا بطاركة ورؤساء لطائفتهم وحسب بل ” بطاركة لبنان ” . وهكذا أصبح لبنان والمارونية بالنسبة للموارنة مترادفين . فضلاً عن ذلك، بدأ الموارنة يعتبرون أنفسهم طائفة فريدة من نوعها متميزة ديناً وثـقافةً عن العالم العربي ذي الغالبية المسلمة . هذا المفهوم هو في الحقيقة الدافع الرئيسي لبحث الموارنة عن هوية متميزة

 

يعتقد المؤلف أن هذا التاريخ للطائفة المارونية سيكون مثار اهتمام كبير لمؤرخي الكنيسة واللاهوتيين والقراء عامة ، الذين يهتمون بشؤون الموارنة وعلاقتهم بالأزمات الحالية في لبنان. يعطي هذا الكتاب خلفية من المعلومات حول هذه الأزمة ويصلح كدليل لأولئك الذين يهتمون بمعرفة تاريخ هذه الطائفة المسيحية الفريدة في الشرق الأوسط

 

هناك ملاحظة يريد ان يبديها المؤلف وهي ان الكتاب تمّ طبعه بالانكليزية عام 1986 ولذاك لم يشأ ان يضيف ايّة معلومات عن احوال الموارنة بعد هذا التاريخ لأن غايته لم تكن كتابة تاريخ الموارنة السياسي او تاريخ لبنان المعاصر . بل كانت غايته القصوى اثبات اصول الكنيسة المارونية والطائفة المارونية على ضوء ادعاءات الكتّاب الموارنة . وكذلك بيان تراث الموارنة المذهبي والطقسي وأنهم فرع من دوحة الكنيسة السريانية الانطاكية

 

كذلك يودّ المؤلف ان يجلب الانتباه الى أنه اجرى في هذه الترجمة تصليح الهفوات التي وقعت في الطبعة الانكليزية

 

اود أن اتقدم بالشكر الى المؤسسة الأمريكية للدراسات السريانية لدعمها لهذا المشروع والى الأخ حنا عيسى توما الذين تبنى هذا المشروع وصرف عظيم الجهد في إخراجه الى حيز النور

 

                        متي موسى

المقدمة

 

لدى تحري تواريخ الطوائف المسيحية الشرقية كطائفة اليونان البيزنطيين والأقباط والسريان والروم الأرثودكس والنساطرة والأرمن ، يجد المؤرخ في متناول يده العديد من المصادر الأساسية والثانوية باليونانية واللاتينية والسريانية والأرمنية والقبطية والأثيوبية والعربية تتـناول جوانب مختلفة من احوال هذه الطوائف وكنائسها كالعقيدة ، والوحدة وانعدامها ، والبطريركية ، والطقس والليتورجية . أما بالنسبة للطائفة المارونية فالحال مختلف جداً إذ نجد ندرة في المؤلفات الدينية والتاريخية ما عدا الملاحظات العابرة التي أبداها مؤرخون غير موارنة حيث ربطوا الموارنة بالمونوثيلية ( الإيمان بأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية متحدتان في إرادة واحدة وقدرة واحدة في التجسّد ) أو تحدثوا عن اتصالهم بالصليبين . ومما يثير دهشة المؤرّخين ، العلمانيين والكنسيين معاً ، هو عدم وجود تاريخ كنسي مدوّن للموارنة قبل القرن السابع عشر ، او مؤرخون من أمثال ثيودوريطس القورشي أو ايفاغريوس او ثيوفانس او ديونيسيوس التلمحري او ميخائيل الكبير (السرياني) أو المفريان غريغوريوس ابن العبري . والاستثناء الوحيد لذلك هو تاريخ العالم باللغة العربية كتبه كاتب ماروني في أوائل القرن العاشر يُعرف باسم قيس . بدأ هذا العمل بالخليقة وانتهى بحكم الخليفة العباسي المكتفي (ت 908). والكاتب الوحيد الذي يذكر هذا التاريخ هو ، مؤرخ القرن العاشر،  أبو الحسن المسعودي في كتابه: التنبيه والإشراف (القاهرة، 1938، ص 132) . ومما يؤسف له حقاً ان يكون تاريخ قيس مفقوداً . ولهذا ، ولأول مرة ، لا نجد تاريخاً زمنياً وكنسياً للموارنة وكنيستهم حتى القرن السابع عشر . وهو تاريخ الطائفة المارونية ، للبطريرك الماروني اسطفان الدويهي ( ت 1704 ) . قام بتحقيق هذا التاريخ ، الذي كتب في الأصل بالكرشونية ( اللغة العربية بحروف سريانية ) ، رشـيد الخـوري الشـرتوني ونشـره بالعربية في بيروت عام 1890.

هناك بعض مصادر مارونية مكتوبة قبل القرن السابع عشر إلا أنها لا تتـناول تحديداً لتاريخ الطائفة المارونية . ويرجع تاريخ اثنين من هذه المصادر إلى القرن الحادي عشر وهما كتاب الهدى والفصول العشرة لتوما أسقف كفرطاب الماروني في شمال سورية.  يعالج كتاب الهدى في الجوهر قوانين الكنيسة المارونية ، بينما يتضمن المصدر الثاني دفاعاً عن المونوثيلية كعقيدة مارونية

 

نجد في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر  باحثاً مارونياً هو جبرائيل ابن القلاعي (ت 1516) ، مطران نيقوسيا في قبرص يدافع عن ” أرثودكسية ” الكنيسة المارونية رداً على اتهامها بالمونوثيلية . وما يعنيه القلاعي بـ ” الأرثودكسية ” هو الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية (451) والذي أصبح إيمان كنيسة روما القائم على أساس العقيدة بأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية اتحدتا في شخص واحد في التجسد إلا أنهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد. وقد رفضت تحديد الإيمان هذا غالبية قادة الكنيسة في سورية ومصر الذين أقرّوا بأن النتيجة المنطقية لاتحاد طبيعتي المسيح هي طبيعة متجسدة واحدة لله اللوغوس (الكلمة ، اي السيد المسيح) . وليس هنا المجال لإثبات او تفنيد هاتين العقيدتين بل كل ما يستوجب القول هو ان غاية القلاعي كانت البرهان بأن الكنيسة المارونية لم تزل متشبثة بإيمان خلقيدونية ولم تَحِدْ عنه أبداً . لذلك كان القلاعي أول ماروني في الأزمنة الحديثة من ادَّعي بأن الكنيسة المارونية وكنيسة روما اعتنقتا نفس الإيمان ودافعتا عن “الارثودكسية” الخلقيدونية . والأكثر من ذلك فان القلاعي هو أول من أشاد بأن يوحنا مارون، الذي يعتقد بأنه توفي عام 707 ، كان أول ” بطريرك ماروني لأنطاكية العظمى ” . جاء هذا في كتابه المعنون : مارون الطوباني ، والذي مازال على شكل مخطوطة (مخطوطة الفاتيكان الكرشونية 640) . ويقدم القلاعي معلومات عن خلفيّة يوحنا مارون هذا مدعياً بأنه ابن أغاثون ومن أصل افرنجي . ثم جاء بعده البطريرك اسطفان الدويهي في القرن السابع عشر ليزيد في هذه القصة ويخطو خطوة ابعد من ذلك بجعل يوحنا مارون ابن أخِ الإمبراطور شارلمان. وقد كتب القلاعي أيضاً قصيدة غنائية باللغة العربية اللبنانية المحكية بعنوان: مديحة كسروان وهي قصيدة زجلية يعتبرها بعض الموارنة سجلاً تاريخياً للكنيسة المارونية من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر . مع أن كل ما احتوته الزجلية هو إشارات إلى الموارنة وكنيستهم في القرن الخامس عشر ولا يمكن اعتبارها سجلاً لتاريخ الكنيسة المارونية

 

وفي عام 1584 تمَّ تأسيس مدرسة مارونية في روما لتثقيف شباب موارنة وتلقينهم الإيمان الكاثوليكي . وطفق بعض خريجي هذه المدرسة بالكتابة باللغة اللاتينية عن أصل الموارنة وأسمائهم وكنيستهم . كان من المرموقين بينهم جبرائيل الصهيوني (المتوفي سنة 1648) وابراهيم الحاقلاني (المتوفي سنة 1664) ، ومرهج نيرون الباني (المتوفي سنة 1711) الذي حاول أكثر من أي ماروني آخر شرح اسم الموارنة وأصلهم في كتابين باللاتينية تمّ طبعهما في روما في القرن السابع عشر . إلا أنه ما من أحد من الموارنة كتب بشكل وافٍ ومنتظم عن تاريخ الكنيسة والطائفة المارونيتين كالبطريرك اسطفان الدويهي الذي يُعتبر أول مؤرخ ماروني في الأزمنة الحديثة

 

في الوقت االذي دافع القلاعي عن ارثودكسية الكنيسة المارونية (بمعنى تمسكها بصيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية وهي نفس صيغة ايمان كنيسة روما) ، كان مرهج نيرون أول من ارتأى بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق من اسم ناسك في القرن الخامس اسمه مارون . واذا تفحصنا المصادر القديمة نجد أن مؤرّخ القرن الخامس ثيودوريطس ، أسقف قورش الذي يتناول قصة حياة النسّاك في زمانه ، أدرج من ضمنها سيرة حياة قصيرة لناسك يدعى مارون، مع أنه لم يكن قد التقى به . وهنا وجد الكتّاب الموارنة ابتداء من مرهج نيرون والذين جاءوا بعده في اسم مارون هذا حلاً لمشكلة هويتهم المارونية . وإذا كان هؤلاء الموارنة قد ربطوا اسمهم باسم مارون الناسك فان غيرهم من الكتاب يرتأون بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق  من دير مارون في سوريا الجنوبية ، إلا أنهم يخفقون في البرهان على أن هذا الدير هو الذي يدَّعون بأنه اصل كنيستهم وطائفتهم . بيد أن موارنة آخرين كالدويهي، يصرّون على أن أصل كنيستهم وجماعتهم يرجع إلى دير يقع على نهر العاصي قرب مدينة حماه في سورية ، وبأن رهبان هذا الدير اعتنقوا الإيمان الأرثودكسي (الذي حدّده مجمع خلقيدونية)، وبأنهم لم يحيدوا عنه أبداً، منكرين بأن الموارنة كانوا في أي وقت من الأوقات مونوثيليين . ومع أن بعض الموارنة يقبلون الحقيقة وهي أن الموارنة كانوا مونوثيليين ، إلا أنهم يضفون على مونوثيليتهم تـفسيراً غريباً لتبدو وكأنها على انسجام مع إيمان خلقيدونية. ويمكننا أن نذكر من هؤلاء المطران الماروني يوسف دريان ، الذي اعترف بالمونوثيلية المارونية في كتابه : لباب البراهين الجلية عن حقيقة أمر الطائفة المارونية (دون ذكر محل الطبع 1911)

 

يورد الموارنة ، اثباتاً لادعائهم بالتمسك الدائم بإيمان خلقيدونية ، رسالة كتبت عام 517 وقّعها كهنة من سورية الثانية (الجنوبية) ورئيس دير مارون ووجّهوها إلى البابا هرمزدا يتهمون فيها سويريوس ، بطريرك أنطاكية (ت 538) ومطرانه بطرس ، أسقف أفاميا ، بقتل 350 راهباً . يدَّعي الموارنة بأن هؤلاء الضحايا كانوا من دير مارون وأنهم قُتلوا وهم في الطريق إلى مقام القديس سمعان العمودي في مهمة كنسية حيث أُجهز عليهم بسبب تمسكهم بإيمان خلقيدونية . ويستـشهد الكتّاب االموارنة ايضاً برسائل أخرى كتبها ووقّعها كهنة من سورية الجنوبية (وبينهم رؤساء دير مارون) تتّهم سويريوس الأنطاكي ورفاقه بالمزيد من الجرائم الإضافية . هذه الرسائل رُفعت إلى المجمع الذي التأم في القسطنطينية عام 536 لإدانة سويريوس ورفاقه. ومجمل القول ان الكتّاب الموارنة يعلنون صراحة ، بأنهم كانوا دائماً متمسكين بإيمان خلقيدونية واعتماداً على هذا الإيمان كانوا متّحدين بكنيسة روما منذ القرن الخامس . لهذا السبب تراهم يحاولون زعزعة الثـقة بأولئك المؤرّخين ـ وخاصة مؤرّخ القرن العاشر، سعيد ابن بطريق (أوطاخي) ، بطريرك الاسكندرية الخلقيدوني ، ومؤرخ القرن الثاني عشر وليم الصوري ـ اللذين اتهما الموارنة بالمونوثيلية . ولكن الحقيقة التاريخية هي أن ديونيسيوس التلمحري ، بطريرك أنطاكية السرياني الأرثودكسي (ت 845) كان أول من ذكر تبني رهبان دير مارون للمونوثيلية . ويُرجع التلمحري مونوثيلية هؤلاء الرهبان إلى عامي 629 ـ 630  وهو الزمن الذي فرض فيه الإمبراطور البيزنطي هرقل المونوثيلية على شعب سورية

 

يذهب الموارنة أبعد من ذلك بالقول أن بطريركيتهم هي بطريركية أنطاكية الأصلية وبأن يوحنا مارون هو أول بطاركتهم . ويؤكدون بالإجماع أن الاختيار وقع في عام 686 على يوحنا مارون لشغل هذا المنصب بعد وفاة ثيوفانس ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني . بيد أنهم يختلفون بشأن من اختار يوحنا مارون بطريركاً . يدَّعي البعض ان موفد للبابا هونوريوس (ت 638) الذي تصادفَ وجوده في سورية في القرن السابع هو الذي اختاره بطريركاً وان هذا الموفد، على ما يبدو ، اختبر إيمان يوحنا مارون ، وبعد أن وجده ارثودكسياً (خلقيدونياً)، أخذه إلى روما حيث رسمه البابا هونوريوس بطريركاً عام 686 . ادرك الدويهي انه من غير الممكن ان يكون البابا هونوريوس الذي توفي 638 قد رسم يوحنا مارون بطريركاً عام 686، فاجترح رأياً جديداً وهو أن البابا سرجيوس ، لا هونوريوس، هو المقصود في هذا السياق وأن الناسخ أخطأ حتماً بوضع اسم هونوريوس بدلاً من سرجيوس . ويدَّعي كتًاب موارنة آخرون بأن أساقفة المردة اختاروا يوحنا مارون بطريركاً.

ولكن من هم هؤلاء المردة؟ أجمع الموارنة على أن هؤلاء المردة هم أناسٌ محاربون استخدمهم الأباطرة البيزنطيون في القرنين السابع والثامن لمحاربة الجيوش الأموية التي قامت بغزو لبنان . ويُضيف الموارنة القول بأنهم انفسهم ينحدرون من هؤلاء المردة . بعبارة أخرى ، يدّعي الموارنة بأن المردة والموارنة هما نفس الشعب . وبالنظر الى هذا التـفسير فإن أساقفة المردة (أي الموارنة) هم الذين اختاروا يوحنا مارون ورسموه بطريركاً على أنطاكية . وقد دافع الموارنة عن هذا الإدعاء اخصّهم العلاّمة يوسف السمعاني الذائع الصيت (ت 1768) في المجلد الأول من مكتبته الشرقية . لكن أكثر من تشبث بهذا الإدعاء هو المطران يوسف الدبس (ت 1907) في كتابه : الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل (بيروت، 1905)

 

هناك عدة ادعاءات إضافية يوردها الكاتب المارني المعاصر الاب بطرس ضو في كتابه: تاريخ المـوارنة الديني والسياسي والحضاري (ج 1، بيروت ، 1970).  يصوِّر الأب بطرس ضو القديس سمعان العمودي بأنه ” تلميذ ” ناسك القرن الخامس مارون ويدعوه “بالماروني الباسل ” و ” منبع البطولة في الأمة المارونية ” . يعالج الاب ضو، أكثر من أي ماروني آخر مفهوم ” الأمة المارونية ” والبطريركية المارونية ، معطياً الانطباع بأن الموارنة كانوا حجر الزاوية في النسك والقومية السريانية ، وأنهم كانوا مركز المسيحية وكنيسة أنطاكية في الشرق. يؤيد ضو كل الادعاءات التي جاء بها كتّاب موارنة سابقون ويبذل جهداً كبيراً في إسهابها . ولكن بعض كهنة من الكنائس المتحدة (الكاثوليكية الرومانية) في الشرق اخذوا بتحدّي الادعاءات المارونية منذ القرن الثامن عشر،  اخصّهم المطران السرياني الكاثوليكي أقليميس يوسف داؤد ، الذي حاول اكثر من ايّ كاتب آخر تفنيد مزاعم الموارنة. كتب داؤد أطروحة باللاتينية يتحدى فيها الادعاءات المارونية بالارثودكسية الدائمة (التمسك بإيمان خلقيدونية) . مما اثار حميّة المطران الماروني يوسف الدبس للرد عليه في كتاب بعنوان : روح الردود في تفنيد زعم الخوري داؤد (بيروت، 1871) نُشر بالعربية واللاتينية معاً ، لدحض اتهامات داؤد . كرّس المطران اقليمس داؤد بدوره مخطوطة بأكملها بعنوان : جامع الحجج الراهنة في إبطال دعاوى الموارنة (أنجزت عام 1873 في الموصل، العراق) في دحض المزاعم المارونية ، ونشرت لاحقاً في لايبزغ عام 1908.

ومع أن كتاب داؤد هو اوسع كتاب باللغة العربية يشمل تفنيد المزاعم المارونية ، إلا أن المؤلف يغفل أهم إدعاءٍ ماروني ، وهو الإدعاء ” بالارثودكسية ” الخلقيدونية المبنية على الرسائل التي وقّعها رؤساء دير مارون والتي تتهم سويريوس ، بطريرك أنطاكية ، ومطرانه بطرس الأفامي بمقتل 350 راهباً من دير مار مارون وهم في طريقهم الى دير سمعان العمودي في مهمة كنسية . لكن داؤد يذكر في مكان واحد وفي تذييل فقط رسالة الكهنة من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا . وهو يفعل ذلك لا لتفنيد التهمة الموجهة إلى سويريوس بل للبرهان بأن رهبان دير مارون كانوا يستعملون التقديسات الثلاث (أي قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي ، قدوس أنت الحي غير المائت) ، مع عبارة ” يا من صُلبت لأجلنا ارحمنا ” ، والتي تعتبرها كنيسة روما ” هرطوقية ” . ويخلص داؤد إلى القول بأن رهبان دير مارون الذين استعملوا هذه العبارة لم يكونوا أرثودكسيين (خلقيدونيين)

 

هذه هي إذا ًإدعاءات المـوارنة لاقامة أساس شرعي لكنيستهم وطائفتهم . إلا أن بعض جوانب التـفسير الماروني للتاريخ عرضة للشك ، وخاصة الادعاء بأن كنيستهم هي ” كنيسة أنطاكية ” ، والادعاء بالارثودكسية الخلقيدونية ، وتحديد هوية يوحنا مارون . فضلاً عن ذلك، ونظراً لأسباب سياسية وطائفية ، فقد سعى الكتّاب الموارنة إلى إقامة ارتباط عضوي مع كنيسة روما أدّى بهم إلى مراجعة الحقائق التاريخية وإعادة تـفسيرها خاصة في القرون القريبة العهد . كانت مثل هذه المراجعة، بالمعنى الطائفي ، بحثاً أيضاً عن هوية مستقلة . بل ما زال الموارنة حتى اليوم يبحثون بإستمرار عن هوية مستقلة

 

 

 

خـاتـمـة

بعد هذا العرض التاريخي لأصول الموارنة كنيسة وشعباً نخلص الى النتائج التالية وهي : ان الموارنة كانوا في الأصل رهباناً يقطنون ديراً مبنى على ضفاف نهر العاصي باسم مارون أحد نسّاك القرن الخامس . ولكن هوية هذا الدير غير محددة حيث وُجد أكثر من دير واحد يحمل اسم مارون . ومهما كان التاريخ غافلاً عن فعاليّات رهبان هذا الدير حتى أوائل القـرن السابع فهناك ما يدلّ على ان هؤلاء الرهبان كانوا خاضعين لسلطة البطريرك الانطاكي

 

أمّا إدّعاء الكتّاب الموارنة المعاصرون بأن أصول كنيستهم وطائفتهم تعود الى رهبان هذا الدير في منتتصف القرن الخامس حيث تمسكوا بعقيدة مجمع خلقيدونية الذي انعقد عام 451 م ، ولهذا كانوا متّحدين بكنيسة روما التي تمسكت بنفس عقيدة هذا المجمع هو ادعاء لا أساس له من الصحة التاريخية . بل ان ادعاء الكتّاب الموارنة بأنهم كانوا خلقيدونيين لأن البطريرك الانطاكي سويريوس ( ت 538 ) المناهض لمجمع خلقيدونية تسبب في قتل 350 راهباً مارونياً كانوا في طريقهم الى صومعة القديس سمعان العمودي بمهمة كنسية هو بدوره ادعاء لا صحة تاريخية له

 

والحقيقة التاريخية هي ان رهبان دير مارون تبعوا مقالة الامبراطور البيزنطي هرقل في الربع الاول من القرن السابع في المشيئة الواحدة للسيد المسيح والتي رفضها عموم الكنيسة في سوريا ممّا اثار غضب الامبراطور على هؤلاء وسلّم كنائسهم واديرتهم الى رهبان دير مارون وبذلك اصبحوا جماعة مستقلّة عن بقية السـريان . ولكنهم لم يصبحوا طائفة ذات كيان كنسي حتى القرن السابع لا بل القرن الثامن الميلادي

 

ونخلص ايصاً الى نتائج اخرى حول عدّة ادعاءات إضافية لم يزل الكتّاب الموارنة يرددونها والتي تفتقر الى براهين تاريخية . من هذه الادعاءات ان الموارنة هم أحفاد أقوام تسمى بالمردة أو الجراجمة الذين استخدمهم البيزنطيون لمحاربة العرب . وان البطريركية المارونية هي بطريركية انطاكية الاصلية بالرغم من ان المصادر الكنسية والتاريخية لا تذكر شيئاً عن بطاركة الموارنة قبل القرن الثالث عشر

 

والخلاصة ان الموارنة هم سريان آراميون وانهم انسلخوا عن الكنيسة السريانية الانطاكية في اوائل القرن السابع . وحتى اليوم فان طقوسهم وخدمة قداسهم هي نفس طقوس الكنيسة السريانية الارثودكسية أو ” يعاقبة ” . واكبر دليل على ذلك ان كنيسة روما منذ القرن الثالث عشر لم تعرف شيئاً عن هوية الموارنة ولم تصدق ما كتبه بعض الطلبة الموارنة الذين التحقوا بمدرسة الموارنة في روما عام 1585 . لذلك ارسل عدة باباوات ارساليات الى الموارنة لكي يتعرفوا على صحة إيمانهم وقد شـهد هؤلاء المرسلون بأن كتب الموارنة التي اطّلعوا عليها هي كتب ” اليعاقبة ” ولذلك أمر جان باتيستا اليانو بتكفيرها واحراقها . ومن ثم بدأت كنيسة روما بتحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية . ولم يتم هذا التحويل حتى سنة 1596 في مجمع قنوبين المنعقد برئاسة جيروم دنديني حيث أُخضعت الكنيسة المارونية أخيراُ الى سلطة كنيسة روما وأصبحت كنيسة كاثوليكية لاتينية

 

واخيراُ يخلص المؤلف الى الرأي بأن معظم مشاكل الموارنة في الوقت الحاضر صادرة عن فقدان هويتهم السريانية ” اليعقوبية ” الاصلية وتشبثهم بهويات تفتقر الى الأسس التاريخي

 

 

1 أصـــــل مصطلح مــــوارنــــــة

يُثير مصطلح موارنة مشكلة تتعلق بالهوية . فبالرغم من حقيقة إطلاق اسم (موارنة) اليوم في لبنان وأجزاء أخرى من العالم على طائفة مسيحية كبيرة تابعة لكنيسة روما  ، فقد سعت هذه الطائفة الدينية ، منذ القرن الخامس عشر للبحث عن اصل شرعي ككيان منفصل عن بقية الكنائس الشرقية  . هناك عدة أسئلة تدخل في عملية البحث عن الهوية المارونية وهي : هل كانت هناك كنيسة بهذا الاسم منذ القديم؛ وهل كان اسمها مستمداً من فردٍ أو دير؛ ومتى التحقت هذه الطائفة بكنيسة روما ، وكيف حدث ذلك ؟ قدَّم الكتّاب الموارنة الاقدمون والمعاصرون عدة اجوبة لهذه الأسئلة ، لكنها تبدو على الأغلب متضاربة

 

يقول كاتب القرن الحادي عشر الماروني توما ، أسقف كفرطاب في كتابه الفصول العشرة أن مصطلح موارنة قد اشتق من ماران ، وهي كلمة سريانية تعني ” ربنا يسوع المسيح ” ، وبأن كلمة ماران كانت اسم دير سُمي الموارنة باسمه  . ومن هذا الرأي أيضاً جبرائيل ابن القلاعي مطران نيقوسيا الماروني (ت 1516) الذي اعتقد بدوره بأن مصطلح موارنة مشتق من الكلمة السريانية موريو ، وتعني الرب المسيح   . إلا أن الكاتب الماروني مرهج نيرون الباني (فاوستوس نيرون ، ت 1711) ، كان من الرأي القائل بأن مصطلح موارنة (بالسريانية ، مورونويي) ، على نحو ما اعتقد توما ، يعود الى دير مارون المسمى باسم ناسك القرن الخامس ، وأصبح هذا الاصطلاح يُطلق عامة على أي امرء تبع إيمان رهبان دير مارون (وهو الإيمان الذي ثبّته مجمع خلقيدونية) . كما يبيِّن مرهج الباني نفسه أيضاً بأن الموارنة قبل نهاية القرن السابع كانوا يدعون بالمردة لكنهم بعد ذلك أصبحوا يدعون بالموارنة

 

وما من كاتب ماروني حاول أن يشرح بدقة أصل ومنشأ مصطلح ماروني كالبطريرك الماروني اسطفان الدويهي (ت 1704) . الذي كرس فصلين لهذا الموضوع في تاريخه عن الموارنة بعنوان: تاريخ الطائفة المارونية (بيروت ،1890) . أخذ الدويهي آراء المصادر المارونية وغير المارونية معاً بنظر الاعتبار ومحَّص البراهين التي اوردها كلاهما ولكنه ارتاب بادعاءات أولئك الذين ادّعوا بأن الموارنة سمّوا باسم مارون ، وهو ناسك سرياني من القرن الخامس ، ورفض قول بطريرك الاسكندرية الملكي (الخلقيدوني) في القرن العاشر ، سعيد ابن بطريق ( أوطاخي ت 941) ، بأن الموارنة اشتقّوا اسـمهم من راهب يدعى مـارون في عهد الإمبراطور البيزنطي موريس 582 ـ 602 . لأن مـارون هذا كان مونوثيلياً ، اعتبره الموارنة هرطوقياً يؤمن بأنه لم تكن في المسيح سوى مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد . كما يعرض الدويهي أيضاً سبباً وجيهاً لرفض آراء علماء كأمثال بارونيوس وموارنة كجبرئيل الصهيوني الذي ادعى بأن الموارنة قد سمّوا باسـم بلدة تدعى مارون تقع في كورة أنطاكية  . ربما كان الدويهي متلهفاً للتشكيك بمارون هذا لأسباب أقل موضوعية لأنه حرص بشكل خاص في كتابه تبرئة طائفته وكنيسته من أية وصمةٍ ” بالهرطقة ” المونوثيلية . ولكن في الوقت نفسه لا يتـفق الدويهي مع القلاعي الذي دافع عن الرأي القائل بأن مصطلح ماروني مشتق من المصطلح السرياني موريو ، ومعناه ” الرب ” . يعتقد الدويهي بأن الدير في سورية سمي على اسم الرب المسيح وبأن الموارنة قد استمدوا اسمهم من هذا الدير   . ثم يضيف قائلاً بأن مصطلح موريو (الرب) صحيح فقط بالقدر الذي يـشير فيه إلى صحة إيمان الموارنة . بعبارة أخرى ، سمي الموارنة وديرهم على هذا النحو بسبب إيمانهم “الأرثودكسي” تبعاً للصيغة التي حددها مجمع خلقيدونية عام451 ، وهي ان طبيعتي المسيح ، الإلهية والبشرية ، اتحدتا في شخص واحد لكنهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد  . كما يحبذ الدويهي أيضاً رأياً آخر ينسجم مع تقليد الكنيسة المارونية وتصادق عليه كنيسة روما كما تدل عليه كتب الصلوات المارونية ـ وهو رأي روَّجه القلاعي بأن الموارنة سموا باسم مارون الناسك  ، ” بطريرك أنطاكية العظمى” . هذا يدعو الى التشويش حقاً ، لأن القلاعي يكتب أيضاً بأن الموارنة اشتقوا اسمهم من مصطلح موريو اي “الرب المسيح” ، وهو ما يدل على أن ديرهم كان أيضاً معروفاً بهذا الاسم . بالرغم من التـشويش فإن زعمه يصبح أكثر بعداً عن التصديق إذا كان القلاعي يُـشير بمصطلح الدير ، ” موريو ” ، إلى دير مارون التقليدي ، طالما أن المؤرخين يقبلون إدعاء بعض الموارنة بأن هذا الدير قد بني في القرن الخامس على نهر العاصي ، في سورية ، وأن مارون الناسك الذي يزعم بأنه أصبح ” أول بطريرك ” للموارنة قد عاش في النصف الثاني من القرن السابع وتوفي عام 707 . إضافة إلى ذلك ، فإن القلاعي على خطأ في تسمية هذا المرء ” مارون ” . وسوف نرى بأن رفاقه من الموارنة يدَّعون بأن أول بطريرك لهم كان راهباً في دير مارون ، إلا أن اسمه كان يوحنا وأنه أصبح أول بطريرك للموارنة في أوائل القرن السابع ، وقد دُعي مارون نسبة إلى اسم الدير

 

يقول الكاتب الماروني الذائع الصيت يوسف السمعاني ملاحظة في مكتبته الشرقية (1  ، 507) بأن اسطفان الدويهي ومرهج نيرون يزعمان بأن المردة (متمردي ثيوفانس) كانوا يدعون بالموارنة في عام 694 لأنهم تبعوا يوحنا مارون ، ” أول بطريرك للموارنة ” . هناك ملاحظة مماثلة أبداها مؤلف الكتاب الماروني الهدى قال فيها: ” تـنسب الطائفة المارونية إلى مارون يوحنا (كذا) ، بطريرك أنطاكية العظمى”  . وقد ناقش السمعاني هذه الآراء وخلص الى القول بأن الموارنة سمّوا بهذا الاسم في القرن السابع ، لا نسبة إلى يوحنا مارون الذي أصبح ” أول بطريرك ” لهم في ذلك القرن ، بل نسبة إلى ناسك القرن الخامس القديس مارون . يقول السمعاني: ” طرح اللبنانيون اسم المردة جانباً وأطلق عليهم اسم الموارنة نسبة إلى مارون الذي كان ديره المشهور مشاداً قرب حماه . كما أن بطريركهم يوحنا دُعي أيضاً باسم هذا الدير ”

 

يستدل من هذا القول أن الموارنة كانوا يدّعون قبل القرن السابع مردةً أطلق عليهم اسم الموارنة ، وعندما اختاروا راهباً يدعى يوحنا من دير مارون بطريركاً لهم تخلوا عن اسم المردة واتخذوا اسم الموارنة . وكما يقول االسمعاني ، ان مصطلح ” موارنة ” لا يدل على مجموعة أو جماعة محددة التعريف قبل القرن السابع . ومن هنا نستشف عدم وجود فرق بين رأي السمعاني ورأي الدويهي ومرهج نيرون . فسواء ادعي الموارنة بهذا الاسم نسبة إلى قديس من القرن الخامس ، مارون ، أو نسبة إلى دير سمي باسم هذا القديس ، أو باسم راهب القرن السابع يوحنا مارون ، كما يدَّعي الدويهي ـ فالحقيقة هي أن الموارنة ، كما يقول السمعاني ، لم يعرفوا بهذا الاسم قبل القرن السابع بل كانوا يدعون بالمردة . وان هؤلاء المردة لم يكونوا في الاصل طائفة كالآريوسيين أو النساطرة ، بل كانوا قوماً محاربين استخدمهم البيزنطيون لقتال العرب

 

هناك نظرية أخرى تستأثر بالاهتمام وهي نظرية المطران يوسف الدبس (ت 1907) ، الذي حاول ارساء مصطلح ” موارنة ” على قاعدة لاهوتية صرفة . فهو يقول بأنه عندما ازداد عدد الهراطقة في سورية في القرن الخامس الذين اضطهدوا ” الكاثوليك (اي الخلقدونيين)” ، دافع تلامذة القديس مارون عن الإيمان ” الكاثوليكي (الخلقيدوني) ” ضد معارضيه . وكانت النتيجة ان المناوئين الذين رفضوا المجمع الخلقيدوني اخذوا ينعتون الذين قبلوا ايمان هذا المجمع ” الكاثوليكي ” الخلقيدوني بالموارنة تحقيراً لهم

 

إن ما يعنيه الدبس بالإيمان ” الكاثوليكي ” في هذا السياق هو صيغة ” نهج ” كنيسة روما وكذلك نهج تلك الكنائس التي قبلت مراسيم مجمع خلقدونية . ولكن محاولته تشييد أصل الكنيسة والطائفة المارونيتين على اساسس النزاعات العقائدية التي قسمت الكنيسة إلى معسكرات تتضارب مع نظرية الدويهي والسمعاني بأن الموارنة كانوا يدعون بالمردة قبل القرن السابع ، اي ان الدبس يريد ان يقول بأن كل أهالي لبنان كانوا موارنة منذ القرن الخامس . ويضيف الى ذلك قوله بان هؤلاء الموارنة تمردوا في القرن السابع ضد العرب والإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني ، راينوتميتوس (685 ـ 695) معاً . وبسب تمردهم هذا ، دعاهم أعداؤهم وكذلك جيرانهم بالمردة أو Mardaites بمعنى “متمردين” ) . يبدو هنا أن الدويهي والسمعاني يؤكدان على أن أهالي لبنان كانوا يسمون بالمرة منذ القرن الخامس ، إلا أنهم تخلّوا عن هذا الاسم في القرن السابع واتخذوا اسم الموارنة . يدَّعي الدبس ، مجادلاً في هذا الخصوص ، بأن الموارنة كانوا يعرفون بهذا الاسم منذ القرن الخامس ، ثم صار يُـشار إليهم في القرن السابع بالمردة  بسبب تمردهم

 

يمكننا أن نستخلص مما سبق بأن بعض العلماء الموارنة حاولوا أن ينسبوا أصل اسم كنيستهم وطائفتهم إلى مارونين اثنين على الأقل ، أحدهما ناسك وقديس من أوائل القرن الخامس ، والآخر راهب من أواخر القرن السابع يدعى يوحنا مارون وهو الذي أضحى أول بطريرك لهم . بل يزعمون أكثر من ذلك أن الموارنة كانوا يدعون بالمردة لكنهم تخلوا عن هذا الاسم في القرن السابع محبذين اسم الموارنة . ويدَّعي كتّاب موارنة آخرون بأن اسمهم مشتق من دير سمي باسم مارون الذي عاش في القرن الخامس بينما يعتقد المطران يوسف الدبس بأن الموارنة سموا بهذا الاسم منذ القرن الخامس ، لكنهم سموا ايضاً بالمتمردين أو المردة بسبب تمردهم على الدولة البيزنطية في القرن السابع .

مجمل القول ان جميع كتّاب الموارنة كانوا متمسكين بايمان كنيسة روما اي مقررات مجمع خلقيدونية منذ القرن الخامس . ولكن سنرى فيما بعد بان هذا الادعاء لا صحة له تاريخياً

 

 

 

2هــــويـــة الــنــاســــك مــارون

 

من هو أول مارون وما هي صلته بالموارنة؟ يدَّعي معظم الكتّاب الموارنة أن أول مارون كان ناسكاً من القرن الخامس وهو أب ” الأمة المارونية ” . ويدعمون رأيهم بالإشارة إلى مرجعين من النصف الأول للقرن الخامس . أحدهما رسالة كتبها على ما يفترض القديس الشهير يوحنا الذهبي الفم إلى مارون من منفاه في أرمينيا  . يعبر الذهبي الفم عن مشاعره الوديّة نحو مارون وعن رغبته في المراسلة بشكل متكرر وهو أمر كانت تحول دونه صعوبة العثور على سعاةٍ . ويستفهم الذهبي بحرارة عن صحة مارون ويختتم طالباً منه أن يصلي من أجله

 

الرسالة لسوء الحظ غير مؤرخة مما جعل الكتّاب الموارنة يتكهنون بشأن تاريخها . أدعى البعض بأنها كُتبت عام  404 أو 405  ، بينما ظن آخرون بأنها كُتبت ما بين  404  و 407  ، وهو العام الذي توفي فيه يوحنا الذهبي الفم . وقد اثبت كاتب معاصر ، هو يوسف مزهر ، تاريخ هذه الرسالة في عام 414 وهو خطأ ظاهر لأنه من غير الممكن أن يكون الذهبي الفم قد كتب رسـالة بعد سبع سـنوات من وفاته . مع ذلك يبدي مـزهر إدعاءً آخر لا يحتمل الصدق وهو أن إيمان مارون كان ” إيمانَ شخص كاثوليكي حقيقي ”  لا إيمان ” هرطوقي مونوثيلي ” . يدَّعي مزهر أن الصديقين يوحنا الذهبي الفم والناسك مارون ، كانا متمسكين بمجمع خلقيدونية ، وقد دافعا بشدة عن تعريفه للإيمان . إن هذا لمستحيل ، طالما أن مجمع خلقيدونية التأم عام 451 ، أي بعد عدة عقود من وفاة الذهبي الفم المتوفي سنة 407 ووفاة مارون على الأرجح عام 410

 

ان الرسالة مدار البحث موجهة إلى شخص يدعى “مارون الناسك” دون مزيد من التعريف . وهذا ليس بالغريب إذ كانت عادة آباء الكنيسة الأوائل توجيه رسائلهم إلى أفراد يعرّفونهم برتبهم ووظائفهم الكنسية . ولهذا السبب فإنه من الممكن أن تكون هذه الرسالة المنسوبة إلى الذهبي الفم قد كُتبت إلى أي واحدٍ من عدة نسّاك يحملون اسم مارون عاشوا في سورية في القرن الخامس  . بيد أن ما ينفي صحّة الرسالة كدليل ، هو لغتها المعممة والسطحية بحيث لا يمكن أن يكون كاتبها يوحنا الذهبي الفم وهو علاّمة في الكتاب المقدس وخطيب مفوّه بارز . ان الذهبي الفم يشير فيها إلى مارون كقسيس مع العلم انه ليس هناك من دليل أن ناسك القرن الخامس مارون قد شغل يوماً مثل هذه الرتبة الكنسية . حتى وإن اتفقنا مع الكتّاب الموارنة بأن مارون هذا كان صديقاً ليوحنا الذهبي الفم ، فهذا يدل فقط على أنه كان للذهبي الفم صديقٌ ناسك ورع يُدعى مارون ولكننا لا نعرف عن مارون هذا شيئاً يتعدّى صداقته المزعومة للذهبي الفم ، كما لا نعرف شيئاً عن فعالياته أو شهرته كناسك عظيم . فالرسالة اذن موضع شك كبير بحيث لم يستطع حتى البطريرك الدويهي أن يحدّد مصدر أية علاقة ممكنة تربط بين الذهبي الفم ومارون . بل لم يستطع العثور على دليل مدوّن من أي نوع كان . إلا أن الدويهي يتكهّن بأن الذهبي الفم ربما كان رفيق دراسة مارون في أنطاكية قبل أن يتبنى كلاهما الحياة النسكية ، أو قد يكون الذهبي الفم قد زار سورية ، عندما كان يتبوأ كرسي القسطنطينية البطريركي لتقريع أولئك الذين عبدوا الشمس ، وربما انه قد التقى بمارون وصـارا صديقين  . من الواضح ان هذه المزاعم ليست ذات قيمة تاريخية

 

أما المصدر الثاني الذي يستشهد به الكتّاب الموارنة لتأييد ادعائهم بأن مارون القرن الخامس كان ” أب ” كنيستهم وطائفتهم ، وأنه نفس مارون المقترن بيوحنا الذهبي الفم ، فهو التاريخ الكنسي لثيودوريطس ، أسقف قورش (ت 458) . كان ثيودوريطس طالباً في مدرسة ثيودور المصيصي اللاهوتية (ت 427) ومعارضاً قوياً للقديس كيرلس بطريرك الاسكندرية الذي نافح عن الارثودكسية في مجمع أفسس (431)  . وقد اصبح ثيودوريطس ، وهو تلميذ مدرسة أنطاكية اللاهوتية والمتأثر إلى حد كبير بتعليم ثيودور المصيصي ، ناشطاً جداً في الجدل المتأجج الذي جرى بين نسطور صديقه الحميم وكيرلس . وقد دافع ثيودوريطس عن هرطقة نسطور بحماس مع أنه اضطر في النهاية على إدانته في مجمع خلقيدونية عام 451

 

كان ثيودوريطس علاّمةً ولاهوتياً معروفاً وكاتباً غزير الانتاج . ويضم تاريخه الكنسي سيرة حياة ثلاثين ناسك ومتوحد ، كان ثيودوريطس على معرفة ببعضهم شخصياً . ولكن المهم هو ان ثيودوريطس يتحدث في هذا الكتاب عن حياة التقشّف لأحد النسّاك المسمى مارون

 

ان أهمية رواية ثيودوريطس عن مارون هي أنها المصدر الوحيد الذي يصف الحياة النسكية لشخص يُدعى مارون . كان ثيودوريطس معاصراً لمارون ، وليس هناك من سبب في الشك بصحة روايته عنه ، بالرغم من عدم وجود اتصال شخصي به وان معرفته عن مارون كانت عن طريق يعقوب ، وهو احد اتباعه . يخبرنا ثيودوريطس بأن مارون حين قرر أن يعيش حياة التـقشف ، ارتقى جبلاً في مقاطعة قورش حيث كان هناك معبد وثني مهجور كرَّسه لعبادة الله وزاره مراراً . وبنى مارون كوخاً بسيطاً إلى جانب المعبد إلا أنه أقام فيه مدة وجيزة فقط . وفي فترة وجيزة اصبح مارون معروفاً بزهده وتـقواه ومقدرته على الشفاء وهو ما جذب الناس إليه من كافة انحاء سورية . وبسبب قدرته الإلهية التي ذاع صيتها ، فقد أشيع بأن الشياطين نفسها تحاشت حضرته . وعندما توفي تناحر مناصروه لحيازة جثمانه ، الذي تـقرر مصيره أخيراً عندما تمكنت إحدى المجموعات المتناحرة من الاستيلاء على الجثمان وبناء معبد في موقع دفنه . يقول ثيودوريطس أن الناس ، استمروا ، حتى في أيامه ، في الاحتفال بذكرى مارون

 

لا يذكر ثيودوريطس تاريخ وفاة مارون أو إذا قام هو نفسه يوماً ما بزيارة مدفنه . بل ان بقية حياته التي كتبها موجزة جداً ، وتُعتبر ، لدى مقارنتها برواية ثيودوريطس نفسه لسيرة حياة القديس سمعان العمودي أو حتى يعقوب ، وهو أحد اتباع مارون ، هزيلة . فهو لا يعطي مارون مكاناً خاصاً أو ميزةً لحياة التـقشف التي مارسها ألوف الرهبان والقديسين في الصحراء المصرية الغربية او في بلاد ما بين النهرين

 

يضم تاريخ النسك في القرون القليلة الأولى في الكنيسة الشرقية نسّاكاً ذائعي الصيت مثل باخوميوس ، أنطونيوس ، أوجين ، مكاريوس ، القديس أفرام ، القديس سمعان العمودي ، القديس برصوم (رئيس النسّاك) ، القديس متى (متى الابجرشاطي ، الذي مازال ديره قائماً قرب الموصل في العراق ، حتى هذا اليوم) ، والعديدين غيرهم . لكن ما خلا رواية لثيودوريطس الموجزة عن مارون ، لا يعرف شيء آخر عنه بالرغم من ادعاء معظم العلماء الموارنة أن ناسك القرن الخامس هذا هو ” الأب ” لطائفتهم . وما يميز هذا الادعاء على وجه الاخص هو الصورة الخيالية المدرجة في تاريخ الدويهي والتي كتب تحتها ” القديس مارون ، أبو الطائفة المارونية ” . أما المطران يوسف الدبس فإنه يفتتح توطئة كتابه الجامع المفصل بالقول: ” لذا ، نبدأ تاريخ الموارنة بمناقشة القديس مارون ، الذي يعتبر أبَ هذه الطائفة وشفيعها ”

 

تدل رواية ثيودوريطس عن مارون على أنه كان واحداً من حشدٍٍ من الرهبان والزهّاد في سورية في القرنين الرابع والخامس . وكما تمَّ تبيانه سابقاً ، ليس هناك في تاريخ ثيودوريطس ما يوحي بأن مارون كان قد تمتع بمثل هذه الدرجة من التـقوى التي تكسبه المكانة المرموقة التي نسبها إليه كتّاب موارنة لاحقون . ففي الوقت الذي يجعل الدويهي منه “رئيساً لسائر النسّاك والأديرة في مقاطعة قورش ” ، نجد كاتباً مارونياً معاصراً ، هو الأب بطرس ضو يذهب خطوة أبعد بالادعاء بأن الناسك مارون كان ” رئيس مدرسة مميزة في النسك ”

 

يستـشهد الأب بطرس ضو  ، بكتاب انطاكية الوثنية والمسيحية  لمؤلفه أ .ج . فيستوجير A . J . Festugiere  الذي يقول بأن مارون كان أول من مارس العيش في العـراء في سورية معرضاً نفسه لقسوة عوامل   الطبيعة  . وبأن بعض الزهّاد في مقاطعة قورش في سورية الشمالية قد تبنوا هذا النمط من العيش ، وخاصة الرهبان العموديين ، الذين اختاروا العيش على رؤوس الأعمدة ، وأشهرهم سمعان العمودي ( ت 459 ) . يقول الأب ضو أن فيستوجير يعتبر القديس سمعان تلميذاً في مدرسة النسك التي أسسها مارون  . والظاهر ان الأب ضو قد أساء فهم ما قاله فيستوجير بل تـفتقر هذه النظرية ، التي تعتبر مارون مؤسس “مدرسة نسكية ” ، آلت إلى نشوء حياة نسكية شديدة الصرامة ، إلى إثبات تاريخي . إن النقطة التي يحاول فيستوجير على الأرجح ابداءها هي أن الأسلوب النسكي بالعيش في العراء أو على قمة جبل قد تكون أدت ببعض المتوحدين إلى الأخذ بالعيش على رؤوس الأعمدة ، مع أن هذا القول ، أيضاً ، هو مجرد تخمين . يقول فيستوجير ما ملخصه : إن الكثير من النسّاك كانوا يعيشون في العراء . ولكن الذين اتخذوا طريقة العيش على الأعمدة يمثلون أقصى درجات النسك

 

وبعد الاستـشهاد بأسماء هؤلاء المتوحدين في نفس الفقرة يتابع فيستوجير القول : من المحتمل ان الذي أنشأ هذا النوع من النسك هو مارون الذي كان لديه عدّة تلاميذ منهم يعقوب وليمنايس

 

من الواضح ان فيستوجير لا يربط  بين الناسك مارون وسمعان العمودي بل لا يلمِّح إلى الأخير ابداً . غير ان الأب ضو يقتطف الملاحظة أعلاه خارج الياق لإثبات قوله بأن القديس سمعان العمودي كان ” مارونياً رائداً ” . فهو يقول :

هذا القديس العظيم هو واحد من الموارنة الرواد الشجعان . بدأ التنسّك متبعاً الطريقة المارونية بعد أن طُرد من دير تلعدا… ورغبة منه في الحصول على أعلى درجة في النسك ، عاش أولاً في العراء على غرار القديس مارون ، ثم انتقل إلى أعلى عمود . وهكذا ، كان النسك الماروني أسمى غاية في حياته ، كما كان الغاية الأسمى في الحياة الرهبانية حسب ما تمسك به  فيستوجير

 

لا يوجد دليل تاريخي يدعم هذا القول . هناك سيرتان لحياة القديس سمعان العمودي باللغة السريانية إلى جانب ما رواه عنه ثيودوريطس وأيفاغريوس ، لا تذكر أي منهما مارون أو تلمح إلى أيّة صلة بينه وبين سمعان العمودي . فضلاً عن ذلك ، من غير الممكن أن تكون مثل هذه العلاقة قد فاتت انتباه المستشرق الألماني ثيودور نولدكه الذي كتب بشكل جازم عن حياة العديد من القديسين السريان ، ومنها حياة القديس سمعان العمودي  . ومع ذلك يدَّعي الأب ضو أن كل الرهبان العموديين ، لا سمعان العمودي ، فقط كانوا ” تلامذة مارون  . ولكنه يبدو خارجاً جداً عن الصدد عندما يتحدث عن تأثير القديس سمعان العمودي على ” الأمة المارونية ” والتاريخ الماروني فيقول : كان للقديس سمعان العمودي تأثيراً عميقاً على تاريخ الموارنة والروحيين من الموارنة . كان هذا القديس ومازال منبع البطولة في الأمة المارونية ويشهد له بهذا العددُ الكبيرُ من الأتـقياء الذين أضحى لديهم الدافع على محاكاة حياته النسكية . أصبحت روحانيته عنصراً أساسياً في الازدهار الروحي الماروني

 

يفتقر هذا الحكم إلى أساس تاريخي ويعتمد بدوره على فيستوجير الذي حاول فقط إثبات أن الأسلوب الرهباني في العيش في العراء الذي بدأه مارون قد يكون دفع بنسّاك آخرين إلى العيش في العراء أو على رؤوس أعمدة لا في الصوامع  . إن ربط القديس العمودي ” بالأمة المارونية ” هو محض خيال

 

رأينا بأن ثيودوريطس لا يذكر وجود صلة بين القديس سمعان العمودي والناسك مارون . كما أن قوزما ، كاتب سيرة القديس سمعان ، لا يُـشير إلى أية علاقة من هذا القبيل . يقول قوزما بأن العديد من الناس الوثنيين من جبل لبنان زاروا القديس وشكوا له من مخلوقات شريرة أو وحوش مفترسة تهاجم الناس وتلتهمهم . عاثت هذه المخلوقات الشريرة بالبيوت ، واختطفت الأطفال والرضع من صدور أمهاتهم وقتلتهم . أخبرهم القديس بأن الله قد سلمهم للوحوش لأنهم كانوا قد تخلّوا عنه ، وبأن عليهم أن يطلبوا من آلهتهم أن تخلصهم . ويتابع قوزما قائلاً بأن القديس رقَّ لهم أخيراً ، بعد أن استمروا بالتوسل باكين ، قائلاً: بأنه سوف يصلي من أجل خلاصهم إن وعدوا بأن يهجروا عبادة الأوثان الكاذبة ويعودوا إلى الله المسيحي . وهذا ما وعدوا القيام به . حينئذٍ أشار عليهم القديس بأن يضعوا على حدود كل قرية أربعة حجارة ، محفور على كلِّ واحدةٍ منها ثلاث إشارات للصليب ، وأن ينتظروا ثلاثة أيام . وعندما قاموا بذلك وعادت الوحوش لترى هذه الحجارة ، كما تروي القصة ، هرب بعضها بعيداً معولاً وصارخاً ” الويل لك ، يا سمعان ، ماذا فعلت بنا ” . ومن ثم قبل أهل جبل لبنان المعمودية واعتنقوا المسيحية من اجل هذه الأعجوبة التي اجترحها القديس سمعان

 

من الواضح أنه ليس لهذه الحكاية المنتحلة صلة بالموارنة وتاريخهم أو باهتدائهم إلى المسيحية . فهي لا تنبئ بأن القديس سمعان بشرَّ بالمسيحية في لبنان كما يدَّعي بعض الكتّاب الموارنة  ، كما أنها لا تدل على وجود جماعة مارونية في لبنان في القرن الخامس

 

من الصحيح أن المسيحية وجدت طريقها إلى لبنان بعد القرن الأول ، إلا أن الكنيسة المسيحية لم تثَّبت موطيء قدم قوي لها في ذلك البلد حتى القرن الرابع . فقد انتـشرت المسيحية ببطء شديد ، وخاصة في المناطق الجبلية حيث كانت الوثنية قوية ولم تصبح في موقف دفاعي حتى زمن الإمبراطور جوليان الجاحد 361 ـ 363  . من المحتمل إلى حدٍّ كبير ايضاً أن يكون الأهالي ، الذين هاجمتهم الوحوش واستـنجدوا بالقديس سمعان لانقاذهم ، وثنيين من المناطق الجبلية في لبنان . إن قول المستشرق الألماني ثيودور نولدكه ” من المحتمل أن يكون الموارنة ، كما يعتقدون ، هم المنحدرون من المهتدين الذين قبلوا المعمودية بعد أن اعتقتهم ابتهالات سمعان من عبث الوحوش المفترسة ” ، هو عبارة عن تكهّن ويفتقر إلى بيِّنة تاريخية

 

لا يحاول الأب بطرس ضو أن يجعل القديس سمعان العمودي تلميذاً لمارون ، ومديناً لمارون بأسلوبه في النسك فحسب بل يزعم أيضاً بأن مبنى الكنيسة العظيم المقام في الموقع الذي عاش فيه العمودي كان مارونياً كما كانت الأديرة الموجودة في جواره مارونية ، أي تحت الولاية والسلطة المارونيتين  . ويجزم بأن كنيسة أنطاكية كانت في القرن الخامس منقسمة إلى جماعتين: جماعة الخلقيدونيين وجماعة المونوفيزيين (أصحاب الطبيعة الواحدة) ، الذين رفضوا مراسيم مجمع خلقيدونية . هذا صحيح إلا أن الاب ضو يتابع قائلاً: بأن هذه الكنيسة انقسمت مرة أخرى في النصف الأول من القرن الثامن إلى الملكيين ، كنيسة أنطاكية ، التي قبلت مجمع خلقيدونية ، والموارنة . وبعد هذا الانقسام ، بقيت كنيسة القديس سمعان والأديرة الموجودة في جوارها مارونية . فهو يقول : قبل الانقسام ، كان الجزء الخلقيدوني من كنيسة انطاكية ، وخاصة الجزء الذي كانت لغته هي السريانية ، تحت قيادة دير مارون ، وبالتالي فقد اقتدت الأديرة والكنائس الخلقيدونية التي كانت لغتها هي السريانية ايضاً بدير مارون في دفاعها عن الصيغة الخلقيدونية في الإيمان

 

يفتـقر قول الأب ضو إلى البرهان التاريخي وخاصة قوله أن الجزء الخلقيدوني من كنيسة أنطاكية كان منقسماً إلى جزء ماروني وآخر ملكي . والحقيقة التاريخية هي أن كنيسة أنطاكية انقسمت لأول مرة في القرن السادس إلى جماعتين منفصلتين هما اصحاب الطبيعة الواحدة والذين يطلق عليهم الكتّاب الغربيون اعتباطاً اسم “المنوفوزيين” وجماعة الملكيين الخلقيدونيين . وسنرى بعدئذ أن الموارنة لم يصبحوا طائفة منفصلة إلا في القرن الثامن

 

 

 

ديــــــر مــــــــارون

 

تشير المصادر القديمة المتوفرة إلى المكان الذي عاش فيه الناسك مارون وموقعه . ولكن قد يميل المرء ، عند قراءته لثودوريطس إلى الاستنتاج بأنه عاش في جوار قورش في الاقليم الذي كان يُعرف آنئذٍ بسورية الاولى (الشمالية) ، على بعد أميال عديدة إلى الشمال الشرقي من أنطاكية . وقد أدَّى الإخفاق في تحديد هوية هذا المكان ، بالموارنة والمتعاطفين معهم ، إلى التكهن حول موقعه . يقول المطران الماروني بيير ديب بأن مارون عاش على قمة جبل قرب أفاميا في سورية الجنوبية ، وهي منطقة بعيدة جداً عن قورش  . ويدَّعي آخرون أن مارون عاش في كهف قرب منبع نهر العاصي قريباً من الهرمل في لبنان ؛ ويستشهدون برهاناً على ذلك باسـم الكهف المعروف حتى هذا اليوم باسم كهف مارون

 

يتكهن المستشرق الأب هنري لامنس بأن مارون عاش على قمة أحد الجبال في الطريق إلى حلب إلى الجنوب الشرقي من قورش ، مع أنه يخفق في ذكر موقع هذا الجبل بالضبط  . ويقول المطران يوسف الدبس ، مقتدياً بالسمعاني ، بأن المقام الرهباني لمارون كان على ضفة نهر العاصي في الرستن ، في مكان ما بين حمص وحماه  . وسوف يلاحظ أي امرئ على معرفة بجغرافية سورية ، بأن الرستن كانت تقع على نهر العاصي ، إلى الجنوب من حماه وعلى بعد أميال من قورش الواقعة في أقصى شمال سورية

 

يقول البطريرك اسطفان الدويهي بأن مارون عاش في القورشية (مقاطعة قورش ـ في سورية الشمالية) وأنه حدّد هوية الجبل الذي عاش مارون في أعاليه . ولكن من الضروري الاشارة هنا الى أن ثيودوريطس كان اول من ذكر هذا الجبل من غير ان يحدد اسمه أو موقعه . لكننا نفهم من الدويهي بأنه القى ، وهو ما يزال كاهناً ، عظتين في حلب حدد فيهما هوية الجبل الذي عاش مارون في أعلاه على أنه ” جبل أوليمبوس ”  ، دون ان يقدم شرحاً لما كان يعنيه ” بجبل أوليمبوس ” . غير ان الأب بطرس ضو حاول تحديد هوية ” جبل أوليمبوس ” هذا بقوله بأن الدويهي غالباً ما يخلط بين الأسماء الجغرافية وأسماء الاعلام ويبدلها ، ومن أحد هذه الأسماء هو اسم ” جبل أوليمبوس ” . ويردف الاب ضو بقوله اذا اخذنا بنظر الاعتبار ، تحريف الأسماء بسبب تغير اللغة المستمر وبسبب أخطاء الناسخ ، فأن جبل أوليمبوس هذا الذي يتحدث عنه الدويهي ما هو إلا جبل سمعان أو قلعة سمعان التي تقع على بعد خمسة عشر كيلومتراً إلى الجنوب من حلب  . وإن جبل سمعان هذا هو نفس الجبل الذي عاش فيه القديس سمعان العمودي والذي ، بعد وفاته عام 459 ، بنيت في موقع قبره على الجبل كنيسة فخمة ، لم يبقَ منها سوى الأطلال التي مازال يشاهد بينها العمود الذي عاش القديس سمعان في أعلاه

 

ويستمر الأب ضو قائلاً أن ” أوليمبوس ” الذي يتكلم عنه الدويهي هو تحريف لـ نبو أو ينبو (بالسريانية)  ، الذي حسبه الدويهي خطأ ” أوليمبوس ” . ويستـشهد بشارل س . كليرمون ـ غانو ، الذي يؤكد بأن جبل سمعان كان يُعرف في السابق بجبل نبو . وقد سمي نبو نسبةً إلى صنم وثني كان يعبده سكان قرية مجاورة أصبحت تعرف باسم كفرنبو (أي قرية نبو)  . وبمرور الزمن دعا الناس الجبل بنفس الاسم . وهنا لا نجد الأب ضو واثـقاً بأن جبل سمعان كان سابقاً يدعى نبو فحسب ، بل أن مارون نفسه عاش في قرية كفرنبو وأن معبد نبو هو نفس المعبد الذي جزم  ثيودوريطس بأن مارون قد احاله إلى كنيسة  . من المؤكد ان ثيودوريطس ، أسقف قورش كان على معرفة تامّة ببلدان وقرى أبرشيته ، ولو أنه عرف أو حتى سمع بأن مارون عاش هناك لكان ذكر كفرنبو ولكنه لم يفعل . ولهذا كان من الصعب ، بالنظر الى الأدلة المتوفرة ، القول بأن ” أوليمبوس ” هو تحريف لكلمة نبو ، وبأن هذا الجبل هو نفس جبل سمعان المسمى باسم القديس سمعان العمودي الشهير . بل لا يوجد اي دليل تاريخي ينص على أن الناسك مارون عاش يوماً في قرية اسمها كفرنبو . والاكثر من ذلك ان هذه النتيجة التي توصل إليها الأب ضو لا تتعارض مع رواية  ثيودوريطس الذي يقول بأن مارون عاش في العراء لا في قرية فحسب ، بل تتعارض أيضاً مع ما انتهى إليه المعلقون الموارنة القدماء . ومن ثم كانت النتائج المختلفة التي توصل إليها الكتّاب الموارنة اللاحقون ، في محاولتهم تحديد هوية اسم موطن مارون وموقعه بالضبط ، تفتقر الى دليل تاريخي . بل أدَّى هذا التـشكيك في الواقع إلى خطأ أكثر فداحة فيما يتعلق بموقع الدير المبني بالضبط بعد موت مارون والمسمى باسمه . ولمعرفة ذلك وجب العود مرة أخرى إلى ثيودوريطس

 

لم يذكر ثيودوريطس في روايته المقتضبة عن مارون المكان الذي عاش فيه مارون بالضبط أو تاريخ وفاته . وكل ما رواه هو نشوب نزاع بعد وفاة مارون بين الناس حول جثمانه . ادى في النهاية ان طرد أهالي القرى المجاورة الآخرين وطالبـوا بالجثمان وبنـوا معبداً كبيراً على رفات بطلهم . ولا زال هذا المعبد مستخدماً حتى اليوم تكريماً لحياته          الفاضلة  . لا يحدد  ثيودوريطس هوية القرية التي انتصر أهلها في النزاع الذي حول جثمان مارون ، كما أنه لا يخبرنا عن المكان الذي أُخذ إليه الجثمان وبُني فيه معبد كبير . هذا ما أدَّى إلى نشوء قدر كبير من التكهن المرتاب بصحته

 

أشار ثيودوريطس إلى معبد لا إلى دير ، ومن المؤكد بأنه كان يعرف الفرق بين الاثنين . ولسوء الحظ ، فقد فسّر الكتَّاب الموارنة منذ القرن السابع عشر ، وخاصة الدويهي ، كلام ثيودوريطس بشكل خاطئ . وبالرغم من أن الدويهي أقرَّ بأن ثيودوريطس لم يذكر اسم المعبد والمكان الذي بني فيه إلا أنه خمَّن بـأن  ثيودوريطس كان يُـشير إلى ” المعبد الذي بناه أهل حماه على نهر العاصي ، في مكان ما بين تلك المدينة ومدينة حمص ” . وقد استنتج بأن هذا المعبد اصبح ” دير مارون ”  الذائع الصيت

 

غير أن الدويهي متقلب حول هذه القضية . فهو يقول مرّة أن “أهل حماه ” اختطفوا جثمان مارون وبنوا معبداً صار بعدئذ ديراً عظيماً في موقع دفن الجثمان ، بينما يقول في مكان آخر أن ” أهالي حمص وحماه ” سوية هم من فعلوا ذلك  . ومن الظاهر انه لا يمكن قياس  حمص وحماه في سورية البيزنطية في القرن الخامس بأي حال من الأحوال بالقرى المغمورة التي ذكرها  ثيودوريطس . فقد كانتا كلتاهما مدينتين قديمتين بلغتا شأواً في الإمبراطورية الرومانية وكانتا تشكلان مجتمعين متمدنين هامين وتضمان عدداً غفيراً من السكان

 

من المعقول بدرجة كبيرة ان نستخلص من رواية  ثيودوريطس أن أهالي القرية المجاورة ذات العدد الاكبر من السكان اختطفوا جثمان مارون وحملوه إلى قريتهم وبنوا فيها معبداً تكريماً له . ولو أن المكان كان حماة لقال ثيودوريطس ذلك . وهنا لا نجد محيصاً من الاستنتاج ، بناء على قول ثيودوريطس ، أن القرية كانت في مقاطعة قورش بين حمص وحماة وهي الرستن كما يعتقد المطران يوسف الدبس .

يؤكد الدويهي على أن دير مارون هذا كان احد الأديرة العديدة المعروفة بنفس الاسم . هذا صحيح ، إلا أنه لا دليل هناك بأن هذه الأديرة قد سُميت باسم مارون ومنها المسماة باسم مارون قرب القسطنطينية ودمشق كما يدَّعي الدويهي . هناك دليل على وجود أكثر من دير واحد معروف باسم دير مارون في جوار حماة  . يرى العلاّمة السمعاني في مكتبته الشرقية (1  ، 497) ، تفصيلاً لرواية  ثيودوريطس عن مارون واستـشهاداً بالكاتب اللاتيني باغيوس ، أن دير مارون كان يقع على ضفة نهر العاصي بين حمص وحماه . وهذه هي نفس الملاحظة التي أبداها الدويهي سابقاً . نحن نعلم بأنه كان في سورية الجنوبية في القرنين الخامس والسادس أكثر من ناسك واحد يُدعى مارون : فهناك مارون الذي اتصل به سويريوس بطريرك أنطاكية؛ ومارون آخر اتصل به يعقوب السروجي؛ ومارون ثالث العينـزربي الذي كتب فيلكسينوس المنبجي رسالة إليه

 

يستند السمعاني في رأيه إلى أن موفدين اثنين من دير مارون حضرا المجمع الخامس الذي عقده الإمبراطور يوسـطنيان الأول عام 553 ، حاملين معهما رسالة موجهة إلى الإمبراطور وإلى مينا ، بطريرك القسطنطينية وقّعاها نيابة عن رهبان ذلك الدير . قدَّم هذان الموفدان نفسيهما على أنهما ممثلين لدير القديس مارون ، ” كبير الأديرة في سورية الجنوبية ”  . قد يكون هذا صحيحاً ولا ينفي صحة وجود دير يحمل اسم مارون . ولكن هل كان هذا الدير هو نفس الدير الذي بناه اتباع الناسك مارون الذين اختطفوا ، كما يزعم ، جثمانه إلى مكان ما بين حمص وحماه ، وانه نفس الدير الذي اصبح ” كبير الأديرة ” بين سائر أديرة سورية ومعقلاً للدفاع عن عقيدة مجمع خلقيدونية . ان رسالة الموفدين هذه ، سواءً كانت صحيحة من الناحية التاريخية ، لا تثبت أن هذا الدير هو الذي يدَّعي الموارنة بأنه دير مارون ، والذي يحاولون اسناد أصلهم وتسميتهم اليه

 

ان المؤرخ ثيودوريطس لم يذكر أبداً أن اتباع مارون قد غادروا يوماً المنطقة المجاورة لقورش لبناء دير أو أديرة في أفاميا في سورية الجنوبية أو بجوارها . إلا أنه يروي بأن اثنين من اتباع مرقيانوس القورشي ، في سورية الجنوبية ، وهما أوسابيوس وأغابيتس كانا قد قاما ببناء أديرة في أفاميا  . مما اوحى الى الأب هنري لامنس التكهن باحتمال أن يكون تلامذة مرقيانوس الذين كانوا أصلاً من قـورش ، هم الذين بنوا ديراً سمّي باسم مارون . ولكن بما أن هذا القـول يتعارض مع رواية ثيودوريطس ، فمن الصعب ان يؤخذ ما ذهب اليه لامنس على محمل الجد

 

وبينما تعيّن غالبية الموارنة موقع دير مارون بين حمص وحماه ، فإن الأب بطرس ضو ، يواجهنا بنظرية جديدة حول موقع دير مارون . فتراه يستشهد بياقوت الحموي (ت 1229) ، الذي يذكر في كتابه: معجم البلدان ، مرتين ديراً يُدعى مرّان . يقول ياقوت أن الناس في زمانه كانوا يزورون ضريحاً للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ، يقع على جبل يُدعى دير مرّان ، يطل على بلدة كفرطاب  . وفي موضع آخر يقول ياقوت الحموي أن دير مرّان هذا يقع على الجبل المطل على كفرطاب قرب المعرة ويعتقد الناس أنه يضم ضـريح الخليفة الاموي عمر بن عبدالعزيز

 

يستـشهد الأب ضو أيضاً بابن عبدالحق (ت 1308) ، الذي وضع ملخصاً لكتاب ياقوت الحموي معجم البلدان بعنوان: مراصد الإطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع ، إلا أن ابن عبدالحق لا يُضيف شيئاً جديداً إلى قول ياقوت الحموي حول موقع دير مرّان . لكنه يقول بأنه نفسه زار الموقع واستفهم من أهالي المعرة عن موقع ضريح الخليفة عمر بن عبدالعزيز . وقد قيل له أن الدير ، الذي يضم الضريح ، يعرف بدير النقيرة وهو ما دفع الأب ضو إلى الاستنتاج بأنه ربما يكون دير مرّان

 

بالرغم من عدم وجود اي شيء في هذه الملاحظة يُشير إلى أن دير مُرّان هو دير مارون ، فإن الأب ضو يدّعي بأن الديرين هما نفس الدير . ولكن هذا الادّعاء يتعارض مع ادّعاء الموارنة بأن موقع دير مارونهم هو الرستن بين حمص وحماه في سورية الجنوبية بينما تقع بلدتا المعرة (معرة النعمان) وكفرطاب على بعد عدة أميال في سورية الشمالية . فضلاً عن ذلك ، لم يدَّع أحد من الموارنة أبداً بأن ديرهم ، دير مارون ، يضم ضريح الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز . وهكذا يناقض الأب ضو سلفيه ويؤكد بجرأة على أن ” هذا هو موقع دير مارون الواسع الشهرة والذي لعب دوراً هاماً في تاريخ الكنيسة في سورية وكان أصل الكنيسة المارونية ونواتها ”  . كما يناقض الاب ضو كاتب القرن الرابع عشر ابن محمود الكاتب الدمشقي الذي يقول أن دير مرّان كان يقع خارج مدينة دمشق

 

يستـشهد الأب ضو بالمؤرخ ابي حسن المسعودي ليثبت بأن دير مارون يقع قرب نهر العاصي إلى الشرق من حماه وشيزر  ، إلا أن حماه وشيزر هما على بعد عدة اميال إلى الجنوب من المعرة وكفرطاب . كما ان استشهاده بالمسعودي لا يحقق الغاية المرجوة منه لأن المسعودي يبيّن بوضوح أن ضريح الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان في دير سمعان في ولاية حمص قرب مقاطعة قنسرين  . وهذا ما يناقض أيضاً قول ياقوت بأن الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان مدفوناً في دير مُرّان .

رأينا أن البطريرك الماروني اسطفان الدويهي يقول ، في تـفسيره لرواية  ثيودوريطس عن مارون ، بأن أهالي حماه اختطفوا جثمان الناسك وبنوا معبداً فوق مدفنه عند منعطف نهر العاصي ، الذي اصبح في وقت قصير ديراً عظيماً يؤوي ثمانمائة راهباً  . يؤيد هذا الرأي موارنة آخرون ، ومنهم السمعاني . ومع ذلك فان الأب ضو يُـشير أيضاً إلى أن الإمبراطور البيزنطي مرَقيان ، الذي تقلد السلطة عام 451 هو الذي بنى دير مارون . ويستـشهد بأبي الفداء (ت 1331) الذي يروي في كتابه: المختصر في أخبار البشر بأن مرقيان خلف ثيودوسيوس الثاني وحكم سبع سنوات . وبعد مرور سنة على توليه مقاليد السلطة بنى دير مارون في حمص  . يخمّن الأب ضو بأن الدير كان مقدراً له أن يحتل ” المقام الأول ” بين الأديرة في سورية الجنوبية ، لأن الإمبراطور بناه . ويصرّ على أن أحد الأسباب التي حدت بالإمبراطور لبناء هذا الدير هو ” الدور الذي بدأ الموارنة بلعبه في قيادة الجزء السرياني الآرامي من الشعب السرياني ”

 

ويستمر الأب ضو قائلاً أن غالبية المسيحيين في سورية منذ العهود الرسولية وحتى بداية القرن الخامس كانوا يقيمون في المدن ولهم لغتهم وثـقافتهم اليونانية . ولكن منذ القرن الرابع فصاعداً انتشرت رسالة الإنجيل في القرى وبين أهالي الريف ، وهم الغالبية من السكان الذين كانوا سرياناً لغةً وثـقافةً . وهكذا ، يحاجج الأب ضو قائلاً بأن ” التوازن قد تحول لصالح الجزء الآرامي من سكان سورية تحت قيادة الرهبان ” باهتداء الأهالي إلى المسيحية بواسطة جهود الرهبان الموارنة . وينتهي إلى القول أن هذا هو السبب الذي دفع الامبراطور مرقيان إلى بناء الدير من أجل كسب الرهبان إلى جانبه ، أي لدعم مجمع خلقيدونية الذي كان قد دعا إليه ، ولمنع الشعب السرياني تحت تأثير الرهبان الموارنة من “التحول إلى المونوفيزية ” ، التي صارت شائعة بين السريان

 

هناك رأي آخر جاء به الأب ضو يتعلق بالسبب الذي دفع مرقيان إلى بناء ديـر مارون في تلك البقعة المعينة وهو قـرب الدير من الصحراء حيث يعيش البدو الوثنيون . ولهذا كانت إحدى مهام المسيحيين الإنجيليين هداية البدو للمسيحية ، لتحضيرهم ودمجهم في الإمبراطورية الرومانية

 

وبالرجوع الى ابي الفداء نرى انه يستمد معلوماته من تاريخ أبى عيسى أحمد بن علي المنجَّم بعنوان: كتاب البيان عن تاريخ سنّي زمان الأعلام على سبيل الحجة والبرهان ( وهكذا يُعتبر أبو الفداء الكاتب الوحيد ، الذي يدَّعي في كتابه الباقي على قيد الوجود بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون ، ولكن معلوماته تعتبر ثانوية . إن ما يجعلنا نعتقد أن ادعاء أبي الفداء ضعيف إلى حد كبير هو عدم وجود أي مصدر آخر أشار إلى أن الإمبراطور مرقيان هو الذي بنى دير مارون

 

من الصعب ، الاتفاق ، حتى حول هذه النقطة مع أبي الفداء بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون . ربما يكون أبو الفداء قد خلط بين مرقيان والإمبراطور يوسطنيان الأول ، وهو الذي يقول عنه بروكوبيوس (الكتاب رقم 5 ، الفصل 8) بأنه قام بتجديد دير مارون . ولكن ملاحظة بروكوبيوس ليست ذات فائدة طالما أنه لا يحدد هوية أي دير من أديرة مارون قام يوسطنيان بتجديده . مهما يكن الأمر ، فإن الأسباب التي يستنتج ضو بأنها دفعت بمرقيان إلى بناء دير مارون لا تستـند إلى أساس تاريخي

 

ان قول أبي الفداء بأن الإمبراطور مرقيان بنى دير مارون ، وهو ما يردده الأب ضو ، يتضارب مع ادعاء بعض الموارنة وخاصة البطريرك اسطفان الدويهي بأن أهالي ” حمص وحماه ” هم الذين بنوا هذا الدير  . ومما يزيد المسألة ارباكاً هو قول أبي الفداء بأن دير مارون كان يقع في حمص . وقد أدرك الأب هنري لامنس أن مشكلة هوية دير مارون تصبح من الضعف بمكان ” لو ثبتنا موقع ديـر مـارون في حمص ”  . فهو يعتقد أن هذا الدير لم يكن واقعاً في حمص ، ولا في منتصف الطريق بين هذه المدينة وحماه ، ولكنه كان واقعاً على نهر العاصي على بعد مسافة قصيرة إلى الشمال من حماه . كما أنه يميل إلى الاعتقاد بأن المسعودي ، في كتابه: التنبيه والإشراف ليس بعيداً جداً عن الصواب عندما يقول أن هذا الدير كان يقع إلى الشرق من شيزر قرب نهر العاصي ، وهو النهر الذي يمر بمدينتي حمص وحماه

 

يورد الأب هنري لامنس مصدراً آخر يعتقد بأنه أكثر صحة في تحديد موقع دير مارون . فهو يُـشير إلى الأب فرانسوا نو ، الذي اصرّّ بأن دير مارون كان يقع ” قرب أفاميا في وادي العاصي ”  . ولأجل البرهان على صحة فرضيته يُـشير لامنس ، كما يفعل غيره من الكتّاب الموارنة ، إلى مقتل 350 راهباً من دير مارون وهم في طريقهم لزيارة مقام أو دير القديس سمعان العمودي (إن مصدر لامنس هنا هو رسالة يدّعي أنها كانت موجهة من قِـبَـل رهبان دير مارون إلى البابا هرمزدا عام 517) . ويستنتج لامنس ، اعتماداً على هذه الحادثة ، أن العلاقة بين رهبان مارون ورهبان القديس سمعان العمودي كانت ولا بد قوية ، وبالتالي كان الديران يقعان بالقرب من بعضهما . إلا أن لامنس ليس على يقين تام بشأن مقدار المسافة التي تـفصل هذين الديرين احدهما عن الآخر . فهو يقول أن باستطاعة المرء أن يعترض منطقياً بأن المسافة مازالت بعيدة جداً بحيث يتعذر معها قيام أي اتصال سهل بين الاثنين . وينتهي بالنتيجة قائلاً : ” من الواضح أن دير مارون كان يقع في أقصى الشمال بحسب الدليل المقدم ”  . أما أساس ادعاء الاب لامنس ـ بأن الـ350 راهباً الذين قتلوا جملة قد جاءوا من هناك (اي من دير مار مارون ـ إلى جانب فرضيته بقرب ديري مارون والقديس سمعان من بعضهما ـ فهو أساس واهٍ عديم القناعة

 

ينعكس تلكؤ الأب لامنس في اتخاذ قرار بشأن أصل دير مارون في تـفكيره الجاد باحتمال أن يكون أغابيتس احد اتباع مرقيانوس هو الذي بنى هذا الدير فهو يقرّ بأن الأب ف .م . جوليان هو مبتكر هذه الفكرة ، ويقول بأنه ما من سبب يدعو إلى إنكار نظرية جوليان بأن أغابيتس هو الذي بنى دير مارون ، طالما أن دراسة المواقع الجغرافية في سورية لا تدحض هذه الفكرة  . يبيّن لامنس ، بوضوح ، في رسم جغرافي تخطيطي عن حياة القديس مارون ، أن مرقيانوس وهو أحد اتباع مارون ، أرسل أحد تلامذته ، أغابيتس ، لبناء أديرة في مقاطعة أفاميا في (النقيرة) ، وهي بلدة كبيرة إلى حدٍ ما ، وبأن أغابيتس هذا ، بنى ديرين في المدينة أو قربها  . لا معرفة لنا باسم أحد هذين الديرين ، أما الدير الآخر فقد سُمي باسم القديس سمعان العمودي الذائع الصيت  . ليس هناك من دليل على أن الدير الآخر قد سُمي باسم مارون

 

هناك نظرية أخرى حول هوية دير مارون اجترحها الأب مرتينوس اليسوعي ، الذي كرس معظم حياته لدراسة لبنان وتاريخه . يقول مرتينوس أنه ليس من غير المحتمل أن يكون أحد الكهنة ـ هو الناسك ماريس (Mares) (أو ماري باليونانية) الذي عاش في مقاطعة أفاميا ، والذي وجه إليه القديس يوحنا الذهبي الفم رسالة ، هو مارون الذي كتب إليه الذهبي الفم أيضاً رسالة . ويفترض مرتينوس هذه النظرية بسبب التشابه في تهجئة الاسمين وذلك ان ماريس (Mares) أو ماري شارك في رئاسة دير يُدعى دير سمعان ، مع واحدٍ يُدعى سمعان (هو غير سمعان العمودي الذي ورد ذكره) وكان مؤسس الدير الذي صار يُعرف بعدئذ بدير مارون أو ماري . بيد أن مرتينوس ، يقرُّ بعدم وجود دليل تاريخي يبرهن على صحة هذا الافتراض ، مستنتجاً بأنه من المحتمل أن الناس لم يستطيعوا التمييز بين الناسك مارون وتلميذه مرقيانوس ، الذي يُـشار إليه في بعض المصادر بكونه ماريان  . وهنا لا يتفق الأب لامنس مع مرتينوس بأن ماريس ومارون قد يكونان نفس الشخص ، إلا أنه يوافق على وجود تشابه بين اسمي مرقيانوس وماريان . فهو يخمّن أن معاصري مرقيانوس بنوا كنيسة باسمه ، بسبب شهرته كقديس . ولذا يتساءل فيما إذا كان من المحتمل ، أن يكون بعض اتباع مرقيانوس الذين جاءوا إلى أفاميا هم الذين بنوا ديراً لتكريمه هناك . إن صحَّ هذا ، فإن مشكلة هوية دير مارون ستحل ، وسيصبح من الجلي أن واحداً من الديرين في أفاميا قد سُمي نسبة إلى مارون الذي توفي ودُفن في مقاطعة قورش في سورية الشمالية . لكن يبدو أن لامنس يتحاشى هذه الاعتبارات في تقيده بالرأي القائل أن دير مـارون كان معروفاً منذ بداية القرن السادس فقط بذلك الاسم

 

يمكن استخلاص العديد من النتائج بناء على الآراء والتكهنات السابقة . إن الدليل الذي ينصرف إليه اهتمام الموارنة وأولئك الذين يدعمون ادّعاءهم بشأن وجود دير في سورية الجنوبية في القرن الخامس هو دير مارون كان رهبانه خلقيدونيين ، لهو دليل واهٍ لا سبيل إلى الدفاع عنه . لا يمكن للموارنة (وغيرهم) حتى الاتفاق حول من بنى دير مارون أو حول موقعه بالضبط . بل لا تستند معظم البراهين التي يقدمونها على أساس تاريخي . غير أن الحقيقة التاريخية تُـشير بالفعل إلى أنه كان يوجد العديد من الأديرة تحمل اسم مارون في سورية ، ولكنها لا تُـشير بالتحديد إلى أنها سُميت نسبة إلى الناسك مارون . ومما هو أكثر أهمية ، أن الدليل المتوفر لا يدعم الادعاء بوجود جماعة مارونية في سورية قبل القرن السابع ، لا بل قبل القرن الثامن ، وبينما يدعم الدليل التاريخي فرضية كون الزاهد التقي المُسمى مارون قد عاش ومات ودُفن في مقاطعة قورش في شمال سورية ، فانه ما من بينة تدل على أن مارون هذا قد أسس يوماً طائفة دينية أو أوحى باسم الموارنة . إضافة إلى ذلك ، ليس هناك من دليل على أن مارون أو اتباعه قد بنوا يوماً ديراً باسمه . إن أولئك الموارنة الذين يصفون ناسكهم مارون على أنه ” أب الأمة المارونية ” يفعلون ذلك مدفوعين كلياً بنزعة عاطفية وليس من حقيقة موضوعية

 

 

4 الـمـصـادر الأولـــى عن ديـــر مـــــارون

 

رأينا حتى الآن أن أقدم مرجع يحدد هوية ناسك القرن الخامس مارون هو ثيودوريطس أسقف قورش . إلا أن ثيودوريطس لم يذكر أن مارون هذا أو أياً من اتباعه قد بنوا ديراً باسمه . كما رأينا أيضاً أن جهود الكتّاب الهادفة إلى إرجاع تاريخ دير مارون إلى القرن الخامس هي مجرد تكهنات . إلا أن لدينا ثلاث وثائق تاريخية تُـشير إلى دير باسم مارون في سورية الجنوبية . أقدم هذه الوثائق هي وثيقة بطريرك أنطاكية السرياني ديونيسيوس التلمحري (ت 845) ؛ أما الثانية فهي وثيقة سعيد ابن بطريق (ت 941) ، بطريرك الاسكندرية الخلقيدوني أو الملكي ؛ والثالثة ، هي وثيقة المؤرخ العربي أبي الحسن المسعودي (ت 956) . وبينما تختلف شهادات هؤلاء الثلاثة الواحدة عن الأخرى بدرجات متفاوتة ، إلا أنها تشترك في امر واحد ً وهو أنها جميعاً تـشير إلى دير باسم مارون ذي صلة بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) ، والتي فرضها الإمبراطور البيزنطي هرقل (ت 641) في سورية كوسيلة لمصالحة الخلقيدونيين مع المناوئين لهم من أجل الحفاظ على كيان الإمبراطورية ووحدتها

 

يقول التلمحري أن هرقل زار مدينة الرها (اورفة حالياً في تركيا) عام 628 ، بعد أن أخرج الفرس من سورية . كانت هذه المدينة مركزاً للمسيحية السريانية يقطنها في الغالب مناوئون للخلقيدونية أو “مونوفيزيون” يدينون بعقيدة الطبيعة الواحدة . وبما انه كان خلقيدونياً فقد أراد الإمبراطور أن يستميل هؤلاء الناس للاتحاد بالخلقيدونيين . وفي أحد أيام الاحتفالات حضر الإمبراطور القداس في الكاتدرائية السريانية في المدينة إلاّ أن الأسقف اشعيا الذي كان يحتفل بالقداس رفض مناولته القربان ما لم ينبذ نبذاً قاطعاً مجمع خلقيدونية ويحرم طومس لاون (البابا لاون الأول (440 ـ 461) . مما أثار حنق الإمبراطور فطرد الأسقف من الكاتدرائية وسلّمها إلى جماعة الخلقيدونيين

 

وفي سنة 629 قام الإمبراطور بزيارة مدينة منبج (حالياً في سورية) حيث التقى ببطريرك أنطاكية السرياني ، أثناسيوس (المعروف بالجمّال ، ت 631) واثني عشر أسقفاً من أساقفته لمناقشة مسائل تتعلق بالإيمان  . كان الإمبراطور قد كتب قبل ذلك إلى البطريرك بشأن المسائل العقائدية وتلقى جواباً منه  ، إلا أن الامبراطور وجد من الأنسب أن يلتقي بالبطريرك وأساقفته شخصيا ً . وكان يأمل ان يقنعهم بأن صيغة الإيمان الجديدة التي ارادها هي ، بأن في المسيح طبيعتين متحدتين بمشيئة واحدة منسجمة مع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري . وبعد اثني عشر يوماً من الجدل ، رفض البطريرك وأساقفته صيغة الإيمان التي طرحها الإمبراطور بحجة أنها لم تكن تختلف عن صيغة نسطور (طبيعتان منفصلتان وشخصان منفصلان في المسيح) أو عن صيغة لاون (طبيعتان في المسيح متحدتان في شخص واحد ، لكن مع بقائهما منفصلتين بعد اتحادهما) وهي نفس صيغة الايمان التي حددها مجمع خلقيدونية . كان رد فعل الإمبراطور على هذا الرفض رداً غاضباً حيث أصدر أوامر بجدع أنف وقطع أذني أيِّ امرئ يرفض إيمان خلقيدونية ونهب بيته . وهكذا بدأ التنكيل بالسريان (اصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة) المناوئين لمجمع خلقيدونية بشكل جاد مما نجم عنه كما يقول التلمحري ” قبول العديد من الرهبان مجمع خلقيدونية ومنهم رهبان بيت مارون (دير مارون) وكذلك أهالي منبج وحمص وغالبية سكان سورية الجنوبية مظهرين البطش واستولوا على العديد من كنائسنا وأديرتنا ”

 

هذه بالتأكيد ، المرة الأولى التي يُـشير فيها مؤرخ قديم إلى دير مارون ؛ إلا أن التلمحري لا يحدد هوية دير مارون هذا أو موقعه . ومن الممكن أن نستنتج بأنه كان يقصد ديراً بهذا الاسم في سورية الجنوبية ، مع أن هذا غير واضح في قوله . وما هو اكثر اهمية أن اسم دير مارون يظهر لأول مرة في عهد الإمبراطور هرقل في النصف الأول من القرن السابع وفي سياق خاص جداً ـ وهو المونوثيلية . لكن هذا لا يحل المشكلة القائمة وهي ان هذا الدير هو نفس الدير الذي يزعم الموارنة وجوده منذ أواسط القرن الخامس

 

اما الوثيقة الثانية التي تلقي الضوء على هوية دير مارون فترجع الى مؤرخ القرن العاشر سعيد ابن بطريق ، بطريرك الاسكندرية الملكي . فقد كتب تاريخاً مطولاً يضم شؤوناً كنسية وعلمانية حتى عام 938 . يُـشير ابن بطريق ، على غرار التلمحري ، إلى دير مارون في اطار ارتباطه بعقيدة المونوثيلية ، إلا أنه خلافاً للتلحمري يرجع تاريخ هذه العلاقة إلى عهد الإمبراطور موريس (582 ـ 602) ، الذي جاء قبل هرقل الى الحكم . فضلاً عن ذلك ، في الوقت الذي لا يذكر فيه التلمحري شيئاً عن موقع دير مارون ، فإن ابن بطريق يبيّن بأن أهالي حماه الذين تبعوا مارون بنوا ديراً في مدينتهم اطلقوا اسمه عليه . المشكلة هي اذن أن مارون هذا الذي يتحدث عنه ابن بطريق  لا يمكن أن يكون نفس الناسك الذي وصفه تيودوريطس أسقف قورش في القرن الخامس ، ولا يمكن أن يكون الدير هو نفس الدير الذي يدَّعي الكتّاب الموارنة بأن اتباع مارون الناسك قد بنوه بين حمص وحماه . فهذا يتناقض بالتأكيد مع الرواية المتأخرة جداً التي رواها أبو الفداء الذي قال بأن دير مارون بناه الإمبراطور البيزنطي مرقيان عام 452 . والمقصود هو أن ابن بطريق يواجهنا بافتراضين جديدين هما: وجود مارون مغاير مونوثيلي الإيمان توفي في زمن الإمبراطور موريس وقيام دير يحمل اسم مارون خلال هذه الفترة

 

المشكلة الظاهرة في شهادة ابن بطريق هي أنه لا يذكر اسم مرجعه . ولكنه من غير الممكن أن يكون قد حاكى كتابة التلمحري لأن روايته تختلف تماماً عن رواية الأخير ، مع أن الاثنين يتـفقان على ربط دير مارون ورهبانه بالمونوثيلية . ولكن من هو مارون هذا الذي يتحدث عنه ابن بطريق وهل هو مونوثيلي؟ واذا كان كذلك فانه يجب اعتباره بالنسبة لما يدعيه الموارنة المعاصرين هرطوقياً بكل صراحة .

يرى بعض الكتّاب الموارنة أن مارون هذا الذي يتحدث عنه ابن بطريق كان راهباً نسطورياً عاش في الرها في عهد الإمبراطور البيزنطي موريس وكان أستاذاً للعقيدة المونوثيلية . ويقيمون دليلهم على المقالات التي كتبها بطريرك أنطاكية الخلقيدوني ، انستاسيوس (559 ـ 570) ، في تفنيد عقيدة المونوثيلية التي علَّمها هذا الراهب النسطوري . ويرى الكاهنان المارونيان ، برناردو غبيرة الغزيري وميخائيل شبابي أن مارون هذا كان المبتكر ” للهرطقة ” المونوثيلية التي نشرها بين الموارنة ابتداء برهبان دير مارون ، ومن هناك تسربت إلى سورية وتوقفت فجأة عند لبنان  . ويجادل هذان الكاهنان بالقول أن موارنة لبنان لم يتأثروا بالعقيدة المونوثيلية بالرغم من انتشارها في شرق سورية وخاصة في الرها . إلاّ أن رأي الغزيري وشبابي لا يحل مشكلة هوية دير مارون ورهبانه بل كل ما يفعله أنه يُعقد المشكلة وذلك بإدخال مارون آخر وهو راهب نسطوري ومونوثيلي . هذا ما يؤيد رأينا السابق بوجود العديد من النسّاك الذين يحملون اسم مارون ويعيشون في سورية وبأن مارون الذي يدَّعي الموارنة بأنه مارونهم يمكن أن يكون أي واحد منهم . فضلاً عن ذلك ، ليس هناك من دليل بأن هذا الراهب النسطوري سبق له أن نشر الهرطقة المونوثيلية في سورية وبأن رهبان دير مارون قد اعتـنقوها . نحن نعلم أن المونوثيلية كعقيدة لاهوتية مميزة ظهرت في النصف الأول من القرن السابع ، بينما كان هذا النسطوري راهباً من القرن السادس ، وكان ، على غرار البطريرك الخلقيدوني ، أنستاسيوس ، وهو أول من أشار إليه كمونوثيلي ، معاصراً للإمبراطور موريس . ان رهبان دير مارون لم يتبنوا المونوثيليةحتى عهد الإمبراطور هرقل . لذا ، فإن الادعاء ، كما يقول الغزيري وشبابي ، بأن هذا الراهب النسطوري المدعو مارون قد نشر المونوثيلية في سورية ، وبأن رهبان دير مارون اعتنقوا هذه العقيدة بالتالي ، هو محض هراء . هذا ما أدّى ببعض الكتّاب ، الذين لا معرفة لهم بالحقائق ، إلى استخلاص نتائج خاطئة بأن ابـن بطـريق لم يكن يُشير إلى يوحنا مارون ، بل إلى راهب القرن السـادس النسـطوري مارون الرهاوي  . والحقيقة هي ان ابن بطريق كان يعني بالفعل يوحنا مارون ، الذي يُعتـقد بأنه توفي عام 707 ، وهو الذي يدَّعي الموارنة بأنه رئيس دير مارون وأول بطريرك لهم . من البديهي لو أن ابن بطريق كان يعني بمارون الراهب النسطوري من الرها لقال ذلك ، لكنه لم يفعل ذلك . وحيث أنه كان عالماً متبحراً عارفاً بمثل هذه المسائل ، يمكننا أن نستنتج بأنه كان يعني يوحنا مارون من أواخر القرن السابع

 

من العبث الخوض في الجدل ، كما فعل المطران الماروني يوسف الدبس ، بادعائه بأن ابن بطريق نسب اسم (موارنة) إلى شخص هرطوقي مدفوعاً ” بالحسد والخبث ”  . يصّر الدبس على أن ابن بطريق كان على خطأ ليس بقوله ، بان دير مارون سُمي باسم الناسك القديس مارون لا باسم يوحنا مارون فحسب ، بل لأن المونوثيلية بدأت في القسطنطينية عام 628 ، لا بل قبل ذلك التاريخ ، وينتهي إلى القول بأن رواية ابن بطريق هي “اختلاق قذر”  . لا مشاحة أن ابن بطريق ، وهو بطريرك الاسكندرية الخلقيدوني كان على علم بالجماعات المسيحية في سورية ، ولا بد أن كتابه كان معروفاً لدى الناس والعلماء من الطوائف الأخرى وخاصة أقباط مصر المناوئين للخلقيدونية والنسطرة . كما انه من المعلوم بأن سويريوس بن المقفع ، وهو أسقف الأشمونيين القبطي في القرن العاشر ، كان قد كتب مقالة يفند فيها مؤلفات ابن بطريق فيما يتعلق بالعقيدة المسيحية  . هذا ما يدل على أن ابن بطريق كان بدون شك على دراية تامة بالأوجه المختلفة للعقيدة التي اعتنقتها الطـوائف المسيحية . وبناء عليه فانه من غير المحتمل أن يكون ابن بطريق قد أخطأ في نسب المونوثيلية إلى الموارنة  .

من المؤسف حقاً أن ابن بطريق ، وهو أول من ذكر أن دير مارون بناه أهالي حماة في زمن الإمبراطور موريس ، لم يُـشر إلى مرجعه . واذا عدنا إلى تاريخ التلمحري ، لما وجدنا فيه ذكراً لبناء دير مارون أو لموقعه . ولكن بما أن التلمحري يُرجع مناصرة رهبان ذلك الدير للمونوثيلية إلى الفترة المبكرة من عهد الإمبراطور هرقل ، فإن بمقدورنا أن نستـنتج بوثوق بأن الدير الذي يتكلم عنه ابن بطريق هو نفس الدير الذي أشار إليه التلمحري ، ما خلا أن رهبانه اعتنقوا المونوثيلية في عهد هرقل لا في عهد موريس . كما ان المرء لا يمكنه ان يتغاضى عن أقوال ابن بطريق سيما وأن الدليل يُـشير إلى وجود مارون ثان يحمل اسم يوحنا والذي يدَّعي الموارنة أنفسهم أنه كان بطريركهم ، لكنهم يبرئونه من المونوثيلية

 

مازال في حوزتنا دليل آخر لا يلقي الضوء على الانتماءات الدينية لمارون الذي يُـشير إليه ابن بطريق فحسب بل يعين موقع الدير الذي يحمل هذا الاسم بالضبط . ويقدم هذا الدليل مؤرخ القرن العاشر أبو الحسن المسعودي . يقول المسعودي في كتابه: التنبيه والإشراف أن احد أهالي حماه ، اسمه مارون كان له اتباع (موارنة مسيحيون) في عهد الإمبراطور موريس . وأنه كان هناك دير عظيم سُمي باسمه يقع إلى الشرق من مدينتي حماه وشيزر . إلا أن هذا الدير ، الذي احتوى يوماً ما ثلاثمائة صومعة ، وكان غنياً جدا ً ، قد هُدم أخيراً بسبب الغزوات المتتابعة التي قام بها البدو المتمردون وبسبب طغيان السلطان . اما فيما يتعلق بالمعتقد الديني لمارون هذا ، فيقول المسعودي بأن آراء مارون المتعلقة بمشيئة المسيح والمسائل العقائدية الأخرى ميزته عن بعض آخر من مسيحيين . فقد اعتقد مارون هذا بأنه كانت للمسيح طبيعتان متّحدتان في شخص واحد ومشيئة واحدة ، وهذا الاعتقاد ، كما يقول المسعودي ، هو المنتصف ما بين النساطرة  ، الذين آمنوا بوجود طبيعتين وشخصين في المسيح ، والملكيين الذين تمسكوا بأن طبيعتي المسيح كانتا متحدتين في شخص واحد  ، ومع ذلك فقط بقيتا منفصلتين بعد اتحادهما بالاتفاق مع تعريف الإيمان الذي وضعه مجمع خلقيدونية

 

أول ما يسترعي الانتباه حول رواية المسعودي هو مشابهتها لرواية ابن بطريق ؛ وسبب ذلك هو أن المسعودي كان قد شهد تاريخ ابن بطريق وقرأه في مصر  . إلا أن المسعودي يختلف عن ابن بطريق لكونه رحالةً زار على الأرجح آثار دير مارون . فالمسعودي لا يقول شيئاً عن بناء هذا الدير  . لكنه يعيّن ، كما فعل ابن بطريق ، ان تأسيسه كان في عهد الإمبراطور موريس ويربط نشوء المونوثيلية به . والاهم من ذلك ان المسعودي يعيّن موقع هذا الدير بالضبط إلى الشرق من حماة وشيزر (حالياً شيجر) قرب نهر العاصي . هنا لا يوجد تناقض بينه وبين ابن بطريق ، الذي يستدل من قوله بأن دير مارون بني في حماه ، أو بجوار تلك المدينة . إلا أن المشكلة تبقى قائمة بالنسبة لمن بنى هذا الدير ومتى تمّ ذلك . وكما اوردنا سابقاً فان اتباع ناسك القرن الخامس مارون لم يبنوا أبداً ديراً باسمه . واذا استبعدنا قول ابن بطريق بأن أهالي حماه كانوا الذين بنوا هذا الدير ، واستبعدنا أيضاً القول اللاحق بزمن طويل لأبي الفداء بأن مرقيان بنى هذا الدير ، يبقى السؤالان مطـروحان : من بناه ؟ ومتى تمّ بناؤه ؟

 

إن الحقيقة الوحيدة التي نستقرؤها من ابن بطريق والمسعودي هي أنهما يتـفقان على أن دير مارون ظهر لأول مرة في السجلات التاريخية قبيل نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع . كما أنهما يتـفقان بأن رهبان دير مارون تبنوا عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) ، وأن رئيس ديرهم ، يوحنا مارون أصبح مونوثيلياً ونشر هذا التعليم في البلدان المجاورة ، وأن العديد من اهالي حمص وحماه وشيزر ومعرّة النعمان فضلاً عن العديد من اليونان (البيزنطيين) ، تبعوا مارون هذا وأصبحوا من اصحابه . هذا ما يتفق ايضاً مع التلمحري الذي يقول بأن رهبان دير مارون ، بعد اعتناقهم المونوثيلية على الشكل الذي اذاعه الإمبراطور هرقل ، قبلوا مجمع خلقيدونية . بالإضافة إلى ذلك قبل العديد من الناس في سورية الجنوبية هذا المجمع واستولوا على العديد من الكنائس والأديرة التي كانت تابعة للكنيسة السريانية

 

والأكثر أهمية في الأمر هو عدم وجود دليل على قيام أي كاتب قديم بربط هذا الدير يوماً بناسك من القـرن الخامس أو الادعاء بمعرفة تاريخ تأسيس هذا الديـر . وهنا يبدو فشـل الأب هنري لامنس ، الذي بذل جهداً كبيراً من أجل إثبات هـوية دير مارون ، وتحديد هوية مؤسسه بخصوص موقع هذا الدير . إن الأب لامنس يعتمد على نفس المراجع التي تمَّ ذكرها ، وخاصة المسعودي ، ويختتم بالقول أن دير مارون كان يقع في سورية الجنوبية على بعد مسافة قصيرة إلى الشمال من حماه . إلاّ أنه غير واثق بالسبب الذي دعا إلى تسمية الدير بدير مارون ، وهو ما يبدو بوضوح مدى تهافت المصادر المتوفرة بشأن هذه القضية

 

يمكننا أن نخلض الى القول ، بأنه كان يوجد في سورية ، قبيل نهاية القرن السادس أو بداية القرن السابع ، أكثر من دير واحد يحمل اسم مارون . أحدهما يقع في مدينة حماه أو قرب حماه وشيزر . وقد اصاب هذا الدير الانتباه عندما تبنى رهبانه المونوثيلية في عهد الإمبراطور هرقل في أوائل القرن السابع . كان رئيس هذا الدير يُدعى يوحنا ، وصار مونوثيلياً مع العديد من الاتباع في سورية مما أدّى إلى الانتشار البطيء للمونوثيلية في لبنان . وبما انه كان يدعى يوحنا مارون فان اتباعه اصبحوا يعرفون بالموارنة . أما علاقة هذا الدير بناسك القرن الخامس مارون فهو أمر عظيم الشك . بل ان ما هو اكثر مدعاة للشك أن يكون هذا الدير من اهم الأديرة في سورية أو أن يكون قد لعب دوراً بارزاً في الدفاع عن عقيدة طبيعتي المسيح المتحدتين في شخص واحد ، كما عرَّفها مجمع خلقيدونية . فمن المعروف تاريخياً ان هذا  الدير تبنى هذه العقيدة في أوائل القرن السابع حسب صيغة الإمبراطور هرقل المونوثيلية

 

 

5 الادعـــــاءات الــمــارونــيــة

ووثائــــق مراسلات القرن السادس

 

يستند الموارنة في ادعائهم بأنهم كانوا منذ القرن الخامس متمسكين بالإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية إلى توقيعي اسكندر وبولس ، رئيسي دير مارو (المُشار إليه بدير المبارك مارون) ، اللذين تحملهما عدة رسائل موجهة إلى الإمبراطور يوسطنيان الأول ، وتحمل هذين التوقيعين رسائل أخرى موجهة احداهما إلى مينا ، بطريرك القسطنطينية واخرى إلى البابا أغابيتس ، وغيرها ايضاً موجهة إلى أساقفة سورية الجنوبية  .  والاعتقاد السائد هو أن كل هذه الرسائل كتبها رهبان ورؤساء أديرة وشمامسة وأساقفة من القسطنطينية ، وأورشليم وسيناء ، وفلسطين وسورية الجنوبية .  تحتوي هذه الرسائل على اتهامات موجهة ضد سويريوس ، بطريرك أنطاكية المتوفي سنة 538 ، وبطرس أسقف أفاميا ، وانتيموس بطريرك القسطنطينية والناسك السرياني زعورا .  ومجمل هذه الاتهامات هو أن هؤلاء الرجال عارضوا الإيمان الذي أعلنه رسمياً مجمع خلقيدونية ، ونددوا بطومس لاون الذي كان السبب الرئيسي في انعقاد هذا المجمع .  وقد اتُهم اثنان منهما ، هما سويريوس وبطرس ، أكثر من ذلك باضطهاد رهبان خلقيدونيين وكهنة آخرين عارضوا سلطتهما وانهما قاما بتنفيذ خطة لاغتيال 350 راهباً .  وقد ظل الكهنة الخلقيدونيون خامدين طوال وجود الإمبراطور أنستاسيوس الأول المناوئ لمجمع خلقيدونية على العرش .  كان الامبراطور انستاسيوس الاول من اصحاب الطبيعة الواحدة وبالطبع مناهضاً لمجمع خلقيدونية ومناصراً للبطريرك سويريوس الانطاكي واصحابه المناوئين لهذا المجمع .  ولذلك ظـل الكهنة الخلقيدونيين لازمين الصمت والهدوء طوال فتـرة حكمه (491-518) .  ولكن عند وفاته وارتـقاء يوسطين المناصر لمجمع خلقيدونية العرش وخلع سويريوس من منصبه صبَّ الكهنة الخلقيدونيون جام غضبهم على سويريوس وانصاره رغبة منهم في القضاء على كل معارضة لإيمان خلقيدونية .  ومن هنا ، لم تكن الرسائل التي كتبها الخلقيدونيون إلى المجامع التي التأمت في سورية والقسطنطينية عام 518 لتجريح سويريوس واصحابه ، لاذعة فحسب ، بل احتوت على ضروب من الاتهامات الموجهة إلى سويريوس وإلى قادة كنسيين آخرين مناوئين للخلقيدونية .  ومن جملة هذه الرسائل رسالتان هامتان تتهمان سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي باغتيال عدد من الرهبان ، وجّه إحداهما عام 517 كهنة من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا (المُـشار إليها بعدئذ برسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا) ؛ أما الأخرى فقد كتبها رهبان من أفاميا في سورية الجنوبية إلى أساقفتهم الذين اجتمعوا عام 518 لإدانة سويريوس الأنطاكي وشركائه (المُـشار إليها بعدئذ برسالة الرهبان إلى مجمع 518) .  ومع أن الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 لا تذكر عدد الرهبان الذين تمَّ قتلهم ، فإن رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا تحدد العدد بـ 350 راهباً .  وقد دفعت الظروف المرتبطة بمقتل هؤلاء الرهبان ، في كلا الرسالتين ، بعض الكتّاب الافتراض بان ما جاء فيهما متشابه جداً  .  وسوف نرى لاحقاً أن الاختلافات في كلا الرسالتين تكشف عدم تطابقهما

 

في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا عام 517 ، يتهم الرهبان من سورية الجنوبية سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بنصب كمين لـ350 راهباً ورئيس دير كانوا مسافرين في مهمة كنيسة إلى دير القديس سمعان العمودي قرب حلب وقتلهم دون شفقة .  فهم يكتبون : لا شك أن قداستكم قد سمعتم من هما هذان الرجلان ومن الذي أطلقهما ضدنا .  إنهما سويريوس وبطرس ، اللذان يشتمان يومياً مجمع خلقيدونية المقدس ، مع أنهما لن يعدّا أبداً في مصاف المسيحيين ، ويهاجمان أبانا لاون بإساءة علنية؛ واطئين بأقدامهما قوانين الآباء القديسين الجليلة ومغفلين حكم الله بجعل الأساقفة يُعَينون بمراسيم إمبراطورية وإجبارنا على الاستهزاء بالمجمع المقدس المذكور آنفاً بإنزال آلام مبرحة لا يمكن وصفها .  ونتيجة لهذه المعاملة  ، لم يقوَ بعض من أفرادنا على تحمل الإساءة فرحلوا عن هذا العالم وفُقدَ عدد لا يُستهان به من المجموعة .  بينما كنا في الطريق إلى دير (ماندرا) سيدنا سمعان في مهمة تخص الكنيسة ، هاجمنا الرجلان المذكوران سويريوس وبطرس ، اللذان لا حياء لهما ، في الطريق وقتلا ثلاثمائة وخمسين منا وجرحا آخرين .  أما الذين تمكنوا من اللجوء إلى المذبح المقدس فقد قُتلوا على الفور وأُحرق الدير .  وطرد هذان الرجلان الهمجيان ذاتهما ليلاً عدداً كبيراً من الرجال المذعورين وممن أعفى عنهم بدفع الفدية بينما قاما بنهب ممتلكات الكنيسة الضئيلة .  سوف تفيدكم بالتفاصيل الرسائلُ التي أرسلت إلى قداستكم بواسطة أخوينا الجليلين يوحنا وسرجيوس اللذين أرسلناهما إلى القسطنطينية آملين الانتقام من الفظائع المرتكبة .  لقد ترفّع الإمبراطور عن الترحيب بهذين المبعوثين كليهما ولو بكلمة ، لا بل ردهما بإهانات وتهديدات وجهت إلى كاتبي الرسائل

 

ومن هنا ندرك في النهاية أن الأذى الذي ارتكبه هؤلاء الناس الأشرار بحق الكنيسة جاء بتحريض من الإمبراطور (انستاسيوس الاول) نفسه .  لذا نتوسل إليك ، أيها الآب الأقدس ، باكين ومصلين أن تثور بغضب وحق .  ” تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني ” (انجيل يوحنا 10 : 1-16) .  لا تحتقرنا أيها الآب القديس ، إذ تنهشنا الوحوش يومياً .  ولاجل المعرفة الاكيدة لملاكك القدوس فإننا ، نحرم بتوسلنا هذا ذاته ، الذي هو بيان بالمعلومات ، كل أولئك الذين انفصلوا وانقطعوا عن شركة الكرسي الرسولي .  نُـشير إلى نسطور الذي كان أسقف القسطنطينية وأوطاخي وديوسقوروس وبطرس الاسكندري الملقب ببالبوس (مونغوس ـ المتلعثم) ، وبطرس الأنطاكي المدعو بالقصار وأكاكيوس (أقاق) الذي كان أسقف القسطنطينية واحد بطاركتهم وكل أولئك الذين يناصرون أية من هذه الهرطقات

 

تلي هذه الرسالة تواقيع أكثر من مئتين من رؤساء الأديرة والرهبان والكهنة والشمامسة مسـبوقة جميعاً بتوقيع اسكندر ، رئيس دير مارون ، الذي رأى من المناسب إضافة ” أنا المدعو ، اسكندر ، بنعمة الله ، قسيس وأرشمندريت دير القديس مارو قد وقعت هذا الالتماس ”  .  هناك أيضاً رسالة مؤرخة في 10 شباط  518 ، كتبها على ما يبدو إلى المؤمنين في سورية الجنوبية البابا هرمزدا .  يظهر ان هذه الرسالة الاخيرة خدعت بعض الكتّاب فاعتقدوا أنها كانت جواباً على الرسالة المذكورة أعلاه  .  إلا أن مضمون هذه الرسالة لا يوحي بأن الحال كانت على هذا النحو .

نجد من قراءة رسالة رهبان ورؤساء دير أفاميا الموجهة إلى مجمع 518 انهم يشتكون من سلوك سويريوس الأنطاكي “الشرير” وأسقفه بطرس الأفامي  قائلين : كنا في طريقنا إلى باجوس فيغولوروم (قرية الفخارين) ، القريبة من معبد الطوباوي سمعان المعترف ، متطلعين إلى السلام والاتحاد في الإحسان والصلاة ، محيطين أنفسنا بما للرهبان من عادات واهتمامات مناسبة .  لا نعلم كيف استحقينا عدواً مثل هذا الشرير سويريوس الذي لم يعرفه المسيحيون ولا قبلوه ولم يرغبوا أن يشتركوا في شركة حقيقية معه .  وإذا كان رأيُ عدو الحق قابلاً للإحترام ، فإن اليهود والرهبان هاجمونا من أماكن عالية وعرةً .  فما كان عسانا ان نفعل ، وكيف كان في مقدورنا أن نقاوم غضب أولئك الذين أرسلوا ضدنا ؟ إذ أنهم قتلوا بعضاً ، واسروا آخرين ، وجردوا البعض عراة وتركوا البعض الآخر في ثياب رثة بشكل مشين حسب رأي اولئك الذين شهدوا ما فعله هؤلاء الناس علناً

 

أرسل (سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي) جيشاً من الرجال الريفيين دخلوا الدير (المفترض بأنه دير القديس سمعان) بعد ان هاجموه وهدموا جزءاً من الجدار في الليل وقتلوا بعض الرهبان وضربوا العديد منهم لا بل هدموا جزءاً كبيراً من الدير وفي غمرة الصراخات المتعالية وضعوا أنصاباً للنصر تنافي التقى .  إلا أنهم رُدوا على أعقابهم أخيراً . والاكثر من هذا فقد اتهم بطرس في هذه الرسالة المطولة بأشكال متنوعة من الأعمال المنافية للاخلاق ، منها استقدام غانيات إلى دير دوروثوس ، وضرب بعض الرهبان ، وحبس آخرين

 

تحمل الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا وتلك الموجهة إلى مجمع 518 معاً توقيع اسكندر ، كاهن دير المبارك مارونيس (مارون) ورئيسه ، يليه سبعة عشر توقيعاً لعدد كبير من الرهبان باللغة السريانية ، إلا أن القائمة ليست ملحقة بالرسالة

 

دعت المشابهة في وصف المجزرة في الرسالتين بعض الكتّاب (مثل أرنست هونيغمان) إلى الافتراض بأن الحدث كان واحداً وأنه جاء نتيجةً لنفس الأسباب التي كتبها نفس الرهبان  .  لكن هذا الافتراض يعتبر صحيحاً لو أن مجزرة كهذه جرت فعلياً في سورية عام 517 .  وليس لدينا من مصدر يورد هذه المجزرة سوى الرسالتين قيد البحث ولهذا كان من اللازم الاصرار على ان أيّ نقد يوجه الى رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا لا بد أن يسري أيضاً على رسالة الرهبان الموجهة إلى مجمع 518 لأن الرسالتين معاً تصفان ظروفاً مماثلة .  بل من الحق أن ينطبق نفس النقد على كل الوثائق التي رفعت بعدئذ إلى المجمع الملتئم في القسطنطينية عام 536 لغايةٍ وحيدة وهي إدانة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، وغيرهم من آباء الكنيسة المناوئين للمجمع الخلقيدوني

 

إذا كان الرهبان الذين وجهوا الرسالة إلى البابا هرمزدا هم نفس الذين وجهوا أيضاً الرسالة إلى مجمع 518 ، فمن المدهش حقاً أنهم لم يذكروا في الرسالة الموجهة إلى المجمع رسالتهم إلى البابا .  بل من المدهش أيضاً أن الـرهبان ، في رسالتهم الموجهة إلى البابا يقولون أن 350 راهباً قُتـلوا ، أما في رسـالتهم الموجهة إلى مجمع 518 فقد تركوا الرقم دون تحديد .  فضلاً عن ذلك ، يقول الرهبان في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا بصراحة بأن كميناً نصب لهم وهم في طريقهم إلى باجوس فيغولوروم (قرية الفخارين) قرب معبد المبارك سمعان المعترف .  لا يذكر هونيغمان هذه القرية لكنه يبيّن بأن الحادثة حصلت قرب (كابرا كيراميون) (قرية الكروم) على بعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من قلعة سمعان في موقع دير القديس سمعان  .  من الواضح أن القريتين ليستا القرية ذاتها .  والاكثر من ذلك أن الرهبان المتذمرين يقولون في رسالتهم إلى البابا هرمزدا بأنهم أوفدوا أخوين وقورين ، هما يوحنا وسرجيوس ، إلى القسطنطينية لتقديم دعواهم إلى الإمبراطور أناستاسيوس وبأن الإمبراطور احتقر هذين المبعوثين ، بينما لا يذكرون في رسالتهم الموجهة إلى مجمع 518 شيئاً عن مبعوثيهما أو مهماتهما .  فضلاً عن ذلك ، يبدو بأن الرهبان في رسالتهم الموجهة إلى مجمع 518 يعتمدون على رأي الشهود بالنسبة لروايتهم ، بينما يستشف المرء من رسالتهم الأخرى بأنهم كانوا في الموقع عندما حصل الهجوم .  وإليكم روايتهم : ” كيف كان بمقدورنا أن نقاوم غضب أولئك الذين أرسلوا  ضدنا؟ إذ أنهم قتلوا بعضاً وأسروا آخرين ، جردوا البعض عراة وتركوا البعض الآخر في ثياب رثة بشكل مشين بحسب رأي أولئك الذين شهدوا ما فعله هؤلاء الناس علناً ”

 

يبدو بأن هذه الرواية تُـشير إلى أن الحادثة التي رواها الرهبان تعتمد على شهود مجهولين ، وهذا ما يلقي ظلاً من الشك على صحتها . ان نقاط الخلاف في رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ورسالة الرهبان إلى مجمع 518 ليست مجرد إهمال أو اساءة تـفسير لأننا نعلم أن اسكندر كاهن دير مارون ورئيسه قد وقع كلا الرسالتين مما يعني بأنه كان يدرك مضمونهما المتعلق على الأخص بالمجزرة التي نزلت بزملائه .

 

تُعتبر الرسالة التي وجهها رهبان سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا أكثر أهمية من الرسالة الاخرى لأنها موجهة إلى بابا يجله الرهبان ، معتبرين إياه بطريرك العالم بأسره ” والمتبوئ كرسي بطرس ” .  وانها تذكر مقتل 350 راهباً يزعم بأنهم كانوا موارنة

 

ومما يدل على عظم هذه الرسالة ايضاً ان الكتّاب الموارنة وغير الموارنة يستشهدون بها اكثر من ايّة وثيقة اخرى لكي يثبتوا بأن البطريرك سويريوس الانطاكي فتك بهؤلاء الرهبان لمعارضته مجمع خلقيدونية . فضلاً عن ذلك ، تعتبر هذه الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ذات أهمية قصوى لأنها لا تزوّد الموارنة المعاصرين بما يزعمون بأنه دليل تاريخي لشرعية الوجود الماروني قبل القرن السابع فحسب ، بل تعطي أيضاً الدليل على أن رهبان دير مارون ، الذي يُرجع الموارنة أصلهم إليه ، كانوا ” كاثوليكاً ” معتنقين إيمان كنيسة روما .  إلا أن المشكلة هي أن الرسالة تُـشير إلى إيمان هؤلاء الرهبان في سياق الحديث عن جريمة فظيعة .  اذ يتّهم الرهبان الذين وقّعوا الرسالة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بنصب كمين وقتل 350 راهباً مسالماً منهم وهم في طريقهم الى دير مار سمعان العمودي في مهمة كنيسة .  بل ان الرسالة بأكملها تركز حقاً على هذه المذبحة ، والقضية الاساسية هنا هي انه ما لم تحل مشكلة هوية هؤلاء الثلاثمائة وخمسين راهباً وسبب مقتلهم ، فلن نكون قادرين أبداً على معرفة إيمانهم الصحيح وهويتهم الحقّة ، وبالتالي لن يكون بمقدورنا تبرير مزاعم الموارنة

 

جاء في الرسالة أن الرهبان كانوا خلقيدونيين وبأن سويريوس الأنطاكي قتلهم لأنه كان عدواً لمجمع خلقيدونية .  ومما يجعل الوضع أكثر سوءاً هو أن الكنائس المارونية والكاثوليكية الرومانية الاخرى بالغت في ضخامة هذه المذبحة المزعومة وذلك بالاحتفال بذكرها في 31 تموز من كل عام ، وهي ممارسة سُنّت لأول مرة في القرن الثامن عشر .  في الحقيقة ان الموارنة لا يعتبرون هؤلاء الرهبان ” شهداء ” فحسب ، بل يعتبرهم كذلك ايضاً كتّاب آخرون ، ليسوا موارنة ، مثل الأب لويس شيخو ، الذي كتب مقالاً بعنوان : شهداء المجمع الخلقيدوني في التاريخ . يستـشهد فيه بقول الأسقف الماروني جرمانوس فرحات (1670ـ1732) ، بشأن

: هذه الحادثة يقول فرحات

 

اليوم ، الحادي والثلاثون من تموز ، هو يوم إحياء ذكرى الثلاثمائة وخمسين شهيداً من الرهبان الذين قتلهم سويريوس الأسقف الدخيل ، وتلميذ أوطاخي وديوسقوروس في عهد الإمبراطور الهرطوقي اناستاسيوس لأنهم كانوا من رهبان القديس البار مارون الناسك ، ويتمسكون بإيمان مجمع خلقيدونية المقدس .  وقد حصل هذا عام 517

 

لا يترك الأسقف الماروني جرمانوس فرحات مجالاً للشك بأن هؤلاء الضحايا فتك بهم سويريوس الأنطاكي بسبب تمسكهم بإيمان خلقيدونية ، وبأنهم كانوا ينتمون إلى دير القديس مارون ، وهذا يعنى بأنهم كانوا ” موارنة ” .  إن فرحات على خطأ في ربط سويريوس الأنطاكي وديوسقوروس الاسكندري بأوطاخي الهرطوقي فهذان البطريركان كانا من اتباع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري الأرثوذكسية والمتمسكين بها ، لا من اتباع أوطاخي .  وسوف يتم شرح هذه العقيدة بالتفصيل خلال هذا الكتاب .  وليس المطران فرحات وحده من هذا الرأي بل إن الأب هنري لامنس هو أيضاً من ذوي الرأي القائل: ” أن هؤلاء الشهداء كانوا ينتمون إلى دير القديس مارون ”  .  وهنا لا نجد مندوحة من توضيح عدد من الأسئلة قبل أن نستطيع إصدار حكم عادل بشأن هذه الحادثة .  ومن هذه الأسئلة ما هو انتساب هؤلاء الرهبان الى عقيدة دينية ؟ لماذا قتلهم رجال سويريوس الأنطاكي وأسقفه ، وكيف قتلوهم وأين ؟ بما أن الإبلاغ عن الحادثة تمَّ على شكل رسالة ، ما مدى صحتها تاريخياً ؟ ومتى بدأ الكتّاب بالإشارة إليها ؟

 

اسهب الكتّاب ، منذ عهد البطريرك اسطفان الدويهي وحتى اليوم ، في الرواية عن هذه المجزرة ، ولكي يثبتون صحتها ادعوا بأن الكنائس انقسمت بعد مجمع خلقيدونية451 مباشرة الى فريقين ، احدهما قَبِل هذا المجمع والآخر رفضه .  ففي سورية ، التي كانت آنئذٍ تحت الحكم البيزنطي ، رفضت غالبية كبرى من السكان مجمع خلقيدونية .  وقد تدخل الاباطرة البيزنطيون في النزاع اللاهوتي في الإمبراطورية بيد أن تدخلهم وتحيزهم ألهبا حدّة المشادات الكلامية بين الخلقيدونيين ومناوئيهم بدلاً من تخفيفها .  وعندما ارتقى الإمبراطور اناستاسيوس الأول ( ت 518) العرش في 491 ، آثر الوقوف إلى جانب سويريوس الأنطاكي المناوئ العنيف للخلقيدونية لأنه لم يقبل الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية .  وبعدئذ ، أصبح سويريوس بطريرك أنطاكية عام 512 ، حيث حل مكان فلافيان الثاني ، الذي كان متذبذباً بين الخلقيدونيين ومناوئيهم .  وبعد ارتقاء سويريوس سدّة البطريركية واجه معارضة بضعة أساقفة من سورية الجنوبية ، خاصة في أفاميا .  وكما يقول مؤرخ القرن السادس ايفاغريوس ، فان المعارضة تصاعدت ضد البطريرك الجديد حالما قام بتسليم الرسائل المجمعية إلى الأساقفة الخاذعين لسلطته  .  ونتيجة لذلك ، قام بعض الأساقفة والكهنة من ذوي الآراء اللاهوتية المختلفة بعزل أنفسهم عن سويريوس .  ويذكر ايفاغريوس من بين هؤلاء قوزما ، أسقف بلدة ابيفانيا ، وهي موطن ايفاغريوس ومدينة حماه حالياً ، كما يذكر ايضاً سيفيريان ، أسقف اريتوزا (ارتاح) وابيفانيوس الصوري وأساقفة وكهنة آخرين عارضوا سويريوس ، (على سبيل المثال جوليان ، أسقف بصرى وبطرس أسقف دمشق) اللذين أجبرا على التخلي عن كنائسهما .  بالاضافة الى ذلك فصل العديدُ من القساوسةِ من أفاميا أنفسـهم أيضاً عن شـركة سويريوس

 

يقول ايفاغريوس ، متتبعاً تقدم هذه الأحداث ، بأن الإمبراطور اناستاسيوس عندما علم بأن قوزما وسيفيريان كانا قد أرسلا رسائل بعزل سويريوس ، امر اشياتيكوس ، وهو قائد في فينيقية ، لبنان ، بطرد هذين الأسقفين ، من كرسيهما .

عندما وصل اشياتيكوس إلى الشرق (سورية) وجد بأنه كان للأسقفين العديد من الأنصار ، وخاصة في المدن الواقعة تحت ولايتهما ، وأدرك انه لم يكن في استطاعته عزلهما دون إراقة دماء .  يقول ايفاغريوس ، بأن أناستاسيوس كان إنساناً عظيماً يعمل لخير الإنسانية .  ولذلك كتب إلى اشياتيكوس يعلمه بعدم رغبته في تحقيق أي هدف ، مهما كان هاما ً ، باراقة قطرة دم واحدةٍ  .  نعلم أيضاً من رسالة سويريوس إلى كبير الأطباء تيوتيكنوس ، بأن الإمبراطور ورئيس الدواوين كانا قد كتبا إليه ليلغي عزل من يسميهما البطريرك ” الذين لا يستحقون ان يسموا اساقفة ” في سورية الجنوبية .  يجيب سويريوس الامبراطور قائلاً: ” بما أن هذا ما يسرك ، فإن غاية القوانين الكنسية هي قبولهما ، إن هما أعلنا التوبة بشكل قانوني بشرط أن يجتمع كل الأسـاقفة الذين عزلوهما معاً وأن يقرروا قبولهما قانـونياً ”  .  إن ما يقوله سويريوس في الواقع هو أن هذين الأسقفين العاصيين قد عُزلا من قِـبَـل مجمع أساقفة ، وبأنه ، وفقاً لقوانين الكنيسة ، لا مجال لإعادتهما إلى منصبيهما دون مجمع أساقفة .  هذا ما يُـشير بوضوح إلى أن سويريوس لم يتصرف بشكل تعسفي وبمفرده في عزل الأسقفين .  أما فيما إذا كان الموقف المتسامح للبلاط الإمبراطوري قد شجع على صفاقة الأسقفين المتمردين ، كما يقول إرنست هونيغمان ، فهو أمر لا أهمية له  .  إن المهم هو فيما إذا كان سويريوس قد أصيب بالخيبة وبذلك فقد إدراكه فنصب مع بطرس ، أسقف أفاميا ، كميناً للرهبان وهم في طريقهم إلى دير القديس سمعان العمودي .  ان هونيغمان الذي سرد مطولاً خلفية التوتر بين سويريوس والأساقفة المعارضين له لا يذكر عنفاً أو جريمة من أي نوع كان ، بل هو يعتمد ، كما تفعل هذه الدراسة على رواية ايفاغريوس ، التي لا تـفيد بوجود عنف أو سفك دماء .  فما هو المصدر الذي يروي أحداث المذبحة المزعومة التي دبرها سويريوس الانطاكي وبطرس الأفامي وذهب ضحيتها 350 راهباً ؟ يعلن هونيغمان عن هذا الحادث حين يقول :

تُعرف الأحداث التي تلت بشكل أساسي من خلال قرارات مجمع القسطنطينية الذي عُـقد في عهد البطريرك مينا عام 536 ، إذ أنها كانت الوحيدة ، بين ما قدم من نبذات إلى مجمع  518 ، التي حفظت وجرى ذكرها بعد ثمانية عشر عاماً في المجمع .  لم يكن المؤلفون الذين قاموا بجمع هذه الوثائق عام 536 حريصين على وضع ترتيب زمني واضح متشدد للأحداث .  فقد أوردوا بأسلوب عشوائي الأعمال الشائنة لبطرس (أسقف أفاميا) ؛ وارتضوا بتلميحات بسيطة فقط .  هناك وثيقة أخرى يمكن للمرء أن يرجع تاريخها ، بشيء من الاحتمال ، إلى خريف عام 517 وهي رسالة وجهها رؤساء أديرة سورية الجنوبية ورهبانها إلى البابا هرمزدا

 

يقول هونيغمان أيضاً بأن هذه الحادثة حصلت قرب قرية كفر كرمين (كابرا كيراميون) ، على بعد عشرين كيلومتراً إلى الجنوب من قلعة سمعان في موقع دير القديس سمعان ( بينما تبيِّن الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 بوضوح أن المكان كان قرية الفخارين .  إن ما يقوله هونيغمان هو أن الظروف التي أدت إلى قتل 350 راهباً معروفة من مصدرين ، احدهما الرسائل المقدمة من سورية الجنوبية إلى مجمع الأساقفة عام 518وما يجول في ذهنه هنا هو رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا ، والآخر هو معارضة كهنة سورية الجنوبية ، الذين كانوا خلقيدونيين ، لسلطة سويريوس المناوئ لمجمع خلقيدونية ورفضهم الموافقة على إيمانه

 

قام كاتب معاصر آخر ، هو و . هـ . س فرند ، أيضاً بمناقشة معارضة أساقفة سورية الجنوبية لسلطة سويريوس الأنطاكي ، لكنه ، على خلاف هونيغمان ، يعطي الانطباع بأن ” سورية الثانية (الجنوبية) كانت ، فيما عدا بضعة مراكز منعزلة ولكنها هامة ، مثل أفاميا ، متحدة ضده”  .  ولكن االذي يبدو من اقوال ايفاغريوس ، اذا فهمناه بشكل صحيح ، أن بضعة أساقفة وقساوسة فقط في سورية الجنوبية كانوا يعارضون سلطة سويريوس ، بينما وقف السواد الأعظم من الأساقفة في سورية معه .  ويمضي فرند ، على غرار الكتّاب الآخرين بالاستشهاد بالرسالة الموجهة إلى هرمزدا ، وفيها يتهم رهبان سورية الجنوبية سويريوس بقتل 350 منهم ، إلا أن فرند لا يقوم بأية محاولة لإثبات مضمونها أو صحتها

 

من الواضح إذاً أن المصادر الخاصة بمقتل هؤلاء الرهبان هي الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا والرسالة الموجهة إلى المجمع المنعقد عام 518 .  وقد لاحظنا نقاط الخلاف بين الرسالتين وأشرنا إلى تعرضهما للانتقاد .  بوسعنا أن نضيف هنا أنه إذا كانت مجموعتان من الرهبان قد كتبتا الرسالتين ووقعتاهما ، فإنه من المحتمل إلى حدٍّ كبير ، على ما يبدو ، أن تكون الرسالتان تنقلان حادثـتين مختلفتين عن رهبان قتلوا بتحريض مزعوم من سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، إحداهما تذكر 350 راهباً ، والأخرى عدداً غير محدد من الرهبان .  إن المراد قوله هو أن المسألة برمتها التي تـنطوي على مقتل رهبان تـفتقر إلى برهان تاريخي مقنع

 

يبرز هنا سؤال يحتاج الى توضيح ، عن مصدر رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا .  من المدهش حقاً ان رسالة الرهبان المقدمة إلى مجمع 518 ظهرت لأول مرة في مجمع القسطنطينية عام 536 ، اي بعد ثمانية عشر عاماً من تاريخ ارسالها بالرغم من عدم وجود دليل على أن أعضاء هذا المجمع قد تمعنوا بها .  كما انه ليس لدينا أي دليل بأن رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا كانت قد رُفعت إلى مجمع القسطنطينية عام 536 ، أوحتى إلى أي مجمع آخـر بخصوص هذه المسألة ، لا بل لم تُقدم إلى المجمع المنعقد عام 518 ذاته لإدانة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي .  والاكثر من ذلك ، فان محرري الساكروسانكتا كونسيليا (مجموعة المجامع المقدسة باريس 1671) ، فيليب لابي وغبرييل كوسارتي لم يدرجا هذه الرسالة بين الوثائق المقدمة إلى مجمع القسطنطينية  ، بل ادخلاها في القسم المحرر عن حياة البابا هرمزدا في المجلد الرابع من مجموعتهما مع تذييل لسيفيرنيوس بينيوس ،  الذي كان أول من حرر مخطوطة قرارات مجمع القسطنطينية التي اكتشفت عام 1618  .  يُعلن بينيوس قائلاً بأنه ” في هذا الوقت حصلت تلك الأشياء التي يكتبها أمين المكتبة اناستاسيوس عن حياة هرمزدا بهذه العبارات : “كذلك ، وللمرة الثانية أرسل (هرمزدا) اينوديوس ، الخ” .  لا يشرح بينيوس ما هي ”  تلك الأشياء ” ، لكنه يتابع قائلاً : ” ما أن حصلت هذه الأشياء ، حتى قام سويريوس الأنطاكي وآخرون ممن لا رئيس لهم بالفتك بالشعب الأرثوذكسي وإيذائه كما تظهر الرسالة التالية (الموجهة من الرهبان إلى البابا هرمزدا) ”  .  من الواضح ان ما يقوله بينيوس لا يفيدنا شيئاً لأنه لا يقدم أية معلومات حول هذه الرسالة ومصدرها أو المخطوطة التي وجدها فيها .  وبما أن بينيوس ومحرري الساكروسانكتا كونسيليا لا يقدّمون دليلاً يدعم وجود رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ، فلا بديل لدينا إلا ان ننتهي الى الرأي بأن هذه الرسالة عديمة الأساس التاريخي .  ومع ذلك فان محرري الساكروسانكتا كونسيليا يدرجان في قرارات مجمع القسطنطينية 536 رسالة وجهها البابا هرمزدا إلى الأساقفة ورؤساء الأديرة وكهنة آخرين في سورية الجنوبية ، مع ملاحظة هامشية تُـشير إلى أن هذه الرسالة تظهر كالرسالة رقم 21 في مخطوطة قديمة من مخطوطات الفاتيكان اجرى استنساخها في روما عام 1591 ، ولكنهما لايعلنان هوية المخطوطة أو محررها  .  مما حدا ببعض الكتّاب إلى الافتراض بأنها كانت رداً على الرسالة الموجهة من الرهبان في سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا (28) ، ولذا الافتراض يفتقر الى دليل تاريخي .  وسوف نرى بعدئذ بأن رسالة البابا هرمزدا هذه لا علاقة لها بالظروف التي تـنطوي عليها الرسالة التي كتبها الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا

 

لقد أظهرنا حتى الآن أن الاتهامات الموجهة الى سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، واخصّها تهمة قتل 350 راهباً ، تستند بشكل رئيسي الى الرسالتين اللتين تمت مناقشتهما بينما اثيرت رسالة الرهبان من أفاميا الموجهة إلى مجمع 518 في مجمع القسطنطينية في عام 536 ، اي بعد ثمانية عشر عاماً من كتابتها كما يُزعم .  والحقيقة هي ان رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا لم تُرفع الى هذا المجمع  او اي مجمع آخر سابق .  بل إن أول مرة ظهرت فيه هذه  الرسالة هو في ساكروسانكتا كونسيليا (مجموعة المجامع المقدسة) ، التي نشرت لأول مرة عام 1671  .  وما عدا ذلك فلا يوجد دليل خارجي يثبت صحة هذه الرسالة

 

أن قضية الرسالة المرفوعة إلى مجمع 518 مختلفة لاسيما وأنها ظهرت في قرارات مجمع القسطنطينية عام 536 مع وثائق أخرى لإدانة سويريوس الأنطاكي وغيره من آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية .  لذا نجد من المناسب معرفة غرض هذا المجمع وطبيعته لكي يمكن إثبات مدى صحة الاتهامات الموجهة الى الآباء المناوئين لمجمع خلقيدونية وبالتالي اثبات لا على صحة هذه الرسالة وحسب ، بل على صحة رسائل أخرى أيضاً وخاصة رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا .  وإذا تمّ لنا معرفة ذلك سيصبح من السهولة بيان صحة الادعاءات التي يستند اليها الموارنة واخصّها تواقيع بعض رؤساء الأديرة التي تذيل هذه الرسائل

 

عقد المجمع في أيار وحزيران من عام 536 ، وانتج قرارات عديدة شاملة .  وأول من حرر هذه القرارات هو سيفيرينوس بينيوس عام 1618 ، وفق مخطوطة موجودة الآن في مكتبة هايدلبرغ ويقول المؤرخ الالماني الكاثوليكي شارل جوزيف هيفيلي بان هذه المخطوطة ناقصة في مواضع عديدة و” خاطئة ومتـنافرة ” في مواضع أخرى .  ويضيف هيفيلي قائلاً بأن العلاّمة اليسوعي فرونتون لي دو اكتشف نصاً أفضل بكثير عام 1618 ، لكن هذا النص أيضاً ” ترك قدراً كبيراً ليلتقطه لابي وهو أحد أعضـاء رهبنته ونحن مدينون بالنص الحالي لاجتهاد هذا الأخير ”

 

ان مصدر الرسالة قيد البحث إذاً يتألف من فهرسين اكتشفا في أوروبا عام 1618 أحدهما ناقص في العديد من المواضع ومتـنافر في بعضها الآخر .  وقد قام فيليب لابي ، وهو كاتب يسوعي من القرن السابع عشر ، وبناء على اجتهاده الخاص ، بتناول النص الآخر ، مقتطفاً منه ما رآه مناسباً .  ومحصّل القول فان المصدرُ الأصلي ، للمعلومات المتعلقة بالمذبحة ـ وهو المصدر الذي اعتمد عليه كل من كتبوا حول الموضوع ـ يعتبر موضعَ شكٍ إلى حدٍّ كبير

 

لقد أظهرنا فيما سبق مدى تجريح الرسـالة المقدمة إلى مجمع 518 .  بل ان هذا التجريح سيكون اكثر ضراوة لو وضعنا أحداث هذا المجمع وقرارات مجمع القسطنطينية لعام 536 في نصابها التاريخي الصحيح .  ولأجل القيام بذلك كان من الضروري التحري باقتضاب عن الأحداث التي جرت في مطلع مجمع خلقيدونية . ان تعريف الإيمان الذي اجترحه مجمع خلقيدونية عام 451  كان مبنياً على طومس البابا لاون الأول .  وقد خلق هذا التعريف المزيدَ من الشقاق وسوء النية والتنافر في الكنيسة .  ومما زاد من حدة هذا الشقاق أن الأباطرة البيزنطيين والدولة البيزنطية تدخلوا في هذه القضية اللاهوتية المتفجرة إلى حد كبير .  ففي عام 482 أصدر الإمبراطور زينون الهينوتيكون (قرار التوحيد) محاولةً منه في مصالحة الخلقيدونيين مع اللاخلقيدونيين .  ومع أن الهينوتيكون لم يدن صراحة مجمع خلقيدونية ، إلا أنه في فحواه كان مناهضاً الإيمان الذي حدده ذلك المجمع .  ولما كان الهينوتيكون قد طُرح ونُشر بناء على أمر أكاكيوس (اقاق) ، بطريرك القسطنطينية ، فقد خلَّف صدعاً بين كنائس روما والقسطنطينية .  وبالرغم من ان بعض الآباء المصريين لم يرضهم الهينوتيكون تماماً  ، لأنه لم يحتوي على إدانة صريحة لمجمع خلقيدونية إلا أن غالبية الآباء الذين رفضوا صيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية قبلوه على أنه يضم الإيمان الأرثوذكسي الصحيح  .  وفي عام 491 توفي زينون وفي 10 نيسان من ذلك العام ارتقى أنستاسيوس الاول العـرش .  كان أنستاسيوس مناوئاً لمجمع خلقيدونية ومتعاطفاً مع آبـاء الكنيسـة الذين رفضوا المجمع  .  إلا أن وضع المناوئين لمجمع خلقيدونية ساء جداً عندما خلف يوسطين الأول انستاسيوس على العرش عام 518 .  كان الإمبراطور الجديد لاتينياً ومؤمناً عنيداً بمجمع خلقيدونية .  كان أمياً ومن المـرجَّح انه لم تكن لديه معـرفة صحيحة بقضايا زمانه اللاهوتية المعقدة  .  واعتقاداً منه بأن وحدة الإمبراطورية كانت تعتمد على وحدة الكنائس ، قرر يوسطين أن يجعل من تعريف مجمع خلقيدونية للإيمان إيمان الإمبراطورية جمعاء .  ولتحقيق هذه الغاية قام بشن أعنف اضطهاد ضد الذين رفضوا مجمع خلقيدونية .  وكان أحد ضحاياه سويريوس ، بطريرك أنطاكية الذي بارح كرسيه عام 518 بعد ان هدده يوسطين بقطع لسانه ، وذهب للعيش في مصر ، واستمر هناك في إدارة ذلك الجزء من كنيسة أنطاكية التي ظلت مخلصة له حتى وفاته عام 538

 

وما أن أرغم سويريوس على مبارحة كرسيه ، حتى بدأ اعداؤه ، بتشجيع إمبراطور مليء بالحقد ، بصب جام غضبهم عليه وعلى اعوانه بقصد تحطيمهم وتحطيم كنيستهم .  وفي عام 518 التأم عدداً من المجالس والمجامع الكنسية في سورية والقسـطنطينية لإدانة آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية ، وخاصة سويريوس الأنطاكي ، بطرس الأفامي ، انتيموس ، وبطريرك القسطنطينية والناسك زعورا .  وكان أحد هذه المجامع مجمعاً محلياً عُقد في صور في 16 أيلول ، عام 518 .  كما عقد أسـاقفة من سورية الجنوبية مجمعاً آخر برئاسـة الأسـقف قورش مريمنا عام 518  .  كتب هؤلاء الأساقفة رسالة إلى يوحنا الثاني الكابدوكي ، بطريرك القسطنطينية مخاطبين إياه على أنه ” البطريرك المسكوني ” ومعبرين عن فرحهم بأن إمبراطوراً أرثودكسياً تسلم مقاليد الحكم .  كما أنهم يعلنون في هذه الرسالة عن تأييدهم للمجمع الذي كان البطريرك يوحنا قد عقده في القسطنطينية في نفس العام 518 ، ويدينون سويريوس الأنطاكي وشركاءه .  وقد أرفق الأساقفة رسالتهم الموجهة إلى البطريرك برسالة أخرى كانوا قد تلقوها من بعض الأساقفة من مقاطعة أفاميا يتهمون فيها الأساقفة سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بقتل رهبان لكن دون تحديد عددهم .  وهذه هي الرسالة التي أطلقنا عليها رسالة الرهبان إلى مجمع 518 (37) .  كم البطريرك يوحنا الكابادوكي المذكور آنفا دعا الى عقد مجمع ثالث في القسطنطينية في 20 تموز  518 ، وضم ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين أسقفاً ( كان مجمعاً هاماً لأنه التأم في العاصمة ولأن المجمع الذي انعقد في سورية الجنوبية قدم اليه وثائق من ضمنها رسالة الأساقفة من أفاميا التي تتهم سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بقتل الرهبان .  إلا أنه من الغريب ألا يحضر يوحنا الثاني الكابادوكي ، بطريرك القسطنطينية هذا المجمع الذي كان هو قد دعا إلى انعقاده ، لكنه وجه إليه رسالة فقط .  كان يوحنا انتهازيا ً ، ففي عهد الإمبراطور انستاسيوس أوحى لسويريوس الأنطاكي الانطباع بأنه كان ، كما يكتب سويريوس في إحدى رسائله ، ” يميل إلى الآراء الصائبة ويحمل بعض الآمال المرضية للأرثوذكس ” ، لكنه ظهر بعدئذ بأنه رجل عديم الضمير بل أكثر رغبة ، على حد تعبير سويريوس الأنطاكي في تبني موقف متوسط خـادع محتذياُ خطة سـلفه طيمثاوس في رسـائله المجمعية ” .  ومهما تكن المبررات التي اوردها سويريوس الأنطاكي دفاعاُ عن نفسه فقد اشمئز منه أعضاء مجمع عام 518  .  ولكن ما يضفي على غاية هذا المجمع الكثير من الشك هو أن يوحنا ، بطريرك القسطنطينية ، لم يحضر هذا المجمع الذي هو نفسه دعا الى انعقاده وانه هو نفسه قام بإدانة سويريوس الأنطاكي حماية لمنصبه

 

فضلاً عن ذلك فان مناقشة قرارات مجمع 518 لم تتم حتى عام 536 عندما التأم مجمع مماثل لإدانة سويريوس الأنطاكي نفسه  .  من الغريب جداً أن تكون الوثائق المقدمة إلى مجمع 536 ومن ضمنها الرسالة التي وجهها الرهبان من أفاميا (بمن فيهم اسكندر ، الذي ينصّب نفسه رئيساً لدير مارون) إلى مجمع الأساقفة الذي اجتمع في سورية الجنوبية في عام 518 قد بعثت إلى النور فقط بعد ثمانية عشر عاماً في المجمع المنعقد عام536  .  بل من الغـرابة بمكان أن الجرائم المنكرة المنسوبة إلى سويريوس الأنطاكي قد فاتت انتباه الناس والكهنة خلال هذه السنوات .  إذ لا دليل هناك على وجود شكوى قدمت ضد سويريوس الأنطاكي سوى رسالتين إحداهما موجهة إلى مجمع 518؛ والأخرى إلى البابا هرمزدا والتي لم يكن المجمع المنعقد عام 536 على معرفة بها .  فطالما أن الدليل الذي يستـشهد به الموارنة المعاصرون يرقى في تاريخه إلى هذا المجمع ، فمن الضروري معرفة ظروف المجمع ومجرياته والادلة المقدمة إليه ، وخاصة الرسائل التي يستخدمها الموارنة للدفاع عن تمسكهم بالإيمان الخلقيدوني وهذا ما يحتاج الى شيء من الايضاح

 

عندما صار يوسطنيان الأول إمبراطوراً عام 527 ، اهتم ، على غرار خاله يوسطين قبله  ، بمصالحة الخلقيدونيين مع معارضيهم لتحقيق السلام والوئام في الإمبراطورية .  كان يوسطنيان كخاله خلقيدونياً لكن زوجته ثيودورة كانت متمسكة بعقيدة الطبيعة الواحدة ومناوئة لمجمع خلقيدونية ودعمت آباء الكنيسة المناوئين لمجمع خلقيدونية ، ومنهم سويريوس الأنطاكي .  كانت تيودورة هي التي أقنعت الإمبراطور بدعوة سويريوس إلى العاصمة لمناقشة اتحاد الكنيستين   .  وبذلك كتب يوسطنيان إليه العديد من الرسائل  ، إلا أن سويريوس أحجم عن السفر إلى القسطنطينية  .  وفي رسالة سجلها زكريا أسقف مدللي توسل البطريرك المسن إلى الإمبراطور أن يتركه وشأنه ، لأنه أضحى عجوزاً ضعيفاً يتمنى قضاء بقية أيامه في سلام .  وبالرغم من أن الإمبراطور كان قد وعده بحصانة تامة من أعدائه إلا أن سويريوس لم يجد معنى لرحيله إلى العاصمة .  ولذلك كتب الى الامبراطور بأنه يخشى إن هو ظهر في العاصمة ” فسوف يستـفز وجوده غضب العديد من الناس ويحتدم غضبهم بسبب هذا القلق التافه كما لو الهبته جذوة ، بحيث يزعج هذا الأمر حتى عظمتك أنت ويغضبك نظراً لعاطفتك نحوي ”  .  لكن الإمبراطور اصرّ على مجيء سويريوس إلى العاصمة ، وأخيراً اذعن سويريوس المسن نزولاً لتوسلات الإمبراطور ، ووصل القسطنطينية في وقت ما عام 535 .  وحلّ في القصر الإمبراطوري ضيفاً على الإمبراطور حتى آذار من عام 536

 

وكما تـنبأ سويريوس ، فإنه لم يكد يصل إلى القسطنطينية حتى بدأ الأساقفة الخلقيدونيون بالهيجان ضده .  اما الشخص الذي إثار هذا الهيجان هو أفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني السيء السمعة الذي كان شديد الاضطهاد لمناوئي مجمع خلقيدونية  .  كانت لدى أفرام كل الأسباب التي تدعوه إلى التخوف من تطور الأحداث في العاصمة والتي قد تهدد منصبه البطريركي بصورة جدّية .  كان ابيفانيوس ، بطريرك القسطنطينية الخلقيدوني قد توفي وخلفه انتيموس ، أسقف طرابزون ، وهو رجل تقي ذو شخصية عالية المناقب  ، استماله سويريوس بما لديه من إقناع الى جانبه ، حتى انه رفض مجمع خلقيدونية علناً متقبلاً صيغة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي لتكون عقيدته  .  وفي غضون هذا الوقت ، كان ثيودوسيوس ، وهو رجل علاّمة وتقي قد أضحى بابا الاسكندرية الجديد .  وكان ثيودوسيوس أيضاً صديقاً لسويريوس متمسكاً بنفس عقيدة سويريوس .  ربما خشي  أفـرام من احتمال ان يكسب هذا “المثلث” الكنسي القوي (سويريوس ، انتيموس ، وثيودوسيوس) الإمبراطور إلى جانبهم ، وخاصة ان الإمبراطورة ثيودورة كانت تؤيدهم وتؤيد صيغة إيمانهم .  وبعد أن وجد  أفرام نفسه وحيداً في الحلبة ، لم يتطلع إلى أي مؤيد عادي بل نحو مؤيد قوي لمساعدته في تدعيم مركزه والحؤول دون وقوع أية كارثة مقبلة به وبكرسيه .  تطلّع وهو في غمرة هذه الورطة إلى كنيسة روما ، التي كانت تـشترك معه في إيمان خلقيدونية ، فخطط لدعوة البابا أغابيتس (535ـ536) للمجئ إلى القسطنطينية  .  وعمد لتنفيذ خطته بإيفاد سرجيوس الراسعيني (رأس العين حالياً) ، وهو علاّمة ذو شخصية أخلاقية مريبة ومن معتنقي مذهب الطبيعة الواحدة ، مع أنه كان متعاطفاً مع الخلقيدونيين ، مبعوثاً له إلى اغابيتس .  وصل سرجيوس روما وسلَّم رسالة  أفرام إلى اغابيتس ، إلا أننا نجهل مضمون الرسالة .  واكبر الظن انها كانت تحتوي على شرح للوضع في العاصمة وتستغيث بالبابا للمسارعة إلى القسطنطينية لإنقاذ الوضع .  هذا ما يؤكده استجابة اغابيتس الفورية الذي وصل إلى القسطنطينية في آذار من عام 536 .  وبالرجوع الى رواية زكريا أسقف مدللي (متيلين) يمكننا ان نقرر بان هذا هو السبب الرئيس الذي دفع باغابيتس لزيارة القسطنطينية  .  ولكن المؤرخ الالماني الكاثوليكي شارل هيفيلي يرى أن ثيوداتوس ملك القوط الشرقي هو الذي اوفد اغابيتس الى القسطنطينية لبحث شؤون سياسية مع الإمبراطور

 

إن وصول اغابيتس الى العاصمة بدَّل الوضع فيها بشكل بالغ الأثر ، لأن المرجح أنه استطاع ان يقنع الامبراطور المتردد بأن يختار بين خسارة تأييد الكنيسة الغربية بأجمعها له وبين محازبته أعداء مجمع خلقيدونية في الشرق .  كان مرد هذا إلى الحقيقة وهي أن اغابيتس كان يتكلم اللغة (اللاتينية) التي يتكلمها الإمبراطور وأنه كان الكاهن الأعلى في إيطاليا ، التي كان الإمبراطور قد احتلها ووضعها تحت سيطرته  .  ومما لا شك فيه أن اغابيتس وجد من السهولة بمكان التأثير على الإمبراطور واستمالته إلى جانبه .  كما انه رفض الشركة مع سويريوس الأنطاكي وانتيموس ، داعياً أحدهما بالفاسق والآخر بالأوطاخي بالطبع بغير حق ، وبذلك نجح اغابيتس في ” تحويل محبة الملك (الإمبراطور) نحوهما ومعاداتهما وتحريضه على طردهما من المدينة ” ( فما كان من يوسطنيان الاّ ان أقال انتيموس وعيَّن مكانه مينا ، الذي أصبح بطريرك القسطنطينية في 13 آذار 536  .  وذهب اغابيتس ، تغمره النشوة بالنصر على أعدائه أبعد من ذلك بتحريضه الإمبراطور على اعتقال سويريوس الأنطاكي وانتيموس وزعورا ، وهو ناسك سرياني ومناويءٍ صلد للخلقيدونية .  بيد أن الإمبراطور لم يفعل ذلك لانه كان قد أعطى الأمان لضيوفه .  واخيراً انتهت مناورة اغابيتس بموته المفاجئ في آذار عام  536 (52) .  ومن توّه سويريوس إلى مصر لكنه ظل يتبادل الرسائل فيما يتعلق بالإيمان مع انتيموس وتيودوسيوس حتى وفاته في 8 شباط 538

 

 

6 مجمــع القسطـنـطـينيـة لــعــام 536 م

ورسالة رهبان سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا

 

لم تغيّر وفاة البابا اغابيتس الوضع في العاصمة . فقد كان المناوئون لسويريوس الأنطاكي ، الذين ناصرهم الإمبراطور ، مصمّمين على إدانته وإدانة رفاقه . وفي مطلع أيار من عام 536 ، اجتمع المجمع في القسطنطينية بأمر من الإمبراطور حضره فقط خصوم سويريوس الأنطاكي وأنصاره ، بطرس أسقف أفاميا ، والناسك زعورا . عُقدت المحكمة التي كان غرضها الأساسي إدانة القادة ” المونوفيزيين ” الذين رفضوا مجمع خلقيدونية وفرض الإيمان الخلقيدوني بسلطة إمبراطورية عليهم وعلى كنائسهم . ويلاحظ المستشرق اي .و .بروك في هذا الصدد قائلاً بكل حقّ : ” إذا استثنينا العدد من الرسائل التي حررها سويريوس الانطاكي لا نجد فيما يتعلق بأحداث بطريركيته سوى النزر القليل من تحريضات أعدائه التي قدمت الى المجمع سنة 536 ” . وإذا أضفنا إلى هذا القول بأن نصوص اعمال مجمع القسطنطينية الذي التأم عام 536 كانت ناقصة ، متنافرة وخاطئة في العديد من المواضع ، وبأن أفضل اختيار لهذه الاعمال قد تُرك لاجتهاد محرّر القرن السابع عشر اليسوعي فيليب لابي الذي التقط منها ما وجده مناسباً سندرك عندئذ مدى الشك الذي يحيط بجوهر هذه الاعمال والوثائق التي قدمت إلى هذا المجمع وحوافزها  .

ان جلّ ما قدم إلى هذا المجمع هو بضعُ وثائق قوامها رسائل يستـشهد بها الموارنة للبرهان على أن دير مارون كان قد وجد على الأقل منذ بداية القرن السادس وبأن رهبانه كانوا خلقيدونيين . واكثر هذه  الرسائل اهمية هي التي جرى ذكرها سابقاً ، والتي رفعها رؤساء الأديرة والرهبان في سورية الجنوبية إلى مجمع 518 والتي اتهمت سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي بقتل رهبان من دير يُفترض بأنه دير مارون

 

اوردنا سابقاً جزءاً من نص هذه الرسالة مع مناقشة للظروف التي أدت إلى مقتل الرهبان والذي قام به سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي . ان كيفية معالجة مجمع 536  لهذه الرسالة مهمة جداً سيما وانها تضمنت دليلاً عارماً ضد سويريوس الأنطاكي وأحد أساقفته . ومن المدهش أن المجمع الذي افتتح جلساته في 2 أيار 536 ، لم يناقش هذه الرسالة او يكترث بها . ولو أن أعضاء المجمع ناقشوا هذه الرسالة ملياً ، لكانوا عبروا على الأقل عن صدمة أو اسى للرهبان المقتولين . بل ليس هناك من دليل بأنهم أدانوا سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي لتسببهما قتل هؤلاء الرهبان أو لمناهضتهما ايمان خلقيدونية وطومس لاون . نحن نعلم من الملحق المرفق بالرسالة أن البابا هرمزدا كان قد أدان سويريوس وبطرس بسبب أضاليلهما ( اي عقيدتهما الدينية )  لا بسبب قتلهما رهباناً أبرياء ماتوا من أجل إيمان خلقيدونية . غير ان هذا الملحق بالذات قد احتوى على ادانة أساقفة من بعض اصقاع إيطاليا إذ جاء فيه:

ليست مؤلفات سويريوس الشريرة ، والتي تجرأ فيها على شجب ايمان مجمع خلقيدونية المقدس ورسائل لاون الطيب الذكر بكلام تجديفي فحسب بل تشتمل على ادانات زعورا ومن هم في شركة معه ومع سويريوس أو الذين ظلوا ظالعين في ضلالهما

 

نعلم من هذا الملحق أن البابا هرمزدا وأساقفة من بعض اقطار إيطاليا لم يحاطوا علماً بأن مئات من الرهبان في سورية الجنوبية قد قتلوا بتحريض من سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي . وجلّ ما يحتوي عليه الملحق في الحقيقة هو أن سويريوس أدين لمهاجمته مجمع خلقيدونية والرسائل (المقصود بها طومس البابا لاون) في مؤلفاته . إن الإشارة الوحيدة إلى قتل رهبان في سورية في قرارات مجمع القسطنطينية لعام 536 هي التي احتوتها رسالة الرهبان لمجمع 518 . من المدهش حقاً ألا تحظى وثيقة تروي جريمة منكرة كهذه بمناقشة أعضاء المجلس

 

أما الوثيقة الأخرى التي يستـشهد بها الموارنة لاثبات ادعائهم فهي رسالة رهبان سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا . من المهم الملاحظة أن رسالة الرهبان إلى مجمع 518 قد ادرجت في جدول اعمال مجمع القسطنطينية عام 536 ، بينما لم تدرج فيه الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ، بالرغم من احتوائها على اتهامات مماثلة اخصّها قتل رهبان من سورية الجنوبية . والسؤال هنا هل كانت هذه الرسالة أقل أهمية من تلك الموجهة إلى مجمع 518 ، أم أن الأمر كان مجرد إهمال أولئك المسؤولين عن تقديم وثائق إلى مجمع القسطنطينية عام 536؟ ومما يستحق الذكر هو ان كلتا الرسالتين كتبهما رهبان من سورية الجنوبية كانوا على ما يظن ضحايا دسائس سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي للقيام بالمذبحة ، وأنهما تضمنتا احداثاً لها نفس الخلفيات والظروف . ومما يبعث على الدهشة أن رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا لم تدرج في مجمع القسطنطينية لعام 536 بالرغم من أنها كانت موجهة إلى حبر كنيسة روما (اي البابا) والذي كان الرهبان كما يبدو من رسالتهم الموجهة إلى هرمزدا ، يجلونه جداً . ومما يستوجب الذكر ايضا هو ان الموارنة وغير الموارنة من الكتّاب قد أشاروا إلى هذه الرسالة أو استشهدوا بها للبرهان على وجود الطائفة المارونية منذ القرن السادس والطعن بسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي واشهارهما كقاتلين ومجرمين عاديين . لذا فإن مصداقية رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا أمر ذو أهمية كبيرة لا بالنسبة للموارنة والخلقيدونيين وحسب ، بل لأولئك السريان الأرثوذكس الذين يعتبرون سويريوس الأنطاكي قديساً لا غبار عليه ، فهو موضع فخر لهم والمدافع عن ” الإيمان الأرثوذكسي للقديس كيرلس الاسكندري ”  . ولأجل إظهار مدى أهمية هذه الرسالة بالنسبة للموارنة ، فقد عمد كاتب ماروني بربطها برسالة الرهبان الموجهة إلى مجمع 518 للدلالة على أن الأحداث والظروف في كلا الرسالتين متـشابهة وبأن الكهنة الذين وقعوا كلتا الرسالتين كانوا في الغالب موارنة من سورية الجنوبية  . إلا أن ما يثير دهشتنا إلى حدٍّ كبير هو أن هذه الرسالة لم تقدم إلى مجمع القسطنطينية عام 536 أو تتم مناقشتها فيه

 

ومهما يكن من امر فالذي يظهر ان المجمع لم يكن معينا جدا بقراءة مثل هذه الرسالة بل انه لم يستمع الى قراءة رسالتين من البابا هرمزدا ، بناءً على طلب الأساقفة الإيطاليين والشمامسة الرومان حتى الجلسة الخامسة المنعقدة في 4 حزيران . إحداهما مؤرخة في العاشر من شباط ، 518 ، والتي يعتقد بعض الكتّاب خطأً بأنها جواب البابا على الرسالة التي يزعم بأن الرهبان من سورية الجنوبية قد وجهوها إليه  . أما الرسالة الثانية المؤرخة في 26 آذار521 ، فهي موجهة إلى ابيفانيوس بطريرك القسطنطينية الجديد تحتوي توجيهات تخصّ معاملة الكنيسة التي ” اضلّها ” سويريوس الأنطاكي والعمل على مصالحتها  . وبأمر من البطريرك مينا ، قرأ أمناء سر كنيسته قرارات المجمع الذي عُـقد في سورية الجنوبية عام 518 والوثائق المتعلقة به . إلا أنه لا وجود لدليل بأن رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا قد قُرأت في هذا المجمع . مما يقودنا إلى الاستـنتاج بعدم توفر وثيقة أخرى تثبت اصالة هذه الرسالة أو صحتها وبأن علينا أن نعتمد كلياً على البرهان الضمني لنص رسالة الرهبان إلى هرمزدا

 

تستهل رسالة الرهبان إلى هرمزدا بالعبارة التالية : ” إلى هرمزدا السامي القداسة والتبجيل ، بطريرك المسكونة جمعاء ”  . واول ما يسترعي الانتباه هو عدم وجود دليل على أن ايّ من باباوات روما قد اتخذ يوماً مثل هذا اللقب أو وافق عليه . كان الباباوات قبل القرن السادس يدعون إما بالأساقفة أو بكبار كهنة روما . والحقيقة ان مجمع القسطنطينية عام 536 اشار إلى البابا هرمزدا بكونه ” المدبر الرسولي ”  . ولكن إطلاق لقب ” بطريرك المسكونة ” على هرمزدا يدلّ إما على أن الرهبان كانوا يجهلون الأعراف الكنسية أو أن أحداً ما دسَّ هذا اللقب للبرهان على أنه كانت للبابا السيادة على كل العالم المسيحي . إلا أن هناك دليل على أن لقب ” بطريرك ” كان يستعمل حصراً لبطريرك أنطاكية ، بينما كان لقب بابا يستعمله أساقفة الاسكندرية الأقباط وبعدئذ ، في القرن السادس ، بدأ أساقفة روما باستعماله اعتباطاً . أما الأساقفة الآخرون ، كأساقفة القسطنطينية وأورشليم ، فكانوا يدعون فقط برؤساء الأساقفة  . هناك دليل أيضاً على أن بطريرك القسطنطينية يوحنا الثاني ، الكابادوكي (518ـ520) كان يُخاطب في بداية القرن السادس على أنه بطريرك مسكوني أو بطريرك المسكونة  ، وأن البابا لاون الأول قد اعترض على هذا اللقب

 

وحسبما يقول البابا غريغوريوس الكبير والبابا لاون التاسع بأن مجمع خلقيدونية أنعم بلقب البطريرك ” المسكوني ” على البابا لاون الأول إلا أن البابا وخلفاءه رفضوا هذه التسمية غير المناسبة . وبالرغم من أن قرارات مجمع خلقيدونية ورسائل البابا لاون صامتة حول هذه النقطة ، فهناك دليل وافر على أن الباباوات الذين خلفوه رفضوا هذه التسمية  . كما اعترض باباوات روما أيضاً على استعمال بطريرك القسطنطينية لقب بطريرك المسكونة ، وقد احتدم الجدل بشأنه بين كرسي روما وكرسي القسطنطينية

 

وفي عام 587 ، التأم مجمع في القسطنطينية برئاسة يوحنا الصائم ، بطريرك القسطنطينية ، وأنعم رسمياً بلقب بطريرك المسكونة على بطاركة القسطنطينية . ولكن بيلاجيوس الثاني ، بابا روما ، اعترض على التئام المجمع دون معرفته وجادل بشأن استعمال بطاركة القسطنطينية لقب ” مسكوني ” . كما أوعز إلى نائبه في القسطنطينية بأن يتوقف عن شركة يوحنا ما لم يتخلَ عن لقبه . بالطبع رفض يوحنا التخلي عن لقبه هذا مما حدا ببيلاجيوس بإحالة المسألة إلى بطاركة الاسكندرية وأنطاكية الخلقيدونيين . وفي الوقت نفسه كتب بيلاجيوس رسالة إلى يوحنا قال فيها بأنه ما من بطريرك استعمل في أي وقت من الأوقات ” لقباً  تجديفيا ” كهذا  . كما اعترض أيضاً خليفته غريغوريوس الأول (590ـ604) على استعمال هذا اللقب . ويروي غريغوريوس بأن البطريرك ، يوحنا القسطنطيني سمى نفسه ” الأسقف المسكوني ”  في المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 578 . ثمّ يستـشهد البابا بتصريح غريغوريوس ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني في ذلك المجمع قائلاً : ” نحيطكم علماً أيها الأخوة أن يوحنا القسطنطيني ، كان في مجمع القسطنطينية يتصرّف بكونه مسكونياً متكبراً مفسداً للأخلاق ”  . أي أنه اغتصب لقب مسكوني . وفي رسالته إلى يوحنا القسطنطيني ذاته ، يعترض البابا غريغوريوس الاول مرة أخرى على لقب “مسكوني” فيقول : “خوَّل يسوع القديسَ بطرس السلطة ، ومع ذلك لم يُدع بطرس رسولاً مسكونياً . مع ذلك نجد أن هذا الإنسان القديس ، زميلي الكاهن يوحنا ، يحاول أن يدعو نفسه بالأسقف المسكوني . إنني مرغم على الصراخ قائلاً : ” تبّاً لهذا الزمان ، تبّاً لهذا التصرف ”

 

تدلّ هذه الشهادات على أنه ليس واحداً من أسلاف البابا غريغوريوس استعمل مثل هذا اللقب ، وإلا لما اعترض غريغوريوس نفسه عليه بهذه الشدة . والنقطة الاساسية هنا هي أن لقب ” بطريرك المسكونة ” لم يكن متداولاً أو معروفاً في عام 517 ، عندما كتبت رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا ، وربما تكون التسمية قد اضيفت في وقت متأخر  . وتمضي مقدمة الرسـالة فتصف هرمزدا بأنه ” مالك كرسي بطرس ، هامة الرسل ” . وهذا واضح في صلب الرسالة حيث يخاطب الرهبان هرمزدا قائلين : ” ألا انهض أيها الأب القديس وتعال لإنقـاذنا ، ثبت عينيك على بطـرس هامة الرسـل ، أنت يا من تحتل كرسيه ”  . وهنا لا نريد ان نبحث شرعية التقليد البطرسي الذي تلتزمه كنيسة روما وتاريخيته ، ولكن بقدر ما يسعنا تأكيده ، فإن تقليد كنيسة أنطاكية يدل على أن القديس بطرس أسس كنيسة أنطاكية وكان أول أسقف لها  . ولا ادلّ على ذلك من ان البابا انوسنت الأول (402ـ 417) يقول في رسالته إلى اسكندر بطريرك أنطاكية ، أن القديس بطرس ، هامة الرسل ، كان أول من تبوأ كرسي أنطاكية  . وهناك دليل قاطع على أن كنيسة روما تحتفل بتأسيس القديس بطرس لكرسي أنطاكية في 22 شباط من كل عام  . فضلاً عن ذلك ، يبدو من مخطوطة سريانية تعود الى القرن الخامس او أوائل القرن السادس أن أنطاكية ، وسورية ، وكيليكية ، وغلاطية وحتى بلاد البنط قد تلقت الكهنوت من سمعان كيفا (القديس بطرس) ، الذي أرسى أساس الكنيسة وبنى كنيسة في أنطاكية( والأكثر اهمية لما نرمي إليه هو أن ادعاء الرهبان الذين كتبوا الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ووقعوها ، سواء كانوا موارنة ( أي من دير مارون ) أم رهباناً من سورية الجنوبية ، بأن البابا هرمزدا كان ” المتربع ” على كرسي بطرس أو ” من يحتل ” هذا الكرسي هو ادعاء واهٍ لا يستند على اساس تاريخي  . لأن الرهبان الذين عاشوا في سورية الجنوبية كانوا بحسب القانون الكنسي خاضعين لسلطة كرسي أنطاكية وبطريركها . بل كان هذا البطريرك أعلى سلطة يتطلع إليها هؤلاء الرهبان مع آلاف الرهبان في الأديرة في جميع أنحاء سورية لأجل القيادة والإرشاد . وليس هناك من دليل على أن هؤلاء الرهبان قد تطلعوا إلى روما او زعامتها

 

قد لا يكون بوسعنا أن ندرك النوايا الحقيقية لهؤلاء الرهبان ، ولكن يمكننا ان نستـنتج من هذه القصة أن باباوات روما والبطاركة الموارنة معاً يدّعون بأنهم وحدهم يتربعون على كرسي بطرس  . والأكثر من ذلك ، فانه من غير المحتمل ألا يكون أولئك الرهبان ، أو على الأقل بعضٌ منهم ، وكذلك رئيسهم على معرفة بالجدل الذي قام بين روما والقسطنطينية حول القانون الثامن والعشرين لمجمع خلقيدونية ، والذي منح كرسي القسطنطينية امتيازات كافية تجعله اكبر منزلة من كرسي روما . ولهذا اعترض البابا لاون الأول على هذه الامتيازات . وفي رسالته إلى الإمبراطور مرقيان ، المؤرخة في 22 أيار 452 ، كتب بأنه من غير الممكن ان يستخدم أناطاليوس ، بطـريرك القسطنطينية هذه الامتيازات لإلحاق الاذى برؤساء الكنائس الأخرى . ونبّه لاون الإمبـراطور بأن امتيازات الكنائس التي ” حددتها قـوانين الآباء القديسين والتي اثبتتها مراسيم مجمع نيقية الموقر ، يجب ألا تداس ظلماً او يصيبها التغيير لمجرد ابتداع آراء جديدة ”  . كما طلب البابا من الإمبـراطور بألا يؤيد ” محاولات أناطاليوس الآثمة التي تشكل خطراً على الوحدة المسيحية والسلام المسيحي وبأن يكبح رغبته الشريرة إذا ما تمادى بها ”  . يمكن للمرء أن يعترض بالقول بأن هؤلاء الرهبان (كما يظهر من الرسالة المزعومة الموجهة إلى هرمزدا) كانوا قد أوفدوا أولاً اثنين من الرهبان يدعيان يوحنا وسرجيوس لعرض قضيتهم على الإمبراطور أناستاسيوس . ولما لم يعرهما الإمبراطور انتباهه بل طردهما لم يجد هؤلاء الرهبان جميعاً مناصاً سوى الالتجاء الى البابا هرمزدا طلباً للمساعدة . ومن المهم معرفته هنا هو ان العلاقة بين الإمبراطور أنستاسيوس والبابا هرمزدا كانت متوترة جداً كما تدل عليه الرسائل المتبادلة بينهما . كما ان العلاقة بين القسطنطينية وروما كانت بدورها متوترة ولم تعد إلى طبيعتها الى ان ارتقى يوسطين الأول العرش عام 518 . ولما كان يوسطين لاتينياً ومناصراً قوياً لمجمع خلقيدونية صمم على المصالحة مع هرمزدا

 

يضع أحد الكتّاب المعاصرين التماس الرهبان من سورية الجنوبية الموجه إلى هرمزدا في سياق مختلف كلياً لكنه أكثر قابلية للتصديق . يقول بيتر شرانس ، الذي اسهب في دراسته لسياسة أنستاسيوس الدينية بأن العلاقات بين سويريوس الأنطاكي وبعض أساقفته كانت متوترة وبأن العديد منهم رفضوا قبول سلطته . كما ان الإمبراطور وان كان قد انحاز إلى جانب سويريوس لكنه رفض في إحدى المرات استعمال سلطته الإمبراطورية لإرجاع الأساقفة المنشقين إلى النهج القويم . حاول أنستاسيوس تحسين علاقاته مع البابا هرمزدا وكان يتوقع وفداً من روما . إلا أن الجهود الرامية للمصالحة من جانب الإمبراطور لم تغير من موقف سويريوس حيال الأساقفة المنشقين وهذا ما أدى في النهاية إلى اتجاه العديد من الكنسيين من سورية الجنوبية إلى روما وتوقيعهم على Libellus وهو اعتراف هرمزدا الإيماني الذي لم يحرم فيه هؤلاء الأساقفة فقط مناوئي مجمع خلقيدونية بل حرموا أيضاً القادة الذين كانت لهم يد في انفصال بطريركية القسطنطينية عن روما  . ربما يبدو موقف سويريوس الانطاكي من الأساقفة المنشقين الذين حاول أن يرجعهم إلى الطاعة عن طريق الصبر وتطبيق القوانين الكنسية على شيء من الصلابة . ولكن الاكثر أهمية هو أن شرانس ، الذي كان قد درس الوضع الديني في عهد أنستاسيوس بشكل واف ، وبالاخص اهتمام العلاقات المتوترة بين سويريوس الأنطاكي ورهبان وأساقفة سورية الجنوبية لا يُـشير أبداً ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، إلى رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا والتي يتهمون فيها سويريوس وبطرس الأفامي بقتل 350 راهب منهم . كما أن المؤرخ أ . أ فاسيلييف ، الذي اشبع هذا الموضوع درساً وتمحيصاً لا يذكر أيضاً هذه الرسالة أو محتوياتها  . اليس هذا مدعاة للغرابة ؟ أما التـفسير الوحيد لصمت هؤلاء الكتّاب بخصوص هذه الرسالة فهو أنهم ربما اعتبروها عرضة لانتقاد شديد بحيث لا تستحق الانتباه . والأكثر غرابة من ذلك هو عدم قيام أي كاتب ، وخاصة بيتر شرانس بالإشارة إلى أن رهبان سورية الجنوبية قد ارسلوا مبعوثين يدعيان يوحنا وسرجيوس إلى الإمبراطور أناستاسيوس للشكوى من جرائم سويريوس الأنطاكي وأسقفه بطرس المزعومة ، أو أن الإمبراطور أهان هذين المبعوثين وطردهما . من المدهش أن تُترك مسألة هامة كهذه دون تدوين رسمي أو سواه ما عدا ورودها في هذه الرسالة . ومما يدعو إلى المزيد من الدهشة أن رسالة ” هامة ” كهذه قد فاتت انتباه الكتّاب اجمعين منذ عام 517 وحتى القرن السابع عشر

 

والآن نصل إلى الجزء الحاسم في رسالة الرهبان إلى هرمزدا حيث يدّعي الرهبان الذين وقعوا الرسالة بأنهم هوجموا في الطريق إلى دير القديس سمعان العمودي في أمر يخص الكنيسة . يقول الرهبان :

هاجمنا سويريوس وبطرس الوقحين في الطريق وقتلا ثلاثمائة وخمسين منا وجرحا آخرين . اما الذين تمكنوا من اللجوء إلى المذبح المقدس فقد ذُبحوا فوراً وأُحرق الدير . هذان الرجلان المتوحشان ذاتهما طردا ليلاً عدداً كبيراً من الناس الذين اصابهم الرعب وآخرين استبقوا على حياتهم بدفعهم الفدية ، بينما كانا في هذه الأثناء ينهبان الممتلكات الضئيلة  للكنيسة

 

تدل هذه الرسالة على أن سويريوس وبطرس لم يتهما فقط بقتل 350 راهباً ، بل أيضاً بجرح آخرين وحرق الدير وتهديمه . ان الرسالة لا تذكر هذا الدير بالاسم ، لكن يظهر من السياق أنه دير القديس سمعان العمودي . فضلاً عن ذلك ، كما يُزعم ، قد تمّ قتل العديد من الرهبان الآخرين الذين تمكنوا من اللجوء إلى المذبح المقدس لذلك الدير . واذا عدنا الى رسالة الرهبان إلى مجمع 518 نجد انها تضيف جرائم اخرى منها أن سويريوس وأسقفه بطرس استخدما يهوداً وعواماً ورهباناً تحت أمرتهم لمهاجمة الرهبان وقتل بعضهم وأسر البعض الآخر . وبعد تجريدهم من ملابسهم اخذوا باستعراضهم علانية أمام الملأ . (تمَّ الاستـشهاد بجزء كبير من هذه الرسالة في الفصل السابق)

 

هذه ” الجرائم ” المنسوبة إلى سويريوس الأنطاكي وأسقفه ليست جرائم تافهة . فنحن هنا نواجه عدداً من الجرائم المنكرة ذهب ضحيتها أناس أبرياء بالاضافة الى نهب كنائس والقيام باعمال منافية للاخلاق كاستخدام عاهرات لشبان متهورين من خارج الدير . من الصعب جداً تصديق أن هذه الجرائم ارتكبتها شخصيات كنسية شهيرة مثل سويريوس وبطرس وفي الوقت نفسه لم تعر انتباه السكان والسلطات في سورية أو انتباه السلطات المدنية في القسطنطينية . ومما لا سبيل إلى تصديقه ايضاً هو أن هذه الجرائم فاتت انتباه خصوم سويريوس الأنطاكي ، اخصهم اعداؤه من الكتّاب والكهنة الخلقيدونيين . والاكثر من ذلك فانه من المحال التصديق أن يكون سويريوس الأنطاكي قد ذهب إلى القسطنطينية بدعوة من الإمبراطور يوسطنيان الخلقيدوني النزعة ومع ذلك لم يكترث الإمبراطور أو أعداء سويريوس بإثارة موضوع هذه الجرائم أو مواجهته بها ، بالرغم من أنه مكث أكثر من سنة في القسطنطينية مغادراً إياها فقط قبل وقت قصير من انعقاد المجمع في تلك المدينة عام 536  . والامر الذي لا يمكن تصديقه اكثر من ذلك هو أن الإمبراطور يوسطنيان الذي دعا سويريوس إلى العاصمة لمناقشة وحدة الكنائس ، لم يكن يدري أن يدي هذا البطريرك المسن كانتا ملطختين بدماء بريئة . إلا أن هناك دليلاً أن الإمبراطور ، ولأسباب عقائدية دينية بحتة ، نشر في السادس من آب 536 ، مرسوماً عاماً ( مرسومه الجديد الثاني والأربعين ) يدين فيه سويريوس ، وانتيموس ، وبطرس الأفامي وزعورا ، ويعرضهم وأنصارهم لأقصى العقوبات . إضافة إلى ذلك ، أمر الإمبراطور بأن يقوم كل من اقتنى كتب سويريوس الأنطاكي بإحراقها . كما أمر بمصادرة منزل ومقتنيات كل من استقبل سويريوس ، وانتيموس ، وزعورا وبطرس أو أنصارهم في منزله وتسليمها إلى الكنيسة  . من الغريب جداً أن يغفل الإمبراطور الذي اطلق مثل هذا الحكم القاسي على سويريوس وبطرس الأفامي الإشارة إلى الجرائم الفظيعة التي يُـزعم بأنهما قد ارتكباها

 

إن السؤال الآخر الذي يتبادر الى الذهن هو كيف يمكن لجرائم منكرة كهذه أن تغرب عن بال المؤرخ إيفاغريوس . يعتبر إيفاغريوس ذا أهمية كبرى في ما يخصّ موضوعنا لعدة اسباب . فقد كان سريانياً ومن أهالي ابيفانيا (حماه حالياً في سورية) وهي غير بعيدة عن أفاميا ، كرسي بطرس الأسقفي . بعبارة أخرى وُلد وترعرع في سورية الجنوبية حيث عاش مارون . وفي ايام شبابه زار ايفاغريوس افاميا في صحبة أبويه  لمشاهدة عرض خشبة الصليب المقدس . كان يعرف أنطاكية جيداً كما زار القسطنطينية . من ناحية المهنة كان محامياً ومن الناحية العقائدية كان خلقيدونياً ولم يكن بحال من الأحوال متعاطفاً مع سويريوس الأنطاكي ومن هم من عقيدته  . عاش في الواقع في فترة قريبة جداً من مسرح الأحداث في سورية عندما كان سويريوس بطريركاً لأنطاكية (512ـ518) . وكان مولده عام 536 ، وهو نفس العام الذي أعلن فيه المجمع المنعقد في القسطنطينية إدانة سويريوس وبطرس الأفامي ، وإحراق مؤلفات سويريوس . نعلم من تاريخ أيفاغريوس بأنه بدأ كتابته عام 593 حيث كان هناك العديد من الناس في زمنه الذين شهدوا تعاقب الأحداث في سورية منذ الزمن الذي كان فيه سويريوس بطريرك أنطاكية على قيد الحياة . يقول أيفاغريوس في العـديد من المواضع ، بأنه تلقى معلوماته كما ” نقلت إلينا من آبائنا ” أو ” نقلت إلينا ممن جعلوها محط انتباه ”  . لذا يبدو أن هناك ما يدفع على الاعتقاد بأن أيفاغريوس هو مؤرخ معقول الكلام حي الضمير

 

بحث إيفاغريوس في ارتقاء سويريوس السدة البطريركية والتوتر الذي نشب نتيجة للاختلافات الحاصلة بينه وبين بعض الأساقفة الخاضعين لسلطته حول مجمع خلقيدونية . كتب سويريوس وفقاً للقانون الكنسي ما كان يدعى آنئذٍ برسائل ” مجمعية ” أو ” تـنصيبية ” (مماثلة لخطاب التتويج الملكي) إلى سائر أساقفته طالباً منهم الامتثال لعقيدته المخالفة لعقيدة خلقيدونية . ويقول إيفاغريوس في هذا الصدد أن بعض الأساقفة الخاضعين لأنطاكية أرغموا على الامتثال كمارينوس أسقف بيروت؛ كما “وافق آخرون بالقوة والإكراه على رسائل سويريوس المجمعية”  . ويستمر إيفاغريوس قائلاً بأن أساقفة آخرين ، بعد ان ادلوا بموافقتهم بالإكراه ، ” سحبوها ومن بينهم الأساقفة الخاضعون لأبرشية أفاميا ”  . أما الآخرون الذين اختلفوا مع سويريوس فقد تخلوا عن كنائسهم (جوليان أسقف بصرى ، على سبيل المثال ، وبطرس الدمشقي)  . هنا نجد إيفاغريوس يستعمل تعابير ” القوة والإكراه ” بكونها استخدمت لحمل الاساقفة على الاذعان للرسائل المجمعية التي وجهها البطريرك ، لكنه لا يُـشير أبداً إلى استعمال العنف الجسدي أو إلى إراقة الدماء . ومع ذلك يحاول الكاتب المعاصر كلانفيل داوني ، الذي يستـشهد بإيفاغريوس بهذا الخصوص ، بقوله بأنه يظهر بأن إيفاغريوس كان يعني بتعبيري ” القوة ” و ” الإكراه ” العنف الجسدي ، بالرغم من أن نصه يبدو بأنه ينطوي على استعمال التعبير biai kai anagkei . إن داوني في قوله ” أن هناك سبباً وجيهاً يدعو إلى الاعتقاد بأن سويريوس واتباعه قد استخدموا العنف الجسدي ضد مناوئيهم ”  ، يبدو مغالياً في وصف حقيقة الوضع . اليس من الغريب أن إيفاغريوس الذي اتهم سويريوس الأنطاكي باستعمال القوة والإكراه ضد معارضيه ، لم يذكر شيئاً حول دور سويريوس في مقتل ثلاثمائة وخمسين راهباً ؟ واكثر من ذلك ليس لدينا دليل على أن من شهدوا هذه المجزرة ، أو على الأقل سمعوا بها قد نقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم . بل لم يقم ، في الواقع أي مؤرخ كنسي أبداً وخاصة ثيوفانس ، الذي لم يكن متعاطفاً مع سويريوس ، بذكر هذه المذبحة . من المعروف تاريخياً ان خبر هذه المجزرة اثير لأول مرة في أواخر القرن السابع عشر ، عندما بدأ بعض الكتّاب بالإشارة إليها . حتى العلاّمة يوسف السمعاني (1688ـ1768) ، وهو خلقيدوني صلب وأسقف ماروني ، وهو من يصفه الكاتب الماروني رشيد الشرتوني بـ ” سلطان العلماء ” كان صامتاً على ما يظهر حول هذه المسألة  . فضلاً عن ذلك ، لا يمكننا أن نغفل رأي الكاتب الكاثوليكي السرياني المطران اقليميس يوسف داود الذي يصف سويريوس الأنطاكي بـ ” الملحد السيء السمعة ”  . فقد ذكر داود بالفعل رسالة الرهبان الموجهة إلى هرمزدا مرة واحدة فقط . ولم يـشر إلى مقتل350 راهباً . والحقيقة ان داود يورد جزءاً من الرسالة فقط لغرض تفنيدها  . ومهما يكن من امر فان البطريرك اسطفان الدويهي (ت 1704) كان احد أوائل الكتّاب الذين استـشهدوا بهذه الرسالة للبرهان على أن دير مارون كان موجوداً منذ القرن الخامس وبأن قاطني الدير اضطهدوا بسبب دفاعهم عن ” المجمع المقدس ”  ، ويعني به مجمع خلقيدونية . هناك كاتب آخر من أوائل من أشاروا إلى المذبحة المزعومة لهؤلاء الرهبان وهو المؤرخ الانكليزي أدوارد جيبون ( 173ـ1794) الذي كتب عن اسباب سقوط الامبراطورية البيزنطينية . يقول جيبون أن ” طاغية سورية ، (يعني سويريوس) ، قد فرض عقيدته بالقوة وكان حكمه ملطخاً بدم ثلاثمائة وخمسين راهباً ، قتلوا بدون استفزاز او مقاومة تحت أسوار أفاميا ” . إن جيبون لا يقدم مصدراً لقوله هذا لكن محرره يحيلنا إلى رسالة رهبان سورية الجنوبية الموجهة إلى البابا هرمزدا  . وبما ان جيبون لا يُضيف اية معلومات حول هذه القضية لذا كان من الصعب قبول قوله . وبالرغم مما أعلنه جيبون لم يقم أي كاتب في الغرب بتحليل ونقد مصدر هذه المذبحة المزعومة وظروفها كما روتها الرسالة . غير أن بعض كتّاب معاصرين كارنست هونيغمان ، روبرت س . كروفود ، وهـ .س فريند ، فرنسيس دفورنيك وغيرهم اشاروا إلى الرسالة والحادثة المزعومة ولكن دون دراستها موضوعياً او الاعتراض على صحتها

 

 

الموارنــة والقديـــس سمعان العمــودي

 

يصرّ الموارنة على أن الرسالة التي كتبها الرهبان من دير مار مارون إلى البابا هرمزدا تفيد بأنهم لم يكونوا موارنة فقط، بل خلقيدونيين أيضاً فقدوا 350 من رهبانهم لاعتناقهم الإيمان الخلقيدوني . فقد جاء في هذه الرسالة، ان هؤلاء الرهبان فقدوا حياتهم بينما كانوا في الطريق إلى دير القديس سمعان العمودي في مهمة كنيسة . هذا ما يدل على أن سمعان العمودي، ورهبان ديره كانوا خلقيدونيين مثلهم وإلا ما كانوا ليزوروا هذا الدير . هذه بالتأكيد قضية معقدة تتطلب المزيد من الاستقراء والاثبات

 

يجب ان نعلم منذ البداية بأن الخلقيدونيين ومعارضيهم أدعوا معاً بأن القديس سمعان العمودي كان على معتقدهم . في هذا الصدد يقول الكاتب شارل س . توري، الذي قام بنشر رسائل سمعان العمودي والتعليق عليها، أن هذا الرجل القديس كان خلقيدونياً . ويصل شارل توري إلى هذه النتيجة، باستبعاد الدليل، الذي يقدمه المناوئون للخلقيدونية دون سبب مبرر، للبرهان على أن القديس سمعان كان قد أدان وحرم مجمع خلقيدونية وطومس لاون . ولكن تـفسير توري لاثبات وجهة نظره هو تـفسير واهٍ

 

إن توري مصيب بقوله بأن أيفاغريوس ادرج في مؤلفاته رسالة من القديس سمعان إلى الإمبراطور البيزنطي لاون يؤيد فيها مجمع خلقيدونية . يقول أيفاغريوس بأن في حوزته النص الكامل لرسالة القديس سمعان، إلا أنه لم يذكر منها سوى مقتطفات لأنه رآها طويلة جداً بحيث يصعب سردها كلها في تاريخه  . إلا أن المناوئين للخلقيدونية استطاعوا تقديم رسالة من نفس القديس سمعان موجهة إلى الإمبراطور لاون، تدين عقيدة مجمع خلقيدونية . في الحقيقة، نشر توري نفسه النص السرياني للرسالة الثانية مع ترجمة إنكليزية ، إلا أنه سرعان ما شجبها، كما شجب رسالتين أخريين، لانه كما يدعي كانتا ” من عمل أحد المتحزبين المغالين جرى تداولهما لتكونا سلاحاً بيد الجماعة المونوفيزية ”  . وقد اعتمد في حكمه على ما كتب في أعلى الرسالة من شرح للظروف التي كتبت فيها . وبحسب ما تورده الحاشية في أعلى الرسالة ان ثيودوريطس، أسقف قورش، ذهب لزيارة القديس سمعان لكي يقنعه بتأييد مجمع خلقيدونية . لكن القديس سمعان رفض توسلات ثيودوريطس بل كتب رسالة إلى الإمبراطور لاون يدين فيها مجمع خلقيدونية  . يروي المؤرخ السرياني ميخائيل الكبير بطريرك أنطاكية نفس الحادثة، اعتماداً على روايات مؤرخين سبقوه . فيقول، بأن ثيودوريطس عند مروره بمحل إقامة القديس سمعان، قام بزيارته لكي يقنعه بالاعتراف بعقيدة الطبيعتين في المسيح . ويردف ميخائيل الكبير قائلاً لهذا فان الموالين الخلقيدونيين نشروا شائعة بأن القديس سمعان كان قد قبل عقيدتهم لكنه يُضيف بأن القديس سمعان رفض قبول قرارات هذا المجمع، ” كما هو واضح من رسالته الموجهة إلى الإمبراطور لاون”  . كان على شارل توري أن يدرك أن ما جاء في أعلى هذه الرسالة قد كتبه أحد النسّاخ الذي كان مؤيداً لمجمع خلقيدونية وبأن الكتابة لا علاقة لها بالرسالة التي تعبر عن رفض القديس سمعان لمجمع خلقيدونية . من الممكن انه لم تتوفر لتوري في الوقت الذي كان يكتب فيه مصادر أخرى تبرهن على أن القديس سمعان لم يكن خلقيدونياً . لكن المصادر المارونية تؤيد ان القديس سمعان لم يكن خلقيدونيا

 

هناك سيرتان سريانيتان للقديس سمعان العمودي ذكرناهما سابقا: إحداهما نشرها الأب بول بيجان وترجمها إلى الإنكليزية الأب فريدريك لينت؛ أما الأخرى، ليست معروفة في الغرب، كتبها مارقولون، تلميذ القديس سمعان . توجد نسخة منها في مكتبة البطريركية السريانية الأرثوذكسية في دمشق  . في هذه السيرة، يروي مارقولون حادثة امتدح فيها القديس سمعان قداسة برصوم رئيس النسّاك السريان في الشرق، وهو مؤيد صلب لديوسقوروس الاسكندري في مجمع أفسس الثاني لعام 449، ومناوئ كبير لمجمع خلقيدونية  . يقول مارقولون أن القديس برصوم الطاهر المختار رغب في زيارة أورشليم للمرة الثانية وبأن القديس سمعان تنبأ بهذه الزيارة بوحي إلهي . ففي إحدى المرات رأى القديس سمعان رؤيا بأن برصوم كان قائماً لزيارته فروى هذه الرؤيا للناس الذين كانوا في حضرته . ولما وصل برصوم إلى مقاطعة أفاميا رأى سمعان العمودي رؤيا أخرى وأخبر الحاضرين بأنه إذا أراد أحد الحصول على بركة ذاك الرجل البار، فلينتظر لأنه سيكون هنا في غضون ثلاثة أيام . لا بل صرخ القديس سمعان بصوت عال “إن رغب أحدٌ في تلقي بركة المختار من الله، برصوم، فلينتظر حتى الساعة الثالثة من النهار وهو وقت وصوله ” . وفي الوقت المتنبأ به بالضبط، وصل برصوم الجليل إلى صومعة القديس سمعان . وعندما رآه القديس سمعان يدخل الصومعة، بسط يديه وقال : “ادخل بسلام يا خادم الله الحي، مبارك هو مقدمك وشكراً للمسيح الذي أصغى إلى ابتهالاتي واهلني أنا الخاطيء لرؤيتك ”  . ثم حيَّا القديس سمعان برصوم بفرح، مقبلاً جبهته وعينيه، وهو يسبح الله

 

للبرهان على صحة هذه القصة، لا بد لنا من الإشارة إلى تقليد الكنيسة المارونية وطقوسها، التي يؤكد كتّابها أن القديس سمعان كان خلقيدونياً، ويزعمون بأن 350 من رهبانهم قد قتلوا بسبب إيمان هذا المجمع وهم في الطريق لزيارة دير القديس سمعان . فقد جاء في فنقيث (كتاب صلوات) ماروني، نشر في روما في صلاة للمساء التي تُتلى عادة في عيد القديس سمعان العمودي كما يلي : هذا هو سمعان الذي أبعد هرطقات باطلة عن قطيعه وأبان بهتانها . هذا هو الذي رغب في لقاء القديس برصوم عندما جاء لرؤيته متـنبئاً بزيارته قبل ثلاثة أيام من وصوله

 

يتفق هذا الاستـشهاد مع القصة التي رواها مارقولون تلميذ القديس سمعان . والدليل الآخر الذي يعزز الرأي بأن القديس سمعان لم يكن خلقيدونياً فهو اعتبار الكنيسة المارونية برصوم هذا قديساً . لان تقاويم الأعياد في الكنيسة المارونية، سواء كانت على شكل مخطوطة أم منشورة في روما منذ القرن السادس عشر تعيّن الثالث من شباط عيداً تذكارياً للقديس برصوم  . هذا هو نفس اليوم الذي تحيي فيه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ذكرى نفس هذا القديس . ومما هو أبعد من ذلك، أن اسم برصوم مدرج أيضاً بين اسماء القديسين النسّاك في كتاب الليتورجيات المنشور في روما عام 1594  . نستدل من هذا أن الكنيسة المارونية، التي تجل برصوم، وهومناوئ كبير لمجمع خلقيدونية، تروي قصة زيارته للقديس سمعان العمودي، وأن القديس سمعان قد تنبأ بهذه الزيارة بوحي إلهي قبل ثلاثة أيام من حصولها . ومع ذلك، يصرّ بعض الموارنة بأن سمعان العمودي كان خلقيدونياً . لانه مما لا يحتمل التصديق أن يرحب القديس سمعان، إن كان خلقيدونياً، ترحيباً حاراً بشخص معروف بعدائه لمجمع خلقيدونية . إن المراد قوله هو أن الكنيسة المارونية منذ البداية قد بجلت برصوم واعتبرته قديساً، بينما يتهم الموارنة في الوقت نفسه سويريوس الأنطاكي بالتخطيط لقتل 350 راهباً من دير مارون . هذا امر غير معقول لان سويريوس وبرصوم كانا ينتميان إلى نفس الكنيسة ويعترفان بنفس الإيمان وكانا مناوئين شديدين لمجمع خلقيدونية

 

تدل الحقيقة التاريخية على أن دير القديس سمعان العمودي كان خاضعاً لسلطة سويريوس الأنطاكي وبأن سويريوس ورهبان القديس سمعان كانوا من نفس الإيمان . هذا ما تؤيده الرسالة التي وجهها سويريوس إلى رئيس دير السيد القديس سمعان بشأن انتهاك الأسقف نونوس للقوانين الكنسية . يُـقال بأن نونوس قد مارس ” السيمونية ” اي “المتاجرة بالمناصب الكنسية لقاء المال “، وهو ما دفع بطريركه سويريوس إلى عقد مجمع محلي للنظر في قضيته . استدعى البطريرك نونوس مراراً، إلا أن نونوس تجاهل مذكرات الحضور . وأخيراً عندما عرض عليه البطريرك مهلة عشرة أيام ثم ضاعفها للحضور أجاب نونوس بواسطة رئيس دير القديس سمعان، طالباً ألا يسمح لأي من الكهنة الذين كانوا قد رسموا نتيجة لمتاجرته بالمناصب الكنسية بحضور محاكمته . ولا بد أن البطريرك سويريوس ادرك موقفه بأنه عصيان لسلطة الكنيسة، ولذلك أحال القضية إلى السلطات المدنية في أنطاكية . وفي غضون هذا الوقت، كان سويريوس يرجو إقناع نونوس بالمثول أمام مجمع الأساقفة لمحاكمته وفقاً للقانون الكنسي وعالج هذه القضية بأكبر قدر من الأناة والفهم . لا بل أوفد شماسه أوسابيوس إلى دير القديس سمعان لكي يحث رئيس الدير، ليسرع في ارسال نونوس إلى أنطاكية، لأن الأساقفة الذين اجتمعوا في تلك المدينة لم يعد بمقدورهم الانتظار مدة اطول وكان عليهم العودة إلى أبرشياتهم

 

لو أن دير القديس سمعان لم يكن خاضعاً لسلطة سويريوس ولو أن رئيسه لم يشاركه في إيمانه، لما كانت هناك حاجة لهذا الاتصال بين سويريوس ورئيس دير القديس سمعان العمودي . ولم تكن هناك حاجة أيضاً لأن يقنع سويريوس رئيس الدير لا بل أن يرسل شماسه إلى الدير، للإيعاز لنونوس بالمثول أمام مجمع الأساقفة من أجل محاكمته . إضافة إلى ذلك، لا مبرر للترنيمة المطولة التي كتبها سويريوس في امتداح فضائل القديس سمعان . ففي نهاية هذه الترنيمة، يتضرع سويريوس إلى المخلص مستغيثاً بصلوات القديس سمعان أن يسبغ الرحمة على المؤمنين به  . وقد أضافت كنيسة أنطاكية السريانية اعترافاً منها بالإيمان العقائدي للقديس سمعان ـ أي طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي ـ في عهد سويريوس، اسم سمعان إلى (سفر الحياة) وهي تحتفل حتى هذا اليوم بذكراه  . كما ألَّف أبٌ ذائع الصيت من آباء الكنيسة السريانية، هو يعقوب السروجي ( ت 521 )، نشيداً في مديح حياة القديس سمعان النسكية . بل ان الراهب العالم السرياني يشوع الباسبريني (ت 1492)، كتب صلاة استعطافية في إحياء ذكراه  . يروي ديونيسيوس التلمحري بطريرك أنطاكية حادثة ذات مغزى كبير تعود الى أوائل القرن السابع تؤيد حقيقة احتفال كنيسة أنطاكية السريانية بذكرى القديس سمعان العمودي واعتباره احد قديسيها . يقول التلمحري بأن عصبة من البدو هاجمت المؤمنين وهم يحتفلون بذكرى القديس سمعان في ديره، فقتلت بعضهم ونهبت الدير مما جعل العديد من المسيحيين يشكّون في جدوى إيمانهم . وفي غمرة حيرتهم، تساءل المحتفون عن سبب حلول مثل هذه النائبة بهم، وخاصة أثناء الاحتفال بإحياء ذكرى القديس سمعان  . يعلق التلمحري قائلاً بأنهم لم يفهموا أن الاحتفال بذكرى القديسين في العهود الباكرة، وخاصة بالقديس الذائع الصيت سمعان، كان يجري بتسبيح روحي تام، بترتيل الترانيم وقراءة الكتب المقدسة لا بممارسة متع وعادات نابية انغمس بها الناس، من أكل وشرب ورقص مستهجن وسلوك منافٍ للآداب، لإثارة غضب الله، الذي سمح بحصول هذه المصيبة لتأديبهم  . صحيح أن القطاع اليوناني الخلقيدوني من كنيسة أنطاكية قد احتفى أيضاً بذكرى القديس سمعان واعتبره بين قديسي هذه الكنيسة . إلا أنه فعل ذلك لأنه ورث هذا التقليد عن سويريوس، تماماً كما ورث من الكنيسة تقليد تلاوة قانون الإيمان النيقاوي من بطريرك آخر لأنطاكية، هو بطرس القصَّار (471ـ488)، الذي كان متمسكاً، على غرار سويريوس، بصيغة القديس كيرلس الاسكندري في الإيمان وهي ـ طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي ـ وكان مناوئاً لمجمع خلقيدونية  . هنا لا نجد مندوحة من ان نعير انتباه كنيسة روما والكنائس الشرقية التابعة لها بأن صيغة الايمان هذه قد ايدها القانون الخامس من مجمع لاتران المنعقد عام 649 برئاسة البابا مارتن الأول بكونها تتضمن ايمان الآباء الأطهار الحقيقي المستقيم . وإليك النص الكامل لهذا القانون : ليكن محروماً كلّ من لا يعترف كما يجب بما يتفق مع الآباء القديسين وبما ينسجم مع الحقيقة، بطبيعة متجسدة واحدة لله الكلمة، على اساس أن جوهرنا يدعى جوهراً متجسداً، يتألم فقط بمعزل عن الخطيئة

 

لا يترك هذا الاعتراف مجالاً للشك بأن اعضاء مجمع خلقيدونية قد اغفلوا ارثوذكسية ” عقيدة ” القديس كيرلس الاسكندري بل اتهموا ديوسقورس بطريرك الاسكندرية، بأنه يكنّ نفس فكر أوطاخي مسجلين بذلك سابقة للخلقيدونيين في المستقبل للخلط بين ” عقيدة الطبيعة الواحدة للقديس كيرلس الاسكندري والأوطاخية ” . كما ان نص قانون مجمع لاتران المذكور يدّل دلالة قاطعة بأن كنيسة روما كانت منوفوزية تدين بنفس عقيدة القديس كيرلس الاسكندري وهي طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي

 

 

8 بطـرس القـصَّار

ونـــقاش التـقديـسات الـــثـــلاث

 

ربما كان الأكثر مدعاة الى الارباك في رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا هو القسم المذكور آنفاً في ” الفصل الخامس ” بخصوص بطرس القصَّار ، بطريرك أنطاكية وصلته بالتقديسات الثلاث. قال الرهبان في رسالتهم فيما يتعلق ببطرس :  ولكي نحيط قدس ملاككم علماً بالمعلومات الاكيدة فإننا نحرم في استرحامنا هذا بالذات ، وهو أيضاً بيان بالمعلومات ، كل أولئك الذين فُصلوا عن شركة الكرسي الرسولي. إننا نُشير إلى نسطور الذي كان أسقف القسطنطينية وبطرس الذي كان يدعى بالقصَّار .

إن ما عناه الرهبان بالكرسي الرسولي هو أن نسطور وبطرس القصّار اللذين قام الرهبان بحرمانهما كانا قد فصلا نفسيهما عن كرسي روما. وهو ادعاء يفتقر الى اساس تاريخي. ولكن النقطة المهمة في هذا الموضوع هي ليست ” انفصال ” هذين الرجلين عن كرسي روما الرسولي؛ بل قضية بطرس القصَّار وما أضافه على ما يزعم إلى التقديسات الثلاث. يتهم الخلقيدونيون ، ومنهم الموارنة المعاصرون ، بطرس القصَّار بإضافة العبارة التالية إلى التقديسات الثلاث : يا من صٌلبت لأجلنا ارحمنا. أما النص الأصلي للتقديسات الثلاث فقد كان على النحو التالي : قدوسٌ أنت الله ، قدوسٌ أنت القوي ، قدوسٌ أنت غير المائت ارحمنا . ليس المهم ان يكون بطرس القصَّار قد أضاف العبارة السابقة إلى التقديسات الثلاث مع أن هناك دليلاً قوياً حتى في المصادر الخلقيدونية بأن التقديسات الثلاث ، مع الإضافة المزعومة ، قد استعملها الشرقيون ، أي أهالي سورية قبل عهد بطرس القصَّار بسنوات عديدة. نحن نعلم من أفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني (527ـ545) ، أن التقديسات الثلاث ، ومن ضمنها عبارة ، يا من صُلبت لأجلنا ، قد استعملت في سورية قبل عهد بطرس القصَّار وكانت موجهة للشخص الثاني من الثالوث . ان أفرام الآمدي صائب في قوله. فقد اخبرنا زكريا أسقف مدللي أن عبارة يا من صُلبت لأجلنا كانت مستعملة في أنطاكية منذ القرن الرابع في زمن اسطاثيوس ، أسقف أنطاكية (325ـ330) . وبعد أكثر من قرن قام مارينوس الأفامي ، وهو مستـشار الإمبراطور أنستاسيوس وكاتم أسراره ، بحث الإمبراطور على الاشارة باستعمال عبارة ، يا من صُلبت لأجلنا في القسطنطينية وهذا يعني بأنها لم تكن مستعملة من قِـبَـل الكنيسـة في العاصمة؛ وكما يقول زكريا فان الإمبراطور قام بذلك

 

ينسب كاتب كلداني كاثوليكي ، هو الأسقف أدى شير ، استعمال التقديسات الثلاث ، ومن ضمنها عبارة يا من صُلبت من لأجلنا ، إلى رابولا ، أسقف الرها (ت 435) ، وهو أحد أتباع القديس كيرلس الاسكندري . ومهما يكن الأمر ، فإن هذا الدليل يؤيد بأن التقديسات الثلاث ، باضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا ، قد استعملتها كنيسة أنطاكية منذ بداية القرن الرابع ، قبل أن يصبح بطرس القصَّار أول مرة بطريرك لأنطاكية عام 471 بمئة وأربعين عاماً. لذا ، من الخطأ أن تـنسب إضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى التقديسات الثلاث إلى بطرس القصَّار. ومما هو أكثر أهمية ، أن الموارنة يعتبرون بطرس القصَّار هذا ذاته ” هرطوقياً ” والعبارة المضافة إلى التقديسات الثلاث ” هرطقة “. وفي هذا الصدد يجادل البطريرك اسطفان الدويهي بأن بطرس القصَّار ” بهرطقته ” الجديدة كان قد حوّل الثالوث إلى رابوع. كما يقول أن نيّة بطرس كانت استمالة المؤمنين إما إلى الإيمان بأن المسيح قد تألم في لاهوته ، أو الإيمان بوجود شخصين في المسيح ـ احدهما إلهي قدير ، والآخر ، الذي عانى الصلب والموت ، إنساني وضعيف. ويُعلق الدويهي قائلاً : عندما وصل بطرس القصَّار إلى حماه وتناهى نبأ وصوله إلى تلك المدينة إلى أسماع رهبان دير مارون ، وافقوا بالإجماع على منع يوحنا (مروَّج نص بطرس الجديد للتقديسات الثلاث) من دخول مقاطعتهم. بل طرد هؤلاء الرهبان يوحنا وأمروا بأن ترنم التقديسات الثلاث في صلوات الصباح والمساء وفقاً للصيغة التي كانوا قد تلقوها من الآباء الأوائل للكنيسة. كما أمروا بأن يكون لمجمع خلقيدونية نفس شأن مجامع نيقية والقسطنطينية وأفسس

 

لا يترك الدويهي مجالاً للشك بأن بطرس القصَّار لم يكن فقط ” هرطوقياً ” بل حاول نشر نصه ” الهرطوقي ” للتقديسات الثلاث ، المتضمن لعبارة يا من صُلبت لأجلنا ، في الكنيسة. من المدهش حقاً أن هؤلاء الرهبان شجبوا بطرس القصَّار في رسالتهم الموجهة إلى البابا هرمزدا ، على أنه ” هرطوقي ” بينما يبرهن تقليد الكنيسة المارونية بأجمعه أن رهبان دير مارون استعملوا التقديسات الثلاث في الصيغة التي يُزعم بأن بطرس القصَّار قد بدأ باستعمالها أي ، المتضمنة عبارة يا من صُلبت لأجلنا ارحمنا. وهنا يبدي المطران السرياني أقليميس يوسف داود ملاحظة بالقول أن هؤلاء الرهبان ليسوا برهبان دير مارون الذي هو قيد البحث ، أو أنهم كانوا أناساً لا مبدأ لهم . يتابع داود القول بأن هؤلاء الرهبان كانوا ينتمون إلى دير بنفس الاسم لا للدير الذي يعتبره الموارنة ديراً لهم. يتكهن داود أبعد من ذلك قائلاً بأن رهبان مارون هؤلاء قد يكونون أرثوذكسيين ، بمعنى خلقيدونيين ، لكنهم أصبحوا في الفترة التالية للمجمع الخامس (553) ، مناوئين للخلقيدونية (أي ، سرياناً أرثودكس “يعاقبة”) حيث تبنوا المونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) ، مازجين بذلك في طقوسهم بعض العقائد ” اليعقوبية ” والنسطورية. وفي أجيال لاحقة ، كما يقول داؤد انضموا إلى كنيسة روما ، مع أنهم احتفظوا بالعديد من معتقداتهم السابقة. تعتبر هذه المعتقدات ، فيما عدا الاعتراف بإيمان خلقيدونية ، معتقداتٍ مطابقة بمعتقدات ” اليعاقبة “. ويستمر داؤد لتأييد رأيه قائلاً بأن يوحنا مارون يستشهد في كتابه عن الايمان ” بالملحد سويريوس السيء السمعة ” ويعني بهذا بطريرك أنطاكية . يحاول  داود الإثبات بأن الادعاء بأن رهبان دير مارون كانوا خلقيدونيين ، يتعارض مع الحقيقة وهي ان الكنيسة المارونية تستشهد بآراء عدو لمجمع خلقيدونية في المسائل العقائدية. مهما يكن الأمر فلا مبرر لأن يصف  داود سويريوس الأنطاكي بأنه ” ملحد ” وبينما كنيسته السريانية نفسها تفتتح حتى اليوم خدمة القداس بتلاوة معنيث (نشيد) مار سويريوس ومطلعه ” اعظمك ايها الملك الابن وكلمة الاب السماوي الخ …”.

 

يورد بعض الموارنة تـفسيراً مختلفاً لاستعمال التقديسات الثلاث ليثبتوا تمسكهم بكنيسة روما. ومن هؤلاء المطران يوسف الدبس الذي اعترف بأن الموارنة استعملوا في كتبهم الكنسية التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا  ، لكنه يحاول الجدل بأنهم استعملوها فقط بمدلول ” كاثوليكي ” ـ أي ، بتوجيه هذه العبارة إلى الشخص الثاني في الثالوث ـ المسيح . ويردف قائلاً أن التقديسات الثلاث في هذه الصيغة لم تستعمل من قِـبَـل الموارنة بشكل متعمد وبأن الأحبار الرومان سمحوا باستعمالها فقط إن كان المقصود بها أن تكون موجهة إلى السيد المسيح. ويستـشهد المطران الدبس بأفرام الآمدي ، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني ، الذي يبين ، في دفاعه عن مجمع خلقيدونية وطومس لاون ، أن الشرقيين (أهالي سورية وأنطاكية) وجهوا عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى المسيح وحده ، وهذا أمر مسموح به ، بينما رفض أهالي القسطنطينية العبارة لأنهم اعتقدوا بأن المقصود بها هو الثالوث بأجمعه. وبناء على هذا الرأي ، ينتهي الدبس إلى القول بأن استعمال هذه العبارة بأي من هذين المعنيين هو استعمال أرثوذكسي . واذا عدنا الى المؤرخ أيفاغريوس نجده يقول بأن العديد من الناس في القسطنطينية اعتبروا الإضافة إلى التقديسات الثلاث أمراً مستـنكراً لاعتقادهم بأنها موجهة إلى الثالوث بأجمعه ، مما يعني بأن لاهوت المسيح قد تألم وعانى الموت (عقيدة مؤلهي اللاهوت) (

 

إن ما يستأثر بالاهتمام هو أن المطران الدبس يستشهد بكتّاب مناوئين للخلقيدونية (على سبيل المثال ، الحبر السرياني الذائع الصيت يعقوب السروجي للبرهان على أن استعمال التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا كان استعمالاً أرثودكسياً . ويحاول على غرار العديد من الكتّاب الخلقيدونيين ، خطأ بالطبع أن ينسب ” الهرطقة ” الى بطرس القصَّار ، بقوله أنـه استعمل الإضافة الى التقديسات الثلاث بمعنى مقسم للإله . ولن يفوتنا ان نذكر بان المؤرخ اللاهوتي الالماني الكاثوليكي هيفيلي ايضاً على خطأ في القول بأن بطرس القصَّار ، سعياً وراء تعزيز الجماعة المونوفيزية (المناوئة لمجمع خلقيدونية) قد أدخل إلى التقديسات الثلاث عبارة يا من صُلبت لأجلنا . لقد بيَّنا بأن كنيسة أنطاكية استعملت التقديسات الثلاث مع هذه العبارة قبل أن يصبح بطرس القصَّار بطريركاً على أنطاكية عام 471 بأكثر من قرن من الزمان. ويتابع هيفيلي شرح الكيفية التي استعملت فيها هذه الإضـافة إلى التقديسات الثلاث بالمعنيين الأرثودكسي واللاأرثودكسي فهو يقول : ” بوسعنا القول (Per communicationem idiomatum) ( اي بالمدلول اللغوي كمجرد إصطلاح لا يفهم منه انه ذو معنى مستقل بذاته ) دون ثمة اعتراض على تعبير ” الله صُلب “. ولكن عندما يرد مصطلح ” صُلب ” او يا من صلبت لاجلنا في التقديسات الثلاث ، حينئذٍ يكون معناه أن الآب مع الابن والروح القدس قد تألم أيضاً ” على الصليب ” .

يضيف هيفيلي الى رأيه المزيد من التعقيد بقوله بأن امتداد الألم إلى الآب والروح القدس بالنسبة للأوطاخيين هو أمر ” متلائم مع إيمانهم بأنه لم تكن في المسيح بعد الاتحاد سوى طبيعة واحدة ، وهي الطبيعة الإلهية ” . الأمر ليس كذلك. إذ لم يسبق لبطرس القصَّار يوماً أو لكنيسة أنطاكية السريانية التي كان ينتمي إليها التمسك بعقيدة أوطاخي. والحقيقة هي ان هذه الكنيسة تدين أوطاخي بالهرطقة ولاهوتها قائم بشكل أساسي على عقيدة القديس كيرلس الاسكندري ، الذي جاهر بكل اصرار بأنه لم تكن بعد اتحاد طبيعتي المسيح ، اللاهوتية والناسوتية ، سوى طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي. وهذا مناف لرأي أوطاخي القائل أنه بالرغم من أن المسيح كان إلهاً تاماً وإنساناً تاماً ، فإن جسده لم يكن متساوياً في الجوهر (أي من نفس الجوهر) معنا. والذي يعنيه أوطاخي بهذا القول أن طبيعة المسيح البشرية استوعبت فقط طبيعته الإلهية ولم تتحد معها بحيث لم تكن للمسيح سوى طبيعة واحدة إلهية مع جسد بشري هو بمثابة بطانة للطبيعة الإلهية . لذلك ، من الخطأ اتهام بطرس القصَّار باستعمال الإضافة إلى التقديسات الثلاث بالمدلول الذي يوحي بأن الذات الإلهية بأجمعها قد عانت الصلب والموت. ولكن المشكلة هي أن هيفيلي وغالبية الخلقيدونيين قد خلطوا بين الأوطاخية وعقيدة القديس كيرلس اللاهوتية واصمين إياهما بالمونوفيزية. إن كنيسة أنطاكية السريانية قد وجهت على الدوام التقديسات الثلاث ومن ضمنها عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى المسيح ، الشخص الثاني في الثالوث. يقول ديونيسيوس ابن الصليبي (ت 1172)  بخصوص التقديسات الثلاث : يُعرف مما يلي بأن هذه التقديسات الثلاث تُـشير إلى الابن الذي تليق به؛ وهي معروفة بقولنا ” قدوس أنت أيها الله الابن ” لانه تجسد مع بقائه إلهاً؛ ونقول “قدوس أنت القدير” لانه لبس جسدنا الضعيف مع أنه بقي قديراً في ألوهته؛ ونقول ” قدوس أنت السرمدي ” ، لأنه مات بالجسد مع أنه بقي سرمدياً كالله .  وإثباتاً لدعواه ، يستـشهد ابن الصليبي باللاهوتي الكبير القديس غريغوريوس النزينزي (ت 389) حول الفصح الذي كتب أن الله صار جسداً وصُلب ومات

 

هنا نخلص إلى القول بأن بعض الرهبان من سورية الجنوبية قد حرموا بطرس القصَّار في رسالتهم إلى البابا هرمزدا بسبب اضافته المزعومة الى التقديسات الثلاث ، بينما قبلوا هم وبقية الكنيسة ، فيما عدا أهالي القسطنطينية ، التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة وهي يا من صُلبت لأجلنا. وسوف نرى بعدئذ أن الكنيسة المارونية استمرت ، حتى أواخر القرن السادس عشر بترنيم التقديسات الثلاث مع هذه الإضافة

 

 

9 الموقعون على رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا

والوثائــق ذات الـصلة من المجمع

 

لدى وصولنا إلى نهاية رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا نجد قائمة بالتواقيع مرفقة بها ، اولها توقيع اسكندر الذي يدعو نفسه رئيس دير القديس مارون (دير مارون)  . إن أول ما تجدر ملاحظته حول هذه القائمة من التواقيع هو أنه ، ما عدا الاسكندر هذا ، لا يوجد موقّع معرَّف باسم ديره ، وهذا مما لا يتفق مع أعراف الكنيسة وقواعدها في ذلك الزمان  . فكل هؤلاء الرجال يوقعون أسماءهم على أنهم كهنة او رؤساء أديرة أو شمامسة دون تحديد لهوية كنيستهم او ديرهم أو أبرشيتهم . وبما انهم لم يوقعوا الرسالة بالأسلوب الرسمي المتعارف عليه فلا سبيل لنا إلى معرفة هوية المتهمين . حتى إن توقيع اسكندر يدعو الى الشك لأنه لا يبين أي دير يمثله من الأديرة المسماة بدير مارون . ولذلك لا محيص لنا من التخمين ان اسكندر هذا كان هو رئيس الدير الذي يعتقد الكتّاب الموارنة المعاصرون بأنه الدير الوحيد الذي يحمل هذا الاسم في سورية الجنوبية . لقد بينا سابقاً إقرار البطريرك الماروني اسطفان الدويهي بأنه كان هناك أكثر من دير واحد لمارون في سورية ، كالدير القريب من دمشق وآخر في البترون . بل ان الدويهي نفسه يذكر ديراً آخر لمارون قرب القسطنطينية  . ومما يزيد الشك في صحة هذه التواقيع هو أن اسكندر من بين كل الموقعين فقط قد ذكر اسم ديره . من المدهش حقاً أن يذكر واحد فقط ، من بين كل الموقعين هوية ديره وبالاسم فقط . ومما يدعوا الى المزيد من الارتياب هو ان لا تكون رسالةٌ تتضمن الفظيع من الاتهامات والإساءات ضد أحد بطاركة أنطاكية موقعةً بشكل صحيح

 

في دفاعه عن هذه الوثيقة يدَّعي الأب بطرس ضو بأن هناك رسالة أخرى تحتوي على اتهامات مماثلة ضد سويريوس وانها تحدد بوضوح هوية تواقيع الكهنة والدير الذي ينتمي إليه كل منهم . قد يكون هذا صحيحاً ولكن طبيعة الاتهامات المغالية ضد سويريوس وبطرس تدعو إلى الشك بصحتها  . ففي الرسالة الموجهة إلى مجمع 518  يُضيف الرهبان اتهاماتٍ بجرائم يزعمون أن سويريوس وبطرس قد ارتكباها أكثر مما جاءت به رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا ، مع أن كلتا الرسالتين كانتا على الأرجح قد كتبتا تقريباً في نفس الوقت من عام  518 . تقول الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 أن كميناً كان قد نصب للرهبان وجرت مهاجمتهم قرب قرية الفخارين بجوار دير القديس سمعان ، ولم يقتلوا العديد منهم فقط بل أسروا الآخرين وساقوهم عُراة على رؤوس الاشهاد . كما يدّعون أيضاً أن بطرس الأفامي حوَّل دير دوروثيوس وديراً يدعى “أوريغوروم” إلى بيت للدعارة وبأنه ارتكب العديد من الجرائم الأخرى في أوقات مختلفة في موطن ” الشهيد أنطونيوس ” . كما اعتاد بطرس أيضاً قتل الناس من أجل الكسب المادي ، وكان بعد تحريض اتباعه الأوفياء على قتل الرجال يرتقي المذبح ويحتـفل بالقربان المقدس بيدين ملطختين بالدماء  . يُضيف الرهبان قائلين : لقد سمعتم أيضاً في حضرة حاكم المقاطعة ، المبجل اميليو ، والنبيل نارسيس وآخرين كل الشكاوي التي تقدم بها الكهنة والشمامسة ورؤساء الشمامسة وبقية الرعية ” الكاثوليكية ” في كنيسة أفاميا ضد بطرس هذا ، كيف قضى حياته بصحبة العاهرات ، وكيف نطق بتجاديف ضد الله والمسيح المصلوب وكيف عمَّد النساء اللواتي لم تكنَّ جديرات بالمعمودية

 

وقع هذه الرسالة أيضاً رهبان ورؤساء أديرة يتصدرهم توقيع اسكندر رئيس دير مارون . لا يمكن للمرء هنا ، وكما في حالة الرسالة الموجهة إلى البابا هرمزدا ، أن يحدد الدير الذي كان اسكندر يمثله بين الأديرة التي تحمل اسم مارون ، ولا الموقع أو الهوية الصحيحة للأديرة الأخرى التي الحقت أسماؤها بالرسالة . من الغريب أن هذه الرسالة التي تضم العديد من الجرائم ، التي يُـزعم أن بطرس الأفامي قد ارتكبها ، لم تذكر رسالة الرهبان إلى البابا هرمزدا مع العلم أن الظروف التي كتبت فيها الرسالتان متـشابهة . اننا نعلم من الرسالة الموجهة إلى مجمع 518 أنه تمَّ لفت انتباه حاكم المقاطعة المبجل أميليو (الذي يبدو اسمه لاتينياً أكثر منه يونانياً أو سريانياً) ، إلى الجرائم المنسوبة إلى بطرس الأفامي ، كما لفتت اليها الانتباه ايضا شكاوي أهالي أفاميا انتباه نرسيس . بيد أن الرهبان لا يذكرون فيما إذا كان الحاكم قام باتخاذ اجراء ضد هذا الأسقف ” المجرم ” أو حتى عاقبه خلال السنة المنصرمة . بل ان متهميه لم يذهبوا أبعد من مطالبة أساقفة أفاميا لقطعه عن شركة الكنيسة . ليس هناك في الحقيقة من دليل على أن السلطتين المدنية والكنسية في سورية الجنوبية كانتا على دراية ” بالجرائم ” التي ارتكبها بطرس الأفامي . بل إن المصادر المتوفرة حول هذه الفترة لا تفي بالغرض ولا تلقي ضوءاً على هذه المسألة

 

ان رد البابا هرمزدا على رسالة الرهبان إليه يثير الكثير من التساؤل . فأول ما يسترعي الانتباه هو إن جواب البابا على درجة كبيرة من التعميم بحيث يصعب على المرء معرفة ان كان يخاطب جماعة معينة من الناس أو كل الكهنة و” الأرثودكس ” في سورية الجنوبية . فهو يكتب قائلاً : الى الأساقفة والقسس والشمامسة والأرشمندراتية (رؤساء الأديرة) في سوريا الثانية وفي اية جهة اخرى من الشرق وكذلك الى الشعب المشترك بثبات مع ايمان الكرسي الرسولي

 

من الغريب أن البابا هرمزدا لم يوجه جوابه إلى اسكندر رئيس دير مارون الذي تصدر اسمه قائمة الكهنة الذين وقعوا الرسالة . ومن الغريب أيضاً أن جوابه لا يشير الى اتهام الرهبان لسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ، والاكثر من ذلك يبدو البابا وكأنه غير مكترث بهذه الفاجعة ، فهو يحث الرهبان على الاتحاد معه ومع كرسيه الرسولي قائلاً: ” كيف يمكن للقطيع أن يكون آمناً من الذئاب إن ضلَّ عن راعيه الوحيد الحق ”  . ويستفزهم للتمسك بمجمع خلقيدونية ، وتجنب الهراطقة ، ورفض نسطور وأوطاخي وديوسقورس (الاسكندري) وسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي  . يبدو من الصيغة العمومية لجواب هرمزدا انه لم يأبه بنكبة هؤلاء الكهنة؛ او أنه كان يجهل معرفة الأحداث في الشرق . بل يعطي جوابه الانطباع بكونه شخصاً انانياً جلّ همه هو اجتذاب هؤلاء الرهبان وأديرتهم ليكونوا تحت أمرته . ولهذا يمكننا القول بان هرمزدا ليس الذي كتب هذا الرد ، بل إن مضمون رسالة الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا هرمزدا ، ولغتها والظروف التي كتبت فيها ورد البابا عليها يجعل من الصعب جداً قبولهما على أنهما وثيقتين حقيقيتين

 

رفعت إلى المجمع المنعقد عام 536 برئاسة مينا ، بطريرك القسطنطينية وثائق مشابهة تحتوي على مزاعم أخرى عن جرائم مختلفة ارتكبها على ما يزعم سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي . ويستـشهد الكتّاب الموارنة بهذه الوثائق لا ليبرهنوا على أن دير مارون كان موجوداً في القرن السادس فحسب بل أنه كان الدير الأعلى الذي يمتلك سلطة كنسية على كل أديرة سورية الجنوبية

 

عندما افتتح المجمع في 2 أيار ، من عام 536 ، رفع الكاهن مارينيانوس أو ماريانوس ، رئيس الدير الدالماتي ورئيس أديرة القسطنطينية بأجمعها ، مع الرهبان من أنطاكية وأورشليم ، عريضة إلى الإمبراطور يوسطينيان ، الذي أمر بقراءتها . طلب هؤلاء المثول أمام المجمع لعرض قضيتهم . استجاب مينا بالتالي لطلبهم  . أشار المستدعون في عريضتهم إلى انتيموس وسويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي والناسك السرياني زعورا أنهم ” هراطقة ” ، أثاروا الجدال واعلنوا حرومات القديسين وشيدوا مذابح دنسة في القسطنطينية ، ولطخوا الأرض بدماء القديسين  . لم يوقع العريضة كل المتقدمين بالشكوى بل وقعها ممثلو أربعة من الوفود: اثنان يمثلان أديرة أورشليم وفلسطين والثالث يمثل أديرة سيناء وبلاد العرب ، والرابع ، شماس اسمه بولس ، يمثل دير مارون وجميع الأديرة في سورية الجنوبية . يظهر توقيع بولس هذا في نهاية العريضة على هذا النحو : أنا المدعو بولس بنعمة الله ، الشماس وموفد دير المبارك مارون ، رئيس سائر الأديرة في سورية الجنوبية الذي اوفده كل رؤساء أديرة ورهبان المقاطعات المذكورة إلى تقواكم حاملاً عريضتهم ضد من لا رأس له الهرطوقي الآنف الذكر وبالنيابة عن كل رؤساء الأديرة والرهبان المذكورين ، عليه أوقع

 

اذا تأملنا هذه العريضة نجد ان بولس ، ممثل دير مارون ، هو مجرد شماس ومرتبته هي الأدنى بين كل المناصب الكهنوتية في الكنيسة . والمعروف ان التقاليد الكنسية لا تسمح أن يمثل شماس متواضع عدداً من الأديرة أو الرهبان ، فما بالك بتمثيل سائر الأديرة وآلاف الرهبان بأجمعهم في سورية الجنوبية . قد يمكن ان يصطحب أسقف أو رئيس دير بتمثيل ديره في مجمع ما شماسا حسب التقاليد الكنسية ليسهر على خدمته كما فعل يعقوب النصيبيني عندما اصطحب معه إلى مجمع نيقية (325) شماسه الذائع الصيت أفرام السرياني (ت 373) . أما أن يقوم مجرد شماس بتمثيل سائر الأديرة في سورية الجنوبية في القسطنطينية فهو أمر بعيد الاحتمال

 

يؤكد الأب الماروني بطرس ضو تعليقاً على توقيع هذا الشماس بولس أنه من الواضح استناداً إلى توقيعه أن دير مارون ” كانت له سلطة فعلية قضائية على أديرة سورية الجنوبية ”  . لهذا السبب يستنتج ضو أن دير مارون كان يقع في سورية الجنوبية . سبق ان قلنا بأنه لم تكن أبداً من عادة الكنيسة أن يقوم مجرد شماس بتمثيل دير واحد في أي مجمع . وأبعد من ذلك فإن تأكيد الاب ضو على أنه كانت لدير مارون  “سلطة فعلية قضائية على كل الأديرة في سورية الجنوبية” هو قول ليس له اساس تاريخي . فهو يخالف رواية المؤلف أيفاغريوس بأن بضعة أساقفة فقط في جميع أرجاء سورية ، بضمنها سورية الجنوبية ، كانوا معارضين لسلطة سويريوس الأنطاكي . هذا ما يدل على أن غالبية الأساقفة في سورية وقفوا إلى جانب بطريركهم  سويريوس  . ومع ذلك وبالرغم من بعض المعارضة ، انتخب الأساقفة في المجمع المنعقد في صيدا عام 512 سويريوس بطريركاً لأنطاكية  . وقد وقف أغلب الأساقفة في فينيقية ، لبنان ، الجزيرة العربية وبلاد الفرات وما بين النهرين وسورية صامدين في مساندتهم له ولعقيدته  . إن الادعاء بأن دير مارون كان الأول بين أديرة سورية الجنوبية هو ادعاء عديم الاساس بل أن التاريخ صامت تماماً بشأن “سيادة” هذا الدير خلا بعض الرسائل المشتبه بصحتها إلى حدٍّ كبير والتي يستـشهد بها الموارنة للبرهان على هذه السيادة . يقول الأب هنري لامنس أيضاً أن زعامة دير مارون شملت كل أديرة سورية الجنوبية ، لكنه يخفق في تقديم دليل حاسم يؤيد ادعاءه . فهو يضيف أنه من الصعب جداً توضيح مدى هذه الزعامة قائلاً : لا ندري فيما إذا كانت هذه الزعامة زعامة فخرية أم كان لدير مارون بعض السلطة على الأديرة الأخرى . كما أنه من الصعوبة أيضاً بيان أصل هذه الزعامة ، وفيما إذا كانت ناجمة عن انفصال أحد الأديرة عن الآخر او كان سببها إرادة من أسس الدير ، أو انفصال مجموعة من الرهبان من كبرى الاديرة . كل هذه الاسئلة معقدة جداً وليس من السهل وجود حل لها

 

يمكننا الاستـنتاج بأن هذه السيادة المزعومة لدير مارون على سائر أديرة سورية الجنوبية لا أساس لها من الصحة وبأن الآراء المقدمة لتأييدها هي محض تكهنات

 

أما الوثيقة الثانية المقدمة الى مجمع 536 والتي استعملها الموارنة للبرهان على ادعائهم فهي الرسالة (المذكورة في الفصل 5) التي وجهها الرهبان من سورية الجنوبية إلى البابا أغابيتس . كتبت هذه الرسالة بعد إقالة أنتيموس بطريرك القسطنطينية ، الذي اتحد مع سويريوس الأنطاكي عندما كان سويريوس في العاصمة . وقد خاطب الرهبان الذين وقعوا الرسالة أغابيتس على أنه الكاهن الأكبر لروما القديمة و ” البطريرك المسكوني ” ، تماماً كما دعا الرهبان الآخرون من سورية الجنوبية هرمزدا ” بطريرك العالم أجمع ”  . مرة أخرى يوجه هؤلاء الرهبان نفس الاتهامات ضد القادة المناوئين لمجمع خلقيدونية وخاصة سويريوس الأنطاكي . وإحدى هذه الاتهامات هي أن بعض المناوئين لمجمع خلقيدونية ذهبوا إلى بيت كان يعيش فيه رهبان خلقيدونيون وفي سـورة غضبهم اقتلعوا عيناً من رسم يمثل الإمبـراطور يوسطينيان . كما اخذ اسحق الفارسي وهو أحـد هـؤلاء المناوئين الخلقيدونيين بضـرب رأس صورة ” إمبراطورنا الأرثوذكسي ” بالعصا وأهان رسمه . وعندما كسرت العصا ، مزق اسحق قماش اللوحة ورماه في النار . يضيف الرهبان بأن هؤلاء “الهراطقة” تسللوا أيضاً إلى منازل وجهاء الناس واغووا النساء . كما اشادوا مذابح كاذبة وأجران معمودية في الضواحي بحماية شخصيات قوية من بلاط الإمبراطور (يعنون بذلك الإمبراطورة ثيودورة) . ويمتدح الرهبان البابا أغابيتس ويقولون أن الله قد أرسله لطرد هؤلاء “الهراطقة” الذين عاثوا في الأرض فساداً ولطخوها بدم القديسين . ويختتمون رسالتهم طالبين من أغابيتس إقناع الإمبراطور بإلقاء الناسك السرياني زعورا في النار بنفس الطريقة التي أمر فيها بإلقاء الكتب التي كتبها سويريوس الأنطاكي في النار . ويذيل الرسالة العديد من الموقعين أحدهم يدعى بولس ، الذي يوقع كراهب وممثل لدير المبارك مارون في سورية الجنوبية

 

من الصعب هنا ، كما هي الحال فيما يخص الرسائل الموجهة إلى هرمزدا ومجمع 518 ، قبول الشرعية التاريخية لهذه الاتهامات الموجهة ضد سويريوس الأنطاكي وشخصيات أخرى تؤيده كما تؤيد عقيدته . أما بالنسبة إلى “بولس” الذي وقَّع هذه الرسالة ، فلا يمكن للمرء أن يقرر فيما إذا كان هو نفس بولس الذي وقَّع الرسالة الأولى الموجهة إلى مجمع  536 (المذكورة أعلاه) أم أنه شخص آخر . كما أنه من الصعب استناداً على توقيعه إن كان فقط راهباً ام كاهناً أم رئيس دير . ربما كان على الأرجح شماساً يرتدي ثوب راهب ، وهي إحدى عادات الكنيسة المتبعة حتى العصور الحديثة في بعض الكنائس الشرقية . بناءً على هذا قد يكون نفس الشماس بولس الذي وقَّع العريضة الآنفة الذكر . مرة اخرى لسنا على يقين أي دير من الأديرة المسماة بدير مارون كان يمثله هذا الراهب . وكما ذكرنا سابقاً كان هناك أكثر من دير واحد يحمل اسم مارون : فعلى سبيل المثال ، تضم الرسالة قيد البحث توقيع شخص ما يدعى ثيودوروس ، رئيس دير مارون في مقاطعة سوكاس في القسطنطينية

 

وأخيراً ، يستنجد الأب ضو بوثيقة ثالثة لدعم الادعاءات المارونية . فهو يُـشير إلى عريضة قدمها رهبان القسطنطينية وأورشليم وسورية وفلسطين إلى البطريرك مينا في نهاية الجلسة الخامسة من المجمع في 15 أيار 536  . لا بد من التذكر أن نفس هؤلاء الرهبان كانوا قد قدموا عريضة مماثلة إلى الإمبراطور يوسطنيان ، كما سبق البيان  . وفي هذه العريضة ، المقدمة إلى مينا يعبر الرهبان عن سرورهم لإدانة انتيموس بطريرك القسطنطينية ، لكنهم يبدون ملاحظة بالقول أنه مازال للشيطان مساعدان ـ سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي ــ لتحقيق أهدافه . ويضيفون بأن هذين الرجلين قد اقلقا سلام الكنائس وأراقا دم القديسين وحرما مجمع خلقيدونية وطومس لاون . ويتهم الرهبان بشكل خاص سويريوس باغتصاب كرسي أنطاكية وبطرس باغتصاب أبرشية أفاميا . ويزعمون أن سويريوس أدعى بعدئذ بأنه كان قد قبل كرسي أنطاكية بصورة شرعية . يتهم هؤلاء الرهبان أيضاً سويريوس بخدمة الشياطين في بيروت وانه حتى في زمن مجمع 536 لم يكن يخلو من الوثـنية . ويضيفون قائلين أن سويريوس ، سعياً منه لتـنقية سمعته السيئة ، تظاهر بإصلاح أفكاره الشيطانية بقبول العماد في طرابلس . ولا يتوقف الرهبان عند هذه النقطة بل ينسبون أيضاً إلى سويريوس وبطرس ارتكاب الفظائع . منها ان سويريوس قام بقطع أصابع القديسين الذين تـشبثوا بمذبح الكنيسة طلباً للخلاص من المعتدين عليهم ، وبالقبض على أناس أبرياء وإلقائهم في السجن وبمهاجمة العديد من الأديرة ونهبها باستمرار . ويزعمون بأن سويريوس نجا من العقاب وذلك بالهرب حالما تمَّ عزله وقطعه عن شركة الكنيسة مع أتباعه لكنه عاد من ثمّ ليعيث بمدينة القسطنطينية فساداً  . ليس هناك من دليل يؤيد هذه الافعال التي تعزى الى سويريوس ، ولم يقم أي مؤرخ كنسي أبداً بذكر حوادث من هذا القبيل . حتى لو اننا حملنا هذه التهامات على محمل المجاز– احدها بصورة خاصة أن سويريوس عاث فساداً بمدينة القسطنطينية بواسطة تعليمه اللاهوتي وعدائه لإيمان خلقيدونية كما تمسك به الأباطرة (يوسطين ويوسطينيان) ـ فما زال الدليل مفتـقراً على أن سويريوس حرّض على عصيان ديني في العاصمة معيثاً الفساد في الحياة الدينية والكنسية في تلك المدينة . نحن نعلم أن سويريوس زار العاصمة عدة مرات لمناقشة وحدة الكنيسة مع الإمبراطور ، إلا أنه لم يذكر أبداً بأنه عاث بمدينة القسطنطينية فساداً روحياً كان ام مادياً . بالاصافة الى ذلك فقد اتهم سويريوس مع أسقفه بطرس بالدعوة إلى اجتماعات غير قانونية وبإجراء معموديات بعد عزلهما عن منصبهما في تلك المدينة . وقد ضللا كما يُـقال العديد من الناس لا بل أغويا النساء . وأخيراً أرسل سويريوس وبطرس ، على ما يُزعم طغمةً من ” اليهود المجرمين ” واللصوص الذين هاجموا ككلاب مسعورة 350 راهباً وقتلوهم بالسـيف ، مقطعين أجسادهم إرباً دون أن يكلفوا أنفسهم عناء دفنهم  . وقع هذه العريضة على غرار الرسالة السابقة أحد الرهبان واسمه بولس ممثلاً دير المبارك مارون ، ” كبير الأديرة في سورية الجنوبية ”

 

وهكذا هوت الكنيسة الى هذا الدرك من المهانة والتهاتر مما اضعفها واضعف الدولة معها حتى اصبحتا لقمة سائغة للفاتحين العرب في القرن التالي

 

 

10 الموارنة ورسائـل الرهبان من سورية الجـنــوبـيـة

 

في الفصل السابق درسنا بإمعان رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا وكذلك وثائق مماثلة قدمها هؤلاء الرهبان إلى المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 536 والتي تضم اتهامات مختلفة ضد سويريوس الأنطاكي وأسقفه بطرس الأفامي. قد يكون من المفيد تلخيص النقاط الرئيسة في هذه الرسائل، وخاصة لأن الموارنة يستـشهدون بها كدليل يدعم رأيهم بأن دير مارون كان موجوداً منذ القرن الخامس، وأن رهبانه كانوا متمسكين بإيمان خلقيدونية وهو إيمان كنيسة روما. ولذلك يدّعي الموارنة أنهم كانوا متّحدين مع كنيسة روما منذ القرن الخامس

 

يبني الموارنة ادعاءهم على بضعة تواقيع مريبة تذيل رسائل يُشكُ بأمرها إلى حدٍّ كبير. تواقيع هؤلاء الرهبان الذين يسمون أنفسهم ممثلين لدير مارون في سورية الجنوبية لا يمكن أن تكون برهاناً حاسماً على الادعاء بأنهم كانوا من نفس الدير الذي يعتقد بأنه الدير ” الوحيد ” لمارون. فهي رسائل قدّمها رهبان ساخطون إلى المجمع الذي التأم في القسطنطينية عام 536. كما ان مضمون هذه الرسائل وخاصة الاتهامات الموجهة الى سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي يلقي ظلاً قاتماً من الشك على تصديقها. إن ما يقنعنا بأن هذه الرسـائل غير موثوقة هو حقيقة عدم وجود اي دليل، غير ما جاء في هذه الرسائل، على أن سويريوس بطريرك أنطاكية أو أسقفه بطرس، قد ارتكبا يوماً مثل هذه الجرائم المستـنكرة. ومما يؤكد بأن هذه الرسالة مفتعلة لأنها تصور سويريوس وبطرس بأنهما من مرتكبي القتل الجماعي ومضطهدي أناس أبرياء، وهما ايضاً من متعطشي الدماء وقطاع الطرق وناهبي الكنيسة وغواة النساء، وسماسرة الفحشاء وعبدة الشيطان بل كانا من الوثنيين

 

اذا استثنينا كتابات أعداء سويريوس او مؤيديه في الوثائق التي تمت مناقشتها أعلاه، فإن المعلومات المتوفرة فيما يتعلق بهذا البطريرك تصوره كناسك قديس طاهر عظيم ولاهوتي من الطراز الأول ذو شخصية أخلاقية لا غبار عليها. لكن نظراً لعدائه لمجمع خلقيدونية ونبذه لتعريف المجمع للإيمان فقد تجاهله الكتّاب الخلقيدونيون حتى عهد قريب ونالوا من هباته اللاهوتية. بل اتهمه الإمبراطور يوسطينيان الأول بالدفاع عن النساطرة أحياناً وعن الأوطاخيين أحياناً أخرى. والحقيقة هي أن سويريوس جادل بشدة ضد هؤلاء الهراطقة . ثم يجيء كاتب معاصر هو و.ك. برينتيس لا ليروي بأن سويريوس كان مسؤولاً عن قتل 350 راهباً فحسب بل يتهمه ظلماً بأنه طرد من أكثر من دير بسبب ” عاداته الفاسقة أو آرائه المنافية للدين القويم، أو بسبب كليهما ” . أما الباحثون الآخرون الذين درسوا حياته وأفكاره اللاهوتية وكتاباته فقد اعترفوا بتفوقه وإنجازاته ومنهم الباحث غستاف باردي. قد لا يؤيد باردي العقيدة التي دافع عنها سويريوس الأنطاكي إلا أنه يقول أن نشاطه يشابه نشاط أثناسيوس. ويسمي باردي سويريوس “بالمناضل” و “البطريرك الذي لا يقهر”، بل كان “رجلاً موهوباً وواحداً من أقوى الشخصيات في فترة مشوبة بالأسى” . اما الكاتب المعاصر و.هـ.س. فرند، الذي استـشهد بمذبحة الـ 350 راهباً دون أن يثبت صحتها، فإنه يصف سويريوس على أنه ” أحد الشخصيات العظيمة في تاريخ شرق البحر الأبيض المتوسط الديني ” . ويضيف قائلاً عن تبحر سويريوس في الكتاب المقدس والحياة النسكية:

كان (سويريوس) علاّمة في الكتاب المقدس من طراز أوريجينس وباسيل (باسيليوس) وكان مثلهم ناسكاً ومصلحاً. وكان تعليمه اللاهوتي اداة استطاع بها أن يقود شعبه نحو الله بكونه مثالاً يقتضيه التبحر في الحياة النسكية

 

لا يقودنا الدليل التاريخي كذلك إلى قبول سيادة دير مارون على جميع أديرة سورية الجنوبية. فضلاً عن ذلك، ليس هناك من دليل على أن رهبان هذا الدير كانوا مدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية؛ إذ لم يذكر أحد من مؤرخي الكنيسة القدماء مثل هذا الادعاء أو يؤيده. من الغريب أن التاريخ ينبئنا الشيء الكثير عن دير القديس باسوس قرب أفاميا في سورية الجنوبية، الذي يُـقال بأنه آوى في وقت واحد أكثر من ستة آلاف راهبٍ، ومع ذلك بقي هذا التاريخ صامتاً عن دير مارون الذي يقع في نفس المقاطعة وبالقرب من دير مار باسوس حتى النصف الأول من القرن السابع . بل ان ما لا يمكن تصديقه ألا يترك رهبان هذين الديرين، بالرغم من قبولهم أو رفضهم لمجمع خلقيدونية، اي أثر يدل على وجود صلة بينهما سواء كانت حسنة أم سيئة. كما ينفي الدليل على أن رهبان دير القديس باسوس الذين كانوا خاضعين لسلطة سويريوس الأنطاكي دخلوا في جدل شخصي أو لاهوتي مع رهبان دير مارون المجاور الذين كانوا معادين لسويريوس. هذا بكل تأكيد أمر غير مألوف، إذا أخذنا بعين الاعتبار الروح العاطفية جداً في تلك الأزمنة والتي زادت من حدتها النزاعات العقائدية وفقدان التسامح الديني حيث كانت العقيدة المسيحية القضية التي شطرت ولاء المسيحيين للكنيسة والدولة معاً

 

هناك نقطة أخرى تتوجب الإيضاح وهي إن كان الـ 350 راهباً الذين يُزعم بأن كميناً نصب لهم وجرى قتلهم بتحريض من سويريوس الأنطاكي وبطرس الأفامي كلهم من دير مارون. يعتقد الموارنة بأن الرهبان كلهم كانوا من دير مارون ، ولهذا السبب تحتـفل الكنيسة المارونية بذكراهم في 31 تموز من كل عام ” كشهداء ” وتلامذة الناسك مارون

 

لا يوجد دليل على أن جميع هؤلاء الرهبان كانوا ينتمون إلى دير مارون. تدل رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا والتي مرت مناقشتها أن غالبية الرهبان جاءوا من جميع أرجاء سورية الجنوبية لا من دير واحد كدير مارون. إذ يوقّع العديد منهم كرؤساء أديرة، مشيرين بذلك إلى أنهم جاءوا من أديرة مختلفة في سورية وإن كانوا لا يحددون هوية هذه الأديرة. وأظهر مثال على ذلك ان الأب شيخو استـناداً إلى رسالة الرهبان الموجهة إلى البابا هرمزدا يضع قائمة بأسماء ما لا يقل عن 25 ديراً كان بعض الثلاثمائة وخمسين راهباً الذين يزعم أنهم قتلوا، ينتمون إليها . كما ان رسالة الرهبان الموجهة إلى هرمزدا وقائمة الأسماء الملحقة بها، كما تظهران في مجموعة مانسي الذي يستـشهد به شيخو لا تذكر أسماء رؤساء أديرة خلا اسم اسكندر رئيس دير القديس مارو أو مارون . بيد أن شيخو نفسه يوضح أن هؤلاء الرهبان كانوا من أديرة مختلفة في أفاميا ووادي نهر العاصي . في الحقيقة ان تقويم الأعياد في كنيسة روما في 31 تموز لا يشير إلى أن الرهبان المنكوبين كانوا من دير مارون . إضافة إلى ذلك ليس هناك من دليل بأن الكنيسة المارونية قد احتـفلت يوماً بذكرى هؤلاء ” الشهداء ” قبل عام 1744. وحتى المجمع الماروني المنعقد في لبنان عام 1736، والذي حدّد، بين المسائل الأخرى التي تناولها، الأعياد والأيام التذكارية للقديسين الموارنة، لم يدرج يوماً تذكارياً ” لهؤلاء الشهداء “. يقول الأب لويس شيخو أن البابا بينيدكتس الرابع عشر أصدر في 12 آب 1744 صكوك غفران إلى كنيسة روما بأجمعها، ومنها الكنيسة المارونية المتحدة بها إحياء لذكرى هؤلاء الرهبان وبأن ” الكنيسة المـارونية ربما تكون قد بدأت منذ ذلك التاريخ بإحياء ذكرى هؤلاء الشهداء ”

 

هناك دليل واحد يورده بعض الكتّاب للبرهان على أن دير مارون كان موجوداً في القرن الخامس وبأن رهبانه كانوا مدافعين عن إيمان خلقيدونية وهو رسالة موجهة من رهبان هذا الدير إلى جماعة من الرهبان السريان الأرثودكس أو المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية والرد على هذه الرسالة. ويظهر ان علماء الكنيسة لم يكونوا على علم بهذه الرسالة او الرد عليها. لكن الكاتب الانكليزي وليم رايت يورد في المجلد الثاني من فهرسه الحافل، مقتطفات من كلتا الرسالتين استناداً على المخطوطة السريانية 12، 155 ، التي يُرجع رايت تاريخها إلى القرن الثامن ومن عنوان المخطوطة وهو ” كتاب البرهان من الآباء الأطهار ضد الهرطقات المتـنوعة ” يمكننا ان نستنتج بأنها مجموعة من الوثائق “المونوفيزية” (المناوئة للخلقيدونية) غايتها دحض العقيدة الخلقيدونية حول طبيعتي المسيح المتحدتين في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين بعد الاتحاد . وقد نشر الأب فرانسوا نو هاتين الرسالتين عام 1903 مع ترجمة فرنسية وتعليقات . كما أعطى نسخاً من هاتين الرسالتين إلى المطران الماروني يوسف الدبس الذي ترجمهما من السريانية إلى العربية ونشرهما في كتابه : الجامع المفصَّل

 

الا ان الرسالتين قيد البحث لا توضحان الأسباب والظروف التي دعت إلى كتابتهما. قد يكون من المحتمل ان فاتحة رسالة رهبان مارون والتي تشير الى ” خمسة اقتراحات بعثها رهبان مارو، في أرمناز قرب أفاميا، في رسالة، بيدي اسحق وسرجيوس، إلى الرهبان الذين وقفوا إلى جانب بطرس ” هي التي دعت نو للتكهن بأن هاتين الرسالتين كانتا مرتبطتين بنزاع عقائدي جرى في زمن بطريرك أنطاكية السرياني الأرثوذكسي، بطرس الثالث الرقّي (581 ـ 591) . واذا رجعنا إلى تاريخ ديونيسيوس التلمحري، لوجدنا ما ينم عن الظروف التي قد تلقي الضوء على هاتين الرسالتين في عهد بطريركية بطرس الرقي

 

يقول التلمحري انه ظهر في الاسكندرية في زمن دميان بطريرك الاسكندرية (570 ـ 605 ؟)، شخص يُدعى اسطفان (ستيفن نيوبس) علّم قائلاً: ” إن اعترفنا بطبيعة واحدة في الرب المسيح فلن يكون من الممكن بعد ذلك القول بأن الفرق بين خصائص الطبيعتين لم يزل موجوداً ” . إن مايريده اسطفان هو أن طبيعتي المسيح اتحدتا في التجسد إلى حدٍّ بحيث لم يعد بالإمكان تمييز خصائصهما الواحدة عن الأخرى. بعبارة أخرى، إن إحدى هاتين الطبيعتين، على الأرجح الطبيعة الإلهية، قد استوعبت الطبيعة الأخرى. وبالطبع فقد كان هذا التعليم بالنسبة لكنيسة الاسكندرية وكنيسة أنطاكية السريانية معاً تعليماً هرطوقياً. ولهذا عنف دميان اسطفان منذراً إياه بالامتناع عن هذا التعليم، إلا أنه لم يفعل ذلك. ثم صدف أن زار مصر يومئذ البطريرك بطرس (الرقي) لأن بولس الأسود، وهو أحد بطاركة الاسكندرية الذي خلع من منصبه عام 581، كان يخلق المتاعب للكنيستين السريانية والمصرية. وكان بصحبة بطرس عالمان سريانيان، هما يوحنا بربور وبروبوس. وحين التقى هذان الرجلان باسطفان واصغيا إلى آرائه اللاهوتية انجرفا إليه وإلى تعليمه. كان كلاهما يرغبان بأن يصيرا أسقفين إلا أن البطريرك لم يكن جاداً في تلبية أمنيتيهما بسبب ميلهما للتعليم الهرطوقي لاسطفان. وبعد عودة البطريرك بطرس إلى سورية بقي يوحنا وبروبوس في مصر وأعلنا على الملأ إيمانهما بهرطقة اسطفان. فما كان من دميان الا أن طردهما من مصر فذهبا إلى سورية لنشر معتقداتهما. في الوقت نفسه قام بطرس بقطع يوحنا وبروبوس عن شركة الكنيسة في مجمع كنسي عقد في دير الجب الخارجي  مما حدا بهما الى الاتصال بأنستاسيوس بطريرك أنطاكية الخلقيدوني والانتماء إلى جماعته فأصبحا بذلك خلقيدونيين

 

عندما توفي البطريرك بطرس عام 591، طلب يوحنا وبروبوس من أنستاسيوس دعوة الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية إلى اجتماع في أنطاكية لمناقشة التعليم الجديد لأن يوحنا وبروبوس اتهما البطريرك الراحل بطرس بالضلال في مسائل تتعلق بالإيمان. كان البطريرك بطرس قد كتب مقالاً فنّد فيه تعليم اسطفان وتابعيه يوحنا بربور وبروبوس. وفي هذه الآونة التقى الرهبان السريان بيوحنا وبروبوس وناقشوا معهما بنجاح مسائل الإيمان. لا يذكر التلمحري المدة التي دامت فيها المناظرة كما أنه لا يخبرنا ما حل بيوحنا بربور وبروبوس ولكنه يشير الى أن أتباع بروبوس عادوا إلى الإيمان الصحيح بعد وفاة البطريرك بطرس . من المحتمل جداً ان يكون اسم البطريرك بطرس الموجود في التوطئة المكتوبة في رسالة رهبان دير مارون في أرمناز الموجهة إلى جماعة من الرهبان السريان المونوفيزيين المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية هو الذي دفع الأب نو على التكهن بأن رسالة الرهبان عينها هي الرسالة التي وجهها أنستاسيوس إلى الرهبان السريان في أنطاكية. ولكن يجب أن نلاحظ في هذا السياق وجود رسالتين مختلفتين ـ إحداهما من رهبان دير مارون في أرمناز إلى مجموعة من الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية والرد على هذه الرسالة؛ والأخرى من أنستاسيوس بطريرك أنطاكية الخلقيدوني، يدعو فيها جماعة من الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية في أنطاكية إلى مناظرة ـ وأن الظروف التي كُتبت فيها الرسالتان كانت مختلفة أيضاً

 

ان رسالة رهبان مارون لا تعين موقع ديرهم، إلا أن رد المعارضين لهم، والذي كتبه راهب يدعى ثيودور، يبين بأن رهبان دير مارون هؤلاء جاءوا من قرية أرمناز في مقاطعة أفاميا. وهذه في الحقيقة أول مرة يرد فيها ذكر دير مارون في قرية محددة الهوية تدعى أرمناز، ولكن ليس هناك من دليل على أن هذا الدير هو نفس دير مارون الواقع على نهر العاصي في مكان ما بين حماه وأفاميا. سبق القول أن الموارنة أنفسهم يختلفون حول موقع دير مارون. يرى بعض الكتّاب ـ تشالينكو، على سـبيل المثال ـ أن هذا الدير ربما كان في نفس الموقع المعروف اليوم بالدوير ـ على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من أرمناز. مما يدل على أنه ليس نفس الدير الذي يدّعي الموارنة بأنه ديرهم. يستـشهد الأب ضو بتشالينكو، إلا أنه يخفق في مطابقة هذا الدير في أرمناز مع دير مارون في أفاميا . كما انه من الصعب التصديق أن إيمان رهبان دير يعتبره الموارنة ” كبير الأديرة بين سائر أديرة سورية الجنوبية “، بني على اساس قوة مراسلةٍ وحيدة مريبة . والذي يدعو الى الارتياب بصحة وجود هذه الرسالة هو ان مؤرخاً سريانياً او غيره قد تطرق الى ذكرها. والمهم هو إن كانت مثل هذه المراسلة قد حدثت يوماً ما، فمن المنطقي أن يكون حدوثها في القرن الثامن عندما دخل رهبان دير مارون، كمونوثيليين، في جدل لاهوتي مع جماعات دينية أخرى في سورية (الملكيين الخلقيدونيين مثلاً) للدفاع عن معتقدهم بالمشيئة الواحدة للمسيح (المونوثيلية) . كما انهم دخلوا في نفس الجدل مع السريان الأرثوذكس (المونوفيزيين) للدفاع عن تمسكهم بإيمان خلقيدونية كما تظهر المراسلة. وقدعالج القس الماروني برناردو غبيرة الغزيري بشكل صحيح المراسلة قيد البحث بين رهبان دير مارون في أرمناز والرهبان السريان في أنطاكية باعتبارها تعود إلى القرن الثامن

 

 

11 هل كـان رهبان ديـــر مــارون خلـقيدونـيين

 

رفضت الغالبية العظمى من الكنائس في مصر وسورية تعريف إيمان مجمع خلقيدونية (451)  ، بأنّ طبيعتي المسيح اتحدتا بالتجسد في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين ومتمايزتين بعد الاتحاد . مما سبب صدعاً بليغاً ضمن الكنيسة الجامعة وزاد هذا الصدع تفاقماً بتدخل الأباطرة البيزنطيين في النزاع اللاهوتي والانحياز إلى جانب الخلقيدونيين أو معارضيهم . إن ما بدأ كاختلاف حول تعريف الإيمان والعقيدة بالكتابة او تبادل الرسائل استحال للأسف إلى مهاترات وتجريح واضطهادٍ . فقد اصرّ الذين رفضوا مجمع خلقيدونية بأن صيغة العقيدة التي جاء بها ما هي الاّ بدعة تـنتهك قرارات مجمع أفسس (431) الذي قرر في جلسته السادسة المنعقدة في 22 تموز أن من يثـبّتون إيماناً مغايراً للإيمان الذي وضعه مجمع نيقية (325) سيكونون عرضة لطائلة الحرمان من عضوية الكنيسة وفقدان المرتبة اللاهوتية  . كما اصرّ معارضوا مجمع خلقيدونية بأن في التجسّد صار كلمة الله (اللوغوس) جسداً وأنه لا يمكن اعتبار طبيعتي المسيح بعد اتحادهما منفصلتين بل اصبحتا بالنتيجة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي إنسجاماً مع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري

 

كان المجمع اذن سبب الخلاف . فقد وصم الذين قبلوا المجمع بأنهم ” ديوفيزيون اي اصحاب الطبيعتين ” كما وصم هؤلاء الآخرين بدورهم الذين رفضوا إيمان هذا المجمع ” بالمونوفيزيين اي اصحاب الطبيعة الواحدة ” . إن مصطلحي ديوفيزيين والمونوفيزيين غير وافيين ولا يمثلان بدقّة المعتقد الذي دافع عنه الفريقان . ونحن نفضل أن نُـشير إلى هذين الفريقين باسم الخلقيدونيين والمناوئين لمجمع خلقيدونية . والذي زاد من بلبلة هذه التعابير ان المناوئين لمجمع خلقيدونية اطلقوا اسم “الملكيين” (من كلمة ملكو السريانية  ، وتعني ” ملك “)  ، على المعارضين لهم  ، مشيرين بذلك إلى أنهم كانوا أتباع الإمبراطور مرقيان  ، الذي قام بعقد مجمع خلقيدونية وصادق على تعريفه المبتدع للإيمان . كما أطلق الخلقيدونيون بدورهم  ، على معارضيهم اسم ” السويريين ” نسبة إلى سويريوس بطريرك أنطاكية؛ و ” عديمي الرأس ” بمعنى من لا رئيس لهم؛ وأخيراً أطلقوا عليهم اسم ” اليعاقبة ” في الفرن السادس نسبة إلى يعقوب البرادعي (ت 578) . وهكذا انقسمت كنيسة سورية الانطاكية إلى معسكرين متخاصمين  ، المعسكر الخلقيدوني والمعسكر المناوئ لمجمع خلقيدونية . وليس من قبل المبالغة او تشويه الحقائق القول بأنه لم تكن هناك بعد عام 451 ثمة مجموعة من الكهنة أو العلمانيين في سورية ما عدا بعض النساطرة الذين كانوا يعيشون في تلك البلاد  ، لم ترتبط إما بالخلقيدونيين أو بالمعارضين لهم . فالحياد أو عدم الانحياز في المسائل العقائدية لم يكن معروفاً . ومتى تمّ وضع هذه الحال من الأوضاع في نصابها التاريخي يصبح من السهل عندئذ تحديد الانتماء العقائدي والطائفي لرهبان دير مارون

 

يمكننا حينئذٍ السؤال ماذا كان الانتماء الديني لرهبان دير مارون هؤلاء ؟ يؤكد كتّاب موارنة وغيرهم مثل الأب نو على أن رهبان دير مارون كانوا خلقيدونيين ومدافعين عن إيمان خلقيدونية . أما الدليل الوحيد الذي يقدمونه فهو بضعة رسائل  ، خاصة تلك المقدمة إلى المجمع المنعقد في القسطنطينية عام 536؛ والأكثر من ذلك  ، أن الرسائل التي قدمها الاب نو لا تغير من الوضع أو تنفي الحقيقة وهي أن هؤلاء الرهبان لم يكونوا خلقيدونيين . فلو كانوا خلقيدونيين  ، أو ملكيين  ، لكان عليهم  ، أن يخضعوا كما تقتضيه القوانين الكنيسة لسلطة بطريرك أنطاكية الخلقيدوني  ، الذي كان في زمن المنازعة بين رهبان مارون والرهبان السريان في أنطاكية على الأرجح هو أنستاسيوس الأول السينائي 593 ـ 698 . لكن لا يوجد دليل على أن رهبان مارون كانوا يوماً خاضعين لسلطة بطريرك خلقيدوني أو ملكي لأنطاكية . فالرسالة الموقّعة في الحقيقة من قِـبَـل اسكندر رئيس دير مارون  ، عام 518  ، لم تكن موجهة إلى بطريرك أنطاكية الخلقيدوني بل إلى البابا هرمزدا . ولهذا فإن محاولة الأب سيمون فايهي (Simeon Vailhe) البرهان على أن رهبان دير مارون هؤلاء كانوا ” ملكيين ”  ، أي إمبراطوريين… وكانوا يمثلون في سورية العنصر الأجنبي أو فريق الغرباء  ، أي اليونان الذين كان ” اليعاقبة ” يبغضونهم لا تـتسم بالصفة التاريخية  . لأن رهبان دير مارون لم يكونوا يونانيين بل سرياناً . بل لم يمثلوا مجموعة من الغرباء اليونانيين . كانوا مواطنين من سورية يتكلمون اللغة السريانية  ، مستخدمين إياها أيضاً في صلواتهم اليومية . إن توقيع بعضهم للرسالة باليونانية لا يجعلهم يونانيين  ، كما جزم بذلك Vailhe خطأً . في الحقيقة  ، لا نجد اتصالاً  ، ولا حتى رسالة واحدة متبادلة بين هؤلاء الرهبان وبطريرك أنطاكية الملكي منذ أواسط القرن الخامس وحتى نهاية القرن السادس . إضافة إلى ذلك  ، لا نجد رسالة كتبها أي من البطاركة خلال هذه الفترة يمتدح فيها رهبان دير مارون لدفاعهم عن إيمان مجمع خلقيدونية . إن من الصعب التصور أن يكون هؤلاء البطاركة قد أغفلوا ديراً عظيماً كدير مارون  ، الذي آوى أكثر من ثمانية الف راهبٍ وكان واقعاً بالضبط في مقاطعة أفاميا المكتظة على بعد بضع مئات من الأميال من أنطاكية . كما أن مما لا يمكن تصوره أن يكون “ديراً عظيماً”  ، كهذا  ، يعتقد الموارنة بأنه في مقدمة سائر الأديرة في سورية الجنوبية  ، قد اصبح طي النسيان خاصة في الفعاليات الدينية  ، بحيث لا نسمع شيئاً عن نشاطه الفكري ـ اذ لم يقم فيه علاّمة أو كاتب أو شاعر أو باحث متبحّر ـ في الوقت الذي كانت الأديـرة في سـورية كدير تلعدا وقنسرين وسينون والمعلق في شمال بلاد ما بين النهرين تتباهى بالعديد من العلماء والمتبحّرين المتميزين في المعرفة . وإذا التـفتنا إلى ضروب نشاط الرهبان السريان المناوئين للخلقيدونية  ، نجد بأنه كانت بينهم وبين بطاركتهم علاقة متينة فيما يتعلق بمسائل الإيمان أو مراعاة القانون الكنسي . وهكذا نجد أن بعض آباءً كنيسة أنطاكية مثل سويريوس الانطاكي ويعقوب السروجي وفيلكسينوس المنبجي ويعقوب الرهاوي والعديد غيرهم يوجهون رسائلهم إلى أديرة كدير تلعدا وسينون ورومانوس وخاصة إلى دير مار باسوس في سورية الجنوبية الذي لا يبعد كثيراً عن دير مارون وبطريركيته . إلا أننا لا نجد دليلاً على أن رهبان دير مارون قد دافعوا عن مجمع خلقيدونية خلا رسالة أو رسالتين مريبتين . بل لدينا في الواقع دليل بأن الخلقيدونيين في سوريا اضطهدوا رهبان دير مارون . ففي عام 745 سار بطريرك أنطاكية الخلقيدوني أو الملكي  ، ثيوفيلاكت بن قنبرة الحرّاني بصحبة ثلة من الجنود الى دير مارون لاضطهاد رهبانه  . لا بد من وجود سبب لهذا الاضطهاد  ، وها هو المؤرخ التلمحري يعطينا الجواب . فهو يقول أن ابن قنبرة حاول إجبار رهبان دير مارون على قبول عقيدة المشيئتين في المسيح وعلى الكف عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صًلبت لأجلنا  . هذا دليل واضح على أن رهبان دير مارون كانوا مونوثيليين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح  ، وأنهم كانوا  ، خلاف كنيسة روما والكنائس الخلقيدونية الأخرى  ، يتلون التقديسات الثلاث مع العبارة التي كانت تستعملها الكنائس المناوئة لمجمع خلقيدونية فقط . بعبارة أخرى  ، لم يكن اعتراف هؤلاء الرهبان بإيمان خلقيدونية يعني شيئاً لبطريرك خلقيدوني اضطهدهم لأنه لا بد انه اعتبرهم هراطقة مونوثيليين . إضافة إلى ذلك  ، فإن دفاع هؤلاء الرهبان عن إيمان خلقيدونية لم يؤدِ إلى علاقة متينة دائمة بين ديرهم وبين الكنائس الخلقيدونية الأخرى  ، وخاصة كنيسة روما . اذاً ليس هناك من دليل تاريخي يؤيد وجود أية علاقة كهذه قبل القرن الثالث عشر . ومن الغريب جداً أن هؤلاء الرهبان  ، الذين يُزعم بأنهم دافعوا عن إيمان مجمع خلقيدونية  ، قد اعتبرهم غالبية الكتّاب الخلقيدونيين هراطقة ( وسوف نرى بعدئذ انه وحتى أواخر القرن السادس عشر ظلت كنيسة روما مرتابة إلى حد كبير بإيمان الموارنة ولذلك قامت بإرسال العديد من الارساليات إلى لبنان للتأكد من صحة ذلك الإيمان . حتى الرسالة التي قدمها هؤلاء الرهبان إلى مجمع القسطنطينية الذي التأم عام 536 لم تجنبهم من أن يوصموا بكونهم هراطقة . والحقيقة هي ان الرهبان الموارنة استمروا في استعمال التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا فترة طويلة بعد انعقاد ذلك المجمع  ، بالرغم من إدانة المجمع بطرس القصّار بطريرك أنطاكية على أنه ” هرطوقي ” بعد أن أُتهم بإضافة هذه العبارة إلى التقديسات الثلاث . يمكننا إذاً أن نستـنتج بأن رسالة رهبان دير مارون إلى الرهبان المناوئين لمجمع خلقيدونية في أنطاكية لم تكن ذات أهمية؛ فهي لم تبرئهم من ” الهرطقة ” ولم تعزز مركزهم في أعين الكنائس الخلقيدونية  ، ككنيسة روما أو تخلق لهم علاقة أفضل مع هذه الكنائس . فضلاً عن ذلك  ، من الصعب التحديد بدقة تاريخ الجدل الذي جرى بين جماعتي الرهبان الموارنة والسريان الارثودكس  ، بل تُـلقى مسؤولية القول  ، بأن تاريخ المخطوطة التي احتوتها رسالة رهبان دير مارون هذه والرد عليها يعود إلى القرن الثامن  ، على المستشرق الانكليزي وليم رايت  ، الذي يقنعنا بأن الجدل قد حصل ولا بد في وقت ما في النصف الأول من القرن الثامن عندما كان رهبان دير مارون يتبادلون الجدل بشأن العقائد مع جماعات مسيحية أخرى . والأهم من ذلك هو أن الجدل حصل بين رهبان دير مارون في أرمناز والرهبان السريان في أنطاكية  ، وبأن هذا الدير في ارمناز ليس دير مارون في أفاميا  ، الذي يدّعي موارنة معاصرون بأنه أصل كنيستهم وجماعتهم

 

السؤال هو متى أصبح رهبان دير مارون خلقيدونيين ؟ يدّعي الكتّاب الموارنة وغيرهم بأن هؤلاء الرهبان تبنوا صيغة إيمان مجمع خلقيدونية عندما اجتمع ذلك المجمع في عام 451 وأن تلك الصيغة كانت إيمان الموارنة منذ ذلك الحين . بيد أن الشهادات التي يقدمونها ليست حاسمة ولا مقنعة . وبالقدر الذي يمكنُ لمؤلف هذا الكتاب أن يؤكده هو ما من مؤرخ في تلك الفترة  ، ولا حتى المؤرخ الخلقيدوني أيفاغريوس الذي عاش في افاميا  ، ذكر شيئاً عن رهبان مارون هؤلاء ولا عن ديرهم أو إيمانهم . لذلك لا بدّ من الرجوع إلى رواية ديونيسيوس التلمحري للبرهان على إيمان هؤلاء الرهبان لأنه أول من ألقى الضوء على الهوية الدينية لرهبان دير مارون

 

يذكر التلمحري اللقاء الذي جرى بين الإمبراطور هرقل وبطريرك أنطاكية السرياني  ، أثناسيوس الجمّال عام 629  ، ومحاولة الإمبراطور إقناع البطريرك واثني عشر أسقفاً في رفقته على تصديق صيغة الإيمان التي كان قد اعلنها والتي يعترف فيها بطبيعتين للمسيح متحدتين وارادة واحدة وفعل واحد طبقاً لعقيدة القديس كيرلس في الإيمان بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . رفض البطريرك وأساقفته القيام بذلك  ، معترضين بأن هذه الصيغة لا تختلف عن عقيدة نسطور  ، بأن طبيعتي المسيح ظلتا منفصلتين بعد اتحادهما في التجسد . إن ما كان البطريرك واساقفته يحاولون القول هو أنهم لم يجدوا فرقاً بين عقيدة نسطور والعقيدة التي عرّفها مجمع خلقيدونية  ، وأن كلتا العقيدتين تناقضان ايمان مجمع أفسس (431) . ولما رفض البطريرك وأساقفته تصديق صيغة الإمبراطور في الإيمان غضب الإمبراطور وأصدر أمراً بتعذيب أي امرئ يرفض قبول الصيغة واضطهاده . وسوف نشرح بالتـفصيل هذه النقطة وعلاقاتها بالعقيدة المونوثيلية لاحقاً . يكفي أن نلحظ هنا وقع هذا المرسوم الإمبراطوري

: يقول التلمحري

نتيجة اضطهاد الأرثوذكس (أولئك الذين آمنوا بطبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي ورفضوا مجمع خلقيدونية) قام العديد من الرهبان بقبول مجمع خلقيدونية بمن فيهم رهبان بيث مارون (دير مارون) مع أهالي منبج وحمص

 

من الثابت أن رهبان دير مارون  ، كما نعلم من هذه الرواية  ، قبلوا إيمان مجمع خلقيدونية واعتنقوه في عام 629  ، عندما بدأ اضطهاد من رفضوا المجمع . يبيّن التلمحري المزيد بالقول أن رهبان دير مارون كانوا أرثوذكسيين يتمسكون بالعقيدة الكيرلسية التي تؤمن بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي  ، إلا أنهم اعترفوا بمجمع خلقيدونية تحت الإكراه . لو كان هؤلاء الرهبان خلقيدونيين  ، لما قال التلمحري بأنهم كانوا قد قبلوا مجمع خلقيدونية . إن ما يقنعنا بشكل أكبر أنهم لم يكونوا خلقيدونيين هو عدم وجود سبب يحدوهم إلى قبول إيمان هذا المجمع مرة أخرى لو كانوا خلقيدونيين اصلاً . فضلاً عن ذلك  ، ما كان تهديد الإمبراطور باضطهاد أولئك الذين رفضوا المجمع ليمتد إليهم لو أنهم كانوا خلقيدونيين في ذلك الحين . تدل الحقائق على أنهم لم يكونوا خلقيدونيين وانهم قبلوا مجمع خلقيدونية من أجل النجاة من الاضطهاد . إن ما يُضفي المزيد من الأهمية على رواية التلمحري هو أن هذا الاضطهاد لم يكن موجهاً بشكل أساسي ضد هؤلاء الرهبان؛ بل موجهاً ضد كل الذين رفضوا في سورية قبول مجمع خلقيدونية  ، والذين يدعوهم التلمحري أرثودكسيين . لا يمكن أن يكون هذا خطأ ارتكبه التلمحري أو ميخائيل الكبير  ، الذي ادرج ملخصاً لرواية التلمحري في تاريخه . ومع ذلك  ، اذا اخذنا بنظر الاعتباروجود الوف الرهبان في سورية  ، فمن غير المحتمل أن يكون التلمحري قد اختار رهبان دير مارون دون غيرهم على أنهم قبلوا مجمع خلقيدونية . ومما يجعل روايته أكثر قابلية للتصديق هو أنه يذكر  ، من بين كل سكان سورية  ، فقط أهالي منبج وحمص وسكان جنوب سورية الذين قبلوا مجمع خلقيدونية

 

يمكننا ان نستخلص من قول التلمحري أن دير مارون الذي يذكره لم يكن غير واحد من الأديرة الأقل أهمية في سورية والتي تقع تحت سلطة بطريركية أنطاكية المناوئة لمجمع خلقيدونية  ، وأن رهبانه صاروا خلقيدونيين خوفاً من الاضطهاد . ومنذ ذلك الحين فصاعداً انفصلوا عن هذه البطريركية المناوئة لمجمع خلقيدونية وبدأوا بعدئذ بتـنصيب بطاركة من ديرهم ليصبحوا بذلك طائفة دينية مستقلة . يجزم المطران أقليمس يوسـف داود بأن رواية التلمحري أقنعته بأن رهبان مارون كانوا يعاقبة”  ، أي مناوئين لمجمع خلقيدونية . ويقـول بأنه في مطلع مجمع القسـطنطينية (536) هجر هؤلاء الرهبان  ، إما خوفاً أو لسبب آخر  ، الجماعة الخلقيدونية أو الملكية في كنيسة أنطاكية وانضموا إلى القطاع “اليعقوبي” لتلك الكنيسة . يبدو بأن داود يرتاب بالنزاهة الدينية لهؤلاء الرهبان ويبدي ملاحظته بالقول بأنهم اشتهروا بسمعتهم السيئة في تبديل ولائهم  . لا بد أن الخوف الذي يلمّح إليه داود كان نتيجة اضطهاد هرقل  ، فليس هناك شواهد  تثبت قوى أخرى أجبرت الرهبان على الانضمام إلى جماعة “اليعاقبة” في كنيسة أنطاكية  ، وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد بأن رهبان دير مارون كانوا “مونوفيزيين” من اصحاب الطبيعة الواحدة يتمسكون بعقيدة القديس كيرلس الاسـكندري . بل ان المطران داؤد نفسه يؤمن بأن هؤلاء الـرهبان والموارنة كانوا في الواقع مونوفيزيين أو ” يعاقبة ”

 

هناك دليل يستـند إلى ما كتبه يوحنا مارون  ، الذي كان على ما يزعم أول بطريرك ماروني وهو أن الموارنة كانوا “مونوفيزيين” أو سرياناً أرثودكس . ففي الكتاب الذي يحمل عنوان: شرح الإيمان (والذي ستتم مناقشته بعدئذ والموجود في المخطوطة الفاتيكانية 146  ، ص 4) يقول يوحنا مارون:

نؤمن أن واحداً من الثالوث  ، الكلمة  ، هو من نفس جوهرنا وطبيعتنا ما عدا الخطيئة . إنه في طبيعتين الإلهية والبشرية : ابنٌ واحد  ، ربٌ واحد  ، مسيحٌ واحد . كما نعترف بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي كما نادى بها الآباء القديسون

 

ان عبارة طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي هي عقيدة القديس كيرلس الاسكندري الذي يعتبره يوحنا مارون أباً قديساً . هذه هي الأرثودكسية التي كانت كنيسة أنطاكية السريانية قد قبلتها والتي دافع عنها سويريوس الأنطاكي حتى الرمق الأخير . لكن الخلقيدونيين يسمون عقيدة كيرلس الاسكندري هذه بالمونوفيزية اي الطبيعة الواحدة  ، ويخلطون بينها وبين عقيدة أوطاخي أو عقيدة أبوليناريوس اللاذقي(ت 390) بدون تمحيص

 

يمكننا أن نقول ودون حرج بأن رهبان دير مارون لم يكونوا جميعاً خلقيدونيين ومدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية . فقد نبذت غالبية الرهبان الموارنة في الحقيقة مجمع خلقيدونية . هناك شهادة بهذا الخصوص يدلي بها جرمانوس  ، بطريرك القسطنطينية (ت 733)  ، وهو الذي يصم الموارنة بالهراطقة لأنهم نبذوا المجمع الرابع والخامس والسادس  مما لا يترك مجالاً للشك بأن الكهنة الموارنة والعلمانيين لم يقبلوا جميعاً مجمع خلقيدونية . وسوف نشير الى هذه الشهادة بعدئذ

 

ومن رواية التلمحري السابقة نصل إلى نهاية المرحلة الأولى من تاريخ الموارنة . وما نخلص إليه هو أن راهباً ناسكاً يدعى مارون عاش في أوائل القرن الخامس وذكره ثيودوريطس  ، أسقف قورش بطريقة عابرة . كذلك نخلص الى وجود عدة أديرة باسم مارون في سورية  ، ومنها الدير الذي يقع على نهر العاصي  ، إلا أننا لا نملك سجلاً يُـشير إلى تاريخ بناء هذا الدير  ، أو إلى أن أصل الكنيسة المارونية وجماعتها ينسب إليه . فضلاً عن ذلك  ، يختلف الموارنة حول مصدر كلمة ” موارنة ” واشتقاقها . فبينما يدعي العديد منهم بأن هذا المصطلح مشتق من مارون الذي عاش في القرن الخامس أو من دير يدعى دير مارون  ، فإن بطريركهم اسطفان الدويهي  ، الذي يحذو حذو القلاعي  ، يؤكد بأن مصطلح ” موارنة ” مشتق من “المبارك مارون  ، بطريرك أنطاكية العظمى ” . ويُـضيف الدويهي بأن “هذا هو الرأي الذي تقبله كنيسة روما  ، والذي يتفق مع تقليد الكنيسة المارونية ”  . على اية حال  ، وبناءً على رواية التلمحري فإن رهبان دير مارون صاروا يُعرفون بالموارنة لأول مرة بعد اضطهاد هرقل عام 629 . وعلى مدى فترة من الزمن بعد عام 629  اصبحوا طائفة منفصلة . مع ذلك  ، فإن إيمان هؤلاء الرهبان ومن تبعوهم قبل هذا التاريخ كان نفس إيمان كنيسة أنطاكية السريانية القائم على اساس عقيدة القديس كيرلس الاسكندري

 

سوف نرى بعدئذ أن الموارنة لم يصبحوا كنيسة منفصلة متميزة عن غيرها من الكنائس في الشرق حتى القرن الثامن

 

 

12 هــرقـــل وصيغــة الإيــمــان المونــوثـيلــية

 

في النصف الأول من القرن التاسع أماط ديونيسيوس التلمحري أخيراً اللثام عن تاريخ رهبان دير مارون الذي كان في السابق غامضاً يفتقر الى الإثبات. يزودنا التلمحري،  وهو أقدم مصدر من مصادرنا حول هؤلاء الرهبان،  بالعديد من الروايات التي تشرح بداية الكنيسة المارونية،  جماعتها،  بطريركيتها وإيمانها العقائدي. وترتبط إحدى هذه الروايات بالسياسة الدينية للإمبراطور البيزنطي هرقل ،  الذي كان ينوي الحفاظ على وحدة الإمبراطورية. كان قد حصل صراع ديني حاد وانشقاقات كبيرة ضمن الكنيسة منذ القرن الأول للحقبة المسيحية،  إلا أن هذا الصراع بلغ ذروته في مجمع خلقيدونية عام 451 الذي شقّ وحدة الكنيسة وخَلق سوء نية أكثر من أي مجمع كنسي آخر مخلفاً جراحاً في جسم الكنيسة الجامعة لا تزال حتى يومنا هذا. إن الاضطهاد المشين الذي مارسته الدولة والكنيسة البيزنطيتين لتشبثهما بالإيمان الخلقيدوني تجاه الذين رفضوا هذا الإيمان هو حقيقة تاريخية. وقد جرت عدة محاولات قام بها عدد من الأباطرة لمصالحة الخلقيدونيين مع المعارضين لهم،  لكنها باءت بالفشل. إن جهود الإمبراطور يوسطينيان الأول الصادقة بهذا الصدد والتي ما كانت إلا جهوداً خرقاء متنافرة،  معروفة جداً. ولكن ما أساء في الحقيقة إلى سلامة الإمبراطورية البيزنطية هو أن غالبية أهالي إقليمي مصر وسورية التابعين لسلطة الدولة البيزنطية كانوا مناهضين لتعريف إيمان خلقيدونية (1). وقد أضعفت هذه المعارضة ولاء سكان هذين الإقليمين للدولة،  وأخيراً خسرتهما هذه الدولة أولاً للفرس ثم للفاتحين العرب المسلمين ما بين سنوات 633 و 640

 

عندما تولى هرقل السلطة عام 610،  كان الصدع في الكنيسة قد وصل الى حدّ الخطورة. فالعداء بين الخلقيدونيين،  الذين تمسكوا بعقيدة الطبيعتين في المسيح،  والمعارضين لهم،  الذين تمسكوا بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي،  كان فعّالاً وهداماً كما كانت عليه الحال في اعقاب مجمع خلقيدونية. وهنا واجهت هرقل مشكلة خطيرة،  كانت تهدد وجود الدولة البيزنطية بالذات. ففي عام 611 هاجم الفرس سورية واحتلوا أنطاكية ودمشق،  وبعد ثلاث سنوات زحفوا نحو فلسطين وبعد عشرين يوماً من الحصار احتلوا القدس،  عابثين فيها نهباً وقتلاً. كانت خشبة الصليب المقدس من بين النفائس الثمينة التي حملوها معهم. وفي عام 618 هاجموا مصر وعاثوا فيها فساداً ثم دخلوا كابادوكية وبلاد بيزنطة نفسها،  وأضحت العاصمة القسطنطينية في متناول يدهم. أخفقت جهود هرقل لعقد الصلح مع الملك الفارسي،  كسرى الثاني،  وفي غمرة يأسه،  وجه الإمبراطور المهزوم جيشاً عرمرماً،  هاجم به الفرس عام 622  طارداً إياهم من أرمينيا. منذ ذلك الحين فصاعداً صار الفرس في موقف المدافع وخسروا العديد من المعارك مع البيزنطيين. وبحلول عام 628 كان الفرس قد أُجلوا عن المقاطعات البيزنطية وساد السلام أخيراً عام 630. إلا أن العرب احتلوا مصر وسورية في العقد التالي  مما أحدث انقلاباً جذرياً في تاريخ الشرق الاوسط

 

من الظاهر أن هرقل،  كما فعل يوسطينيان الأول،  اعتبر أن سلامة الإمبراطورية كانت تعتمد،  من بين الأشياء الأخرى،  على مصالحة الفريقين المتخاصمين الخلقيدونيين ومعارضيهم. كان اهتمامه الرئيسي منصباً لا على لأم جراح الكنيسة أو التهاود بشأن بقرارات مجمع خلقيدونية بل على اعتبارات سياسية لاسترجاع إقليمي مصر وسورية المناوئين لمجمع خلقيدونية محققاً بذلك وحدة الإمبراطورية التي تمناها. لهذا السبب كان عليه أن يجد صيغةً للإيمان ترضي المناوئين لمجمع خلقيدونية دون انتقاص عقيدة هذا المجمع. كانت صيغة الإيمان هذه هي المونوثيلية،  التي أقرت بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة وقدرة واحدة،  أو باستعمال تعريف الكاتب الالماني ادولف هارناك،  ” ان طبيعتي المسيح اقامتا بكل الفعاليات بإتحادهما بقدرة إلهية ـ بشرية واحدة

 

لم تكن صيغة القدرة الواحدة بدعةً في الكنيسة. بل يرجع تاريخها إلى الكتاب المنحول لديونوسيوس الأريوفاغي . ففي رسالتهم الموجهة إلى الإمبراطور يوسطينيان الأول،  لم يستـشهد الآباء المناوئون لمجمع خلقيدونية الذين استدعوا من المنفى لمناقشة وحدة الكنيسة في القسطنطينية (535 ـ 536) بالكتاب المنحول للأريوفاغي فقط،  بل أصروا أيضاً أن في التجسد لم تكن هناك سوى طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي. وكما يقول سرجيوس بطريرك القسطنطينية (610ـ638)،  هذه هي الصيغة التي قال بها كيرلس الاسكندري في الفصل الرابع من تفسيره لانجيل يوحنا أن ” المسيح اظهر مشيئة واحدة متجانسة نتيجة اتحاد طبيعتيه ” . كما يروي سرجيوس أن هذه الصيغة موجودة في رسالة سلفه،  البطريرك مينا (ت 552) إلى البابا فيجيليوس ووردت مرة أخرى في رسالة مينا إلى الإمبراطور يوسطينيان الأول؛ كتبت هاتان الرسالتان بخصوص إدانة الفصول الثلاثة ( الاولى رسائل هيبا الرهاوي إلى ماري،  والثانية عقيدة تيودوريطس،  أسقف قورش والثالثة كتابات ثيودور المصيصي ). وبعد ان ادان البابا فيجيليوس هذه الفصـول الثلاثة صرّح قائلاً : ” نحـرم كل من لا يعترف أن كلمة الله المولود الوحيد،  أي المسيح،  هو جوهر واحد وشخص واحد و unam operationem “،  و(فعل واحد)

 

يعزو بعض الكتّاب،  الذين يعتبرون صيغة القدرة الواحدة ” هرطقة “،  إلى سرجيوس هذا،  الذي يُـشير إليه ثيوفانس وآخرون اعتباطاً على أنه ” يعقوبي “. كما أنهم يدّعون خطأ بأنه كان أول من كتب عن هذه العقيدة . وفي الوقت الذي يقول فيه بعض الكتّاب أن الإمبراطور هرقل علم بهذه العقيدة بواسطة القائد بولس المناوئ لمجمع خلقيدونية عندما كان في أرمينيا،  يرتأي آخرون ان الامبراطور كان ولا بدّ على علم بهذه العقيدة بواسطة سرجيوس قبل لقائه ببولس . يقول المؤرخ الألماني يوحنا موسهايم،  ولكن بدون اساس تاريخي،  أن بولس والبطريرك اثناسيوس معاً أوحيا إلى هرقل ” بأن المونوفيزيين ” وهم المناوئون لمجمع خلقيدونية ” قد يقتـنعون بقبول مجمع خلقيدونية ويتصالحون مع اليونانيين،  بشرط أن يقبل اليونانيون أنه لم تكن في المسيح يسـوع،  بعد اتحاد الطبيعتين،  سوى مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد ” . هناك رواية أخرى يرويها الكاتب الكاثوليكي نويل الكسندر الذي يقول ” أن أثناسيوس بطريرك اليعاقبة،  وهو رجل شرير داهية كسب ثـقة الإمبراطور،  زار الإمبراطور عندما كان في جرابلس،  في سورية العليا ” ،  ووعده الإمبراطور حينذاك بتنصيبه بطريركاً على أنطاكية إذا قبل مجمع خلقيدونية واعترف بطبيعتين. عندئذ سأل أثناسيوس الإمبراطور إن كان من الضروري القول بمشيئتين وفعلين أو بمشيئة واحدة وفعل واحد في شخص المسيح. ويتابع الكسندر قائلاً بأن أثناسيوس ” الأوطاخي” كان راضياً بهذه العقيدة الزائفة لهذا جرى تعيينه بطريركاً لأنطاكية. ويستنتج الكسندر بأن هؤلاء الرجال الثلاثة،  أثناسيوس وسرجيوس وأسقف قورش كانوا المبتدعين للطائفة “المونوفيزية ”

 

اذا استثنينا الحقيقة وهي أن البطريرك أثناسيوس التقى بهرقل،  فإن بقية الرواية التي رواها نويل الكسندر لا تستند على أساس تاريخي

 

يمكننا إذاً أن نحكم بأنه ليس من المؤكد ان كان سرجيوس قد عرض عقيدة القدرة الواحدة على هرقل أم أن الأخير علم بها من بولس بينما كان هذا الاخير في أرمينيا. إن انماء معرفة الإمبراطور بهذه العقيدة إلى أثناسيوس بطريرك أنطاكية أمر تدحضه الحقيقة وهي أن الإمبراطور كان قد كتب إلى هذا البطريرك قبل لقائهما في عام 629،  حول وحدة طبيعتي المسيح،  قائلاً أن ” ما يثبت هذه الوحدة هو القدرة الواحدة كما كان المبارك كيرلس قد قال ” . وهذا ما كان البابا فيجيليوس قد أعلنه في مجرى الأحداث التي أدت إلى إدانة الفصول الثلاثة في المجمع الخامس. لذا،  من الخطأ الادعاء أن البطريرك اثناسيوس كان أول من نقل هذه العقيدة إلى الإمبراطور،  لكن لا بد أن الإمبراطور كان يرجو بألا تسيء عقيدته الجديدة إلى الخلقيدونيين،  بينما ترضي في الوقت نفسه معارضيهم وبالتالي توحد بين الفريقين. إلا أن النتيجة لم تكن كما كان متوقعاً. وبينما صادق بعض الكهنة ذوي النفوذ في أرمينيا وسورية ومصر على العقيدة فإن العديد من الكهنة الخلقيدونيين الغيورين عارضوها. وسوف نرى بعدئذ أن البابا هونوريوس تمسك بالمونوثيلية وحُرم بسببها ( ومن الذين عارضوا العقيدة الجديدة هو سـوفرونيوس،  الذي أصبح بطـريرك القدس ( 633ـ634) وقد أيده رئيس الدير مكسيموس،  وهو خلقيدوني متشدد ومعارض لعقيدة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة في المسيح. كان مكسيموس قد شارك في مجمع لاتـران الذي عقده البابا مرتينس الأول عام 649،  والذي أدان كلاً الـ (Ecthesis) صيغة هـرقل (638) والـ  (Typus) صيغة الإمبراطور كونستانس الثاني ( 648 ) – (قسطنطين الثالث)،  والوثيقة الأخيرة كانت تحمي من المقاضاة القانونية أولئك الذين اتخذوا أياً من الموقفين في مسألة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة أو المشيئتين والقدرتين،  ولكنها تمنعهم تحت طائلة العقوبة من المنازعة بشأن القضية. وما كان من كونستانس الا ان دعا مكسيموس من روما إلى القسطنطينية للمحاكمة وحاول إجباره على قبول الـ Typus. لكن مكسيموس رفض أن يفعل ذلك طالما أن الـ Typus كانت في نظره تحتوي على نكران لعقيدة المشيئتين في المسيح والتي دافع نفسه عنها بشدة. ولمّا استمر مكسيموس بنشر عقيدة المشيئتين بواسطة مؤلفاته،  أمر الإمبراطور بجلده وقطع ذراعيه ولسانه ونفيه. وبعد وفاة مكسيموس عام 662 أدينت المونوثيلية أخيراً في المجمع السادس عام 680 باعتبارها “مونوفيزية ” . ويبدي التلمحري ملاحظة بهذا الصدد قائلاً أن الخلقيدونيين،  وعلى مدى مائتين وثلاثين عاماً،  ومنذ مجمع خلقيدونية (الذي يسميه ” بالمجمع الفاسد “) وحتى زمن المجمع السادس عام 680 آمنوا بطبيعتين في المسيح ومع ذلك اقروا بشخص واحد،  مشيئة واحدة وفعل واحد في المسيح. ويُـضيف قائلاً أنهم اكثروا من “إفسادهم” للعقيدة في زمن المجمع السادس مدعين أنه لم تكن في المسيح سوى مشيئتين وفعلين . أما المحاولة الأخيرة التي جرت لحل الجدل حول عقيدة المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح فقد قام بها الإمبراطور فيليبيكوس (711ـ713) الذي عزم على إبطال قرار المجمع السادس ورفض تعليم مكسيموس في المشيئتين ولكن لم يتسنَ لهذه المحاولة،  لأسباب غير معروفة،  أن تـتحقق أبداً

 

سبق ان ذكرنا أن هرقل قد اقتـنع بأن سلامة الدولة البيزنطية كانت تعتمد،  من ضمن امور اخرى،  على إخلاص الأقاليم الشرقية (بصورة رئيسية سورية ومصر) وتسوية الصراع الديني بين الخلقيدونيين والمعارضين لهم،  ولهذا بدأ بتطبيق عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح لتحقيق وحدتهم. ويقدم لنا التلمحري رواية عن الجهد الذي بذله هرقل لإشاعة السلام بين الكنائس،  وعلى الأخص مصالحة الفريقين المتخاصمين. يقول التلمحري: عندما كان هرقل في سورية عام 628 زار مدينة أورهوي (الرها،  أورفه في تركيا حالياً)،  مركز المسيحية السريانية في ذلك الحين. وقد دهش عندما وجد عدداً قليلاً من المسيحيين يعترفون بإيمان مجمع خلقيدونية،  فقرر مصالحتهم مع الطرف الآخر المناوئ للخلقيدونية واستمالتهم ليقبلوا صيغة عقيدته بمشيئة واحدة في المسيح،  وهي الصيغة التي ظنَّ بأنها ستكون مقبولة لديهم. ولكنه عندما حضر خدمة القداس في كاتدرائية المدينة،  رفض الأسقف اشعيا الذي كان يحتفل بالقداس مناولته القربان المقدس ما لم يقم بإدانة مجمع خلقيدونية خطياً. وعندئذ استـشاط الإمبراطور غضباً وطرد الأسقف من الكاتدرائية،  وسلمها إلى الجانب الخلقيدوني. وبعدئذ دعا الإمبراطور عام 629 بطريرك أنطاكية السرياني أثناسيوس (الملقب بالجمّال) لمناقشة المسائل المتعلقة بالإيمان معه. ذهب البطريرك يرافقه اثنا عشر أسقفاً لمقابلة الإمبراطور. وبعد اثني عشر يوماً من الجدل رفض البطريرك وأساقفته قبول صيغة الإمبراطور في الإيمان وهي اتحاد طبيعتي المسيح في مشيئة واحدة. جاء هذا الرفض بحجة أن العقيدة كانت متطابقة مع الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية وطومس لاون،  وأنهم ليسوا على استعداد لقبول صيغة إيمان كانوا يعتبرونها مخالفة لعقيدة القديس كيرلس الاسكندري أي ـ طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي . أثار رفض البطريرك واساقفته لهذه الصيغة غضب الإمبراطور الذي أصدر أمراً بمعاقبة أولئك الذين رفضوا قبول مجمع خلقيدونية وذلك بجدع أنوفهم ونهب منازلهم. كان الاضطهاد موجهاً ضد السريان المناوئين لمجمع خلقيدونية والمتمسكين بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة. نتيجة لذلك قبل العديد من الرهبان ومنهم رهبان دير مارون مجمع خلقيدونية واستولوا على عدة كنائس وأديرة كانت تابعة للمناوئين لمجمع خلقيدونية. وعندما اشتكى هؤلاء المناوئون لمجمع خلقيدونية إلى الإمبراطور من الاستيلاء على كنائسهم وأديرتهم لم يصغ الإمبراطور إلى شكواهم

 

نعلم من هذه الرواية أن رهبان دير مارون لم يكونوا خلقيدونيين قبل حكم هرقل. فلو أنهم كانوا خلقيدونيين،  لما كان هناك سبب يدعو الإمبراطور لاضطهادهم. من الواضح أيضاً أن الاضطهاد الذي وقع على هؤلاء الرهبان أرغمهم على الاعتراف بمجمع خلقيدونية وصيغته في الإيمان على الشكل الذي عرضه فيه الإمبراطور. وكما يقول التلمحري،  قبل أيضاً أهالي منبج وحمص والعديد من الناس من جنوب سورية مجمع خلقيدونية. يوحي قبولهم لم يكونوا خلقيدونيين بل كانوا متمسكين بصيغة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. اضافة الى ذلك،  لو كان أن الناس الذين استولوا على الكنائس والأديرة منتزعين إياها من المناوئين لمجمع خلقيدونية كانوا مدافعين عن إيمان خلقيدونية (أي لو أنهم كانوا ملكيين)،  لكان التلمحري قال ذلك. إلا أنهم لم يكونوا كذلك،  وها نحن قادرون مرة أخرى على الاستـنتاج من رواية التلمحري أن هؤلاء الناس،  بمن فيهم رهبان دير مارون،  قد أظهروا بطشاً واستولوا على عدة كنائس وأديرة من أولئك الذين بقوا رغماً عن أمر الإمبراطور ثابتين في رفضهم لمجمع خلقيدونية. ان رواية التلمحري تدعونا إلى الاعتقاد بأن هؤلاء الناس،  ومنهم رهبان دير مارون،  كانوا مناوئين للخلقيدونية اي “مونوفيزيين”. والمراد قوله هنا هو أنه في ذلك الحين كانت هناك طائفتان دينيتان رئيسيتان في سورية ـ ” طائفة الملكيين الخلقيدونيين “،  وطائفة ” المونوفيزيين ” أو ” اليعاقبة ”  المناوئين لمجمع خلقيدونية: اي لم يكن هناك موارنة. كانت الطائفتان في صراع دائم احداهما مع الأخرى حول مجمع خلقيدونية. وطالما أن التلمحري لا يقول بأن أولئك الذين استولوا على كنائس الأرثوذكس (المونوفيزيين)،  ونهبوها،  أي رهبان دير مارون،  كانوا ملكيين،  فمن المحتم أنهم كانوا ولا بد جماعة من “المونوفيزيين” أو “يعاقبة” الذين لم يكونوا،  لسبب غير معروف،  على علاقة طيبة مع بقية المونوفيزيين أو كنيستهم. لكن بالرغم من أن رهبان دير مارون وأهالي منبج،  حمص وجنوب سورية قد قبلوا بمجمع خلقيدونية واستولوا على كنائس وأديرة المناوئين لمجمع خلقيدونية،  فليس هناك من دليل على أن طائفة مارونية أو بطريركية مارونية كانتا آنذاك في قيد الوجود. من المحتمل ان جماعة من هذا القبيل كانت في طور الظهور إلا أنها لم تكن بعد قد أخذت المكانة الكاملة لطائفةٍ معترفٍ بها. قد يكون من الصواب القول أن الناس الذين قبلوا مجمع خلقيدونية والصيغة المونوثيلية التي عرضها هرقل قد انضموا إلى رهبان دير مارون لتشكيل طائفة دينية جديدة. من المحتمل جداً أن بعض الأساقفة السريان الأرثوذكس (المونوفيزيين)،  بعد أن رأوا أن غالبية رعيتهم قد قبلت مجمع خلقيدونية،  لم يجدوا بديلاً سوى أتباع رعيتهم والاعتراف بمجمع خلقيدونية،  مشكلين بذلك طائفة مارونية جديدة. إلا أن هذا محض تخمين،  لأن المصادر المتوفرة تدل بأن ظهور الموارنة كطائفة منفصلة لم يتم حتى القرن التالي. في الحقيقة اسـتمر رهبان مـارون هؤلاء والناس الذين انضموا إليهم بعد عام 630 في الاعتراف بإيمان مجمع خلقيدونية،  ولكن بمدلول مونوثيلي . فقد تمسكوا على نحو الملكيين الخلقيدونيين،  بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد ومشيئة واحدة. ولم تصبح الجماعتان متمايزتين إلا بعد عام 680،  عندما قبل الملكيون عقيدة المشيئتين في المسيح التي قام مكسيموس بنشرها والمجمع السادس بتثبيتها. يقول مفريان الكنيسة السريانية مار غريغوريوس ابن العبري (ت 1286)،  في كتابه (منارة الأقداس،  الكتاب السادس،  الفصل الثالث،  الترجمة العربية للمطران بهنام ججاوي طبعة دير ماردين حلب 1996 ص 373) اعترف الموارنة واليونانيون أو البيزنطيون بعقيدة المشيئة الواحدة والارادة الواحدة في المسيح حتى عهد مكسيموس : بعبارة أخرى،  كانوا مونوثيليين. : ولم يقم أحد بتوضيح هذه النقطة بشكل جلي وممتاز كما فعل التلمحري. وإليكم بيانه بكامله

ناقشنا سابقاً هرطقة مكسيموس (المشيئتين في المسيح) وكيف قام قسطنطين (بوغوتانس اي ذو اللحية او الملتحي) بإدخالها إلى الكنيسة البيزنطية بعد أن كان والده قد أزالها من الوجود. الآن نريد أن نناقش الصدع الذي حصل بينهم (الخلقيدونيين عام 727) بسبب هذه الهرطقة (المشيئتين) المعتنقة في بلاد اليونان (البيزنطيين) والتي لم تكن معروفة أبداً في سورية. والآن (عام 727) غرسها الأسرى وسالبوا الغنائم الذين رافقوا الجيوش العربية وعاشوا في سورية. كان أهالي المدن الرئيسية وأساقفتها وقادتها هم الذين أفسدتهم هذه الهرطقة ومن بينهم سرجيوس،  ابن منصور (ربما كان والد القديس الخلقيدوني يوحنا الدمشقي). فقد ضايق سرجيوس المؤمنين (المناوئين لمجمع خلقيدونية) في دمشق وحمص  لا من أجل إسقاط عبارة يا من صُلبت لأجلنا،  من التقديسات الثلاث فقط،  بل داهن العديد منا (المناوئين لمجمع خلقيدونية) بمعسول الكلام لقبول هرطقته. كما أفسدت هذه الهرطقة كرسي أورشليم وأنطاكية والرها والكراسي الموجودة في مدن أخرى والتي كانت تحت سيطرة الخلقيدونيين منذ عهد هرقل. لم يقبل رهبان بيت مارون (دير مارون) وأساقفة هؤلاء الرهبان وبضعة أناس آخرين،  على أية حال هذه العقيدة (المشيئتين). إلا أن سائر أهالي المدن والأساقفة قبلوها. ووقع قدر كبير من المنازعات والحرومات بسبب هذه الهرطقة. ومن ثمّ احتقر أتباع دير مارون الخلقيدونيون أتباعَ مكسيموس داعين إياهم بالنساطرة والوثنيين واليهود وقائلين لهم بأنكم ” لا تعترفون بأن المسيح هو الله،  وأنـه وُلد من عذراء وأنه صُلب وتألم في جسده “.بل تقولون أنه كان إنساناً بسيطاً وشخصاً خاصاً منفصلاً وبعيداً عن الله،  وبأنه خشي الموت ولهذا السبب صرخ ” يا ابتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس: ولكن لا لتكن إرادتي بل إرادتك ” كما لو أنه كانت هناك مشيئتان،  واحدة للآب وواحدة للابن،  او أنه كانت في المسيح إرادتان منفصلتان منقسمتان متضادتان “. احتقر أتباع مكسيموس أتباع مارون (رهبان دير مارون) قائلين : “انتم لا تعترفون بنفس إيمان مجمع خلقيدونية وطومس لاون،  ولا تؤمنون بأن في المسيح طبيعتين مستقلتين مع احتفاظهما بخصائصهما وفعليهما. لأنه لو كانت في المسيح طبيعتان،  لوجب تبعاً لذلك أن تكون فيه مشيئتان وفعلان مستقلان. لكنكم تعترفون بعقيدة كيرلس (الاسكندري) وسويريوس (الأنطاكي) اللذين اعتقدتا بأنه لم يكن في المسيح سوى شخص واحد وطبيعة واحدة وأن واحدٌ هو فعله وقدرته وسلطته “. كما دعوهم بالسويرسيين واليعاقبة ومؤلمي الإله. رد هؤلاء ( رهبان مارون وأتباعهم ) رداً حسناً على أولئك (المكسيميين) قائلين،  ” إن كان المسيح يُعرف بطبيعتين مع الحفاظ على خصائصهما وعملهما كما جاء في طومس لاون وقرارات مجمع خلقيدونية،  فمن اللازم أيضاً الإيمان بمشيئتين وفعلين وشخصين لا بل ايضاً بابنين ومسيحين ” .

يعلق التلمحري،  بكل إنصاف،  قائلاً لا موجب لخصام هذين الفريقين لأن كليهما كانا يعتمدان إيمانين متطابقين،  إيمان لاون وإيمان مجمع خلقيدونية . ثم يورد مثالاً على درجة عالية من الأهمية عن الانقسام العقائدي في رعية حلب التي انقسمت إلى جماعتين متباغضتين؛ اتبعت إحداهما الموارنة وانضمت الأخرى إلى أتباع مكسيموس الذي آمن بمشيئتين في المسيح. ونشب عن ذلك خصام بين هاتين الجماعتين للاستحواذ على الكاتدرائية الكبرى في حلب بلغ من الحدة درجة دعت الحاكمَ المسلم للمدينة إلى تقسيم الكاتدرائية وإقامة حاجز خشبي في وسط الكنيسة بحيث كان لكل جماعة جناحها الخاص بها. إلا أن المشادات الكلامية استمرت بين أفراد الجماعتين وخاصة بعد انضمام النساء إليهم وحدوث عراك فعلي داخل بناء الكنيسة. وأخيراً،  خجل الطرفان من تصرفاتهما المعيبة فتصالحا،  وأصبح أفرادهما أتباعاً لمكسيموس يتمسكون بمشيئتين في المسيح .

هذا ما يدل على أن الموارنة كانوا في منتصف القرن الثامن عندما حصلت هذه الحادثة متميزين عن الملكيين. فبينما تبنى الملكيون الإيمان بمشيئتين في المسيح،  فإن الموارنة،  فيما عدا رعية حلب،  بقوا مونوثيليين متشبثين بالمشيئة الواحدة في المسيح


13 الملكـــيــون والمـــورانة والمـجـمـع الـسادس

 

يشرح التلمحري، بوضوح، انه لم يكن في سورية، منذ عام 629 عندما فرض هرقل المونوثيلية كعقيدة جديدة، وحتى عهد الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، ذو اللحية (668ـ685) أحد قد ناقش أو حتى أقرَّ بأن الإيمان بطبيعتين في المسيح اقتضى أيضاً الاعتراف بمشيئتين فيه. فالملكيون الخلقيدونيون والموارنة الخلقيدونيون كانوا يعتمدون العقيدة التي تنص بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد ومشيئة واحدة وفعل إرادي واحد. باختصار، كانت هاتان الجماعتان مونوثيليتين، وكان اعتـناقهما لإيمان خلقيدونية هو الاختلاف اللاهوتي الرئيسي الوحيد بينهما وبين غالبية السـريان الذين رفضوا ذلك الإيمان. ومع ذلك فان الجماعتين عاشتا في انسجام لأنهما كانتا ملتزمتين بنفس الإيمان. ويذكر التلمحري أن المشاكل حصلت بينهما عام 727 حول إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح، والتي يسميها التلمحري بـ ” هرطقة  مكسيموس “، لأن مكسيموس كان قد استمات أكثر من أي واحدٍ آخر، في الدفاع عنها. ونحن نعلم أن المجمع السادس الذي انعقد عام 680 برئاسة الإمبراطور قسطنطين بوغوناتس قد تبنى هذه العقيدة وجعلها بنداً من بنود الإيمان. وفي هذا المجمع نفسه أدينت عقيدة المونوثيلية وجرت حرومات الذين أُدانوا ومنهم على الاخص مينا بطريرك القسطنطينية، والبابا فيجيليوس والبابا هونوريوس . هذا ما يؤكد قول ابن العبري بأن البيزنطيين كانوا يعترفون حتى زمن مكسيموس وثيودور الحرّاني ويوحنا الدمشقي بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. وكما يقول التلمحري فانه لم يجر نشر العقيدة الجديدة اي عقيدة المشيئتين في المسيح والتي جُعلت عقيدة رسمية في البلاد البيزنطية نفسها (آسيا الوسطى)، في سورية عن طريق البعثات التبشيرية البيزنطية بل عن طريق الأسرى البيزنطيين والاهالي الذين قام العرب بترحيلهم إلى سورية. وربما كانت الحرب التي دارت بين العرب والبيزنطيين هي التي اقتلعت هؤلاء الأسرى البيزنطيين من ديارهم فتوجهوا أخيراً نحو سورية. لم يكن القادمون خلقيدونيين فقط بل يدينون بعقيدة المشيئتين في المسيح، والتي كان السريان يعتبرونها بدعة. ولدى انتـشار هذه العقيدة الجديدة في سائر أنحاء سورية، اعتـنقها غالبية سكان المدن (دمشق وحلب وحمص على سبيل المثال) والعديد من الأساقفة والشخصيات. وكان أحد هذه الشخصيات سرجيوس ابن منصور، الذي أجبر السريان على قبول هذه العقيدة. لكن السريان الذين خضعوا لإكراه إبن منصور لم يكونوا ملكيين خلقيدونيين ولم يتلوا أبداً التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا؛ بل كانوا تلامذة رهبان دير مارون الذين تلوا التقديسات الثلاث مع هذه العبارة والذين تبنوا المونوثيلية في زمن هرقل. كان بعضهم أيضاً، سرياناً مناوئين للخلقيدونية ينتمون إلى كنيسة البطريرك ديونيسيوس التلمحري وكانوا يتمسكون بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. والذي يبدو من رواية التلمحري أن الكراسي الخلقيدونية في أورشليم وأنطاكية والرها بالإضافة إلى بعض المدن الصغرى في سورية قد اعتنقت ما بين عامي 680ـ727 عقيدة المشيئتين في المسيح

 

النقطة الأساسية في رواية التلمحري هي أن رهبان بيث مارون (دير مارون) وأساقفته وبعض الناس الآخرين رفضوا هذه العقيدة. ولا بد أنهم فعلوا ذلك لأنهم كانوا أصلاً مونوثيليين، لكونهم تشبثوا بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح منذ زمن هرقل ؛ يُـضيف التلمحري بأن إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح ونشرها في سورية احدثت نزاعات ومشادات كلامية بين الملكيين الخلقيدونيين والموارنة الذين كانوا أيضاً خلقيدونيين. ولم يكن الخلاف حول العقيدة الخلقيدونية فحسب بل شمل ايضاً طبيعتي المسيح واتحادهما او انهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد في مشيئة واحدة. ويورد التلمحري الاتهامات اللاهوتية التي اجترحتها الجماعتان شارحاً بذلك العقيدة التي اعتمدها الرهبان الموارنة وتلامذتهم. يقول التلمحري أن الموارنة، أو كما يدعوهم “تلامذة مارون” شتموا أتباع مكسيموس واتهموهم بعدم الاعتراف بأن المسيح هو الله او انه وُلد من العذراء او انه صُلب وتألم بالجسـد؛ بل كان إنسـاناً بسـيطاً واقنـوماً “Qnumo” خاصاً (وهي كلمة سريانية معناها شخص)؛ مستقلاً عن الله، وهو والآب كيانان منفصلان ولهذا السبب خشي الموت وطلب من الآب أن يُبعد عنه كأس الموت قائلاً ” لتكن لا إرادتي، بل إرادتك “، كما لو أنه هناك مشيئتان، واحدة للآب وأخرى للابن. اما الموارنة فقد اتهموا بدورهم تلامذة مكسيموس لاعتقادهم بأن مشيئتي المسيح لم تكونا مختلفتين فحسب بل متناقضتين تناهض احداهما الأخرى. والذي يريد الرهبان الموارنة قوله هو انه بعد تجسد الله الكلمة لا يمكن الاعتراف الا بمشيئة واحدة فقط في المسيح. هذا ما يدعو إلى الذاكرة جدل القديس كيرلس الاسكندري مع تعليم المدرسة الأنطاكية اللاهوتي بأجمعه (وخاصة تعليم ثيودور المصيصي) وبعدئذ نسطور، بطريرك القسطنطينية. فقد أقرَّ هذا الرجلان بطبيعتين منفصلتين في المسيح مع أقنومين، ولذلك فرّقا بين المسيح الذي وُلد من الآب منذ الازل والمسيح المولود من العذراء مريم. نتيجة لهذا المعتقد، رفض نسطور أن يدعو العذراء مريم Theotokos (والدة الله)؛ بل دعاها Chrisostokos (والدة المسيح)، كما لو أن المسيح الذي وُلد منها لم يكن الابن السرمدي، أو الله، بل مجرد إنسان. ولهذا إتهم رهبان مارون تلامذة مكسيموس بالهرطقة النسطورية التي حرمها مجمع أفسس عام 431 واستشهدوا لإثبات عقيدتهم بآراء القديس كيرلس الاسكندري الذي اصرّ أن في تجسد الله الكلمة ـ المسيح ـ يمكننا فقط أن نعترف بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي لأن الله الكلمة صار جسداً. وتبعاً لذلك فمن المنطقي ان نعترف بوجود مشيئة واحدة فيه

 

هنا نواجه مشكلة لاهوتية حساسة شديدة التعقيد تتخطى أفق هذا الكتاب . لكن ما يستوجب القول هنا هو أن هؤلاء الرهبان وان كانوا خلقيدونيين إلا أنهم قدموا نفس الحجة ضد تلامذة مكسيموس والتي كان سائر المناوئين للخلقيدونية بالاستناد الى تعاليم القديس كيرلس قد استعملوها لتفنيد العقيدة التي ثبّتها مجمع خلقيدونية ببقاء انفصال طبيعتي المسيح بعد اتحادهما. وهذا غريب حقاً بالنسبة لهؤلاء الرهبان الموارنة وسائر الموارنة الذين جاءوا بعدئذ والذين اعترفوا بالمونوثيلية. فإذا كانوا قد اعتقدوا بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في مشيئة واحدة، فمن اللازم أن يكونوا أيضاً قد اعترفوا بأن الطبيعتين اتحدتا بطريقة تفوق الوصف بحيث اصبحتا طبيعة واحدة. بعبارة أخرى، إذا كانت نتيجة تجسد الله الكلمة طبيعة متجسدة واحدة، كما أكَّد القديس كيرلس، فمن المنطقي ايضاً التمسك بأن تجسد نفس الله الكلمة هي مشيئة واحدة. ومن الواضح اذن في هذا الصدد ان عقيدة رهبان مـارون تتفق اتفاقاً كبيراً بعقيدة القديس كيرلس الأرثوذكسية، وهي نفس عقيدة كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية حتى يومنا هذا.

بناء على مجادلة رهبان دير مارون وتلامذتهم مع مخالفي عقيدتهم نستطيع القول بأن هؤلاء الرهبان الموارنة لم يكونوا خلقيدونيين قبل تبنيهم المونوثيلية نتيجة ضغط الامبراطور هرقل. ولكن بعد أن تبنّوا هذه العقيدة وقبلوا معها مجمع خلقيدونية احتفظوا بإيمانهم بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، إلا أنهم لم يستطيعوا الاعتراف به جهراً خوفاً من الإمبراطور الخلقيدوني. ولهذا يصح القول ان إيمان الرهبان الموارنة الذين أُكرهوا على قبول مجمع خلقيدونية، ولكن بصيغة مونوثيلية هو مجرد إدعاء لأن معتقدهم الصحيح كما توضحه كتب الصلوات والطقوس، كان ولم يزل الإيمان بطبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي (المونوفيزية)

 

وما من شيء يوضح هذه القضية كاتهام تلامذة مكسيموس الرهبان الموارنة بأنهم لم يكونوا متمسكين بعقيدة مجمع خلقيدونية وطومس لاون. ويدل هذا الاتهام ضمنياً بأن الرهبان لم يؤمنوا بأن طبيعتي المسيح اتحدتا في شخص واحد وانهما بقيتا منفصلتين بعد الاتحاد. كما أضافوا قائلين أنه لو كانت للمسيح طبيعتان مستقلتان لكان من الضروري أن تكون له أيضاً مشيئتان مستقلتان وفعلان إراديان مستقلان. كما اتهموهم ايضاً بالتمسك بعقيدة كيرلس وعقيدة سويريوس الأنطاكي، وبالاعتراف بوجود طبيعة واحدة في المسيح، وشخص واحد ومشيئة واحدة وقدرة واحدة وفعل واحد وسلطة واحدة. لهذا السبب دُعي الرهبان بـ ” السويريين “، ” اليعاقبة ” و ” مؤلمي اللاهوت “، أي أنهم يؤمنون بأن الالوهية كلها قد تألمت على الصليب. وهذه المناقشة نفسها ارتكن اليها نسطور في جدله مع القديس كيرلس ومؤيديه، الذين أتهمهم نسطور خطأً بالإيمان بالعقيدة القائلة بأن ” الله في المسيح قد تألم ” .

يختتم التلمحري هذا الجزء من روايته بالقول أنه لم يكن مسوغ لهذين الفريقين لتبادل التهم لأن كليهما كانا في الحقيقة خلقيدونيين. وهذا لا يعني، كما يؤكد المطران الماروني يوسف دريان خطأً، بأن الفريقين كانا يجادلان تـفسير عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح في مواجهة عقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح. إنه يعني، كما يدَّعي دريان، أن الرهبان الموارنة، مع أنهم خلقيدونيون، لم يفهموا هذه العقيدة الجديدة حول المشيئتين في المسيح فرفضوها لأنهم وجدوها تتفق مع تعليم نسطور. فضلاً عن ذلك، فإن دريان يخطئ بقوله أن اتباع مكسيموس أتهموا رهبان مارون بالتمسك بنفس عقيدة كيرلس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي لكي يعرضوهم للسخرية والسباب. ويزيد دريان في خطأه بأنه لو كانت عقيدة المشيئتين قد أُدخلت الى سورية بالطرق القانونية الكنسية المرعية لاستجار معتنقوها بأحكام المجمع السادس في نقاشهم مع المعارضين. بعبارة أخرى، ان احكام المجمع السادس التي دانت المونوثيلية كانت معروفة رسـمياً فقط في سورية وكان على رهبان دير مارون المونوثيليون ان يتقيدوا بها . ويكرر الباحث كمال صليبي نفس هذه الفكرة، ولكنها فكرة غير مقنعة، فيقول ، أنه بعد إدانة المجمع السادس للمونوثيلية فإن نبأ موقف ما يدعوه ” بالكنيسة الجامعة ” من هذه العقيدة لم يكن قد وصل بعد إلى وادي نهر العاصي حيث عاش رهبان دير مارون. مما دعا ” الشعب الماروني إلى الاستمرار في التمسك بالمونوثيلية بأسلوب ما لعدة قرون ” . بيد أن كمال صليبي يقرّ بأن رهبان دير مارون اعترفوا بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ” بشكلها البدائي، الذي أكَّد على فعل واحدٍ في المسيح لكنه لم يحدد مشيئته ”

 

إن ادعاء المطران يوسف دريان بأن مرد الجدل برمته حول المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح يعود إلى سوء فهم التعابير اللاهوتية مثـل شـخص، وطبيعة، وفعل وإرادة هو ادّعاء يتعذر الدفاع عنه . كما أن ادعاء الباحث كمال صليبي بأن رهبان دير مارون قد أكَّدوا على فعل واحدٍ لا مشيئة واحدة بالأحرى في المسيح هو بدوره ادعاء يصعب الدفاع عنه  لافتقاره الى بيّنة تاريخية

 

من المؤكد أن رهبان دير مارون كانوا على علم بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ودلالتها اللاهوتية. لأنهم في الواقع قبلوا مونوثيلية الإمبراطور هرقل، وهي مونوثيلية ذات معان منسّقة لا يلطفها تـفسير فعل إرادي أو مشيئة إرادية. نعلم من التلمحري أن القضية برمتها كانت قضية خطيرة احدثت نقاشاً حاداً يتسم بالجد لان تلامذة مكسيموس لم يسموا الرهبان الموارنة بـ “بالسويريين ” و ” اليعاقبة ” على سبيل المزاح بل أدركوا أن هؤلاء الرهبان بالرغم من كونهم خلقيدونيين بشكل سطحي، ما زالوا متمسكين بنفس معتقد سويريوس الأنطاكي. وبعبارة اخرى كانوا “مونوفيزيين”. إن ادعاء المطران دريان، بأن التلمحري قد اقحم اسمي كيرلس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي في الجدل القائم بين الرهبان الموارنة وتلامذة مكسيموس، نظراً لأنه كان يشاطرهم نفس العقيدة، لايستند على اساس تاريخي. إن ما يحاول دريان إثباته هو أن التلمحري، بما أنه “يعقوبي”، وجد أنه من الملائم إقحام اسم كيرلس في هذا السياق للبرهان على أن رهبان دير مارون المونوثيليين كانوا على نفس إيمان كيرلس. وفي نظر دريان ان ” اليعاقبة ” دائماً يفسرون تفنيد كيرلس لنسطور بطريقتهم الخاصة الغريبة للبرهان على إيمانهم بطبيعة متجسدة واحدة ومشيئة واحدة للوغوس الإلهي. ولكن الذي يستحق الذكر هنا هو ان أعضاء مجمع خلقيدونية انفسهم فسّروا عقيدة كيرلس بطريقة كهذه لتبرير تسوية خلافهم مع النساطرة لكي يثبتوا شرعية تعريفهم الجديد للإيمان وهو طبيعتان للمسيح متحدتان في شخص واحد مع بقائهما منفصلتين بعد الاتحاد بالاتفاق مع طومس لاون

 

هناك دليل قوي على أن رهبان مارون وتلامذتهم كانوا على دراية بإدانة المجمع السادس للمونوثيلية. فقد رأينا سابقاً التلمحري يقول بأن عقيدة المشيئتين في المسيح دخلت إلى سورية عن طريق الأسرى البيزنطيين واللاجئين الذين رافقوا الجيوش العـربية ثم استقروا في سورية . وهذا يدل على أن احكام المجمع السادس قد نقلت إلى سورية، وبأن الرهبان الموارنة وتلامذتهم كانوا على دراية بها.

لم يكن بعض الناس في سورية الجنوبية، حيث عاش رهبان مارون يجهلون المجمع السادس وغايته. إذ تـفيدنا وقائع الجلسة السادسة عشرة من هذا المجمع والتي عُـقدت في 9 آب عن قسيس من أفاميا يدعى قسطنطين وعقيدته المونوثيلية. طلب قسطنطين الذي كان موجوداً في القسطنطينية حيث إبّان انعقاد المجمع الإذن بالدخول إلى المجمع لتقديم صيغة إيمانه فيما يتعلق بقضية المشيئتين في المسيح، والتي كان المجمع يناقشها. ولم يسمح لقسطنطين بالدخول إلى المجمع بل خاطب أعضاءه قائلاً أنه كاهن من كنيسة مدينة أفاميا المقدسة في سورية الجنوبية، وقد رسمه كاهناً ابراهام أسقف اريتوزا (حالياً الرستن بين حمص وحماه). وعندئذ طلب منه المجمع تقديم صيغة ايمانه. ومن ذم التمس قسطنطين أعضاء المجمع إعطاءه مهلة ستة أيام لإنهاء كتابة هذه الصيغة بالسريانية. لكن أعضاء المجمع اصروا على أن يقدم صيغة ايمانه فوراً وباليونانية التي كان يتكلمها بطلاقة. عندئذ بيَّن قسطنطين بأن صيغته الايمانية تنطوي على قدرتين في المسيح وأن هاتين القدرتين تمتان إلى خصائص طبيعتيه. إلا أن قسطنطين أضاف أن للمسيح مشيئة واحدة فقط وهي مشيئة اللوغوس (الله الكلمة). وهنا فهم أعضاء المجمع أنه يعني بأن للمسيح مشيئة إلهية واحدة فقط؛ لذا، أتهم بأنه أبوليناري وطرد من الاجتماع .

لا نعرف كيف علم هذا القسيس المتبحّر بالمجمع السادس. بل ما نعرفه هو أن المجمع السادس كان ولا بد معروفاً لدى الكنيسة في سورية الجنوبية. ومن المحتمل إلى حد كبير أن يكون رهبان دير مارون على معرفة به أيضاً، وهو الدير الذي كان الكاهن قسطنطين ينتمي إلى مقاطعته. من الواضح أن قسطنطين كان كاهناً مونوثيلياً رسمه أسقف مونوثيلي وكان ينتمي إلى كنيسة مونوثيلية. وقد أعلن بشدة في بيانه الذي قدمه إلى المجمع عن إيمانه بمشيئة واحدة في المسيح. لأنه ليس من الممكن أن يكون قسيساً مناوئاً للخلقيدونية أو مونوفيزياً، وإلا لما سمح له المجمع بالدخول إلى جلساته، ما لم يتخلَ عن إيمانه بالطبيعة الواحدة. لا بد وأنه كان إما ملكياً خلقيدونياً أو مارونياً غايته البرهان عن الإيمان التقليدي للكنيسة الشرقية فيما يتعلق بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ان رواية قسطنطين هذه لا تتعارض مع رواية التلمحري بل تؤيدها. ففي الوقت الذي كان فيه المجمع السادس واحكامه معروفين في سورية الجنوبية وعلى الأرجح في بقية أنحاء سورية، فإننا لا نجد أية محاولة من الإمبراطور قسطنطين بوغوناتس أو من كنيسة القسطنطينية لفرض عقيدة المشيئتين في المسيح على شعب سورية. لو أن الإمبراطور اراد ذلك لاستعمل القوة وسيلةً للاقناع. إلا أنه ما كان بمقدور الإمبراطور أن يفرض احكام هذا المجمع على أهالي سورية لسبب بسيط وهو أن سورية كانت قد أصبحت مقاطعة عربية في عام 636. كان الوضع قد تغير بشكل جذري منذ عام 629ـ630، عندما فرض هرقل المونوثيلية على السريان في زمن كانت تلك البلاد تحت السيادة البيزنطية ـ وبسبب تغير الأحداث لم تتح الفرصة للإمبراطور البيزنطي لإدخال عقيدة المشيئتين إلى سورية عن طريق سلطة الدولة. لكن الذي غرس هذه العقيدة في سورية كما يبيّن التلمحري بحق هم الأسرى البيزنطيون واللاجئون الذين كانوا ضحايا الحرب الدائرة بين العرب والبيزنطيين. وبمرور الزمن قبل الملكيون السريان عقيدة المشيئتين بينما رفضها الموارنة. وقد أضحت هذه العقيدة، كما يقول التلمحري، مصدراً للمشاكل والخصام بين الفريقين


14 قيام المــوارنـة ككــنيــسـة منـفـصلــة

 

إن إخفاق الدولة والكنيسة البيزنطيتين في إدخال عقيدة المشيئتين في المسيح إلى سورية لا يعني أن الأباطرة البيزنطيين لم يبذلوا جهداً للقيام بذلك. فنحن نعلم من الفصول العشرة لتوما، أسقف كفرطاب الماروني عن جهود كهذه بُذلت في هذا الشأن. وتعتبر الفصول العشرة مرجعنا الرئيسي عن توما الذي كان أسقفاً مارونياً لكفرطاب قرب حلب. وفي عام 1089 كتب توما رسائل إلى بطريرك أنطاكية الخلقيدوني يوحنا السابع (1088ـ1106)؛ تحتوي على الفصول العشرة للدفاع عن عقيدة المشيئة الواحدة إزاء عقيدة المشيئتين في المسيح والتي كان البطريرك يعتنقها. وقد بلغنا أن البطريرك أحرق رسائل توما إلا أن توما كتب نسخة جديدة منها. وقبيل نهاية القرن الحادي عشر، عندما كان توما يعظ في لبنان، عمل نسخة أخرى من الفصول بناء على طلب كاهن من قرية فرشا اللبنانية في قضاء جبيل. يقدم توما في هذه الفصول جدلاً لاهوتياً ثاقباً يكشف عن معرفته الوافية بالنزاعات العقائدية حول وحدانية مشيئتي المسيح أو ثنائيتهما. ولكن يبدو أنه يعامل مكسيموس الذي نافح عن عقيدة المشيئتين في المسيح باحتقار في فصوله. يدّعي توما بأن مكسيموس ترعرع في طبريا، وهو ابن غير شرعي لامرأةٍ أممية وأبٍ سامري، وهو ادعاء لا يستند على اساس تاريخي. بل تعتبر هذه الاتهامات من الاباطيل والتي كان يلجأ إليها أحياناً المتنازعون حول العقيدة المسيحية (كما فعل خصوم سويريوس الأنطاكي

 

لكن اهتمامنا ينصب على ذاك الجزء من فصول توما الذي يبين بأن إمبراطوراً بيزنطياً اتصل بالفعل مع بعض السريان لإقناعهم بالاعتراف بعقيدة المشيئتين في المسيح. يفيدنا توما في ” الفصل الرابع ” عن وجود إمبراطور بيزنطي، في عهد مكسيموس، يدعوه ” مرقيان “، والذي حكم بالاشتراك مع أخيه . هذا خطأ تاريخي إذ لم يكن هناك إمبراطور اسمه ” مرقيان ” حكم بالاشتراك مع أخيه في زمن مكسيموس، الذي توفي عام 662. لكن المطران أقليميس يوسف داؤد يرتأي بأن “مرقيان” في هذا السياق يعني الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، الذي هتف له اعضاء المجمع السادس في الجلسة السادسة عشرة بأنه “مرقيان الجديد” . إن المطران داؤد يخطئ بدوره لأن مكسيموس، الذي يصله توما بقسطنطين الرابع باعتبار أنه ” مرقيان الجديد ” كان قد أُضطهد ومات قبل ست سنوات من ارتقاء هذا الإمبراطور العرش عام 668. ومهما يكن الأمر فان توما يستطرد قائلاً بأن مكسيموس استطاع إقناع الإمبراطور وأخيه بأنه من الاصح التمسك بمشيئتين لا بمشيئة واحدة في المسيح بحجة أنه إذا كانت للمسيح طبيعتان متحدتان في شخص واحد، فلا بد أن تكون له مشيئتان متحدتان في نفس الشخص. كما ان مكسيموس نصحهما أيضاً بكتابة رسائل إلى أهالي سورية ولبنان، لدعوتهم إلى الاعتراف بعقيدة مكسيموس هذه. وقد استجاب أهالي سورية ولبنان بإعلان عزمهم على أتباع الإيمان الذي يعترف به رهبان دير ماران (وهي كلمة سريانية تعني المسيح الرب) وهو الدير المشرف على نهر العاصي خارج مدينة حماه، ويضم ثمانمائة راهبٍ. ولما وصلت رسائل مكسيموس إلى الدير، نفر منها الرهبان وأجابوا بأنهم لا يستطيعون قبول سوى الإيمان الذي وضعه الآباء في مجمع نيقية (325) والمجامع الأربعة التالية التي ثبتّت ذلك الإيمان، ولذلك فإنهم لن يقبلوا عقيدة مكسيموس في المشيئتين للمسيح، ولو أُكرهوا على ذلك. وفي نفس الوقت اعتزموا الدخول في جدال مع مكسيموس في أنطاكية وإذا وجدوا أن الروح القدس كان معه فسيقبلون عقيدته. ثم اودعوا جوابهم إلى رسول ليحمله إلى الإمبراطور. وفي الوقت الذي اوفد الرهبان رسالتهم إلى الإمبراطور كانت الجيوش العربية الغازية قد فتحت لتوها سورية (بما فيها أورشليم) ومصر حيث فصمت بذلك العلاقات بين البيزنطيين وسكان هذه البلاد. ومن ثم أصبح السريان مثبّتين بالإيمان المقدس الذي وضعه الرسل الاثنا عشر والمجامع الخمسة. تتضمن بقية ” الفصل الرابع ” من فصول توما سرداً لرفض الامبراطور هرقل عقيدة مكسيموس، وكيفية نشر تلامذة مكسيموس عقيدة المشيئتين في المسيح في الغرب عن طريق الرشوة. غير أن الأسقف توما يقول ” نحن في الشرق (سورية) ومن ضمنهم أهالي حلب، حماه وحمص وكذلك جبل لبنان، بقينا أوفياء لعقيدة المجامع الخمسة بينما ظل تلامذة مكسيموس منفصلين عنا ”

 

يمكننا أن نستخلص من رواية توما هذه وجود صلة ما بين الأباطرة البيزنطيين والمقاطعات الشرقية في سورية ومصر تتعلق بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ولكن ما يجب الانتباه اليه هو أن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح هذه، متفقة مع عقيدة القديس كيرلس الاسكندري، إلا أنها لم تصبح موضع جدل حتى بداية القرن السابع عندما تسلم الامبراطور هرقل السلطة عام 610. كما نعلم أيضاً أن مكسيموس كان قد اجتذب انتباه هرقل اليه ومن ثم اصبح كبير أمناء سره. غير ان مكسيموس، الذي كان شديد الميل للحياة النسكية منها الى خدمة الإمبراطور، تخلى عن هذا المنصب عام 630 وأصبح راهباً في دير كريسوبوليس (سكوتاري حالياً) على الشاطئ الموازي للقسطنطينية. وفي عام 633، نجده في الاسكندرية بصحبة سوفرونيوس (الذي سيصبح بعدئذ بطريرك أورشليم الخلقيدوني)، يناقش عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) . وفي السنة الثانية كما يقول توما الكفرطابي فتحت الجيوش العربية سورية وبذلك قطعت العلاقة بين الأباطرة البيزنطيين ورعاياهم السريان ورؤساء كنائسهم. ومع أن بعض أهالي سورية كانوا خلقيدونيين إلا أنهم استمروا على الاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح. بعبارة أخرى اعترفوا هم ونظراؤهم من المناوئين لمجمع خلقيدونية “المونوفيزيين” بمشيئة واحدة في المسيح. ومما يجب ذكره أيضاً أنه بالرغم من وجود جدل في اوقات مختلفة حول المشيئة الواحدة أو المشيئتين في المسيح (وخاصة في أورشليم كما رأينا سابقاً)، فإن غالبية أهالي سورية لم يكونوا قد اطّلعوا على التعليم الجديد بالمشيئتين في المسيح. في الواقع، لم يصبح هذا التعليم جزءاً من عقيدة الكنيسة الخلقيدونية حتى عام 680، عندما التأم المجمع السادس لإدانة عقيدة المشيئة الواحدة وتثبيت عقيدة المشيئتين في المسيح. ربما كان نشر العقيدة الجديدة في سورية قد تمَّ بعد هذا العام عن طريق الأسرى البيزنطيين واللاجئين الذين استقروا في سورية نتيجة الحرب الدائمة بين العرب والبيزنطيين. ومن المحتمل ايضاً أن هؤلاء اللاجئين المقيمين في سورية الذين نشروا عقيدة المشيئتين بين الملكيين الخلقيدونيين قد أبلغوا الملكيين بأن المجمع السادس قد ايّد عقيدة المشيئتين وادان عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح؛ وبالنتيجة، اخذ الملكيون بالاعتراف بعقيدة المشيئتين الجديدة. لا بد أن نشر هذه العقيدة قد خلق صدعاً بين الملكيين والموارنة لأن الموارنة بالرغم من انهم كانوا كالملكيين خلقيدونيين، فإنهم آمنوا بمشيئة واحدة في المسيح. ويفصل التلمحري هذا النزاع الناشيء بين الجماعتين حول هذه القضية كما يؤكد توما الكفرطابي هذا النزاع أيضاً، مع أنه لا يُـشير إلى التلمحري . يمكننا إذاً الافتراض بأن الموارنة اصبحوا مميزين عن الملكيين لاعترافهم بمشيئة واحدة في المسيح (المونوثيلية). إن توما الكفرطابي يبين بوضوح الفرق بين الجماعتين عندما يخبر بطريرك الملكيين الخلقيدوني، يوحنا السابع، أن الملكيين باعترافهم بمشيئتين في المسيح قد قسموا المسيح نفسه إلى مسيحين. لذا، نجد قوله أكثر غرابة، سيما وهو الماروني، يعترف على غرار خصومه الملكيين بطبيعتين منفصلتين في المسيح. فإن كان الاعتراف بمشيئتين منفصلتين في المسيح يعني انقسامه إلى مسيحين منفصلين، فلمَ لا يعتبر إذاً الاعتراف بطبيعتين في المسيح ذاته، انقسامه إلى مسيحين ؟ والاكثر من ذلك فإن توما يبدي مشاعر مضادّة لمجمع خلقيدونية في ” الفصل الثالث ” من فصوله العشرة، عندما يورد في معرض تأييده لعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، تعليق أحد آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، يعقوب السروجي، حول قول المسيح: ” يا أبتاه إن أمكن فلتعبـر عني هذه الكأس ولكن لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت ” (متى 26: 39). نحن نعلم أن يعقوب السروجي كان مناهضاً للخلقيدونية ومدافع عن عقيدة كيرلس الاسكندري الأرثودكسية، أي طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي . لذلك فإن استشهاد توما الكفرطابي بيعقوب السروجي للبرهان على عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية)، يؤكد قولنا بأن الموارنة كانوا جزءاً من الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وبأنهم بجّلوا آباءها وقبلوا تعليمهم كتعليم رسمي. اما رأي جبرائيل القلاعي الماروني بأن توما كان أحد أساقفة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية (كنيسة اليعاقبة) فليس له سند تاريخي

 

يجب ألا نضل بقول توما الكفرطابي بأن الانفصال بين الملكيين والموارنة كان انفصالاً فعلياً جعل الجماعة الأخيرة كنيسة مميزة لها بطريركيتها الخاصة بها. علينا أن نتذكر بالأحرى أن الموارنة في الجزء الأخير من القرن السابع كانوا ما يزالون فرقة دينية لم تكن لها مراتب كهنوتية كنسية مميزة، بينما كان الملكيون طائفة مؤسسة لها بطريركيتها ومراتبها الكهنوتية، وتشكل ذلك الجزء من بطريركية أنطاكية الذي قبل الانقسام الذي احدثه مجمع خلقيدونية. ومنذ عام 638، عندما اعلن هرقل مرسومه (Ecthesis) والذي ايّد المونوثيلية، وحتى عام 680، عندما أدان المجمع السادس هذه العقيدة كان هؤلاء الملكيون الخلقيدونيون مونوثيليين يتمسكون بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح. ومنذ عام 680 وحتى القرن السادس عشر ظلَّ الموارنة مونوثيليين بالرغم من قبولهم مجمع خلقيدونية

 

إذا كان الموارنة مازالوا جماعة دينية في الجزء الأول من القرن الثامن، كما تدل عليه خصوماتهم مع الملكيين (خاصة في حلب حيث قسّمت الجماعتان، حسب قول التلمحري بناء الكنيسة بينهما)، فمتى أصبح الموارنة طائفة متميزة ذات بطريركية؟ مرة أخرى لا بد لنا من الرجوع إلى التلمحري الذي يقول :

في عام 745 سمح مروان ملك (خليفة) العرب للخلقيدونيين (الملكيين) برسامة بطريرك لطائفتهم هو ثيوفيلاكت بن قنبرة من حران. كان ثيوفيلاكت صائغ الخليفة مروان. وقد حصل على أمر من الخليفة وعلى قواتٍ لاضطهاد الموارنة. وعندما وصل إلى دير مارون ضايق رهبانه لكي يحملهم على قبول عقيدة مكسيموس (مشيئتان في المسيح) والامتناع عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت من أجلنا. وعـد ثيوفيلاكت الـرهبان، وقد أمضهم البلاء، بأنهم سـوف يرضخون لأمره في اليوم التـالي. وكان في صحبته راهب عجوز كان ثيـوفيلاكت يحبه. دخـل هذا الراهب كنيسة الدير وصرخ وهو يضـرب المـذبح بقبضته ” أيها المذبح الدنس، غداً تصبح مقدساً ” . في تلك اللحظة ضربته العدالة الإلهية واصبح ممسوكاً بشيطان وبقي يتعذب طوال الليل قبل أن مات في النهاية. حزن ابن قنبرة جداً على وفاة الراهب فتملكه الخوف. ثم بارح الدير مخلفاً جثمان الراهب الراحل لرهبان الدير لدفنه دون أن يحقق غرضه. وبقي الموارنة كما هم اليوم يرسمون لأنفسهم بطريركاً وأساقفة من ديرهم. إنهم يتميزون عن تلامذة مكسيموس بإيمانهم بالمشيئة الواحدة في المسيح وتلاوتهم التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا. إلا أنهم يقبلون مجمع خلقيدونية

 

إثر ذلك ذهب ابن قنبرة إلى منبج وحاول إجبار الخلقيدونيين في تلك المدينة على قبول عقيدة المشيئتين في المسيح والإمتناع عن تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا. ثم وشى بهم عند الخليفة مروان الذي الزمهم بدفع غرامة قدرها أربعة آلاف دينار. والمشكلة التي كانت قد جرت في حلب حدثت في هذه المدينة أيضاً. وأخيراً حصل أندراوس الماروني على أمر من الخليفة وبنى كنيسةً للموارنة في منبج. حينئذٍ أصبحوا (أي الموارنة) منفصلين عن تلامذة مكسيموس. وحصل العديد من الأمور البغيضة التي تشمئز لها النفس بين هاتين الجماعتين

 

لا بد أن هذه الحادثة حصلت في السنة الثانية من عهد الخليفة الأموي مروان الثاني ( 744ـ750 ). فقد كان الملكيون في سورية دون بطريرك لمدة أربعين عاماً ربما بسـبب الصـراع الداخلي في كنيستهم أو بسبب تردي أوضاعهم الكنسية. وربما كان السبب كما يكتب العلامة يوسف السمعاني أن المسـلمين منعوهم من أن يكون لهم بطريرك خاص بهم . لذلك فإن ادعاء اسـد رسـتم ان السـبب هو مكـائد “اليعاقبة” لا يستند على اساس تاريخي . لكن في عام 742، سمح الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك للملكيين بتنصيب بطريرك على جماعتهم. فاختاروا أحد الرهبان ويدعى اسطفان، الذي اصبح اسـطفان الرابع في 19 نيسان 742 . وبعد ثلاث سنوات فقد اسطفان حظوته لدى الخليفة الأموي الوليد الثاني (743ـ744) الذي أمـر بقطع لسانه ولسان بطرس، أسـقف دمشق، ثم نفاهما إلى اليمن . وعندما تقلد مروان الثاني السلطة مال إلى ثيوفيلاكت واستحسـنه ان يكـون بطـريركاً للملكيين عام 745. والسبب الذي حدا بالخليفة لتفضيل ثيوفيلاكت هو انه كان صائغه ولأن الخليفة كان، كما يقول التلمحري، شخصاً جشعاً يحب الذهب . وبينما لا يذكر التلمحري شيئاً عما إذا كان ثيوفيلاكت قد شغل منصباً كنسياً قبل أن يتم اختياره بطريركاً من قِـبَـل الخليفة، فإن ثيوفانس يذكر بأنه كان كاهناً في الرها قبل أن يصبح بطريركاً

 

نعلم من رواية التلمحري هذه أن الملكيين والموارنة، مع أنهم خلقيدونيون، كانوا جماعتين منفصلتين. فبينما كان للملكيين بطريرك، لم يكن للموارنة رئيس أو بطريرك. ولو كان للموارنة بطريرك لكان التلمحري، وهو نفسه بطريرك وعارف بالشؤون الكنسية ذكر ذلك. كما كان ثيوفانس ومؤرخون آخرون كانوا ذكروا هذه الحقيقة أيضاً. يظن المطران الماروني يوسف دريان بأنه كان للموارنة بطريرك. ويشير الى أن التلمحري سبق أن ذكر بأنه كان لدير مارون أسقف يدّعي دريان بأنه كان ” جاثليقاً ” أو رئيساً للموارنة وأنه نظراً لمنصبه الجليل دعاه الموارنة ” بالبطريرك ” . والحقيقة هي أنه في عام 745، عندما زحف ثيوفيلاكت الى دير مارون، لم يكن للموارنة بطريرك، مع أنه كان لديهم رئيس وأساقفة في ذلك الدير . ليس هناك من دليل بأنه كان لديهم “جاثليق” أصبح بطريركاً. لأنه حسب الرتب الكنسية كان منصب الجاثليق أعلى من منصب المطران وأدنى من منصب البطريرك ولأجل رسامة جاثاليق يقتضي وجود بطريرك وثلاثة مطارنة ولم يكن لدير مارون بطريرك كي يرسم هذا ” الجاثليق ” الماروني المزعوم. هنا يتكهن المطران أقليميس يوسف داود بأن الموارنة كانوا في هذا الوقت تحت سلطة البطريرك الملكي وأن التلمحري عندما سمّى ثيوفيلاكت ببطريرك الخلقيدونيين فإنه كان يعني بالتعبير الأخير الملكيين والموارنة؛ وإلا لقال بأن ثيوفيلاكت كان بطريرك الملكيين فقط. إن ما ينوي داود قوله هو أن الكهنة الموارنة تلقوا رسامتهم من البطريرك الملكي  وهو مجرد افتراض يفتقر الى اساس تاريخي. ولكن الرأي الأكثر قبولاً هو انه لم يكن للموارنة بطريرك حتى أواسط القرن الثامن وانهم بدأوا بتـنصيب بطاركة من ديرهم الخاص فقط بعد تجربتهم المريرة مع ثيوفيلاكت. من الصحيح أن الملكيين والموارنة معاً كانوا خلقيدونيين في القرن الثامن، إلا أن الحقيقة التاريخية لا تـنم على أن الموارنة كانوا خاضعين لسلطة البطاركة الملكيين، أو أنه كانت لديهم أية شخصية كنسية تشغل منصب “جاثليق”. يفيدنا التلمحري، وهو مرجعنا التاريخي الوحيد حول هذه القضية، أن رهبان دير مارون قرروا تـنصيب بطريرك خاص بهم بعد أن اضطهدهم ثيوفيلاكت، الذي كان يدعمه الخليفة الأموي. ربما فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن تكون لهم قيادتهم ورتبهم الكنسية الخاصة بهم لكي يحصلوا على نفس الاعتبار والمعاملة التي حصل عليها الملكيون من السلطة الحاكمة خاصة وان عدد الموارنة في مدينة حمص وحماه وحلب ومنبج وغيرها كان قد تزايد إلى درجة تستوجب وجود ذاتية مارونية مستقلة عام 745. من الواضح أن الموارنة ما كانوا ليتجرأوا على تأكيد هذه الذاتية عندما فرض الإمبراطور هرقل مونوثيليته عليهم لأن الظروف لم تساعدهم على ذلك. اما الآن وقد ازداد عددهم وشعروا بما يكفي من القوة فراحوا يؤكدون وجودهم. ولكن كيف قام هؤلاء الرهبان الموارنة بتـنصيب بطريرك من ديرهم ؟ لا بد من التذكر بأنه وفقاً للقانون الكنسي يمكن لثلاثة مطارنة رسامة بطريرك ، ولا بد أنه كان هناك أكثر من ثلاثة مطارنة في دير مارون قاموا برسامة بطريرك. وسوف نعالج مسألة البطريركية المارونية بعدئذ

 

أخطأ المطران يوسف دريان فهم قول التلمحري بأن الموارنة ظلوا كما هم عليه اليوم يرسمون بطريركاً ومطارنة من ديرهم يعني بأنهم قاموا برسامة بطريرك لهم قبل عام 745، محققين بذلك استقلالاً كنسياً في ذلك الحين. ويخمن دريان قائلاً لو لم يكن هذا ما يقصده التلمحري لما قال بأن ” الموارنة بدأوا منذ ذلك الحين برسامة بطريرك لديرهم ” . إن ما يعنيه التلمحري في الحقيقة هو أن الموارنة بدأوا بتـنصيب بطريرك من ديرهم في عام 745، وليس قبل هذا التاريخ. لأن التلمحري لم يكن يعني بكلمة ” اليوم ” عام 745، بل كان يعني العـام الذي كان يكتب فيه تاريخه، حوالي 843 اي قبل عامين من وفاته . إن ما يقوله التلمحري في الحقيقة، هو أن الموارنة استمروا منذ عام 745 وحتى عام 843 عندما انتهى من تاريخه، في تـنصيب بطاركة من ديرهم. ومنذ هذا التاريخ فصاعداً استطاعوا الادّعاء بامتلاك رئاسة كنيسة خاصة بهم. يُعتبر التاريخ السرياني الذي كتبه راهب مجهول من دير قرتمين في القرن الثامن واستـشهد به الأب بطرس ضو للبرهان على أن الموارنة ظهروا ككنيسة ومراتب كهنوتية منفصلة خلال الربع الأخير من القرن السابع، خارجاً عن السياق ولا علاقة له بهذا الموضوع. كما أن ملاحظات الاب ضو حول هذا الموضوع بدورها خارجة عن السياق. يوضح هذا التاريخ المجهول المؤلف فقط أن الموارنة مازالوا في نهاية القرن السابع جماعة دينية مونوثيلية . بيد أنه يمكننا القول بكل تأكيد أن مؤرخي الكنيسة القدماء لم يُـشيروا إلى الموارنة كطائفة دينية مسيحية متميزة إلا في القرن الثامن. يقول المفريان غريغوريوس ابن العبري وهو يكتب عن الخليفة العباسي المهدي (775ـ785) أن كبير علماء الفلك عند الخليفة، ثيوفيل بن توما الرهاوي كان يعتـنق نفس إيمان موارنة لبنان، وهم إحدى الجماعات الدينية المسيحية (المذاهب) في ذلك البلد

 

 


15 مـــن هـــو يــوحــنـا مــــارون

 

اذا رجعنا الى تاريخ التلمحري نجده يقول بأن رهبان دير مارون كانوا منذ عام 745 وحتى الزمن الذي كان يكتب فيه تاريخه قد نصبوا بطاركة من أفراد ديرهم، إلا أنه لا يذكر شيئاً عمن رسم هؤلاء البطاركة أو عن شرعية رسامتهم بل لا يذكر في الحقيقة شيئاً عن هوية أول بطريرك تمت رسامته في ذلك الدير أو عن فعالياته تاركاً إيانا في ظلام دامس حول أول ” بطريرك ماروني ” . ولا جدوى من البحث عن هوية هذا البطريرك في التواريخ العلمانية أو الكنسية القديمة لخلوها من ذكره، مع أن بعض المصادر المارونية تذكر اسم شخص باسم يوحنا، على أنه أول بطريرك ماروني . يقول مؤلف الكتاب الماروني الهدى أن ” الطائفة المارونية تُنسبُ إلى يوحنا مارون، بطريرك أنطاكية العظمى ”  . كذلك يكتب مؤلف كتاب شرح الإيمان : ” باسم الله وبقدرة الثالوث نبدأ هذا الفصل حول إيمان الكنيسة المقدسة الذي كتب في دير القديس المبارك يوحنا مارون بطريرك أنطاكية ؛ مدينة الله وسائر بلاد الشام وسورية ”

 

لا يقدم هذان المصدران أي دليل على أن يوحنا مارون هذا كان أول بطريرك ماروني . كما أنهما لا يقدمان معلومات قيِّمة حول مارون أو الظروف التي صار فيها كما يُزعم أول بطريرك ماروني . فضلاً عن ذلك فإن المصدرين صامتان حول الكيفية التي أصبح فيها يوحنا مارون هذا “بطريركاً لأنطاكية ” ومتى تمّ ذلك في الوقت الذي كان فيه بطريركان فقط لأنطاكية وهما، البطريرك الخلقيدوني أو الملكي، والبطريرك اللاخلقيدوني أو “المونوفيزي” . وبينما يُـشير كتاب الهدى بشكل غير مباشر إلى يوحنا مارون ” كبطريرك لأنطاكية  العظمى “، فإن كتاب شرح الإيمان يُـشير إليه بأنه ” بطريرك أنطاكية “، الذي سمي دير مارون باسمه . إن ما نستشفه من هذه الرواية هو أن يوحنا مارون كان مؤسس الدير الذي يحمل اسمه، وكان بطريرك مدينة أنطاكية، وكذلك سائر سورية . والحقيقة هي أن مترجم هذا المصدر قد حرّف الأصل السرياني، لكي يعطي الانطباع بأن شرح الإيمان “كتبه يوحنا مارون القديس بطريرك أنطاكية في دير مارون الذي يقع على نهر العاصي” . سنرى في الفصل الـ17 بأن يوحنا مارون لم يكن مؤلف كتاب شرح الإيمان

 

بالإضافة إلى هذه المصادر المارونية هناك إشارات أخرى إلى يوحنا مارون هذا . إحداها هي إشارة سعيد ابن بطريق والأخرى إشارة المؤرخ العربي أبي الحسن المسعودي . يذكر هذان الكاتبان يوحنا مارون فقط في نصاب العقيدة المونوثيلية . ويُـشيران إليه كراهب                 لا كبطريرك .غير أن روايتيهما تتفقان مع الهدى و شرح الإيمان حول نقطة أساسية وهي: أن الموارنة استقوا اسمهم من يوحنا هذا، المكنىّ بمارون، لا من ناسك القرن الخامس مارون . هذان المصدران واضحان حول هذه النقطة . أما أولئك الموارنة الذين يصرون على أن اسمهم مشتق من ناسك القرن الخامس مارون أو الدير المسمى زعماً نسبة إليه يناقضون المصادر التي يستـشهدون بها بالذات للبرهان على أصل كنيستهم وطائفتهم

 

بدأ الموارنة بالبحث عن إصالة يوحنا مارون وارتقائه منصب البطريركية بإسهاب في القرن الخامس عشر . وكان أول من فعل ذلك هو المطران الماروني جبرائيل القلاعي . يقول القلاعي أنه صار في عام 1495 جدل حاد بينه وبين كاهن ماروني، هو جرجس بن بشارة، الذي كان قد اصبح سريانياً أرثوذكسياً ( يعقوبياً )، حول الأصل الصحيح للموارنة واسمهم . نتيجة لهذا الجدل كتب القلاعي كتاباً في تفنيد عقيدة شرح فيه أصل الموارنة وتمسكهم الدائم بصيغة عقيدة مجمع خلقيدونية . كما يروي ايضاً قصة حياة يوحنا مارون الذي عاش في القرن السابع . يدَّعي القلاعي أنه استمد هذه القصة من مصدر قديم كتب بالكرشونية (العربية مكتوبة بخط سرياني) موجود في كنيسة السيدة في دمشق إلا أنه لا يعطي وصفاً لهذا المصدر أو أية معلومات عن مؤلفه او محتوياته وكيف عثر عليه

 

يقول القلاعي، ان يوحنا مارون كان ابناً لشخص يدعى أغاثون وقد تلقى العلم في صباه ثم أرسل إلى القسطنطينية لدراسة اليونانية . وعاد إلى أنطاكية حيث أفسد إيمانه تلامذة مكاريوس بطريرك أنطاكية المونوثيلي (656ـ681)، فاعتـنق العقيدة المونوثيلية ثم رسم مطراناً لأنطاكية إلا أنه لم يستطع اشغال هذا الكرسي لأن البابا هونوريوس كان قد حرمه كما حرم البطريرك مكاريوس لتمسكه بالعقيدة المونوثيلية . ويمضي القلاعي في قصته قائلاً بأن يوحنا بقي على ” هرطقته ” المونوثيلية وغادر انطاكية إلى مدينة طرابلس . وهناك التقي بمبعوث البابا هونوريوس الذي امتحن إيمانه فوجد أن يوحنا ” أرثوذكسي ” . ثم أخذ مبعوث البابا يوحنا إلى روما، حيث امتحن ايمانه مجمع كنسي ووجد بأنه ذو إيمان أرثوذكسي (خلقيدوني) . حينئذٍ رسم البابا يوحنا مارون بطريركاً على أنطاكية؛ ووضع تاج الأسقفية على رأسه، وعكازاً في يده وخاتماً في أصبعه . وعاد يوحنا إلى أنطاكية ونجح في إزالة هرطقة مكاريوس . فتبعه العديد من ” اليعاقبة ” واعترفوا بعقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح وبذلك صار يُـشار إليهم بعد ذلك بأنهم موارنة . ثم انتـقل يوحنا بعدئذٍ، من أنطاكية إلى لبنان حيث نصب صليباً بأمر البابا رمزاً لسلطة البابا . وفي لبنان قام بتنظيم الموارنة كطائفة منفصلة عن اليعاقبة والملكيين ورسم لهم مطارنة وأساقفة . يتابع القلاعي القول أن شهرة يوحنا مارون امتدت إلى بلاد قاصية حتى وصلت الإمبراطور البيزنطي، الذي كتب إليه يطلب منه إرسال ثلاثة أشخاص متبحرين في العلم لتعليمه وتعليم رعاياه الإيمان الأرثوذكسي ( هذه هي باختصار قصة القلاعي التي يرويها عن يوحنا مارون . وبعد أقل من قرنين، استفاض البطريرك الماروني اسطفان الدويهي في سرد هذه القصة

 

يقول الدويهي ان يوحنا مارون هو يوحنا السرميني (سرمين قرب أنطاكية)، الذي دُعي بعدئذ يوحنا مارون . وكان يوحنا هذا ابن أغاثون، حفيد اليبيديس، وابن أخ الإمير كارلو ماغنو (شارلمان)، الذي قَدِم من فرنسا وفتح أنطاكية وسائر سورية . كانت والدة يوحنا انوحاميا وهي، كزوجها، من أصل نبيل . وُلد يوحنا في أنطاكية، حيث عاش جده وأبوه بعد أن احتل شارلمان تلك المدينة . وتـثـقف في العلوم الدينية وكذلك في تـفسير الكتاب المقدس كما اتقن اللغة السريانية وعاش حياة النسك في دير مارون . وبعد مغادرته للدير ذهب إلى القسطنطينية لدراسة اللغة والعلوم اليونانية وكتابات آباء الكنيسة  . يتابع الدويهي قائلاً أنه حوالي هذا الوقت (أواسط القرن السابع) حصل جدل حاد بين المدافعين عن عقيدة المونوثيلية والمناوئين لهم . دافع تلامذة سرجيوس، بطريرك القسطنطينية، وخليفته، مكاريوس، عن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) يؤيدهم في ذلك كبار كهنة القسطنطينية بينما دافع يوحنا مارون، من الناحية الأخرى، عن عقيدة المشيئتين في المسيح طبقاً لإيمان كنيسة روما . ولما احتدم الجدل حول المشيئة أو المشيئتين في المسيح أرسل البابا كاردينالاً إلى أنطاكية ليدعوا الى عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح ـ وهو إيمان كنيسة روما . وكان مكاريوس بطريرك أنطاكية المونوثيلي آنذاك مقيماً في القسطنطينية ولم يعد أبداً إلى أنطاكية . وفي الوقت نفسه التقى الأمير الافرنجي أوجين بالفرنجة المقيمين في أنطاكية ووافق على تـنصيب مطران موال لكنيسة روما لتعليم عقيدة المشيئتين في المسيح . وكان هذا المطران هو يوحنا مارون، كما يشهد ” اليعاقبة ” في كتابهم المسمى معتقد اليعاقبة  . وهنا يورد الدويهي الاستـشهاد التالي ليؤيد رأيه فيقول : انبرى مارون واتـفق مع ملك الفرنجة قائلاً ” أيها الملك، نخشى من احتمال أن يقوم الملكيون باجتذاب لبنان إلى إيمانهم (بالمشيئة الواحدة في المسيح) . اذهب إلى الكاردينال الذي يقيم معك وارغمه ليرسمني مطراناً لكي ابقي بعض الناس على إيمانهم الافرنجي (إيمان المشيئتين في المسيح) اما أنا فسوف لن أعظ بعد اليوم بعقيدة يعقوب (البرادعي)  .

سوف تتم مناقشة معتقد اليعاقبة بعدئذ . ولكن أقل ما يمكن قوله حول هذه القصة هو أنها ضروب المحال ولا أساس لها من الصحة تاريخياً . ومع ذلك يبدو أن الدويهي يؤمن بصحتها . فهو يقول أنه عندما قام الكاردينال برسامة يوحنا مطراناً للبترون في مقاطعة جبيل في لبنان عام 676 وهي السنة الثامنة من عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع بوغوناتس اخذ يوحنا يطوف من مكان إلى آخر مبشراً بالإيمان الصحيح في المشيئتين للمسيح، ويحث الناس على العيش حياة بارة . ومما سرّه كثيراً أن العديد ممن تمسكوا بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح اهتدوا إلى الإيمان الصحيح . وفي غضون وقت قصير، صار ليوحنا مارون أتباع كثيرون انتـشروا من لبنان إلى أورشليم وحتى أرمينية . ويختتم الدويهي هذه الحكاية قائلاً أن مكاريوس، الذي استمر على إيمانه بالمشيئة الواحدة في المسيح عزل من منصبه في المجمع السادس، وأقيم ثيوفانيس بطريركاً بدلاً عنه . وعندما توفي ثيوفانس عام 686 اختير مارون بطريركاً لأنطاكية خلفاً له

 

ويستمر الدويهي قائلاً أن الكاتب النسطوري عبديشوع في كتابه المنظوم عن الكتّاب السريان والمتبحرين في العلم، يسمي يوحنا هذا “يوحنا بن فرنجوي” ( أي يوحنا، ابن الفرنجة ) مما يدل على أن يوحنا كان افرنجي الأصل، وأنه كان على ارتباط حميم مع الفرنجة، وبأنه ارتقى بجهودهم أعلى المناصب الكنسية  . يتابع الدويهي مدرجاً الكتب التي كتبها يوحنا مارون، متبعاً فهرس عبديشوع . وهذه الكتب هي: في تـنشئة الأطفال، في بعض الأسئلة والإجابات عليها، في أعين الرب السبع، في الحياة الرهبانية، في شرح القداس الذي ذكره ابراهيم الحاقلاّني، ترجمات التعابير الكتابية التي ذكرها ابن العبري في كتابه مخزن الأسرار، دحض نسطور وبطرس القصّار بشأن التقديسات الثلاث ومقالتان للبرهان على عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح  . ويعزو الدويهي ايضاً في كتابه تاريخ الطائفة المارونية (على شكل مخطوطة في دير لويزا الماروني في حلب) قائمة مختلفة من الكتب إلى يوحنا مارون . منها مقالة حول الإيمان مرسلة من دير مارون على نهر العاصي إلى أهالي لبنان، ومقالة أخرى تضم دحضاً للهرطقات . ويعترف الدويهي بأنه لم يرَ المقالة لكنه خمَّن وجودها بناءً على عدد من شهادات مارون التي تبرهن بأن في المسيح طبيعتين ومشيئتين خلافاً للعقيدة التي يتمسك بها البيزنطيون في زمانه . وهو يؤكد بأن هذه المقالة هي التي كان توما أسقف كفرطاب، قد استخدمها لنشر ” زؤان المونوثيلية في لبنان، وهي عقيدة تبناها عن سعيد ابن بطريق الذي ابتدعها ”

 

يضيف الدويهي بأنه وجد ثلاث مقالات كتبها يوحنا مارون: أحداها ضد أوطاخي وديوسقوروس حول عقيدة الطبيعة الواحدة في المسيح؛ والثانية ضد نسطور، الذي فصم شخص اللوغوس (الكلمة)عن شخص المسيح؛ والثالثة ضد عبارة، يا من صُلبت لأجلنا، المضافة إلى التقديسات الثلاث  . يدَّعي الدويهي أيضاً بأنه كان لابراهيم الحاقلاني، كما قيل عنه، تعليقٌ على بيان الإيمان الذي يتلوه الكاهن عند رسامته وان له تعليق آخر على ليتورجية القديس يعقوب  . وأخيراً يقول الدويهي بأن عبدالله بن الطيـب النسـطوري ( ت 1043)، وهو من يدعوه خطأ بالماروني، يروي فيما يتعلق بأولئك الآباء الذين يعترفون بإيمان نيقية، بأن يوحنا انتمى الى دير مارون في مقاطعة حمص ولهذا السبب دُعي مارون . ويضيف بأن ابن الطيب يُعلن أيضاً بأن اسم مارون كان يوحنا وبأن أباه كان يُدعى أغاثون، ابن عبدون ( ويختم الدويهي روايته المطولة عن يوحنا مارون بالقول أن العديد من الكتّاب، ممن لا يجد حاجة لتكرار شهاداتهم، يعتقدون أن بيوحنا دُعي يوحنا مارون نسبة الى دير مارون حيث عاش كراهب

 

هذان الحدثان اللذان يرويهما القلاعي والدويهي، فيما يتعلق بحياة يوحنا مارون ومؤلفاته، ليس لهما أساس تاريخي . فان المصادر المتوفرة لا تذكر شيئاً عن شخص اسمه يوحنا مارون، ابوه شخص افرنجي يُدعى أغاثون، رسمه البابا هونوريوس بطريركاً على أنطاكية . وهنا يجب السؤال من أين حصل القلاعي على حكايته هذه عن يوحنا مارون، عن رحلته إلى روما، ورسامته بطريركاً من قِـبَـل البابا هونوريوس، الذي أنعم عليه بتاج الأسقفية والعكاز والخاتم . يظهر من قول العلامة يوسف السمعاني أن القلاعي قد خلط بين يوحنا مارون والبطريرك الماروني ارميا العمشيني الذي ذهب إلى روما في 1215ـ1216 لحضور مجمع لاتران الرابع والاعتراف بإيمانه “الكاثوليكي”  . وعندما عاد إلى لبنان عام 1216، خوّله البـابا انوسنت الثالث باعتمار تاج الأسقفية ولبس الخاتم مشيراً بذلك إلى أنه أصبح أميراً في كنيسة روما . هذا ما يُـشير إلى أن علاقةً ما قد نشأت منذ ذلك التاريخ بين كنيسة روما وموارنة لبنان . لا بل صارت قصة القلاعي أكثر بعداً عن التصديق لما تحتويه من مفارقات تاريخيه . فتراه يستعمل مصطلح ” أمير ” إشارة إلى الأمير أوجين، وهو لقب لم يكن معروفاً في الشرق حتى زمن الصليبين . ومصطلح ” الفرنجة “؛ في الوقت لم يكن فيه فرنجة في سورية أو لبنان في القرن السابع عندما كان يوحنا مارون يقيم هناك كما يزعم . فضلاً عن ذلك، لم يكن للباباوات مبعوثون في سورية في ذلك الحين، ولم يكن منصب الكرادلة قد أنشيء بعد، ولم يكن ارتداء تيجان الأسقفية من قِبَل شخصيات كنيسة روما إحدى عادات الكنيسة قبل القرن التاسع  . واذا رجعنا الى السمعاني نجده يقول بأنه لم يعتمر الأساقفة الموارنة أبداً تاج الأسقفية أو يضعوا الخاتم قبل بداية القرن الثالث عشر  . ويقلمطران أقليميس يوسف داؤد في هذا الصدد انه من الصعوبة تصديق أن يسافر رجلٌ بمثل هذا القدر من العظمة والشأن، كما يدَّعي الموارنة، من أنطاكية إلى روما ليمر بامتحان عسير يقوم به مجمع كنسي، وأن تتم رسامته من قِـبَـل البابا بعد أن تبين لهم بأنه أرثوذكسي . يتساءل داود كيف يمكن ان تجري هذه الأحداث دون أن يذكرها أحد من مؤرخي الكنيسة أو على الأقل ان يتم ادراجها في السجلات التاريخية لكنيسة روما، وينتهي المطران داؤد إلى القول بأن قصة يوحنا مارون برمتها هي محض اختلاق

 

يقول البطريرك الدويهي ان يوحنا مارون كان من أهالي سرمين، وهي قرية في السويدية قرب أنطاكية، واتخذ اسم مارون عندما دخل الدير المسمى بهذا الاسم  . ويستطرد قائلاً بأن يوحنا السرميني دافع عن عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح كما “يعترف اليعاقبة أنفسهم في قصة حياة معلمهم يعقوب البرادعي”  . ولكي يؤيد ادعاءه استشهد الدويهي بهذا الكتاب ” اليعقوبي ” المكتوب بالسريانية مقتطفاً منه ما يلي : ثم انبرى (يعقوب البرادعي) وحفظ إيمان الرسل الذي سلمه يعقوب أول أسقف لأورشليم وملأ الكنيسة بأسرها بمحاسنه . وكانت النتيجة انه عندما التقى أعضاء الطرفين، الأرثودكس والهراطقة المعارضون لهم كان هؤلاء يسألون الأرثودكس “من أنتم” فيجيب الأرثودكس” نحن على إيمان يعقوب أول الرسل وأخو الرب والذي يعترف به يعقوب الطاهر هذا (يعقوب البرادعي) ” بينما يجيب المعارضون لهم بأنهم كانوا على إيمان أفرام الآمدي أو البطريرك يوحنا عدو الله

 

يقول الدويهي ان هذه الفقرة تعني بأن أولئك الذين آمنوا بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح كانوا أنصاراً ليعقوب البرادعي الذي اعترف بهذا الإيمان، بينما كان أولئك الذين اعترفوا بطبيعتين ومشيئتين في المسيح أنصاراً لأفرام الآمدي ويوحنا السرميني . ويزعم الدويهي ان يوحنا السرميني كان راهباً في دير مارون، حيث استقى منه اسم مارون . وانه كان معارضاً عنيداً لعقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح والتي اعترف بها يعقوب البرادعي، وأخيراً صار ” رئيس الأمة المارونية ” . إن ما يريد الدويهي ان يقوله هنا هو أن الموارنة كانوا منذ القرن السادس، عندما أحيا يعقوب البرادعي عقيدة الطبيعة الواحدة للمسيح، فرقة دينية عارضت هذه العقيدة واشـادت بعقيدة الطبيعتين والمشيئتين المنفصلتين في المسيح

 

يعتبر الدويهي يوحنا السرميني خليفة لأفرام الآمدي، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني منذ عام 527 وحتى 545، بينما كان يوحنا السرميني في الحقيقة بطريركاً للقسطنطينية، لا لأنطاكية، منذ عام 566 وحتى عام 597  . ومما يصعب تصديقه هو ادعاء الدويهي بأن يوحنا مارون كان يوحنا السرميني نفسه الذي اشتهر باضطهاد اصحاب الطبيعة الواحدة المناوئين لمجمع خلقيدونية  . والمسألة هي كيف توصل الدويهي إلى أن يوحنا مارون ويوحنا السرميني كانا نفس الشخص . فالنص الذي يستـشهد به الدويهي عن حياة يعقوب، أو يعقوب البرادعي، لا يذكر شيئاً عن يوحنا مارون، ولا بد لنا أن نبحث عن حل هذا اللغز الذي حدا بالدويهي الى اعتبار يوحنا مارون هو يوحنا السرميني . واذا تأملنا مليّاً بدراسة النص السرياني عن حياة يعقوب البرادعي الذي نشره أي و . بروكس مع الترجمة الإنكليزية نجده نفس النص الذي استعمله الدويهي بهذا الخصوص . يدَّعي بروكس أن هذه القصة هي “حياة يعقوب المنحولة” والتي كتبها المؤرخ السرياني الذائع الصيت يوحنا الأفسسي  . ومما يدل على أن الدويهي كان قد استعمل النص السرياني الأصلي الذي كان بروكس قد ترجمه إلى الإنكليزية هو الملاحظة الهامشية التي تظهر في نفس النسخة التي استعملها الدويهي والتي يشير بروكس اليها بحرف N باسم يوحنا السرميني، يقول بروكس في الهامش أن N وهو هامش مخطئ بقوله ” هذا هو يوحنا مارون القديس ”  . نحن لا نعرف من أضاف هذه الهامش وهو لا بد أن يكون مارونياً حاول أن يخلط بين يوحنا السرميني ويوحنا مارون للإظهار بأن يوحنا مارون كان مدافعاً عن إيمان خلقيدونية ولتبرأته من هرطقة الموثوثيلية . هنا إذاً هو مصدر الدويهي الذي بناء عليه خلط بين يوحنا مارون وبطريرك القسطنطينية الذي يحمل نفس الاسم

 

إن وصف الدويهي ليوحنا مارون بأنه ” رأس الأمة المارونية ” هو مسألة لا يمكن الدفاع عنها . فإذا كان يوحنا مارون قد عاش في الهزيع الأخير من القرن السابع، فالحقيقة التاريخية تدل بأن الموارنة كانوا في تلك الفترة من الزمن جماعة دينية صغيرة ولم يكونوا ” أمة ” . والذي يثير الانتباه هو ان العلامة السمعاني يكرر في كتاباته التي تلت الدويهي بعد خمسين عاماً نفس كلام الدويهي الذي استشهد به من ” حياة يعقوب ” (يعقوب البرادعي) المكتوب بالسريانية . إن ما يبعث على الدهشة هو ان السمعاني يحاول تبرير رأي الدويهي ولكن بالوصول إلى نتيجة مختلفة . فهو يقول أن مؤلف حياة يعقوب البرادعي كان يعني أن يوحنا السرميني هو يوحنا مارون ذاته لا يوحنا السرميني، بطريرك القسطنطينية . ويجادل السمعاني قائلاً بأنه لم يذكر مطلقاً ان يوحنا السرميني دخل في جدل يوماً مع أهالي سورية ولبنان حول مسائل في الإيمان ولا كان اسمه معروفاً لديهم . يدَّعي السمعاني أيضاً أن إطلاق اسم أول الرسل على يعقوب مخالف لتقليد الكنيسة ” اليعقوبية ” التي تتمسك بأن بطرس، لا يعقوب، هو هامة الرسل . هذا، كما يؤكد السمعاني، واضح من كتب الصلاة والطقوس عند اليعاقبة . فضلاً عن ذلك، يتابع القول بأن اليعاقبة لم يعتبروا كنيسة أورشليم أول بطريركية للرسول يعقوب بل يسمونها أم الكنائس قاطبة، كما يبدو من استعمالهم للوترجية القديس يعقوب  . ومما يدعو الى المزيد من الدهشة ان تعليق السمعاني هذا لا يمكن عزوه إلى إساءته فهم النص السرياني عن حياة يعقوب البـرادعي . فالنـص يذكر بوضوح يوحنا السرميني مع ملاحظة هامشـية أقحمها كاتب ماروني، يشرح فيها بأن يوحنا السرميني كان نفس مارون . من المؤكد أن المؤلف عندما بحث يوحنا السرميني لم يعن أبداً يوحنا مارون، ومع ذلك، ما زال الموارنة يصرون حتى الآن بأن يوحـنا مارون ويوحنا السرميني كانا نفس الشخص  . على هذا الأساس فإن محاولة الأب بطرس الماروني ضو وصف سـرمين على أنها موطن يوحـنا مارون تفتقر إلى البينة التاريخية  . فهي تتضارب مع ادعاء الدويهي بأن يوحنا مارون وُلد في أنطاكية وبأنه كان من أصل افرنجي

 

نجد، عند البحث في نسب يوحنا مارون، بأن الدويهي يجعله ابن أخ للإمبراطور شارلمان (742ـ814)، بينما يقول ايضاً أن مارون أصبح ” بطريركاً لأنطاكية ” عام 686، أي قبل ولادة شارلمان بست وخمسين عاماً

 

اعتمد الدويهي، في محاولته البرهان على أصل يوحنا مارون، وإيمانه، وارتقائه إلى منصب مطران (بواسطة كاردينال كان يقطن في سورية على ما يزعم)، على مصدر من القرن الخامس عشر تمَّ جمعه بالعربية دفاعاً عن عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، المونوفيزية، والذي يدعوه الدويهي ” كتاب معتقد اليعاقبة ”  . يقول جامع هذا الكتاب، موسى بن عطشة، وهو سرياني أرثودكسي، بأن مارون سأل الملك الافرنجي الذي كان في أنطاكية، أن يطلب من الكاردينال الذي كان في زيارة المدينة أن يرسمه مطراناً كي ينقذ أهالي لبنان من أن يصبحوا ملكيين، اذ كانوا آنذاك يعتنقون عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح . إن ما يحاول ابن عطشة قوله هو أن يوحنا مارون كان من المؤمنين بمشيئتين في المسيح، وأن التماسه الملك الافرنجي لكي يقنع الكاردينال برسامته مطراناً كانت لإنقاذ شعب لبنان من الانتقال إلى عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، أي لكيلا يصبحوا ” هراطقة ” . إلا أننا نستشف من التماس يوحنا مارون هذا أنه كان أحد أتباع يعقوب البرادعي وكان متـشبثاً بعقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح . هاكم ما قاله ابن عطشة بالضبط : عندما أوقع ملك الروم (الإمبراطور البيزنطي) بالسريان المصائب وقتلهم، انبرى مارون وانضم إلى ملك الفرنجة الذي كان اسمه الأمير أوجين . قائلاً ” أيها الملك، نخشى أن تجتذب الأمة الملكية أهالي لبنان إلى إيمان الملكيين . لذا أخبر الكاردينال الذي يرافقك وأرغمه على رسامتي مطراناً لكي يحفظ بعض الناس للبقاء على إيمان الفرنجة . أما بالنسبة لإيمان (عقيدة) يعقوب البرادعي فسوف لن أعظ بها بعد” . ومن ثم رسمه (الكاردينال) مطراناً على البترون  .

إن اتفاق يوحنا مارون مع الكاردينال واضح جداً . فقد وافق الكاردينال على رسامته مطراناً، على شرط ألا يبشر بعدُ بعقيدة يعقوب البرادعي أو يذكرها، أي عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . بالإضافة إلى ذلك، فإن مارون، بعد رسامته سيُدين ” بالإيمان الفرنجي ” في الطبيعتين والمشيئتين في المسيح لكي يمنع أهالي لبنان من الانتقال إلى إيمان الملكيين، الذين كانوا قبل المجمع السادس مونوثيليين . لا بد من الملاحظة في هذا الشأن أن جامع هذا الكتاب موسى بن عطشة لا يقول متى رسم الكاردينال المزعوم يوحنا مارون مطراناً؛ لكن الدويهي يؤكد أنه رُسم مطراناً في عام 676 (35) . وبينما لا يحدد الدويهي هوية الكاردينال الذي رسم يوحنا مارون مطراناً، فإن السمعاني يشرح بأن من رسمه هو يوحنا مطران فيلادلفيا (عمان حالياً في الأردن) امتثالاً لطلب أهالي أنطاكية ولبنان ” الكاثوليك ”

 

في أعقاب المناظرة حول المونوثيلية والتئام مجمع لاتران عام 649 أرسل البابا مارتن الأول، الذي اصبح بابا في 5 تموز من ذلك العام، رسائل إلى كنائس أفريقيا وأنطاكية وأورشليم الخلقيدونية مبلّغاً إياها بقرارات مجمع لاتران وبإدانة المونوثيلية ومرسوم الإمبراطور هرقل Ecthesis ومرسوم كونستانس الثاني Typu . كما حثّ البابا الكنائس على التـشبث “بالإيمان الأرثوذكسي”  وانه عين يوحنا، مطران فيلادلفيا، بناء على توصية من اسطفان الدوري والرهبان الشرقيين الخلقيدونيين، نائباً له في الشرق . وقد منح البابا المطران يوحنا السلطة لإرساء النظام في كنائس الشرق الخلقيدونية وتعيين الأساقفة والكهنة والشمامسة في ابرشيات بطريركيتي أنطاكية وأورشليم . ولأجل ان يمكنه من نشر “الإيمان الصحيح” زود البابا يوحنا مطران فيلادلفيا بقرارات المجمع وبمنشور بابوي  . كما كتب أيضاً إلى عدد من الأساقفة (ومنهم ثيودور الأسبسي، وهو أسقف أبرشية تابعة لإقليم الجزيرة العربية) طالباً منهم إطاعة المطران يوحنا ومساعدته لكي ينجز مهمته

 

ان محرري الـ Sacrosancta Concilia (مجموعة المجامع المقدسة) فيليب لابي وجبرائيل كوسارتي الذين دونا الوثائق المتعلقة بمهمة المطران يوحنا لم يذكرا أن يوحنا، مطران فيلادلفيا، قد رسم مطراناً اسمه يوحنا مارون لأسقفية البترون في مقاطعة جبيل في لبنان . ولهذا تكون هذه الرسامة بعيدة الاحتمال، خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار الزمن الذي كان قد انقضى بين انتهاء مهمة المطران يوحنا في الشرق ورسامته المزعومة ليوحنا مارون مطراناً . هذا ما يتعارض بالتأكيد مع ادعاءات الدويهي والسمعاني بأن يوحنا مارون قد رسم مطراناً في عام 676  . بل يتعارض هذا التاريخ الذي وضعه الدويهي وقبل به السمعاني أيضاً مع ادعاء المطران الماروني جبرائيل القلاعي في القرن الخامس عشر، الذي يؤكد بأن يوحنا مارون قد رسم مطراناً لأنطاكية دون أسقفية، وان البابا هونوريوس رسمه بعدئذ بطريركاً لأنطاكية . لكن هونوريوس توفي عام 638، مما يدل على أن يوحنا مارون كان مطراناً قبل هذا التاريخ . وهنا يلحظ الدويهي المفارقة في هذا التاريخ ويلقي اللوم في ذلك على الناسخ، الذي يدّعي بأنه كتب اسم سرجيوس بدلاً من هونوريوس ويقصد الدويهي به البابا سرجيوس الأول (687ـ701)، الذي اصطحب نائبه في الشرق يوحنا مارون إلى روما كما يزعم . وان البابا رحّب بيوحنا مارون لأنه كان أيضاً من أهالي أنطاكية . ويؤكّد الدويهي أن سرجيوس الأول هو الذي رسم يوحنا مارون بطريركاً على أنطاكية دون ان يقدم بينة تاريخية   . واذا تأملنا احداث عام 676 عندما جرت رسامة يوحنا مارون، على ما يفترض، ان البابا يومئذ كان إمّا ادييودات ( 672ـ 676) أو خلفه دونس (676 ـ 678) وليس هناك من دليل عن وجود نائب أو ممثل يمثل أياً من هذين الباباوين في الشرق . إن البابا الوحيد الذي كان له موفد في الشرق هو البابا مارتن الأول (ت 655)؛ وكان موفده يوحنا، مطران فيلادلفيا الذي وصل إلى الشرق عام 649 كما تمَّ ذكره أعلاه

 

لا يوجد دليل تاريخي يؤيد ان المطران يوحنا قد بقي في الشرق مدة سبع وعشرين عاماً، وهو ما يكفي من الوقت لرسامة يوحنا مارون مطراناً . فضلاً عن ذلك، فإن سجلات كنيسة روما لا تذكر شيئاً عن مهمة يوحنا مطران فيلادلفيا بعد موت البابا مارتن الأول، الذي أرسله إلى الشرق . فقد خلف مارتن الأول أربعة باباوات على الأقل ولا بد أن واحداً منهم على الأقل قد اتصل بالموفد البابوي في الشرق . ومما لا يقبل التصديق اكثر من ذلك هو الادعاء بأن يوحنا، مطران فيلادلفيا قد رسم يوحنا مارون مطراناً . لأن غاية يوحنا، مطران فيلادلفيا القصوى كانت إنهاء الجدل المونوثيلي الذي كان يمزق كرسيي أنطاكية وأورشليم الخلقيدونيين، وتـنصيب كهنة يدينون بعقيدة المشيئتين في المسيح بمناصب عليا . إن كل الدلائل المتوفـرة عن يوحنا مارون خلال هذه الفترة تُـشير إليه كمونوثيلي لا كمؤمن بمشيئتين في المسيح، أو “ككاثوليكي ” . بل إن مونوثيلية يوحنا مارون يؤكدها كتاب عقيدة اليعاقبة، وهو المصدر الذي يستشهد به الموارنة بالذات لتثبيت هوية يوحنا مارون ” الحقيقية ”

 

يدعي الدويهي أيضاً بأن عبد يشوع يُـشير إلى يوحنا مارون في أحد ميامره (قصائده) بأنه ” يوحنا بن فرنجوي ” (يوحنا بن الفرنجة) . وعبد يشوع هذا الذي يستـشهد الدويهي بفهرس الكتب الذي جمعها هو الكاتب النسطوري عبديشوع بن بريخا، والأكثر شهرة بالصوباوي (ت 1318) . وقد تمَّ نشر هذا الفهرس في عام 1653 في روما وقام بتحريره ابراهيم الحاقلاني، وهو ماروني  . يرتأي السمعاني بأن الدويهي أخطأ في اعتبار يوحنا بن الفرنجة هو يوحنا مارون، لأن يوحنا الذي كتب عنه عبديشوع لم يكن يوحنا بن الفرنجة بل يوحنا فنخوبي اي (ابن الفخارين) لا يوحنا مارون  . فالظاهر كما يقول السمعاني أن الدويهي قد انخدع بالحاقلاني، الذي، لكي يثبت هوية يوحنا مارون، عمد الى تحريف الاسم الذي أشار إليه الكاتب النسطوري وهو، يوحنا فنخوبي اي ابن الفخارين، فبدله باسـم يوحنـا بن الفرنجة لتشابه الكلمتين باللغة السريانية  . ولما اكتشف الدويهي هوية يوحنا التي حرّفها الحاقلاني دفعته الجرأة الى القول أن يوحنا مارون كان من أصل افرنجي، وكانت له ارتباطات قوية مع الفرنجة في سورية، وارتقى بمساعيهم إلى أعلى المناصب الكنسية ( وبنفس الثقة يستـشهد الدويهي بالكتب المدرجة في فهرس عبديشوع على أنها من مؤلفات يوحنا بن الفخارين، فيعتبرها مؤلفات يوحنا مارون

 

يدّعي الدويهي أيضاً أن المفريان ابن العبري، في مؤلفه : مخزن الأسرار ذكر شخصاً اسمه ” يوحنا مارون ” أي (يوحنا مارون أو على الأصح، يوحنا الذي كان يمت إلى دير مارون) وبأن يوحنا هذا هو يوحنا مارون الذي ينتسب اليه الموارنة  . وللمرة الثانية يشير السمعاني بأن الدويهي قد أخطأ لأن يوحنا مارون الذي كتب عنه ابن العبري هو كاتب سرياني من القرن العاشر  . وبالرغم من تصحيح السمعاني للدويهي، نجد كاتباً مارونياً آخر هو اسطفان عواد (ايفوديوس) السمعاني (1711ـ1782) يصرّ على تكرار خطأ الدويهي في اعتباره يوحنا مارون الذي كتب عنه ابن العبري هو نفس يوحنا مارون الذي يدّعي الموارنة بأنه أول بطريرك لهم

 

ويمضي الدويهي الذي يجاريه يوسف السمعاني في رواية المزيد من فعّاليات يوحنا مارون بعد رسامته المزعومة كمطران وكبطريرك وتتبع كل خطوة من خطواته . يدّعي الدويهي والسمعاني معاً أن يوحنا مارون غادر دير مارون بعد رسامته وذهب إلى فينيقيا، أبرشيته الجديدة . واشتغل في كرم الرب وهدى العديد من الناس الذين كانوا يؤمنون بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) إلى الإيمان الصحيح ” بالمشيئتين في المسيح” . وبمرور الزمن، ازداد أتباعه وانتشروا حتى وصلوا أرمينيا وأورشليم . وقد رسم يوحنا أساقفةً وكهنةً لرعاية العدد الكبير من الناس الذين اعتنقوا تعليمه، وعين قادة للجيش، كان من بينهم ابن أخيه ابراهيم ” . اذا فهمنا الدويهي والسمعاني بشكل صحيح، تكوّن لدينا انطباع بأن أتباع يوحنا مارون أصبحوا من الكثرة بحيث شكلوا “أمة” لها منظماتها الدينية والعسكرية، وهي ” الأمة المارونية ” . قد يشعر المرء بشيء من الرجة عندما يعلم بأن الموارنة أصبحوا ” أمة ” في أواخر القرن السابع أو الثامن، خاصة لأن الموارنة يدّعون بأن يوحنا مارون توفي عام 707 اي في اوائل القرن الثامن . على أي حال لا يوجود دليل تاريخي يؤيد ادعاءهم . ومما يخفف من وقع هذه الرجة عندما يدرك المرء بأن الدويهي والسمعاني، والموارنة اجمعين، يخلطون حتى اليوم، بين الموارنة والمردة وهم قوم مقاتلون من أصل مجهول ظهروا في بادئ الأمر في الشرق الأوسط في القرن السابع . وسوف نرى بعدئذ أن الموارنة يستشهدون بروايات ثيوفانس وغيره من المؤرخين تأييداً للنظرية القائلة بأن المردة والموارنة هم شعب واحد  أو كما يدّعون ” أمة واحدة ”

 

 


16 يـــوحـنـا مــارون هـل كـان بطريـركــاً لأنـطاكــيـــة ؟

 

اذا تتبعنا المصادر المارونية نجدها تدعي بأن يوحنا مارون الذي كان مطراناً منذ عام 676 قد اعتلى السدة البطريركية في أنطاكية خلفاً للبطريرك الخلقيدوني ثيوفانس (ت 687). يدعي البطريرك الدويهي أنه عندما توفي ثيوفانس، قام البابا كونون ( 68ـ687) بتنصيب قسطنطين، وهو شماس من كنيسة سيراكوز، ليحل محله دون استشارة الكهنة الرومان. غير ان قسطنطين هذا لم يسئ استخدام منصبه فحسب بل سبب بلبلة بين الناس مما دفع البابا إلى توجيه أوامر إلى ممثلي الإمبراطور في أنطاكية للقبض على قسطنطين وزجّه في السجن. ثم كتب البابا إلى كهنة أنطاكية لاختيار بطريرك يحل محله. ومن ثم اجتمع الكهنة واختاروا يوحنا مارون ليكون بطريركهم الجديد خلفاً لثيوفانس

 

يدّعي الكاهن الملكي يوحنا عجيمي أن مكاريوس، بطريرك أنطاكية المونوثيلي رسم يوحنا مارون مطراناً لأبرشية البترون حماية لمصلحة المونوثيليين. ويمضي عجيمي قائلاً بأن يوحنا مارون استغلّ رسامته كمطران ليُعلن نفسه لا بطريركاً على أنطاكية بل بطريركاً على الموارنة . ان رواية عجيمي هذه تفتقر الى سند تاريخي

 

لو تصـفحنا تاريخ هذه الفترة، لوجدنا أن البطاركة الخلقيدونيين أو الملكيين كانوا قد أقاموا في القسطنطينية منذ 640، لأن معظمهم كانوا مونوثيليين يعتنقون نفس الإيمان الذي اشاعه الإمبراطور هرقل. ومن المحتمل أن يكون هؤلاء البطاركة قد فقدوا حظوتهم بسبب ارتباطهم بهرقل والدولة البيزنطية خاصة بعد ان احتل العرب سوريا في اواسط القرن السابع. صحيح ان ثيوفانس صار بطريركاً في عام 681 ولكن ليس من المؤكد إن كان قد أقام في القسطنطينية أم عاد إلى أنطاكية. لقد حضر بالفعل الجلسة الرابعة عشرة من المجمع السادس المنعقد في أيار من عام 681 وساعد في اختبار صحة قوانين المجمع الخامس. وليس في المصادر التاريخية ما يشير إلى أن يوحنا مارون خلف ثيوفانس الملكي على كرسي أنطاكية. والاكثر من ذلك فإن البطريرك الدويهي يناقض نفسه بقوله أن كهنة أنطـاكية اختاروا المطران يوحنا مارون “ورسموه بطريركاً خلفاً لثيوفانس”، بينما نراه يقول في نفس الصدد بأن البابا هونوريوس هو الذي رسم يوحنا مارون بطريركاً. وتأييداً لفكرته، يبلغنا الدويهي بأنه اعتمد على ” قصة قديمة ” إلا أنه لا يكشف عن مرجعها. واستناداً الى هذه ” القصة القديمة ” فإن يوحنا مارون ذهب إلى أنطاكية، حيث انخرط في جدل حاد مع تلامذة مكاريوس، بطريرك أنطاكية “الهرطوقي”. ونتيجة لهذا الجدل اعتنق يوحنا مارون ” هرطقة ” مكاريوس “المونوثيلية” معترفاً بأنه لم تكن في المسيح سوى طبيعة واحدة وبأنه لم تكن له روح عاقلة لأن الوهيته قد حلّت محلها. إن ما يحاول الدويهي قوله هو أن يوحنا مارون تبنى عقيدة أبوليناريوس، مطران اللاذقية (ت 390)، ومفادها ان الوهية المسيح اخذت مكان روحه العاقلة، وهي الفكرة التي أُدين أبوليناريوس بسببها. بعبارة أخرى، كان يوحنا مارون قد أصبح مونوفيزياً أبولينارياً، ثم اصبح مطراناً على أنطاكية ولكن دون أبرشية معينة، لأن البابا أباغريو، كما يؤكد الدويهي، كان قد أدان مكاريوس وكرسي أنطاكية. يتابع الدويهي هذه ” القصة القديمة ” قائلاً أن يوحنا مارون غادر أنطاكية إلى طرابلس، حيث التقى صدفةً بمندوب البابا هونوريوس وناقش معه مسائل تتعلق بالإيمان. وعندئذ أخذ المندوب البابوي مارون إلى روما حيث قام مجمع للأساقفة باختبار إيمانه وتبيّن بأن إيمانه كان ” أرثودكسياً “. ثم رسمه البابا بطريركاً على أنطاكية وأنعم عليه بتاج الأسقفية والخاتم والعكاز

 

ومع أن الدويهي لا يكشف هوية هذه ” القصة القديمة ” إلا أننا نعلم أنه استقاها من رواية المطران الماروني جبرائيل القلاعي (ت 1516). مرّ بنا سابقاً أن القلاعي أدعى بأنه استقى هذه القصة من المخطوطة الكرشونية الموجودة في كنيسة السيدة في دمشق دون أن يُـشير إلى المخطوطة. إلا أن الدويهي في محل آخر يعطي الانطباع بأنه استقاها من مصدر غير مصدر القلاعي، ولكنه لا يحدد مرة أخرى هوية هذا المصدر . اما فيما يخص ” أباغـريو “، فيقـول الدويهي بأنه في الأصل هو “أغاثون” وهو اسم البابا الذي تمت من خلال جهوده الدعوة إلى عقد المجمع السادس . ولكن احد النسّاخ اخطأ فكتب أبا غريو عوضاً عن اغاثون.

ان التناقض في روايات الدويهي عن يوحنا مارون واضح جداً. فهو يجعل مارون، اعتماداً على الكتاب الذي يسميه معتقد اليعاقبة، مطراناً للبترون في لبنان، بينما يجعله في مكان آخر مطراناً لأنطاكية. وتراه يدّعي، مرة أخرى، في أحد مؤلفاته بأن كهنة أنطاكية انتخبوا مارون ورسموه في ذلك المنصب، وفي نفس الوقت يدّعي بأن ناسخ المخطوطة ظن خطأ أن هونوريوس هو سرجيوس .

يقول العلامة يوسف السمعاني، الذي يسير على خطى الدويهي، بأن الدويهي اعتمد في روايته عن رسامة يوحنا مارون بطريركاً على التقليد الذي يقبله الموارنة بشكل عام والذي ورد بوضوح في معتقد اليعاقبة، وفي مقدمة يوحنا مارون لكتابه شرح الإيمان. ولكن السمعاني لا يوافق الدويهي في الرأي بأن يوحنا قد رُسم بطريركاً من قِِـبَـل كهنة انطاكية أو من قِِـبَـل مجمع أنطاكية الكنسي. فهو يقول لو انّ كهنة أنطاكية اختاروا يوحنا مارون للمنصب البطريركي لكان المؤرخون البيزنطيون واللاتين ذكروا اسمه في قائمة بطاركة أنطاكية، سواء أكان “هرطوقياً” (مونوثيلياً) أو أرثودكسياً. وفي الوقت الذي تبدو فيه حجة السمعاني منطقية ، نجده يواجهنا برأي آخر يفتـقر إلى البرهان التاريخي. ففي الوقت الذي يقول فيه انه من غير المحتمل أن يكون كهنة أنطاكية، بالرغم من خنوعهم للإمبراطور يوسطينيان الثاني راينوتميتوس (685ـ695) قد انتخبوا يوحنا مارون ورسموه بطريركاً لأنطاكية، يعود فيؤكد بأن ” أساقفة المردة الذين لم يكونوا سوى أساقفة الموارنة أنفسهم “، هم الذين انتخبوا يوحنا مارون بطريركاً. الامر الذي يؤكد عادة الموارنة في اختيار بطاركتهم بشكل منفصل عن الملكيين واليعاقبة والنساطرة. وتبريراً لفكرته، يحاجج السمعاني بقوله انه من غير المحتمل الا يكون لمثل هذا العدد الكبير من الناس (يقصد المردة) ” الذين هم الموارنة انفسهم ” والذين كانوا قد احتلوا بلداً يمتد من الجبل الأسود إلى أورشليم والذين كانت لهم عادات وقوانين وطقوس متميزة، قائد أو سلطة. ويستطرد قائلاً بما أن فعّاليات يوحنا مارون ورسامته بطريركاً قد حصلت في لبنان، فلم يكن هناك سبيل أمام المؤرخين اللاتين والبيزنطيين لتدوين هذه الفعّاليات. ويختتم السمعاني قوله بأن الحادثة التي رواها ب. فرنسيسكو كاريزميو في كتابه عن سيرة حياة يوحنا مارون، والتي تؤكد بأن مارون رحل إلى روما ورسامة البابا سرجيوس اياه بطريركاً لأنطاكية تقوم على الاعتقاد بأن يوحنا مارون والموارنة بخلاف بقية السريان كانوا متـشبثين على الدوام بكرسي روما الرسولي

 

لا يترك السمعاني مجالاً للشك بأن يوحنا مارون أصبح بطريركاً لأنطاكية قبل الحادثة التي رواها الدويهي عن يوحنا مارون معتبراً اياها حادثة حقيقية. لكن السمعاني يختلف مع الدويهي حول مسألة من الذي رسم يوحنا مارون بطريركاً. وهنا نجد السمعاني الذي يسير على خطى الدويهي، الذي ابتدع صفةً جديدة ليوحنا مارون واعتبره نفس يوحنا السرميني، يبتدع أساقفة جدداً يدعوهم ” أساقفة المردة ” مدعياً بأنهم رسموا يوحنا مارون بطريركاً . ولكن ما هو مرجع السمعاني ؟ إن مرجعه هو سيرة حياة يوحنا مارون غير الموثوقة بها التي كتبها القلاعي وأرسلها إلى القس جرجس بشارة عام 1495. وقد ترجم هذه السيرة إلى اللاتينية فرانسيسكو كاريزميو ونشرت عام 1634 . أما المرجع الثاني للسمعاني فهو الدويهي، ومما يجب ملاحظته في هذا الشأن هو لو أن أساقفة المردة، كما يدّعي السمعاني بأنهم الموارنة، كانوا قد رسموا يوحنا مارون بطريركاً على أنطاكية لذكرت المصادر البيزنطية واللاتينية والسريانية حدثاً خطيراً كهذا ولأعتبر مؤرخوا الكنيسة يوحنا مارون في عداد بطاركة أنطاكية. ولكننا لا نجد أية إشارة الى يوحنا مارون هذا  كمطران أو بطريرك إلا في المصادر المارونية بدءاً بالقلاعي، في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، والتي لا تـقوم على أساس تاريخي. والتناقض بين الدويهي والسمعاني واضح. فبينما يقول الدويهي بأن يوحنا مارون خلف ثيوفانس على السدة البطريركية عام 686، فإن السمعاني يؤكد بأن أساقفة المردة انتخبوه بطريركاً عام 685 وهو العام الذي توفي فيه ثيوفانس. وهذه نقطة جديرة بالذكر لأن ثيوفانس كما يقول أسد رستم، وهو كاتب معاصر بيزنطي من طائفة الروم، توفي عام 687 ( فكيف يُنتخب يوحنا مارون خلفاً له وهو بعد على قيد الحياة

 

يلقي السمعاني مزيداً من الضوء على الأسباب التي دعت الاساقفة المردة إلى انتخاب يوحنا مارون بطريركاً لأنطاكية أو كما يدعوهم السمعاني، الأساقفة الموارنة. يقول السمعاني في مكتبته عن القوانين والشرع المدني الشرقي أنه في الوقت الذي سيطر فيه المردة (الموارنة) على سائر البلاد من أنطاكية وحتى أورشليم، كان مطارنتهم مستائين من البطاركة “المونوثيليين الهراطقة” من أمثال مقدونيوس، وغريغوريوس ومكاريوس لأنهم شغلوا كرسي أنطاكية، وخاصة ان اختيارهم تمّ من قِـبَـل إمبراطور ” مونوثيلي هرطوقي “. ولهذا السبب اختار أساقفة المردة، بعد موت البطريرك الشرعي ثيوفانس عام 685، يوحنا مارون ليكون بطريركاً خلفاً له، بموافقة يوحنا مطران فيلادلفيا الموفد البابوي إلى بطريركيتي أنطاكية وأورشليم

 

تمت الإشارة سابقاً إلى مهمة يوحنا مطران فيلادلفيا هذا، الذي لم يمكث في الشرق مدة طويلة حتى عام 685 لكي تتاح له الفرصة بالمصادقة على رسامة يوحنا مارون بطريركاً. إن النقطة التي يطرحها السمعاني بمثل هذه الثـقة الظاهرية هي أن الأساقفة المردة أصبحوا مستائين من حكم البطاركة ” المونوثيليين الهراطقة ” الذين شغلوا كرسي أنطاكية فقرروا انتخاب شخص “أرثودكسي” (مؤمن بمشيئتين في المسيح) ليكون بطريركاً عليهم، وقد وقع اختيارهم على يوحنا مارون. إن ما يحاول السمعاني تأكيده هو أن هؤلاء الأساقفة المردة (الموارنة) قرروا أن يكون لهم بطريرك خاص بهم لأسباب دينية اخصها ان يكون هذا البطريرك متمسكاً بنفس المعتقد الذي تمسكوا به، أي مشيئتين لا مشيئة واحدة في المسيح، وهو الإيمان الذي تتمسك به كنيسة روما. ويستطرد السمعاني قائلاً بأن هؤلاء المطارنة ” الأرثودكس ” استاءوا جداً من ” الهرطقة ” المونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) التي كانت قد تـفشت في أنطاكية بحيث أرادوا أن يكون لهم بطريركهم الخاص، بمصادقة كنيسة روما عن طريق الموفد البابوي إلى الشرق ـ يوحنا مطران فيلادلفيا. مجمل القول، هو أن المونوثيلية كانت السبب الوحيد الذي دفع هؤلاء المطارنة لانتخاب يوحنا مارون بطريركاً. ومع ذلك، فإن المجمع اللبناني الماروني المنعقد في لبنان عام 1736، بتوجيه السمعاني، نفسه الذي كان حاضراً فيه قرر بأن الموارنة أسسوا بطريركيتهم لأسباب علمانية بحتة لا لأسباب دينية . واذا رجعنا الى مناقشات هذا المجمع نجد ان اعضاءه، واخصهم السمعاني، يقولون بأن الصراع المستمر بين الملكيين والموارنة هو الذي دفع الموارنة في النهاية إلى فصل أنفسهم عن الملكيين وتـنصيب بطاركة تخصهم. نتيجة لذلك، دُعي أتباع الإمبراطور البيزنطي (ملكوي بالسريانية) ملكيين (أنصار الإمبراطور)، ودُعي أولئك الذين تمردوا على الإمبراطور وتخلصـوا من نيره بالمردة (المتمردين). ويمضي أعضاء المجمع بادعائهم بأن هؤلاء المـردة دُعوا بعدئذ بالموارنة

 

مجمل افتراض السمعاني، على ما يبدو، هو أن الملكيين والموارنة كانوا متمسكين بإيمان خلقيدونية، ولكن بعد أن تبنى عدة بطاركة ملكيين الهرطقة المونوثيلية، المضادة إلى حد كبير للإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، انتهز الموارنة فرصة وفاة البطريرك ثيوفانس عام 685  فنصبوا بطريركهم الخاص بهم خلفاً له. إلا أنه ليس هناك من دليل على أن ثيوفانس كان قد اعتـنق العقيدة المونوثيلية. من المدهش حقاً أن الذين يدعون بالأساقفة المردة (الموارنة) قد انتظروا طويلاً لتـنصيب بطريرك غير مونوثيلي وهم يعلمون بأن المونوثيلية كانت قد تغلغلت منذ زمن بعيد في بطريركية أنطاكية الخلقيدونية، اي منذ عام 629ـ630 عندما فرض الإمبراطور هرقل هذه العقيدة على الكنيسة في سورية، ونجم عن ذلك تبني رهبان دير مارون لها. لم يكن هناك من سبب يدعو الأساقفة المردة (الموارنة) لاعتبار عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) هرطقة، بينما كانوا هم أنفسهم مونوثيليين. إضافة إلى ذلك، من الصعب التصديق أن مجمع مطارنة يلتئم لانتخاب بطريرك ولا نجد اثراً لمداولاته وقراراته في حوليات الكنيسة المارونية أو أية كنيسة أخرى. وبناء على ذلك يمكننا أن نستـنتج بأن هذه الفرضيات التي وضعها السمعاني وموارنة آخرون لا أساس لها من الصحة تاريخياً. واذا عدنا إلى رواية التلمحري، وهو أول من روى بأن رهبان دير مارون نصبوا أول بطريرك لهم من بين صفوفهم عام 745، لا نجد ما يدل على هذا الحدث. فلو كان الأمر صحيحاً لأشار اليه التلمحري، وهو نفسه بطريرك أنطاكية ورجل علاّمة متضلع في قوانين الكنيسة، ولذكر بأن يوحنا مارون خلف ثيوفانس على كرسي أنطاكية البطريركي الخلقيدوني. بالطبع كان التلمحري يعلم أن الملكيين أو بطريركية أنطاكية الخلقيدونية، هي البطريركية الوحيدة في القرن الثامن التي تـنافست على كرسي أنطاكية مع الجزء المناوئ للخلقيدونية أو “المونوفيزي” من تلك البطريركية والتي كان التلمحري وأسلافه بطاركةً لها. ولو كانت هناك بطريركية ” مارونية ” موجودة في ذلك الحين، فإن من المدهش إلى حدٍّ كبير أن تبقى المراجع التاريخية صامتة حول تأسيس هذه البطريركية، وفعالياتها، وشؤونها وبطاركتها. وفي هذا الصدد يبدي المطران أقليميس يوسف داود بحق ملاحظة مهمة فيقول بأن الدويهي كان عاجزاً، رغم الجهد الذي صرفه في كتابة سير حياة البطاركة الموارنة، عن تقديم أية معلومات ثابتة حول البطاركة “الموارنة” الأوائل الذين جاءوا قبل البطريرك يوسف الجرجسي في نهاية القرن الحادي عشر (أو على الأصح القرن الثاني عشر). اما بالنسبة للفترة السابقة للقرن الثاني عشر، يؤكد المطران داود بأن الدويهي كان قادراً فقط على تخمين أسماء اثنين وعشرين بطريركاً لكنه لا يقدم دليلاً حول حياتهم ونشاطهم . ومما يثير للاهتمام أن الدويهي نفسه خامرته شكوك كبيرة حول هوية أربعة عشر من هؤلاء البطاركة. اذ يقول ، بعد ذكر أسماء هؤلاء البطاركة، بأنه يشك في هويتهم لسببين: أولاً، أن الطقس الماروني مشابه جداً لطقس اليعاقبة بحيث يعترف الدويهي بأن هؤلاء البطاركة كانوا بطاركة ” يعاقبة “. ثانياً، كان أحد هؤلاء البطاركة يُدعى يشوع، وهو اسم يعتقد الدويهي بأنه لم يكن شائعاً بين الموارنة بل كان شائعاً بين السريان الأرثوذكس “اليعاقبة” . بيد أن الدويهي يعترف بأنه عندما حصل على قائمة بأسماء البطاركة من الكنائس السريانية الأرثوذكسية في حلب ودمشق لم يستطع العثور على أسماء هؤلاء البطاركة مدرجة فيها واستـنتج بأنهم لا بد ان كانوا ” من أمتنا المارونية ” . ليست لدينا في الحقيقة معلومات ذات قيمة تاريخية حول البطاركة الموارنة الأوائل حتى القرن الثالث عشر، عندما رُسم إرميا العمشيتي بطريركاً في دير السيدة في يانوح . لذا تبدو أسماء البطاركة التي يذكرها الدويهي قبل هذا القرن أسماءً من نسج الخيال

 

لا يقدم المطران الماروني يوسف الدبس معلومات جديدة حول هذه المسائل بل يكـرر بالأحرى الآراء السابقة حول الكيفية التي صار فيها يوحنا مارون بطريركاً، منتهياً إلى القول بأن كل هذه الآراء ممكنة. وينوّه بأنه رغم عدم ثـقة السمعاني بشأن الآراء السابقة وعدم قدرته على  تقديم دليل قاطع بأن يوحنا مارون أصبح بالفعل بطريركاً، فليس هناك  من سبب يدعو أنتفاء آراء السمعاني حول بطريركية يوحنا مارون لمجرد أن المؤرخين اللاتين والبيزنطيين لزموا الصمت حول المسألة. يحاجج الدبس، سياقاً على نهج الدويهي والسمعاني، بأنه مما لا يصدق او من غير الممكن ان يظل قوم اشاوس كالمردة (الموارنة) والذين احتلوا البلاد بأسرها من أنطاكية إلى أورشليم دون بطريركية. ويستـشهد الدبس بالبابا بندكتس الرابع عشر ليؤيد الادعاء بأن الموارنة كان لهم بالفعل بطريرك وبأن الحبر الروماني قام بتـثبيته. ويبيّن الدبس أن البابا بندكتس الرابع عشر قال للكرادلة مخاطباً إياهم في 13 تموز 1744: ” انه عندما انتـشرت الهرطقة المونوثيلية في نهاية القرن السابع وأفسدت رعايا بطريركية أنطاكية قرر الموارنة، حفاظاً على سلامة طائفتهم، اختيار بطريرك خاص بهم يقوم الحبر الروماني بتـثبيته “. يُـشير الدبس إلى أن الكتّاب الذين سجلوا هذه الأحداث ” يذكرون بالإجماع أن البطريرك الذي اختاره الموارنة كان يوحنا  مارون ”

 

لم يكن البابا بندكتس الرابع عشر مؤرخاً دقيقاً يتوقع منه إثبات صحة مصادره وتوثيقها. ولكن بندكتس، كرئيس لكنيسة روما، كان يود ان يرى الموارنة متحدين تماماً مع كرسي روما الرسولي، وان بضع كلمات من المجاملة ستؤدي بالتأكيد الى تحسين موقف الموارنة، الذين كانوا قد حاولوا منذ القرن السادس عشر، عندما جاء الطلاب الموارنة لأول مرة إلى روما، البرهان على صحة ايمان كنيستهم وطائفتهم. من المدهش حقاً أن الدبس يستـشهد بالبابا بندكتس كمرجع بينما لم يقم السمعاني، الذي كان أكثر تبحراً في تاريخ الباباوات وكنيسة روما، بالاستـشهاد بهؤلاء الباباوات للبرهان على أصل الكنيسة المارونية وطائفتها. فضلاً عن ذلك، لم يذكر البابا بندكتس الرابع عشر في خطابه اسم الشخص الذي انتخبه الموارنة أول بطريرك لهم. بل ان ذريعة ” الهرطقة المونوثيلية ” التي يقدمها البابا كسبب لاختيار هذا البطريرك تتعارض في الحقيقة مع بيان المجمع اللبناني الماروني المذكور أعلاه بأن الموارنة اختاروا أول بطريرك لهم لأسباب علمانية لا لأسباب دينية. من الواضح أن البابا بندكتس عندما قام بهذا التصريح كان واقعاً تحت تأثير الطلاب الموارنة في روما الذين كانت غايتهم، كما يقول المطران أقليميس داود، هو “تحريف الحقيقة التاريخية للبرهان على ادعاءاتهم الخاصة بهم”

 

يدّعي الموارنة ان يوحنا مارون خلف ثيوفانس بعد موته واصبح أول بطريرك للموارنة. وحجتهم في ذلك هي أن البطاركة الملكيين الخلقيدونيين كانوا يقيمون في القسطنطينية وأن وفاة ثيوفانس خلقت شاغراً في كرسي أنطاكية الخلقيدوني. هذا ما يتطلب بعض التوضيح لقوانين الكنيسة. من المعلوم ان قوانين الكنيسة التي ثبتتها مجامع الكنيسة المختلفة وخاصة المجامع المسكونية الثلاثة الأولى تنص على انه لا يحق لأي مطران رسامة كاهن من أبرشيته دون مصادقة رئيسه. كان المقصود من هذا العرف الحؤول دون الفوضى والشغب بخصوص السلطة الروحية للكنائس المختلفة وكهنتها. والنقطة الأساسية هي أن الادعاء بأن يوحنا مطران فيلادلفيا كانت له السلطة لرسامة الكهنة من كل الرتب لبطريركية أنطاكية الخلقيدونية هو خرق صريح للقوانين والتقاليد الكنسية، وعلى الاخص ان كنيسة روما لم تكن لها سلطة على كنيسة أنطاكية، وان القانون السادس لمجمع نيقية 325 يثبت العُرف القديم في تحديد السلطة الروحية لكبار الأساقفة واحترامها في الحكم الكنسي. نتيجة لذلك فإن صحة رسامة يوحنا مارون كبطريرك سواء قام بها مجمع من المطارنة أو البابا لا يمكن الحكم عليها إلا وفق القانون الرابع لمجمع نيقية ذاته والذي تطلب وجوب تثبيت ما يقوم به المطارنة في كل مقاطعة من قِبَل مطران العاصمة. مهما يكن من أمر فإنه ليس هناك من دليل يؤيد رأي المطران يوسف الدبس بأن “خليفة ثيوفانس الشرعي و “الكاثوليكي” كان يوحنا مارون، الذي نصبه المجمع السادس بطريركاً لأنطاكية ” . إن مجرد شغور كرسي أنطاكية الخلقيدوني، كما يزعم الدبس، لا يمنح السلطة لجماعة دينية أخرى، في هذه الحالة، الموارنة، لتنصيب بطريرك لذلك الكرسي. والحقيقة التاريخية تفيد بأن كرسي أنطاكية البطريركي الملكي وان كان قد شغر عدة مرات الا ان الطائفة الملكية وهيئة الكهنوت قامت بتنصيب بطاركة لها كما حافظت على سلسلة بطاركتها حتى هذا اليوم

 

إن ادعاء الموارنة يدعو الى السؤال عمن هم المتـنافسون الشرعيون على كرسي أنطاكية. نحن نعلم من تاريخ الكنيسة أن كرسي أنطاكية كان يرأسه بطريرك واحد حتى أوائل القرن السادس. وبعد عام 451 انقسمت كنيسة أنطاكية إلى جماعتين إحداهما خلقيدونية والأخرى مناوئة لمجمع خلقيدونية. إلا أن الوضع تغير عندما أضحى سويريوس الأنطاكي بطريركاً عام 512. فإن هذا الرجل المهيب فقدَ حظوته عندما تقلد يوسطين الأول سلطته الإمبراطورية. كان يوسطين، اللاتيني الأصل، مناصراً غيوراً لمجمع خلقيدونية، وبالطبع فقد ابغض سويريوس الأنطاكي بشدة، وهو معارض غيور لنفس المجمع. ومن ثمّ تحولت كراهية الإمبراطور لسويريوس إلى عداء وانتقام صريحين. وقد سعى يوسطين وقائد جيشه فيتاليان معاً لقتل سويريوس وتهديده بقطع لسانه مما اضطره على الهرب إلى مصر عام 518، فشغل كرسي أنطاكية بعده بطريرك خلقيدوني عيّنه الإمبراطور. إلا أن سويريوس كان في أعين غالبية السريان بطريركهم الشرعي. ولم يبدل موت يوسطين الأول عام 527، وارتقاء ابن أخته يوسطنيان الأول العرش وضع بطريركية أنطاكية. فقد كان يوسطنيان الأول، وهو الخلقيدوني، كسلفه متذبذباً في محاولته مصالحة الخلقيدونيين مع المعارضين لهم. صحيح أنه دعا سويريوس الأنطاكي وآباء آخرين مناوئين للخلقيدونيين إلى القسطنطينية لمناقشة وحدة الكنائس، إلا أنه كان عازماً بكل وسيلة على التمسك بقرارات مجمع خلقيدونية واعتباره الايمان الخلقيدوني هو الايمان ” الوحيد المقبول “، إلا أن سويريوس رفض ايمان خلقيدونية بشدة. ومنذ عام 518، عندما أُكره على التخلي عن منصبه، وحتى وفاته عام 538، لم يتوقف عن إدارة كنيسة أنطاكية من منفاه الطوعي في مصر. وفي خلال هذه الفترة جلس على سدة أنطاكية ثلاثة بطاركة خلقيدونيين وهم ـ بولس “اليهودي”، ويوفراسيوس وأفرام الآمدي، إلا أن سويريوس ظل بالنسبة للحزب المناوئ لمجمع خلقيدونية بطريرك أنطاكية الشرعي. وبعد وفاته انتخب أعضاء حزبه، الذي كان يشكل غالبية السريان، سرجيوس ليكون خلفاً له. وفي ذلك الحين تـنافس على بطريركية أنطاكية الخلقيدونيون والمعارضون لهم. ولم يكن للموارنة اثر في هذا المضمار، بل لم يظهر الموارنة على مسرح الأحداث حتى عام  745، عندما قام رهبان دير مارون بتـنصيب بطريرك من ديرهم لأول مرة. فضلاً عن ذلك، ليس هناك من دليل بأن البطاركة الموارنة الأوائل سموا أنفسهم ” بطاركة أنطاكية “. في الحقيقة، لم يحدث ذلك إلا في أواسط القرن الثالث عشر اي سنة 1256 عندما سمح البابا إسكندر الرابع لشمعون الماروني بتسمية نفسه ” بطريرك أنطاكية ” . كما ان الباباوات الذين تعاقبوا بعده لم يستعملوا هذه الصفة للبطاركة الموارنة إلا أنهم أشاروا إليهم فقط باسم البطاركة الموارنة. ولم يقم الباباوات وخاصة البابا بندكتس الرابع عشر أخيراً بتـثبيت عادة تسمية البطاركة الموارنة بـ ” بطاركة أنطاكية ” إلاّ في القرن الثامن عشر

 

ناقشنا سابقاً قصة يوحنا مارون كما رواها القلاعي وتوسع فيها البطريرك اسطفان الدويهي إلا أن الدويهي لا يسهب في شرح سيرة يوحنا مارون بعد عودته من روما إلى أنطاكية؛ بل يروي فقط أن البابا رسم مارون في روما بطريركاً وأنه أنعم عليه ببردة الأسقفية محذراً إياه من الملكيين واليعاقبة والأقباط. كما أمر البابا حسب هذه الرواية يوحنا مارون بأن يهتم بمشورته وبالتالي سيكون جبل لبنان تحت ولايته. وينتهي القلاعي إلى القول بأن ” المنتخب ” يوحنا مارون توفي في كفرحي . أما بقية القصة فقد تركت لمخيلة الدويهي الخصبة الذي زاد في تنميقها. وسوف نرى عما قريب أن مارون قد تلبسه شيطان وأنه رُجم بالحجارة في كفرحي

 

اذا عدنا الى الدويهي نجده يقول بأن يوحنا مارون عاد إلى أنطاكية بعد أن أقسم الولاء لكنيسة روما. وبدأ بتعليم ” الإيمان الصحيح ” وبهداية أولئك الذين ضلوا عن هذا الإيمان. إن ما يعنيه الدويهي “بالإيمان الصحيح” هو الإيمان بطبيعتين ومشيئتين في المسيح كما عرفه مجمع خلقيدونية وكما تمسكت به كنيسة روما. بعبارة أخرى، إن ما ينوي الدويهي قوله هو أن يوحنا مارون لم يكن “هرطوقياً” مونوثيلياً يلتزم عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وهي العقيدة التي أدانتها كنيسة روما. ويستطرد الدويهي قائلاً انه عندما وصلت الأنباء إلى القسطنطينية بأن يوحنا مارون كان يبشر ” بالإيمان الصحيح “، حرَّض الأساقفة المونوثيليون في تلك المدينة الإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس (الاشرم)، لإجبار البابا سرجيوس ويوحنا مارون على اعتناق عقيدة المونوثيليين وقوانينهم. بعبـارة أخرى حاولوا إجبارهما على قبول “الهرطقة” المونوثيلية. وعندما رفض البابا ويوحنا مارون الإذعان “للهرطقة” المونوثيلية والقوانين المونوثيلية، أو التخلي عن عقيدة المشيئتين في المسيح، هددهما الإمبراطور بإرسالهما إلى المنفى. إلا أن البابا ويوحنا مارون بقيا صامدين كالصواَّن في مقاومة الإمبراطور مما حدا بالإمبراطور الى انفاذ قائدي جيشه زكريا ولاون لإحضار البابا ويوحنا مارون مقيدين بالاصفاد . ولما علم يوحنا مارون بأن حياته اصبحت في خطر هرب إلى دير مارون على نهر العاصي قرب أفاميا وهناك كتب مقالة حول الإيمان أرسلها إلى شعب لبنان. وفي الوقت نفسه أرسل الإمبراطور قائديه إلى لبنان للقبض على يوحنا مارون والمجيء به إلى العاصمة مقيداً بالسلاسل. تردد أحد هذين القائدين وهو لاون بالقيام بذلك معتذراً وموضحاً بأن اللبنانيين كانوا يحترمون يوحنا مارون احتراماً جمّاً وأنهم لن يسمحوا له أبداً بأسره. وعندئذ ثار غضب الإمبراطور فألقى بلاون في السجن ثم أرسل قائدين آخرين، هما موريس وموريسيان، للقبض على يوحنا مارون. ولكي يهدئ روعة اللبنانيين، نشر الإمبراطور شائعة بأن غرضه من إرسال الجيش إلى سورية لم يكن القبض على يوحنا مارون بل لقتال العرب. إلا أن خدعة الإمبراطور لم تـنطل على يوحنا مارون فطلب من ابن أخيه ابراهيم تزويده برجال شجعان للدفاع عنه. وفي وقت قصير تمكن ابراهيم من تعبئة اثني عشر ألفاً من الرجال المسلحين ونقل يوحنا مارون من أنطاكية إلى سمار جبيل في  لبنان

 

وفي صيف عام 694 وصل موريس وموريسيان إلى سورية وهاجما دير مارون فقتلا خمسمائة من رهبانه وهدما مبنى الدير. ثم هاجما أماكن أخرى كقنسرين ومدن الثغور عاملين بها هدماً وسلبا.ً كما اعملا السيف في اتباع البطريرك يوحنا مارون. وعندما زحف الجيش البيزنطي إلى لبنان ارسلت أنباءُ تحركه موجة ذعر بين الناس. وفي هذه الآونة تمكن القائد لاون من الهرب من السجن، وقبض على الإمبراطور يوسطنيان راينوتميتوس، فجدع أنفه وأعلن نفسه إمبراطوراً. وكان أول عمل قام به الإمبراطور الجديد هو السماح ليوحنا مارون وحاكم لبنان سمعان بالقيام بهجوم مضاد للجيش البيزنطي في موضع يُدعى اميون، حيث قتلوا العديد من المحاربين وتعقبوا الباقين . اما فيما يتعلق بمعركة اميون ومواجهة اللبنانيين للجيش البيزنطي يستـشهد الدويهي بالكتاب الذي يسميه عقيدة اليعاقبة. كما يلي:

عندما وصل الملكيون، أي البيزنطيون، إلى قرية اميون، فصل مُوَيرين (وهو تصغير لاسم مارون، واستعمل هنا بمعنى تحقيري) وابن أخيه بريهم (وهو تصغير لابراهيم، واستعمل هنا بمعنى تحقيري) نفسيهما عن الملكيين وذهبا إلى سمار جبيل لحماية أهلها من الجزية التي فرضها الملكيون على أولئك الذين رفضوا قبول إيمانهم. ثم تبع مارون كل السريان وأهالي جبال كسروان ولبنان. حصل هذا في زمن سويريوس بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

 

يعلق الدويهي على هذه الحادثة بأن الانفصال بين الملكيين والموارنة أصبح، بسبب هذا الهجوم على يوحنا مارون والحرب الدائرة بين اللبنانيين والبيزنطيين والتي وصلت إلى الذروة في معركة اميون، انفصالاً نهائياً. موجز القول، كما يقول الدويهي، أن أولئك الذين حاربوا البيزنطيين واعترفوا بمشيئة واحدة في المسيح سمّوا ملكيين، أي انصاراً للإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس، الذي تمسك بهذه العقيدة ذاتها في المشيئة الواحدة (المونوثيلية). أما أولئك الذين بقوا صامدين في الإيمان الذي تمسك به يوحنا مارون، أي المشيئتين في المسيح، وكانوا مطيعين له فقد دعوا بالموارنة (33). يبدو أن الدويهي يغفل حقيقة أن معركة اميون حصلت وفقاً لعقيدة اليعاقبة كما يزعم، في عهد الإمبراطور يوسطنيان الأول (483ـ565)، لا في عهد يوسطنيان الثاني (669ـ711). فضلاً عن ذلك يقول مؤلف عقيدة اليعاقبة أن هذا الحدث حصل في عهد سويريوس بطريرك أنطاكية (ت 538)، قبل أن يهرب سويريوس إلى مصر في عام 518، ولا بد أن هذه المعركة قد حصلت قبل هذا التاريخ. إن القصة برمتها، في الحقيقة، عديمة الاساس التاريخي

 

ادرج الدويهي القصة السابقة في الفصل العاشر من كتابه تاريخ الطائفة المارونية  كما اضاف في الفصل الحادي عشر المزيد من الأحداث إلى روايته. يقول الدويهي بأن البطريرك يوحنا مارون قام، بعد أن هدَّم القائدان موريس وموريسيان دير مارون، ببناء دير آخر إلى الشرق من قرية كفرحي في مقاطعة البترون ونقل جمجمة ناسك القرن الخامس مارون إلى ذلك الموقع . وقد حدد يوحنا مارون أيضاً الخامس من كانون الثاني عيداً تذكارياً للناسك السابق لكي يكون اسم ” هذا القديس المتميز ” معروفاً في جميع أنحاء سورية. يتابع الدويهي قائلاً: ” وجد يوحنا مارون أنه من المناسب أن يسمي سكان تلك الأقاليم أنفسهم بالموارنة تكريماً لهذا الرجل (ناسك القرن الخامس مارون) ” . ويستمر قائلاً أن الجيوش العربية قامت في عام 694، وهو العام الذي تمت فيه الحملة البيزنطية ضد لبنان، بالهجوم على شمال أفريقيا. مما حدا بالقائد لاون الى ارسال جيشه عن طريق البحر لصد العرب إلا أن جيشه هُزم وعاد مخزياً إلى القسطنطينية. وخوفاً من احتمال أن يقوم الإمبراطور بتـقريع لاون وجيشه على هزيمتهم، هاجم الجنود البيزنطيون الإمبراطور وجدعوا أنفه ونصبوا طيباريوس إمبراطوراً بدلاً عنه. كتب طيباريوس إلى سمعان حاكم جبل لبنان طالباً منه إرسال “الجيش الماروني” لقتال العرب ففعل سمعان ذلك . والتقى ” الجيش الماروني ” آنذاك بالجيوش العربية في معركة خسر فيها العرب مئتي ألف رجل. ولما وصلت أنباء هذا النصر إلى طيباريوس سر جداً ورفع مقام سمعان وأرسل وردة ملكية رمز محبة إلى البطريرك يوحنا مارون. كما كتب رسالة إلى يوحنا مارون يمتدح فيها قداسته ويطلب منه ” إرسال ثلاثة رجال اشتـهروا بالاستقامة والولاء لكي يصبحوا حملة مظلة العرش الإمبراطوري “. ولما تلقي يوحنا مارون رسالة الإمبراطور اختار ثلاثة رجال مشهود لهم بالثقة وأرسلهم إلى القسطنطينية. وبمرور الزمن، تزوج هؤلاء الرجال الثلاثة نساء من العائلة الإمبراطورية وأصبح العديد من نسلهم ملوكاً وقادة للشعب الماروني . وأصبح هؤلاء الملوك أقوياء وقاموا بحماية سورية وساحل البحر من غزوات العدو كما أجتاحوا الأرض المقدسة واستولوا على أورشليم وشجعوا المسيحيين على زيارتها، ولهذا السبب وشى بعض المغرضين البيزنطيين بيوحنا مارون عند مطران أورشليم فدمروا بذلك العلاقات الودية بين الرجلين

 

هذه الحادثة التي يرويها الدويهي هي برمتها من نسج الخيال إذ لا يوجد لها ذكر في أي مرجع تاريخي متوفر. بل نجدها لأول مرة في كتابات الدويهي، الذي لا يورد مصدراً صحيحاً أو موثوقاً به. لقد ناقش كتّاب قدامى ومعاصرون بشكل وافٍ الحروب التي جرت بين البيزنطيين والعرب بعد أن اصبحت سورية مقاطعة عربية في القرن السابع. ولكن لم يُعرف ان واحداً منهم (حتى المؤرخ البيزنطي ثيوفانس) ذكر بأنه كان هناك بطريرك لأنطاكية يُدعى يوحنا مارون أو أن الإمبراطور البيزنطي أرسل جيشاً بقيادة موريس وموريسيان للقبض عليه وإرساله إلى القسطنطينية مقيداً بالسلاسل. لا يذكر ثيوفانس أن الجيش البيزنطي هدم دير مارون وقتل خمسمائة من رهبانه لأن الموارنة تمسكوا بعقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح. كما أنه لا يقول بأنهم كانوا مونوثيليين “هراطقة ” يؤمنون بمشيئة واحدة في المسيح. علاوة على ذلك، لا نجد في التاريخ ذكراً لمعركة جرت في اميون بين الجيشين البيزنطي و”الماروني”. ومما يصعب تصديقه إلى حد كبير أن ثلاثة موارنة تمَّ اختيارهم لحمل مظلة الإمبراطور وأنهم تزوجوا نساءً من البلاط الإمبراطوري، وأنجبوا في نهاية الأمر العديد من الملوك والحكام للموارنة كما يدّعي الدويهي. ولدى قراءة رواية الدويهي لهذه الحادثة بإمعان يبدو بجلاء أنه قد خلط بين المردة والموارنة دون تمييز. ومع أن الحادثة التي يرويها لا أساس لها من الصحة التاريخية، إلا أن علينا ألا ندعها تمر بدون تمعن، لسببٍ بسيط وهو أن المؤرخ المعاصر فيليب حتي قبلها دون ان يشك بصحتها

 

إن ادعاء الدويهي بأن الإمبراطور يوسطنيان الثاني، الاشرم، استـشاط غضباً من الموارنة فأرسل جيشاً هدم دير مارون هو ادعاء لا يستند الى أساس تاريخي. فالمعروف ان دير مارون مازال موجوداً في القرن التاسع. وهنا نعود مرة أخرى إلى شهادة التلمحري، الذي توفي عام 845، فهو يقول أن الموارنة كانوا حتى زمنه ينصبون بطريركاً من ديرهم . ويروي المؤرخ العربي ابو الحسن المسعودي، الذي توفي عام 956، بأن دير مارون صار أطلالاً بسبب الغزوات المتعاقبة التي قام بها العرب البدو وبسبب طغيان السلطان . كما نعلم أيضاً من التلمحري أن الجيش البيزنطي توغل عام 695 في سورية حتى وصل إلى أنطاكية فصدّ العـرب وقتلوا معظم جنوده أما الباقون فقد ركنوا إلى الفرار. هذا ما يدل على أن الجيش البيزنطي وصل أنطاكية ليقاتل العرب، لا ليقبض على يوحنا مارون أو يهدم ديره في عام 694 كما زعم الدويهي . علاوة على ذلك، لا يوجود دليل على أن الجيش البيزنطي بقيادة المزعومين موريس وموريسيان قد دخل لبنان والتحم بالموارنة في معركة اميون. أما الادعاء بأن الموارنة والمردة كانوا نفس الشعب فهو ادعاء يتعذر الدفاع عنه. واذا رجعنا الى ثيوفانس نجده يقول بأن الامبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس اغتنم فرصة المشاكل التي كان يعانيها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان فنقض معاهدة الصلح التي عقدها والده قسطنطين الرابع بوغوناتس (ذو اللحية) قبل وفاته عام 685 مع الخليفة عبدالملك. وفي عام 689 نجح عبدالملك في عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات مع يوسطنيان الثاني، الاشرم، اوجبت أن يدفع المزيد من الجزية والأكثر من ذلك اشترط عبدالملك في هذه المعاهدة أن يخرج الإمبراطور البيزنطي المردة الذين كانوا يضايقون العرب من لبنان. ووافق الإمبراطور على هذا الشرط وأمر المردة بالخروج من لبنان واسكنهم في أرمينيا وتراقية وقبرص. وبهذه العملية ارتكب الإمبراطور هفوة كبيرة لأنه كما يقول المؤرخ ثيوفانس هدم ” بيديه هذا السور النحاسي المنيع الذي فصل الحدود البيزنطية مع المسلمين ”  والمراد قوله هو إن كان المردة الذين تمَّ إجلاؤهم من لبنان هم الموارنة انفسهم فمن هم الذين حاربهم الجيش البيزنطي في معركة اميون ؟ وكيف يمكننا أن نصدق أن الإمبراطور البيزنطي عبّأ جيشاً بأكمله تحت قيادة قائدين للقبض على رجل واحد، يوحنا مارون، والمجيء به إلى القسطنطينية مقيداً بالسلاسل ؟ لا بد من الاشارة هنا بأن لبنان كان في ذلك الحين تحت حكم العرب، لا الحكم البيزنطي، وإن كان البيزنطيون قد خاضوا حرباً ما فقد كانت حرباً مع العرب لا مع اللبنانيين. من الواضح أن الدويهي قد خلط بين البطريرك يوحنا مارون، ويوحنا قائد المردة الذي يحمل نفس الاسم، كما خلط بين سمعان ابن أخ الأخير وسمعان ابن أخ يوحنا مارون، فجعل من سمعان هذا حاكماً للبنان

 

من الممكن أن نستـنتج من الرواية السابقة أن يوحنا مارون أصبح بطريركاً بمباركة كنيسة روما، وبأن الكنيسة المارونية لم تكن كنيسة مونوثيلية هرطوقية، بل كنيسة كاثوليكية وأرثوذكسية على غرار كنيسة روما، وبأن الإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني كان عازماً على معاقبة يوحنا مارون وتلامذته لأنهم تمسكوا بإيمان كنيسة روما. والحقيقة هي ان هذه الامور لم تكن كذلك. ففي مجمع ترولاّن الثاني، والذي يعرف اعتباطاً بالمجمع الخامس-السادس المنعقد عام 692، صادق الإمبراطور يوسطنيان الثاني راينوتميتوس فيه رسمياً على إدانة المونوثيلية . ولم يكن غرض المجمع الرئيسي هو ابتداع عقيدة جديدة أو شرحها؛ فقد كان المجمع السادس قد ثبَّت عقيدة المشيئتين في المسيح. أما مجمع ترولاّن الثاني فقد صدّق فقط على بعض المبادئ أملاً في استرجاع بعض النظام إلى الحياة المسيحية والتي اعتقد ذلك المجمع أنها أصبحت خارجة عن القانون. بعبارة أخرى، كان الإمبراطور يوسطنيان الثاني، إذا صدقنا الدويهي، على نفس إيمان يوحنا مارون ولذلك لم تكن هناك حاجة للجدل معه حول هذه النقطة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الاختلاف في الإيمان هو العامل الوحيد الذي اثار الإمبراطور لمطاردة يوحنا مارون ومعاقبته ومحاربة اعوانه فسيبدو بأن الموارنة قد تمسكوا بإيمان مغاير لإيمان الإمبراطور (في هذه الحالة المونوثيلية) وبأن الإمبراطور لاشك قد اعتبرهم هراطقة يتحتم إرجاعهم إلى ” الإيمان الصحيح ” عن طريق الحرب إذا دعت الضرورة

 

وبالإشارة مرة أخرى إلى الحدث الذي يرويه الدويهي عن الحرب المزعومة بين الجيش البيزنطي والموارنة، نجده يستـشهد بعقيدة اليعاقبة. فهو يستقي في الحقيقة اسم المعركة التي يُدعى بأنها معركة اميون من هذا الكتاب. وبالرجوع الى هذا الكتاب نجد انه عندما وصل البيزنطيون (الملكيون) إلى قرية اميون غادرها يوحنا مارون وابن أخيه متوجهين إلى سمار جبيل لحماية أهاليها من دفع الجزية التي فرضها الملكيون على من رفض الإذعان لإيمانهم . وهذا ما اعتبره الدويهي بداية الانفصال بين الملكيين والموارنة. إن ما يعنيه الدويهي في هذا السياق هو أن الذين قبلوا إيمان البيزنطيين (مشيئة واحدة في المسيح) كانوا يدعون بالملكيين والذين اعترفوا بإيمان يوحنا مارون (مشيئتين في المسيح كما يزعم) كانوا يدعون بالموارنة . بعبارة أخرى، يرمي الدويهي إلى القول أن الموارنة أصبحوا طائفة منفصلة بعد المعركة المسماة بمعركة اميون عام 694 ولكن الحقيقة هي كما أوضحنا سابقاً بأن الموارنة ظهروا لأول مرة ككيان منفصل في منتصف القرن الثامن. ومع ذلك، فان ادعاء الدويهي يثير سؤالين وهما: هلى ظهر مصطلحح ملكي في وقت متأخر اي عام 694، وما مدى الصحة التاريخية لعقيدة اليعاقبة؟

 

ستتم مناقشة أصل كلمة ملكي وصلتها بالموارنة فيما بعد. أما بالنسبة لصحة كتاب عقيدة اليعاقبة كمرجع تاريخي، فقد تمت مناقشة ذلك في الفصل 15. ولكن تقتضي هنا ايراد ملاحظات اخرى حول الكتاب. فالكتاب بجملته بحثٌ مستـفيض من القرن الخامس عشر كتبه رجل عالم لعله الكاتب السرياني الأرثوذكسي موسى بن عطشة الذي عاش في لبنان. وكانت غاية المؤلف ان يبرهن للموارنة بأن إيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، أي الإيمان بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي، هو الإيمان الصحيح. ولأجل الدفاع عن هذا الإيمان، حاول المؤلف أن يظهر أصل الطوائف المسيحية المختلفة في زمانه، من ضمنهم الموارنة، الذين اعتبرهم مونوثيليون اي من اصحاب المشيئة الواحدة في المسيح. ويبيّن المؤلف في نقاشه بأن يوحنا مارون وابن أخيه غادرا سمار جبيل لحماية أهاليها من الجزية التي فرضها الملكيون (البيزنطيون) على الذين رفضوا عقيدتهم في المشيئة الواحدة في المسيح. وبما أن المؤلف لا يكشف عن مرجعه، وبما أننا لا نعثر على إشارة إلى هذه الحادثة المعينة في أي مصدر آخر، فاننا نميل إلى الاعتقاد بأن قول المؤلف هذا هو محض اختلاق. ومما يجعل قول المؤلف عرضة للمزيد من الشك هو أن لبنان في عام 694، عندما جرى ما يُسمى بمعركة اميون لم يكن تحت الحكم البيزنطي بل تحت الحكم الأموي. وملخص القول هو انه لا يمكن اعتبار كتاب عقيدة اليعاقبة مصدراً تاريخياً موثوقاً به وخاصة المعلومات التي اوردها عن يوحنا مارون

 

هناك مصدر آخر يضم حدثاً مماثلاً عن هوية يوحنا مارون وهو البحث المعنون: حول شهادات آبائنا الأوائل قبل انقسام الإيمان والموجود في المخطوطة العربية 74 في مكتبة الفاتيكان

 

مؤلف هذا البحث هو بغير شك سرياني أرثوذكسي تقي جداً ومناهض لمجمع خلقيدونية وللإمبراطور يوسطنيان الأول الذي تمسك بإيمان هذا المجمع. يسهب الكتاب في الحديث عن حياة يعقوب البرادعي ونشاطه في سورية ومصر ورسامته الالوف من الكهنة ومن جملتهم بطريركاً لتقوية الكنائس السـريانية المناوئة لمجمع خلقيدونية في سورية ومصر، والتي كان اضطهاد الإمبراطور الخلقيدوني يوسطين الأول قد أضعفها للغاية. يقول المؤلف أن يوسطنيان الأول ” الشرير ” عندما سمع بظهور طائفة اليعاقبة زحف على رأس جيش إلى البلاد التي كان قد انتـشر فيها اسم يعقوب (ويقصد به يعقوب البرادعي) آمراً رجاله بقتل تلامذة يعقوب وإبادتهم دون رحمة. وعندما وصل الإمبراطور إلى مدينة آمد لنهبها، وجد فيها ناسكاً متوحداً اسمه مارون. وفي الحين تلبس الشيطان مارون هذا وحرّضه على مقابلة الإمبراطور وإخباره كذباً بأنه كان من قنسرين وبأن سكان الساحل، وكذلك حاكم مدينة أنطاكية قد أرسلوه لاسترحام الإمبراطور لكي يمنحهم الأمان. وفي مقابل ذلك فانه سيمنع اسم يعقوب البرادعي من اجتياز المنطقة الساحلية والوصول إلى أنطاكية. وافق الإمبراطور على ذلك وأعطى مارون راية كتب عليها ما يلي: ” كل ما يأمركم هذا الأبُ بفعلهِ فافعلوه ” . وحمل مارون الراية إلى أنطاكية وأخبر حاكم تلك المدينة بأنه كان يحمل أخباراً سارة وهي انه قد فاتحَ الإمبراطور يوسطنيان الأول وأخبره بأن الحاكم كان مخلصاً له ولإيمان مجمع خلقيدونية. كما أخبر الحاكم ايضاً كيف أعطاه الإمبراطور هذه الراية علامة للأمان له ولشعب أنطاكية. إلا أن مارون كان عاجزاً عن تغيير صيغة الإيمان، وهي طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الإلهي التي كان يعقوب البرادعي يبشر بها، فلجأ إلى الحيلة قائلاً ” سوف أرسم إشارة الصليب بأصبعين واعترف بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح بعد اتحادهما ” . ولما سمع الحاكم هذا القول وضع تاجاً على رأس مارون وأخذه إلى المدن الساحلية. وعندئذ كتب مارون إلى يوسطنيان بأن شعب المدن الساحلية قد قبل صيغة إيمان خلقيدونية. ولكن عندما اكتشف يوسطنيان الأول بعدئذ بأن مارون قد كذب عليه، طرده كما طرد تلامذته وأمر برجمه بالحجارة قرب قرية في منطقة سمار جبيل في لبنان، حيث ترقد رفاته حتى هذا اليوم. ولهذا السبب تُدعى هذه القرية كفرحي، اي موضع الحي. ومنذ ذلك الحين، رفض الملكيون و”اليعاقبة” معاً قبول الموارنة. كما ان الموارنة ظلوا حتى القرن السادس عشر يرسمون إشارة الصليب كالملكيين بأصبعين، ويرسمون نفس إشارة الصليب ” كاليعاقبة ” بأصبع واحدة عند تلاوة الصلوات الابتهالية اليومية “البوعوثو” بالسريانية. ولذلك فهم يعتقدون أيضاً بقوة واحدة، وقدرة واحدة، وإله واحد حق مع أنهم يقرون بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح. اما الأب ” اليعقوبي” الوحيد الذي أدان هؤلاء الموارنة فهو كيواركي (جورج) مفريان “جاثليق” تكريت

 

نستدل من هذه الحادثة بأنه من غير الممكن لمارون هذا أن يكون ناسك القرن الخامس الذي يحمل نفس الاسم بل كان يوحنا مارون الذي يجعله المؤلف خطأً معاصراً للإمبراطور يوسطنيان الأول. كان يوحنا مارون هذا وتلامذته مونوثيليين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح. ولا بد ان اعتناقهم المونوثيلية حصل في القرن السابع عندما كان يوحنا مارون، على ما يزعم، ما يزال راهباً، لا في القرن السادس. ومما يزيد القضية تعقيداً هو ان المؤلف لا يورد المرجع الذي اعتمد عليه فيما يتعلق باللقاء بين مارون والإمبراطور. مما يجعلنا نخلص الى النتيجة بأن الحادثة كلها من نسج الخيال، إلا أن مؤلف العقيدة على صواب في القول بأن الموارنة، لكي يميزوا أنفسهم عن ” اليعاقبة “، بدأوا برسم إشارة الصليب بأصبعين كالملكيين، بينما كان ” اليعاقبة ” يرسمون إشارة الصليب بأصبع واحدة فقط. كما أنه على صواب في القول بأن مارون وتلامذته، على خلاف الملكيين، الذين كانوا يعترفون بطبيعتين ومشيئتين في المسيح، كانوا في الوقت نفسه يقرون بطبيعتين ومشيئة واحدة في المسيح الأمر الذي يتفق مع ما جاء في زجلية القلاعي بأن الموارنة كانوا يرسمون إشارة الصليب بإصبعين

 

مما يُـثير الاهتمام أيضاً في هذه الحادثة هو أن المؤلف يجعل قرية كفرحي المكان الذي رُجم فيه مارون ودُفن؛ لكننا رأينا الموارنة يدعون أن يوحنا مارون انتقل، بعد أن طارده الجيش البيزنطي، إلى كفرحي حيث بنى ديراً آخر باسم دير مارون الذي نقل إليه جمجمة ناسك القرن الخامس مارون . وفي هذا الصدد يقول البطريرك الدويهي ان يوحنا مارون، بعد ان قضى حياة نشيطة جداً وتقية توفي ودُفن في دير القديس مارون إلى الشرق من قرية كفرحي . إلا أن الكنيسة المارونية لم تبدأ بإحياء ذكراه حتى عام 1624. يقول الدويهي أن كتاب الصلوات السرياني على مدار الأسبوع (الاشحيم) قد تُرجم في هذا العام من السريانية إلى اللاتينية بأمر من البابا. وبعد ان قام العلماء بدراسة الكتاب بشكل وافٍ قرروا بأنه لا بد من إحياء ذكرى هذا القديس العظيم (يقصدون يوحنا مارون) في 9 شباط من كل عام . وهنا يورد الدويهي النص السرياني للنشيد الذي يُرنم في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في بداية كل عام لإحياء ذكرى آباء الكنيسة الذين أسسوا الإيمان الأرثوذكسي. ويضم النشيد قائمة بأسماء هؤلاء الآباء، ومنهم الذين رفضوا مجمع خلقيدونية وأدانوه مثل، ديوسقورس الاسكندري وسويريوس الأنطاكي. والغريب جداً هو ان أسماء هؤلاء الآباء حذفت من النسخة التي استتشهد بها الدويهي واستبدل عوضها اسم مارون . ان الدويهي لا يذكر تاريخ وفاة يوحنا مارون لكن السمعاني يحدد وفاته في التاسع من شباط عام 707، مع أنه يخفق في البرهان على صحة ذلك . واذا عدنا الى الدويهي نجده يقول أن كبار الكهنة ورؤساء الأديرة اجتمعوا بعد وفاة  يوحنا مارون بتسعة أيام وانتخبوا قورش، ابن أخيه ” بطريركاً  لأنطاكية ” وابلغوا البابا في روما بالانتخاب فأرسل البابا إلى البطريرك الجديد بردة الأسقفية مع رسالة تثبته في منصبه. ويختتم الدويهي بالقول أنه منذ ذلك الحين ” بدأ البطاركة بارتداء تاج الأسـقفية والخـاتم حسب عادة كنيسة روما العظمى ” . وهنا نجد العلامة السمعاني يخالف الدويهي بقوله ان إرميا العمشيتي كان أول بطريرك ماروني قد تلقى تاجاً وخاتماً من البابا عام 1216 . والظاهر ان الدويهي، كما فعل القلاعي سابقا،ُ خلط ما بين يوحنا مارون وهذا البطريرك الماروني من القرن الثالث عشر. أما بالنسبة لإحياء ذكرى مارون فسوف نرى بعدئذ أن تحديد تاريخ إحياء ذكرى يوحنا مارون لم يبدأ حتى التئام المجمعُ اللبناني بعدئذ عام

1736

17 مــؤلــفــات يــوحـــنــا مــــارون

 

يعزو البعض تأليف عدد من الكتب إلى يوحنا مارون ومنها كتاب: شرح الإيمان الذي يحتل مكانة بارزة بين هذه الكتب التي تضمها مخطوطة  الفاتيكان 146 السريانية ، والتي تمّ نسخها عام 1392 . اما البطريرك الدويهي فانه يعزو ما لا يقل عن عشرة كتب ورسائل إلى يوحنا مارون  . كما يعزو ابراهيم الحاقلاني إليه كتابين: أحدهما تـفسير خدمة القداس والآخر فصلٌّ في الكهنوت  . اما السمعاني فيقر بأن يوحنا مارون ألَّف مصنفين فقط هما : شرح الإيمان وليتورجية (اي خدمة القداس)  . إلا أنه ينكر أن يكون مارون هو مؤلف الكتابين اللذين ينسبهما الحاقلاني إليه . وحجة السمعاني هي أن مؤلف تفسير الليتورجية او خدمة القداس هو ديونيسيوس ابن الصليبي (ت 1172) وبأن الفصل في الكهنوت كتبه يوحنا ، أسقف دارا (ت 860)  ، وكلاهما من آباء الكنيسة السريانية الارثودكسية  . ومع ذلك ، يصر المطران الماروني يوسف الدبس على أن مؤلف هذه الكتب لم يكن سوى يوحنا مارون

 

يؤكد بعض الموارنة أن يوحنا مارون ألَّف ليتورجية . وكما يقول السمعاني فان نسخة من هذه الليتورجية موجودة في المجلد الخامس من الكتب التي جمعها ابراهيم الحاقلاني في مكتبة الفاتيكان  . تمَّ نسخ هذه المخطوطة السريانية في قبرص عام 1846 الموافق 1535 من التقويم اليوناني  . تبدأ المخطوطة على هذا النحو: ” أمامك يا ملك الملوك ورب الأرباب ”  . لكن المستشرق الفرنسي أوسابيوس رينودوت (1640ـ 1720) ، وهو أول أوروبي قام بنشر مجموعة من الليتورجيات الشرقية لم يجد ثمة ليتورجية ألَّفها يوحنا مارون لكي يودعها هذه المجموعة  . علاوة على ذلك ، ينوه رينودوت بحق بأن غالبية الكتّاب القدامى وأعلام الكنيسة السريانية كانوا ” يعاقبة ” لا موارنة  . بعبارة أخرى ، يؤكد رينودوت أن الكتب التي يدعى بأن الموارنة كتبوها قد دبجتها في الحقيقة أقلام مؤلفين ” يعاقبة ” . لم يكن السمعاني على ما يبدو راضياً عن الأسباب التي اوردها رينودوت لعدم ادراجه ليتورجية يوحنا مارون في مجموعته وخاصة من قوله أنه لم يجدها في أية مجموعة لليتورجيات . فهو ينتـقد رينودوت قائلاً ، كأن رينودت قد بحث في سائر المكتبات وحقق كل المخطوطات التي تضمها ، أو كما لو أنه لم يترك مخطوطة في الشرق لم يقرأها كي يؤكد بأنه لم يجد ليتورجية وضعها يوحنا مارون  . ان نقد السمعاني حدا ببعض الكتّاب الى القول بأن السمعاني كان يحسد رينودوت ، وكان يضمر كراهية عميقة له ، مع أن السمعاني كان مضطراً في الغالب على امتداح تبحره في العلم

 

هناك دليل على أن هذه الليتورجية لا تخص يوحنا مارون بل انها ظهرت لأول مرة للوجود عام 1535 في قبرص بعد زمن يوحنا مارون بثمانمائة عام تقريباً . وليس هناك ذكر لهذه الليتورجية في هذه الفترة او ان احد الباحثين قد نوّه عنها . وشهادة على ذلك فان الأسقف الماروني أثناسيوس سفر الذي قام بنسخ المخطوطة في روما عام 1677 كتب بأن احد الموارنة وهو ياديس يامين (ابن سليم) من قرية حقيل كان قد نسخ هذه الليتورجية قبل مئة وخمسين عاماً عندما كان مقيماً في قبرص . من الواضح اذن أن نسخة سفر قد تمت في وقت متأخر عن تلك التي عثر عليها في قبرص عام 1535  . والمراد قوله هو عدم وجود دليل بأن هذه الليتورجية كانت معروفة لدى المـوارنة قبل القرن السادس عشر ، وهذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأنه من غير الممكن أن تكون قد كُتبت من قِـبَـل مؤسس الكنيسة المارونية . ومن الغرابة بمكان أنها لم تظهر لأول مرة في لبنان ، موطن الموارنة ، بل في قبرص . يمكننا إذاً أن نستـنتج بأن هذه الليتورجية قد نسخت عن ” ليتورجية الرسل الاثني عشر ” التي استعملتها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . ومن الغريب كذلك ألا تكون هذه الليتورجية من ضمن مجموعة الليتورجيات التي نشرها الموارنة في روما عام 1594 ، والتي احتوت على أربع عشرة ليتورجية معظمها يخصُّ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية  .  يمكننا أن نذكر من بين مؤلفي هذه الليتورجيات على سبيل المثال يوحنا بن شوشان ، ماروثا التكريتي وديونيسيوس ابن الصليبي . ولا نجد ليتورجية في هذه المجموعة تخص مؤسس الكنيسة المارونية وأول بطريرك لها . ولذلك يرى المطران أقليميس يوسف داود أن الليتورجية قد نحلها ولا شك أحد مواطني قبرص الموارنة في القرن السادس عشر ونسبها إلى يوحنا مارون

 

قام مؤلف هذا الكتاب شخصياً بقراءة مجموعة الليتورجيات المارونية التي نشرت في روما في عام 1594 فلم يجد فيها ليتورجية وضعها يوحنا مارون  . والحقيقة ان هذه الليتورجية ليست وحدها فقط التي تـنسب إلى يوحنا مارون ، بل ربما كانت معظم الكتب الطقسية المارونية من تأليف آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . ولذا نجد الكاتب الماروني المعاصر الأب ميخائيل الرجي يقرُّ بأنه لايوجد مؤلف واحد نسب حتى الآن طقساً منفصلاً إلى الموارنة بحيث يميزهم عن “اليعاقبة” والسريان الآخرين  . ويرى الرجي بأن من الأصح أن تـنسب الليتورجيات المنشورة في روما في عام 1594 بالحرى إلى “اليعاقبة” لا إلى الموارنة . إلا أن الرجي يعزو استعمال الموارنة لليتورجيات “اليعاقبة ” إلى ما يسميه ” نفوذ اليعاقبة ” وإلى حداثة عهد الطباعة . فهو يقول : بما أن نفوذ ” اليعاقبة ” كان مايزال قوياً في (لبنان) وبما أن الذين يقومون بالطباعة كانوا مبتدئين في صنعتهم  ، فإن العديد من الأجزاء الهامة في ” الطقس اليعقوبي ” بالإضافة إلى العديد من الليتورجيات وجد طريقه إلى كتب الليتورجيات المارونية بحيث أصبح طقسنا الماروني القديم وطقسهم ، متشابكين . أدرجت ليتورجياتهم إلى جانب ليتورجيتنا القديمة ، المنسوبة إلى الاثني عشر رسولاً ، لا بل سبقتها في الحقيقة في الترتيب بطريقة تجعل من الأكثر صحة في رأيي المتواضع أن ينسب كتاب الليتورجيات هذا إلى اليعاقبة لا إلى الموارنة

 

طالما أن الليتورجيات التي نشرها الموارنة في روما عام 1594 كانت تخص الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ، فلا يمكن للمرء أن يفهم لماذا أشار الرجي إلى ليتورجية الاثني عشر رسولاً على أنها “ليتورجيتنا القديمة” . يجد الرجي نفسه أمام معضلة وهو يحاول التمييز بين ما يدعوه بالليتورجيات ” اليعقوبية ” والمارونية . إلا أنه يبيّن بوضوح بأن كل الكتب الطقسية ، بما فيها ليتورجيات عام 1594 ، التي تضم أسماء آباء “يعاقبة” مثل سويريوس الأنطاكي وبرصوم ، وآخرين هي كتب “يعقوبية” وليست مارونية . ولهذا يجب القول ان هذه الليتورجيات يجب ألا تعتبر مارونية حتى وإن وجدت عند الموارنة ، أو انهم قاموا بطباعتها لاستعمالهم الشخصي  . ولكن كيف يمكن للمرء أن يبرر الحقيقة وهي أن مجموعة الليتورجيات المنشورة في روما عام 1594 تحمل العنوان كتاب تقدمة القربان وفقاً للتقليد الماروني ، والذي يدل على أنها كانت مارونية . فبينما نرى الاب ميخائيل الرجي يقدم جواباً بالفعل وذلك بالاعتراف بأن الموارنة عانوا من قلة الكتب الطقسية . فإن كاتباً مارونياً آخر ، هو جبرائيل الصهيوني (ت 1648) سبق ان وضع هذه المسألة برمتها بشكل لطيف في رسالته الموجهة إلى العلاّمة نيوسيوس عام 1644 فيما يتعلق بما يُدعى بالليتورجيات المارونية . فهو يكتب قائلاً: “يتـقاسم الليتورجيات الموجودة الموارنة و” اليعاقبة ” لأن الكتب الطقسية للموارنة واليعاقبة هي نفس الكتب ”  . المسألة اذن برمتها تتطلب في الحقيقة المزيد من البحث ، ولهذا فإن مؤلف هذا الكتاب يحتفظ برأيه بأن الليتورجيات المارونية هي من أصل سرياني أرثوذكسي إلى أن يُعثر على دليل جديد خلاف ذلك

 

يعترف المطران يوسف الدبس بأن الكتب الطقسية القديمة للموارنة و” اليعاقبة ” كانت سواسية . ويؤكد أن تأليف هذه الكتب تمَّ قبل انقسام كنيسة أنطاكية السريانية إلى جماعتين ، جماعة الخلقيدونيين والمناوئين لمجمع خلقيدونية . والحقيقة هي انه لم تكن هناك كنيسة مارونية أو جماعة مارونية معترف بها في أواسط القرن الخامس عندما انقسمت كنيسة أنطاكية السريانية بعد مجمع خلقيدونية . إضافة إلى ذلك ، ان ما يقوله المطـران الدبس يقودنا إلى الاعتقاد بأن الليتورجيات التي استعملتها كنيسة أنطاكية السريانية كانت واحدة ، بغض النظر عن الطوائف المختلفة الخاضعة لسلطتها الكنسية . مهما يكن الأمر ، فالحقيقة هي أنه لم تكن للكنيسة المارونية ليتورجية خاصة بها ، وأن الليتورجية المنسوبة إلى يوحنا مارون قد انتحلت على الأرجح من ليتورجية ديونيسيوس ابن الصليبي مطران آمد (ت 1172)  وهو أحد آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية

 

هناك كتاب آخر وهو شرح الخدمة الأفخارستية (اي خدمة القداس) ، ينسبه ابراهيم الحاقلاني إلى يوحنا مارون وهو تـفسير لليتورجية المعروفة عموماً في الكنيسة السريانية بليتورجية القديس يعقوب أخي الرب  : : . توجد نسخة من هذا التـفسير في مكتبة الفاتيكان قام بنسخها الحاقلاني نفسه عام 1660  . وقد أفادنا المطران أقليميس داؤد بأن الحاقلاني نحل هذا التـفسير عن ديونيسيوس ابن الصليبي ونسبه إلى يوحنا  مارون  . إن داود على صواب لأن ابن الصليبي وهو سرياني أرثوذكسي ، يستـشهد بالطبع في تـفسيره لهذه الليتورجية بشهادات آباء كنيسته تأييداًٍ لعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . هذا ما يبدو بوضوح في تـفسيره لكسر الخبز ومزج الخبز بالخمر اللذين يتحدان بطريقة تفوق الوصف للدلالة على وحدة طبيعتي المسيح . يقول ابن الصليبي ” إنه عمانوئيل واحد ، غير قابل للانقسام إلى طبيعتين بعد اتحادهما ”  . لكن ابراهيم الحاقلاني ، وهو خلقيدوني اجرى العديد من التغييرات في هذا التفسير ، لكي يوافق إيمان خلقيدونية . ويقول اوسابيوس رينودوت ، في هذا الصدد إن هذا التفسير لليتورجية القديس يعقوب هو من عمل ديونيسيوس ابن الصليبي  . يؤيد السمعاني رأي رينودوت ويعد بالتوسع في شرح هذا الموضوع في المجلد الثاني من مكتبته الشرقية . لكن يظهر انه اخفق بوعده مكتفياً بالقول بأن ابراهيم الحاقلاني نسب إلى يوحنا مارون تـفسير الليتورجية الذي يشابه التفسير الذي كتبه ابن الصليبي  . هذا ما ضلل المطران يوسف الدبس وجرّه الى الاعتقاد بأن السمعاني ، في المجلد الثاني من عمله المذكور آنفاً ، بدل رأيه لأنه اشار إلى أن لابن الصليبي كان له تـفسير لليتورجية غير التفسير الذي نسب إلى يوحنا مارون . ويتكهن الدبس قائلاًً بأنه من المحتمل أن يكون ابن الصليبي قد نحل تـفسير الليتورجية الذي وضعه يوحنا مارون  . إن ما يقوله الســمعاني في الحقيقة هو أن الحاقلاني ادرج قسماً كبيراً من تـفسير ابن الصليبي في تـفسير الليتورجية الذي نسبه إلى يوحنا مارون . ولكن سواء أنحل الحاقلاني تـفسير ابن الصليبي برمته أو قسماً كبيراً منه كما يؤكد السمعاني ، فالحقيقة تبقى أن السمعاني لا يصادق على عزو الحاقلاني لتـفسير الليتورجية هذا إلى يوحنا مارون . بيد أن الدبس يصر ، دون مبرر ، بأن السمعاني قام بالفعل بالمصادقة على ذلك ويستـشهد بالدليل التالي ليدعم وجهة نظره . فهو يقول أن الأب الماروني بطرس مبارك قد استشهد بتـفسير الليتورجية في مقالين كتبهما عن القديس أفرام ، وأن السمعاني صادق على نشر هذين المقالين في عام 1740 ، دون أن يُخطر المؤلف بحقيقة أن التفسير المستشهد به لم يكتبه يوحنا مارون . هذا الدليل الذي يبديه الدبس واه جداً ويتعذر الدفاع عنه كما أنه لا يثبت بأي حال من الأحوال بأن مؤلف هذا التفسير هو يوحنا مارون  . ومن الصعب كذلك التصديق كما قال الدبس بأن ابن أخ السمعاني ، يوسف لويس السمعاني (ت 1872) ، كان قد نشر هذا التـفسير في مصنفه Codex Liturgicus (مجموعة اللترجيات) في روما عام 1752 باسم يوحنا مارون وبأن السمعاني الكبير لم يثر أي اعتراض أو تعليق على نشره  ، مما يعني بأنه قَبله كعمل أصلي من أعمال يوحنا مارون  . وبعد تقديم هذه الحجة الواهية ، يقول الدبس أخيراً بأنه كان ينوي ” البرهان بشكل حاسم ” على أن هذا التـفسير لليتورجية يخص يوحنا مارون  . ولكن كل ما نجح الدبس بالقيام به ، لسوء الحظ ، هو تكرار آراء يوسف لويس السمعاني التي يتعذر الدفاع عنها .

ويستطرد الدبس قائلاً بأنه عثر في مكتبة البطريركية المارونية في لبنان على تفسير لليتورجية قام بنسخه في روما عام 1670 الأب بطرس مخلوف (أسقف قبرص الماروني) . يدّعي الدبس بأنه قابل هذا التفسير مع الأجزاء التي كتبها ابن الصليبي في تفسير الليتورجية والتي نشرها يوسف لويس السمعاني؛ فوجد العديد من نقاط الاختلاف بين النصين . إن تفسير ابن الصليبي ، كما يقول الدبس موجه إلى أغناطيوس مطران أورشليم السرياني؛ إلا أن النص الآخر غفل من التوجيه . كما أن تفسير ابن الصليبي يضم عشرين فصلاً ، بينما يتضمن التفسير المنسوب الى يوحنا مارون خمسين فصلاً . وأخيراً يقول الدبس أنه وجد العديد من التعابير العقائدية في هذه الليتورجية والتي لا يمكن أن يكون ابن الصليبي قد كتبها لأنها تناقض إيمانه بالطبيعة الواحدة في المسيح

 

هذه الآراء ليست آراء الدبس بل هي آراء يوسف لويس السمعاني . يقول هذا السمعاني ، متبعاً رينودودت ، بأن اسطفان الدويهي أقرَّ بأن هذا التـفسير قد كتبه ابن الصليبي . ويجادل بأن عمه ، السمعاني الكبير ، يتـفق مع رينودوت والدويهي حول هذه النقطة  . إلا أن يوسف لويس السمعاني يبدي ملاحظة بالقول انه مع كل الاحترام الواجب لرأي عمه ورأي الدويهي ، فأنه مازال يؤمن بأن تـفسير الليتورجية هذا قد كتبه يوحنا مارون . ويضيف قائلاً أن قول رينودوت بأن هذا التـفسير لم يكتبه يوحنا مارون ، لأنه لم يشر اليه كاتب ما ، لا يعتبر دليلاً كافياً بأن يوحنا مارون لم يكن مؤلف الليتورجية . ويصرّ يوسف لويس السمعاني بأنه قابل ما بين تـفسيري الليتورجية ـ الذي كتبه ابن الصليبي والآخر الذي كتبه يوحنا مارون ـ فوجدهما مختلفين خاصة وانهما يحتويان على عقائد مخالفة . فعلى سبيل المثال ، يؤكد ابن الصليبي بأن كنيسته استعملت خبزاً مختمراً للقربان بينما يقول يوحنا مارون أن كنيسته استعملت خبزاً فطيراً ، وأن ابن الصليبي ، على خلاف اعتقاد الكنيسة المارونية ، ينسب استحالة الخبز والخمر خلال خدمة القداس الإلهي إلى استدعاء الروح القدس  . وبالرغم من اختلاف الليتورجيتين هذا فان يوسف لويس السمعاني والدبس يصرّان بأن تـفسير الليتورجية هو عمل أصيل ليوحنا مارون ، وأنه يختلف عن تـفسير ابن الصليبي وبأن الأخير ، الذي عاش في القرن الثاني عشر ، قد نحل التـفسير الذي كتبه يوحنا مارون الذي عاش في القرن السابع . من المحال تصديق ان ابن الصليبي نحل تفسيره لليتورجية عن تفسير يوحنا مارون الذي ثبت بأنه لم يكتب مثل هذا التفسير

 

إن التـفسير المنسوب إلى يوحنا مارون هو نفس التـفسير الذي كتبه ابن الصليبي ، خلا الأقسام التي أحدث فيها ابراهيم الحاقلاني بعض التغييرات ليجعل تفسير يوحنا مارون المزعوم ملائماً لعقيدة المجمع الخلقيدوني . والحقيقة هي أن العلماء السريان الشرقيين والغربيين قد أقروا على الدوام بان تـفسير القداس الإلهي الذي هو قيد البحث يعود الى ديونيسيوس ابن الصليبي . بل لم يذكر أحد من الكتّاب القدامى الذين يمكن الاستـفادة منهم بأن يوحنا مارون كتب تـفسيراً لليتورجية ما . إن رينودوت على صواب بقوله بأنه لم يعثر على تـفسير ليتورجية ليوحنا مارون . بل يؤكد بأنه لا يوجد بطريرك لأنطاكية باسم يوحنا مارون  . إن الادعاء بأن يوحنا مارون كتب هذا التـفسير لليتورجية هو ادعاء حديث العهد نسبياً وقد أكّده لأول مرة كتّاب موارنة من أمثال ابراهيم الحاقلاني وجبرائيل الصهيوني في القرن السابع عشر مما يدل على أن الموارنة لم يعلموا بتفسير القداس الإلهي الذي وضعه يوحنا مارون قبل ذلك القرن  . إن المطران أقليميس يوسف داود على حقّ بقوله ان ابراهيم الحـاقلاني أثناء وجوده في روما قام بتدوين هذه النسخة من تفسير الليتورجية بخط يده ونسبها إلى يوحنا مارون  . هناك في الواقع ترجمة عربية لهذا التـفسير وضعها كاتب سرياني من القرن الخامس عشر ، هو موسى بن عطشة موجودة في الكتاب الذي يسميه الدويهي وموارنة آخرون عقيدة اليعاقبة بالذات ، وهو الكتاب الذي يستشهدون به للبرهان على أصالة كنيستهم وجماعتهم  . ويكفي نتيجة لهذا البحث ان الاب جيروم لابور برهن بصورة قاطعة بأن تفسير الليتورجية هذا يعود الى ديونيسيوس ابن الصليبي

 

يمكننا هنا أن نقدم بعض الأمثلة عن كيفية تلاعب ابراهيم الحاقلاني بتـفسير ابن الصليبي لليتورجية

يقول الحاقلاني عن لسان يوحنا مارون بخصوص حضور   المسيح  في عنصري القربان ، الخبز والخمر معاً ما يلي

كما ان يسـوع بدا كإنسان بينما هو في الحقيقة والجوهر الله ، كذلك هو الحال مع هذين العنصرين . فهـما يبدوان كخبز وخمر لكنهما في الواقع وفي الجـوهر جسـد مخلصنا ودمه ولكن بصفات الخبز والخمر

 

اما ابن الصليبي فقال حول نفس الموضوع ما يلي:

يسمى الجسد والدم بالسرّين لأنه لا تمكن رؤيتهما ، بيد أنهما يظهران كخبز وخمر لكنهما في الحقيقة جسد الله ودمه . وكما تجلى يسوع المسيح كإنسان مع أنه كان الله ، كذلك هو الأمر مع هذين العنصرين فهما يظهران كخبز وخمر لكنهما في الحقيقة جسد المسيح ودمه . علاوة على ذلك فإنه وان كان الروح القدس يحول هذين السرَّين إلى جسد ودم لكنهما جسد الابن ودمه

نجد أن خطأ الحاقلاني الأكثر فداحة ، من وجهة نظر عقائدية بحتة ، هو الذي ارتكبه في الفصلين الرابع والخامس من تـفسير يوحنا مارون المزعوم لليتورجية حيث ادرج شرح خدمة القداس ، ليعقوب الرهاوي (ت 708) وهو أحد آباء الكنيسة السريانية . والتي كان السمعاني قد استخلصها من تفسير الليتورجية لابن الصليبي  . ربما لا نستطيع ابداً معرفة الدافع الذي حدا بالحاقلاني إلى ادراج شرح خدمة القداس ليعقوب الرهاوي في تـفسير الليتورجية ، مع أن بعض الكتّاب أتهموه بارتكاب انتحال ” الخبث ”  . من المحتمل أن يكون ما دفع بعض الموارنة إلى انتحال كتب الكنيسة السريانية الأرثوذكسية هو ندرة الكتب الطقسية المارونية . علاوة على ذلك ، ان اشتراك الكنيستين المارونية والسريانية الأرثودكسية بتراث سرياني ولغة سريانية واحدة جعل هذا الانتحال ممكناً .

هناك كتاب آخر يُنسب إلى يوحنا مارون هو في الكهنوت . يتضمن ، كما يقول السمعاني ، أربعين فصلاً وهو مدرج برقم 64 في قائمة الكتب التي جمعها الحاقلاني . وقد نقل الحاقلاني نفسه هذا الكتاب إلا أنه لم يعطِ معلومات حول المخطوطة التي أستقاه منها . يستـنتج السمعاني بعد دراسة النسخة التي نقلها الحاقلاني أن الكتاب لم يكتبه يوحنا مارون بل العالم السرياني يوحنا أسقف دارا (ت 860)  . يفيدنا السمعاني بأنه قام بدراسة مستفيضة للمخطوطة الأصلية لهذا الكتاب وقابلها مع النسخة التي نقلها الحاقلاني فوجد أن الحاقلاني قد ادخل في نسخته ما لا يقل عن اثنين وثلاثين فصلاً من المخطوطة الأصلية ، ناسباً الكتاب برمته إلى يوحنا مارون  . لكن عزو يوسف السمعاني هذا الكتاب إلى يوحنا أسقف دارا يدعو الى التساؤل ، فالنسخة التي استعملها السمعاني مختلفة وهو يخمن فقط بأنها تعود الى يوحنا أسقف دارا . هناك نسخة كاملة من هذا الكتاب ، تمَّ نسخها عام 1224 ، موجودة في دير الشرفة في لبنان تحمل اسم موسى بن كيفا (ت 904) وهو كاتب وأحـد آباء الكنيسة السريانية وأسقف بارمَّان  . كما ان عنوان الجزء الرابع من كتاب في الكهنوت هو على النحو التالي ” الجزء الرابع من كتاب في الكهنوت ، للمبارك موسى بن كيفا ” . وهناك عناوين مماثلة تظهر في بداية الجزئين الخامس والسادس  خاصة الجزء الأخير الذي يحمل العنوان التالي ” بحث لمنفعة أبناء الكنيسة المقدسة دبجه القديس سويريوس الذي هو موسى بن كيفا أسقف بارمّان الذي ورد ذكره ”  . كما ان مخطوطة دير الشرفة هذه تضم أيضاً فصولاً أخرى بقلم موسى بن كيفا لم يعرفها السمعاني . من الواضح أن كتاب في الكهنوت يعود الى موسى بن كيفا ولا يخص يوحنا أسقف دارا أو يوحنا مارون

 

أثار إسناد كتاب في الكـهنوت إلى يوحنا أسقف دارا وتحديد هوية المؤلف بأنه موسى بن كيفا وليس يوحنا مارون أستياء المطران الماروني يوسف الدبس الذي أصرَّ ، وبدون دليل ، على أن المؤلف هو يوحنا مارون  . وكل ما قدمه الدبس ليثبت ادعائه هو رأي يوسف لويس السمعاني الذي حاول البرهان بأن عمه السمعاني الكبير كان على خطأ في إنكاره ان يوحنا مارون هو مؤلف هذا الكتاب والذي عزاه إلى يوحنا أسقف دارا لأن نصه يختلف كلياً عن نص يوحنا مارون  . إن يوسف لويس السمعاني على صواب بقوله بأن النصين مختلفان تماماً . لكنه أخفق كما فعل عمه يوسف السمعاني قبله في معرفة أن كتاب: في الكهنوت لا يخص يوحنا أسقف دارا بل موسى بن كيفا . وأنه من البديهي أن النصين في كلتا الحالتين مختلفان . وبالنتيجة فإن معارضته لرأي عمه المبنية على فرضية أن كتاب: في الكـهنوت كتبه يوحنا مارون لا يوحنا أسقف دارا لا صحة لها . كما أن ادعاء الدبس بأن يوحنا أسقف دارا انتحل مؤلفات يوحنا مارون يفتقر الى اساس تاريخي  . غير ان كتّاباً موارنة آخرين كالأب ميخائيل الرجي اثبتوا بأن كتاب في الكهنوت لا يخص يوحنا مارون  . مما دعا بعض الكتّاب لينحوا باللائمة على الموارنة لتحريف الحقيقة حول أصول كتبهم الطقسية

 

هناك كتاب آخر يُنسب إلى يوحنا مارون وهو شرح الإيمان وصلنا كاملاً بنصه السرياني وترجمته الى العربية (الكرشونية) وقد أدرج تحت رقم 14 في الكتب التي جمعها الحـاقلاني في مكتبة الفاتيكان  . هذه المخطوطة السريانية مدرجة حالياً برقم 146 في مكتبة الفاتيكان

يثير كتاب شـرح الإيمان ، بخلاف الكتب الأخرى المنسوبة إلى يوحنا مارون ، مشاكل كثيرة إحداها تخصّ تاريخ الكتاب . يعتقد يوسف السمعاني بأن هذه المخطوطة قد نسخت عام 1392 ، إلا أن المطران أقليميس يوسف داود يُرجع تاريخها إمّا إلى عام 1422 أو 1472 ، اما الفرنسي الأب ف . نو فإنه يرجع تاريخها إلى القرن السابع وهو الزمن الذي عاش فيه يوحنا مارون  . ولكي يؤيد رأيه يروي نو أن من بين الشهادات التي اوردها يوحنا مارون في كتابه المزعوم شرح الإيمان هي شهادة مستمدة من ترنيمة القديس مار أفرام السرياني المنظومة عن ميلاد ربنا . يدّعي نو بأن القديس أفرام يعترف في هذه الترنيمة بطبيعتين متميزتين ، الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في المسيح . ويستطرد قائلاً بأنه عثر على رسالة من أحد آباء الكنيسة السريانية وهو يعقوب الرهاوي موجهة إلى أحد الشمامسة واسمه جورج تحتوي على إجابات أسئلة طرحها الشماس . وقد دار أحد هذه الأسئلة حول عبارات وردت في ترنيمة القديس أفرام عن ميلاد ربنا  .  يدّعي نو أن يعقوب الرهاوي يقدم في هذه الرسالة ، نفس الشهادة المأخوذة من القديس أفرام حول طبيعتي المسيح ، وهي الشهادة التي يستـشهد بها يوحنا مارون في عمله المزعوم شرح الإيمان . ويستنتج نو بالقول بأن اليعاقبة حرفوا هذه الترنيمة الموزونة للقديس أفرام ، طالما أن يوحنا مارون ويعقوب الرهاوي كانا يعاصران بعضهما ، وذلك بحذف الإشارة إلى طبيعتي المسيح من الترنيمة لأنها تناقض عقيدة اليـعاقبة بالطبيعة الواحدة في المسيح وأن يعقوب الرهاوي يذكر في رسالته الموجهة إلى الشماس جورج طبيعتين في المسيح . ويذهب الأب نو أبعد من ذلك بقوله أن يوحنا مارون كان قد عاش ولا بد قبل قيام هؤلاء اليعاقبة بتحريف هذه الترنيمة الموزونة للقديس أفرام ، نظراً لأنه يستـشهد بها بصيغتها الأصلية . بعبارة أخرى يريد نو القول ان يوحنا مارون استعمل مصادر لم يحرفها “اليعاقبة” ملاءمة لإيمانهم بالطبيعة الواحدة في المسيح . وأخيراً يصل نو إلى نتيجة أن المصادر التي استعملها يوحنا مارون كانت مصادر ” كاثوليكية ” وأن يوحنا مارون وتلامذته كانوا ” كاثوليكيين ” (أي خلقيدونيين ومتمسكين بالإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية)  وهو رأي يثير الكثير من الإرباك والتشويش

 

إن ما يقوله الأب نو ، في الجوهر ، هو أن يوحنا مارون ويعقوب الرهاوي عاشا في نفس الفترة ، وأن كليهما استـشهدا بترنيمة القديس أفرام المنظومة حول ميلاد ربنا والتي تتضمن إشارة إلى طبيعتي المسيح ـ اللاهوت والناسوت ـ وأن اعتراف القديس أفرام بطبيعتين في المسيح يتطابق مع صيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية . وتقر هذه الصيغة بأن طبيعتي المسيح كانتا متميزتين وظلتا كذلك حتى بعد اتحادهما في شخص واحد . ويمكننا أن نستخلص أيضاً من رواية الاب نو أن أولئك الذين اعترفوا بطبيعة واحدة في المسيح ورفضوا صيغة الإيمان التي حددها مجمع خلقيدونية (أولئك الذين يدعوهم ” باليعاقبة “) قد حذفوا عمداً الإشارة إلى طبيعتي المسيح في ترنيمة القديس أفرام المنظومة حول ميلاد الرب؛ وقد فعلوا ذلك كي يوضحوا أنه ما من أحد قد أشار ، قبل مجمع خلقيدونية في عام 451 ، بأنه كانت للمسيح طبيعتان متمايزتان . يحاول نو ، في مجمل القول ، التأكيد على شيئين: أولاً ، أن يوحنا مارون كان “كاثـوليكيا” بمعنى أنه خلقيدوني اعتـرف بالإيمان ” الكاثوليكي ” بطبيعتين منفصلتين في المسيح ، وهو إيمان ينسجم تماماً مع إيمان مجمع خلقيدونية وكنيسة روما؛ وثانياً ، أن كتاب مارون شرح الإيمان ، الذي يضم عقيدة الطبيعتين هذه في المسيح ويرجع في تاريخه إلى زمن مارون في القرن السابع ، هو مؤلف أصلي لمارون

 

لا توجد بيّنة بأن ” اليعاقبة ” قد حرفوا ترنيمة القديس أفرام وخاصةالإشارة فيها إلى طبيعتي المسيح لإزالة المادة التي لا تتطابق مع إيمانهم . وهذه قضية تستحق أكثر من رأي منفرد . فإن مجرد القول بأن يوحنا مارون ويعقوب الرهاوي كانا معاصرين وأنهما استـشهدا بنفس المصدر في مؤلفاتهما لا يثبت أن كتاب شرح الإيمان يعود الى القرن السابع . فالحقيقة هي أن آباء الكنيسة الشرقية ، بغض النظر عن آرائهم اللاهوتية ، قد اعترفوا بمؤلفات يعقوب الرهاوي ، وهو علاّمة كبير من علماء الكنيسة السريانية ، ومساهماته الفكرية اولوها حق قدرها . كما انه لا يوجد أي دليل بأن هؤلاء الآباء اعترفوا بمؤلفات يوحنا مارون المزعومة أو اولوها حقّ قدرها . بل كيف امكن ان يهمل هؤلاء الآباء مؤلفات يوحنا مارون ان لم تكن موجودة ؟ في الحقيقة هناك صمتٌ مطبق حول مؤلفات يوحنا مارون المزعومة منذ نهاية القرن السابع حتى أواسط القرن السابع عشر عندما قام التلامذة الموارنة في روما لأول مرة بعزو كتب طقسية الى يوحنا مارون . اضف الى ذلك ان الكتّاب النقاد الغربيين والمتبحريين في تاريخ الكنيسة لم يذكروا مؤلفات يوحنا مارون أو يُـشيروا إليها . وأحد هؤلاء الاعلام هو الباحث الانكليزي وليم رايت الذي يعتبر مكانة يعقوب الرهاوي بين مواطنيه كمكانة ” جيروم بين الآباء اللاتين ” . ويصفه بأنه ” رجل عظيم الثـقافة وواسع المعرفة ” ولكن وليم رايت لم يذكر كلمةً واحدةً عن يوحنا مارون  . كما أن الكاهن الفرنسي الأب ج . ب . شابو لا يظهر فقط ، في تحليله النقدي للمصادر السريانية القديمة ، الافتـقار إلى وجود يوحنا مارون كشخص تاريخي بل الافتـقار أيضاً إلى صحة مؤلفاته المزعومة

 

من المتعذر الدفاع من وجهة نظر عقائدية بحتة لنتائج آراء الأب نو . فهو يتكهن بأن “اليعاقبة” حذفوا الإشارة إلى الطبيعتين في المسيح من ترنيمة القديس أفرام الموزونة بعد عام 659 . ثم يستطرد قائلاً بأن “اليعاقبة” والموارنة تناظروا في ذلك العام حول مسائل دينية بحضور الخليفة معاوية حيث استـشهد الرهبان الموارنة خلالها بترنيمة القديس أفرام المنظومة أملاً في أن يقضي اعتراف القديس أفرام بطبيعتين منفصلتين ومتمايزتين في المسيح على إيمان معارضيهم بطبيعة متجسدة واحدة في اللوغوس الإلهي . ولما ادرك “اليعاقبة” بأنهم قد خسروا المناظرة عمدوا الى حذف الإشارة إلى الطبيعتين في المسيح من ترنيمة القديس أفرام هذه ومازالت عادة هذا الحذف مستمرة حتى اليوم  . يبدو أن الأب نو قد أغفل الحقيقة وهي أن إشارة القديس أفرام إلى (طبيعتي المسيح) لا إلى “الطبيعتين في المسيح” ليست لها دلالة لاهوتية أو عقائدية كتلك التي تضمنتها صيغة عقيدة مجمع خلقيدونية ، كما اراد الاب نو أن تكون عليه . فالقديس أفرام عاش في القرن الرابع ، قبل أن يصبح النزاع العقائدي حول قضية اتحاد طبيعتي المسيح بمائة عام تقريباً . نعم إن آباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى من الحقبة المسيحية آمنوا بأنه كانت لربهم طبيعتان ، إلا أنهم لم يناقشوا أبداً كيفية اتحاد هاتين الطبيعتين أو نتيجة اتحادهما . فقضية هذا الاتحاد لم تصبح قضية جادة حتى النصف الأول من القرن الخامس عندما أنكر نسطور بطريرك القسطنطينية ، أن العذراء مريم ولدت الإله وبذلك رفض أن يدعوها Theotokos (والدة الله)؛ وفضل أن يدعوها Christotokos (والدة المسيح) بحجة أنها ولدت إنساناً اصبح الهاً فيما بعد . كما أصبحت قضية اتحاد طبيعتي المسيح جادة أيضاً عندما أنكر أوطاخي ، وهو رئيس دير في القسطنطينية ، حقيقة جسد المسيح وأدعى أن الطبيعة الإلهية للمسيح قد استوعبت الطبيعة البشرية في التجسد ، بحيث لم يعد للمسيح نتيجة لذلك سوى طبيعة إلهية واحدة . كانت هذه بداية ما يطلق عليه طلاب علم اللاهوت الجدل ” المونوفيزي ـ الديوفيزي ” . ومن الواضح انه لا صلة لإشارة القديس أفرام إلى طبيعتي المسيح بهذا الجدل والذي اهاب بالمتناظرين الموارنة للادعاء أمام الخليفة بأنهم عثروا في كتابات القديس أفرام على فقرة تؤيد ” إيمانهم الكاثوليكي ” المزعوم (بمعنى الإيمان الخلقيدوني الذي تمسكت به كنيسة روما) . ومن الغرابة بمكان أن يعتبر المطران يوسف الدبس ، الذي يورد استـشهاد نو برسالة يعقوب الرهاوي إلى الشماس جورج ، يعقوب الرهاوي قديساً ، دون أن يدرك بأن علاّمة الكنيسة السريانية هذا كان مناوئاً للخلقيدونية ومؤمناً ثابتاً بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي ومدافعاً عنها ، وهي عقيدة يحاول يوحنا مارون دحضها في مؤلفه المزعوم شرح الإيمان  . ان يعقوب الرهاوي كان في نظر الخلقيدونيين ” هرطوقياً ” لا قديساً .

إن المشكلة الرئيسية المرتبطة بشرح الإيمان هي هوية المؤلف والمضمون . وهما نقطتان لم يبد فيهما العلامة السمعاني رأياً حاسماً . ففي مكتبته الشرقية 1: 513 يعالج الكتاب كما لو أن يوحنا مارون هو المؤلف ، ولكن عند وصفه للمخطوطة 146 يقول ، في نفس المكتبة الشرقية 1: 576 ، أن شرح الإيمان يُعزى إلى مارون ، وهذا يعني أن يوحنا مارون ليس بالمؤلف . اما التمهيد لنسخة هذه المخطوطة الموجودة في عشقوث ، لبنان ، مخطوطة 47 فإنه يُـشير بصراحة إلى أن هذا الكتاب منسوب إلى يوحنا مارون  . وسوف نرى بعدئذ أن الكتّاب الموارنة ، ومن ضمنهم العلامة السمعاني نفسه ، اتهموا توما أسقف كفرطاب بالتلاعب بـ شرح الإيمان ليجعله ملائماً المونوثيلية . وفي الوقت الذي لا يمكننا أن نحدد بالتأكيد الأصل السرياني لكتاب : شرح الإيمان فإننا نرتأي بأن محتوياته تدل على أن مؤلفه كان مونوفيزياً سريانياً أرثودكسياً مؤمناً بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي ، الا أنه شايع المونوثيلية ظاهرياً . وخاصة فإن شهادات آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية التي أوردها المؤلف مراراً تدل على انه سرياني أرثوذكسي . اما نبذ المؤلف لنسطور والفصل المكتوب حول التـقديسات الثلاث (المرفق بالمخطوطة) فقد نُحلا من مصدر سرياني أرثوذكسي ونُسبا إلى يوحنا مارون  . والخلاصة انه بغض النظر عن هوية المؤلف ، فإن الكتاب بأجمعه يؤكد على عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) ، مع نزعة قوية نحو عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي (المونوفيزية)

 

إن ما يؤيد الاعتقاد بأن هذا الكتاب من أصل ” مونوفيزي ـ مونوثيلي ” هو أن المؤلف يهاجم في توطئته النساطرة الذين يفصلون طبيعتي المسيح كما يهاجم الأوطاخيين الذين يخلطون هاتين الطبيعتين احداهما بالأخرى . وعلى الأخص يهاجم المؤلف مكسيموس ، الذي دافع عن عقيدة المشيئتين في المسيح . ولهذا السبب فإنه من غير الممكن أن يكون يوحنا مارون قد كتب هذه التوطئة خاصة وان الموارنة يدعون بأنه كان مدافعاً عن عقيدة المشيئتين في المسيح؛ وإلا لم يكن ليهاجم مكسيموس الذي اعترف بتلك العقيدة ودافع عنها . من المحتمل أن يكون احد النساخ قد كتب هذه التوطئة اذ يقول بأن ” الطاهر مارون بطريرك أنطاكية في دير مارون ”  كتب شرح الإيمان . ويتابع الناسخ شارحاً أسباب كتابة الكتاب ، فيقول بأنه عندما أحدث تعليم نسطور ، الذي فصل بين طبيعتي المسيح وحطم اتحادهما ، وتعليم أوطاخي ” السخيف ” ، الذي خلط هاتين الطبيعتين الواحدة بالأخرى ، اضطراباً في الإيمان المسيحي ، قام يوحنا المُكَّنى مارون بإرشاد أولئك الذين جاهروا بإيمانهم بتعليم هذين الرجلين ، شارحاً لهم الإيمان الصحيح المستند إلى الشهادات التي يوردها في الكتاب . يردف الناسخ قائلاً بأن يوحنا مارون فنَّدَ اعتراف مكسيموس بمشيئتين في المسيح لأتباع تلك الفكرة ثم كتب كتاب: شرح الإيمان ليفند هذه العقائد المضادة

 

يعتقد المطران أقليميس يوسف داود ، ان ابراهيم الحاقلاني تلاعب بالتوطئة المكتوبة في شرح الإيمان بحيث تعني أن يوحنا مارون كان متمسكاً بعقيدة المشيئتين في المسيح وانه يحاول دحض عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح . يؤكد المطران داود أنه قبل إضافة التوطئة إلى المخطوطات في مكتبة الفاتيكان ، كانت المخطوطة السريانية 146 التي تضم شرح الإيمان من ممتلكات ابراهيم الحاقلاني  . وان الحاقلاني حرَّف النص السرياني وذلك بمحو الحروف الثلاثة الأولى من اسم “مكسيموس” Maximus وإدخال الحروف ” أنتِ ” ” Ant ” بدلاً منها بحيث تُقرأ ” Anthimos انتيموس ” بدلاً من ” مكسيموس ” . كما كتب على الهامش الأيمن من المخطوطة : تذكر بعض النسخ ، قورش بدلاً من انتيموس . ولكي يُظهر أن يوحنا مارون كان مدافعاً عن عقيدة المشيئتين ، عمد الحاقلاني كلما ورد تعبير مشـيئة واحدة ، إلى استبدال ” واحدة ” بـ “اثنتين” بحيث تُقرأ ” مشيئتين ” بدلاً من ” مشيئة واحدة ” . ولكن فات عليه انه من السهل جداً اكتشاف محو تعبير مشيئة واحدة  . إلا أن الحاقلاني فشل في القيام بنفس التغييرات في الترجمة العربية (الكرشونية) التي تظهر في عمود ثان إلى جانب النص السرياني ، إذ أن كلمتي مكسيموس والمشيئتين قد تُركتا سليمتين  .

إن غرض الحاقلاني واضح . فقد عزم على تبرئة يوحنا مارون من المونوثيلية ، التي اعتبرتها كنيسة روما هرطقة وأن يصوره كمدافع عن الإيمان ” الصحيح ” و” الكاثوليكي ” . لهذا السبب حرَّف اسم مكسيموس ، المدافع عن عقيدة المشيئتين في المسيح ، ليصبح انتيموس جاعلاً إياه مدافعاً عن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ولكن من هو انتيموس هذا ؟ من المؤكد أنه ليس بطريرك القسطنطينية (535–536 ) من القرن السادس الذي تحالف مع سويريوس بطريرك أنطاكية ، الذي دعاه الإمبراطور يوسطنيان الأول إلى العاصمة لمناقشة وحدة الكنائس وتبني عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي لأن المونوثيلية لم تصبح قضية عقائدية إلا بعد مائة عام ، ويُـقال بأن كرسي القسطنطينية لم يشغله بطريرك مونوثولي سوى بطريرك واحد ولمدة عام واحد فقط وهو عام 635  . وهكذا من غير الممكن أن يكون انتيموس القرن السادس ، بطريرك القسطنطينية هو الذي ذكره الحاقلاني . حتى وإن كان هناك بطريرك مونوثيلي على قيد الوجود في زمن يتلاءم مع كتابة الحاقلاني فليس هناك من دليل على أن هذا البطريرك كتب دفاعاً عن المونوثيلية التي امكن يوحنا مارون أن يدحضها

 

كتب الحاقلاني في هامش المخطوطة عينها اسم قورش للدلالة على أن بعض النسخ تضم هذا الاسم بدلاً من اسم انتيموس  . وهنا يظهر بأن نية الحاقلاني مرة اخرى البرهان على أن يوحنا مارون في كتابه شرح الإيمان فنّد قورش أيضاً ، وهو مونوثيلي . ولكن من كان قورش هذا؟ كان مطران فاسيس ، وخصماً للعقيدة المونوثيلية ، وقد نصحه الإمبراطور هرقل في عام 626 بالاتصال بسرجيوس بطريرك القسطنطينية المونوثيلي ، فقام قورش بذلك ، وكان سرجيوس قادراً على هداية قورش إلى المونوثيلية ، بل قيل بأن قورش أصبح بعدئذ بطريركاً للاسكندرية  . ولكن عند القيام بدراسة دقيقة لهذا الجزء من شرح الإيمان ، نجد أن استبدال انتيموس بقورش لا معنى له لأنه إن كانت نية يوحنا مارون الرد على المونوثيليين ، لكان عليه أن يوجه تفنيده الى مكاريوس بطريرك أنطاكية المونوثيلي ، لا ضد قورش أو انتيموس . علاوة على ذلك ، ليس هناك من دليل بأنه كان لقورش أتباع أو تلامذة يقومون بترويج عقيدته المونوثيلية إلى المدى الذي يستدعي جهد شخص مثل يوحنا مارون لتفنيدها . لأن المجمع السادس المنعقد عام 680  كفانا بإدانته المونوثيلية وليست هناك حاجة لشخص مثـل يوحنا مارون ليدينها  . واما الفترة التي تلت هذا المجمع فقد كان الناس الوحيدون الذين اعترفوا فيها بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح هم الموارنة والسريان الأرثوذكس ، ” اصحاب الطبيعة الواحدة ” أو ” اليعاقبة ” . وهنا نصل الى النتيجة انه لا بد أن يوحنا مارون الذي عاش بعد زمن ذلك المجمع بعدة عقود كان مونوثيلياً رفض عقيدة المشيئتين (التي دافع عنها مكسيموس) واعتـنق عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح . كما ان البيّنة التاريخية ودراسة نص شرح الإيمان تؤيد تحريف هذا الكتاب الذي لم يكن الغرض منه سوى اظهار يوحنا مارون كمدافع عن عقيدة المشيئتين في المسيح كما تعترف بها كنيسة روما . ومن ثم اثبات ادعاء الموارنة بأن كنيستهم كانت متمسكة بنفس الإيمان (الإيمان الخلقيدوني) الذي اعتنقته كنيسة روما منذ القرن الخامس

 

واذا ما وجد اقتراح مفاده بأن غاية يوحنا مارون في شرح الإيمان كانت فقط لتفنيد الملكيين الذين آمنوا بمشيئتين في المسيح فهو اقتراح عاري عن الصحة بل ان المخطوطة 146 نفسها التي تحتوي على أقدم نسخة معروفة لشرح الإيمان لا تتضمن أي دليل كهذا . والأكثر من ذلك فإن هذا الكتاب لا يحوي اي تفنيد للعقيدة النسطورية أو ما يُدعى بالعقيدة “المونوفيزية” او نبذ للمونوثيلية . فكيف كان إذاً باستطاعة أي امرئ الجزم بأن يوحنا مارون فنّد مونوثيليين بارزين مثل ” انتيموس ” وقورش ؟ وهنا يورد المطران أقليمس يوسف داود جواباً مناسباً . فهو يقول بأن ابراهيم الحاقلاني ، بعد أن حرَّف مقدمة كتاب : شرح الإيمان وجد أن محو تفنيد يوحنا مارون المزعوم للمونوثيليين أمر جد ممل؛ فاستعمل بدلاً من ذلك طريقة أسهل لتحقيق غرضه . فعمد الى انتزاع الصفحات 126 ،125 ،127 التي تضم تفنيداً للنساطرة وأولئك الذين اعترفوا بمشيئتين في المسيح ، واستعاض عنها بصفحات جديدة تتضمن حواراً مع الملكيين كتبه الشاعر والكاتب السرياني داود ابن بولس (750ـ840) . ويشدد هذا الحوار على عبارة يا من صُلبت لأجلنا في التقديسات الثلاث الي رفضها الملكيون ونسـبوها زوراً إلى يوحنا مـارون كما يعترف السـمعاني نفسه

 

يدّعي السمعاني بأن تحريف شرح الإيمان ، قام به توما أسقف كفرطاب وهو الذي ترجم الكتاب إلى العربية  . هذا الادعاء ليس بجديد ، فقد رأينا سابقاً أن القلاعي كان أول من أتهم توما بتحريف كتب الموارنة وهو نفسه الذي كتب في عام 1503 بالحبر الأحمر في نسخة هذه المخطوطة التي كانت موجودة سابقاً في عشقوث ، إلا أنها الآن من ممتلكات مكتبة البطريركية المارونية في بكركي في لبنان ، بأن هذا الكتاب يضم ” الأسود والأبيض ، السم والترياق ”  . كما كتب أيضاً أنه عزم على ” تنقيته من الزوان وحرق كل ما دُسَّ فيه ” ( إلا أنه كفَّ عن خطته لأن المخطوطة كانت من ممتلكات أبناء القس يوسف من قرية حقيل . وينكر القلاعي أيضاً أنه كان للموارنة مطران اسمه توما في كفرطاب ، مدعياً بأن توما هذا كان مطراناً ” يعقوبياً ” من ماردين في تركيا ثم رحل إلى لبنان للتبشير ” بهرطقة ” المونوثيلية  . وهنا يتـفق مرهج نيرون والبطـريرك اسـطفان الدويهي مع القلاعي حول هذه النقطة

 

يبدو أن السمعاني يعتقد ، على غرار القلاعي والدويهي قبله ، بأن توما أسقف كفرطاب قام بتحريف شرح الإيمان . يقول السمعاني بأن الفقرة الموجودة في المقدمة والتي تدل على أن يوحنا مارون أفحم تلامذة انتيموس قد دُست من قِـبَـل المترجم ـ توما أسقف كفرطاب  . ويجادل السمعاني بأن يوحنا مارون لم يكتب في هذه الفقرة شيئاً يفند فيه المونوثيليين والديثيليين (أولئك الذين اعترفوا بمشيئتين في المسيح) لا بل لم يُشر إليهم . ومع ذلك ، لم يكن لدى الموارنة ، كما يقول السمعاني ، ما يخشونه بسبب هذه الهرطقة ، ولذا لم يكن هناك من سبب يدعو يوحنا مارون إلى رفضها . ويتابع قائلاً بأن فكرة قيام يوحنا مارون بتفنيد عقيدة المشيئتين في المسيح قد جاءت بها مخيلة توما المضطربة . سيما وأنه لا وجود لمناقشة موضوع المشيئتين في المسيح في أي مكان من الكتاب . ويختتم السمعاني قوله بأن كل ما شرحه مارون ، هو عقيدة الطبيعتين المتحدتين في شخص واحد (صيغة إيمان خلقيدونية) لأن غايته كانت تفنيد النساطرة والمونوفيزيين

 

ان الادعاء بأن توما أسقف كفرطاب قام في القرن الحادي عشر بتحريف هذا الكتاب وغيره من كتب الموارنة يفتقر إلى أساس تاريخي . كما ان السمعاني نفسه لا يقدم دليلاً ملموساً يشرح الكيفية التي حرَّف فيها توما ، أسقف كفرطاب الكتب المارونية ومتى فعل ذلك . إن نسخة شرح الإيمان التي يدّعي السمعاني بأن توما قام بتحريفها هي أقدم نسخة معروفة ويحدد تاريخ نسخ هذه المخطوطة (مخطوطة الفاتيكان السريانية 146) في عام 1392 . أما النسخ الأخرى من هذه المخطوطة ـ إحداها في المكتبة الوطنية في باريس واثنتان في البطريركية المارونية في بكركي ـ فترجعان في تاريخهما إلى ما بعد تاريخ تلك النسخة بكثير . تضم مقدمات هذه النسخ الثلاث نفس المعلومات ، وبالإضافة إلى ذلك ، فإن اسم انتيموس مذكور في مقدمة نسخة الفاتيكان . والذي يسترعي الانتباه هو ان المطران الماروني يوسف دريان اورد دليلاً يناقض الزعم بأن توما حرَّف شرح الإيمان . يفيدنا دريان أنه عثر على نسخة من المخطوطة في قرية عشقوث في لبنان ناقصة في بدايتها ونهايتها معاً ، ولذلك فهي غفل من اسم للمؤلف أو تاريخ . ويبيّن دريان بأن هذه هي النسخة (الأصلية الوحيدة) بخط المؤلف ، وتتضمن تـفاسير وتـنقيحات عديدة بنفس الخط . ويتابع دريان قائلاً ” أن هذه التـفاسير والتـنقيحات هي من عمل احد الطلاب الرواد في المدرسة المارونية في روما ”  . ويخلص الى النتيجة أنه بالرغم من كون لغة هذا الطالب المجهول عامية إلا أنها أكثر فصاحة من لغة القلاعي وغيره  . هنا لا تترك شهادة المطران دريان هذه مجالاً للشك بأن التفاسير والتـنقيحات في شرح الإيمان قد قام بها أحد الطلاب الموارنة الرواد في المدرسة المارونية التي تمَّ تأسيسها في روما عام 1584 . ومن بين هؤلاء الطلاب الرواد يمكننا أن ننتـقي فقط ابراهيم الحاقلاني الذي قام نسّاخ آخرون بعدئذ بتدوين تحريفه لأقدم نسخة من شرح الإيمان ، كانت احداهما النسخة التي عثر عليها دريان

 

هنا يدور التساؤل حول هذه القضية وخاصة تلاعب توما اسقف كفرطاب بكتاب شـرح الإيمان .  ومن المهم جداً ان نعلم بأن البطريرك الماروني اسطفان الدويهي والسمعاني متفقان بأن توما كان مارونياً   . فإذا كان توما مارونياً فما هو السبب الذي دعاه لتحريف كتب مارونية ؟ إن مما لا يصدق أن يكون توما قد حرَّف النص السرياني لكتاب شرح الإيمان وترك الترجمة العربية سليمة . ومما لا يصدق بشكل أكبر هو عدم وجود اي ذكر منذ القرن السابع وحتى القرن الحادي عشر ليوحنا مارون هذا أو مؤلفاته ، فيما خلا بعض الإشارات المريبة إليه في مقدمة الكتاب الذي يحمل عنوان: الهدى Nomocanon . ويقر السمعاني نفسه في مقدمة كتاب: شرح الإيمان بأن توما أسقف كفرطاب كان مونوثيلياً (83) . وعلى هذا الأساس يمكن القول بما أن الموارنة كانوا مونوثيليين في القرن الحادي عشر فمن المنطقي الافتراض بأن توما كان أسقفاً مارونياً لكفرطاب ، ولهذا لم يكن لديه سبب يدعوه إلى تحريف مؤلفات كنيسته

 

يرتاب بعض الكتّاب الغربيين بأن يوحنا مارون هو مؤلف شرح الإيمان ويعتقدون بأن الكتاب منتحل  . يقول هؤلاء الكتّاب ، ولهم في ذلك ما يبررهم ، أنه لا يوجد في النسخ المتوفرة من هذا الكتاب ما يثبت أن يوحنا مارون قام بكتابته خلا الإشارة الموجودة في المقدمة والتي دسّها النسّاخ ، وكلهم موارنة . ومما يسيء أكثر إلى الادعاء بأن يوحنا مارون هو المؤلف تعذر إمكانية إرجاع تاريخ الاسناد التي اعتمدها في شرح الإيمان إلى فترة أبعد من أواسط القرن السادس ، وان هذا الاسناد خلو من اية إشارة إلى المونوثيلية التي برزت كعقيدة رسمية في أوائل القرن السابع . بالاضافة الى ذلك فان المؤلف لا يذكر سوى أربعة مجامع مسكونية ، من ضمنها مجمع خلقيدونية المنعقد عام 451 . لهذا كان من المنطقي الافتراض بأنه لو كان المؤلف هو يوحنا مارون وهو المدافع وكما يُظَّن عن عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح كان عليه ان يستشهد على الأقل بقرارات المجمع السادس 680 الذي أدان المونوثيلية وأرسى عقيدة المشيئتين في المسيح ، مثبتاً قرارات مجمع خلقيدونية . إن الادعاء بأن يوحنا مارون كتب شرح الإيمان قبل انعقاد المجمع السادس ، عندما كان ما يزال كاهناً أو أسقفاً ، والإشارة إليه كبطريرك في المقدمة هو على الأرجح إقحامات قام بها أحد النسّاخ  . سوف نرى بعدئذ أن يوحنا مارون وتلامذته لم يقبلوا المجمع السادس .

قادت الشهادات التي جاء بها مؤلف شرح الإيمان ، الأب  ف . نو الى الاعتقاد خطأ بأن هذا الكتاب يشبه في العديد من النواحي كتاباً مماثلاً كتبه لاهوتي من القرن السادس هو ليونتيوس البيزنطي  . والحقيقة هي أن التشابه بين النصين عرضي حيث كان من عادة الكثير من الكتّاب في القرنين السادس والسابع نسخ أقوال آباء الكنيسة الأوائل وآرائهم العقائدية . ومع ذلك فإن مقايسة الأب نو للنصين يعتبر مهماً لأنه يوضّح بأن شرح الإيمان لم يكن قد كتب في وقت سابق لأواسط القرن السادس  . ولكن المشكلة في مضاهاة الأب نو لشرح الإيمان بأحد مصنفات ليونتيوس البيزنطي هي أن ليونتيوس دافع عن مجمع خلقيدونية وتحديده للإيمان ضد “المونوفيزيين” الذين اعترفوا بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي . وأنه لم يناقش قضية المشيئة والمشيئتين في المسيح لأن هذا الموضوع لم يكن قد اصبح بعد قضية عقائدية بل إن مؤلف شرح الإيمان نفسه استشهد بكتّاب مونوفيزيين ـ وهم الكتّاب الذين قام ليونتيوس البيزنطي بتفنيد عقائدهم . اضف الى ذلك ، ان كتاب شرح الإيمان يدل بوضوح بأن مؤلفه كان مونوثيلياً ، لأنه وان كان قد صنف كتابه بعد عام 680 فإنه لم يذكر انعقاد المجمع السادس الذي ادان المونوثيلية في تلك السنة . هذا ما توضحه الفقرة التالية التي كتبها عن : الثالوث

 

نحن أبناء الكنيسة الكاثوليكية المقدسة ، نعترف ونؤمن بما تلقيناه من الأنبياء والرسل ومعلمي الكنيسة الأطهار الذين اشتـهروا بإيمانهم الصحيح وجاهدوا الجهاد الحسن في المجامع الأربعة ضد أولئك الذين ذكرناهم

تدل هذه العبارة لو أن يوحنا مارون كان المؤلف فانه لم يُـشر إلى المجمع السادس . كما انها تدل أيضاً على أن يوحنا مارون كان مونوثيلياً أبغض المجمع السادس لإدانته المونوثيلية ، أو أنه لم يكن مؤلف شرح الإيمان . هنا لدينا دليل قاطع اورده كاتب ملكي قديم هو ثيودور أسقف حران (ت 820) ، تلميذ القديس يوحنا الدمشقي؛ يبرهن على أن الموارنة رفضوا المجمع السادس  . ومما يؤيد مونوثيلية مؤلف شرح الإيمان بمزيد من الوضوح هو الفقرة التالية:

عندما نقول الآب والابن والروح القدس فاننا نجاهر بثلاثة أشخاص ونعترف ونؤمن بأنهم ذوي جوهر واحد . كذلك عندما نقول اللاهوت والناسوت فنحن نعترف في الحقيقة بشخص واحد ، ابن واحد ، مشيئة واحدة وسلطة واحدة

 

ربما يكون هذا ، دليلاً حاسماً على أن يوحنا مارون ، اذا اعتبرناه مؤلف شرح الإيمان ، كان مونوثيلياً . إلا أن ما يدعو الى الغرابة حقاً أن ابراهيم الحاقلاني ، الذي يتهمه المطران أقليميس يوسف داود بتحريف هذا الكتاب ، قد نسي حذف عبارة ” مشيئة واحدة ” من هذه الفقرة . حتى وإن كان الحاقلاني حذف هذه الفقرة برمتها لما غيّر ذلك من الحقيقة وهي أن يوحنا مارون كان مونوثيلياً ، لأن هذه العبارة موجودة في النص الذي ترجمه الأب ف . نو إلى الفرنسية من مصنف باريس السرياني  . ان هذه الفقرة تدحض أيضاً ادعاء العلامة السمعاني بأن يوحنا مارون لم يُـشر أبداً إلى المونوثيلية (المشيئة الواحدة) في شرح الإيمان  . إن السمعاني على خطأ في القول بأن يوحنا مارون كان ولا بدّ قد كتب شرح الإيمان هذا قبل اجتماع المجمع السادس ، لأنه لم يذكر المونوثيلية أبداً .

إن ما يؤيد الرأي بأن مؤلف شرح الإيمان كان سريانياً أرثوذكسياً مناوئاً للخلقيدونية ، هو اعتراف المؤلف بصيغة القديس كيرلس في الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . يقول المؤلف كما تمَّ الاستـشهاد به أعلاه:

نؤمن بأن احد الأشخاص من الثالوث ، الكلمة ، هو واحد في الجوهر والطبيعة معنا ما عدا الخطيئة . فهو في طبيعتين ، اللاهوت والناسوت ، ابنٌ واحد ، ربٌ واحد ، مسيحٌ واحد ، وشخصٌ واحد . إلا أننا لا نحجم عن الاعتراف بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي كما نادى بها الآباء القديسون  .

من الواضح هنا أن هذه العبارة تتضمن كلمات القديس كيرلس الاسكندري . ومن الصحيح أن مؤلف شرح الإيمان يعترف بأن المسيح كان ” في طبيعتين ” تبعاً لما قاله البابا لاون الأول في طومسه واصبح ركيزة عقيدة مجمع خلقيدونية إلا أنه احتفظ بعقيدة القديس كيرلس في الطبيعة الواحدة وهي العقيدة التي يتمسك بها “المونوفيزيون” أو “اليعاقبة” . يمكننا إذاً أن نستخلص من كل ذلك بأن المؤلف حتى وإن كان يوحنا مارون فإنه قد تعاطف مع السريان الذين اعترفوا بهذه العقيدة وأنه وجد الاعتراف بأرثوذكسية إيمانهم على أساس عقائدي أمراً لا سبيل إلى انكاره ولما كان يورد اعترافاً كهذا بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي في كتابته لو كان يريد تـفنيدها . يبرهن مثل هذا الإقرار ، كما يقول المطران أقليميس يوسف داود ، على ان ” الأخوّة التي تجمع بين الموارنة واليعاقبة منذ العهود القديمة كانت شديدة إلى درجة أن الكتب المارونية زاخرة بأسماء أئمة يعاقبة ”  . يبدي داؤد ملاحظة أيضاً بأن يوحنا مارون في شرح الإيمان لم يعارض أبداً هؤلاء “اليعاقبة” أو يفندهم ، بل عارض بالأحرى الأوطاخيين الذين يدينهم ” اليعاقبة ” وقام بتـفنيدهم . لهذا السبب قدّم مؤلف هذا الكتاب شهادة لسويريوس الأنطاكي ، وهو من دعاه بالقديس ( كما دعا أولئك الذين اعترفوا بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي بالأخوة الأطهار . فهو يقول : ” أفيدونا أيها الأخوة الأطهار عن هذه الطبيعة الواحدة التي تـنسبونها للمسيح بعد الاتحاد (اتحاد طبيعتيه) هل هي من جوهر واحد مع الآب أم لا ؟ ”  .

يمكننا أن نصل من التحليل السابق لشرح الإيمان الى النتيجة بأنه من غير الممكن أن يكون المؤلف مونوثيلياً ، فما بالك بالقول بأن يوحنا مارون أول بطريرك مزعوم للموارنة هو المؤلف . كما لا يمكن لهذا الكتاب أن يكون قد كتبه مؤلف (ديوفيزي) من اصحاب عقيدة الطبيعتين اي خلقيدوني كما يدل اعترافه بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي . فضلاً عن ذلك ، من غير الممكن أن يكون المؤلف ” مونوفيزياً ” من اصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة المتجسدة تماماً لأنه دافع عن عقيدة الطبيعتين في المسيح المتحدتين في شخص واحد . ففي الوقت الذي يصعب فيه إثبات هوية مؤلف هذا الكتاب المنسوب إلى يوحنا مارون ، فإن ما  هو اقرب الى التصديق هو أن يكون مؤلف شرح الإيمان قد استعمل بحثاً لأحد آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ونسبه إلى يوحنا مارون . كما أنه أجرى العديد من التغييرات في شرح الإيمان لكي يظهر الكتاب وكأنه يبدو مصنف أصلي كتبه يوحنا مارون ، الذي دافع عن عقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح معارضة لعقيدة الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة (المونوثيلية) في المسيح


18 هـل كـان يوحـنـا مـارون قديـسـاً معترفاً به رسمياً ؟

 

منذ فجر المسيحية اصطفت الكنيسة أشخاصاً أبراراً اعتبرتهم قديسين. ولكن عندما انقسمت الكنيسة حول قضايا عقائدية وعلى الأخص بعد مجمع خلقيدونية 451، بدأت كل كنيسة في الشرق ام الغرب بممارسة الاعتراف بقديسيها واستبعاد الآخرين. وقد اعترفت الكنيسة المارونية، التي ظهرت إلى الوجود في القرن الثامن مؤخراً بيوحنا مارون كقديس ذي أهمية خاصة لأن الموارنة يعتبرونه أول بطريرك لهم.

في القرن الثامن عشر تحدى الملكيون الكاثوليك الرومانيون (الكنائس المتحدة مع روما) في سورية  ادعاء الموارنة بقداسة يوحنا مارون. ففي عام 1715 أنكر بعض هؤلاء الملكيين أن يوحنا مارون كان قديساً أو أن كنيسة روما قد اعترفت بقداسته رسمياً. هذا ما أيدته بعض البعثات التبشيرية اللاتينية في سورية التي أكدت على أن كنيسة روما لم تـنادِ بيوحنا مارون قديساً. تقدم الموارنة بشكوى إلى روما معترضين بأن الملكيين أنكروا بأن ناسك القرن الخامس مارون كان قديساً. والحقيقة هي أن هؤلاء الملكيين أنكروا فقط كون يوحنا مارون، لا الناسك مارون، قديساً. قام بتـحري القضية المجمع الخاص بمحاربة الهرطقات الذي ترأسه الأب لويس ماريا لوتشيني (الكاردينال لاحقاً). وقرر المجمع بأن ناسك القرن الخامس مارون كان قديساً، مع أن قداسته لم تثبت بحسب القانون الكنسي. إلا أن المجمع وجد، في سـيرة حيـاة القديس أنطونيوس، شخصاً يُدعى مارون كان قد أدانه المجمع السادس ( 680 ) لأنه ” هرطوقي ” مونوثيلي، وقد افتُرض بأنه نفس يوحنا مارون الذي يدّعي الموارنة بأنه كان أول بطريرك لهم (

ثارت هذه القضية مرة أخرى عام 1750 عندما أتُهم البطريرك الملكي الكاثوليكي كيرلس تاناس ت 1760 بتحطيم لوحة ليوحنا مارون بحجة أنه كان هرطوقياً مونوثيلياً . مرة أخرى رفع الموارنة شكوى إلى البابا مدعين بأن تاناس قد حطم لوحة ناسك القرن الخامس مارون. وفي رسالة وجهها إلى البابا بيندكتس الرابع عشر انكر تاناس بأنه أهان صورة الناسك مارون الذي يؤمن نفسه بقداسته، لكنه يقول بأن شخصاً آخر قد حطم صورة الناسك مارون، الذي اعتبره هرطوقياً. وليس من المعقول أن يكون تاناس جاهلاً الى هذا الحد بحيث لا يعلم بأن كنيسته كانت تحتفل بإحياء ذكرى ناسك القرن الخامس مارون في 14 شباط من كل عام . واستجابة لشكوى الموارنة، أصدر البابا بنديكتس الرابع عشر منشوراً بابوياً في 28 أيلول 1753، مثبتاً قداسة الناسك مارون فقط . ونتيجة االمرسوم الباباوي هدأت المشاحنات بين الموارنة والملكيين المتحدين مع روما عدة سنوات، لتـنشب مرة أخرى عام 1765. في هذا الحين قام كاهن ملكي متحد بكنيسة روما هو أنطون صباغ بكتابه رسالة تتعلق بيوحنا مارون لمصلحة هذه الرعية في حلب إلى المطران الماروني ارسانيوس شكري في تلك المدينة. تذمر صباغ في رسالته بأن أفراد رعيته قد أزعجهم الموارنة لمناداتهم بيوحنا مارون قديساً بينما هو في نظر الملكيين هرطوقي مونوثيلي. وطلب انطون آنئذ من المطران الماروني ان يعطيهم جواباً رسمياً بشأن يوحنا مارون أو ان يبرز منشوراً بابوياً يعترف بقداسة يوحنا مارون . لم يُجب المطران شكري مباشرة لكن القضية احتدمت عندما هاجم كاهن ملكي الموارنة ـ منتقداً عظة الصوم الأربعيني التي القاها المطران شكري والتي اثنى فيها على يوحنا مارون كقديس ثم أصدر شكري بياناً في 12 كانون الأول 1768، يُعلن فيه بأن بعض الموارنة ( يوسف السمعاني، على سبيل المثال )، وكذلك بعض الباباوات، قد أقروا قداسة يوحنا مارون . نعلم أيضاً من هذا البيان أن كهنة من كنائس كاثوليكية أخرى (متحدة بروما) في حلب وكذلك الذين انضم اليهم رؤساء أديرة من سلك الرهبنة الكاثوليكية مثل اليسوعيين الفرنسيسكانيين والكرمليين والكبوشيين الذين اصبحوا طرفاً في القضية. وفي عام 1768 عقد الكهنة الكاثوليك مجمعاً للبحث في قداسة يوحنا مارون. وكما يدعي المطران ارسانيوس شكري فإن جميع المشاركين، ما عدا الملكيين الكاثوليك، قبلوا قداسة يوحنا مارون . لكن الملكيين، الذين استاءوا على ما يبدو من قرار المجمع، استمروا في مهاجمة قداسة يوحنا مارون كما يتضح من رسالة كهنتهم إلى مجمع ” انتشار الإيمان” ( ويظهر ان هذا المجمع كان قلقاً بشأن المشكلة الناشئة بين الموارنة والملكيين حول قداسة يوحنا مارون حيث وصلت في احتدامها الأوج عام 1768. وفي 9 نيسان من هذا العام، وجهت جمعية” انتشار الإيمان ” رسالة إلى البطريرك الماروني يوسف اسطفان (ت 1793)، طالبة منه الادلاء بشهادات تدعم قداسة يوحنا مارون. واستجابة لهذا الطلب قام البطريرك واسطفان عواد السمعاني بكتابة فصول دفاعاً عن الموارنة وقديسيهم وتزويد لجنة الكـرادلة بشهادات تبرهن على قداسة يوحنا مارون . وبالرغم من تلقي هذه الكتب والشهادات فإن مجمع “انتشار الإيمان” لم يجب عليها ربما لأنه لم يـقتـنع بوجود دليل يحدد فيما إذا كانت كنيسة روما قد اعترفت رسمياً بقداسة يوحنا مارون. جلّ ما قامت به كنيسة روما هو ان البابا بيوس التاسـع منح في 30 كانون الثاني 1820، اي بعد المناظرة في حلب بحوالي نصف قرن، غفراناً كاملاً للمؤمنين الذين يزورون كنيسة يوحنا مارون في كفرحي ابان احتفال تكريمي له في 2 آذار من كل عام. وتم توسيع هذا الغفران في عام 1821 ليشمل كل من يقوم بزيارة كنيسة يوحنا مارون أو أية كنيسة مارونية أخرى

 

والسؤال هو هل كان يوحنا مارون قديساً معترفاً به رسمياً ؟ وإن كان ذاك كذلك فهل اعترفت كنيسة روما بقداسته رسمياً ؟ يقدم بعض الموارنة وخاصة البطريرك يوسف اسطفان، دليلاً للبرهان على أن يوحنا مارون كان قديساً وهو أن كتبهم الطقسية وليتورجياتهم تُـشير إليه كقديس وبأن الكنيسة المارونية تحتفل بإحياء ذكراه في 9 شباط من كل عام، وبأن صورته معلقة مع صور القديسين الآخرين في الكنائس المارونية، وبأن الكتّاب الموارنة أشاروا إليه على الدوام كقديس. وأخيراً يقولون بأن العديد من الباباوات (وخاصة البابا بنديكتس الرابع عشر) أمروا بتكريم يوحنا مارون كقديس

 

رأينا سابقاً انه جرى ذكر يوحنا مارون كقديس في الكتب المارونية القديمة المزعومة مثل شرح الإيمان وفي الليتورجية المنسوبة ليوحنا مارون والتي أقمنا الدليل على أن يوحنا مارون لم يكن مؤلفها. لكن البطريرك يوسف اسطفان يستـشهد أيضاً بكتّاب موارنة مثل القلاعي والدويهي للبرهان على قداسة مارون. إلا أن كل ما فعله القلاعي والدويهي هو الاستـشهاد بمصدر يدعو الى كثير من الشك يصفه القلاعي بأنه كتاب قديم يضم قصة حياة يوحنا مارون . والذي اقمنا الدليل بأنه لايقوم على اساس تاريخي. ويستطرد البطريرك يوسف اسطفان مدعياً أنه جرى وصف يوحنا مارون كقديس في التقويم الماروني الذي يحتفل بتذكراه في 9 شباط (14). هذا الادعاء غير مقنع ويفتقر الى دليل. غير ان التقويم الماروني المنشـور عام 1622 يورد تذكاراً في 9 شـباط لمارون واحد فقط، يصفه بأنه ” البطريرك مارون “. يجب ألا يضلنا تعبير ” بطريرك ” في هذا السياق بحيث نعتقد أن المقصود به هو يوحنا مارون الذي يدّعي الموارنة بأنه ” أول بطريرك ” لهم. واذا رجعنا الى مخطوطتي الفاتيكان 27 و 28، اللتين يستـشهد بهما البطريرك يوسف اسطفان، نجدهما تذكران بصراحة إحياء تذكار الأنبا (الأب) مارون في 9 شباط الذي لا يمكن أن يكون سوى ناسـك القرن الخامس مارون ( إن تعبير ” بطريرك ” في هذا السياق لا يعني اكثر من أنبا أو أب. بل إن وجود تعبير أنبا في هذا التقويم الذي هو على شكل مخطوط، يدل في الحقيقة بأن المؤلف قد استبدل عمداً كلمة أنبا بكلمة بطريرك ليجعلها تبدو وكأنها يوحنا مارون، ” البطريرك “.

هناك دليل آخر يقدمه البطريرك يوسف اسطفان للبرهان على أن يوحنا مارون كان قديساً وهو الإشارة إلى قداسته في مقدمة كتاب : القداس الماروني الذي نشر في روما عام 1716 . لكن البطريرك يوسف اسطفان أغفل حقيقة مهمة وهي أن كتاب صلوات القداس الماروني الذي نُشر عام 1594، يذكر فقط اسم الأنبا مارون الذي تعترف به كنيسة روما قديساً وبأنه لم يذكر ابداً قداسة يوحنا مارون . بل على العكس يستـشهد نفس كتاب القداس الماروني هذا ببرصوم كبير النسّاك كقديس، في زمن كان فيه برصوم أكبر معارضي مجمع خلقيدونية والذي هو حسب الادعاءات المارونية يعتبر هرطوقياً لا قديساً. ومما يثير المزيد من التساؤل هو أن اسم برصوم هذا لا يظهر في طبعة كتاب القداس الماروني لعام 1716

 

يستـمر البطريرك يوسف اسطفان بقوله بأن صورة يوحنا مارون التي احتلت مكاناً في الكنائس المارونية منذ عهود قديمة بين صور القديسين الآخرين، هي دليل على قداسة يوحنا مارون . ويسند البطريرك يوسف اسطفان دليله هذا إلى قول البطريرك اسطفان الدويهي الذي يدّعي فيه بأنه رأى شخصياً صوراً ليوحنا مارون في كنيستين مارونيتين في لبنان معلقتين مع صورتين لبطريرك القرن الثالث عشر إرميا العمشيتي. ويذكر الدويهي انه كتب في اسفل صورة يوحنا مارون ما يلي : ” القديس يوحنا مارون بطريرك أنطاكية “. وانه جرى نسخ هذه الصورة من جديد وتوزيعها في سائر أنحاء العالم بأمر من كرسي روما الرسولي . هذا الدليل الذي يقدمه البطريرك يوسف اسطفان استناداً الى الدويهي يصعب الدفاع عنه. إن مجرد قيام كرسي روما الرسولي بطباعة لوحات وصور للكهنة لا يثبت صحة قداسة شخص ما خاصة وأن كرسي روما الرسولي قام بنشر العديد من اللوحات والصور لعلمانيين وكهنة بارزين دون أن يعترف بقداستهم رسمياً . بيد أنه لا يمكن للمرء، عند تمحيص دقيق للوحتين اللتين تمثلان يوحنا مارون والعمشيتي أن يخفق في ملاحظة أنهما صورتين لنفس الشخص وهو إرميا العمشيتي وأنهما قد رسمتا من قِـبَـل الفنان عينه مع اختلاف طفيف

 

وأخيراً، يدّعي البطريرك يوسف اسطفان بأن البابا أدريان الثامن أثبت قدسية يوحنا مارون، وهو ادعاء يفتقر الى اساس تاريخي . بل إن هذا الدليل الذي يستـشهد به البطريرك يوسف اسطفان يبرهن فقط (كما هو الحال مع البابا بنديكتس الرابع عشر)، بأن كرسي روما الرسولي قد اعترف بقداسة ناسك القرن الخامس مارون، وليس بقداسة يوحنا مارون

 

ان النزاع الذي نشب بين الملكيين والموارنة في حلب في أواسط القرن الثامن عشر حول قداسة يوحنا مارون اهاب بالبابا بنديكتس الرابع عشر إلى توجيه رسالة إلى ر. بي. نيكولاوس ليركاري، أمين سر (جمعية نشر الإيمان) اورد فيها آراءه حول هذه القضية . نعلم من هذه الرسالة أن البابا كان مستاءً من قيام كيرلس تاناس بتمزيق صورة القديس مارون، واصفاً عمله هذا بأنه ” عمل منكر “. ولكن البابا تمسك خلال الرسالة بأكملها بالاعتقاد بأن تاناس قد مزق صورة ناسك القرن الخامس مارون والذي اعترف البابا بقداسته. ويظهر من الرسالة ان البابا ميّز بين ناسك القرن الخامس مارون، الذي كانت كنيسة روما قد قبلت قداسته، ويوحنا مارون ” الهرطوقي ” المونوثيلي. يشير البابا في رسالته بأنه في منشوره البابوي الصادر في 12 آب 1774 قد اعتمد خطى سلفه، البابا أقليميس الثاني عشر، في منح صك غفران كامل لكل المؤمنين رجالاً ونساءً الذين يعترفون بخطاياهم ويتناولون القربان المقدس في 9 شباط احتفالاً بذكرى شفيعهم الشخصي . أما فيما يخصّ يوحنا مارون فان البابا يُـشير إلى أقوال سعيد ابن بطريق ووليم الصوري بأن يوحنا مارون كان مونوثيلياً وأنه هو والموارنة كانوا منغمسين في الهرطقة المونوثيلية. إلا أن البابا لا يدحض شخصياً هذه الأقوال بل يُـشير بالأحرى إلى كتّاب موارنة خاصة السمعاني ومرهج نيرون، اللذين يقولان بأنهما فندا أخطاء ابن بطريق ووليم الصوري. هنا يبدو بأن البابا بنديكتس يؤمن، فيما لو كانت فرضية سعيد ابن بطريق صحيحة، بوجود مارونيين، احدهما قديس والآخر هرطوقي. ويستـنتج، اعتماداً على هذه الفرضية بأن مارون الذي تحدث عنه ابن بطريق كان هرطوقياً، بينما يعتبر الناسك مارون الذي كتب عنه تيودوريطس أسقف قورش قديساً ولذا فهو يستحق عظيم الإكرام. يبدو جلياً من الفقرة التالية في رسالة البابا بنديكتس الرابع عشر أن قداسة الناسك مارون، لا قداسة يوحنا مارون هي التي كانت تجول في ذهنه فهو يقول: ولهذا فإن جهود أخينا المحترم البطريرك كيرلس تاناس تبدو كعمل ظاهر التجديف. قد اتضحت ايضاحاً جلياً مساعي اخينا المحترم كيرلس العديمة الديانة اذ انه بحجة ان يمنع العبادة لمارون الهرطوقي الذي ذكره سعيد بن بطريق قد نزع بالحقيقة العبادة الواجبة لمارون الكاثوليكي الذي ذكره تيودوريطس. إضافة الى ذلك فان الكرسي الرسولي قصد دائماً في بياناته الاعتراف بتكريم الأنبا مارون المغبوط وحده الذي كتب عنه تيودوريطس وامر ان يكرمه الآخرون

 

يعلق المطران أقليميس يوسف داؤد على هذه الفقرة قائلاً بأنه من غير الممكن أن يقوم كرسي روما الرسولي بتثبيت قداسة شخص مغمور (يعني بذلك يوحنا مارون) كانت عقيدته الدينية موضع شك والذي اجمع الكتّاب بكونه ” رئيس طائفة دينية منفصلة عن الكنائس الكاثوليكية وكذلك عن الكنائس الشرقية وجـرى التـنديد به على الدوام بأنه هرطوقي ” ( يخلص داود إلى القول بأن كنيسة روما لا تـثبت قداسة شخص دون أن يكون قد تمَّ الاعتراف به على الصعيد العالمي في الشرق والغرب . إن ما يحاول داود قوله هو أنه لم يكن باستطاعة كرسي روما اثبات قداسة يوحنا مارون، حتى لو أراد ذلك لعدم وجود مبرر يدعو إلى تقديسه

 

على ضوء البيانات التاريخية التي تمت مناقشتها حتى الآن، يمكننا الاستـنتاج أنه في الوقت الذي اعترفت فيه كنيسة روما بقداسة ناسك القرن الخامس مارون، فإنها لم تعترف أبداً بقداسة يوحنا مارون. حتى ان العلامة السمعاني الذي كتب عن رجال الكنيسة الشرقيين بإسهاب ووصف بعضهم كقديسين لم يسهب في وصف يوحنا مارون كقديس معترف به رسمياً. لكنه يُـشير مرة واحدة وواحدة فقط إلى يوحنا مارون كقديس، إلا أن من المحتمل الى حدّ كبير أن تكون هذه الإشارة غير مقصودة . ومن الجدير بالذكر أن المجمع اللبناني الذي انعقد في عام 1736 والذي حضره السمعاني شخصياً لم يُـشر إلى يوحنا مارون كقديس ولم يدرجه بين القديسين، كما فعل مع الناسك مارون

 

والسؤال هو اذن من كان يوحنا مارون حقاً ؟ لقد بينا بأن قصة يوحنا مارون التي اوردناها سابقاً عن أصله الفرنجي ورحلته إلى روما وسيامته أسقفاً وبعدئذ بطريرك أنطاكية للموارنة وتحريره العديد من الكتب من ضمنها ليتورجية ـ تفتقر الى أساس تاريخي. بل ان أقدم المصادر التي تمت مناقشتها (خاصة ابن بطريق) تدل على وجود شخص يدعى يوحنا مارون، ولكنه كان فقط رئيس دير في سورية وليس أسقفاً أو بطريركاً. كان مونوثيلياً يؤمن بمشيئة واحدة في المسيح وانه لم يكتب كتاباً او ليتورجية. وما عدا القصة التي رواها القلاعي، فليس هناك ما يعرف عن يوحنا مارون هذا اكثر مما قاله ابن بطريق. إن المصادر التاريخية صامتة  حول يوحنا مارون هذا منذ بداية القرن الثامن عندما توفي سنة 707 وحتى القرن السادس عشر عندما كتب القلاعي قصته عن يوحنا مارون. ولهذا السبب فان المستـشرق الافرنسي الأب ج. ب. شابو أنكر وجود يوحنا مارون بالذات . كما ان أوسابيوس رينودوت على صواب حين قال ” من غير المؤكد أنه كان هناك يوماً ما بطريرك بهذا الاسم ” . بل من المحتم أنه لم يكن قائد ” الأمة المارونية “. ومع كل هذا فاننا اذا اعترفنا بأن يوحنا مارون كان موجوداً يوماً ما، وجب علينا ان نعترف ايضاً بأنه لم يكن باستطاعة رئيس مغمور لدير مارون ان يرتقي الى هذه المنزلة الرفيعة من القداسة والشهرة دون مآثر روحية وعلمية


19 علاقــة المــوارنــة بالـمــردة والجــراجــمــة

 

رأينا حتى الآن ان الموارنة ظهروا كجماعة دينية في القرن السابع عندما قبلوا صيغة إيمان خلقيدونية بمدلولها المونوثيلي الذي فرضه الإمبراطور هرقل كإجراء للحفاظ على وحدة الإمبراطورية. وتبع رهبان دير مارون الذين قبلوا هذه الصيغة المونوثيلية أهالي حمص ومنبج وسورية الجنوبية. إلا أن المونوثيلية، كعقيدة رسمية كانت محصورة بسورية بالذات، موطن المهتدين الجدد، ولم تكن قد انتـشرت بعد إلى لبنان أو إلى البلدان المجاورة. تُـشير أقدم المصادر الموثوقة، وخاصة تاريخ ديونيسيوس التلمحري، بأن رهبان دير مارون اقاموا في أواسط القرن الثامن أول بطريرك لهم من بين رهبان الدير، إلا أنه لم يذكر اي من هؤلاء البطاركة الأوائل بالاسم. ولكن التلمحري يعطي الانطباع بأن المهتدين الجدد إلى المونوثيلية وجدوا من الملائم التأكيد على استقلالهم الكنسي عن رئاسة البطريركية الأنطاكية. اما كون هؤلاء المهتدين ينتمون إلى جماعة الملكيين أو جماعة ” اليعاقبة ” في هذه البطريركية فليس بالأمر الهام في هذه المرحلة الحرجة. المهم هو أن رهبان دير مارون أرادوا استقلالاً كنسياً يميزهم عن هاتين الجماعتين. كانوا مجرد جماعة دينية لا طائفة مكتملة بكل معنى الكلمة. بل لم يكونوا بالتأكيد  ” أمة “، وهو التعبير الذي استعمله الدويهي للدلالة على أن الموارنة كانوا طائفة دينية مكتملة.  والذي يجب الاشارة اليه في هذا المقام انه ما من مؤرخ سرياني أو خلافه قد اشار إلى الموارنة كطائفة في وقت مبكر يرجع إلى القرن الثامن، أو نسب إليهم صفات أمة وهي تسمية استعملها لأول مرة موارنة من القرن السابع عشر، وخاصة الدويهي. ولكي يحاولوا إيجاد هوية مستقلة لكنيستهم وجماعتهم لم يدَّع موارنة القرن السابع عشر فقط بأن الموارنة كانوا ورثة الكنيسة والبطريركية الملكيتين بل ادعوا ايضاً بأنهم ينحدرون من سلالة قوم محاربين يدعون بالمردة، ظهروا لأول مرة في سورية ولبنان في القرن السابع وان هؤلاء المردة كانوا قوماً متميزين امتلكوا صفات أمة ولذلك فإن الموارنة، الذين كانوا قد أصبحوا أيضاً أمة في ذلك القرن، ليسوا سوى هؤلاء المردة أنفسهم

 

يقول الدويهي بعد ان روى قصته عن يوحنا مارون أن يوحنا مارون أصبح بالتالي ” رأس الأمة المارونية ” . تُرى كيف استطاع يوحنا مارون الحصول على مركز كهذا، ومن هم هؤلاء القوم الذين كوّنوا ” الأمة المارونية ” ؟ يقدم الدويهي شرحاً يتعلق باحتلال المردة لبنان، الذين أرسلهم إلى ذلك البلد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس عام 676. ويدّعي الدويهي انه ما ان تمّت رسامة يوحنا مارون اسقفاً حتى شرع بالتنقل من مكان إلى آخر لنشر إيمانه. وفي فترة قصيرة من الزمن استطاع يوحنا مارون على تحويل العديد من المونوفيزيين (ويقصد بهم اليعاقبة) عن إيمانهم، إلى درجة أنه وجد نفسه رئيس رعية كبيرة. ويستطرد الدويهي قائلاً أن يوحنا مارون لم يسد فقط على هؤلاء المهتدين الجدد في لبنان، بل امتدت سلطته لتشمل سائر أهالي البلاد الممتدة من أرمينيا حتى أورشليم. ويستـشهد في هذا الصدد بتاريخ ثيوفانس (ت 818)، وهو أول من روى أن المردة هاجموا جبل لبنان واحتلوا البلاد بأسرها من الجبل الأسود (اللكام) وحتى أورشليم في السنة التاسعة من حكم الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس. يدعي الدويهي ان هؤلاء المردة انفسهم هم الموارنة الذين خضعوا لسلطة يوحنا مارون. ويمضي الدويهي قائلاً أنه يمكن العثور على السبب الذي لأجله اصبح هؤلاء الناس يدعون بالمردة (المتمردين) لا الموارنة في كتاب قديم قام بنسخه جرجس بن داود بن ابراهيم، عام 1315. ثم يورد بالسريانية حادثة لا صلة لها لا بالمـردة ولا بالمـوارنة مغفلاً تحديد هوية هذا الكتاب القديم أو وصفه مما يضطرنا الشـك بصحة روايته بخصوص هذا المصدر

 

يتحدث الأب هنري لامنس أيضاً عن ” الأمة المارونية ” وانتـشارها في لبنان، إلا أنه يفصل بين الموارنة والمتمردين Mardaite الذين يسميهم بالمردة . إن الاب لامنس مصيب في اقراره بأن الموارنة كانوا قوماً آراميين (ينطقون بالسريانية) يعيشون في سورية الجنوبية في مدن حمص وحماه وشيزر. كما أنهم عاشوا على بعد إلى الشمال في منبج وقنسرين والمدن الواقعة على خط الحدود بين الولايات العربية والبيزنطية والتي كان العرب يُـشيرون إليها بالعواصم. بعبارة أخرى، كان الموارنة في القرن السابع مازالوا يعيشون في سورية بالذات ولم يكونوا قد نزحوا ببطء إلى لبنان. لكن الاب لامنس لم يستطع تحديد عدد هؤلاء الموارنة، فهو يخمن اعتماداً على مناظرة جرت بين جماعة من الموارنة وكهنة ” يعاقبة ” (على الأرجح من الرهبان) بحضور الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (ت 680)، بأن عددهم كان لا بد كبيراً، وإلا ما كان الخليفة ليتخذ قراراً بشأن المناظرة لصالحهم ضد خصومهم، ” اليعاقبة ” . غير أن هذه المناظرة خارجة عن السياق ولا تفيد في تقدير عدد الموارنة

 

يؤكد الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان في النصف الثاني من القرن السابع من وادي نهر العاصي في سورية، إلا أنه لا يدعم رأيه بدليل تاريخي. ولما ادرك أن رأيه قائم على اساس واهٍ توقع ان آراءه المشوبة بالتعميم ستلاقي معارضة جمّة. ولكي يتلافي النقد لجأ الى سرد هذه الآراء بصيغة حوار : كالتالي

 

لماذا تتكلم عن هجرة الموارنة إلى لبنان؟ أليس من الأنسب القول بأن سكان لبنان الأصليين لم يكونوا سوى الموارنة ؟المعترض :

ان معرفتنا الأولى لتاريخ الموارنة الديني تدل بجلاء بأن هذه الطائفة عاشت خارج لبنان. وأنها اخذت اسمها من القديس مارون الذي عاش في شمال سورية (الأصح، أن الموارنة اشتقوا اسمهم من دير مارون، لا من الناسك مارون).بل يعوزنا الدليل بأن الموارنة كانوا يوماً في لبنان، إلا أننا نجدهم بعد فترة من الوقت يهاجرون من شمال وأواسط سورية إلى جبل لبنان. لذا يتحتم علينا الإقرار بنزوح الأمة المارونية (الى لبنان). ان المؤرخ ثيوفانس والمؤرخ المسلم البلاذري اشارا إلى مثل هذا النزوح الذي قام به هؤلاء القوم

لامنس :

ولكن لماذا غادر الموارنة وطنهم في سورية للعيش في لبنان ؟

المعترض :

فعلوا ذلك كي ينجوا من اضطهاد جيرانهم، وخاصة أعداءهم ” اليعاقبة “. كان هؤلاء اليعاقبة أشداء يسيطرون على أفاميا في سورية الجنوبية. وكان لهم دير كبير قرب تلك المدينة يُدعى بدير مار (القديس) باسوس يؤوي ستة الآف وثلاثمائة راهباً. ونظراً لأن الموارنة واليعاقبة كانوا على خلاف (حول قضايا عقائدية)، فلم يجد الموارنة بداً من مغادرة موطنهم

لامنس :

ثم يحاول الاب لامنس توضيح العداء المزعوم بين الموارنة و” اليعاقبة ” استـناداً إلى المناظرة التي جرت بين رجال الدين من الجماعتين بحضور الخليفة معاوية. كما يوضح أيضاً كيف استولى الموارنة، في زمن الإمبراطور هرقل، على العديد من الكنائس والأديرة التابعة ” لليعاقبة “. يقول الاب لامنس أن هؤلاء ” اليعاقبة ” حاولوا استرداد املاكهم في زمن الخليفة معاوية إلا أنهم أخفقوا في ذلك. ويتكهن بأنهم لهذا السبب انتظروا فرصة سانحة لمعاداة الموارنة وإخراجهم من بيوتهم. نتيجة لذلك، بحث الموارنة عن موطن أكثر أمناً وسلاماً في جبل لبنان

يتكهن الاب لامنس أيضاً بأن” اليعاقبة ” في هذا الوقت هدموا دير مارون. ويتابع قائلاً أن هجرة الموارنة لم تكن هجرة جماعية بل بشكل جماعات صغيرة على مدى فترات طويلة من الزمن. عاش هؤلاء المهاجرون في بادئ الأمر في شمال لبنان ثم انتـشروا في جميع أنحاء البلد. وعاصر نزوحهم نفس الوقت الذي هاجم فيه المردة لبنان فوجد الموارنة الحماية في ظله

ويؤكد الاب لامنس بأن هؤلاء المردة كانوا نفس من يسميهم البلاذري بالأنباط، وأنهم مع فريق آخر (الجراجمة) ومع العديد من العبيد الهاربين أنضموا إلى الجيش البيزنطي. ويختم لامنس قوله بأن البلاذري أطلق على هؤلاء الموارنة اسم الأنباط للدلالة على أصلهم الآرامي (السرياني)

 

يتعذر الدفاع عن أقوال الاب لامنس هذه، فيما عدا قوله بأن الأنباط هم شعب ناطق باللغة الآرامية. لقد بيّنا سابقاً، استناداً على رواية التلمحري، بأن الموارنة كانوا سرياناً أرثوذكسيين ” يعاقبة ” قبل اعتناقهم المونوثيلية حسب الصيغة المونوثيلية التي ارادها هرقل، وأنهم فصلوا أنفسهم عن السريان الأرثوذكس ” اليعاقبة ” بعد أن أصبحوا مونوثيليين واستولوا على العديد من كنائس السريان الأرثوذكس وأديرتهم. والأكثر من ذلك هو عدم وجود دليل يؤيد رأي لامنس بأن الجماعتين تخاصمتا إلى الحد الذي حمل الموارنة على النزوح إلى لبنان طلباً للنجاة من اضطهاد هؤلاء السريان الأرثوذكس ” اليعاقبة “. بل ليس هناك في الواقع من دليل بأن الموارنة نزحوا يوماً من سورية إلى لبنان، إمّا بشكل جماعي أو بشكل جماعات صغيرة منفردة. إضافة إلى ذلك، يتعذر الدفاع عن رأي لامنس بأن اليعاقبة حاولوا في زمن الخليفة معاوية استرداد أبنية الكنائس والأديرة من الموارنة، والتي كانوا قد فقدوها في زمن الإمبراطور هرقل ولكنهم أخفقوا في ذلك. ومما يتعذر الدفاع عنه ايضاً قوله بأن اليعاقبة كانوا دائماً، نظراً لإخفاقهم في استرداد ممتكلاتهم على استعداد لانتهاز الفرص لمخاصمة الموارنة، ولهذا السبب هاجر الموارنة إلى لبنان. فاننا نعلم من المناظرة التي جرت بين رجال الدين الموارنة والسريان الأرثوذكس “اليعاقبة” بأن ” اليعاقبة ” كانوا هم المضطَهدون والموارنة كانوا المضطهدين. وإذا استطعنا الإيمان بصحة هذه المناظرة كما كتبها أحد الرهبان الموارنة الموالين، فإننا نعلم بأن أسقفين سريانيين أرثوذكسيين “يعاقبة” هم ثيودوريطس وسابوخت، قد مثلا أمام معاوية، حاكم سورية، في دمشق في حزيران من عام 970 بحسب التقويم اليوناني، والموافق لـ 659 بحسب التقويم الميلادي. وكانت غايتهما المناظرة مع جماعة من رجال الدين الموارنة حول مسائل تمس الإيمان. وتنصّ هذه المناظرة بكل وضوح بأن اليعاقبة خسروا الجدل مما جعل معاوية يفرض عليهم جزية مقدارها عشرين ألف دينار ويأمرهم بالسكوت. وكما يقول كاتب المناظرة بأن الأساقفة اليعاقبة منذ ذلك الوقت دفعوا إلى معاوية سنوياً مبلغاً من الذهب مقابل حمايتهم من الاضطهاد. ومهما يكن من امر فإن هذه المناظرة تميط اللثام عن وضع الكنيسة المسيحية الذي يرثى له في سورية في القرن السابع؛ وما اصدق المستشرق الألماني ثيودور نولدكة حيث قال في هذا الصدد ” استباح أفراد هذه الكنائس أنفسهم أمام حكامهم المسلمين الجدد بقبولهم لهم كمحكمين في مسائل الإيمان ” . والذي يبدو بشكل واضح أن المشاجرات العقائدية التي يؤسف لها بين المسيحيين الشرقيين في القرنين الخامس والسادس لم تخمد أبداً في عهد حكامهم المسلمين الجدد الذين لم يعيروا اي اهتمام بشأن هذه العقائد أو الإيمان بل كان جلّ همهم هو أن يدفع المسيحيون الجزية أو يعتـنقوا الإسلام

 

إن ادعاء الاب لامنس، بأن ” اليعاقبة ” كانوا السبب في تخريب دير مارون لا أساس له من الصحة. فهو يتناقض مع قول الموارنة بأن هذا الديـر هدمه الجيش البيزنطي عام 694 لأسباب قام الدويهي بمناقشتها . كما يتـناقض مع قول الاب لامنس نفسه بأن الدير هدم في القرن التاسع مما أجبر رهبانه وجيرانهم، كما يدّعي، على الهجرة إلى لبنان. وفي نفس المضمون يستـشهد لامنس بأبي الحسن المسعودي، الذي قال بأن دير مارون هُدم نتيجة غزوات العرب البدو المستمرة وطغيان السلطان . أما بالنسبة للأنباط الذين تبعوا جيش المردة، فلا يمكننا أن  نتـفق مع لامنس بأنهم كانوا هم نفس الموارنة. بل نجد لامنس يتكهن في ادعائه بأن البلاذري كان يعني بأن الأنباط كانوا الموارنة. والحقيقة هي أن الأنباط أو النبطيين كانوا فرعاً من الشعب الآرامي ويتكلمون لهجة من لهجات اللغة السريانية الآرامية، أما انهم كانوا والموارنة شعباً واحداً فهذا ما لم يقل به ايّ مؤرخ . ولكن طالما لا يوجد دليل بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان افراداً او جماعات فكيف يمكن أن نبرهن صحة شهادة مفريان المشرق السرياني غريغوريوس ابن العبري (ت 1286)، الذي يقول، وهو يكتب عن ثيـوفيل ابن توما، كبير منجمي الخليفة العباسي المهدي (775ـ785)، بأن ثيوفيل كان مارونياً وبأن الموارنة كانوا يمثلون أحد المذاهب المسيحية (الملل) في لبنان اي في القرن الثامن . لا بد وأنه كانت هناك طائفة مارونية منفصلة في لبنان في القرن الثامن والتي كان ثيوفيل ينتمي إليها. وليس من الصعب شرح كيفية وصول الموارنة إلى لبنان إذا أدركنا بأن التحول من جماعة دينية إلى أخرى ضمن الكنيسة السريانية كان النتيجة المألوفة للنزاعات العقائدية منذ القرن الخامس حيث أصبح العديد من السريان نساطرة وخلقيدونيين وملكيين أو خلافه. بل ليس من المدهش أن نجد جماعة من اللبنانيين من أهل البلاد ومن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية تتحول إلى جماعة مارونية بقبول أعضائها العقيدة المونوثيلية، التي هي جزء أساسي من إيمانهم بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، مع أن هذه العقيدة لم يعترف بها رسمياً كعقيدة منفصلة قبل النصف الأول من القرن السابع. كما أنه ليس من غير المحتمل أن يكون بعض الملكيين قد قبلوا المونوثيلية وأصبحوا موارنة. لأن اللغة والطقوس الكنسية والتقاليد الدينية لكل السريان كانت متشابهة جداً حتى أواسط القرن الخامس عندما برزت الانقسامات نتيجة تعريف الإيمان في مجمع خلقيدونية. اما في الزمن الذي تلا المجمع، فقد اصبح من السهل تحديد هوية الطقوس المختلفة للجماعتين الخلقيدونية واللاخلقيدونية. سوف نرى بعدئذ بأن الأدلّة تُـشير إلى أن غالبية أهالي لبنان كانوا من السريان الأرثوذكس وكانوا يتكلمون اللغة السريانية ـ الآرامية. ولهذا فإن الاعتقاد بأن قسماً من هذه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية أصبح مارونياً وشكل الكنيسة المارونية وجماعتها في لبنان يعتبر من الوجهة المنطقية اكثر قبولاً من ادعاء الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان هرباً من اضطهاد ” اليعاقبة “.

لكن المشكلة الرئيسة هنا ليست في تكهن الاب لامنس بأن الموارنة هاجروا إلى لبنان واصطدموا هناك بالسكان الأصليين الآراميين الذين استوعبهم مجتمع الموارنة سريعاً نظراً لأنهم كانوا من نفس الأصول الاتـنية . إنما المشكلة هي فيما إذا كان الموارنة والمردة هم نفس الشعب ويشكلون ” الأمة المارونية “، كما يدّعي الموارنة، وفيما إذا كان هؤلاء المردة والجراجمة (حسب تعبير البلاذري) هم نفس الشعب. من السهل طبيعياً ان نتبع نتائج مستـشرفين مرموقين كثيودور نولدكة والأب هنري لامنس وكتّاب شرقيين كالأب أناستاس ماري الكرملي (ت 1947) ونعتبر مردة المؤرخ البيـزنطي ثيوفانس وجـراجمة البلاذري نفس الشعب. بل من الأسهل كذلك الاتـفاق مع البروفسور م. كانارد الذي يتبع، في مقاله المعنون الجراجمة في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية ، النظرية المعترف بها تقليدياً وهي أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب. والحقيقة هي ان هذه القضية لن تكون بهذا التعقيد لولا النظرية التي روجها الكتّاب الموارنة (ومنهم العلامة يوسف السمعاني الذائع الصيت) منذ القرن السابع عشر : وهي أن المردة كانوا أجداد أهالي لبنان الموارنة الحاليين . إلا أنه ما من ماروني آخر دافع بحماس كبير عن النظرية القائلة بأن المردة والموارنة شعب واحد كما فعل المطران الماروني يوسف الدبس، مع أنه ينكر أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب

 

القضية اذن معقدة وتتطلب تحديد هوية هذه الجماعات الثلاث لتقرير فيما إذا كانت جماعة واحدة. ان أول مؤرخ يذكر المردة هو ثيوفانس، اذ يقول بأن المردة قاموا في عام 669 بمهاجمة لبنان واحتلال أجزاء من البلاد تمتد من الجبل الأسود (اللكام) إلى المدينة المقدسة (أورشليم). وقد احتل هؤلاء المردة أعالي الجبال في لبنان وأنضم إليهم العديد من العبيد ومن الأسرى، وأهالي البلاد معاً، وخلال فترة قصيرة جداً من الزمن ازداد عددهم إلى عدة آلاف . يتابع ثيوفانس قائلاً بأن معاوية (الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان) ومستـشاريه أصيبوا بالذعر عندما سمعوا بهؤلاء المردة. واعتقاداً منهم بأن العناية الإلهية كانت تحمي الدولة البيزنطية، أرسلوا موفدين إلى الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس (668ـ685)، لاجراء الصلح معه والوعد بدفع جزية سنوية له . استقبل الإمبراطور الموفدين، على ما يبدو بحبور وأرسل شيخاً، نبيلاً، غنياً، محنكاً يُدعى يوحنا للتـفاوض مع معاوية. اجتمع يوحنا بمعاوية والمجمع الذي كان معاوية قد دعا إلى عقده لهذا الغرض وتمَّ التوصل إلى تسوية سلمية. ونصت معاهدة الصلح التي كتبت وتمَّ تثبيتها بالقسم، أن يدفع معاوية للدولة البيزنطية جزية سنوية مقدارها 3000  قطعة ذهبية و 8000  من الأرقاء و 50 من الخيول الأصيلة. وأخيراً يخبرنا ثيوفانس بأن الطرفين أبرما سلاماً ثابتاً لمدة ثلاثين عاماً، يتبادل فيه الطرفان المعاهدات، وأن يوحنا عاد إلى الإمبراطور بهدايا فاخرة . قد يكون هذا صحيحاً إلا أن ثيوفانس لا يقول شيئاً بخصوص من هم المردة، ومن أين جاءوا أو لماذا سُموا بالمردة. وكل ما يمكننا فهمه من قول ثيوفانس هو أن المردة كانوا قوماً أشداء شجعان حاربوا في صفوف الإمبراطور البيزنطي وسيطروا على المنطقة الممتدة من الجبل الأسود (اللكام أو جبل الأمانوس) إلى أورشليم، وإن ما من قوة كانت لتردعهم أو تعارضهم، وبأن العبيد الهاربين وحتى أهل البلاد أنضموا إليهم طلباً للحماية والمساعدة. سنرى اهمية هذا القول عندما نناقش الجراجمة. كما اننا نعلم بأنه كان في استطاعة المردة احتلال معظم سورية وربما جزء كبير من الشرق الأدنى في ذلك الحين لو لم يأمرهم الإمبراطور البيزنطي يوسطنيان الثاني راينوتميتوس (685ـ695)، بالجلاء عن لبنان والاستقرار في أرمينيا. هناك صورة واضحة عن كيفية حصول هذا الحدث كما يلي

 

عندما أصبح عبدالملك بن مروان خليفة عام 685، كانت سورية تعاني من المجاعة والطاعون. وقد زادت غزوات المردة في لبنان من حدة المجاعة، ونتيجة لذلك برزت الى الوجود فئات عديدة من المتمردين، تحاول كل منها الإطاحة بعبدالملك. ولما اصبح عبدالملك محاطاً بالعصيان ومضطرباً من هجمات المردة ، حذا حذو معاوية في طلب الصلح بإرسال مبعوث للتـفاوض مع الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس. واسفرت المفاوضات عن موافقة عبدالملك على دفع 365  قطعة ذهبية سنوياً وما يماثل هذا العدد من العبيد والخيول الأصيلة. إلا أن المردة استمروا، بتشجيع من الإمبراطور الجديد يوسطنيان الثاني راينوتميتوس في إزعاج العرب في سورية، بحيث اكرهوا عبدالملك بإرسال مبعوث لتعزيز السلام المبرم سابقاً بينهما. وتم عقد معاهدة صلح جديدة لمدة عشر سنوات تعهد فيها الإمبراطور البيزنطي بإجلاء جيش المردة عن لبنان والحؤول دون غزو يقومون به في المستقبل، وهو ما يأسف له ثيوفانس بالقول ” بأن الامنراطور هدم بيديه السـور النحاسي المنيع الذي كان يقوم في لبنان” . اما عبدالملك فكان عليه أن يزود الإمبراطور بعبد واحد يومياً وحصان وألف دينار. علاوة على ذلك، اتـفق الطرفان على اقتسام دخل الضريبة في قبرص وأرمينيا وأيبريا بالتساوي. اما الإمبراطور فأنه أنجز شروط الاتـفاقية واخرج اثني عشر ألفاً من المردة من لبنان. وهنا يبدو أن غزو المردة لسورية كان ولا شك مدمراً لأن الأرض الممتدة من مدينة المصيصة إلى أرمينيا الرابعة أصبحت على حد تعبير ثيوفانس، قفراء بسبب الغزو . ومهما كان الامر فان السلام المعقود مع الإمبراطور البيزنطي، وعلى الأخص إجلاء المردة عن لبنان، منح عبدالملك فترة من السلام اخذ يتعامل فيها مع المتمردين واحداً فواحداً إلى أن تمَّ في النهاية إخضاعهم جميعاً .

يدرك الأب لامنس ان مشكلة تحديد أصل المردة معقّدة. ففي مقالاته عن المردة، يورد الآراء المختلفة التي تلقي الضوء على أصل هؤلاء القوم. فهو يستـشهد بقول ثيوفانس بأن المردة هاجموا لبنان واحتلوه، ويستـنتج بأنهم لهذا السبب لم يكونوا لبنانيين بل أجانب. ويقول، مستـشهداً مرة أخرى بثيوفانس، بأن أهالي البلاد أنضموا إلى هؤلاء المردة ويعزز مرة أخرى استـنتاجه بأن المردة لم يكونوا لبنانيين

 

ويستطرد لامنس قائلاً أن المؤرخين الذين ذكروا المردة عرفوهم دائماً على أنهم Tagmata أو فوج من الجند، وهذا ما يبرهن على أنهم لم يكونوا مدنيين بل مجموعة عسكرية، ذات تنظيم وانضباط عسكريين. كان هؤلاء القوم يكسبون عيشهم في زمن السلم من أعمال الزراعة، مع أنهم كانوا دائماً على استعداد لخوض غمار الحرب. لذلك فهم يشبهون الكرواتيين في القرن الثامن عشر الذين قاموا بحماية الحدود الجنوبية للنمسا. كما يشبهون قوى Limitanei (جنود الحدود) التي وضعها الرومان عند الحدود لحماية إمبراطوريتهم. كانت تعبئة قوى (Limitanei) هذه تتم من بين الجنود المحترفين الذين كانوا يعطون في زمن السلم أرضاً يقومون بزراعتها. وعند وفاة الجندي كانت ملكية الأرض تـنتقل إلى أبنائه، الذين كانوا يسيرون على خطى والدهم فيتطوعون في ” Limitan. يستـشهد لامنس أيضاً بكتّاب فرنسيين أمثال انكوتيل دوبيرون ورامبو، اللذين تمسكا بالقول أن المردة كانوا إما قوماً قدامى هاجروا في عدة اجيال من مكان إلى آخر حتى استقر المقام ببعضهم أخيراً على الحدود الشمالية من لبنان، أو أنهم كانوا أصلاً قبيلة إيرانية امتزجت بمرور السنين مع العناصر السريانية والأرمنية (28). يرفض لامنس الفكرة التي روَّجها الأب مارتان في تاريخه الذي كتبه عن لبنان بأن المردة كانوا عرباً وأن اسمهم اشتـق من (تمرد)؛ ويقيم الحجة بأن المردة لم يجيئوا من شبه الجزيرة العربية ولا من الشرق بل دخلوا لبنان من الشمال، وربما جاءوا من آسيا الوسطى. كما يقول أيضاً بأنه لا يوجد دليل على أن العرب دخلوا لبنان في القرن السابع. مع ذلك، فان الاب لامنس يتبع كتّاباً معاصرين باللغة العربية، فيكتب مثلهم اسم هؤلاء الناس على أنهم مردة بفتحة فوق الحرف (ر) . ان الكتّاب العرب القدامى لم يعرفوا مصطلح مردة، وفي اعتقادنا أنه مجترح من أصل سرياني كما سنرى بعدئذ

 

أدعى الكتّأب الموارنة، منذ القرن السابع عشر، بأن المردة والموارنة هم نفس الشعب. ويستـشهدون دليلاً على ذلك بأن المردة كانوا مسيحيين يعيشون في لبنان في القرن السابع وبأنهم المسيحيون الوحيدون الذين عاشوا هناك في ذلك الزمن. ويورد كتّاب الموارنة دليلاً آخر وهو ان المردة كانوا يحاربون الملكيين في القرن السابع، ولم يكن في لبنان أحداً يحارب الملكيين في ذلك الوقت سوى الموارنة، لذلك كان الموارنة هم المردة. اما فيما يخص الاعتراض بأن المردة كانوا جماعة عسكرية أرسلها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس، لمهاجمة المسلمين في سورية، يجيب الكتّاب الموارنة بأنه لو كان المردة جماعة عسكرية لغادروا لبنان حالاً بعد إبرام السلام مع المسلمين في عام 677. غير أن المؤرخين يذكرون أن المردة استمروا في غزواتهم في سورية، بالرغم من اتـفاقية السلام هذه حتى عام 685 عندما التمس عبدالملك الصلح ووافق يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، مع بعض الشروط، على إجلاء المردة عن لبنان واسكنهم في أرمينيا . ولأجل تأييد الرأي المعارض بأن المردة كانوا أجانب لا موارنة، نُـشير إلى ديونيسيوس التلمحري، الذي يبيّن بأن ” هؤلاء المردة جاءوا دائماً للنهب وان البيزنطيين ارسلوهم لهذا الغرض ” . ومما يزيد هذه القضية تعقيداً هو ان الأب لامنس توصل ، بعد دراسة فعاليات الجراجمة، إلى الاعتقاد بأنهم كانوا المردة انفسهم. وهو في ذلك يتـفق مع المستشرق الالماني ثيودور نولدكة بقوله أن المـؤرخين العـرب أطلقوا على المردة اسم “الجراجمة” وينتهي الى النتيجة بأن المردة لم يكونوا بالموارنة . تكفي الملاحظة هنا بأن أول من عارض رأي الكتّاب الموارنة بأن المردة كانوا أجداد الموارنة هو المطران السرياني الكاثوليكي أقليميس يوسف داود حيث يقول في كتابه: جامع الحجج الراهنة في إبطال دعوى الموارنة

 

ذكر المؤرخون الاقدمون أنه في اثناء القرن السابع انتشر في جهات سورية الغربية قوم من المقاتلين سماهم المؤرخون مردائت (مردة) جاءوا من بلاد الروم ليناهزوا العرب المسلمين المتملكين في بلاد سورية ويحاربوهم ويمنعوهم من غزو البلاد. فزعم علماء الموارنة من مرهج نيرون الى السيد يوسف الدبس أن هؤلاء المردائت هم أجـداد الموارنة وان المردة اسم مشتـق من المرودة بالسريانية أو بالعربية وأنهم كـانوا اعداء لملوك الروم وضداً لهم في سورية. وان أتباع ملوك الروم سُموا ملكيين لمقابلة المردة. وقد أدعى بذلك السمعاني نفسه بكل جدية في مواضيع شتى من مؤلفاته تبعاً لمن سبقه إلا أنه قد خالف مرهج نيرون والذين بعده في امر. وذلك ان هؤلاء جعلوهم شيعة دينية أرثودكسية واعتبروا خصومهم الملكيين مونوثيليين هراطقة، واما السمعاني فزعم ان سبب النزاع بين المردة وخصومهم لم يكن سبباً دينياً بل مدنياً. واسم هذا العلاّمة السامي خدع كثيراً من علماء أوربا الذين لم يتكلفوا تحقيق هذا الامر حتى ارتأوا رأيه

 

بعد الاستـشهاد برواية ثيوفانس عن المردة، يستـنتج داود بأن المردة لم يكونوا هم الموارنة بدليل أنهم هاجموا لبنان من الخارج ولذلك كانوا غرباء، لا لبنانيين من أهل البلاد. ويُـضيف بأن الموارنة دائماً عُرفوا بهذا الاسم بسبب عقيدتهم الدينية، التي كانت تختلف عن عقيدة جيرانهم . إن ما يعنيه المطران يوسف داؤد بالعقيدة الدينية المارونية هو تمسكهم بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح (المونوثيلية) والتي روجها كما اسلفنا الإمبراطور هرقل للتوصل إلى تسوية الخصام بين المتـنازعين في الإمبراطورية حول ” الطبيعتين ” و ” الطبيعة الواحدة ” للمسيح. وكما هو معروف جيداً، ان هذا الخصام لم يزعزع فقط أساس الكنيسة بل زعزع أيضاً أساس الدولة. علاوة على ذلك، يحاجج داؤد بقوله بأن المردة آُجلوا عن لبنان عام 685 واستقروا في أرمينيا، ولكن لا دليل على وجود سكان موارنة يوماً ما في أرمينيا. ويستمر داؤد برفض الرأي القائل بأن المردة كانوا هم الموارنة أيضاً بسبب عدائهم للأباطرة البيزنطيين. ان الحقيقة اللاهبة هي أن المردة لم يكونوا أعداءً لهؤلاء الأباطرة، بل كانوا رعاياهم وجنودهم، ولذا كان أحد شروط الخليفة الاموي عبدالملك في ابرامه الصلح مع يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس هو أن يقوم رجال الإمبراطور بإجلاء المردة عن لبنان. هذا ما يدل بوضوح على أن المردة كانوا رجال الإمبراطور وخاضعين لسيطرته. ويمضي داؤد في تأييد المزيد لرأيه بقوله ان المردة لم يكن لهم خصوم يدعون بالملكيين وأن المؤرخين الذين بحثوا في المردة لم يذكروا أبداً ارتباطهم بالملكيين أو الموارنة. وبناء على هذا الرأي فاننا وان اتفقنا مع الكتّاب الموارنة بأن المردة قاتلوا العرب المسلمين دفاعاً عن المسيحية لوجب ان تكون مصدر العداء بينهم وبين العرب المسلمين دينياً وحسب، أو بعبارة أكثر تحديداً، لوجب أن تكون حرباً بين المسيحية والإسلام، وهو ليس كذلك . من الواضح أيضاً أنه لم يكن في زمن الفتح العربي لسورية عام 636 قوم محاربون في ذلك البلد معادون للدولة البيزنطية، ويستطرد داؤد قائلاً انه لا توجد إشارة معاصرة لفعاليات الموارنة في ذلك التاريخ حتى القرن الثامن عندما كتب ثيوفانس (وهو أول راوية) بأن المردة هاجموا لبنان عام 669. والاكثر من ذلك يقول داؤد فاننا اعتباراً من هذا التاريخ وحتى إجلائهم عام 685 لا نسمع بجماعة عسكرية خاضعة للأباطرة البيزنطيين حاربت المردة. من الظاهر، أن آراء الكتّاب الموارنة في هذا الصدد هي مجرد أوهام . وأخيراً، يوحي داود بأن اسم ” المردة ” مشتـق على الأرجح من الكلمة الفارسية مَرْدْ (رجل أو شجاع). وان هؤلاء الرجال الشجعان، المردة، قاموا بحماية حدود الإمبراطورية البيزنطية من الغزوات الفارسية؛ وحاربوا الفرس بضراوة بحيث أطلق عليهم الفرس اسم مردان، أو الرجال الشجعان. وفي الختام ينحي داود باللائمة على العلامة يوسف السمعاني لكتمانه الحقيقة في ادعائه بان الموارنة هم المردة. ويستهجن داود رأي السمعاني في هذا قائلاً ” أليس من المدهش أن يتـفق السمعاني، بالرغم من معرفته بأوضاع المردة، مع أولئك (الكتّاب) الذين يدّعون ان المردة كانوا في الأصل موارنة أو لبنانيين وكانوا خصوماً للملوك (الأباطرة) البيزنطيين ”

 

يرى الأب انستاس ماري الكرملي (ت 1947) أن المردة لم يكونوا الموارنة كما جاء في مقاله بعنوان : المردة والجراجمة، الذي ظهر في مجلة المشرق البيروتية عام 1903. يبدأ الكرملي بالقول بأنه ماروني أصيل وعلى أهبة الاستعداد باستخدام ما بوسعه للدفاع عن ملته. ويمضي قائلاً بأنه منذ زمن طويل كان لديه الانطباع بأن المردة والموارنة هم نفس الشعب ، إلا أنه عندما قرأ مقال الأب لامنس عن المردة في مجلة المشرق أدرك بأن الأب لامنس هدم بجرة قلم ” صرحاً لا سبيل إلى هدمه انشأه أجدادنا بكثير من العرق والجهد ” . يعترف الكرملي أنه أصيب بالخيبة إلى حد كبير واحتدم غضباً بسبب آراء لامنس، لكنه عندما هدأ واستعاد رشده بدأ بالبحث حول هذه المسألة بشكل موضوعي. بدأ بقراءة مؤلفات كتّاب عرب قدامى، آملاً في أن يكونوا قد وصفوا أوضاع البلاد التي قهروها والشعوب التي سيطروا عليها بشكل وافٍ. غير أنه اكتشف بأن المؤلفين العرب لم يقولوا شيئاً عن المردة. هذا ما أدهشه طالما أن المؤلفين العرب، كما يعتقد الكرملي بشكل صحيح، قد ذكروا العديد من الشعوب الأخرى، مثل الأكراد الذين حاربهم العرب والذين وصف الكتّاب العرب قبائلهم وتـنظيمهم القبلي بالتفصيل. اما الكتّأب الفرس فانهم لم يذكروا هذه المعلومات، مع أنهم كانوا جيران الأكراد. اكتشف الكرملي ايضاً أن المؤلفين العرب كتبوا عن قوم سموهم الجراجمة، تعتبر ظروفهم وشؤونهم مماثلة جداً لظروف وشؤون المردة. وقد قاده هذا البحث بعدئذ إلى رواية ثيوفانس عن المردة، ومن ثم انتهى باستخلاص نتائج لا تختلف كثيراً عن نتائج الأب لامنس. ويختتم الكرملي بالقول بأن أهالي سورية في زمن الفتح العربي لم يعرفوا شيئاً عن المردة (يكتب الاسم متبعاً التهجئة العربية التي استعملها لامنس أيضاً؛ وبأن مصطلح المردة (Mardaites) ابتكره المؤلفون البيزنطيون؛ وأن المؤلفين السريان والعرب، علاوة على ذلك، أخذوا هذا الاسم عن البيزنطيين؛ وأن الكتّاب المعاصرين سموهم المردة. فضلاً عن ذلك، فإن هؤلاء المردة، الذين كانوا أصلاً ميديين، عاشوا، قبل مجيئهم إلى لبنان بأجيال عديدة في الأرض الواقعة إلى الجنوب من بحر قزوين وكانوا رعايا الدولة الميدية الفارسية ورعايا الاسكندر الكبير فيما بعد. ويستطرد الكرملي قائلاً بأن موطن هؤلاء القوم يمتد ليغطي تقريباً ارض مازانداران الحالية، أي المنطقة الواقعة بين جيلان وطبرستان في إيران. كانوا رجالاً مقاتلين، مولعين بالحرب، اعتادوا الغزو والنهب؛ ومن هنا فإن اسمهم بالفارسية هو مردان (المفرد مَرْدْ). وأخيراً يعتقد الكرملي بأن المردة والجراجمة هما نفس الشعب. كما أنه يتوصل، ولكن بشكل مستقل، إلى نفس النتيجة التي توصل إليها المطران أقليميس يوسف داود، بأن المردة ليسوا بالموارنة . بيد أن الكرملي، ليس على صواب، في التمسك بأن أهالي سورية في زمن الفتح العربي لتلك البلاد لم يعرفوا شيئاً عن المردة. ويبدو أنه يناقض نفسه حول هذه النقطة عندما يورد في نهاية مقاله، ملاحظة للمؤرخ السرياني ابن العبري، الذي يُظهر بوضوح أن السريان عرفوا المردة، ودعوهم ماريدويي (Mardaites أو مردة) وجرجوموي (جراجمة)، كما سنرى بعدئذ

 

بيّنا حتى الآن الآراء المختلفة فيما يتعلق بالمردة والنتائج التي توصل اليها كتّاب معاصرون بأن المردة لم يكونوا موارنة لبنان. كما أظهرنا أيضاً أن بعض الكتّاب المعاصرين يعتبرون الجراجمة، الذين كانت أوضاعهم وفعالياتهم مماثلة لأوضاع وفعاليات المردة، ولذلك نجد من الأهمية بمكان تحديد هوية الجراجمة والدليل الذي يورده الكتّاب المعاصرون لدعم آرائهم

 

اذا عدنا الى البلاذري (ت 892)، في كتابه فتوح البلدان نجده يقول ان الجراجمة هم أهالي جرجومة، وهي مدينة في جبل اللكام (الجبل الأسود، أو الأمانوس) بين بيّاس وبوقا ( لكن الاب لامنس يحدد هوية جرجومة على أنها مملكة صغيرة وُجدت في القرن التاسع قبل الميلاد في الجزء الشمالي الغربي من سورية، وكانت عاصمتها مرعش (جرمانيسيا). كما يتمسك بالقول بأن شعب هذه المملكة لم يكن آرامياً لأن الدولة الآرامية لم تمتد لتشمل منطقة هذه المملكة. ويُـضيف بأن كلمة “جراجمة ” مذكورة في الكتابات الآشورية، الزاخرة بمعلومات عن أحوال هؤلاء القوم. ويتابع الاب لامنس، قائلاً بأنه منذ الحقبة السريانية، لم تكن هناك اشارة إلى الجراجمة حتى القرن الثامن عندما ذكر المؤرخون المردة لأول مرة . إلا أن الأب لامنس اكتشف بعد دراسته لرواية البلاذري عن الجراجمة أن هناك تشابهاً بين أحوال المردة وأحوال الجراجمة. يتفق الى حد ما مع ما رواه ثيوفانس عن انتـقال المردة من شمال سورية إلى جنوبها، وفتحهم للبنان، واستقرارهم قرب حمص وبعلبلك ودمشق في الوقت الذي كان فيه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على وشك المغادرة إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير. يقول البلاذري أنه عندما كان عبدالملك على أهبة المغادرة، زحفت جماعة من الفرسان البيزنطيين ( يدعوها خيل الروم ) مع قادتها نحو جبل اللكام ومن ثم إلى لبنان، حيث أنضم إليهم حشد غفير من الجراجمة والأنباط (النبطيين) والأرقاء الذين كانوا قد فروا من المسلمين. لذا قام عبدالملك، خوفاً من احتمال قيام الإمبراطور البيزنطي باغتنام الفرصة لمهاجمة سورية، بإبرام صلح مع الإمبراطور أسوة بما فعله بمعاوية سابقاً وكانت النتيجة ان تشتت الجراجمة في مدينتي حمص ودمشق، بينما عاد عدد غفير منهم إلى مدينتهم في جبل اللكام . هنا نجد إن رواية البلاذري شبيهة جداً برواية ثيوفانس عن المردة، الذين عادوا بعد إبرام هذا الصلح إلى وطنهم في سورية. إلا أن هذا التشابه لا يدل على أن المردة والجراجمة هم نفس الشعب. إضافة إلى ذلك، نعلم من رواية البلاذري، أن الجراجمة كانوا مسيحيين وبأنهم منذ الفتح العربي لسورية أحدثوا الكثير من المشاكل للعرب، ولكن ليس هناك من معلومات تتعلق بكنيستهم أو طائفتهم

 

لا بد أن العرب الفاتحين قد أدركوا أهمية هؤلاء الجراجمة في صراعهم مع البيزنطيين ولهذا السبب حاولوا مسالمتهم. وعندما فتح القائد العربي حبيب بن مسلمة الفهري الجرجومة، طلب أهلها منه الصلح فمنحهم إياه بشرط أن يقوموا، مقابل إعفائهم من دفع الجزية، بالتجسس لصالح المسلمين. إلا أن الجراجمة لم يكونوا مخلصين كلياً للمسلمين؛ حيث وقفوا أحياناً مع المسلمين وأحياناً أخرى مع البيزنطيين. في عهد الخليفة عبدالملك انضموا إلى المردة ضد العرب لكنهم لزموا الهدوء عندما وقَّع عبدالملك معاهدة صلح مع البيزنطيين كما أسلفنا. وفي عام  89 هجرية (707 م) أراد الخليفة الأموي الوليد، ابن عبدالملك  (705ـ715) إخضاع الجراجمة الذين استمروا على عدم ولائهم للعرب. أرسل أخاه مسلمة، فاحتل مدينة جرجومة لكنه منح سكانها حرية الاستقرار في أي مكان في سورية. وضماناً لولائهم تكفل بعدم فرض جزية عليهم، وبعدم إكراههم هم أو زوجاتهم أو أولادهم على التخلي عن المسيحية، لكنه طلب منهم بالفعل أن يحاربوا إلى جانب المسلمين. كما زودهم مع عائلاتهم بالطعام وبثمانية دنانير لكل واحد منهم. وأخيراً، يقول البلاذري أن مسلمة هدَّم مدينة جرجومة، بعد أن أجلى عنها سكانها ووطّنهم في جبل حوَّار فيما يُعرف اليوم بكيليكيا، اللولون (تهجئة البلاذري)، وفي الأرض المنخفضة في تيزين. استقر بعضهم في حمص، بينما ذهب شريف القوم فيهم وجماعة من رجاله إلى أنطاكية  حيث هرب بعدئذ إلى بلاد البيزنطيين

 

لا يذكر البلاذري ما الذي دعا مسلمة إلى تخريب جرجومة، إلا أنه يمكن الاستـنتاج بأن أهالي تلك المدينة كانوا ما يزالون غير موالين للمسلمين، بالرغم من المعاملة الطيبة التي عاملهم بها مسلمة، وهذا ما أدى به إلى تهديمها وتحرير المسلمين من مصدر يسبب لهم المشاكل. إلا أن البلاذري يستـشهد بقول للواقدي (ت 822)، الذي يعطي الانطباع بأن بعض الجراجمة استقروا في لبنان. يروي الواقدي أن جماعة من الناس من جبل لبنان تذمروا من جامع الضرائب في بعلبك، مما دعا صالح بن عبدالله بن عباس إلى إرسال رجل لقتل بعض منهم. وقد سمح لمن اختاروا البقاء على معتقدهم الديني بأن يفعلوا ذلك وأعاد توطينهم في قراهم. كما أجلى بعض الناس عن لبنان . يعتقد الأب لامنس بأن هذا ما يبين بوضوح وجود بعض الجراجمة في لبنان. وان هذا الأمر ليس بمسألة تخمين بل هو حقيقة ، ثبتتها رواية للبلاذري التي تتعلق بأحدهم ويُدعى ميمون الرومي (البيزنطي)، الذي يدل لقبه ـ الجرجماني ـ على أنه كان ينتمي إلى الجراجمة. يقول البلاذري بأن ميمون كان عبداً بيزنطياً من قبيلة أم الحكم (شقيقة الخليفة معاوية بن أبي سفيان). وانه التحق بالجراجمة عندما غادروا لبنان . يستـنتج لامنس أيضاً أن المردة لم يكونوا هم المورانة، وبأن الجراجمة والموارنة لم يكونوا نفس القوم. إلا أنه يجزم بوجود رابطة قوية بين المردة والموارنة . اما الاب انستاس الكرملي فانه يصل إلى نتيجة مماثلة، إلا أنه يقدم ثلاثة شواهد جديدة : إحداها من المعجم العربي تاج العروس؛ الذي يعرِّف الجراجمة بأنهم فرس من شبه الجزيرة العربية ويساويهم بأنباط سورية؛ والثاني مستمد من كتاب الكامل في التاريخ (ج 4، ص 118) لابن الأثير، الذي يذكر تمرد الجراجمة في سورية؛ والثالث مستمد من معجم البلدان (11، 55)، لياقوت الحموي، الذي لا يُـضيف معلومات هامة أكثر من التي أوردها البلاذري

 

ليس هذا كل ما قيل عن الجراجمة والمردة. فقد استاء بعض الكتّاب الموارنة المعاصرين من رواية الكتّاب العرب القدامى والبيزنطيين عن الجراجمة والمردة ومن ملاحظات لامنس والكرملي. هذا ما حدا بالمطران الماروني يوسف الدبس ان يكتب مقالين في مجلة المشرق البيروتية أحدهما بعنوان : المردة والموارنة حاول فيه دحض رأي لامنس فيما يتعلق بالمردة والجراجمة . والآخر بعنوان : ليس المردة الجراجمة سعى فيه إلى البرهان بأن المردة لم يكونوا الجراجمة ولا كانوا فرقة فرسان من البيزنطيين التي ذكرها البلاذري. بل إن المردة والجراجمة كانوا موارنة

 

نجد من الممل ومن غير الضروري عرض مناقشة الدبس بكاملها. ولكن ما عدا قوله بأن المردة والجراجمة لم يكونوا نفس الشعب، فإن أكثر النقاط التي يثيرها للبرهان على أن المردة والموارنة هم نفس الشعب ليست سوى تأويلات تافهة للحقائق التاريخية المتوفرة حول الموضوع أو لا موجب لها.

بما أن كل الكتّاب المذكورين أعلاه يسندون نتاج بحوثهم بأن مردة ثيوفانس وجراجمة البلاذري هم نفس القوم نظراً لتشابه فعالياتهم، فمن المناسب المزيد من تقصّي ابعاد هذه المسألة. وهنا يتعين على مؤلف هذا الكتاب أن يقرَّ بأنه حين كتب حول هذا الموضوع في عام 1969 استـنتج بأن مردة اليونانيين وجراجمة الكتّاب المسـلمين كانوا نفس الشعب (51). إلا أنه بعد قيامه بدراسة الموضوع بأكثر دقة للمرجع السرياني وهو تاريخ ديونوسيوس التلمحري، وكذلك رواية البلاذري عن الجراجمة، رأى من المناسب تغيير موقفه وذلك بالاتـفاق مع رأي المطران يوسف الدبس بأن المردة والجراجمة ليسوا نفس القوم . إلا أن هذا المؤلف لا يستطيع الاتـفاق مع الدبس بأن الجراجمة لم يكونوا فرقة فرسان من البيزنطيين أو بأنهم كانوا الموارنة أنفسهم. والظاهر ان مصطلحي: “جرجومويي ” التي (استعملها التلمحري) والـ ” جراجمة ” التي (استعملها البلاذري) اربكت معظم الكتّاب الذين تناولوا هذا الموضوع بسبب تـشابه الكلمتين في اللغتين العربية والسريانية. ومما زاد في هذا الإرباك هو اكتشاف الكتّاب بعض التـشابه بين فعاليات مردة ثيوفانس و “جرجومويي” التلمحري وجراجمة البلاذري. إن هذا التـشابه في روايات هؤلاء الكتّاب أمر واضح، إلا أن هناك خلافات أيضاً، مع أنها ليست واضحة

 

حدد البلاذري، على خلاف التلمحري هوية الجراجمة بأنهم أهالي مدينة تُدعى جرجومة في جبل اللكام (الجبل الاسود عند ثيوفانس وجبل أوكومو عند التلمحري)، مشيراً بوضوح إلى أنهم كانوا مواطنين سرياناً من أهل البلاد، وليسوا بأجانب. يدّعي البلاذري بأن هؤلاء الجراجمة كانوا مسيحيين موالين للدولة البيزنطية وأن المسلمين حاولوا كسب ولائهم إلا أنهم فشلوا وأخيراً هدموا مدينتهم. اما ثيوفانس فانه لا يذكر الجراجمة أو مدينتهم بل جلّ ما يقوله هو أن قوماً ما يدعون بالمردة هاجموا لبنان واحتلوا البلد بأجمعه. والى هنا فان روايتي ثيوفانس والبلاذري لاتتفقان إلا أنهما تتفقان على ما جرى بعد ذلك. يقول ثيوفانس أن العديد من الأرقاء والأسرى ومن أهل البلاد انضموا الى هؤلاء المردة بحيث ازداد عددهم خلال فترة قصيرة ليصل إلى الآلاف. اما البلاذري فيقول بأن جماعة من الفرسان البيزنطيين زحفت مع قائدها إلى جبل اللكام (الأسود) ومن ثم الى لبنان. وانضم إليهم عدد كبير من الجراجمة الأنباط، والأرقاء الذين كانوا قد هربوا من سادتهم المسلمين. هنا نلاحظ إن نقاط التـشابه بين الروايتين واضحة، ويمكننا الاستخلاص على أن مردة ثيوفانس هم نفس الفرسان البيزنطيين (خيل الروم) لدى البلاذري. ومن هذا الرأي المطران يوسف دريان الذي انخرط مع زميله المطران يوسف الدبس في نقاش حاد حول أصل المردة والموارنة والجراجمة. وبعد ان استشهد دريان بروايتي ثيوفانس والبلاذري توصـل الى النتيجة بأنـه من الممكن أن يكون مردة (Mardaites) ثيوفانس وفرسان البلاذري هم نفس الشعب إن كان الكاتبان يتحدثان عن نفس الأحداث ونفس القوم

 

لقد رأينا حتى الآن توافقاً جزئياً بين أقوال ثيوفانس والبلاذري، وأنه كما يظهر من كتابة هذا الاخير ان الجراجمة ليسوا المردة وانهم انضموا إلى المردة في زحفهم على لبنان خلال سائر المنطقة الممتدة من جبل اللكام إلى أورشليم. إلا أن هناك مشكلة تتعلق بالمصدر السرياني للتلمحري حيث يذكر المردة والجراجمة في سياق مماثل يعطي الانطباع في بادئ الأمر بأنهم نفس الشعب، يقول التلمحري : في السنة التاسعة من عهد قسـطنطين (بوغـوناتس)، جاء رومـويي (جنود) عرفوا بـ ماريدويي (المردة)، أي قطاع الطرق، والذين سماهم السريان جرجومويي (جراجمة بالعربية)، إلى جبل لبنان واحتلوا المنطقة الممتدة من جبل الجليل حتى جبل أوكومو (الكلمة السريانية لأسود، أي الجبل الأسود أو جبل اللكام). وانهم خرجوا دائماً للنهب ولهذا الغرض أرسلهم الرومان (البيزنطيون) إلى لبنان. وفي نهاية الأمر هزمهم العرب، فقتلوا البعض، واقتلعوا أعين الآخرين

 

بناءً على هذا القول فان السريان، لا البيزنطيين أو العرب، هم الذين دعوا هؤلاء القوم ماريدويي (مردة أو Mardaites) وجرجومويي (جراجمة). وان هؤلاء المردة لم يكونوا أمة ذات صفات أثنية محددة ولا كانوا رومانيين أو بيزنطيين بل كانوا (رومويي) وحسب، وهي كلمة تبدو للسمع وكأنها رومان لكنها كانت تعني بالسريانية المحكية “جنوداً”. في الواقع، يستعمل الناس الناطقون باللغة السريانية في طورعبدين حتى هذا اليوم تعبيري رومويو (بالمفرد) ورومويي (بالجمع) بذلك المعنى . وقد استخدم الأباطرة البيزنطيين هؤلاء الجنود في غزواتهم ضد العرب في سورية. واذا اتّبعنا رواية التلمحري، نجد أن أهالي سورية، من ضمنها لبنان، قد عرفوهم بهذين الاسمين، مع أن التلمحري لا يقول شيئاً عن أصلهم. كما انه لا يذكر شيئاً عن مدينة جرجومة التي يُـشير إليها البلاذري أو عن أهلها. يبقى السؤال قائماً فيما إذا كان (جرجومويي) التلمحري هم نفس جراجمة البلاذري. الجواب هو أنهم على الأرجح لم يكونوا كذلك. ولكن بما أن أهالي الجرجومة كانوا معروفين لدى بقية السريان وأنهم، وفقاً للبلاذري، أنضموا إلى الفرسان البيزنطيين الذين ليسوا سوى ماريدويي التلمحري ومردة (Mardaites) ثيوفانس فقد ذكرهم السريان ارتباطاً بهؤلاء المردة. وبعبارة أخرى ان السـريان حسب رواية للتلمحري سمّوا القـومَ الذين هاجموا لبـنان وأعمـلوا فيه نهباً ماريدويي (Mardaites) وكذلك “جرجومويي” (جراجمة) خاصة عندما رأوا أناساً من أهالي مدينة الجرجومة من جملة الذين يقومون بالنهب والسلب والذين كانوا يحاربون العرب. من المحتمل أيضاً أن يكون ثيوفانس، وهو أول من ذكر مصطلح ” Mardaites ” قد أخذه عن السريان لأنه كان اسماً شائعاً في ذلك الوقت في سورية. من المؤكد أن مصطلح ” Mardaites ” ليس يونانياً، ولا يظهر في الكتابات اليونانية التي سبقت كتابات ثيوفانس. وليس من الصعب بيان لماذا استعمل ثيوفانس مصطلح ” Mardaites “. ولم يستعمل ” ماريدويي ” كما فعل السريان. هناك شرح واحد قابل للتصديق وهو أن مصطلح ” الجراجمة ” (جرجومويي) كان أكثر شيوعاً في سورية ذاتها ـ وخاصة في الشام، حيث كان العرب على اتصال باالسريان اكثر منهم مع أهالي جبال لبنان حيث كان مصطلح “ماريدويي” أو “Mardaites” أي (قطاع الطرق) أكثر شيوعاً بسبب الغزوات وأعمال النهب والسلب المستمرة. من الممكن أيضاً أن يكون ثيوفانس قد دعاهم ” Mardaites ” لأنهم كانوا من أصل فارسي، أو أنهم أعطوا هذا اللقب بسبب سلوكهم الذي يميل إلى الحرب وطريقتهم في الحياة التي تعتمد على السلب والنهب وهذا من باب التخمين فقط

 

مهما يكن من أمر، وبالرغم من أن التلمحري يذكر بأن السريان عرفوا الماريدويي (Mardaites) على أنهم جرجومويي (جراجمة)، إلا أنه لم يعن بأنهم كانوا نفس الشعب. فان السريان، الذين لم يحددوا أصل هؤلاء القوم المحاربين الذين أرسلهم الإمبراطور البيزنطي لمحاربة العرب، اطلقوا عليهم اسم ماريدويي بسبب ما قاموا به من تخريب ونهب. كما أشاروا إليهم على أنهم جرجومويي عندما رأوا بأن أهالي الجرجومة انضموا إليهم في اعمالهم الهمجية. كما أنه من الواضح أن هؤلاء المتمردين (Mardaites) والجراجمة كانوا في المصادر اليونانية والسريانية والعربية التي بحثناها جنوداً في خدمة الأباطرة البيزنطيين وأنهم حاربوا العرب. المهم في الامر هو ان هذه المصادر لا تذكر شيئاً عن الموارنة أو اي ارتباط بهم. ربما كانت المشكلة العظمى التي تواجه المؤرخ الذي يـعالج هذا الموضوع هي ضآلة المصـادر حول المـردة (Mardaites) والجراجمة. ان بعض المصادر العربية تشير الى ان الجراجمة استقروا في العديد من أرجاء العالم العربي إلا أنها لا تعطي شرحاً عن كيفية حصول هذا الاستقرار أو زمنه. كما أن هذه صامتة فيما يخص أصل هؤلاء الجراجمة. لذلك ما من سبيل إلى معرفة فيما إذا جاءوا أصلاً من مدينة جرجومة في جبل اللكام أو الجبل الأسود. لكننا نجد في كتاب الأغاني (ج 6، ص 76) أن الجراجمة كانوا من أصل فارسي: ” بنو الأحرار او أبناء الأحرار ” الذين يقصد بهم الشـاعر أمية بن أبي السلط (ت حوالي 630) في قصيدته، الفرس الذين جاءوا مع سيف بن ذي يزن. إنهم يدعون اليوم بني الأحرار في صنعاء، الأبناء في اليمن، الأحامرة في الكوفة، الخضارمة في الجزيرة والجراجمة في الشام (سورية

 

مما لا ريب فيه أن المصادر التي قمنا بمناقشتها لا تُـشير إلى الموارنة كما أنها لا تعتبرهم من المردة أو الجراجمة؛ ومع ذلك يصر الموارنة على أن المردة (Mardaites) كانوا موارنة. يؤمن المطران يوسف الدبس، أكثر من أي شخص آخر، بهذه النظرية ويدافع عنها بشكل جاد. فهو يقول بأن اسم ” Mardaites ” (مستعملاً التعبير العربي المردة، كما فعل لامنس والكرملي) أطلقه على الموارنة خصومهم في القرن السابع ، وبأن المردة والموارنة هم نفس الشعب. ويُـضيف قائلاً أن بعض أهالي لبنان المسيحيين كانوا يدعون بالمردة بعد أن تمردوا على الإمبراطور البيزنطي لأنه لم يمتـثل للإيمان الكاثوليكي. يجادل الدبس بالقول أن مصطلح ” مردة ” أطلق على الموارنة الذين حاربوا ضد هؤلاء الملكيين، وخاصة الإمبراطور يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، الذي انزلق الى ” الهرطقة ” المونوثيلية. ويمضي الدبس في القول بأنه في البدء استعمل التعبيران بالتـناوب للدلالة على غرض معتاد بنفس الطريقة التي كان فيها مصطلحا ” قيسي ” و ” يماني ” يدلان على الانقسام المدني بين هاتين القبيلتين العربيتين. بمعنى آخر، كان الموارنة والملكيون شعبين ينتميان إلى نفس الكنيسة لكنهما اصبحا جماعتين منفصلتين في عهد الإمبراطور هرقل الذي روج على ” الهرطقة ” المونوثيلية في سورية. وان هذه الهرطقة وصلت إلى ذروتها في عهد يوسطنيان الثاني، راينوتميتوس، الذي اعتـنق تلك العقيدة. ومن ثم تمرد الموارنة الذين رفضوا هذه ” الهرطقة ” على الإمبراطور وعلى العرب ولهذا السبب أطلق عليهم جيرانهم وأعداؤهم اسم المتمردين (مردة) من الفعل السرياني “مْراد” (تمرّد). وينتهي الدبس الى القول بأن اعتبار هؤلاء المردة أو Mardaites ومردان الفرس القدماء نفس القوم كما فعل بعض الكتّاب هو محض خيال

 

إن ما يرمي اليه المطران الدبس هو أن أهالي لبنان الموارنة كانوا سرياناً (آراميين) تمسكوا بالإيمان ” الكاثوليكي ” الذي صاغه مجمع خلقيدونية (451). واصبحوا لذلك دعاة أرثوذكسيين لتبنيهم لهذا الإيمان نفسه الذي اعتـرفت به كنيسة رومـا ولم يكن بالإمكان أتهامهم بأنهم “هراطقة” أو متمسكين ” بالهرطقة ” المونوثيلية. هذا الإيمان “الكاثوليكي” هو الذي عرّض أول بطريرك ماروني، وهو يوحنا مارون، لاضطهاد الإمبراطور البيزنطي. ان ما يقوله الدبس ليس الا ترديداً للنظرية التي روَّج لها المطران الماروني جبرائيل القلاعي وتوسع فيها الكتّاب الموارنة من القرن السابع عشر فصاعداً لتبرير ارتباط الموارنة بكنيسة روما وهي نظرية تفتقر الى أساس تاريخي. وقد قمنا بمناقشتها سابقاً في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر في بحثنا عن يوحنا مارون . سوف نرى أيضاً، عندما نناقش علاقة الموارنة بكنيسة روما أن كنيسة روما لا تتـفق مع هذا الرأي. يقول يوسف السمعاني الذي يكرر آراء كتّاب موارنة كمرهج نيرون واسطفان الدويهي، بأن هذين الكاتبين يدعيان بأن مصطلح ” ملكي ” كان مضاداً لكلمة متمردين (مردة). ويعلق قائلاً أن الحقيقة هي أن هذين المصطلحين لا يدلان على جماعتين دينيتين، بل الاحرى على جماعتين محاربتين. ويشرح بأن أولئك الذين حاربوا في صفوف الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع، بوغوناتس، كانوا يدعون بالملكيين (بالسريانية ملكويي، أي الحـزب الإمبراطوري)، وأولئك الذين حاربوا ضده كانوا يدعـون (Mardaites) بالمردة (أي المتمردين) . إنها حقاً نظرية خيـالية جاء بها السـمعاني. فقد رأينـا سـابقاً أن المردة (Mardaites) حاربوا في صفوف الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، الذي أبرم معه الخليفتان الأمويان معاوية وعبدالملك بن مروان معاهدتي صلح. وأنه ليس هناك من دليل تاريخي على أن الملكيين كانوا يُعتبرون ” هراطقة ” مونوثيليين أو أن المردة اعتبروا يوماً أرثوذكسيين. من الواضح أن الموارنة بناءً على شهادة السمعاني لم يكونوا طائفة علمانية بل طائفة دينية. ولكن السمعاني يناقض نفسه عندما يقول أن مصطلح ملكيين لم يذكره الرومان القدامى حتى القرن العاشرالميلادي؛ ويؤكد أن نفس الملكيين حاربوا في صفوف الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، في القرن السابع. والحقيقة هي أنه ما من مؤرخ قديم ربط المردة بالملكيين أو بالموارنة. وقد رأينا من الشهادات المختلفة التي اوردها بطريرك أنطاكية السرياني ديونيسيوس التلمحري أن الموارنة كانوا جماعة من الرهبان ينتمون إلى دير مارون. وكانوا يدعون بالموارنة لا بسبب أية عقيدة دينية أو انتماء ولا بسبب جهادهم ضد الأباطرة البيزنطيين ولكن لسبب بسيط هو أنهم كانوا رهباناً ينتمون الى دير مارون. لذا فإن ربط الموارنة بالمردة هو أمر لا يمكن الأخذ به من الناحية التاريخية. إن عملية الربط هذه هي نظرية حديثة العهد نسبياً قام بها كتّاب موارنة معاصرون. بيد أنه من الممكن، أن يكون بعض المردة، بل حتى بعض الجراجمة قد اختلطوا بالموارنة وأخيراً أصبحوا مندمجين بهم، لكن هذا محض تكهن لا دليل تاريخي يؤيده. ان بعض الكتّاب المعاصرين كالمؤرخ فيليب حتي، الذين توصلوا الى هذه النتائج، اخفقوا في اثباتها تاريخياً . ان الرأي القائل بأن المـردة والجراجمة كانوا الموارنة انفسهم يتحدى البيّنات التاريخية. هذا صحيح خاصة فيما يتعلق برواية التلمحري التي تدل على أن الموارنة كانوا في الاصل رهباناً صاروا مونوثيليين في القرن السابع. اي انهم لم يكونوا طغمة من الرجال المحاربين وانهم وجدوا في البداية في سورية بالذات لا في لبنان . وكما تدل عليه رواية المفريان ابن العبري فان الموارنة لم يصبحوا ملّة دينية متمبزة حتى القرن الثامن


20 الـمـوارنـــة والمـونـــوثــيلـــيـة

 

تُعتبر المونوثيلية بنظر الموارنة قضية حساسة. فالموارنة، وخاصة أولئك الذين تثـقفوا في المدرسة المارونية في روما في القرنين السادس عشر والسابع عشر والذين كتبوا في الأغلب باللاتينية، انكروا أن شعبهم وكنيستهم كانوا يوماً ما مونوثيليين. وقد سبق ان ذكرنا أسماء هؤلاء الموارنة وكتاباتهم وآخرين جاءوا بعدهم. والذي دافع أكثر من أي ماروني آخر بحماس عن أرثوذكسية (الإيمان الخلقيدوني) لكنيسته هو المطران يوسف الدبس الذي اعتبر الصاق المونولوثية بالموارنة ” محض حسد ” من جانب النقاد سواء كان هؤلاء  خلقيدونيين أو خلافهم. وما كتابه روح الردود، وهو تفنيد لرأي المطران السرياني الكاثوليكي يوسف داود، سوى أحد الأمثلة. وبالرجوع الى هذا الكتاب وغيره من كتب المطران الدبس نستطيع ان نستشف السبب الذي يكمن وراء غضب الموارنة الشديد بشأن موضوع المونوثيلية، أي الاتهام بالهرطقة. وفي ردهم على النقاد يحاولون جميعاً البرهان على أن الكنيسة المارونية كانت دائماً ” أرثوذكسية “، أي متمسكة بالإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، ولذلك فهي لم تكن أبداً هرطوقية

 

رأينا سابقاً أن يوحنا مارون، أول بطريرك ماروني مزعوم، كان مونوثيلياً. كما رأينا ايضاً ان مثل هذا الاستنتاج لم يقتصر على رواية البطريرك الخلقيدوني سعيد بن بطريق بل تؤيده الكتب الطقسية المارونية نفسها. ومن بين سائر الكتّاب الذين وصفوا يوحنا مارون كمونوثيلي يحتكر ابن بطريق اشد كراهية  الموارنة وسخريتهم. بل ان كل كاتب ماروني على وجه التقريب حاول بطريقة ما أو أخرى، تفنيد رواية ابن بطريق عن يوحنا مارون. وقد كرس البطريرك الماروني اسطفان الدويهي الجزء الثاني بأكمله من  كتابه تاريخ الطائفة المارونية لتسفيه معظم النقاد بدءاً بابن بطريق . ان الكتّأب القدامى الذين وصفوا الموارنة على أنهم مونوثيليون عديدون ولذلك فان مناقشة كل رواياتهم حول الموضوع تبعث على الملل خاصة وأن نتائجهم التي توصلوا اليها واحدة . سوف نحاول في هذا الفصل اقتـفاء أثر مونوثيلية الكنيسة المارونية، مستمدين المعلومات بشكل أساسي من كتب مارونية عدا عن المؤلفات المنسوبة إلى يوحنا مارون، بالإضافة إلى عدة شهادات كتّاب كاثوليك

 

من الكتب التي يدّعي الموارنة أنها من منبت ماروني أصيل هو كتاب الهدى. يضم هذا الكتاب القوانين والقواعد التي تـنظم الكنيسة المارونية وحياة أفرادها الدينية. إن كتاب الهدى، المكتوب أصلاً باللغة السريانية موجود فقط في ترجمة عربية (كرشونية) عن الأصل السرياني وضعها عام 1059 مطران اسمه داود رداً على طلب قدمه أحدهم ويُدعى يوسف الذي ربما كان راهباً أو رئيس دير. وأقدم نسخة لهذه المخطوطة موجودة في مكتبة الفاتيكان (المخطوطة 133) وقد نسخت عام 1402. أما مؤلف هذا الكتاب فهو مجهول، إلا أن الراهب يوسف والمطران داود معاً يشيران إليه بـ ” الأب الطاهر “. من هو هذا “الأب الطاهر” سيبقى سراً من الأسرار. وكل ما يعرف عن هوية المترجم، المطران داود، هو أن اسمه ورد في مخطوطة الفاتيكان. وهنا ندرك مرة أخرى ندرة المؤلفات المارونية الأصيلة ويبقى السؤال قائماً فيما إذا كان للموارنة مؤلفات مستقلة عن مؤلفات الكنيسة السريانية الأرثوذكسية

 

ان ما يستحق الالتفاف اليه هو ان مؤلف كتاب الهدى، هو ماروني مونوثيلي (اي من اصحاب المشيئة الواحدة في السيد المسيح) وانه عبَّر عن المونوثيلية بأوضح التعابير اللاهوتية. فقد كتب

 

نؤمن ونعلن بأن واحداً من الثالوث الاقدس الابن الكلمة وُلد من الآب ازلياً لا زمان او بداية له وانه لم يولد كالاجساد المتوالد احدها من الآخر، بل هو نور من نور، إله حق من إله حق، الذي منح بوافر رحمته الخلاص للبشر بمشيئة الروح القدس، نزل من السماء لكن دون أن يبارح الآب ذاته دون تغير أو فساد. وتجسد من الروح القدس ومن ابنة يوياقيم الطاهرة وأخذ منها جسداً كأجسادنا مع روح عاقلة وأصبح مثلنا في كل شيء عدا الخطيئة؛ ووُلد منها أبناً واحداً ورباً واحداً يسوع المسيح، شخصاً واحداً ذو جوهرين عاقلين، واحداً من الآب الأزلي في لاهوته وواحداً من جوهرنا في ناسوته، غير معصوم في ناسوته، معصوماً في لاهوته، متـناهياً في ناسوته ولا متـناهٍ في لاهوته

 

والآن إذا كان لنا هذا الإيمان به فإننا حينئذٍ لا نؤمن بعدُ بأنه شخصان ومسيحان ومشيئتان أو فعلان. حاشا ! بل نؤمن أنه يسوع المسيح واحد، ابن الله الذي صار من أجلنا إنساناً، وانه شخص واحد في جوهرين عاقلين، وأنه مشيئة واحدة وفعل واحد

 

بعد ان اورد المؤلف سلطة المجامع المسكونية الأربعة الأولى بإيجاز، قام يوصف الطوائف المسيحية في زمانه ونسب الطائفة المارونية إلى ” يوحنا مارون، بطريرك أنطاكية العظمى “. ويبيّن المؤلف، علاوة على ذلك، بأنه شرح بالتـفصيل وضع الملكيين والموارنة وموقفهم العقائدي في رسالته، التي يسميها ” رسالة العدل ” الموجهة إلى الآب الطاهر ارسانيوس، مطران عين قورة (العاقوري). إلا أنه لا يعطي معلومات إضافية عن المطران ارسانيوس أو أبرشيته. ونلاحظ هنا إن اسم ارسانيوس هذا مطران عين قورة غير مذكور في مخطوطة الفاتيكان 133، مما يوحي بأنه قد دُسَّ من قِـبَـل نسّاخين موارنة لاحقين. يتمسك مؤلف الهدى بأن الملكيين والموارنة هما جماعة واحدة تؤمن بنفس المعتقد، فيما يتعلق بجوهر المسيح واتحاد طبيعتيه في شخص واحد، ولكنهم يختلفون بشأن مشيئته: فالملكيون يعترفون بمشيئتين في المسيح بينما يعترف الموارنة بمشيئة واحدة فيه

 

يورد المؤلف، مباشرة بعد بيان الإيمان هذا شهادة أخرى عن المونوثيلية المارونية لكي يبين الفروق بين الملكيين والموارنة فيما يتعلق بالمشيئة الواحدة في المسيح. ويسهب في إظهار التباين بينهما حول مسألة المشيئة أو المشيئتين في المسيح. ويؤكد بأن الملكييين يتمسكون بأن للمسيح مشيئتين ـ واحدة من جوهره الإلهي وواحدة من جوهره البشري ـ بينما يؤمن الموارنة بوجود مشيئة واحدة فقط. ثم يقدم براهين كلا الجماعتين في تأييد وجهتي نظرهما

 

تبرهن الشهادات الواردة في الهدى بأن الموارنة كانوا مونوثيليين بالرغم أن بعض الكتّاب الموارنة يدّعون بأن توما أسقف كفرطاب في القرن الحادي عشر حرَّف هذا الكتاب بدس العبارات المتعلقة بالمشيئة الواحدة في المسيح. فقد أتهم البطريرك اسطفان الدويهي توما، لا بدس الرسالة المذكورة أعلاه الموجهة إلى ارسانيوس مطران عين قورة (عاقورة) التي تتضمن الاعتراف بالعقيدة المونوثيلية بل بكتابتها أيضاً. لكن الدويهي لا يقدم دليلاً يؤيد فيه هذا الادعاء كما يخفق في تحديد هوية المطران ارسانيوس الذي يدّعي بأن توما قد كتب الرسالة إليه، أو في التحقق من أنه كان معاصراً لأسقفه الكفرطابي . ومما يستحق الذكر هنا هو ان المطران يوسف دريان يشك في الأساس الذي استـند إليه الدويهي في اتهام توما بكتابة رسالة إلى ارسانيوس. يرى دريان بأن التواريخ المتعلقة بحياة ارسانيوس غير معروفة وأنه لم يُذكر أبداً في أي مصدر عدا كتاب الهدى. علاوة على ذلك، يؤكد دريان بأن توما لم يذكر المطران ارسانيوس أبداً في فصوله العشرة، وبأن لغة الفصول أقل فصاحة من لغة الرسالة الموجهة إلى ارسانيوس . ومن الناحية الأخرى، يرى المطران أقليميس يوسف داود، أن اتهامات الدويهي توما بتحريف هذا الكتاب يتعذر الدفاع عنها، وبأن ارسانيوس، مطران عين قورة، ربما كان شخصاً من نسج الخيال

 

لا يوجد في النسخ الموجودة من كتاب الهدى ما يدل على أن توما قام بتحريفه، ولا يمكننا أن نأخذ زعم الدويهي في التحريف على محمل الجد . إلا أن الدويهي أعاد النظر فيما قاله عندما رأى نسخة هذا الكتاب في مكتبة الفاتيكان وكتب في هامشها بأنه يشك فيما إذا كان توما أسقف كفرطاب هو الذي دس العبارات أم أن المترجم المتروبوليت داؤد، هو الذي فعل ذلك. ثم يُـضيف الدويهي إلى خطأه خطأ آخر بنسبته كتاب الهدى بأجمعه إلى كاتب القرن الحادي عشر النسطوري الشهير أبي الفرج عبدالله بن الطيب (ت 1034). لا بد أنه توصل إلى هذه النتيجة عندما اقتنع بأن اتهامه لتوما بتحريف كتاب الهدى لا سبيل للدفاع عنه. ولهذا السبب قام بحذف الفصل السادس برمته من كتابه تاريخ الطائفة المارونية وكتب فصلاً جديداً عزا فيه كتاب الهدى إلى ابن الطيب . وما زال الفصل الجديد موجوداً في مخطوطة كتاب الدويهي تاريخ في دير سيدة اللويزة في لبنان، إلا أنه مدرج في نسخة أخرى من كتاب تاريخ هذا، قام بنشرها محرر الكتاب رشيد الشرتوني عام 1890

 

يرى الدويهي إن مقترف الشر هو البطريرك الملكي سعيد بن بطريق الذي اعلن بأن يوحنا مارون كان اول من ابتدع عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وانه كما يقول الدويهي ” قد نصب فخاً في درب التاريخ لاصطياد من يسيرون عليه بدون ارشاد ” . ويعتقد الدويهي أن من بين أولئك الذين وقعوا في هذا الفخ هو عبدالله بن الطيب، وهو ماروني الأصل. ويتابع الدويهي قائلاً أن ابن الطيب تخلى عن إيمان آبائه، عندما قرأ تاريخ ابن بطريق وعلم أن الملكيين كانوا يختلفون عن الموارنة حول وحدة مشيئتي المسيح، تماماً كما كانوا يختلفون عن النساطرة حول وحدة شخصي المسيح. وحيث ان ابن الطيب لم يأبه بمنصب الكهنوت الذي تلقاه من كبار كهنة ” الأمة المارونية ” سقط في الفخ الذي نصبه ابن بطريق قبل مائة عام وأيَّد عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية)، وعادى الذين رفضوها. ولهذا السبب فقد نفي من بلده (لا يحدد الدويهي هوية البلد، ولكن لا بد أنه كان يعني لبنان). واثناء وجوده في المنفى أرسل رسائل تحتوي تـفاسير حول عقيدة المشيئتين في المسيح إلى أهالى جبل لبنان آملاً أن يستميلهم إلى رأيه. كما كتب كتاباً سمي بـ الهدى يضم من بين امور اخرى مناظرات بين الملكيين والموارنة تدور خاصة حول المشيئة الواحدة والمشيئتين في المسيح

 

ان ما يقوله الدويهي لا أساس له من الصحة تاريخياً. فالقس أبو الفرج عبدالله بن الطيب كان نسطورياً، لا مارونياً، وكان من أهالي العراق، لا من أهالي لبنان. وكان أمين سر للجاثليق (وهي الرتبة التي تلي رتبة البطريرك) النسطوري يوحنا نازوك وقد توفي في عام 1034، في زمن ايليا (الياس) الذي خلف يوحنا . وبالرغم من أن السمعاني يقول بأن ابن الطيب كان نسطورياً، لكنه يبدو بأنه يعتقد أن ابن الطيب سلَّم نسخة من كتاب الهدى إلى جماعة من الموارنة في لبنان. ثم يُـضيف السمعاني قائلاً أنه لمّا علم هذا الكاتب النسطوري بأن الطائفة المارونية كانت تؤمن بعقيدة المونوثيلية اي المشيئة الواحدة كما فعل النساطرة ظن بأن معتقَدي الجماعتين كان نفسه فيما يخصّ التجسد ، لذا ارسل هذا الكتاب إليهم (15). ومع أن قول السمعاني هو مجرد تكهن، إلا أنه مهم جداً لأنه يتضمن اعتراف هذا العلاّمة الماروني بأن الموارنة كانوا مونوثيليين. وهذا ما يـناقض ادعاء القلاعي والدويهي بأن توما أسقف كفرطاب كان أول ماروني نادى بعقيدة المشيئة الواحدة. ومهما يكن من امر فإن قول السمعاني لا يترك مجالاً للشك بأن كاتباً آخر وهو ابن الطيب، الذي سبق توما أسقف كفرطاب بحوالي خمسين عاماً، اعلن بأن الموارنة كانوا مونوثيليين

 

والذي يثير الحيرة هو كيف توصل اسطفان الدويهي إلى النتيجة بأن ابن الطيب كان مارونياً وبأنه كتب كتاب الهدى، وأرسله إلى موارنة لبنان ؟ الظاهر ان ما خدع الدويهي هو تـفسيرٌ الإناجيل لابن الطيب الذي على الاغلب قام بتحريفه كاتب ماروني لكي يلائم العقيدة المارونية في المشيئة الواحدة (المونوثيلية). ومازالت هناك نسخة كبيرة من هذا التـفسير المحَّرف موجودة في مخطوطة الفاتيكان السريانية 405 كانت ملكاً للمدرسة المارونية في روما قبل أن تصبح ملكاً لمكتبة الفاتيكان. لا بد أن الدويهي قد قرأ هذه النسخة وظنَّ أن مؤلفها، ابن الطيب، كان مارونياً بسبب الشهادات العديدة التي قدمها ابن الطيب على ما يزعم، للبرهان على مونوثيليته

 

إن تحريف نص هذه المخطوطة واضح في نسخة الفاتيكان بكاملها. يقول ابن الطيب في المقدمة، أنه يجد نفسه، وهو الفقير في المعرفة، وغير المستحق، (نوع من التعبير الشرقي عن التواضع) مدفوعاً بحاجة إلى جمع الشهادات من التـفاسير لكتاب الحياة (الإنجيل) التي كتبها علماء الكنيسة أمثال المفسر البارز ” القديس ثيودور المصيصي ” ويوحنا الذهبي الفم؛ ثم عمد ابن الطيب إلى كتابة هذه الشهادات بالعربية التي كانت سائدة في العراق، وطنه، حيث لم تعد غالبية الناس تـفهم اللغة السريانية. وقد وقع التحريف على قول ابن الطيب هذا لكي يبدو كما لو أن ابن الطيب قد أضاف اسمي القديس كيرلس الاسكندري وديونيسيوس (الذي لا يعرّف ابن الطيب هويتهما) إلى اسمي ثيودور المصيصي والذهبي الفم وأنه كتبه بالعربية لأن العربية كانت سائدة في هذا البلد ولم يعد اللبنانيون يفهمون اللغة السريانية. ربما كانت غاية الشخص الذي قام بهذا التحريف هي أن يقود القارئ إلى الاعتقاد بأن المؤلف كان مارونياً كتب هذا التـفسير للإنجيل في لبنان

 

تظهر عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح في العديد من المواضع في هذا التـفسير للإنجيل، قام بإضافتها المحرف الماروني. مثلاً يقول ابن الطيب تعليقاً على صلاة المسيح في بستان الجثمانية ” يا ابتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس : ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت”. (متى 26: 39 ومرقس 14  36)، ويعلق قائلاً بأن هذه الآية تحتمل دلالات مختلفة. منها أن مشيئة المسيح ومشيئة أبيه ليستا واحدة، ويبدي ملاحظته بأن العديد قد انخدعوا بهذا التفسير. ثم يطرح ابن الطيب ما يعتقد بأنه الحلٌ لهذه النقطة فيقول: لا بد من فهم قول ربنا “ليس كما أريد انا بل كما تريد أنت” بأنه لا يعني ” أريد ” كإنسان بل أن ” مشيئتك ومشيئتي هما واحدة، لأن المسيح في ذلك الحين وضع نفسه بمكان الخليقة بأجمعها وحمل خطاياها ” . ويستطرد ابن الطيب شارحاً بأن حقيقة ان مشيئة المسيح ومشيئة الآب هما واحدة، واضحة من قول المسيح في مواضع أخـرى منها ” أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً ” و ” لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني ” (يوحنا 5: 30). بعبارة أخرى إن ما كان ابن الطيب ينوي مناقشته في هذا السياق هو أن مشيئتي المسيح ومشيئة الآب هم مشيئة واحدة، مما لا يعني ان المسيح له مشيئة واحدة أو مشيئتان. هذا بالضبط ما كان يعنيه ابن الطيب، إلا أن المحرّف الماروني أضاف تـفسيره الخاص وهو، ان ” فحوى هذا هو وجود مشيئة واحدة وفعل إرادي واحد في المسيح ”

 

يقول ابن الطيب، حول تطهير الرب للأبرص (انجيل مرقس 1: 40ـ42) بأنه سيخرس الذين يقسمون أعمال ربنا بعزو بعضها الى مشيئته الإلهية والأخرى الى مشيئته البشرية. ويقول في الرد عليهم: انظروا كيف قال ربنا للأبرص : ” انها مشيئتي فاطهر” مما يدل على أن مشيئته واحدة وفعله الإرادي واحد أيضاً . علاوة على ذلك، يقول ابن الطيب في تعليقه على رفع موسى الحيّة في البرية (يوحنا 3: 14) أن “الشخص الإلهي كان متحداً بالشخص البشري والمشيئة الإلهية متحدة بالطبيعة البشرية” . وفي مواضع أخرى يدحض ابن الطيب أولئك الذين يؤمنون بمشيئتين في المسيح، وهو تفسير وضعه المحرف الماروني لأنه لا وجود له في النسخة الأصلية

 

كما بيَّنا سابقاً، لم يكن ابن الطيب مارونياً ولا مؤلفاً لكتاب الهدى؛ كما أنه لم يسلم هذا الكتاب إلى أهالي جبل لبنان فانه لا يذكر شيئاً عن لبنان أو عن أهاليه في مقدمة تـفسيره للإنجيل. حتى وإن كان ابن الطيب قال بالفعل بأنه كتب تـفسير الإنجيل بالعربية لفائدة أهالي لبنان لأنهم لم يعودوا يفهمون اللغة السريانية، فإن هذا القول يكفي كبرهان على أنه لم يكن نفسه مؤلف كتاب الهدى، الذي كتب في الأصل باللغة السريانية، لا بالعربية وترجمه إلى اللغة العربية أحدهم ويُدعى المتروبوليت داود. وهنا نجد المطران الماروني يوسف دريان يدهش من ادعاء البطريرك اسطفان الدويهي بأن ابن الطيب كتب هذا الكتاب وأرسله إلى شعب لبنان للتحايل عليهم لكي يقبلوا المونوثيلية

 

يناضل المطران يوسف الدبس في إحدى المناقشات في كتابه روح الردود لتبرئة مؤلف كتاب الهدى، وبالتالي تبرئة الموارنة من كونهم مونوثيليين، إلا أن معظم حججه هي تكرار لموقف الدويهي الذي لا يمكن الدفاع عنه . إلا أن الدبس يورد بياناً يدعو الى الارتياع وهو أن المتروبوليت داود روى في كتابه بأنه من الممكن القول بمشيئة واحدة في المسيح بنفس المعنى الكاثوليكي الذي قال به البابا هونوريوس . يستـشهد الدويهي، برهاناً على وجهة النظر هذه، بالقول التالي من كتاب الهدى (مخطوطة الفاتيكان السريانية 133) : ” إن مشيئتي المسيح هاتين إما متحدتان أو منفصلتان. فإن كانتا متحدتين من كل وجهة، فسيتبع ذلك أنهما قد أصبحتا مشيئة واحدة بسبب اتحادهما وهدفهما. وإن كانتا منفصلتين، فسيتبع ذلك أن يشاء الجوهر الإلهي ما لا يشاؤه الجوهر البشري والعكس بالعكس، (وبالنتيجة فان اتحادهما يصبح باطلاً) . تعتبر هذه الفقرة هامة حقاً خاصة عندما يستـشهد بها كاتب كالمطران يوسف الدبس. ومع أن الدبس مخطيء في عزو تأليف الكتاب إلى المتروبوليت داود، فإن هذه الفقرة تضم، وللمرة الأولى، إقرار الدبس بأن الموارنة كانوا مونوثيليين ولكن ” بمعنى كاثوليكي “. كما تظهر أيضاً بأن نظرية اللاهوت المارونية التي ناقشها مؤلف كتاب الهدى كانت نظرية مونوثيلية لا لبس فيه. علاوة على ذلك، فان هذه الفقرة تهدم ادعاء الدبس (وكذلك ادعاء القلاعي والدويهي) بأن توما أسقف كفرطاب كان قد حرَّف كتاب الهدى بإدخال تعابير مونوثيلية بشكل متعمد.

 

يسهب المطران الماروني يوسف دريان اكثر من الدبس في دراسة فرضية قبول المونوثيلية بمعنى كاثوليكي . بيد أن الدبس ودريان ليسا أول مارونيين في العصور الحديثة يقومان بشرح المونوثيلية  ” بمعنى كاثوليكي “. فقد جرت محاولة القيام بذلك في القرن السابع عشر من قِـبَل مرهج نيرون، والذي يستـشهد به كلاً من الدبس ودريان. ففي مقالته عن أصل المارونية يعمد مرهج نيرون إلى شرح المونوثيلية على ضوء الشهادة الواردة آنفاً في كتاب الهدى. يقول نيرون أن الموارنة عندما اعترفوا في بعض الحالات، بمشيئة واحدة في المسيح إنما كانوا يعنون فعلياً أن مشيئتي المسيح كانتا على اتفاق تام ووحدة كاملة لا فيما يتعلق بقدرات المسيح التي يؤمنون بأنهما قدرتان، أي القدرة الإلهية والقدرة البشرية ( ويستـشهد نيرون بكتاب الهدى، وبأن كاتبه هو المتروبوليت داود، باعتباره مصدراً في هذه الحال بينما الأكثر صواباً أن داود هو المترجم لا المؤلف. ثم يستـشهد نيرون بمرجع (لا يحدده بشكل صحيح) يُـشير بدوره إلى الإنجيل للبرهان على “المعنى الكاثوليكي” للمونوثيلية. والإشارة الكتابية هي (انجيل مرقس 7: 24) “: ثم قام من هناك ومضى إلى تخوم صور وصيدا، ودخل بيتاً وهو يريد أن لا يعلم أحدٌ. فلم يقدر أن يختـفي “. يقول نيرون إن الإجابة على السؤال فيما إذا أستطاع المسيح فعل كل شيء، أم لم يستطع ـ في هذه الحال، الاختفاء عن الجموع ـ هي أن المسيح في ناسوته أراد أن يختـفي لكنه لم يستطع. بيد أنه كان قادراً في لاهوته على القيام بكل شيء. ولكن بما ان المسيح لم يشأ، ولكن مع ذلك فعل وشاء، ولكنه لم يقوَ على الفعل، فذلك يعني أنه امتلك بالضرورة مشيئتين تامتين متحدتين دون انفصال أو تـناقض، مع العلم أن طبيعته البشرية خاضعة لطبيعته الإلهية. وهكذا فإن من يعترف بمشيئة واحدة في المسيح فهو يجدّف. من الناحية الأخرى فالذي يفهم، كما يفعل الموارنة، بأن مشيئة المسيح الواحدة هي نتيجة اتحاد مشيئتيه والاتفاق التام بينهما. فالقضية كلها تعود الى الفكرة التي مفادها انه اذا اتفق اثنان على القيام بعمل ما فان مشيئيتهما تصبحان واحدة في اجراء ذلك العمل. مثل هذا القياس لا يعني بأن إحدى المشيئتين تصبح لاغية. بل إن ما يفهم من المشيئة الواحدة هنا هو أن غاية المشيئتين وهدفهما هما واحد وانهما في الوقت نفسه ان طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية تمتلك كل منهما المشيئة الخاصة بهما. ويُـضيف مرهج نيرون بأنه يمكن للمرء أن يستـنتج من هذه الشهادة بأن الذين يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح لا يحاولون اثبات ان في المسيح مشيئة فردية واحدة، بل أن مشيئتيه لا تعملان في معارضة أو مـناقضة احداهما للأخرى: بعبارة أخرى، ان مشيئة المسيح البشرية تخضع كلياً لمشيئته الإلهية وتكمل أوامرها. ويمضي نيرون بقوله إن هذا الشرح للمشيئة الواحدة هو شرح “كاثوليكي” صرف ويتفق مع الشهادة التي تبناها المجمع السادس في جلسته السابعة عشرة

 

تقودنا هذه الرواية إلى الاعتقاد بأن الموارنة كانوا مونوثيليين ولكن في نصاب ” كاثوليكي “. ولكن بينما يحتكم الدبس إلى كتاب الهدى وإلى البابا هونوريوس للبرهان على وجهة نظره، فإن دريان يلجأ إلى توما أسقف كفرطاب للتوضيح بأن مونوثيلية الموارنة تتفق مع المونوثيلية كما فهمها البابا هونوريوس. لا بد من التنبيه اليه هنا أن الكتّاب الموارنة يتهمون توما الكفرطابي بتحريف كتبهم وذلك بإقحام ادلة مونوثيلية فيها

 

يبدو أن المطران دريان يقبل تفسير توما للمونوثيلية ويعتبره متفقاً مع الإيمان “الكاثوليكي”. لذلك تراه يستخرج عدة شواهد من الفصول العشرة لتوما لكي يؤيد رأيه. لا بل يصر بأن تعليم أسقف كفرطاب هو نفس تعليم الموارنة. وان الموارنة لايمتلكون مصدراً آخر يوضح هذا التعليم. يؤمن دريان بأن الإيمان الذي عبَّر عنه أسقف كفرطاب لا يتعارض بحال من الأحوال مع روح تعليم ” الكنيسة الكاثوليكية “، (الكنيسة الكاثوليكية الرومانية) بخصوص هذه المسألة العقائدية. ويصر دريان بأن العقيدة المونوثيلية التي يحتفظ بها الموارنة، لا تتّفق في الجوهر أو في النتيجة مع المعنى ” الحقيقي ” لمونوثيلية القرن السابع التقليدية. ولهذا السبب يقول دريان جازماً ان الموارنة وان كانوا قد دانو بالمونوثيلية كما فسرها توما فليس من الجائز ان يسموا مونوثيليين لأن هذا المصطلح ينطبق فقط على جماعة من المسيحيين عرفوا بتعاليمهم الخاطئة وبمبادئ تتعارض مع إيمان الكنيسة ” الكاثوليكية ” (كنيسة رومـا). ويعلل دريان ذلك بقوله ان هذه الجمـاعة من المسيحيين ظهرت في الربع الأول من القرن السابع وقد أدانها المجمع السادس، وبعد ذلك اختفت تدريجياً ولهذا لا يمكن العثور على أثر لها في الكنائس الخلقيدونية . ولكي يبرهن على النتائج التي توصل إليها استشهد دريان بالكاردينال فرانزلين من القرن التاسع عشر الذي اصر فيما كتبه عن التجسد، بأن البابا هونوريوس كان قد فهم المونوثيلية ” بمعنى كاثوليكي ” ويعلل فرانزلين بأن الذين ينكرون وجود مشيئتين في المسيح ـ المشيئة الإلهية التي تعمل بطريقة سماوية والمشيئة البشرية التي تعمل بطريقة دنيوية ـ أو من ينكرون وجود المشيئة البشرية في المسيح بالقدر الذي تتعارض فيه مع المشيئة الإلهية سيجعلون هاتين المشيئتين مشيئة واحدة في الموافقة والفعل. ويؤكد فرانزلين بأنه من الممكن اعتبار هذا التعليم تعليماً ” كاثوليكياً “، أي موافقاً لتعليم كنيسة روما. ويتابع قائلاً بأن البابا هونوريوس قد فهم هذه المسألة، كما شرحها له سرجيوس بطريرك القسطنطينية في رسالة حول المناظرة الحامية بين قورش الاسكندري وسوفرونيوس مطران أورشليم، بخصوص فيما إذا كانت للرب المسيح مشيئة واحدة وفعلٌ واحد أم مشيئتان وفعلان. يقول فرانزلين إن ما يؤيد رأيه بأن هونوريوس قد فهم المونوثيلية بهذا المعنى هو ما ورد في رسالته إلى سرجيوس. يقول هونويريوس:

نعترف بوجود مشيئة واحدة لربنا يسوع المسيحUnde et unam voluntatem fatemur Domini nostri Jesu Christi)). بما أن طبيعتنا (البشرية) قد استوعبتها الالوهية وانها عارية عن الخطية كانت قبل السقوط. لأن المسيح كما جاء في شكل جسد الخطية فقد رفع خطيئة العالم باتخاذه صورة عبد،. وكما تمَّ الحبل به من الروح القدس فكذلك وُلد أيضاً دون خطيئة من العذراء الطاهرة القديسة والدة الله دون أن يمسها فساد الطبيعة البشرية

 

يشير دريان الى التشابه بين هذه الجملة ومونوثيلية الموارنة كما شرحها توما أسقف كفرطاب. ويؤكد بأن التـشابه كبير جداً بحيث يبدو من الممكن ان أسقف كفرطاب قد استقى هذه الجملة من رسالة هونوريوس إلى سرجيوس. ويرى دريان أن هذا القول لا يتعارض مع الحقيقة وهي أن المجمع السادس اعتبر البابا هونوريوس هرطوقياً. وينافح قائلاً بأن هونوريوس لم يدن بسبب خطأ في تعليمه، بل لأنه تسامح مع القادة المونوثيليين وكتب إليهم دون أن يتحرى خطأهم معطياً إياهم بذلك الفرصة في استعمال رسـالته لخداع المؤمنين دون أن يدرك حقيقة نواياهم

 

إن استعمال رسالة هونوريوس للبرهان على امكانية تفسير المونوثيلية بمعنى ” كاثوليكي ” أمر لا يمكن الدفاع عنه. لأن المونوثيلية تعني بكل وضوح ” مشيئة واحدة ” بغض النظر عن التفاسير المختلفة لنمط اتحاد المشيئتين في المسيح. فقد كان معظم الأنطاكيون القدامى وحتى بولس السميساطي بطريرك أنطاكية (260ـ272) مونوثيليين يعتقدون بأن يسوع المسيح كانت له مشيئة واحدة (mia thelesis) أو كما يقول بولس السميساطي، ” ان اختلاف شخصي المسيح (اي الالهي والانساني) لهما نمط واحد في الاتحاد واتفاق في المشيئة مما يدل على وجود وحدة في الاشياء التي تم اتحادهما ( اي اتحاد طبيعتي المسيح ) . ان الـ Ecthesis الذي اعلنه الإمبراطور هرقل ينص بصراحة بأن نسطور لم يُعلّم أبداً عقيدة المشيئتين . والمصدر الآخر الذي يدل على أن النساطرة كانوا مونوثيليين (من اصحاب المشيئة الواحدة) هو الرسالة الموجهة من البطريرك طيموثاوس النسطوري عام 791 إلى رهبان دير مارون ( بل ان السـمعاني نفسه يعترف بكل تأكيد بأن النسـاطرة كانوا مونوثيليين . يقول مؤرخ اللاهوت الالماني ادولف هارناك في هذا الصدد ان القول بأن ” للطبيعتين المختلفتين والشخصين المختلفين صيغة واحدة في الاتحاد، واتفاق في المشيئة، والذي يدل بوضوح على وجود وحدة في قدرة الاعمال المتحدة معاً على هذا النحو ” يعتبر الركن الأساسي للعقيدة الانطاكية (اي المدرسة الانطاكية) بعد أن تطور ليشكل عقيدة الطبيعتين”.  لقد أظهرنا سابقاً أن سرجيوس بطريرك القسطنطينية، جمع مستلات عديدة من كتابات ديونيسيوس الأريوفاغي والقديس كيرلس الاسكندري وآخرين تبرهن على أنهم علّموا عقيدة القدرة الواحدة في المسيح . إن المسألة برمتها تتعلق بالجدل حول صيغة اتحاد طبيعتي المسيح وفيما إذا كان هذا الاتحاد يشمل أيضاً اتحاد المشيئتين في نفس المسيح. ومن المحتمل ان يكون هذا الجدل قد اصبح اساساً جوهرياً في الخلاف اللاهوتي بين مدرستي أنطاكية والاسكندرية القديمتين حيث كانت لهما آراؤهما الخاصة في اتحاد طبيعتي المسيح ومشيئته . يقول الأنطاكيون من الناحية المنطقية انه طالما كانت طبيعة السيد المسيح البشرية موضوعة في خدمة الطبيعة الإلهية فهي مفعمة كلياً بالمشيئة الإلهية. وهكذا، فإن اصطلاح مدرسة أنطاكية (mia thelesis) فيما يخصّ المسيح حسب قول هارناك ” لم يكن نتاج صيغة مادية ـ سيكولوجية بل صيغة أدبية ” . من الناحية الأخرى فان المدرسة الاسكنرية اعتبرت الله ـ اللوغوس (الكلمة اي السيد المسيح خاضعاً لـ الله ـ الإنسان الذي جعل الطبيعة البشرية طبيعة له مصوراً بذلك اتحاد القدرة باساسها وهو اتحاد  الله ـ الإنسان الذي يفوق الوصف . وهكذا فإن مصطلح كيرلس الاسكندري اي الله الكلمة وهو طبيعة واحدة متجسدة للوغوس الالهي تتطلب أيضاً مشيئة واحدة لنفس اللوغوس اي الله الكلمة

 

يُعتبر الرأيان متفقين بشكل أساسي بأن نتيجة وحدة مشيئتي المسيح هي مشيئة واحدة؛ ولكنهما يختلفان فقط حول صيغة اتحاد مشيئتي المسيح. لذا، فمن غير الجوهري، لا بل من العبث الادعاء بوجود نوعين من المونوثيلية احدهما ” كاثوليكي ” والآخر ” هرطوقي “. ربما يكون البابا هونوريوس اعتقد بأن فهمه للمونوثيلية كان متفقاً مع التعابير المونوثيلية التي استعملها سرجيوس وثيودور الفاراني على اساس أنه لا يمكن ان تكون مشيئة المسيح البشرية التي لا خطيئة فيها مناهضة للمشيئته الإلهية لانه من المحال بعد اتحادهما تمييز الواحدة عن الاخرى . من الممكن أيضاً أن يكون هونوريوس قد فهم المونوثيلية على ضوء صيغة الإيمان الخلقيدونية التي أشار إليها الدبس ودريان على أنها ” المعنى الكاثوليكي ” لها. وهذا ما حاول أن يفعله الاب شارل جوزيف هيفيلي بخصوص عبارة البابا هونوريوس المونوثيلية وهي:

“بناء على ذلك، نؤكد على مشيئة واحدة لربنا يسوع المسيح”. والتي يصفها هيفيلي بأنها ” العبارة التعسة ” ويقر بأنها “مونوثيلية تماماً إن أخذت حرفياً” .

 

وسواء نجح هيفيلي أم لم ينجح في تـفسيره لما رغب في أن تكون الدلالة ” الكاثوليكية ” لقول هونوريوس المونوثيلي، تبقى الحقيقة الصارخة وهي بأن أعضاء المجمع السادس أدانوا هونوريوس كما أدانوا المونوثيلية. وها هو حكمهم :

إضافة إلى ذلك، نحرم وننبذ مبتدعي العقائد الجديدة التي لا موجب لها وواضعيها ونعني ثيودور الذي كان مطران فاران، وسرجيوس الذي كان مطران مدينتنا الملكية هذه ( القسطنطينية ). كما نحرم ايضاً هونوريوس، الذي كان بابا روما القديمة، كواضع لهذه الهرطقة (المونوثيلية) والذي تبناها ووافق عليها وثبتها

 

أصدر الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس، مرسوماً صادق فيه على قرارات هذا المجمع وثبت حرومات هرطقة ثيودور الفاراني وسرجيوس القسطنطيني وهونوريوس بابا روما القديمة وعُلق المرسوم في فناء الكنيسة الكبرى في الجوار من ديسيمبالون Dicymbalon (46).

ولكن ما من أحد وصف بدقة ” هرطقة ” هونوريوس كما فعل البابا لاون الثاني، في رسالته الموجهة إلى الإمبراطور قسطنطين الرابع، بوغوناتس مثبتاً قرارات المجمع السادس. فقد كتب :

كذلك، نحرم مبتدعي الهرطقة الجديدة، أي، ثيودور مطران فاران، وقورش الاسكندري، وسرجيوس، وبيروس، وبولس وبطرس وجميعهم كانوا بطاركة شرعيين لكنيسة القسطنطينية. كما نحرم هونوريوس الذي لم يعطَ مجداً لهذه الكنيسة الرسولية ذات العقيدة المبنية على التقليد الرسولي بل حاول بالأحرى إفساد الإيمان الطاهر بخيانة دنسة كما نحرم أولئك الذين ماتوا على خطئه ونعتبر محاكاتهم والشركاء الذين وقفوا إلى جانبه أو من هم الآن معه أي مكاريوس وهو الأكثر خداعاً لكنيسة أنطاكية، امراً مقيتاً .

أخذ الكاتب الكاثوليكي الاب شارل جوزيف هيفيلي على عاتقه المهمة المؤلمة في محاولة تبرئة البابا هونوريوس من الهرطقة أو على الأقل ليبرهن أن البابا قد أسيء فهمه. إلا أن الحقيقة تبقى قائمة، وهي ان المجمع السادس قرر ان هذا البابا كان هرطوقياً

 

وعلى ضوء قرار المجمع السادس، لا يمكن الدفاع عن المونوثيلية بالمعنى الكاثوليكي كما رغب ذلك المطرانان المارونيان الدبس ودريان وغيرهما. والحقيقة هي ان سائر الكنائس الخلقيدونية، وخاصة كنيسة روما وكنائس الشرق المتحدة بها (بما فيها الكنيسة المارونية) قبلت بالاجماع هذا المجمع أدان المونوثيلية كهرطقة. ولهذا فإن أي تفسير لهذه العقيدة يجترحه الخلقيدونيون هو مسألة أكاديمية بحتة. علاوة على ذلك ليس هناك من دليل على أن الكنيسة المارونية قبلت المجمع السادس على الاقل حتى القرن السادس عشر. من المؤكد أن يوحنا مارون، الذي يعتقد بأنه أول بطريرك ماروني، لم يُـشر إلى المجمع في مؤلفاته؛ لكنه يُـشير فقط إلى المجامع المسكونية الأربعة الأولى (49). فضلاً عن ذلك فان الكتب الطقسية المارونية تضمنت عقيدة المونوثيلية حتى القرن السادس عشر، حينما ” طهرتها ” الارساليات التبشيرية القادمة من كنيسة روما لغرض اعادة الموارنة إلى حظيرتها. ومهما يكن من أمر فان الموارنة المعاصرين الذين اصروا بأن أجدادهم لم يكونوا يوماً من الأيام مونوثيليين مالوا الى الاعتراف بأن أجدادهم كانوا مونوثيليين ولكن ” بمعنى كاثوليكي ”

 

إن ما يؤكد مونوثيلية الموارنة هو كتبهم الطقسية. وفيها نجد ان صلاة الاستغفار (الحسّاية في السريانية)، التي يتلوها الكاهن في بداية الاحتفال بالقداس تتضمن العبارة المونوثيلية التالية : ” المجد للرحيم الذي حلّ في مريم بـِضِعَةٍ وأشرق من رحمها كإنسان بتواضع. وخرج إلى البرية باتحاد لا يوصف لطبيعتيه الحقيقيتين. فهو شخص واحد ومشيئة واحدة يحتفظ بخصائص الطبيعتين دون انقسام ” .

إن الاعتراف بالمشيئة الواحدة للمسيح واضح في هذه الصلاة، إلا أن بعض الموارنة يحاولون شرحها بتعليل عقلي ” كاثوليكي ” كما يظنون. يعلق الأب الماروني بولس ابراهيم على هذه الفقرة بقوله أن ما يعنيه الموارنة بالمشيئة الواحدة في هذا السياق هو الوحدة المعنوية للمشيئتين لانه لم تكن في المسيح مشيئة ” للخطيئة “. ويستـنتج بأن هذا ما عناه هونوريوس بالمشيئة الواحدة في رسالته إلى سرجيوس . هذا على ما يبدو رأي واه. فالواضح إن الصلاة المستـشهد بها أعلاه هي صلاة مونوثيلية بشكل صريح وقد استعملها العديد من الكهنة الموارنة كلما احتـفلوا بالقربان المقدس لتثبيت إيمانهم بأنه لم تكن للمسيح سوى مشيئة واحدة.بل إنها تـناقض رأي المجمع السادس الذي أكَّد على مشيئتين وفعلين طبيعيين الذي يجب أن يفهم منه ان المشيئتين والفعلين كائنتان دون انفصال، او تغيير، او انقسام، او بلبلة . ومنذ ذلك الحين صارت هذه العقيدة الصيغة النهائية التي قبلتها كنيسة روما عام 680 وان أي تعليل عقلي يؤيد عقيدة المشيئة الواحدة يعتبر مناقضاً لهذه الصيغة بل يعوزه اي تبرير عقائدي او كنسي.

والكتاب الطقسي الماروني الآخر الذي يعترف بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح هو طقس رسامة الشمامسة والكهنة والأساقفة. فعندما يقوم المطران برسامة الكاهن يتلو عليه البيان التالي الذي يتضمن اعترافاً بالمشيئة الواحدة في المسيح :

اتحد بالإيمان الحق مع يسوع المسيح الذي اهّلك لهذه الخدمة. إنه إيمان قديسينا وآبائنا الرسل وكذلك الإيمان الذي أكدته المجامع، والقوانين الكنسية التي تحوي تعليمهم الصحيح بأن ربنا وإلهنا يسوع المسيح هو شخص واحد، ابن واحد، مسيح واحد ومشيئة واحدة. لهذا السبب قال، ” ما جئت لأصنع مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. ” حاشا أن تكون للمسيح مشيئتان، وأن يُدعى الثالوث بعد اتحادهما رابوعا هذه الشهادات وغيرها هي برهان حاسم على أن إيمان الكنيسة المارونية لم يكن مطابقاً لإيمان كنيسة روما، وخاصة بعد أن أدان المجمع السادس المونوثيلية.

 

اعترفت بمونوثيلية الموارنة كذلك جمهرةٌ من الكتّاب غير الموارنة من اللاهوتيين ومؤرخي الكنيسة من طوائف مختلفة. وربما كانت كتابات جرمانوس الأول بطريرك القسطنطينية (715ـ729 أو 733) هي اقدم ما كتب عن هذا الموضوع. يقول جرمانوس أن الموارنة، على غرار العديد من الهراطقة الآخرين، رفضوا المجمعين الخامس والسادس لكنهم قبلوا المجمع الرابع اي مجمع  خلقيدونية. ويُـشير إلى جدالهم حول هذه النقطة مع ” اليعاقبة “، الذين اعتبروا الموارنة عديمي المنطق لانهم قبلوا المجمع الرابع ولكنهم رفضوا المجمعين الخامس والسادس. وبعد أن روى بأنه كان للموارنة دير في سورية، يستطرد جرمانوس بأن غالبية الموارنة (ويعني رهبان دير مارون) لم يرفضوا بشكل بات المجمعين الخامس والسادس فقط بل رفضوا أيضاً مجمع خلقيدونية وهو المجمع الرابع. ولكنه لا يعلل هذا الرفض بل يستـنتج بأنه من البديهي ان الذين يقبلون المجمع الرابع لا بد أن يقبلوا بالضرورة المجمع السادس لكونه يثبت اجراءات المجمع الرابع. إن شهادة جرمانوس هذه ذات أهمية بالغة خاصة وانها صادرة من رئيس كنيسة القسطنطينية التي كانت قد قبلت مجمع خلقيدونية. ولكن لسوء الحظ، لا يقدم جرمانوس معلومات حول الأسباب أو الظروف التي حدت بالموارنة إلى رفض مجمع خلقيدونية. إن النتيجة الوحيدة التي يسعنا التوصل إليها على ضوء هذه الشهادة هي أن العديد من الرهبان الموارنة الذين أكرههم الإمبراطور هرقل على قبول مجمع خلقيدونية نبذوا هذا المجمع عندما حررهم موت هرقل من الخوف من الاضطهاد. والأكثر من ذلك نجد ان هذه الشهادة تتفق تماماً مع كتابات بطريرك أنطاكية السرياني ديونيسيوس التلمحري، حول هرقل والرهبان الموارنة والتي أدت إلى النتيجة أن هؤلاء الرهبان لم يكونوا خلقيدونيين بل كانوا سرياناً أرثوذكس ـ مونوفيزيين اي من اصحاب عقيدة الطبيعة الواحدة قبل النصف الأول من القرن السابع. فانه ليس من المعقول ان يقول جرمانوس بأن عدداً كبيراً من الموارنة تبرأوا من المجمع الرابع اي مجمع خلقيدونية لو لم تكن لديه معرفة بقيامهم بذلك في زمنه

 

هناك شهادة أخرى عظيمة الأهمية حول الموضوع وهي شهادة يوحنا الدمشقي (ت 749)، وهو أشهر لاهوتي خلقيدوني وأحد قديسي الكنيسة الملكية الذائعي الصيت. كان القديس يوحنا الدمشقي من أهالي سورية وعلى دراية تامة بالطوائف الكنسية المختلفة في زمنه؛ لذا فإن معرفته بإيمان الموارنة أمر لا يقبل الجدل. يذكر يوحنا الدمشقي في مؤلفاته الغزيرة الموارنة مرتين فيما يتعلق بإيمانهم. ففي مؤلفه De Recta Sententia يصفهم بأنهم مونوثيليين. وبعد أن يقسم بالثالوث المقدس بأنه يتمسك بالإيمان الصحيح يتابع قائلاً، “لن أقبل قط أي إيمان مخالف لما أوردته أو ارتبط به مع اي شخص لا يعترف بهذا الإيمان، خاصة الموارنة” . ان إشارة يوحنا الدمشقي هذه إلى الموارنة هي في معرض كتابته عن التقديسات الثلاث، وخاصة عبارة يا من صُلبت لأجلنا، ارحمنا. التي ينسبها هو وكتّاب آخرون خطأ إلى بطرس القصّار، بطريرك أنطاكية. والمهم هنا هو معرفة موقف يوحنا الدمشقي حول هذه الفقرة المضافة الى التقديسات الثلاث. ففي الوقت الذي يُعلن بعض آباء الكنيسة الخلقيدونيين، وخاصة البطريرك أفرام الآمدي، بأن بمقدورهم قبول هذه الإضافة إلى التقديسات الثلاث إن كان المراد بها الشخص الثاني من الثالوث ـ المسيح ـ فإن يوحنا الدمشقي يرفضها رفضاً باتاً. فتراه يصر على ان الذين يستعملون التقديسات الثلاث مع إضافة يا من صُلبت لأجلنا، ينسبون، الصلب، في رأيه، إلى الثالوث بأجمعه. وبما أن الموارنة كانوا من بين أولئك الذين استعملوا الإضافة، فقد اعتبرهم يوحنا الدمشقي مبتدعين ( ويؤكد يوحنا الدمشقي رأيه حول التقديسات الثلاث في رسالة موجهة إلى الأرشمندريت جردانوس قائلاً بأن بطرس القصّار لم يخشَ أن يقصر ترنيمة التقديسات الثلاث كما يقصر ثوباً قذراً؛ فإن كانت هذه الترنيمة المقدسة تخصّ الابن وحده، فسيزول بذلك كل شك ” ونصبح مُمَورَنين (اي نصبح كالموارنة) وذلك بعزو الصلب الى الثالوث بأكمله. حاشـا لله أن نكـرر هذه التقديسات الثلاث بشفاهنا. عسى أن يرحمنا الله وينجينا من هذا الموت، لأن الموت هو في هذه الكأس ”

 

يبدو هنا أن يوحنا الدمشقي ابتكر عبارة ” نمورن ” عند الإشارة إلى كون الموارنة ينسبون الصلب إلى الثالوث بأجمعه مما اثار استياء المطران الماروني يوسف الدبس. وقد حاول الدبس أن يوضح بأن ليس هناك من شيء في مؤلفات يوحنا الدمشقي يَصِم الموارنة بالهراطقة. ويقول بحماس بأن يوحنا الدمشقي لم يبتكر عبارة : نمورن ” بل استعمل بالأحرى كلمة ” Baronizmen ” (يهذون كالسكارى) لوصف الذين يوجهون عبارة يا من صُلبت لأجلنا، إلى الشخص الثاني من الثالوث اي المسيح. كما يصر الدبس بأن الموارنة في زمن يوحنا الدمشقي كانوا يدعون ” بالمتمردين أو المردة ” لا بالموارنة، وبأن ميخائيل لكويان، الذي قام بتحرير De Recta Sententia، قد خدعته عبارة يوحنا الدمشقي “خاصة الموارنة”. ويرتأي الدبس ان هذه العبارة غير صحيحة ولا تظهر في المخطوطة الأصلية من مؤلف الدمشقي De Recta. وأخيراً يؤكد الدبس أنه من الممكن استعمال التقديسات الثلاث مع العبارة المضافة وهي يا من صُلبت لأجلنا بمعنى كاثوليكي. كما يدّعي أيضاً أن لكويان برّر الموارنة في كتاباته من أية ” هرطقة ” .

إن النقد الذي وجهه المطران يوسف الدبس إلى يوحنا الدمشقي غير مقنع. صحيح أن يوحنا الدمشقي لم يُـشر مباشرة إلى الموارنة على أنهم هراطقة، إلا أنه كلاهوتي خلقيدوني كان يعتبر العبارة المضافة الى التقديسات الثلاث هرطقة فهو يلمح ضمناً بأن الموارنة الذين رتلوا التقديسات الثلاث مع هذه العبارة ، يعتبرون هراطقة. والمراد قوله هنا هو أنه ما من كنيسة خلقيدونية، ومن ضمنها كنيسة روما، رتلت يوماً التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة. بل ان مجمع ترولان المنعقد عام 692 في قانونه الحادي والثمانين نهى عن إضافة عبارة يا من صُلبت لأجلنا إلى التقديسات الثلاث . وهذا ما أيده العلاّمة السمعاني نفسه الذي اسهب في الحديث عن قرارات هذا المجمع . يُعتبر إذاً تبرير التقديسات الثلاث، بما فيها عبارة يا من صُلبت لأجلنا، بمعنى ” كاثوليكي ” تبريراً واهياً. فان هذه العبارة إما أن تكون أرثوذكسية أو بدعة. والذي تجب ملاحظته هو انه في الوقت الذي اعتبرتها الكنائس الخلقيدونية، ما عدا الموارنة، هرطقة، فان الكنائس المناوئة للخلقيدونية كالكنائس السريانية والقبطية والأثيوبية والأرمنية اعتبرتها جزءاً أساسياً من إيمانها الأرثوذكسي. والاكثر من ذلك لا يمكن تبرير اتهام المطران الدبس ميخائيل لكويان بالدس المزعوم لكلمات، ” خاصة الموارنة ” في مؤلف يوحنا الدمشقي De Recta Sententia بحجة أن هذه الكلمات لم تكن موجودة في النسخة الأصلية منه. والذي فات المطران الدبس ان ميخائيل لكويان دافع دائماً عن ” كاثوليكية ” الموارنة وأتبع في الكثير من الجوانب آراء كتّاب موارنة. إلا أنه اورد بخصوص التقديسات الثلاث، ما اعتقد بأنه الحقيقة عن الموارنة . بل لا يوجد دليل بأنه قام بتحريف نص يوحنا الدمشقي. علاوة على ذلك، ليس من سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن لكويان قد انتهك الحقيقة التاريخية بقوله بأن الموارنة كانوا مونوثيليين. بل ان موضوعيته حول هذه النقطة واضحة سيما وأنه لم يغفل أبداً، في طبعته لمؤلفات يوحنا الدمشقي، الاستـشهاد بآراء كتّاب موارنة، وخاصة آراء مرهج فاوستوس نيرون، الذي يشهد على مونوثيلية الموارنة. كما يعلل لكويان أيضاً أصل الموارنة بانهم كانوا “مونوفيزيين اي يعاقبة” قبل أن يصبحوا مونوثيليين فيقول: ” كان أهالي لبنان ينحدرون من أولئك المونوثيليين الفينيقيين، الذين لم يكونوا في السابق فقط متصلبين بعقيدتهم التي حددها مجمع خلقيدونية بل اعتـنقوا ايضاً العبارة المضافة الى التقديسات الثلاث اي (يا من صُلبت لأجلنا) التي صاغها بطرس القصّار، إلا أنهم على الأقل، كمونوثيليين، هجروا المونوفيزية ”

 

لا يوضح لكويان فقط بأن الموارنة كانوا مونوثيليين بل يوحي بالسبب الذي دعاهم لأن يصبحوا مونوثيليين فيما يخص موقفهم من مجمع خلقيدونية. فهو يُـشير في هذا السياق إلى رهبان دير مارون الذين كانوا السوابق للطائفة المارونية. ويمكننا أن نستخلص من قوله هذا بأن لكويان يُـشير إلى الفترة الممتدة من مجمع خلقيدونية عام 451 وحتى النصف الأول من القرن السابع عندما أصبح الموارنة الأوائل ـ رهبان دير مارون ـ مونوثيليين عندما فرض الإمبراطور هرقل المونوثيلية. يُعتبر البيان واضحاً وباتاً خاصة بأن هؤلاء الرهبان الموارنة كانوا مونوفيزيين، وبالرغم من الظن بأن الجدل المحتم حول صيغة اتحاد طبيعتي المسيح قد تمَّ حله عن طريق مجمع خلقيدونية، إلا أن  رهبان دير مارون أبدوا تصلباً في قبول قرارات المجمع. وان هذا التصلب ادى بالنتيجة الى غضب هؤلاء الرهبان المونوفيزيين (اصحاب الطبيعة الواحدة) ورفضهم مجمع خلقيدونية وتعريفه للإيمان على غرار غالبية الكنيسة في سورية. وباعتبارهم مونوفيزيين من اصحاب الطبيعة الواحدة فقد فهم كانوا يتلون ترنيمة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا ، والتي يعتقد لكويان خطأ بأن بطرس القصّار بطريرك أنطاكية اضافها الى التقديسات الثلاث في الجزء الأخير من القرن الخامس. وقد ظل هؤلاء الرهبان مونوفيزيين يتمسكون بصيغة عقيدة القديس كيرلس وهي الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي حتى بداية القرن السابع، عندما أصبحوا مونوثيليين ولكن بالصيغة الخلقيدونية للإيمان والتي فرضها عليهم الإمبراطور هرقل. وبالرغم من قبولهم هذا الايمان مكرهين على ما يبدو فانهم ظلوا أوفياء لإيمانهم المونوفيزي الأصلي، الذي أبقوا عليه سليماً في كتبهم الطقسية. اي ان عقيدتهم الجديدة بالمونوثيلية (مشيئة واحدة في المسيح) لم تفصلهم فصلاً كبيراً عن معظم المونوفيزيين الأرثوذكس في سورية؛ بل ان نقطة الانفصال كانت هي قبولهم الظاهري لمجمع خلقيدونية الذي فرضته السلطة الإمبراطورية. وبعد قبولهم قرارات مجمع خلقيدونية والمونوثيلية كعقيدة، اصبحوا جماعةً دينية متميزة في القرن الثامن

 

إن ما يضفي كبير الأهمية على شهادة لكويان هو تعاطفه مع الموارنة. فهو واحد من أوائل الكتّاب الكاثوليك الغربيين الرومان في العصور الحديثة الذي دافع عن ” كاثوليكية ” العقيدة التي حددها مجمع خلقدونية بكونها فصل الختام في ” الأرثودكسية “. ومع ذلك فهو يقرُّ بأن الموارنة كانوا مونوفيزيين وأنهم تحدوا مجمع خلقيدونية. إن اقرار لكويان هذا لا يؤيد الموقف الذي تمسك به الموارنة منذ القرن السادس عشر، وهو أن الموارنة قد دافعوا بحماس عن مجمع خلقيدونية وعن صيغته في الإيمان منذ القرن الخامس فصاعداً. كما أنه يتـناقض أيضاً مع الزعم القائل بأن سويريوس، بطريرك أنطاكية المونوفيزي وأسقفه بطرس الأفامي نصبوا كميناً لثلاثمائة وخمسين راهبٍ وقتلوهم. لأنه لو كان هؤلاء الرهبان الموارنة في الحقيقة خلقيدونيين مستميتين فقدوا ثلاثمائة وخمسين منهم من أجل إيمانهم الخلقيدوني وانهم دخلوا في جدال مع المونوفيزيين فيما يخص العقائد في نهاية القرن السادس في أنطاكية، لكان من العبث للكويان وغيره من الكتّاب الكاثوليك كالمطران أقليميس يوسف داود اعتبارهم مونوفيزيين أو “يعاقبة”

 

بينما يُـشير القديس يوحنا الدمشقي إشارة عابرة إلى مونوثيلية الموارنة، فإن شخصيات كنسية أخرى قريبة العهد من زمنه (مثل، البطاركة النساطرة صليبا زخا (ت 728) وطيموثاوس (ت 823)، أكدت بشكل قاطع على المونوثيلية المارونية. ففي القرن الثامن، نقل الجثالقة النساطرة، الذين دعوا أنفسهم آنذاك “بطاركة “، كرسيهم إلى بغداد (التي شيدت عام 762) عاصمة الدولة العباسية ومركز السلطة السياسية للخلفاء. ونال الأطباء والبطاركة النساطرة حظوة كبيرة في بلاط الخلفاء؛ وهذا ما صح بشكل خاص بالنسبة لطيموثاوس، الذي كان الخليفة هارون الرشيد يخاطبه ” بأبي النصارى ” . لا بد أن الموارنة، الذين كانوا ما يزالون جماعة صغيرة في ذلك الحين، قد علموا عن النساطرة في العراق والمكانة التي كان بطاركتهم يتمتعون بها في البلاط العباسي. وربما اعتقدوا أن وضع أنفسهم تحت سلطة البطريرك النسطوري، الذي كانت الدولة العباسية تسانده، سوف يؤمن لهم الحماية من اضطهاد الملكيين، الذين كانوا يحاولون إرغامهم على الانضمام إلى كنيستهم. ولا بد أنهم علموا أيضاً، أن النساطرة كانوا مونوثيليين مثلهم يعترفون بمشيئة واحدة في المسيح ( ولا بد أن هذا ما حث قادة الكنيسة المارونية على كتابة رسالة إلى صليبا زخا لشرح إيمانهم والتعبير عن رغبتهم في الانضمام إلى كنيسته. ومما يؤسف له حقاً أن الرسائل المتبادلة بين الموارنة وصليبا زخا مفقودة. هناك فقط إشارة إليها في رسالة موجهة من البطريرك طيموثاوس إلى الموارنة، وهي موجودة لحسن الحظ بكاملها. ان الكاتب النسطوري عبديشوع الصوباوي والذي يُـشير إلى العديد من الرسائل المجمعية وغيرها التي كتبها طيموثاوس، لا يذكر شيئاً عنها طالما أنه لم تتوفر نسخة منها في زمنه في الفاتيكان أو في أوروبا. غير ان المطران أقليميس يوسف داود يذكر بأنه حصل على مجموعة من المخطوطات السريانية والعربية من الشرق عام 1869 فأخذها معه إلى روما لإيداعها في مكتبة (مجمع انتشار الإيمان) . وكانت إحدى هذه المخطوطات تضم رسالة طيمثاوس إلى الموارنة. هذه الرسالة موجهة إلى رهبان القديس مارون، ويقول طيموثاوس بأنها كُتبت في السنة الثالثة عشرة من عهد بطريركيته، أي في عام 791. وتُعتبر هذه الرسالة مرجعاً هاماً حول المونوثيلية ومسائل أخرى تتعلق بإيمان الموارنة

 

يستهل طيموثاوس رسالته بتحية تعيد إلى الذهن تحيات القديس بولس في رسائله. ويسمي من يخاطبهم ” أعضاء جسد ربنا يسوع المسيح، الأخوة النسّاك الأتقياء الذين يعيشون تحت سدة القديس مارون ـ مع تحيات طيمثاوس العبد الوضيع للإله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يخدم بنعمة الله الكرسي البطريركي في مدينة الملك (ويعني بها بغداد مدينة الخليفة) ” . ثم ينصرف إلى النقاط التي أثارها الموارنة في رسالتهم إليه. فيثني على إيمانهم معبراً عن فرحه بلجوئهم إليه للاتحاد مع كنيسته، ويلمح إلى اتصالهم السابق بسلفه صليبا زخا. ويمضي في شرح إيمان الكنيسة النسطورية لكي يروا فيما إذا كان موافقا لإيمانهم. ويسهب طيموثااوس في الكتابة عن الثالوث المقدس، والتجسد وطبيعتي المسيح، مبيناً أن الاعتراف بطبيعتين منفصلتين في المسيح يستدعي الاعتراف بشخصين أو مسيحين ـ الواحد منهما مولود من الآب، والآخر مولود من مريم. لهذا السبب اسهب في شرح تعبير (والدة الله) Theotokos محاججاً بأن مريم يجب ألا تُدعى بحاملة الله أو والدة الله .  كانت هذه، بالطبع، العقيدة التي آمن بها نسطور، بطريرك القسطنطينية، والتي أدانه بسببها مجمع أفسس (431). إن النقطة الأساسية في رسالة طيموثاوس هي إيمان كنيسته بالمشيئة الواحدة في المسيح حيث يقول: ” إن نتيجة اتحاد شخصي المسيح هي مشيئة واحدة، قوة واحدة، قدرة واحدة وخاصية واحدة. فنحن إذاً لا نقسم ابن الله إلى مشيئتين، وقدرتين أو خاصيتين كما يفعل بعض الأشرار من الناس. حاشا، لان أي امرئ يفعل ذلك يجب ان يلقى في قصور الهراطقة، ويكسى يالأرجوان ويصبح مهملاً ”

 

إن ما عناه طيمووثاوس ” بقصور الهراطقة ” هو قصور الأباطرة البيزنطيين، وخاصة الإمبراطور قسطنطين الرابع بوغوناتس، الذي حرم المجمع السادس (680) في عهده عقيدة المشيئة الواحدة وثبت عقيدة المشيئتين والقدرتين في المسيح

 

بعد ذلك ينتقل طيموثاوس إلى التقديسات الثلاث، فينبه الرهبان الموارنة بأنه لا يمكن لهذه الترنيمة أن تُرتل مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا، حتى وإن كانت موجهة إلى ابن الله. ويناشدهم التخلي عن استعمال ” هذه العبارة التجديفية ”  في ديرهم؛ ولكن يبدو بأنه يرغب في المصادقة على استعمالها إذا تمَّ تغيير صيغتها لتكون على الشكل التالي : “قدوس أنت الله، قدوس أنت القوي، يا من تجسدت وصُلبت من أجلنا، قدوس أنت أيها السرمدي ارحمنا “. ويعلل طيموثاوس قوله هذا أنه من الممكن ان تحتل عبارة، يا من صُلبت لأجلنا بهذه الصيغة فقط مكاناً في التقديسات الثلاث. وبعد التأكيد بأن كنيسته قد حفظت الإيمان دون فساد منذ العهود الرسولية، يطمن طيموثاوس الرهبان الموارنة قائلاً ” لا يوجد شيء يستطيع ان يمنعنا أيها الأخوة الأحباء من أن نصبح كنيسة واحدة في المسيح ربنا ” . ويستمر في تملق الرهبان الموارنة للانضمام إلى كنيسته موضحاً بأن العديد من الناس (بما فيهم ثلاث عشرة كنيسة في نجران في الجزيرة العربية) قد فعلوا ذلك، وأن الأتراك وقادتهم قد تمت هدايتهم إلى المسيحية وأصبحوا خاضعين لسلطته الكنسية . ويختتم رسالته بعرض شروط انضمامهم إلى كنيسته. ومن بين المسائل العقائدية التي يتوقع من أفراد دير مارون أن يعترفوا بها قبل قبولهم في طائفته هي كما يلي : عليهم الاعتراف بطبيعتين وشخصين في المسيح؛ وأن يسموا سيدتنا العذراء والدة المسيح، لا والدة الله؛ وانهم يجب ان يتخلوا عن عبارة يا من صُلبت لأجلنا في التقديسات الثلاث. وأخيراً، يتوقع طيموثاوس من الرهبان الموارنة قبول تعاليم ثيودور المصيصي وديودورس ونسطور ونبذ كيرلس ” الهرطوقي ”

 

إن مونوثيلية الرهبان الموارنة تبدو مفهومة ضمناً لا علناً في رسالة طيموثاوس. يمكن ملاحظة ذلك في نقاشه لعقيدة الطبيعتين والمشيئتين في المسيح وفي وصمه الذين يتمسكون بهذه العقيدة بأنهم هراطقة. وما تجب ملاحظته هنا ايضاً هو انه لو كان الرهبان الموارنة من المتمسكين بهذه العقيدة لما وصم طيموثاوس، على الأقل من باب اللياقة، أناساً يرغبون في الانضمام إلى كنيسته بالهراطقة. كما ان طيموثاوس وهو العالم بالأمورالكنسية كان يعرف مسبقاً بأن رهبان دير مارون كانوا مونوثيليين كما كان هو، ولهذا السبب لم يدعهم للاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح قبل أن يتأهلوا للانضمام إلى حظيرته في الإيمان. وهكذا لم يتم إدراج هذه العقيدة كشرط من الشروط الموضوعة لغرض اتحادهم بكنيسته. إلا أن النقطة الحاسمة في الأمر هي أنه إذا كان هؤلاء الرهبان، كما يدّعي كتّاب موارنة معاصرون، مدافعين عن إيمان مجمع خلقيدونية وكانوا قد ضحوا بالعديد من الأرواح من أجل هذا الإيمان فلِـمَ يفكروا بالسعي وراء الوحدة مع الكنيسة النسطورية التي كان مجمع أفسس (431) قد أدان عقيدتها، ومع نسطور الذي سميت الكنيسة باسمه (وهو الذي أدانه في مجمع خلقيدونية صديقه الحميم ثيودوريطس القورشي الذي لم تختلف وجهات نظره اللاهوتية عن وجهات نظر نسطور). من الصعب قبول اعتراض المطران الماروني يوسف الدبس بأن طيمثاوس كان يعني فقط رهبان دير مارون لا سائر الموارنة، وبأنه لم يدعُ الرهبان إلى الاعتراف بمشيئة واحدة في المسيح لأن النساطرة لم يشددو في عقيدتهم على مشيئة واحدة في المسيح  أو مشيئتين بل على طبيعتين وشخصين في المسيح . من الغريب ومن غير المنطقي أن يعمد الدبس، الذي اصرّ على أن الرهبان الذين تبعوا الناسك مارون كانوا منافحين عن الإيمان ” الكاثوليكي ” وأن الذين قبلوا تعاليمهم كانوا يدعون موارنة، إلى فصل الرهبان عن بقية الموارنة في اعتراضه على رسالة طيموثاوس. أما بالنسبة للاعتراض الثاني، قد يكون صحيحاً أن النساطرة لم يشددوا كثيراً على عقيدة المشيئة الواحدة، إلا أنها كانت جزءاً أساسياً من إيمانهم. هذا ما تدل عليه رسالة كتبها طيموثاوس نفسه إلى أحد الكهنة واسمه سرجيوس، دافع فيها عن عقيدة المشيئة الواحدة والقدرة الواحدة في المسيح وناقشها بالتـفصيل

 

يرى الكاتب االكاثوليكي الافرنسي الأب ف. نو أن رسالة طيمثاوس لم تكن موجهة إلى الرهبان الموارنة في سورية بل إلى قبيلة تحمل اسماً مشابهاً عاشت في بلاد فارس. يقيم نو نظريته على تعبير مارونيا (Maronia) الذي ناقشه السمعاني في المجلد الثالث من مكتبته الشرقية. حيث بيّن السمعاني بأن مارونيا (Maronia) كان اسم قبيلة تتمسك بالإيمان النسطوري وقد عاش أفرادها في مدينة مرو في مقاطعة خراسان في بلاد فارس. ولكنه لا يعتبر مارونيا نفس شعبة الموارنة في سورية ولبنان. ان الأب نو، الذي ينافح عن موقف الموارنة وعن وجود ارتباط دائم بينهم وبين كنيسة روما يجد في هذه الكلمة حجة مقنعة تهدم اصالة المراسلة بين طيموثاوس والموارنة. فهو يسهب في الحديث عن مارونيا مبيناً بأنها مشابهة تماماً في الشكل للكلمة السريانية مارونايي (الموارنة باللهجة السريانية الشرقية)، ويستـنتج بأن الشبه الكبير بين المصطلحين قد أدى بالبعض إلى الاعتقاد بأن البطريرك طيموثاوس كان قد وجه الرسالة قيد البحث إلى موارنة لبنان، بينما في الحقيقة انه وجهها إلى قبيلة نسطورية تحمل اسماً مشابهاً كانت تعيش في بلاد فارس. ويتابع نو قائلاً بأنه كانت هناك مدينة ذكرها المؤرخ سترابو قرب الخليج الفارسي تُدعى “مارون”، كان سكانها شبه بدو رحل. وبينما يحدد السمعاني مقر سكناهم بأنه في مرو. فان الاب نو يدعي بأن رسالة طيموثاوس كانت موجهة إلى رهبان من هذه القبيلة. ولكي يبرهن نو على صحة رأيه يقول بأن هذه الرسالة بالذات، وبحسب ترتيب رسائل طيمثاوس، تقع في الموضع بين رسالة طيموثاوس إلى الراهب سرجيوس في عيلام، إلى الجنوب الغربي من بلاد فارس، ورسالته الموجهة إلى رهبان القديس جبرئيل قرب الموصل في بلاد ما بين النهرين (العراق). ويستطرد الاب نو قائلاً أن هذا البطريرك كتب ما لا يقل عن تسع وخمسين رسالة، وانه لا توجد واحدة منها موجهة إلى الرهبان في سورية، لأنه طيموثاوس لم تكن له صلة بهم. علاوة على ذلك، فإن رسالة طيموثاوس موجهة ” إلى الرهبان الذين يعيشون تحت مظلة  Canopy مارون” وليس فيها ما يدل في هذا السياق بانها قد ارسلت إلى رهبان دير مارون. بل يذهب نو اكثر من ذلك بقوله بان مصـطلح ” مظلة ” (Canopy) في هذا الخصوص لا يدل على دير، فما بالك إن اعتبر بأنه يُـشير إلى دير مارون. ويخلص نو الى النتيجة بان هؤلاء الرهبان لم يكونوا غير الرهبان المذكورين آنفاً، وكانوا يعيشون في خيام في بلاد فارس وأنهم كانوا أتباعاً لرجل يُدعى مارون بل من المحتمل أن يكونوا قد عاشوا في مدينة مارون قرب الخليج الفارسي أو في مكان يُدعى مرو في بلاد ما بين النهرين

 

ان نظرية نو وحجته لا يمكن الدفاع عنها من الناحية التاريخية. إذ تراه يغفل حقيقة أن هذه القبيلة الفارسية التي تحمل اسماً مشابهاً لاسم الموارنة كانت على الإيمان النسطوري (ويعترف هو والسمعاني قبله بذلك). وكانت هذه القبيلة على اتصال مع البطريرك طيموثاوس وخاضعة لسلطته الكنسية. وبالنتيجة لم يكن طيموثاوس بحاجة إلى كتابة رسالة يدعوهم فيها إلى الانضمام إلى كنيسته. بل من العبث أن يشرح طيموثاوس للرهبان الفرس معتقدات إيمان كنيسته في الوقت الذي كانت لهم معرفة جيدة بها. ان لغة رسالة طيموثاوس وسياقها يدلان بكل وضوح أنه كان يخاطب رهباناً لم تكن لهم علاقة بكنيسته، ويتمنى لو أنهم انضموا إلى حظيرته في الإيمان. ويُـشير طيموثاوس في نفس الرسالة إلى الرسالة التي كان رهبان مارون قد بعثوها إلى سلفه، صليبا زخا، ويعبر عن فرحه برغبتهم في الاتحاد بكنيسته. ولو اننا تتبعنا مناقشة نو حتى نهايتها المنطقية لوجدنا أنفسنا مجبرين على التسليم بأن صليبا زكا كان يخاطب الرهبان في بلاد فارس لا في سورية. وهناك مسألة اخرى وهي ان الاب نو فهم مصطلح ” مظلة ” في رسالة طيموثاوس حرفياً؛ بالرغم من ان طيموثاوس لم يكن يعني بالتأكيد باستعماله مصطلح ” مظلة ” كخيمة أو دير بل كان يعني ” المظلة الروحية لإيمان مارون “. او كان يعني بالأحرى أن هؤلاء الرهبان كانوا يعيشون في مجتمع من الأخوة في دير مارون. إن إسناد نو نقاشه برمته على الفرق البسيط بين مصطلحات متماثلة، يضعف هذا النقاش الى درجة يتعذر فيها الدفاع عنه

 

وختاماً رأينا حتى الآن ان مونوثيلية الموارنة قد استندت على بيّنات داخلية وخارجية معاً. ولكن هناك بيّنات اخرى حول مونوثيلية الموارنة ذات صلة كبيرة بعلاقة الموارنة بكنيسة روما ستتم مناقشتها في الفصل التالي


  21 علاقة الموارنة بكنيسة روما

يعتقد الكتّاب الموارنة وكذلك بعض الكتّاب الكاثوليك بأن الكنيسة المارونية كانت متحدة مع كنيسة روما منذ العهود القديمة. يقول كاتب معاصر هو الأب ج. س. قنواتي بأن ” الكنيسة المارونية ظلت متحدة مع روما منذ تأسيسها في القرنين الخامس والسادس ” . هذا الادعاء لا صحة له من الناحية التاريخية، لأن الكنيسة المارونية في هذين القرنين لم تكن قد ظهرت الى الوجود ولم تكن هناك علاقة كنسية بين الموارنة كطائفة دينية، أو حتى بين رهبان دير مارون في سورية الجنوبية وبين كنيسة روما. اما الرسالة المزعومة التي وجهها رهبان سورية الجنوبية، ومنهم بعض الرهبان من دير مارون إلى البابا هرمزدا، كما تمَّ تبيانه سابقاً، فهي عرضة للانتقاد إلى حد كبير، بل تعتبر زائفة في رأي مؤلف هذا الكتاب. فالحقيقة التاريخية تدل على أن الموارنة لم يصبحوا على اتصال لأول مرة مع شخصيات من كنيسة روما في الشرق حتى الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر

 

أول من أشار إلى هذا الاتصال هو وليم الصوري. وُلد وليم، على الأرجح من أصل افرنجي أو جرماني، في أورشليم عام 1130 ودرس في أوروبا. وفي عام 1167، عندما رسم أرخدياقوناً للكنيسة اللاتينية في صور، كان الجزء الأكبر من سورية وفلسطين في أيدي الافرنج او الصليبيين. وفي عام 1174 رسم ايمري أو ايمريك، بطريرك أنطاكية اللاتيني، وليم مطراناً على كنيسة صور اللاتينية بموافقة الملك الافرنجي بولدوين الرابع. عاش وليم فترة في أنطاكية واكتسب معرفة وافية بأحوال سورية في عهد الصليبيين. ويعتبر التاريخ الذي كتبه عن الصليبيين في سورية في القرن الثاني عشر سجلاً تاريخياً مهماً لتلك الفترة.

يُـشير وليم الصوري إلى الموارنة في شهادة مطولة في سياقين. ويصفهم بأنهم جزء من الأمة السريانية وأنهم كانوا مونوثيليون ( يدينون بعقيدة المشيئة الواحدة في المسيح ) منذ خمسمائة عام، وأنهم نبذوا هذه الهرطقة بفضل العناية الإلهية وذلك بالاعتراف بالإيمان الصحيح بحضور ايمري وبإظهار استعدادهم لقبول تعليم كنيسة روما. ويستطرد وليم الصوري قائلاً بأن عدد هؤلاء الموارنة كان قرابة أربعين ألفاً وأنهم كانوا قوماً اشداء قدموا خدمة جلى ” لنا فيما يتعلق بمصالحنا العديدة والهامة مع أعدائنا. ولهذا السبب غمر الفرح شعبنا (الصليبيين اللاتين) عندما عاد هؤلاء الموارنة إلى الإيمان  الصحيح ” . اي إيمان كنيسة روما

 

قام كتّاب موارنة، كالبطريرك الدويهي وبعض كتّاب غربيين أيضاً بتوجيه النقد الى وليم الصوري لأنه نسب المونوثيلية إلى الموارنة. يدعي هؤلاء الكتّاب بأن وليم الصوري، في عزوه الهرطقة المونوثيلية إلى يوحنا مارون أو إلى الموارنة قد انتحل رواية سعيد بن بطريق المغلوطة والمنطوية على مفارقة تاريخية . ومن هؤلاء الكاتب روبرت و. كروفورد، الذي اراد ان يظهر ان وليم الصوري كان على خطأ في عزو المونوثيلية إلى الموارنة أو إلى مؤسسهم. لكنه بدأ بالفرضية المغلوطة وهي أن وليم الصوري هو المرجع الرئيسي للكتّاب الغربيين الذين جاءوا بعدئذ. كما انتهي كروفورد بالنتيجة الخاطئة وهي ان وليم الصوري طالما عزا المونوثيلية الى الموارنة استناداً الى كتابات سعيد ابن البطريق فان مارون الهرطوقي المونوثيلي الذي ذكره وليم الصوري لم يكن سوى أحد الرهبان النساطرة من الرها واسمه يوحنا مارون وهو غير يوحنا مارون الذي يعتقد الموارنة بأنه أول بطريرك لهم، والذي توفي عام 707 . هنا يبدو تهافت كروفورد وغيره من الكتّاب حول هذه المسألة. لأنه حتى اذا افترضنا أن وليم الصوري قد إنتحل ما كتبه ابن بطريق عن يوحنا مارون، فمن الثابت بأنه لم ينتحل إشارته إلى الموارنة بأنهم مونوثيليون عن ابن بطريق، لأن هناك اختلافاً شديداً بين روايته ورواية ابن بطريق حول هذه النقطة. فمن الامور المسلم بها ان وليم الصوري، وهو كاهن وكاتب، قضى معظم حياته في سورية وقام بالترحال هناك، قد حصل على بعض المعرفة عن إيمان الموارنة. ومن المؤكد أيضاً بأن وليم الصوري ما كان ليسمي الموارنة مونوثيليين لو أنهم لم يكونوا كذلك في الزمن الذي عاش فيه وهو القرن الثاني عشر. اضف الى ذلك ان وليم الصوري عندما قال بأنه يمكن معرفة هرطقة يوحنا مارون، التي هي عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح، وتلامذته من قرارات المجمع السادس الذي انعقد ضدهم وأدانهم، فقد كان يعني بالتأكيد المونوثيليين بصورة عامة الذين تبنى الموارنة عقيدتهم، لا يوحنا مارون شخصياً أو الموارنة كجماعة معينة. ولكن لسوء الحظ أساء الكتّاب الموارنة فهم هذا القول كما أساء فهمه كروفورد، الذي وصل إلى النتيجة وهي أن المجمع السادس لم يُـعقد ضد الموارنة وبأنه لا توجد دلالة على أن ذلك المجمع ادانهم. والحقيقة هي ان المجمع قد ادان المونوثيلية. ومن المنطقي أن الذين تمسكوا بهذه العقيدة ومنهم الموارنة قد أدينوا ايضاً لتبنيهم هذه العقيدة. وسواء أنقل وليم الصوري عن سعيد ابن بطريق أم لا، تبقى الحقيقة قائمة وهي أن الموارنة كانوا مونوثيليين كما أوضحنا سابقاً. ولسوء الحظ، لم يكن في متناول يد كروفورد مصادر سريانية وعربية أصلية، ولهذا كانت فرضيته خاطئة والنتيجته التي توصل اليها خاطئة مثلها

 

يقول وليم الصوري بأن الموارنة وبطريركهم وعدد من المطارنة قدموا خضوعهم للكنيسة الكاثوليكية بوساطة البطريرك اللاتيني ايمريك. وليس من الصعب تعليل هذا الخضوع. فإن الموارنة، على غرار الأقليات المسيحية الأخرى، عانوا من الإرهاق والاضطهاد أولاً من الفاطميين في مصر، الذين احتلوا سورية، وبعدئذ من الأتراك السلاجقة الذين طردوا الفاطميين من سورية عام 1071، بعد أن هزم ألب أرسلان الجيش البيزنطي في مالازكرد (مانزيكرت). وعندما جاء الصليبيون إلى سورية، واحتلوا مدنها الرئيسية ووصلوا إلى عرقا قرب طرابلس في لبنان في ربيع عام 1099، خرج الموارنة للترحيب بهم اذ وجدوا في هؤلاء الذين يدينون بمثل دينهم حليفاً كانـوا يأملون أن يزيح نير المضطهدين عن رقابهم . من الممكن ايضاً ان يكون الدافع الاساسي الذي حدا بالموارنة لتقديم خضوعهم لكنيسة روما هو املهم في الاحتماء بالصليبيين. لكن اعترافهم بإيمان مجمع خلقيدونية لم يكن دافعاً قوياً لخضوعهم، لأن الموارنة، كما يبلغنا وليم الصوري، كانوا هراطقةً

 

جرى أول اتصال للموارنة مع الصليبيين في عام 1099. ولكنهم كما يقول وليم الصوري لم يقدموا خضوعهم لكنيسة روما حتى عام  1182. ومن سوء الحظ، لا يقدم وليم الصوري من المعلومات إلا اشارة عامة بأن الموارنة وبطريركهم وبعض أساقفتهم اعلنوا ولاءهم لكنيسة روما. كما أنه لا يعطي معلومات تتعلق بهوية هذا البطريرك أو الدوافع التي حدت بالموارنة إلى تقديم مثل هذا الولاء أو الظروف التي دفعتهم إلى القيام بذلك. بل اننا لا نملك في الواقع دليلاً أو وثيقة بشكل رسالة أو مرسوم بابوي، يؤيد فكرة خضوع الموارنة لكرسي روما. بيد أننا نعلم من رسالة وجهها المطران جبرائيل القلاعي إلى البطريرك الماروني شمعون (سمعان) الحدثي عام 1494، يقول فيها أن خضوع الموارنة لباباوات روما يرجع إلى عام 1100. ويستمر القلاعي قائلاً بأنه عندما وصل الصليبيون إلى المنطقة المجاورة لطرابلس أرسل البطريرك الماروني يوسف الجرجسي، عند سماعه بنبأ وصولهم، وفداً إلى روما طالباً من الحبر الروماني تـثبيته بطريركاً. وتدّعي الرسالة انضمام وفود أخرى أرسلها غودفري، ملك أورشليم اللاتيني إلى الوفد الماروني، ربما لدعم التماس البطريرك للتثبيت. ونتيجة لذلك أرسل البابا باسكال الثاني في عام  1100 تـثبيته للبطريرك الماروني وأنعم عليه بعكاز وتاج . ليس لما يدعيه القلاعي هذا أساس من الصحة تاريخياً. لأننا نكتشف عند قراءة رسالته بأنه لم يبيّن بأن البطريرك الجرجسي تلقى تثبيتاً من البابا، بل كل ما هنالك انه طلب التثبيت من البابا وحسب. وليس هناك من دليل بأن البابا باسكال الثاني تلقى يوماً طلباً كهذا من هذا البطريرك الماروني أو أنه ثبته في منصبه كبطريرك

 

ان القلاعي يناقض نفسه في الرسالة ذاتها الموجهة إلى البطريرك شمعون الحدثي عندما يخبر البطريرك بأن خمس عشرة رسالة مودعة في أرشيف البطريركية المارونية تـشهد على إيمان الموارنة القدماء. ويؤكد القلاعي بأن هذه الرسائل كانت قد حفظت على مدى مئتين واثنين وثمانين عاماً خلت. إن ما يريد القلاعي إثباته هو أن إيمان الموارنة قد تمَّ البرهان عليه في رسائل باباوات سابقين، قبل مئتين واثنين وثمانين عاماً من الزمن الذي كتب فيه رسالته إلى البطريرك سمعان الحدثي عام 1494. هذا ما يحدد التاريخ بعام 1212، اي قبل سنة واحدة من زيارة البطريرك ارميا العمشيتي لروما لتقديم خضوعه للبابا . وتوضحه بجلاء رسالة البابا بولس الثاني إلى البطريرك الماروني بطرس الحدثي في آب عام 1469، والتي استـشهد بها القلاعي نفسه. يبيّن بولس في هذه الرسالة بأن أول حبر روماني منح تثبيتاً لبطاركة موارنة تمَّ انتخابهم حديثاً هو البابا اينوسنت الثالث (1198-1216) في القرن الثالث عشر. لكنه لا يذكر البابا باسكال الثاني . كما أن لدينا أيضاً شهادة البطريرك الماروني ميخائيل الرزي، الذي اعلن عام 1578 أنه إذا جرى انتخاب بطريركٍ ماروني جديد فلا بد له من أن يطلب مباشرة من الحبر الأقدس تـثبيته كما جرت العادة عند ” أسلافنا منذ أيام ارميا ” . هذا ما يؤيده أيضاً البطريرك اسطفان الدويهي، الذي يبيّن بأن الكنيسة المارونية كانت ذات صلة وثقى بكنيسة روما منذ زمن البطريرك ارميا العمشيتي في بداية القرن الثالث عشر

 

ليس هناك من دليل على قيام أي من الباباوات كاينوسنت الثالث بإنشاء علاقات مع الكنيسة المارونية وجماعتها لغرض اجتذابهم الى حظيرة الكثلكة. ولكنه عندما أصبح اينوسنت الثالث بابا عام 1198 حاول إجراء العديد من الإصلاحات في الكنيسة آملاً ان تمتد سلطة كنيسة روما إلى كنائس الشرق، ومنها الكنيسة المارونية . من الواضح أن الكنيسة المارونية كانت أول هدف للبابا لأنها كانت قد قامت ببعض التلميحات للاعتراف بسلطة كنيسة روما منذ عام 1099. وتفيدنا رسالة البابا اينوسنت الثالث، المؤرخة في 1 شباط عام 1216 بأنه كان على معرفة بأن الموارنة كانوا قد توقفوا عن الاعتراف بسيادة روما، وانهم مازالوا مقيمين على إيمانهم المونوثيلي ويدينون بعقائد أخرى مخالفة للعقائد التي تعترف بها كنيسة روما . لذا، أرسل البابا الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مرسيلوس لتحري إيمانهم وإعادة تـثبيت ولائهم القديم لروما. لا ندري متى وصل الكاردينال بطرس إلى لبنان، ولكن لا بد أن يكون ذلك قد حصل في عامي 1203ـ1204 أو قبلهما اي قبل سنوات من مغادرة البطريرك العمشيتي إلى روما. وكما جاء في الرسالة التي بعث بها اينوسنت الثالث إلى هذا البطريرك، أن الكاردينال بطرس وصل إلى طرابلس واستقبله البطريرك الماروني ارميا العمشيتي وعدة أساقفة وكهنة وشمامسة وحشد من العلمانيين الذين أخذوا على أنفسهم عهداً بالولاء لكنيسة روما وللبابا اينوسنت الثالث وخلفائه من الباباوات. كما لفت الكاردينال نظرهم إلى أمور عديدة في إيمانهم لا تتفق مع ايمان كنيسة روما وطلب منهم تصحيحها . ان هذه الزيارة التي قام بها الوفد البابوي، إلى جانب دعوة اينوسنت الموجهة الى العمشيتي لحضور مجمع لاتران في نيسان 1213 كانت أحد الأسباب التي حثت هذا البطريرك الماروني على زيارة روما وتقديم الولاء شخصياً للبابا. اما الحجة التي أوردها القلاعي ونقلها مرهج نيرون وهي أن سبب هذه الزيارة كان انتقال البطريرك الماروني لوقا البنهراني (1300 ؟) وجماعة من الموارنة إلى المونوفيزية (اي اليعاقبة)، فانها تنطوي على مفارقة تاريخية ( لأن الدويهي ينوه، بحق، بأن حادثة البنهراني هذه لا يمكن أن تكون قد حصلت في زمن البطريرك العمشيتي بسبب الاختلاف في الزمن بين هذين البطريركين . ومن الواضح ان القلاعي قد خلط، على ما يبدو، بين ارميا العمشيتي وبطريرك آخر، هو ارميا الدملصاوي (1272ـ1297) الذي يُقال أيضاً بأنه زار روما وقدم الولاء للبابا

 

غادر ارميا العمشيتي لبنان عند تلقيه دعوة البابا في نيسان  1213 لحضور مجمع لاتران ووصل إلى روما في نفس العام. مثل أمام البابا وانحنى أمامه، طالباً بتواضع كبير البركة له ولشعبه. وطمأنه البابا وأنعم عليه بالعديد من الامتيازات الكنسية . حضر البطريرك مجمع لاتران الذي انعقد في تـشرين الثاني عام 1215، إلا أنه لا يوجود دليل بأنه شارك في مداولاته. وقبل انفضاض المجمع غادر العمشيتي روما في كانون الثاني عام 1216، ووصل إلى طرابلس في آذار من نفس العام. كان برفقته الكاردينال وليم، الموفد البابوي الذي أرسله البابا لإعادة اختبار إيمان الموارنة وولائهم لكنيسة روما. وحسبما يقول القلاعي، فقد قام باستقبال البطريرك والكاردينال في طرابلس نائب البطريرك المطران ثيودور ومطارنة آخرون وكهنة وحشد من الناس. وبعد أن نقل البطريرك إليهم بركات البابا عرض المنشور البابوي الذي كان قد تسلمه وسأل الناس فيما إذا كانوا على استعداد لقبول ما جاء فيه. أجاب الحاضرون ومن بينهم مئتان وخمسون من الموارنة العلمانيين بصوت واحد، ” مستعدون، مستعدون، هذا هو إيماننا الذي نموت من أجله “. وعندما شرح المترجم الذي كان بصحبة الكاردينال هذه الاحداث، أمر الكاردينال بأن يؤتى بالإنجيل والأسرار المقدسة وطلب من الحاضرين القسم عليها بالولاء لكنيسة روما. وعندما جيء بها أقسم الناس في حضرة الكاردينال على وحدتهم مع كنيسة روما وطاعتهم لها ولأحبارها. وبعد أداء القسم قدم الكاردينال إلى البطريرك الخاتم والباليوم ( درع التثبيت ) اللذين أنعم بهما البابا عليه. كما تعهد الناس بأن يقوم كل بطريرك جديد يجري انتخابه بالتوجه شخصياً إلى روما أو إرسال مبعوث نيابةً عنه للحصول على تـثبيت منصبه من البابا

 

تعتبر الرسالة التي وجهها البابا اينوسنت الثالث إلى البطريرك ارميا العمشيتي بعد مغادرته روما بنفس الأهمية التي كانت لرحلة البطريرك إلى روما. ولا ندري السبب الذي دعا البابا إلى كتابه الرسالة ولكن يستفاد من مضمونها ان البابا ربما اراد ان يجلب انتباه البطريرك الى العقائد المناوئة التي كان الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس (وهو موفد البابا) قد اكتشف وجودها في تعاليم الكنيسة المارونية، وإرشاده مع كهنته لأتباع قوانين وتقاليد كنيسة روما. تعتبر هذه الرسالة، وهي الأولى التي وجهها حبر روماني إلى بطريرك ماروني، ذات أهمية كبرى في إظهار علاقة كنيسة روما مع الكنيسة المارونية بحيث تستحق إيضاحاً كاملاً. إنها وثيقة هامة تلقي الضوء أيضاً على إيمان الموارنة وموقف كنيسة روما منهم. وقد قام بتوقيع الرسالة البابا واثنا عشر كاردينالاً وخمسة أساقفة

 

أول ما يلفت النظر في الرسالة هو أن البابا اينوسنت الثالث يخاطب ارميا كبطريرك أو ككبير أساقفة حيث يقول: ” من اينوسنت، خادم خدام الله، إلى الأخوة المبجلين ارميا البطريرك أو الحبر وكبار الكهنة والأساقفة والإكليروس والوجهاء والشعب الماروني ” ( لم يكن في نية البابا عند ذكره لقبي بطريرك أو حبر، الاعتراف بارميا أكثر من كونه رئيس أساقفة. إذ أن تعبير الحبر الذي يستعمله مساو لتعبير مفريان، وهي رتبة كنسية أقل من رتبة البطريرك. علاوة على ذلك، لم يخاطب البابا ارميا بأنه بطريرك أنطاكية وهو دحض لزعم البطريرك الماروني بولس مسعد (ت 1890) الذي يدّعي بأن البطريرك الماروني هو ” البطريرك الوحيد الحقيقي لأنطاكية ” . سوف نرى بعدئذ أن لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي يضيفه البطاركة الموارنة إلى أسمائهم لا تدعمه القوانين أو التقاليد الكنسـية. والمهم هنا هو ان البابا اينوسنت الثالث يقرّ بأن الموارنة، رغماً عن ولائهم الماضي لكنيسة روما، مازالوا مونوثيليين يتمسكون بعقيدة مخالفة لعقيدة كنيسة روما، وأنهم قد ضلوا عن الإيمان الصحيح (بمعنى إيمان كنيسة روما) ولكنهم عادوا إلى الطريق الصحيح بفضل العناية الإلهية. يقول البابا :

إذ أنكم كنتم سابقاً كخراف تائهة، لا تـفهمون بشكل صحيح أنه لم يكن للمسيح سوى عروس واحدة وحمامة مقدسة واحدة أي الكنيسة الكاثوليكية، وأن المسيح هو الراعي الحقيقي الوحيد ، ومن بعده وبواسطته صار بطرس رسوله ونائبه الذي كان الرب قد كلفه ثلاث مرات برعي خرافه وان ايمان بطرس هذا وايمان الاحبار الرومان خلفائه لا يمكن ان يفشل لان الرب كان قد وعد بأنه سيثبت أخوته في إيمانهم

 

لا يترك البابا مجالاً للشك بأن الموارنة كانوا على خطأ في اعتناق المونوثيلية وان حكمه هذا يبدو اكثر وضوحاً عندما يمضي في اعلام البطريرك بأن الموارنة اهتدوا إلى الراعي الحقيقي عندما كان الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس في ديار ارميا العمشيتي، معترفين بالبابا بأنه الحبر الأعظم في الكنيسة الجامعة (اي الكنائس المسيحية قاطبة) ونائب يسوع المسيح. كما يُعلن أيضاً بأن البطريرك مع عدد من مطارنته وكهنته والعلمانيين من شعبه اقسموا، في حضرة الكاردينال بطرس، على الطاعة لكنيسة روما وللبابا وخلفائه. كما يعلم البابا البطريرك ايضاً بالأخطاء والشوائب التي وجدها الكاردينال في إيمانهم ويأمرهم من الآن فصاعداً بالتمسك بإيمان كنيسة روما. يؤكد البابا بأن الكاردينال أمرهم بالإقرار بأن :

الروح القدس ينبثـق من الابن كما ينبثـق من الآب، وبأن عليهم أن يقوموا بالعماد باسم الثالوث القدوس، مرة واحدة فقط، لا ثلاث مرات، وبأن للمطارنة وحدهم الحق بإعطاء التثبيت، وبأن عليكم، عند تحضير الميرون المقدس ألا تضيفوا مواداً أخرى سوى البلسم وزيت الزيتون… وأن تؤمنوا بمشيئتين في المسيح ـ مشيئة إلهية ومشيئة بشرية .

وأخيراً منح البابا البطريرك الباليوم (درع التثبيت) لا بشكل مباشر، بل بتفويض بطريرك أنطاكية اللاتيني الذي انعم به عليه

ليس من شك بأن كنيسة روما في القرن الثالث عشر، عندما كُتبت هذه الرسالة، اعتبرت الكنيسة المارونية ” هرطوقية مونوثيلية ” وأنها اهتدت إلى الكثلكة بفضل العناية الإلهية. وان عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح فقط ليست وحدها التي فصلت الكنيسة المارونية عن كنيسة روما بل العديد من العقائد والتقاليد التي أوردها البابا في رسالته. ولدى التمعن في هذه العقائد والتقاليد نجد انها متّفقة تماماً مع عقائد وتقاليد الكنيسة السريانية الانطاكية الارثودكسية والتي تُدعى اعتباطاً بالكنيسة ” المونوفيزية ” أو ” اليعقوبية “. إذ أن عقيدة المشيئة الواحدة في المسيح وانبثاق الروح القدس من الآب وحده هما العقيدتان الأساسيتان لهذه الكنيسة. كما انه وفقاً لطقس المعمودية لهذه الكنيسة، يغطس الكاهن الذي يقوم بالعماد المعتمد ثلاث مرات بالماء ويتلو في كل مرة قائلاً ” أعمدك باسم الآب، والابن والروح القدس “. لكن البابا اينوسنت الثالث أمر البطريرك الماروني بوجوب تلاوة هذه العبارة مرة واحدة فقط. علاوة على ذلك، فإن كهنة الكنيسة السريانية الانطاكية الارثودكسية لهم الحق في تتثبيت المعتمد بالميرون المقدس وهو أحد الأسرار المقدسة السبعة. وأخيراً، فإن مركب الميرون المقدس في هذه الكنيسة لا يحتوي على مواد سوى البلسم وزيت الزيتون اللذين حددهما البابا. والحقيقة التي لا يمكن انكارها هي ان هذه التقاليد والعقائد تؤيد بأن الكنيسة المارونية، من الناحية التقليدية على الاقل، كانت جزءاً من كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية وأن اعترافها بالإيمان الخلقيدوني كان في الظاهر فقط، ولم يكن تبنياً أصيلاً لذلك الإيمان

 

تمثل رسالة اينوسنت الثالث بداية سياسة روما في تحويل تلك الكنائس الشرقية الى كنائس لاتينية خاضعة لسلطة الأحبار الرومان. وبالإضافة إلى العقائد والتقاليد التي تمَّ ذكرها، أبلغ البابا اينوسنت الثالث البطريرك الماروني بأن موفده الكاردينال بطرس قد أمر الكنيسة المارونية أيضاً بأتباع عوائد لاتينية اخرى كاستعمال الحلل الكهنوتية اللاتينية وإعلان التحريم ثلاث مرات قبل الاحتفال بمراسيم الزواج، واستعمال الخبز الفطير في القربان، والاعتراف مرة واحدة في السنة على الأقل لدى الكاهن وتناول القربان المقدس مرة واحدة في السنة على الأقل، واستبدال الأجراس الخشبية بأجراس من النحاس أو الفولاذ، واستعمال كؤوس فضية بدلاً من الكؤوس النحاسية أو الخشبية، وضم قديسين جدد إلى تقويم الكنيسة، وتبني طقوس المعمودية وغيرها من طقوس كنيسة روما وأخيراً استعمال ليتورجية روما اللاتينية . والخلاصة فان هذه الرسالة تفند مزاعم الموارنة بتمسكهم الدائم بإيمان كنيسة روما.

كانت هذه الرسالة مصدر أسى للموارنة على الدوام ولذلك حاولوا إما إغفال القسم الأعظم منها أو تقديم تعليلات جديدة لنوايا كاتبها. يدّعي البطريرك اسطفان الدويهي بأن سياق الرسالة يدل على ان البابا اينوسنت الثالث كان يقصد توجيهها إلى اليونانيين (البيزنطيين الملكيين) لا إلى الموارنة. ويقول بأن هؤلاء اليونانيين هم الذين قدموا خضوعهم للحبر الروماني بواسطة الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس لأنهم لم يعترفوا بأن الروح القدس ينبثـق من الابن. ويضيف الدويهي بأن البابا تلقى معلومات محرفة لأن الكاردينال لم يكن على معرفة باللغات الشرقية لذا وصف الموارنة خطأً بأنهم مونوثيليون. وأخيراً يجزم الدويهي أن البابا عندما كتب ” كنتم سابقاً كخراف ضالة ” إنما كان يُـشير إلى خضوع موارنة لبنان وأورشليم فقط إلى كنيسة روما، والذي تمّ بواسطة امريك، البطريرك اللاتيني، لا إلى سائر الموارنة. ويصر الدويهي بأن الموارنة لم يسقطوا أبداً في الهرطقة، وأن أولئك الذين يدّعون بأن الموارنة سقطوا فيها أو أنهم أعيدوا إلى الإيمان ” الكاثوليكي ” الحق فهم إنما يكذبون . من الواضح أن الدويهي ينكر أن الموارنة كانوا مونوثيليين ضالين كالخراف وأنهم اهتدوا إلى الكثلكة بفضل العناية الإلهية. لكن نص رسالة اينوسنت ، الذي استـشهد بها باباوات آخرون بعده للبرهان بأن ما قاله عن الموارنة كان صحيحاً، هو دليل كافٍ على صدقه. لم يكن لدى اينوسنت الثالث ما يدعوه إلى تحريف الحقيقة بشأن الموارنة. والاكثر من ذلك من الصعب الاعتقاد بأن الكاردينال بطرس قدم اليه معلومات زائفة. فلو كان قد فعل ذلك، لما ابدى الكاردينال وليم، الذي أرسله البابا اينوسنت إلى الموارنة بصحبة البطريرك العمشيتي مثل هذا الشك الكبير بمعتقدات الموارنة ونواياهم تجاه كنيسة روما

 

رافق الكاردينال وليم مترجمون شرحوا له محاضر اجتماعه بالبطريرك الماروني ومطارنته والكهنه والعلمانيين لأخذ العهد على أنفسهم بالولاء للبابا. ولهذا فانه لم يطلب إحضار الإنجيل والأسرار المقدسة لكي يدعم الموارنة ولائهم بقسم إلهي إلا بعد أن وثق من نوايا الموارنة الطيبة تجاه كنيسة روما. إن من غير اللائق اتهام الكاردينال بطرس والحبر الروماني بالتحريف والكذب . فاننا لا نجد مارونيا قطً يتهم هؤلاء الباباوات بالكذب أو الجهل. بل على النقيض نجد أمين سر البابا اينوسنت الرابع (1353ـ1361) في رسالته الموجهة إلى البطريرك الماروني، يقتطف من رسالة البابا اينوسنت الثالث وينصح البطريرك ومطارنته وكهنته والعلمانيين في كنيسته ” الذين اهتدوا حديثاً إلى الإيمان ” باتباع إرشاداته والعمل بمقتضى معتقدات كنيسة روما . وفي 3 تموز من عام 1526، كتب البابا اقليميس السابع إلى البطريرك الماروني ينصحه من كل قلبه بإبقاء نفسه وشعبه على نقاء الإيمان “الكاثوليكي” والالتزام بخضوعهم لكنيسة روما الذي استمر منذ عهد سلفيه اينوسنت الثالث ويوجين الرابع. كما وجه البابا غريغوريوس الثالث عشر رسالة بنفس الغرض في عام 1577 إلى البطريرك الماروني، يُـشير فيها إلى رسائل الباباوات السابقين بدءاً باينوسنت الثالث

 

ان المعلومات التاريخية حول الكنيسة المارونية وعلاقاتها مع كنيسة روما، منذ وفاة البطريرك ارميا العمشيتي عام 1230 وحتى أواسط القرن الرابع عشر، غير وافية. أما المرجع الرئيسي حول هذه الفترة فهو مديحة كسروان المعروفة عموماً بـ زجلية القلاعي. وبالرغم من مفارقات الاحداث التاريخية التي ترويها الزجلية، فان الكاتب الماروني الأب بولس قـراألي يعتبرها ” صفحة مجيـدة في تـاريخ لبنان والطائفة المارونية “، ويعتبر مؤلفها ” أول مؤرخ ماروني ”

 

يفيدنا القلاعي في هذه الزجلية بأن الشعب الماروني بقي في سلام إلى أن قام راهبان بإزعاجه : أحدهما من دير يانوح، والآخر من دير نبوح. ويمضي في القول بان هذان الراهبان تبرءآ من إيمانهما الكاثوليكي وبدأ بالتبشير بالعقيدة المونوفيزية اي عقيدة الطبيعة الواحدة “اي عقيدة اليعاقبة” بين الموارنة بحيث تبع العديد منهم عقيدتهما. كانت جهود هذين الراهبين فعّالة جداً بحيث كان أحد المهتدين إلى عقيدتهم هو البطريرك الماروني لوقا البنهراني (ت 1300)، من أهالي قرية بنهران. ثم أنضم إليهم فيما بعد العديد من الموارنة، بحيث أصبحت الجماعة المارونية منقسمة إلى فئتين : إحداهما اتبعت البطريرك، والأخرى بقيت على الإيمان الكاثوليكي. ولما سمع البابا بارتداد البطريرك والعديد من الموارنة إلى المونوفيزية أرسل موفداً إلى البطريرك لكي يتخلى عن إيمانه الجديد. لكن البطريرك رفض الاجتماع بالموفد البابوي لأنه كان قد اعترف بإيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية  الذي ينعته الاب قراألي دون مبرر بـ ” الهرطقة اليعقوبية ” . أما الطرف الذي بقي على ولائه للكنيسة المارونية فقد انتخب بطريركاً جديداً، هو ارميا الدملصاوي عام 1282، والذي يخلط القلاعي بينه وبين ارميا العمشيتي. وكان من جراء هذا الانقسام أن عانت الكنيسة المارونية انشقاقاً خطيراً في صفوفها. وفي نفس السنة (1282) غزت لبنان قوات من الجنود التركمان بأمر من الدولة المملوكية في مصر وهاجمت جهات بشري أو أهدن، وهدمت قلعة أهدن. وفي آب من ذلك العام احتلت قرية الحدث وأخذت البطريرك لوقا البنهراني أسيراً . وفي هذا الوقت، على الأرجح، أقنع حاكم جبيل البطريرك الدملصاوي بالسفر إلى روما لطلب الحلٍّة من البابا للشعب الماروني . ولا بد أن يكون الحاكم قد شعر بأن الموارنة ارتكبوا بارتدادهم إلى المونوفيزية (اليعقوبية)، خطيئة تتطلب صفحاً من البابا

 

ليس من الصعب تعليل اهتداء البطريرك لوقا البنهراني والعديد من الموارنة إلى المونوفيزية. ففي القرن السابع بدأ رهبان دير مارون في سورية الذين كانوا قد تبنوا المونوثيلية بتحويل العديد من المونوفيزيين السريان، المؤمنين بطبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي إلى عقيدتهم. كما امتدت المونوثيلية إلى لبنان، حيث شكل المرتدون جماعة مارونية متميزة. وكان ارتداد هؤلاء المونوفيزيين سهلاً لأن المونوثيلية (الإيمان بمشيئة واحدة في المسيح)، على غرار الإيمان بطبيعة واحدة فيه، كانت عقيدة أساسية يؤمن بها هؤلاء المرتدون. فضلاً عن ذلك، لم يشكل الموارنة في لبنان سوى أقلية ضئيلةالى جانب السريان الأرثوذكس، الذين كاانوا يشكلون السواد الأعظم من السكان في لبنان قبل رفضهم لمجمع خلقيدونية 451 وبعده. وهذا ما يدل عليه العدد الكبير من أسقفياتهم وأبرشياتهم وكنائسهم وأديرتهم وعائلاتهم في لبنان. وقد بذل الكاتب السرياني الكاثوليكي الفيكونت فيليب دي طرازي جهداً كبيراً في وصف هذه المؤسسات والتي تدل على عدد المونوفيزيين في لبنان ونفوذهم . وكما يقول الأب هنري لامنس، ان الطائفة المارونية لم تحصل على درجة كبيرة من الأهمية حتى أواسط القرن الخامس عشر في لبنان. فقد كان السواد الأعظم من الموارنة مازالوا يعيشون في مقاطعتي جبيل والبترون في شمال لبنان. لذا، لا يمكن أن يكون جميع هؤلاء المسيحيين الذين لا يحصى عددهم، والذين رآهم لودولف دو سوشيم (استـشهد به لامنس) في مدن لبنان وقراها في القرن الرابع عشر، موارنة . كان عدد كبير من هؤلاء اللبنانيين يعيشون في قرية يانوح، حيث كان الموارنة قد بنوا ديراً سمي باسم العذراء القديسة مريم، وقد اتخذه مقراً البطريرك ارميا العمشيتي وبعده البطريرك شـمعون (سـمعان) الثاني في القرن الثالث عشر . إن دير يانوح هذا هو نفسه الذي يُـشير إليه القلاعي في زجليته، معلناً أن أحد رهبانه بدأ بالتبشير بالمونوفيزية. إلا أنه، يرتكب خطأً فادحاً في ادعائه بأن هذا الراهب وآخرون من نبوح قد بشروا بأنه لم تكن للمسيح روح عاقلة لأن طبيعته الالهية حلّت محل روحه العاقلة . لقد خلط القلاعي، على ما يبدو، بين عقيدة ابوليناريوساللاذقي (ت–390) الذي ادعى بأن المسيح كان دون روح عاقلة لأن طبيعته الالهية حلت محلها، وبين عقيدة كيرلس الاسكندري وهي الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي. لا بد أن العقيدة الأخيرة هي التي تبناها البطريرك لوقا البنهراني، لا عقيدة أبوليناريوس الهرطوقية . واذا تتبعنا قصة القلاعي الى مدى أبعد لأتضح لنا بأن عقيدة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية قد انتشرت في العديد من أرجاء لبنان، وخاصة في شمال البلاد حيث تحولت عدة قرى إلى هذه العقيدة. علاوة على ذلك، ذهب العديد من الرهبان السريان الأرثوذكس للعيش في وادي قاديشا ودير الفراديس قرب قرية بان. وفي عام 1242 كان عدد هؤلاء الرهبان حوالي أربعين راهباً فقط، ولكن  لا بد أنهم كانوا ذوي تأثير في الوعظ بإيمان كنيستهم بحيث أنضم إلى الكنيسة السريانية الارثودكسية في السنوات التالية البطريرك لوقا البنهراني وكثيرون غيره . ويرى الأب قراألي أن لوقا لم يكن أحد المهتدين الموارنة إلى إيمان الكنيسة السريانية بل كان ” على نحو نوح البقوفاوي واحداً من البطاركة السريان اليعاقبة في لبنان ” . ولكن القلاعي على صواب في قوله بأن لوقا البنهراني كان بطريركاً مارونياً، لان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لم يكن لها بطريرك بهذا الاسم

 

رأينا فيما سبق نشوء بعض العلاقة بين الكنيسة المارونية وأحبار كنيسة روما. لكن من الصعب تحديد مدى هذه العلاقة وتأثيرها لأنها اعتمدت إلى حد كبير على موقف بعض الباباوات. كما أن تعامل الباباوات مع الكنيسة المارونية وجماعتها على الأقل حتى نهاية القرن السادس عشر لم يكن تعاملاً متسقاً. وذلك لان معرفة الباباوات بالكنائس الشرقية، وبضمنها الكنيسة المارونية كانت ضئيلة. بل كانت تعتبر هذه الكنائس منفصلة تجب اعادتها إلى كنيسة روما وإخضاعها لسيادة البابا. لهذا السبب نجد البابا اينوسنت الثالث يهيب بالبطريرك الماروني ارميا العمشيتي لاتباع العادات اللاتينية لكنيسة روما. وقد استمرت عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وإخضاعها لسيادة روما طوال القرن الرابع عشر ولا ادلّ على ذلك ما اعلنه لودولف دو سوشيم، الذي زار سورية ولبنان عام 1336، بأنـه رأى مطـارنة لاتين يرسمون مطـارنة للموارنة . ولكن لم يصل الدفاع عن تقاليد الكنيسة المارونية لدى كرسي روما الرسولي ذروته حتى أواسط القرن الخامس عشر عندما حاول الأخ غريفون، الراهب الفرنسيسكاني، إنقاذ المورانة من أن يصبحوا لاتينيين تماماً . سنشرح فعّاليات غريفون في الفصل التالي

 

بالرغم من العلاقة القائمة بين الكنيسة المارونية وكنيسة روما ومساعي هذه الاخيرة في صيرورة الكنيسة المارونية لاتينية فقد احتفظت الكنيسة المارونية بإيمانها الأصلي بالمونوثيلية. كما احتفظت بمبادئ أخرى في الإيمان والطقوس كانت نفس إيمان وطقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، كانبثاق الروح القدس من الآب، تلاوة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا، وإجراء المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس مرات ثلاث بدلاً من واحدة، وتبجيل قديسي الكنيسة السريانية. ولا نجد في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة المارونية ما ما يدل بأن كنيسة روما قد حصلت على أي شيء من هذه الكنيسة سوى اعتراف الموارنة بسيادة البابا. في الواقع، ليس هناك من دليل بأن كرسي روما الرسولي قد أنعم على البطريرك الماروني بأي امتياز ينفرد فيه عن بطاركة آخرين في الشرق الذين قبلوا سيادة روما. وعندما زار ارميا العمشيتي روما لتقديم آيات الطاعة اعتبره البابا اينوسنت الثالث مفرياناً فقط يلي البطريرك في المرتبة. بل ان البطريرك الماروني لم يتخذ ولم يمتلك الحق في اتخاذ لقب ” بطريرك أنطاكية “. إلا أن البابا اسكندر الرابع أنعم في عام 1268 بلقب ” بطريرك أنطاكية ” على البطريرك الماروني شمعون الثاني مكافأة له على خدماته في تقديم الملجأ للرعايا اللاتين الذين نجوا من دمار الحرب من جراء غزوات السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (1223ـ1277) على سورية، والذي دحر الصليبيين والمغول في عين جالوت (نبع جوليات) قرب الناصرة . والحقيقة هي ان البابا اسكندر لم ينعم على البطريرك الماروني بأكثر من لقب شرف مكافأة له على مساعدته

 

أدى سقوط سورية بيد بيبرس وبداية طرد الصليبيين منها إلى بتر العلاقات تقريباً بين كنيسة روما والموارنة. ولم تبدأ كنيسة روما بإعادة إحياء فعالياتها بين الكنائس الشرقية حتى النصف الأول من القرن الخامس عشر بواسطة جهود الرهبان الفرنسيسكان وهذه المرة بعزم شديد لارجاعها إلى أحضان الكنيسة الرومانية. لا بد أن ضعف الكنيسة والدولة البيزنطيتين والخطر العثماني الدائم قد حث البابا يوجين الرابع (1431ـ1447) والإمبراطور البيزنطي يوحنا الثامن (1425ـ1448) على التفكير معاً بقيام اتحاد بين كنيستي روما والقسطنطينية. ولا بد أن الأحداث السياسية التي جرت في البلقان، وخاصة احتلال السلطان العثماني مراد الثاني لسالونيك في أيار من عام 1430 قد أقلقت البابا إذ أنه طلب اجتماعاً عاجلاً بالامبراطور يوحنا الثامن. استجاب يوحنا الثامن لهذا الطلب فانعقد مجمع في فيرارا إيطاليا، في آذار من عام 1438 إلا انه اضطر الى الانتقال إلى فلورنسا في 10 كانون الثاني 1439 بسبب انتـشار الطاعون في فيرارا. وبعد عدة أشهر من المداولات حول نقاط رئيسية أربع ـ وهي انبثاق الروح القدس واستعمال الخبز الفطير في القربان المقدس والعذاب في المطهر وسيادة البابا ـ أعلن المجمع اتحاد كنيستي روما والقسطنطينية في 6 تموز 1439 . وحث انعقاد المجمع في فلورنسا البطريرك الماروني يوحنا الجاجي ( ت 1445 ) على تعيين الأخ جوان من رهبنة الفرنسيسكان الصغار، والذي كان قد أتمَّ خدمته في الشرق وكان على وشك المغادرة إلى أوروبا، كموفد إلى البابا. كانت مهمة جوان الحصول من الحبر الروماني على باليوم البطريرك وتثبيته كبطريرك للكنيسة المارونية. كما حمل جوان ايضاً رسائل إلى البابا من البطريرك ومن وجهاء موارنة اخذوا على عاتقهم العهد بالولاء للبابا والرغبة في الموافقة على أية قرارات يتخذها مجمع فلورنسا. وحسبما يقول القلاعي، عاد الأخ الفرنسيسكاني جوان إلى لبنان يحمل تاجاً ورسالة من البابا تثبت يوحنا الجاجي ” بطريركاً على أنطاكية ” . وعندما وصل الأخ جوان إلى طرابلس في تشرين الأول من عام 1439، خرج العديد من الموارنة للترحيب به. غير أن الحشود المرحبة أثارت ريبة المسلمين، الذين اعتقدوا بأن أهالي لبنان المسيحيين تواطؤوا مع اليونانيين واللاتين لاسترداد سورية من سلطان مصر المملوكي. ولذلك ألقت السلطات الإسلامية القبض على الأخ جوان ورفاقه وزجت بهم في السجن، لكنهم أطلقوا بكفالة بمساعي بعض الموارنة من ذوي النفوذ. وبعد اطلاق سراحه زار الأخ جوان البطريرك وقلده الباليوم الذي أرسله البابا ثم توجه إلى بيروت، حيث اختفى. وقد أثار اختفاؤه واختفاء رفاقه حنق حاكم طرابلس الذي أرسل رجاله في الحال للقبض على الذين أطلقوا سراح السجناء بكفالة. وعندما أخفقوا في العثور عليهم، أحرقوا بيوتهم وقتلوا العديد من الناس، من ضمنهم بعض رهبان كانوا في خدمة البطريرك، وساقوا آخرين مقيدين بالسلاسل إلى طرابلس. وفي تلك الآونة غادر البطريرك مقر إقامته في دير ميفوق ليقيم في دير قنوبين في وادي قاديشا في جبة بشري تحت حماية المقدم (حاكم) يعقوب البشراّني

 

بعد اختفاء الأخ جوان، بدأ البطريرك الماروني يوحنا الجاجي بالبحث عن رسول آخر يوفده إلى البابا للإشعار باستلام رسالته، والتعبير عن امتـنانه لتثبيته كبطريرك والإعلان مجدداً عن طاعته لسلطة البابا. وبعد البحث وجد البطريرك فرنسيسكانياً آخر، هو الأخ بيتر (بطرس) دي فيرارا أوفده إلى البابا مع رسالة في آب عام 1440 كرر فيها الإعراب عن طاعته وقبوله لقرار مجمع فلورنسا. كما أبلغ البطريرك البابا بما عاناه هو وشعبه من عذاب وإهانة من خصومهم عندما تلقى التثبيت الذي كان البابا قد أرسله مع الأخ جوان. وقد أكَّد للبابا بأنه سيسعى هو وشعبه لطاعته وطاعة كنيسة روما حتى وإن أدى ذلك إلى إراقة دمائهم. وأخيراً، استعطف البطريرك البابا لكي يرسل أناساً علماء إلى شعبه لتعليمهم الإيمان الصحيح، ويعني بذلك إيمان كنيسة روما. أجاب البابا في رسالة مؤرخة في 12 كانون الأول 1441 مؤكداً للبطريرك ثـقته بولاء الموارنة للكرسي الروماني. كما ابلغه بأنه قد أوفد الأخ بطرس دي فيرارا وفرنسيسكاني آخر، هو أنطونيوس دي ترويا، لشرح تعاليم كنيسة روما للموارنة . وفي عام 1444 عاد دي ترويا إلى روما، وبعد ان أبلغ البابا عن حاجة الموارنة الشديدة للأساتذة، قرر البابا توسيع الإرساليات الكاثوليكية في سورية. وفي نفس العام تمَّ تعيين بطرس دي فيرارا ممثلاً باباوياً لدى الموارنة والملكيين بشكل رسمي .

يدلُ رجاء البطريرك الماروني من البابا بإرسال متبحرين في العلم إلى الموارنة لتعليمهم الإيمان ” الصحيح ” على أن علاقة كرسي روما الرسولي مع الموارنة فيما يخص إيمانهم كانت سطحية، وأن هدف الباباوات الرئيسي هو وضع الموارنة تحت سلطتهم والاعتراف بسيادتهم. وليس هناك من دليل بأن الكنيسة المارونية قد عمدت، نتيجة للإرساليات التبشيرية المتفرقة التي أرسلها الباباوات إليها، إلى تغيير معتقدها المونوثيلي او تغيير عقائد وطقوس رئيسية أخرى. فقد كان الموارنة مونوثيليين وبقوا كذلك حتى نهاية القرن السادس عشر. ولكن مع أن موارنة لبنان وأورشليم كانوا قد قبلوا السيادة البابوية دون تغيير إيمانهم منذ بداية القرن الثالث عشر، إلا أن موارنة قبرص لم يخضعوا لسلطة روما إلا في أواسط القرن الخامس عشر، بحسب منشور باباوي أصدره البابا يوجين الرابع، عام 1445 . يُعلن البابا في هذا المنشور بأنه أوفد أندراوس رئيس أساقفة رودوس، إلى قبرص وأنحاء أخرى من البلاد الشرقية لإقناع الطوائف الملكية والأرمنية و ” اليعقوبية ” بقبول وحدة الكنائس اللاتينية واليونانية التي تمت في مجمع فلورنسا والانضمام إليها. بعبارة أخرى، اعتبر البابا هذه الكنائس كنائس ” منفصلة ” ورغب في أن تعود للاتحاد مع روما، إلا أن ذلك لم يحصل إلا في القرن السابع عشر حينما شرعت بعض الكنائس الشرقية بالاتحاد مع روما . إن أهم جزء في هذا المنشور البابوي هو إعلان البابا أن رئيس الأساقفة أندراوس تمكن بعد جهد كبير من إعادة المطران النسطوري طيمثاوس والمطران الماروني الياس وهو من ” تلطخ بشوائب تعليم مكاريوس، الذي اعترف بمشيئة واحدة فقط في الرب ”  مع أفراد أبرشيته، الى حظيرة الإيمان. يروي البابا أيضاً بأن المطران الياس وكهنته وشعبه قد اعترفوا علناً بإيمان كنيسة روما في كنيسة القديسة صوفيا في قبرص بحضور طوائف أخرى. ومن ثم قام رئيس الأساقفة أندراوس بإرسال اسحق، وهو قسيس وتلميذ المطران الياس، إلى روما حيث تبرأ من تعليم مكاريوس (المونوثيلية) علناً في كنيسة لاتـران في روما واعترف بتعليم كنيسة روما

 

يتضح من هذه الشهادة أن الموارنة كانوا مونوثيليين. وبسبب مونوثيليتهم أتهمهم العديد من الكتّاب اللاتين (وخاصة هوراس جوستنيان، الذي قام بجمع قرارات مجمع فلورنسا)، بالهرطقة . لكن البطريرك الماروني اسطفان الدويهي حاول جهده في دحض اتهامات هؤلاء الكتّاب، إلا أن دحضه لم يكن مقنعاً. لا ينكر الدويهي بأن مطران قبرص الماروني الياس وقسيسه، اسحق، قد اعلنا براءتهما من المونوثيلية، لكنه يتهم الموفد البابوي، أندراوس ، رئيس أساقفة رودس، بعدم إخبار البابا بالحقيقة حول إيمان موارنة قبرص. فهو يدّعي بأن هؤلاء الموارنة كانوا تحت سلطة البطريرك يوحنا الجاجي في لبنان، وهو أرثوذكسي الإيمان (اي ايمان الكنيسة الكاثوليكية)

 

إن ما يعنيه الدويهي هو أن هذا البطريرك وشعبه لم يكونوا مونوثيليين أي هراطقة. لكن الأمر ليس كذلك، لأن الموارنة ظلوا مونوثيليين بعد ذلك ما يربو عن قرن من الزمن. والذي يبدو أن الدويهي خلط في دفاعه عن أرثوذكسية شعبه، بين العناصر الخارجية للعرف الكنسي والمبادئ الجوهرية للإيمان.ويستـشهد برسالة للأخ غريفون (ستتم مناقشتها في الفصل التالي)، كتبت في عام 1469 والتي جاء فيها بأن الكهنة الموارنة في قبرص ورودس وبيروت وأورشليم، منذ الأزمنة القديمة، ويعني بذلك القرن الثالث عشر، كانوا يرتدون حللاً كهنوتية لاتينية، ويرسمون إشارة الصليب بالطريقة اللاتينية ويحتفلون بالقربان المقدس كما تحتفل به الكنائس اللاتينية . بيد أن ممارسة هذه الطقوس لا تعني أن الموارنة قد تبنوا تماماً إيمان كنيسة روما أو أنهم تخلوا عن إيمانهم المونوثيلي أو عقائدهم المونوفيزية (السريانية الأرثوذكسية). وعلى حد تعبير أحـد الكتّأب المعـاصرين، كان الموارنة ما يـزالون مونوثيليين

 


22 إرسالية الأخ غريفون وفرنسيسكان آخرين إلى الموارنة

يظهر أن كنيسة روما قد ألقت على عاتق الرهبان الفرنسيسكان في سورية وفلسطين ، في الفترة التي تلت مجمع فلورنسا ، المزيد من المسؤوليات لرعاية شؤون الكنيسة المارونية . وكان الراهب الفلمنكي الأخ غريفون (ت 1475) احد هؤلاء الأخوة الفرنسيسكان البارزين

 

تلقى غريفون تعليمه في باريس ، حيث درس اللاهوت واللغة اليونانية . وعلى غرار العديد من الرهبان الأتقياء ، تملكته رغبة شديدة لزيارة الأماكن المقدسة في أورشليم ، مما دفعه إلى القيام برحلة إلى فلسطين قبيل نهاية سنة 1442 . وعاد إلى روما بعد عامين يرافقه وفد ماروني إلى البابا يوجين الرابع . من المرجح أن غاية الوفد كانت الاستعانة بالبابا لتقديم المساعدة إلى الكنيسة المارونية وطائفتها . وقد استجاب البابا كما تمت روايته سابقاً ، وعيَّن بطرس دي فيرارا موفداً له إلى الموارنة والملكيين عام 1444 . عاد غريفون إلى فلسطين مع بطرس دي فيرارا عام 1444 ، ولكن بعد ست سنوات تمَّ نقله إلى المرسلية الفرنسيسكانية في لبنان ، ووصل بيروت عام 1450 مع الأخ الفرنسيسكاني فرنسيس البرشلوني ، الذي أصبح رفيق عمره

 

إن ما أزعج غريفون ، وهو الكاثوليكي الروماني الغيور ، هو رؤية العديد من المسيحيين في الشرق خارجين عن شركة كنيسة روما ، مما حمله على الاعتقاد بان مسؤولية إرجاعهم إلى الحظيرة الكاثوليكية تقع على عاتقه . ومن أجل تحقيق هذا الهدف عكف غريفون على دراسة اللغتين الضروريتين للتعامل مع مسيحيي الشرق ، وهما العربية والسريانية بكل اتقان . غير أن مسؤوليته الرئيسية كانت تهدف موارنة لبنان . وتدلُ المراجع الفرنسيسكانية على أن الأخ غريفون كان نشيطاً جداً في بناء كنائس جديدة في لبنان لإزالة العديد من الأضاليلفي الكنيسة المارونية . ويقول الأب لامنس في هذا الصدد ان ازالة هذه الاضاليل لا يعني بحال من الأحوال التخلص من الأخطاء في إيمان الموارنة لأن الكتّاب الذين ينكرون بان الموارنة كانوا دائماً على الإيمان “الكاثوليكي” يقرون أنفسهم بأن الموارنة تمسكوا بهذا الإيمان الكاثوليكي بعد مجمع فلورنسا ، اي إيمان كنيسة روما . ويلمح الأب لامنس ضمناً بأن المقصود بكلمة “اضاليل” في هذا السياق هي الأضاليل المرتبطة بالمسائل الأخلاقية ، لا بالقضايا العقائدية المتعلقة بإيمان الموارنة  . وهنا يبدو أن هدف لامنس هو تبرئة الموارنة من المونوثيلية ، التي اعتبرتها كنيسة روما ، وهي كنيسته ، هرطقة

 

هناك مصادر كاثوليكية أخرى تتعلق بالأخ غريفون تـناقض المصادر الفرنسيسكانية التي يستـشهد بها الأب لامنس كما تـناقض أيضاً النتائج التي توصل إليها حول هذه المسألة . واذا تأملنا ما كتبه المطران مرقس اللشبوني ، وهو مؤرخ من الرهبنة الفرنسيسكانية يستـشهد به البطريرك الدويهي ، نرى ان الأخ غريفون هو الذي أعاد الموارنة إلى الإيمان ” الصحيح ” واجتذبهم الى طاعة كنيسة روما . ويروي المطران مرقس اللشبوني فعاليات غريفون والأخ الفرنسيسكاني فرنسيس في تعليم العديد من ” غير المؤمنين ” ويعني بذلك من غير الكاثوليك وتعميدهم . كما انه يروي أعجوبةً قام بها غريفون وهي تحريك الشمس من الغرب إلى الشرق لكي يحمل أحد الوجهاء اللبنانيين المرتابين على الإيمان بالمسيح يسوع . وأخيراً يقول مرقس بأن البابا كاليستوس رسم الأخ غريفون مطراناً ثم بطريركاً للموارنة  .

هناك كاثوليكي آخر يربط اهتداء الموارنة إلى الكثلكة بأعجوبة غريفون في نقل الشمس من الغرب إلى الشرق هو رئيس الأساقفة الإيطالي مارك ، مطران بورتو ، الذي يفيد بأن الموارنة كانوا ” هراطقة وعبدة أصنام قام غريفون بهدايتهم عام 1450 وعمدهم مع أميرهم بعد أن إجترح اعجوبة بتحريك الشمس وهي على وشك المغيب بضع درجات إلى الشرق ”  . يحاول البطريرك الدويهي تفنيد صحة هذه الأقوال مستبعداً أن يكون غريفون قد رسم بطريركاً للموارنة أو أن يكون قد أعاد الشمس من الغرب إلى الشرق . لكنه يورد نصاً كاملاً لرسالة موجهة من غريفون إلى الموارنة يثني فيها على إيمانهم وطاعتهم لكرسي روما الرسولي  ، إلا أن الدويهي يصرّ بأن الأخ غريفون لم يرشد الموارنة إلى إيمان كنيسة روما . ربما كان الدويهي على صواب خاصة اذا القينا نظرة سطحية عابرة على رسالة الاخ غريفون ، ولكن غريفون يؤكد في رسالته لا على تـفاصيل إيمان الموارنة فحسب بل ايضاً خضوعهم لسيادة كنيسة روما . ويعتبر غرضه شديد الوضوح عندما يورد في مطلع رسالته العقيدة البطرسية وهي من ركائز عقيدة كنيسة روما . ثم يمضي غريفون ليروي في رسالته بأن البطريرك ارميا العمشيتي اجتمع هو ومطارنته والعديد من العلمانيين في طرابلس بعد عودته من روما إلى لبنان وتعهدوا باتباع إيمان كنيسة روما . إلا أنه لا يذكر أبداً بأن الموارنة في زمنه ، اي في القرن الخاامس عشر ، قاموا بتنقيح كتبهم الدينية أو إيمانهم لتلائم إيمان كنيسة روما . لا بد أن غريفون ، الذي عاش مدة طويلة في الشرق بين الموارنة ، وجد (كما وجدت الارساليات الكاثوليكية الرومانية بعده) بأن العديد من التعاليم المارونية لم تكن متفقة مع تعاليم كنيسة روما ونتيجة لذلك سعىَ إلى إزالة هذه الأضاليل . ولدينا شهادة حاسمة بهذا الصدد ادلى بها الاخ سوريانو الموفد الفرنسيسكاني إلى الموارنة والتي ستناقش بعدئذ حيث حتّم بأن الأخ غريفون هو الذي أرشد الموارنة للاعتراف بطبيعتين في المسيح ـ واحدة إلهية ، والأخرى بشرية  ، مما يعني بأنهم كانوا مونوفيزيين (يعاقبة)

 

رحل غريفون مرة ثانية إلى روما ، وربما في الفترة بين 1455ـ1458 في عهد البابا كاليكستس الثالث ، إلا أنه لا توجد معلومات عن هذه الرحلة . ولكن عندما توفي البطريرك الماروني يعقوب الحدثي في عام 1458 ، وانتخب أخوه بطرس الحدثي ( 1458ـ1492) المعروف بابن حسان ، بطريركاً خلفاً له . وأختار الكهنة والأعيان الموارنة الأخ غريفون ليحمل رسالة إلى البابا بولس الثاني ، عبّروا فيها عن طاعتهم وطاعة البطريرك الجديد لكرسي روما والتمسوا تثبيت البابا للبطريرك  . حمل الأخ غريفون الرسالة ووصل روما برفقة الأخ سمعان والأخ اسكندر في النصف الأول من عام 1469 . وعند تلقيه الرسالة أمر البابا الذي كان مرتاباً من معتقدات الموارنة بالقيام بجمع المعلومات المستفيضة عن البطريرك الجديد وعن تعليمه وإيمانه وعن صحة إيمان رعاياه . ومع أن غريفون دافع عن إيمان البطريرك الماروني وكنيسته لدى البابا ، إلا أن البابا ظلَّ يخامره الشك بكون الموارنة صادقين في ادعائهم بالتقيد بكنيسة روما وتعاليمها . وهنا يجب التساؤل لو ان غريفون كان واثقاً من معتقدات الكنيسة المارونية وموقفها من كنيسة روما لما أرسل رسالة من روما إلى الموارنة يشرح فيها علاقتهم مع روما منذ الوقت الذي زار فيه البطريرك ارميا العمشيتي روما في مطلع القرن الثالث عشر ؟  . ولما كان بعد ان وصف هذه العلاقة بين الكنيستين ، ليختم رسـالته بالقول ” أننا نسأل الله أن تؤمنوا وتوافقوا بمقتضى ذلك وبأن ما أخبرت سيدي البابا عنكم لصحيح ” ( يمكن تـفسير هذه الملاحظات الختامية بأنها تعني بأن غريفون كان يأمل أن يبقى الموارنة مخلصين لتعاليم كنيسة روما . كما نعلم من رسالة البابا إلى البطريرك الجديد والمؤرخة في 13 آب 1469 أنه لم يكن واثـقاً فيما يخصّ إيمان الموارنة . يوضح البابا في هذه الرسالة تعاليم كنيسة روما ، معلناً ثـقته بأن البطريرك كان على استعداد لقبول توجيهه وتوجيهات كنيسته  . والذي يجب سؤاله هنا هو لو أن البابا كان واثقاً من إيمان البطريرك وإيمان الكنيسة المارونية لكان موقفه في رسالته إلى البطريرك ايجابياً لا يعتريه الشك بخصوص هذا الإيمان . ومهما يكن من أمر ، فقد كانت غاية غريفون الأساسية هي ان يجتذب الكنيسة المارونية لتكون شديدة القربى بكنيسة روما . بل ان الأب لامنس نفسه يقول بأن غريفون نجح في استئصال كل شوائبهم ” العقائدية والدينية وإعادة إيمان الموارنة إلى بهائه ”  . إن ما يعنيه لامنس “بالشوائب ” و ” الأضاليل ” في هذا السياق هو العادات الدينية الشرقية العديدة التي كانت الكنيسة المارونية تمارسها ، كسلطة الكهنة في مسح المعتمدين بالميرون المقدس ومناولة القربان المقدس للاطفال الرضع بعد معموديتهم واستعمال الأسرار المحفوظة في الصوم الأربعيني ومناولة عنصري الخبز والخمر في الأيام العادية . كل هذه العادات كانت العادات الأساسية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية وغيرها من الكنائس الشرقية قبل أن تنتقل بعضها إلى الكثلكة وتخضع لسياسة تحويل الكنائس الشرقية الى كنائس لاتينية والتي قامت بها بنجاح نسبياً إرساليات روما التبشيرية . صحيح أن الأخ غريفون طلب من روما السماح للموارنة بالحفاظ على بعض طقوسهم الدينية الشرقية إلا اننا نعلم من الأب لامنس بأن غريفون نجح أيضاً في استئصال العديد من هذه الطقوس والتقاليد ، واستبدالها في نهاية الأمر بطقوس وتقاليد لاتينية . والحقيقة هي ان رأي غريفون عن الموارنة والكنائس الشرقية الأخرى لم يكن مختلفاً عن رأي كنيسة روما : فهو يعتبرها كنائس هرطوقية انفصلت عن ” الكنيسة الأم ” ولهذا كان من الواجب إعادتها إلى الحظيرة الكاثوليكية

 

يقول الاب لامنس ان ” الإصلاحات ” التي حاول غريفون القيام بها واجهت مقاومة . وان جماعة صغيرة من الموارنة اعتقدت بأن غيرة غريفون التبشيرية جاءت في وقت غير مناسب . إلا أن معارضة هذه الجماعة لهذه ” الإصلاحات ” كانت قصيرة العمر ، ويرجع الفضل في ذلك إلى جهود أحد المقدمين (حكام المقاطعات) في شمال لبنان ، الذي ارتد ، مع العديد من الموارنة ، إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية واعتـنق عقيدتها في الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي

 

كان الموارنة في القرن الخامس عشر خاضعين في الأمور الدينية لسلطة بطريركهم المقيم في دير قنوبين . أما في الأمور العلمانية فقد كانةا خاضعين للمقدمين (وهو منصب وراثي) ، الذين وان كانوا متمتعون بالحكم الذاتي الا انهم كانوا مسؤولين مباشرة لدى المماليك في مصر الذين تدخلوا مراراً في شؤون لبنان الداخلية . كان هؤلاء المقدمون يحكمون عدة مقاطعات في شمال لبنان أخصهم مقدم بشري عبدالمنعم أيوب (1470ـ1495) الذي اهتدى إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية معتنقاً إيمانها

 

إن مصدرنا الرئيسي عن المعلومات حول ارتداد عدد كبير من الموارنة ومنهم المقدم عبدالمنعم هو زجلية القلاعي والرواية التاريخية للدويهي ، الذي يتابع القلاعي . ومما يجب ذكره هنا هو ان هذه الأحداث عندما جرت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر كان الموارنة لا يزالون جماعة صغيرة يقتصر وجودها على الجزء الشمالي من لبنان . وكان السواد الأعظم من المسيحيين في لبنان ينتمون إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية أو إلى كنيسة الروم الأرثوذكس (البيزنطيين) . وبينما يصرح الاب لامنس بأن ” اليعاقبة ” فقط عاشوا في مكان ما من لبنان فإن الدويهي يروي بأن عدداً كبيراً من هؤلاء السريان ” اليعاقبة ” عاشوا في لبنان وطفقوا ينشرون ” أضاليلهم ” بين الموارنة  . وكان العديد من هؤلاء السريان الأرثوذكس لبنانيين من أهالي البلاد أصلاً ، لكن الآخرين كانوا قد هاجروا إلى لبنان من سورية وأقاموا في ذلك البلد أجيالاً . يقول الدويهي أن السبب الذي دعا الموارنة ليصيروا ” يعاقبة ” (سريان أرثوذكس) هو أن طقوس الكنيستين السريانية والمارونية متماثلة ولم يكن باستطاعتهم التفريق بينهما

 

أصبح العديد من تابعي الإيمان السرياني الأرثوذكسي “اليعاقبة” من ذوي النفوذ في العديد من القرى في شمال لبنان نظراً لجهود أساقفتهم وكهنتهم  . وكان من ابرز مطارنتهم سويريوس عيسى مطران حردين (1443ـ1480) والمطران ديوسقوروس عيسى ضو (1454ـ1477) الذي اجتذب العديد من أهالي قرية باقوفا إلى إيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . كان المطران عيسى ضو من أهالي لبنان وتخضع لسلطته ابرشيتا طرابلس في لبنان وأورشليم . وكما يقول الدويهي فقد أصبح أهالي الحارة السفلى من باقوفا ” يعاقبة ” بجهود مطرانهم ديوسقوروس عيسى ضو مما أثار حنق أهالي أهدن إلى حد كبير ودفعهم إلى مهاجمة المهتدين وتخريب منازلهم ايضاً كما هدموا دير الغوبه مقر كرسي مفريانهم  . هذا ما يدل على أن السريان الأرثوذكس كانوا كثيري العدد في الجزء الشمالي من لبنان بحيث كانت لهم كنائسهم ومفريانهم

 

نعلم ايضاً من رواية الدويهي القائمة على زجلية القلاعي كيف اهتدى المقدم عبدالمنعم البشراني وعدد كبير من الموارنة في شمال لبنان إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية  . يقول الدويهي أن المقدم الشاب عبدالمنعم كان يقدر العلم . وفي أحد الأيام قامت جماعة من الرهبان ” اليعاقبة ” على الأرجح من سورية ، بزيارة عمه ، المقدم رزق الله (ت 1472) وكان معهم كتاب مكتوب بالكرشونية (وهي اللغة العربية المكتوبة بخط سرياني) يحتوي على عقيدة الكنيسة السريانية . طلب عبدالمنعم منهم تدريسه هذا الكتاب وتحليل العقيدة التي يحتويها . وبعد أن تكونت له معرفة عن هذه العقيدة استحسنها واهتدى إلى إيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . وعندما خلف عمه كمقدم عام 1472 ، أنشأ تاجر سرياني ، هو موسى بن عطشه ، علاقة معه . وعندما تزوج عبدالمنعم أرسل ابن عطشه بعض الكهنة يحملون إليه هدايا الزفاف

 

ويظهر ان عبدالمنعم أحب الكهنة وطلب منهم البقاء معه . وشيد قرب بيته كنيسة سماها باسم القديس السرياني برصوم . وفي هذه الأثناء ، عاد نوح الباقوفي وهو قسيس ، وأحد الموارنة المرتدين إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ، من أورشليم للاقامة في الفراديس قرب قرية بان في شمال لبنان  وأخذ يعظ بالطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي ، وهي عقيدة الكنيسة السريانية  . ونجح نوح في اجتذاب العديد من المهتدين من امثال عيسى وابن شعبان اللذين يذكرهما القلاعي في زجليته . وكان من هؤلاء المهتدين عدد من الرهبان والكهنة رسمهم في اورشليم مُعلم نـوح المـطران ديوسقوروس عيسى ضو( واخذ المهتدون كبقية السريان الأرثوذكس برسم إشارة الصليب بأصبع واحدة للدلالة على وحدانية طبيعتي المسيح بعد اتحادهما ، واعترفوا فقط بالمجامع الثـلاثة الأولى وهي نيقية والقسـطنطينية وأفسس  . كما قام  العديد من الرهبان الآخرين من دير مار يعقوب السرياني في قرية أهدن بنشـر عقيدة الطبيعة الواحدة التي يسميها الدويهي ” هرطقة ” (25) . وقد زاد عددرتدين إلى الكنيسة السريانية من الموارنة الى حدّ أثار ذعر البطريرك الماروني بطرس الحدثي ، المعروف بابن حسان الذي أرسل كهنة إلى هؤلاء المرتدين معاتباً وناصحاً إياهم بالعودة إلى كنيستهم ، إلا أنهم رفضوا ، سيما وأنهم تمتعوا بحماية المقدم عبدالمنعم ومساندته . ومن ثم حصل شقاق طائفي وصل ذروته ما بين عامي 1487ـ1488 ، حيث قامت في شمال لبنان فئتان ، أحداهما مارونية والأخرى سريانية أرثوذكسية . واحتدم الاحتكاك بينهما حتى اصبح تلاحمهما وشيكاً . وفي هذه الغضون اخذ مطران أهدن الماروني وشعبه ينصحون الكاهن السرياني الأرثوذكسي يعقوب وأتباعه والرهبان الذين كانوا يقيمون في دير مار يعقوب السرياني بالعودة إلى الكنيسة المارونية ، ولكن دون جدوى؛ بل على العكس اختار هؤلاء السريان واحداً من كهنتهم وهو ابراهيم حيبلوس ليكون مطراناً عليهم . اما موارنة أهدن الذين لم يكونوا أنداداً لهؤلاء السريان فقد طلبوا المساعدة من مقدم بسكنتا وأتباعه . فاستجاب المقدم وأتباعه وتوجهوا مصطحبين رجالاً من منطقة الضنيّة ، إلى أهدن في صباح أحد أيام الآحاد من عام 1488 . ولما علم السريان بأن قوة كبيرة كانت تـزحف نحو أهدن أصابهم الهلع فغادروا القرية . وذهب بعضهم إلى حردين ، وآخرون إلى كفرحورة وأبحر البعض الآخر إلى قبرص . يقول الدويهي بأن جبـل لبنـان تمتع بالسلام بعد طرد هؤلاء ” المتطفلين ”  . هنا لا نجد مندوحة من التحذير حول هذه الحادثة فهي مستمدة من رواية الدويهي التي تعتمد على زجلية القلاعي . يروي الدويهي هذه الحادثة مرتين ، مرة في : تـاريخ الأزمنة ومرة ثانية في: تـاريخ الطائفة المارونية  . ان الروايتين مشوشتان جداً الى حدّ يربك القارئ الذي لا دراية له بهذه الفترة من تاريخ لبنان . إلا أنه بوسعنا أن نستـنتج من هذه الحادثة بأن قوة السريان الأرثوذكس في لبنان لم تمحق كلياً بل ما ظلوا أقـوياء يدعمهم المقدم عبدالمنعم وهذا ما نعلمه من مساعي القلاعي في مهاجمة المعتقدات الدينية لهؤلاء السريان الأرثوذكس

 

عاد جبرائيل القلاعي ومارونيان آخران كان قد أختارهما الأخ غريفون للدراسة في مدينة البندقية إلى لبنان عام 1493 بعد انهاء تعليمهما  . بدأ القلاعي ، وهو الكاثوليكي الفرنسيسكاني الغيور جداً بانتقاد السريان والمقدم عبدالمنعم الذي يدعمهم ، انتقاداً شديداً عند عودته إلى لبنان . وفي عام 1494 الّف كتابه مارون الطوباني وأرسله إلى البطريرك شمعون (سمعان) الحدثي ، الذي خلف عمه بطرس بعد وفاته في عام 1492 . يحاول القلاعي في هذا الكتاب البرهان على سيادة كنيسة روما وصحة إيمانها . كما يحاول البرهان ايضا بأن الموارنة كانوا متشبثين بإيمان كنيسة روما منذ انعقاد مجمع خلقيدونية (451) . كتب القلاعي زجليته في الفترة ذاتها ، وقد اعتبرها الكتّاب الموارنة سجلاً تاريخياً للكنيسة المارونية وطائفتها منذ القرن السابع وحتى القرن السادس عشر . وتضم هذه الزجلية القصة المستـشهد بها سابقاً عن نهوض السريان وسقوطهم في شمال لبنان  . ويعتبر الكتّاب الموارنة  القلاعي أولَ مؤرخ لهم وأول مدافع عن إيمانهم

 

ولكن بعد ان فقد السريان مساندة المقدم عبدالمنعم بوفاته عام 1495 ، اخذوا بالإنصهار بالموارنة تدريجياً؛ إلا أن عدداً منهم عاش في حردين في مقاطعة البترون حتى القرن الثامن عشر . وبالرغم من هذا الإنصهار فإن الكنيسة المارونية ابقت على العديد من عقائد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية حتى نهاية القرن السادس عشر وهو ما أدى إلى إرسال المزيد من الارساليات التبشيرية البابوية للتحقق من صحة إيمان الكنيسة والطائفة المارونيتين

 

بعد وفاة الأخ غريفون عام 1475 ، يبلغنا فرنسيسكاني آخر هو الراهب سوريانو ، عن انتـشار ” عادات سيئة ” مرة أخرى بين الموارنة . بدون ان يشرح طبيعة هذه العادات السيئة إلا أنه بوسعنا التخمين بأنها كانت تتعلق بإيمان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . ويروي سوريانو بأن البابا سيكستس الرابع قام ، بسبب هذه العادات ، بإرسال الأخ الفرنسيسكاني اسكندر داريوستا إلى الموارنة حيث أقام بينهم ثلاث سنوات . ويستمر قائلاً سوريانو بأن ” البابا لاون العاشر أرسلني إلى الموارنة أخيرا لهذا السبب عينه ، عام 1515 يرافقني الأخ الفرنسيسكاني فرنسيس دي بوتينزا ، وهو مندوب في مجلس البابا ”  . ولم تكن هذه اول رحلة قام بها سوريانو إلى لبنان لأنه كان قد وصل إلى لبنان لأول مرة في أواخر عام 1514 . ونستدل من قول سوريانو أن الموارنة قد ارتدوا على ما يظهر مرة أخرى إلى معتقداتهم الدينية وتقاليدهم السابقة ” اي اليعقوبية ” وهو ما حثَّ البابا سيكستس الرابع والبابا لاون العاشر على إرسال رهبان فرنسيسكان لتقويم ما كان يعتبر زيفاناً دينياً . وكان سوريانو ، كغريفون ، جديراً بهذه المهمة . كان رجلاً يتمتع بخبرة دينية ودنيوية . كان تاجراً في البندقية قبل انضمامه إلى سلك الرهبنة الفرنسيسكانية ، وتجول كثيراً في الشرق ، فزار مصر وسورية وفلسطين . كما كان يحسن الى حدّ ما اللغتين اليونانية والعربية والاكثر من ذلك كان يتمتع بحب الاستطلاع لمعرفة احوال الناس والكتب المسطّرة عنهم

 

قبل وصول سوريانو إلى لبنان بعام واحد أوفد البطريرك الماروني شمعون (سمعان) الحدثي الذي تمَّ تنصيبه حديثاً ، أحد كهنته ، وهو بطرس ، إلى روما مع رسالة من الأخ ماركو دي فلورانس الرئيس الأعلى للرهبنة الفرنسيسكانية في بيروت تضمنت طلباً إلى البابا بإرسال الباليوم وتثبيت البطريرك في منصبه . لكن البابا لاون العاشر رفض الاستجابة لطلب البطريرك ما لم يتلقَ منه رسالة موجهة إليه شخصياً . وهنا يحاول الدويهي تبرير فشل البطريرك في إرسال رسالة شخصية إلى البابا بقوله بأن البطريرك كان قد أرسل احد الكهنة بطرس إلى الأخ دي فلورانس للاستـفهام عن السفينة المتوجهة إلى أوروبا . ولكن عندما وصل بطرس إلى بيروت ، وجد أن السفينة كانت على أهبة السفر ونظراً لعدم وجود ما يكفي من الوقت للاتصال بالبطريرك وحمل رسالته إلى البابا ، قام الأخ دوفلورانس بإجبار بطرس على السفر معه إلى روما حاملاً فقط رسالته هو إلى البابا  . مهما يكن من أمر ، فقد وصل بطرس إلى روما وسلم رسالة الأخ دي فلورانس إلى البابا استدعى البابا على اثرها مستـشاريه كما استدعى بطرس ، وتساءل عن إيمان الموارنة وعن عاداتهم وبطريركهم . ولكن بطرس لم يستطع إقناع البابا ومستـشاريه باستقامة إيمان الموارنة وأخيراً غادر روما حاملاً رسالتين ـ احداهما موجهة إلى البطريرك والأخرى إلى الأخ دي فلورانس . تدلان على أن كرسي روما لم يكن على ثـقة بإيمان الموارنة بالرغم من مرور مئتي عام على نشوء العلاقة معهم ، وخاصة فعّاليات الارساليات التبشيرية الباباوية التي أرسلت إليهم . في هاتين الرسالتين طلب البابا من البطريرك والرئيس الفرنسيسكاني الأعلى للرهبنة في بيروت إبلاغه عن إيمان الطائفة المارونية وعن تقاليدها الدينية وصلواتها وطريقة تقديسها للميرون المقدس ، وكيفية انتخاب بطريرك جديد وفيما إذا كان في حوزة الموارنة رسائل كتبها باباوات سابقون . وحسبما يقول الدويهي حمل سوريانو رسالة البابا إلى البطريرك الذي كان يُـقيم في دير قنوبين يصحبه شخص قام بالترجمة من اللاتينية إلى العربية . وبعد سماع مضمون الرسالة أرسل البطريرك جواباً في آذار من عام 1514 ، اورد فيه عشر نقاط جواباً على اسئلة البابا . هذا بالإضافة الى اصراره على طاعته وطاعة شعبه لكرسي روما . وألحق البطريرك بهذه الرسالة ست رسائل أخرى من باباوات سابقين موجهة إلى عدة بطاركة من اسلافه سلمها القس بطرس جميعاً الى البابا ، كما كتب سوريانو إلى البابا يؤيد رسالة البطريرك . كتب البابا ثانية إلى البطريرك ، ممتدحاً إيمانه وإيمان الكنيسة المارونية ، ” التي اختارها الله  ، من بين سائر كنائس الشرق ،  لعبادته بإيمان  وبأن الله أرادها أن  تكون محمية في وسط الكفر والهرطقة كما تحمى الورود بين الأشواك ”  . بالرغم من هذا المديح ، كان البابا لا يزال غير واثق من صحة إيمان الموارنة ، لأنه يورد كثيراً من النقاط العقائدية ، إحداها انبثاق الروح القدس من الآب والابن ، ويطلب منهم الاعتراف بهذا والتمسك به

 

لم يكن البابا لاون العاشر مخطئاً في الشك بصحة إيمان الموارنة ، ولكنه كان مخطئاً في وصفهم بـ ” الورود بين الأشواك ” وبالعيش في وسط ” الكفر والهرطقة ” . فمن المعروف ان طقوس الموارنة وكتبهم الطقسية وقديسيها وعقائدهم كانت في القرن السادس عشر ما تزال طقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وكتبها الطقسية وقديسوها وعقائدها ، كما سيتم شرحه فيما بعد . اضافة الى ذلك ، لم تكن كنيسة روما قد أجرت سوى علاقة واهية وسطحية مع الكنيسة والطائفة المارونيتين منذ القرن الثالث عشر ربما جهلاً منها بتاريخ الكنائس الشرقية وتقليدها الديني ، ومنها الكنيسة المارونية . هنا يجب السؤال لماذا كل هذه الارساليات التبشيرية وكل هذه التحريات التي اخذتها كنيسة روما على عاتقها لو أن الباباوات المتعاقبين كانوا على يقين من الإيمان الصحيح للكنيسة المارونية ومن موقف بطاركتها تجاه كرسي روما ؟ ولماذا اصر العديد من الباباوات ، منذ اينوسنت الثالث ، على أن يعترف الموارنة بإيمان كنيسة روما وعقائدها ؟ الجواب هو أن الموارنة حتى نهاية القرن السادس عشر لم يكونوا من المؤمنين ” بسيادة البابا المطلقة على الأرض ” . واذا ذهبنا أبعد من ذلك في دراستنا العلاقات بين الكنيسة المارونية وكنيسة روما لوجدنا أن روما مازالت توفد ارساليات إلى الموارنة للتحري عن ” إيمانهم الصحيح ” وفحص كتبهم الدينية ، وهي المصادر الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد صحة ذلك الإيمان . وبعد بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر بوقت قصير اصبح لدى كنيسة روما الحافز للقيام بمثل هذا التحري بمناسبة انتخاب ميخائيل الرزي (1567ـ1581) للمنصب البطريركي عام 1567 . و ما أن تمت رسامة البطريرك حتى قدمت الطائفة المارونية في قبرص عريضة إلى البابا بيوس الخامس (1566ـ1572) تتهم البطريرك الجديد بأنه يعقوبي (سرياني أرثوذكسي) أصلاً ومعتقداً  . وقد أزعجت هذه الأنباء البابا ومستـشاريه فطلبوا من الكاردينال كارافا المسؤول عن الشؤون المارونية التحقيق في هذه المسألة . وفي 8 حزيران 1569 ، كتب البابا إلى رئيس الرهبانية فرنسيس في أورشليم طالباً منه السفر إلى لبنان والقيام بتحريات وافية حول التهم الموجهة ضد البطريرك وإرسال معلومات إلى روما تخصّ عمر البطريرك ومعتقداته ، إذا كان انتخابه ورسامته قد تما بموافقة أعيان الكنيسة المارونية وحسب التقاليد المارونية . كما طلب منه ايضا أن يتحرى بشكل وافٍ عن معتقد الموارنة وتقاليدهم وعاداتهم وموقفهم من كنيسة روما  . ذهب فرنسيس إلى لبنان وقدم الرسائل التي كان قد تلقاها من البابا والكاردينال كارافا إلى البطريرك الذي قرأها حالاً ودعا إلى اجتماع قبيل نهاية تشرين الثاني من 1569 . في هذا الاجتماع عرض البطريرك الرسائل التي تضم الاتهامات التي وجهها ضده موارنة قبرص ، على الكهنة المجتمعين وعلى أعيان آخرين . ولما قرأ الأعيان هذه الاتهامات أعلنوا بصوت واحد بأن بطريركهم رجلٌ صالحٌ وبارٌ . عندئذٍ كتب عدة أساقفة وكذلك فرنسيس تقريراً يعلنون فيه بأن البطريرك الجديد ذو إيمان سليم وبأنهم اختاروه بإرادتهم الخاصة ليكون بطريركهم ، بالرغم من كونه رفض في البدء هذا المنصب . كما شهد البطريرك خطياً قائلاً ” إن كنت قد انتهكت أي تقليد من تقاليد الكرسي البطريركي الماروني أكون مسؤولاً أمام الله تعالى وأمام الكرسي الرسولي ”  . لكن التقرير حول هذا الاجتماع ورسالة البطريرك لم يصلا البابا بسبب الصراع الداخلي بين مقدمي بشري رزق الله وأخيه عاشينا . ولم يكن الوضع الخارجي بأفضل بسبب غزو الحكومة العثمانية قبرص تدعمها جيوش سورية وقد تأثر لبنان وخاصة بشري بحالة الحرب . لذلك لم يستطع موفد البطريرك ان يغادر إلى روما حتى عام 1577

 

يورد البطريرك اسطفان الدويهي هذه الأحداث كما يدلي باسباب اخرى تخص اتهام البطريرك ميخائيل الرزي بأنه من أصل ” يعقوبي ” . يقول الدويهي بأن عائلة الرزي عاشت في الحارتين العليا والسفلى من قرية باقوفا . وقد ارتد أفراد عائلة البطريرك الذين كانوا يعيشون في الحارة السفلى إلى الكنيسة اليعقوبية (السريانية الأرثوذكسية) وأخيراً طردهم أهالي أهدن الموارنة . إلا أن أولئك الذين عاشوا في القسم الأعلى من القرية ظلوا موارنة؛ ولكن أجبروا في النهاية على مغادرة القرية إلى أماكن أخرى مثل كفرحورا . ان رواية الدويهي هذه يلفها الغموض لانه لا يخبرنا أي قسم من العائلة كان البطريرك ينتمي إليه . فإن كانت عائلته مازالت مارونية ، كما يدّعي الدويهي ، فما الذي يدعو موارنة قبرص إلى اتهامه بأنه من أصل يعقوبي ؟ لا بد وأنه كان ينتمي إلى ذلك القسم من العائلة الذي صار ” يعقوبياً ”  . والخلاصة فان الحقيقة التاريخية تدل على أن عائلة الرزي كانت في الأصل سريانية أرثوذكسية ” يعقوبية ” وأن أحد أجدادها الأوائل كان قد هاجر من بلاد ما بين النهرين (العراق) إلى لبنان

 

وفي الوقت الذي تحسن فيه الوضع في لبنان والشرق بحيث يسمح للبطريرك ميخائيل الرزي الاتصال بروما كان البابا بيوس الخامس قد توفي وخلفه البابا ، غريغوريوس الثالث عشر (1573ـ1585) . أوفد البطريرك الجديد إلى البابا احد مطارنته ، هو المطران يوسف وبمعيته أقليميس خوري أهدن . وزودهما برسائل منه ومن أعيان موارنة آخرين تتضمن تعبيرهم عن الطاعة والخضوع لكرسي روما . غادر الموفدان لبنان في 10 نيسان 1577 . وعندما تسلم البابا هذه الرسائل بعث بجواب إلى البطريرك يضم بعض الإرشادات أهمها أن يكف الموارنة عن استعمال ترنيمة التقديسات الثلاث مع عبارة يا من صُلبت لأجلنا  . ثم يمضي البابا ليخبر البطريرك ميخائيل الرزي بأنه علم بأن بعض التعاليم قد وجدت طريقها إلى كنيسة البطريرك منبهاً إياه بوجوب السير على خطى أسلافه والتخلي عن أي تعليم غريب عن تقاليد كنيسة روما . واحتج البابا بصورة خاصة على إضافة الموارنة ، أثناء احتفالهم بالقربان المقدس ، لما يدعوه ” بعبارات بعيدة عن الحقيقة وعن الإيمان الذي تدين به روما ” إلى التقديسات الثلاث . وهذه العبارات هي ” يا من وُلدت وصُلبت من أجلنا ” أو ” يا من قمت من القبر وصعدت إلى السماء ، ارحمنا ” . يقول البابا بأن هذه العبارات يجب ألا توجه إلى الثالوث بأكمله . فهي تشكل “هرطقة ” مماثلة ” لهرطقة ” بطرس القصّار الأنطاكي التي أدانها المجمع الخامس (ويعني عبارة ، يا من صُلبت لأجلنا ، والتي يعتقد بأن بطرس القصّار قد أضافها إلى التقديسات الثلاث) . وحيث انه لا الآب او الروح القدس من الثالوث قد صلبا ، لذا امر البابا الموارنة بشدّة بإسقاط هذه الإضافات إلى التقديسات الثلاث من صلواتهم وطقوسهم  . قد يكون المطران أقليميس يوسف داود على صواب في القول بأن الموارنة أسقطوا هذه الإضافات إلى التقديسات الثلاث منذ ذلك الحين من صلواتهم وخاصة عبارة يا من صُلبت لأجلنا . إلا أن كتبهم الطقسية ما تزال مليئة بها

 

قيل ما يكفي حتى الآن عن التقديسات الثلاث وكيف استعملتها الكنيسة المارونية بنفس الصيغة التي استعملتها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية . ولكن الاكثر اهمية في هذا الصدد هو أن الكنيسة المارونية مازالت حتى بعد عام 1577 تتلو هذه الترنيمة بالصيغة التي اعتبرتها كنيسة روما هرطوقية . لان الكتب الطقسية المارونية كانت تزخر بعقائد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وباسماء قديسيها التي وصفتها كنيسة روما بأنها هرطوقية . ومع ذلك نجد ، منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن السادس عشر ، بابا واحداً فقط هو غريغوريوس الثالث عشر يمنع الموارنة صراحة من استعمال التقديسات الثلاث بصيغتها ” الهرطوقية ” . وسوف نرى اذا قام احد بدراسة العقائد التي تحتويها كتب الموارنة دراسة موضوعية خالية من الغرض لوجد أن الموارنة كانوا سرياناً أرثوذكس “يعاقبة


23 إرسالية جيوفاني باتيستا اليانو إلى الموارنة

عندما غادر الموفدان البطريركيان المارونيان روما أرسل البابا معهما الأب جيوفاني (يوحنا) باتيستا اليانو والأب توماس راجيو اليسوعيين لاختبار إيمان الموارنة وكتبهم الدينية وطقوسهم الكهنوتية وطريقتهم في العبادة. وكان اليانو هو الأليق للقيام بهذه المهمة من الآخرين. اذ ان الدويهي يمتدحه لحكمته وشخصيته الحسنة ومعرفته بالعلوم الطبيعية والإلهية واتقانه اللغات اللاتينية واليونانية والعربية، ومقدرته على قراءة الكرشونية (العربية المكتوبة بالخط السرياني) . كان اليانو يهودياً اهتدى الى الكثـلكة وانضم الى الرهبنة اليسوعية عام 1552 في الوقت الذي كان الباباوات يفكرون جدياً باجتذاب كنائس الشرق المسيحية الى طاعتهم. لهذا السبب اوفد اليانو، ذي الكفاءة العالية، إلى الكنيسـة القبطية في مصر عام  1561 ـ1562 لغرض اجتذابها الى حظيرة كنيسة روما إلا أن مهمته أخفقت . اغتنم البابا غريغوريوس الثالث عشر فرصة رحيل موفدي البطريرك الماروني فعهد اليهما القيام بمهمة جديدة بايفادهما الى الموارنة كما وجههما ايضاً إلى إقامة علاقات مع بطريرك أنطاكية السرياني الارثودكسي داود شاه (1576ـ1591) لغرض إخضاعه وطائفته لسلطة روما . كانت هذه بعثة اليانو التبشيرية الأولى إلى الموارنة

 

أرسل البابا، غريغوريوس الثالث عشر رسالة بصحبة اليانو إلى البطريرك الماروني مؤرخة في 12 كانون الأول 1577. كما كتب الكاردينـال كارافـا أيضاً رسالة إلى البطريرك مؤرخة في 3 آذار 1578 . وفي حزيران من عام 1578 وصل اليانو ورفيقه والموفدان المارونيان طرابلس وبعد ان استراحوا انطلقوا إلى دير قنوبين للقاء البطريرك ميخائيل الرزي. دعا البطريرك أساقفته والأعيان الموارنة إلى اجتماع في الدير. وأعلن في هذا الاجتماع بأنه كان مارونياً وابن ماروني، وبأنه أطاع الحبر الروماني وقوانينه. وأقسم يميناً بأنه يقبل كل ما تقبله كنيسة روما ويرفض كل ما ترفضه. ثم دوّن شهادته في ورقة وقال وهو يطويها ” هذا هو اعترافي الذي أعيش وأموت من أجله “. وبعد أن أعلن البطريرك مرة أخرى طاعته للبابا، سلم اليانو رسائل البابا والكاردينال كاارافا إلى البطريرك، مع الحلل الكهنوتية التي كان البابا قد أرسلها معه هدية للبطريرك. وفي تموز من عام  1578 ، كتب البطريرك رسالة إلى البابا يشكره على هداياه ولطفه. كما كتب اليانو والمطران الماروني في الوقت نفسه رسـالة إلى الكاردينال كارافا يعلمانه فيها بالاجتماع في قنوبين . ولما انفضَّ الاجتماع طلب اليانو من البطريرك السماح له بالطواف في المناطق المارونية لفحص كتب الموارنة وتقاليدهم الدينية. فأذِن البطريرك له بذلك وطفق اليانو من توه بفحص المخطوطات السريانية والكرشونية في مكتبة دير قنوبين. وحدث انه كلما عثر اليانو على مخطوطة تضم عقائد مخالفة لتعليم كنيسة روما وضعها جانباً وقدمها إلى البطريرك وأساقفته. وكانت غالبية المخطوطات تحوي عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي والمشيئة الواحدة، وكذلك انبثاق الروح القدس من الآب وحده، وفقاً لمعتقد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وبما أن معظم هذه المخطوطات كانت من كتابات آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية فقد لفت اليانو انتباه البطريرك وأساقفته إلى أنها كانت تحوي العديد من التعاليم المخالفة للتعاليم التي تلتزم بها كنيسة روما. وافق البطريرك وأسـاقفته مع اليـانو على أن المخطوطات تضـم ” عقائد كافرة “، لكنهم نسبوها دون إقناع إلى نساخ “يعاقبة هراطقة” أو إلى نساخ موارنة جهلة . طبعاً ان القضية لم تكن كذلك لأن البطريرك وأساقفته كانوا يعرفون جيداً بأنه لم يكن بمقدورهم تبرير معتقدهم الصحيح للموفد الباباوي. وسوف نرى مصير هذه الكتب قريباً

 

أمضى اليانو سنة زار خلالها المناطق المارونية فاحصاً الكتب والعادات الدينية المارونية. وتسهيلاً لمهمته زوده البطريرك برسالة خاصة إلى مطارنته وكهنته ورؤساء الأديرة في كنيسته. لا بل عيَّن أخاه المطران سركيس وأحد الكهنة وهو جرجس يونان لمرافقه اليانو في تجواله. وكما يقول البطريرك اسطفان الدويهي فقد حمل اليانو ثلاث مفكرات سجل في إحداها ” الأضاليل ” التي اكتشفها في الكتب الطقسية المارونية ودون في الثانية النقاط التي كان عليه أن يتشاور مع البابا بشأنها، وسطّر في الثالثة القوانين التي كان يتوقع من الكهنة والعامة من الناس مراعاتها . كان المـوارنة يتوقعون انعقاد مجمع كنسي عام في عيد الفصح عام 1579، ولكن لم يحدث ذلك لان الرؤساء استدعوا اليانو على حين غرة للعودة إلى روما. وفي 25 شباط 1579 ودع اليانو البطريرك وغادر إلى روما. وبعد مغادرته قام البطريرك ميخائيل الرزي واخوه المطران سركيس، اللذان أحبا اليانو للغاية، كما يقول الدويهي، لطول أناته وغيرته وتـفهمه، بالكتابة إلى البابا والكاردينال كارافا طالبين إرسال اليانو إليهما مرة أخرى. كما أرسلا شابين مع اليانو للدراسة في روما . وهكذا انتهت ارسالية اليانو الأولى إلى الموارنة

 

إن أهمية هذه الارسالية هي أن اليانو كان أول موفد باباوي قام بشكل وافٍ ومنتظم بفحص كتب الموارنة الطقسية للتوصل الى معرفة معتقدهم الصحيح. وما من شك بان مهمة اليانو كانت كبيرة وخطيرة بحيث كان من المتعذر انجازها بزيارة واحدة إلى الموارنة وكان عليه العودة إلى لبنان في السنة التالية لإتمام مهمته. ومما يجدر ذكره هو أن الغالبية العظمى من الكتب التي قام بفحصها اليانو خلال زيارته الأولى كانت كتب الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولهذا اعترف بعض الموارنة علانية بحضور اليانو بأنهم يدينون بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة والمشيئة الواحدة في المسيح، وهي العقيدة الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية. كتب اليانو في تقريره المقدم إلى البابا في 22 آذار 1579 أنه رأى في باحة المقر البطريركي الماروني في قنوبين، وسمع شماساً مارونياً ينادي علانية ” نحن الموارنة نؤمن بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح “. ولما اراد اليانو معرفة هوية هذا الشخص قيل له انه شماس سرياني ” يعقوبي ” متجول . ومع هذا لم يقتنع اليانو بتمسك الموارنة بإيمان كنيسة روما بل لم يكن على ثـقة بولاء البطريرك الكلي للبابا وكنيسته ولهذا لم ينعم على البطريرك بالباليوم أو بتثبيت البابا. ومع ان اليانو امتدح الموارنة في حضرة البابا وطاعتهم لكرسي روما الرسولي، إلا أنه أخبر الحبر الروماني بأن العديد من “الأضاليل” قد تسللت إلى كتب الموارنة الطقسية بسبب اختلاطهم “بالهراطقة” وانهم يفتقرون إلى رجال متبحرين يقومون بتعليمهم حقيقة إيمانهم. كما قدم اليانو إلى البابا تقريراً خطياً يضم ملاحظاته ويعلم البابا بأنه قد دوَّن هذه ” الأضاليل ” التي وجدها منافية لتعاليم كنيسة روما. كما اقترح على البابا بإقامة مدرسة للموارنة الشباب في روما وبذل الجهد لطباعة كتب تضم مبادئ الإيمان بلغة الموارنة لأجل إرشادهم ( يدّعي الدويهي أن هذه ” الأضاليل ” التي عثر عليها اليانو في الكتب المارونية جاءت من ” كتب الهـراطقة ” أو ” الكتـب التي أفسـدها الهـراطقة “. ويُعـلن بـأن تومـا الكـرملي (Thomas a Jesu) ادرج هذه الأضاليل في القسـم الثـالث من كتـابه : De Procuranda salute omnium Gentium (بخصوص الوسائل لخلاص جميع الأمم) الذي نسخه عن اليانو . يُعتبر هذا الادعاء خطأ ارتكبه الدويهي، لأن هذه ” الأضاليل ” ذاتها قد اكتـشفها وصنَّفها موفد باباوي آخر هو جيروم دنديني، عام 1596 كما سنرى لاحقاً

 

اوفد البابا غريغوريوس الثالث عشر اليانو مرة اخرى عام 1580 الى الشرق، ليضمن الى حدّ كبير ولاء الموارنة وليحاول اعادة كنائس الشرق إلى حظيرة كنيسة روما. ورافقه في رحلته كاهن تقي متبحر، هو الأب جيوفاني باتيستا برونو. كان اليانو قد ترجم وهو ما يزال في روما كتب التعليم الديني التي كتبها الأب اليسوعي بيتر كاسيوس والتي طبعت بالكرشونية في نيسان من عام 1580، لأجل فائدة الموارنة. كما أخذ معه كتباً أخرى كان قد ترجمها نفسه إلى العربية، ومنها كتاب توماس كمبس محاكاة المسيح وليتورجية لاتينية، وكتاب في تفنيد النساطرة و”اليعاقبة”. كان الكاردينال كارافا بدوره قد التمس البابا بمنح الباليوم للبطريرك الماروني. لكن البابا لم يكن واثقاً، كما أشرنا، من صحة معتقدات البطريرك، ولذلك لم يقم بمنحه الباليوم. لا بل كان الكرادلة أكثر ريبة بمعتقدات البطريرك عندما علموا، على الأرجح من اليانو، بأنه كان قد كتب بخط يده في نسخة من الإنجيل مع ملاحظات هامشية تتضمن بعض ” الأضاليل “. ولهذا اعترض الكرادلة على تثبيت البابا للبطريرك. إلا أن اليانو شهد على تقوى البطريرك الماروني ونيته الحسنة وطمأن الكرادلة حول اعترافه بتعاليم كنيسة روما. كما أكَّد لهم رغبة الكهنة الموارنة والشعب الماروني بطاعة قوانين كرسي روما الرسولي. وعندئذ سلم البابا الباليوم إلى اليانو، بالرغم من عدم قناعته، وامره ألا ينعم به على البطريرك ما لم يعترف بطاعته للبابا في حضور اليانو . كما تزوّد اليانو أيضاً بتعليمات خاصة من الكاردينال كارافا والكاردينال سان سيفيرينو. في 7 أيار 1580 كتب الكاردينال كارافا ايضاً بالنيابة عن البابا تعليمات لاليانو ورفيقه ليقوما بفحص إيمان الكنيسة المارونية وكتبها الطقسية وتقاليدها، ومنح الباليوم للبطريرك فقط بعد وثوقهما من إيمانه وطاعته للكرسي الرسولي . ويبدي الكاردينال سان سيفيرينو، في تعليماته المؤرخة في 10 أيار 1580، اهتماماً لا بشأن الموارنة فقط بل بشأن كنائس أخرى في الشرق. اذ أراد من الموفدين الباباويين كسب كل الطوائف الشرقية ” والعودة بها إلى حضن كنيسة روما ”

 

غادر اليانو ورفيقه روما في منتصف أيار ووصلا طرابلس في 29 حزيران 1580. وانطلقا إلى قنوبين ووصلا الدير في 9 تموز. لم يستطع البطريرك الخروج للترحيب بهما بسبب الشيخوخة، لكنه أرسل أخاه، المطـران سـركيس، وبعض الكهنة لاستقبالهما بالصلوات والمباخر  لدى اقترابهما من الدير. وبعد وصولهما الدير قابل الموفدان البطريرك وأبديا رغبتهما باجتماع رسمي معه في 21 تموز، فوافق على ذلك. وفي اليوم الموعود اجتمع الموفدان الباباويان بالبطريرك والمطران سركيس والكهنة والأعيان الموارنة وشرحا لهم الهدف من مهمتهما. وعندما سلّما البطريرك براءة البابا قبّلها ووضعها على رأسه وفقاً للعادة الشرقية علامة لمنتهى الاحترام والطاعة. حينئذٍ عرض اليانو الباليوم الذي بعث به البابا الى البطريرك وسلمه الهدايا التي حملها هو ورفيقه، إلى جانب كتاب تعليم العقيدة والكتب الدينية الأخرى. ثم اخذ الموفدان في شرح كتاب التعليم الديني للمجتمعين. بيد أن اليانو كان على الاخص معنياً بإفشاء “الأضاليل” والتعاليم الأخرى المخالفة لتعاليم كنيسة روما التي تحتويها الكتب الطقسية المارونية. كما قدّم إلى البطريرك وأساقفته نسخة من القوانين الكنسية لمناقشتها في مجمع قادم. كانت فكرة عقد مجمع على ما يظهر، في طور التـشكيل، إذ أننا نعلم بأن اليانو كان قد صاغ وهو ما يزال في عرض البحر، جدول أعمال بالقضايا التي ستتم مناقشتها في المجمع الذي كان ينوي عقده لدى وصوله قنوبين . وبعد مدة وجيزة التأم المجمع في 18 آب 1580 في قنوبين، وقام البطريرك ظاهرياً برئاسته ولكن اليانو كان هو الرئيس الفعلي للمجمع. حضر المجمع مطارنة وكهنة ووجهاء آخرون من الموارنة. كما أمّه أكثر من ألفين من العامة معظمهم جاءوا من القرى المجاورة للدير للاحتفال بمهرجان العذراء القديسة مريم الذي صادف الاحتفال به يوم انعقاد المجمع. كان البطريرك المسن قد تعافى من المرض واصبح قادراً على الاحتفال بالقربان المقدس بمساعدة مطارنته. وفي نهاية الاحتفال توجه اليانو الى المذبح وتلا صلاة استدعاء الروح القدس ثم ألقى عظة باللغة العربية، شرح فيها الغاية من ارساليته وعبَّر عن الأمل بنجاحها ووزع نسخاً من قانون ايمان كنيسة روما على المصلين وبدأ بقراءته مع الكهنة والناس يرددون وراءه وبعد انتهاء القداس اجتمع الموفدان الباباويان والبطريرك والكهنة بمفردهم للتداول بشأن القضايا التي قام  اليانو بوضعها. ودامت المداولة ثلاثة أيام

 

تُعتبر وقائع جلسات هذا المجمع على غاية من الأهمية في تأييد رأينا وهو أن عقيدة وطقوس الكنيسة المارونية كانت نفس عقيدة وطقوس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. لا بل إن كل نقطة حاول المجمع تفنيدها أو الاحتراس منها كانت تعلن رغبةَ اليانو الشديدة في إبلاغ الموارنة بأن معتقداتهم وعقائدهم هرطوقية وأن عليهم تصحيحها. من الممل بحث كل قضية من القضايا التي ناقشها المجمع في قنوبين ويكفي أن نذكر فقط النقاط المماثلة للمعتقدات الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية.

قرر المجمع ما يلي:

 

يجب تـنقيح قانون الإيمان النيقاوي ليضم انبثاق الروح القدس من الآب والابن.

 

يجب على الموارنة الاعتراف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين أو قدرتين في المسيح.

 

  1. -يجب عليهم التخلي عن عبارة يا من صُلبت من أجلنا من التقديسات الثلاث.
  2. -يجب على الموارنة الاعتراف بوجود المطهر.
  3. -يجب حظر الطلاق لعلة الزنى وعلى الكنيسة المارونية ألا تبارك الزيجات الثانية للأزواج
  4. -المطلقين على هذا  الأساس.
  5. -يجب على الكاهن ألا يمسح المعتمدين بالميرون، طالما أن هذه الوظيفة مقصورة على المطران فقط.

– يجب عدم مناولة الأطفال القربان قبل بلوغهم سن البلوغ .

 

يبدو ان قرارات المجمع ابهجت البطريرك حيث قام بتوقيعها شخصياً. وفي الوقت نفسه قام اليانو بتوزيع نسخ من هذه القرارات على موارنة لبنان وحلب ودمشق. وما ان تمّ ذلك وافق الكهنة والناس بدورهم على كل القرارات ما عدا القرار المتعلق بالطلاق. كما شرحوا لاليانو بأنه من الصعب إنكار الحق على الطرف البريء في الزواج ثانية إذا كان الطلاق قد وقع بعلّة الزنى. لكن اليانو ظلّ متصلباً حول هذه النقطة وأخبر البطريرك بأنه من غير المسموح لأي رجل بالزواج ثانية طالما أن زوجته كانت على قيد الحياة، حتى في حالة ارتكابها الزنى. وهنا فاتح أحد الموارنة البارزين اليانو وقدّم له مالاً للسماح له بالزواج ثانية لأنه كان قد طلـق زوجة زانيـة، إلا أن اليانو رفض ذلك

 

بالرغم من قرارات مجمع قنوبين وجهوده العارمة لتعليم الموارنة إيمانَ كنيسة روما، فقد ظل اليانو غير مقتنع بأن مجمع قنوبين، على حد تعبير الأب لويس شيخو، ” كان إجراءً كافياً لاجتثات الزؤان من حقل الرب” . يُعلق شيخو بأن اليانو أدرك خلال بعثته الأولى أن عدداً كبيراً من كتب الموارنة الطقسية مازالت تحوي تعاليم مخالفة لعقائد كنيسة روما ” دسها نسّاخ الهرطقة اليعقوبية ويمضي قائلاً ان اليانو لم يستأصل هذه “العلة” ويعني بذلك ” الهرطقة اليعقوبية ”

 

كان الأب اليانو حيثما ذهب يُعيد فحص الكتب الكنسية ويُـشير إلى الأمور الكاذبة والفاسدة فيها، وينبه الكهنة إليها ويوصي بتصحيحها. أو كان يقوم بشرائها من أصحابها وإحراقها واعداً أصحابها بتزويدهم بنسخة منها ذاتها بعد أن يتم تـنقيحها في روما  ونشرها .

 

يفيدنا شيخو أيضاً بأن إحدى المخطوطات التي قام اليانو بفحصها كانت نسخة من كتاب الهدايات (الهدى) للكاتب القبطي الصفي ابن العسّال من القرن الثالث عشر؛ وكانت مجلدة مع نسخة من كتاب لتوما مطران كفرطاب الماروني . كتب اليانو بالإيطالية على صفحة الغلاف من هذه المخطوطة، “يضم هذا الكتاب العديد من الأضاليل ولا بد من احراقه”(23). وهنا يعطي شيخو، الذي يروي حادثة إحراق اليانو لمخطوطات كنسية، الانطباع بأن القيام بالاحراق كان أمراً مستحسناً، ” لاستـئصال الزؤان من حقل الرب ” .

حضر مجمع قنوبين سويريوس مهنا مطران حردين السرياني الأرثوذكسي (1571ـ1590) كما حضره رجل من علماء كنيسته. وقد رحب البطريرك الماروني بالزائرين ودعاهما لحضور جلسات المجمع، ولكن ليس هناك ما يدل على الغاية من هذه الدعوة. بيد أن سويريوس مهنا حضر المجمع بالفعل وانخرط في جدل مع اليانو حول عقيدة الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين للمسيح. وإذا استطعنا هنا تصديق الاب شيخو، يكون اليانو قد افحم المطران ورفيقه . ولكن الذي يثير دهشتنا هو انه لم يكن هناك سبب لحضور المطران مهنا وهو السرياني الارثودكسي المجمع اللّهم إلا إذا كان قد عرف مقدماً بغاية اليانو بفحص الكتب المارونية، وبالتهمة التي وجهها الى البطريرك والكهنة الموارنة ومفادها أن الكتّاب السريان الأرثوذكس قد أدخلوا ” أضاليلهم ” في هذه الكتب مما حرضه على اللقاء باليانو في المجمع والدفاع عن كنيسته وكتّابها ودحض ما اعتقد بأنه اتهامات باطلة

وبينما كان اليانو في لبنان وافت المنية البطريرك ميخائيل الرزي في 28 أيلول 1581 بعد تلقيه الطقس الأخير من اليانو .  وفي الحال قام المطارنة الموارنة، بحضور الموفدين الباباويين، اليانو وبرونو بانتخاب اخيه سركيس بطريركاً خلفاً له .

كان أول عمل قام به البطريرك الجديد هو زيارة أبرشياته. ونعلم من رسالة وجهها اليانو إلى الكاردينال كارافا بأن البطريرك الجديد كان أول من وضع تعاليم كنيسة روما وعاداتها موضع التـنفيذ. يقول اليانو أن البطريرك قام شخصياً بتثبيت الأطفال المعتمدين، إذ أن الكهنة في الماضي انفسهم كانوا يقومون بهذا التثبيت. كما منع أيضاً الكهنة من تقديم الأسرار للمواليد الذين تتم معموديتهم وأمرهم بالاعتراف علانية بعقيدة المشيئتين والقدرتين في المسيح . وبعد ان انهى اليانو مهمته غادر لبنان إلى سورية حيث حاول هداية الملكيين والبطريرك السرياني الأرثوذكسي إلى الكثلكة الرومانية، إلا أنه فشل. وفي آب عام 1582، ذهب إلى مصر كموفد باباوي للدعاية بين الأقباط، وهدايتهم إلى الكثلكة ومكث في مصر حتى آذار من عام 1585، إلا أنه لم يلقَ نجاحاً. ثم عاد إلى روما حيث أنعم عليه البابا، سيكستس الخامس بمنصب المانح الكبير للغفران وهو المنصب الذي احتفظ به حتى وفاته في 3 آذار 1589

 

ليس من الممكن قياس مدى قناعة اليانو بشأن معتقدات الموارنة وفيما إذا كانت متّفقة مع معتقدات كنيسة روما اعتماداً على زيارتيه للموارنة والرسائل التي كتبها إلى روما أو من خلال مديحه للموارنة وهو يحل ضيفاً عليهم. بل لا يمكن الحكم على هذه القناعة إلا عن طريق المعلومات التي جمعها وسجلها خلال زيارتيه للموارنة والتي اودعها المفكرات الثلاث التي ذكرها الدويهي. يقول الدويهي ان اليانو دوّن في إحدى هذه المفكرات ” الأضاليل ” التي عثر عليها في الكتب الطقسية وغيرها من الكتب الدينية عند الموارنة. وقد اكتشف هذه المفكرة بعدئذ الكاتب الكرملي Thomas a Jesu، الذي ادمج محتوياتها في كتابه : De Procuranda salute omnium Gentium  (بخصوص الوسائل لخلاص جميع الأمم عام 1613)  المذكور آنفاً. ان الدويهي قرأ هذا الكتاب شخصياً وقرر ان يكتب تفنيداً لما اعتقد بأنه اتهامات باطلة ضمها الكتاب ضد شعبه. ولكن بما ان اليانو كان أثار هذه الاعتراضات على إيمان الموارنة قبل أن ينشر توما الكرملي كتابه بأكثر من ثلاثين عاماً، فقد قرر الدويهي الحصول على نسخة من المفكرات الأصلية لاليانو لئلا يعتقد أحد بأن تفنيده يفتقر إلى البرهان. وفعلاً نجح الدويهي في الحصول على نسخة من المفكرات التي كان كاسبار الغريب (غاسبار بيريغنينوس) قد قام بنسخها، وهو أحد الشابين المارونيين اللذين اصطحبهما اليانو إلى روما للدراسة بعد زيارته الأولى إلى لبنان عام 1578

 

وكما يقول الدويهي فان كاسبار الغريب حصل على النسخة الأصلية لهذه المفكرات من اليانو وعمل نسخة منها بخط يده. وعندما عاد إلى قبرص أصبح مشهوراً بعلمه وورعه. وهناك ترك النسخة في دير الصليب وهو كرسي الأبرشية المارونية في الجزيرة. ومن هذه النسخة علم الدويهي عن الكتب التي اجري الفحص عليها اليانو في لبنان وعن تعليقاته عليها و “الأضاليل” التي وجدها في كل منها. لا بد أن اليانو كان دقيقاً جداً في فحص هذه الكتب إذ أنه دوَّن عدد الصفحات في كل منها إلى جانب أسماء مالكيها الذين قدموها اليه بيسر. يقول الدويهي بأن اليانو جمع تعليقاته حول “الأضاليل” الواردة في هذه الكتب في مفكرة منفصلة أدمجها توما الكرملي فيما بعد في كتابه المذكـور آنفاً. ثم يتـابع معدداً هذه الكتب التي اتمّ اليانو اختبارها . وهنا يهبُّ الدويهي مدافعاً عن كنيسته وإيمانها بكتابة كتاب، مازال على شكل مخطوطة، بعنـوان الاحتجاج، يتحـدى فيه آراء اليانو وتوما الكرملي . وهذا ما يُـفسر دهشة الأب شيخو بأن الدويهي أغفل ذكر مجمع قنوبين المنعقد في آب 1580 في تاريخه كأن المجمع لم يكن . ولكن انّى للدويهي أن يستحسن ذلك المجمع في الوقت الذي اعتبر اليانو بعض القضايا التي أثيرت فيه أضاليل تـناقض تعاليم كنيسة روما ؟ سوف نرى بعدئذ بأن البطريرك الماروني سركيس الرزي اتهم اليانو بالتزييف في نقل المعلومات إلى روما بخصوص إيمان الكنيسة المارونية

عديدة هي ” الأضاليل ” التي ينسبها اليانو وتوما الكرملي، الذي نسخ عمله، إلى الموارنة. ويمكننا تصنيفها في فئتين : الفئة الاولى تمت إلى العقائد المسيحية الجوهرية، والثانية تخصّ العادات الطقسية. هناك فئة ثالثة تتعلق بخلق العالم، والإنسان الخ لا تخصّ الموضوع. والمهم هو أن الدويهي وضع ملخصاً لهذه الأضاليل واصفاً إياها ” بالاتهامات ” في نهاية كتابه الاحتجاج . إن “الأضاليل” الرئيسية والتي وجدها اليانو في كتب الموارنة هي كما يلي

 

أن ربنا (السيد المسيح) يمتلك شخصاً واحداً ومشيئة واحدة.

أن ليس لربنا سوى طبيعة واحدة.

أن ليس لربنا سوى مشيئة واحدة وقدرة واحدة.

لا وجود لدينونة خاصة.

لا وجود لخطيئة  أصلية.

لا وجود لثواب وعقاب قبل دينونة العالم.

أن الروح القدس ينبثق من الآب فقط.

أن المسيح تألم في ألوهته.

لا وجود للمطهر.

 

هذه “الاضاليل” ما عدا عدم وجود خطيئة اصلية هي من العقائد الجوهرية للكنيسة السريانية الارثودكسية وتدل دلالة قاطعة على ان الموارنة كانوا سرياناً ارثودكسيين “يعاقبة”. أما ” الأضاليل ” الأخرى التي ينسبها اليانو إلى الموارنة فهي التثبيت الذي يجري في وقت العماد وحق الكاهن في القيام بالتثبيت والقربان المقدس الذي يقدم فيه العنصران “الخبز والخمر” إلى العامة من الناس، والقربان المقدس الذي يعطي للمواليد عند معموديتهم، وزواج الكهنة من عذارى فقط، وقدرة الرجل المُصاب بعاهة جسدية أن يصبح قسيساً، وإمكانية قيام الرجل بطلاق زوجته لعلة الزنى والزواج بأخرى، والسماح للشخص بإنكار إيمانه علانية وإضماره سراً، واستعمال الخبز غير الفطير في الأسرار لأن الرب أكل خبزاً غير فطير في العشاء الأخير، والسماح للكاهن المحتفل بالقداس بالاحتفال بالقربان المقدس بعد وضع نسخة من الإنجيل على المذبح، واعتبار الميرون المقدس جزءاً أساسياً من المعمودية، وإمكانية فصم عقد الزواج لعدة أسباب وخاصة الزنى

 

يفند الدويهي كل واحد من هذه ” الاتهامات ” بالترتيب الذي وضعها فيه اليانو وتوما الكرملي. اما فيما يتعلق بالقضايا العقائدية الأساسية، فان الدويهي لم يقدم شيئاً سوى ما قاله سابقاً في محاولته تفنيد آراء الكتّاب الآخرين. يرد الدويهي مثلاً على قضية امتلاك ربنا لشخص واحد ومشيئة واحدة بأن اليانو استعار هذا الاتهام من الكاتب النسطوري أبي الفرج عبدالله بن الطيب، الذي ناقشناه سابقاً. كما يتهم أيضاً توما مطران كفرطاب بأتباع آراء ابن الطيب ونشر عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية) بين الموارنة. يكرر الدويهي الخطأ في جعل ابن الطيب مارونياً وانه وتوما مطـران كفـرطاب قد تأثرا بكتابات سـعيد ابن بطريق . أما حول عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب وحده، فيرد الدويهي بأن هذا ” الاتهام ” كان قد أطلقه أولاً الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس، وهو موفد البابا اينوسنت الثالث  إلى الموارنة. ويجادل بغير إقناع كما فعل من قبل، بأن المقصودين في رسالة اينوسنت الثالث التي تضم هذا الاتهام هم الملكيون الذين يعيشون في سورية لا الموارنة. ويصرُّ الدويهي، خطأً بالطبع، على أن الموارنة كانوا دائماً يؤمنون بانبثاق الروح القدس من الآب والابن . اما فيما يخصّ عقيدة طبيعة المسيح الواحدة، يكرر الدويهي ما ذكره في كتابه تاريخ الطائفة المارونية، بأن الموارنة كانوا دائماً خلقيدونيين وأنهم ضحوا بثلاثمائة وخمسين راهب دفاعاً عن معتقدهم. علاوة على ذلك، يُـشير الدويهي إلى الكتاب المنسوب إلى يوحنا مارون، شرح الإيمان، ويؤكد خطأً بأن المؤلف لم يكن سوى يوحنا السرميني، الذي خلف أفرام الآمدي على كرسي أنطاكية. وكان قد تمَّ البيان سابقاً بأن يوحنا السرميني لم يكن هو يوحنا مارون ولا بطريرك أنطاكية، بل كان بطريرك القسطنطينية. قدم الدويهي أيضاً شهادةً من شرح الإيمان تؤكد أن يوحنا مارون وأتباعه لم يرفضوا الاعتراف بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي بحسب قول القديس كيرلس الاسكندري. بعبارة أخرى، يؤكد أن يوحنا مارون والموارنة كانوا مونوفيزيين وبالتالي ” هراطقة “. هذا ما يدعو إلى الكثير من الدهشة سيما ان جهود الدويهي الرئيسية كانت تبرئة يوحنا مارون والموارنة من وصمة ” هرطقة المونوفيزين “. ومما هو أكثر مدعاة للدهشة ان الدويهي يستشهد بيعقوب السروجي وهو احد أئمة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ، وهو مونوفيزي تمسك بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي، للبرهان على أن يوحنا مارون وأتباعه اعترفوا بهذه العقيدة . مجمل القول هو أن رفض الدويهي ” للاتهامات ” التي ظن بأن اليانو وتوما الكرملي قد وجهاها الى الموارنة يتـناقض كلياً مع غايته التي شرع في إبدائها وهي أن الموارنة لم يكونوا هراطقة

 

ولا يتوقف الدويهي عند حد رفض ما يدعوه ” بالاتهامات ” التي وجهها اليانو وتوما الكرملي ضد الموارنة فحسب بل يمضي خطوة أبعد بالتشكيك بكفاءتهما اللغوية ونزاهتهما ككاتبين وخاصة اليانو. يقول الدويهي بأن معرفة اليانو باللغة العربية وقراءته للكرشونية (اللغة العربية بخط سرياني) لم تكن وافية مما جعله يسيء فهم الكتب التي اجرى عليها الفحص . ويجادل الدويهي بأن للتعابير العربية العديد من المعاني عسيرة الفهم لمن ليست العربية لسانهم الأم، فما قولك بالنسبة لاليانو الذي لم يكن قد اختلط اختلاطاً كافياً بالعرب أو درس كتبهم أو أتقن قواعد وصرف لغتهم. بل كل ما اكتسبه هو معرفة الأبجدية العربية ولغواً من الكلام المحكي، لذا لم يمكنه على الإطلاق فهم الكتب التي قام بفحصها أو التمييز بين الكتب التي صادق عليها الموارنة والتي لم يصادقوا عليها. بل ان اليانو نسخ ببساطة آراء الكتّاب دون تمييز على ما يبدو. ومجمل القول هو ان الدويهي يتهم اليانو بأنه ” أمي “، غير قادر على فهم اللغة العربية أو تقاليد أهل البلاد . وأخيراًهم الدويهي اليانو بأنه لم ينقل إلا ما هو افتراء على الموارنة والناس الشرقيين الآخرين . لسنا هنا في موضع يخولنا حق تحدى كفاءة اليانو في اللغة العربية، إلا أن الدويهي نفسه كان قد اعترف سابقاً بمعرفة اليانو الكافية باللغة العربية ومقدرته على قراءة الكرشونية وامتدحهما( النقطة الرئيسة هنا هي فيما إذا كانت العقائد التي وجدها اليانو في الكتب المارونية متفقة مع عقائد كنيسة روما. والحقيقة هي انها لم تكن كذلك. فعندما زار اليانو لبنان، كانت كتب الموارنة الطقسية تضم ما يكفي من العقائد التي توحي بأصلهم المونوفيزي أو ” اليعقوبي ”

 

ختاماً، جاءت ارسالية اليانو إلى الموارنة والأضاليل العقائدية التي عثر عليها في كتبهم بنتيجتين وهما تأسيس مدرسة مارونية للتعليم الديني للطلاب الموارنة وطباعة الكتب المارونية بعد تـنقيحها في روما عام 1584 . ومن اول الكتب الني نُشرت عام 1594 بعد وفاة اليانو، هو كتاب الليتورجيات الذي جاء ذكره آنفاً. وهو يضم العديد من الليتورجيات التي كتبها آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، إلا أن هذه الليتورجيات حُذفت من طبعة الكتاب لعام 1608


24 إرسالية جيـروم دنديني إلى الموارنة

يبدو أن الجهود التي بذلها اليانو لإزالة العقائد ” الهرطوقية ” من كتب الموارنة الطقسية لم تـقنع كرسي روما الرسولي بأن الإيمان الماروني والمؤلفات الدينية المارونية، جرى تطهيرها كليّاً، لأننا نجد بعدئذ بابا آخر ، هو أقليميس الثامن ( 1592 ـ 1605 )، يوفد جيـروم دنديني (1554ـ1634)، أستاذ للفلسفة في Peruge (بيروج) ، إلى الموارنة للقيام بنفس المهمة التي قام بها اليانو قبله، ولحسن الحظ، ترك لنا دنديني تقريراً مسهباً عن ارساليته إلى الموارنة مع وصف بليغ عن رحلته وعن أخلاق الموارنة والمسلمين، (الذين يسميهم عموماً بالأتراك)، وعاداتهم

 

نعلم من رواية دنديني بأن الموارنة في زمنه ولفترة طويلة قد اعطيت عنهم فكرة خاطئة للبابا والكرادلة باتهامهم ” بأضاليل مختلفة وهرطقات كبيرة ” . لكن لا بد وأن الطلاب الموارنة الذين كانوا يدرسون في روما في ذلك الوقت قد بذلوا جهداً كبيراً في شرح أصل كنيستهم وإيمانهم والبرهان عليه للكتّاب اللاتين واحبار كنيسة روما. من المحتمل ايضاً أن يكون تقرير اليانو المقدم إلى البابا والذي احتوى على “الأضاليل” التي كان قد عثر عليها في كتب الموارنة قد اسعر حدّة الجدل والريبة بشأن ” كاثوليكية ” الموارنة. لهذا السبب وغيره، خاصة تبرير المصاريف الهائلة المخصصة لمدرسة الموارنة في روما، ارتأى البابا ضرورة ايفاد جيروم دنديني إلى لبنان للحصول على تقرير صادق ونهائي عن معتقدات الموارنة وولائهم لكرسي روما الرسولي

 

وصل دنديني إلى طرابلس في نهاية آب عام 1596 يرافقه الأب فابيو برونو. وانطلق إلى دير قنوبين تاركاً وراءه الأب برونو مريضاً، ووصل الدير في الأول من أيلول. وفي اليوم التالي حظي بمقابلة البطريرك سركيس الرزي (1581ـ1596) الذي كان قد خلف أخاه ميخائيل عام 1581. شرح دنديني للبطريرك طبيعة مهمته وسلمه البراءة البابوية والتي قبلها البطريرك بورع ووضعها على رأسه علامة الاحترام. كانت الزيارة مختصرة، لكن دنديني حظي بلقاء رسمي آخر مع البطريرك في اليوم التالي. وما أن بدأ دنديني بمناقشة مهمته حتى بدأ البطريرك يتذمر لأن البابا أرسل اليه فقط رسالة عادية لا منشوراً بابوياً رسمياً يثبت معتقد الموارنة واتحادهم بكنيسة روما، كما كانت عادة الباباوات السابقين

 

اعتقد البطريرك بأن منشوراً جليلاً كهذا قد يكون عزاء كبيراً لمطارنته وشعبه. كما تذمر أيضاً بأنه كان قد أرسل قبل عام موفداً إلى البابا للتعبير باسمه وباسم الموارنة عن خضوعهم له ولكنيسته وراجياً تثبيته في ” منصبه القديم كبطـريرك أنطـاكية “، إلا أنه لم يتسلم رداً من البابا . وهنا دهش دنديني الذي لم يكن على علم بهذه المسائل، إلا أنه حاول قصارى جهده تهدئة البطريرك الذي يبدو بأنه اقتنع باعتذار دنديني. ثم عرض دنديني على البطريرك الدعوة إلى عقد مجمع لاتخاذ قرار نهائي عن الوضع الصحيح لمعتقدات الموارنة مضيفاً بأنه تكفي لهذا الغرض دعوة الأساقفة فقط إلى هذا المجمع. اعترض البطريرك بشدة على عقد مثل هذا المجمع لأسباب تتعلق بمجمع قنوبين السابق الذي عقده اليانو عام 1580 في عهد ميخائيل شقيق البطريرك، وحضره البطريرك نفسه عندما كان مطراناً. احتج البطريرك بأنه في ذلك المجمع كان هو نفسه والمطارنة الحاضرين قد اعطوا ورقة بيضاء للتوقيع عليها واكّد الذين سلموها اليهم بأنها ستملأ بما هو صالح ومفيد للشعب الماروني. وبعد أن وقع الأساقفة الورقة اخذها الذين طلبوا منهم توقيعها إلى طرابلس ودسوا فيها عدداً كبيراً من الأضاليل والهرطقات. وانطلق هؤلاء إلى روما، دون أن يبلغوا أياً من أعضاء المجمع أو يتركوا نسخة من قراراته بل عمدوا بخبث شديد إلى تشويه سمعة أعضاء المجمع أمام البابا وكرادلته. وخوفاً من تكرار مثل هذه الإساءات اعتذر دنديني للبطريرك من هذه المعاملة لكنه اصرّ على وجوب عقد مجمع . لم يستطع دنديني تصديق ما سمعه من البطريرك إلا أنه يقول بأنه لم يجد نفسه في موقف يمكنه من إنكار ما سمعه طالما أن العديد من الأشخاص أيدوا شكاوى البطريرك. ولم ير دنديني مندوحة من تهدئة البطريرك واعداً اياه بفحص وقائع جلسات مجمع قنوبين الذي اثار استياء البطريرك. واضاف دنديني بأنه لن يفعل شيئاً دون مشاورة البطريرك وموافقته. غير ان البطريرك قدّم حجةً أخرى بعدم وجود ضرورة لعقد مجمع وهي : أنه من الصعب دعوة مجمع للانعقاد وجمع الأعيان الموارنة ولقائهم مع موفد البابا بالنظر الى حالة الحرب بين الأتراك العثمانيين وأوروبا،. وبالرغم من هذه الحجة فقد قام دنديني بتهدئة البطريرك وإقناعه بأنه من الممكن ايجاد بعض المبررات لعقد المجمع. وأخيراً يقول دنديني بأن هذا ” الرجل العجوز الطيب ” وافق على طلبه وكتب إلى مطارنته داعياً إياهم إلى عقد مجمع

 

ليس هناك من دليل على أن اليانو خدع البطريرك والمطارنة ليوقعوا ورقة بيضاء في قنوبين عام 1580. بل ليس من دليل أيضاً على أن اليانو اوغيره ملؤوا هذه الورقة بـ ” أضاليل وهرطقات ” وحملوها إلى روما للطعن بمعتقدات الموارنة أمام البابا. إن ما يدعو إلى الدهشة حقاً هو زعم البطريرك سركيس الرزي بأن اليانو نفذ هذه المكيدة الشريرة دون معرفة المجمع أو أي شخص آخر. ولكن يظهر ان البطريرك المح بالنتيجة بطريقة غير مباشرة بأن البابا وجد من الضروري إرسال دنديني للتحقيق في صحة معتقدات الموارنة لأن اليانو كان قد شوه سمعتهم بخبث. هذا ما دعا المطران أقليميس يوسف داود ان يشك بصدق اتهامات البطريرك لاليانو . ولكن مما يزيد في صعوبة الدفاع عن هذه التهم هو العدد من الرسائل التي كتبها البطريرك إلى اليانو في روما، ممتدحاً جهوده المشكورة لمساعدة الموارنة. وربما كان البطريرك سركيس قد نسي بأن أخاه، البطريرك ميخائيل، كان قد بعث رسالة إلى الرئيس العام لليسوعيين يبلغه فيها بأن “اليانو قرأ كتبنا ووجد فيها العديد من الأضاليل”، ويطلب منه إرسال اليانو مرة أخرى إلى لبنان . لكن يبدو، بغض النظر عن شكوى البطريرك بأنه أُجبر مع آخرين من المطارنة على توقيع ورقة بيضاء، أن المعلومات التي قدمها اليانو إلى ذوي الشأن في روما تدل على أن كتب الموارنة مازالت تضم عقائد مخالفة لعقائد كنيسة روما، ومن هنا جاءت ارسالية دنديني الى الموارنة

 

قام دنديني باستقصاء شامل لمعتقدات الموارنة قبل أن يعقد مجمعاً كنسياً. ويقول بأنه وجد الكثير من الأدلة عن ” المفاسد ” في معتقدات الموارنة جعلته يفتح عينيه وينكب بجـد ومثابرة على اكتشاف حقيقة  الأمر . هناك سببان حملاه على القيام بذلك وهما : أهمية المسائل التي كان يقوم بالبحث عنها، وانه قد علم قبل بضع سنوات بأن هذه ” الأضاليل ” وغيرها قد نسبت إلى الموارنة . وقد ظل الموارنة متمسكين بهذه ” المساوئ ” و” الأضاليل ” التي لم يزل كهنتهم يتلونها حتى نهاية القرن السادس عشر. وقام دنديني بتبويب تسعة فئات لهذه “الأضاليل”، وهي

 

  1. -أنه لم تكن في يسوع المسيح سوى طبيعة واحدة وهي الطبيعة الإلهية.
  2. -أن الروح القدس ينبثق فقط من الآب.
  3. -أن الثالوث بأجمعه قد تجسد ومات على الصليب وقام ثانية.
  4. -بوسع الزوج أن يطلق زوجته ويتزوج بأخرى إذا ارتكبت الزنى أو لأسباب أخرى.
  5. -لا وجود للخطيئة الأصلية.
  6. -أن الأرواح التي تبارح أجسادنا لا تذهب الى الجنة كثواب، ولا الى الجحيم كعقاب، بل تـنتظر ذلك حتى يوم دينونة العالم وأنها في غضون ذلك تبقى في مكان حيث لا حزن فيه ولا فرح.
  7. -من المباح قانوناً أن ينكر المرء معتقده ظاهرياً وأن ينكره شفهياً بشرط أن يختزنه في القلب.
  8. -أن سر التثبيت لا يتميز عن المعمودية.

– أنهم يعطون القربان المقدس للأطفال .

 

يقـول دنديني بأنه بذل كـل جهد للتوصل الى معـرفة حقيقة هذه ” الأضاليل ” حتى انه استخدم آخرين لمساعدته في البحث عنها. ولكن كل ما استطاع أن يجده هو ضربين فقط من هذه “الأضاليل” كان الموارنه يمارسونهما وهما: طلاق الزوجة لعلة الزنى ومناولة القربان المقدس للأطفال. أما بالنسبة ” للأضاليل ” الأخرى فقد ادرك جيداً أن الموارنة قد اتهموا بها زوراً. بيد أنه يعترف، بأنه وجد وهو يقرأ أحد كتبهم ـ دون أن يتمكن من تذكر اسم الكتاب ـ الاعتقاد بمشيئة واحدة وفعل واحد في المسيح (المونوثيلية) كما وجد فيه أيضاً ” بعض الأشياء الأخرى الآثمة ” وقرر تدوين كل هذه المفاسد خطياً لعرض كل واحدة منها بالتفصيل الى المجمع عند اجتماعه لكي يتكفل بتصحيحها

 

أول شيء يلحظه المرء بخصوص قائمة ” المفاسد ” أو “الأضاليل” التي جمعها دنديني هي أنها وتلك التي جمعها اليانو قبل نحو عشرين عاماً مطابقة ولكن ليس هناك من بيِّنة بأن دنديني كان قد درس مفكرات اليانو قبل مغادرته روما. فانه من غير المحتمل جداً أن يكون قد اطلع على هذه المفكرات ولم يشر اليها. بالإضافة الى ذلك ليس لدينا دليل بأن دنديني كان على معرفة باللغات الشرقية الضرورية لقراءة كتب مارونية. ولكن من المحتمل كما يقول هو نفسه بانه اعتمد على الآخرين في قراءة هذه الكتب له والتي وجد فيها “بعض الأضاليل” . ان هذه القائمة من ” الأضاليل ” هي بالضبط تلك التي قدمها دنديني إلى المجمع المزمع لبحثها

 

بعد أن أطلع دنديني على معتقدات الموارنة وعلى ” الأضاليل ” التي لم تزل موجودة في كتبهم، أبلغ البطريرك والمطارنة والكهنة والشمامسة الآخرين بعزمه على عقد مجمع. والذي يلفت النظر هنا هو ان ارسل الاشعار الى البابا بعقد مجمع لم يكن البطريرك الماروني بل موفده دنديني موفد البابا مما يدل، بأن سلطة الموفد البابوي كانت أعلى من سلطة البطريرك. وأخيراً اجتمع المجمع في 28 كانون الأول 1596. وجرت قراءة رسالة البابا الموجهة إلى البطريرك والتي يشرح فيها مهمة دنديني وقد أضاف دنديني الأسباب التي دفعته إلى عقد هذا المجمع. كما أنه القى خطاباً قصيراً موجهاً بصورة خاصة إلى المطارنة يذكرهم فيه بواجبهم حيال الكنيسة

 

قسم دنديني القضايا التي ستتم مناقشتها إلى ثلاث فئات : تتعلق الفئة الأولى بمعتقد الموارنة؛ أما الفئتان الثانية والثالثة فتتعلقان بالمدرسة المارونية في روما ومعاملة خريجيها ومستقبلهم. يروي دنديني بأن البطريرك قاطعه وهو يهِّم بافتتاح المجمع معرباً بصوت جهوري عن استيائه الكبير من المجمع السابق الذي التأم في الدير قبل ستة عشرة عاماً محتجاً بأنه لم يصادق هو أو سلفه على قرارات ذلك المجمع. وتابع البطريرك معترضاً بادانة ” الأضاليل ” التي ادعى بأنها فرضت عليهم وعلى شعبهم. كما أدان أولئك الذين عقدوا ذلك المجمع واصر بأنه هو نفسه وشعبه قد اتبعوا دائماً تعاليم كنيسة روما وسوف يستمرون في اتباعها . وهنا تأثر أحد الشمامسة الحاضرين في المجمع بحرومات البطريرك فصاح ” نعم سوف نتبع تعاليم كنيسة روما ولن نفصل أنفسنا بأي حال عنها مهما أصابنا من بؤس ” .

استحسن دنديني هذا الحماس واعتبره علامة طيبة في بداية المجمع. وعلى الرغم من ذلك أراد دنديني التأكد أكثر بخصوص معتقد الموارنة، وهو الامر الذي كان قد كُلفِّ للقيام باختباره. بسط دنديني أمام أعضاء المجمع ” الأضاليل ” التي كان قد صنَّفها وطلب من كل واحد منهم أن يُعلن معتقده.

وبعد أن فرغ من ذلك، اعترف الجميع بالإجماع وبدون جدال، بالبنود التالية كما يؤكد دنديني :

 

ليس في يسوع المسيح سوى شخص واحد إلهي، بطبيعتين، ومشيئتين وفعلين؛ إحداهما إلهية والأخرى بشرية

 

أن الروح القدس ينبثق من الآب والابن كانه من قدرتين فاعلتين وحيدتين

 

أن الابن وحده تجسـد، لا الثالوث بأجمعه؛ كما أن من وُلد ومات هو من قام ثانية صعد إلى السماء. ولهذا السبب فهموا كلمة التقديسات الثلاث Trisagion بأسلوبين مطبقين إياها أحياناً على الثالوث بأجمعه وأحياناً على الشخص الثاني من الثالوث فقط، إلا أنهم بعد ان فهموها بالأسلوب الأول، لم يقوموا بإضافتها أبداً ولكن حين فهموها بالأسلوب الثاني أضافوها ـ انسجاماً مع التجسد والميلاد والموت وما شابه ذلك من الأشياء الأخرى التي كانت تتـفق حقاً مع يسوع المسيح

 

يمكن الحكم بناء على أفعالهم بأنهم اعترفوا بالمطهر والخطيئة الأصلية وأن صدقاتهم وصلواتهم تدل بشكل واضح عن حقيقة المطهر

 

أن (الخطيئة الأصلية) برهنت عن نفسها بصراحة بالمعمودية التي أجازوها للمواليد الصغار، لغرض إمكانية الحصول على الحياة الأبدية بكونهم قد غسلت خطاياهم وتطهروا منها، مع أنهم ما ارتكبوا خطيئة فعلية دعت إلى غسلها أو تطهيرها، بواسطة ذلك السر عالمين بأن القديس أوغسطين قد استعمل تكراراً تلك الحجة للبرهان على نفس الحقيقة ضد البيلاجيين في زمنه

 

أن الأرواح، بشكل عام تذهب بعد مبارحتها الجسد مباشرة إلى السماء للتمتع بالبركة أو إلى الجحيم لتعاقب العقاب الأبدي أو للبقاء فترة في المطهر

وليس من الواجب الشرعي مطلقاً إنكار المرء إيمانه قولاً لأن يسوع المسيح نفسه أعلن صراحة، ” من ينكرني قدام الناس أنكرته أنا أمام أبي في السماء ”

 

أخيراً، قرروا بأنه يجب السماح أحياناً بالتفريق في الزواج، ولكن ما من شيء سوى الموت قادر على حل عرى الزواج بحيث يسمح للزوج أن يتزوج بأخرى شرعاً، الامر الذي يتفق مع قول يسوع المسيح : ” كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني ”

 

بعد أن صادق كل واحد على البنود المذكورة أعلاه، عرض دنديني على أعضاء المجمع الكتاب الذي وجد فيه بعض ” الأضاليل “. ولكن المجتمعين انكروا أن تكون هذه هي كتبهم، مدعين ” بأن اليعاقبة هم الذين ابتدعوها ونشروها بين أمتهم بخبث “. كما أخبروا دنديني بأن كتبهم الاخرى كانت مختلفة تماماً وبأن البابا كان تلقى معلومات كاذبة عن الموارنة. والظاهر أن دنديني اقتنع بإجاباتهم إذ يقول ” لم أرَ شيئاً في كتبهم التي أقروا بها إلا ما كان كاثوليكياً ”

يناقض دنديني نفسه عندما يقول بأنه لم يجد شيئاً في الكتب المارونية إلا ” ما كان كاثوليكياً لانه هو نفسه أعلن سابقاً بأنه وجد في أحد هذه الكتب عقيدة المشيئة الواحدة والفعل الواحد في المسيح إلى جانب ” بعض الامور الفاسدة ” . ومن نافل القول ان تعتبر عقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية) في كنيسة دنديني ” كاثوليكية ” بل هي هرطقة. اضف الى ذلك، لم تكن هذه ” الأشياء الفاسدة ” أو ” المساوئ ” كاثوليكية أو متفقة مع تعاليم كنيسة روما. ومن المدهش حقّاً أن يُعلن دنديني بكل يقين بأنه لم يرَ شيئاً في الكتب المارونية إلا ما كان ” كاثوليكياً ” حين يكون هو نفسه قد وضع قائمة تشمل تسع بنود من ” المساوئ ” لتقديمها إلى المجمع لغرض تصحيحها . ومما هو مدعاة للدهشة الى حدّ كبير هو ابداءه الرضى بعد ان سمع البطريرك ينتقض سمعة المجمع الذي عقده اليانو عام 1580 ويحرم الذين عقدوه أو حضروه. صحيح أن البطريرك سركيس الرزي لا يذكر اليانو بالاسم، إلا أن البطريرك الدويهي يفعل ذلك. لا بل يصم الدويهي اليانو بالكذب. يقول الدويهي أن البطريرك سركيس الرزي دعا كبار الكهنة وأعيان الموارنة والعلماء إلى الاجتماع في 18 أيلول 1596 بعد وصول دنديني. وبعد أن قرئت رسالة البابا إلى البطريرك أعلن البطريرك أمام الناس وأمام الموفدين البابويين (دنديني وبرونو) بأن أخاه، البطريرك ميخائيل، والطائفة المارونية كانوا براءً من الاتهامات ” التي وجهها إليهم افتراءً جيوفاني باتيستا (اليانو) ” . وبما أن دنديني اعترف شخصياً بانه وجد هذه ” الأضاليل ” في الكتب المارونية، فمن المدهش أن نراه يوافق على ادعاءات أعضاء المجمع بأن هذه الكتب قد ” استحدثها اليعاقبة بخبث ” . ولكن ما لم يخبر هؤلاء الاشخاص دنديني هو كيف حرّف هؤلاء ” اليعاقبة ” الكتب ومتى ؟ ان اول من أشار إلى هذا الاتهام هو البطريرك ميخائيل الرزي في إحدى رسائله الموجهة إلى الكاردينال كارافا ولكن اعلانه تمّ بصراحة في المجمع المنعقد عام 1596. وقد دأب الكتّاب الموارنة، ما عدا السمعاني، على تكرار هذا الاتهام بكل اصرار ضد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولكن الأمر الأقرب الى التصديق هو أن الكتب التي قدمها الموارنة إلى دنديني لفحصها، والتي لم يجد دنديني فيها شيئاً سوى ما هو ” كاثوليكي ” كانت كتباً جديدة نُسخت في القرن السادس عشر وتضمنت بالطبع تعاليم تتّفق مع تعاليم كنيسة روما؛ لكن الكتب المارونية التي كانت كنيسة روما وموفدوها معنيين بها بشكل كبير هي الكتب المارونية القديمة. هذه الكتب، وخاصة تلك المنسوبة إلى يوحنا مارون، تضمنت اعترافاً صريحاً بعقيدة المشيئة الواحدة (المونوثيلية). والحقيقة هي انه لا يوجد دليل بأن “اليعاقبة” حرّفوا الكتب المارونية أو أن توما مطران كفرطاب كان قد حرّفها كما ان الحقيقة التاريخية لا تؤيد الادعاء بأن ” اليعاقبة ” ذهبوا للعيش في وادي الفراديس في لبنان متذرعين بالتقوى لكي يقوموا بنساخة الكتب المارونية وتحريفها

 

هناك بعض الشك في أن أعضاء مجمع قنوبين لعام 1596 قد أطلعوا دنديني الحقيقة عن إيمانهم كما ورد في كتبهم. من المحتمل أنهم اطلعوه على بعض كتبهم المنقحة حديثاً، لا الكتب القديمة. كما أنهم قادوه إلى الاعتقاد، بأن البابا كان قد تلقى معلومات كاذبة من اليانو حول إيمانهم (24). والحقيقة هي أن مجمع قنوبين هذا كان على وفاق تام مع المجمع الذي عقده اليانو في عام 1580، كما كانت القضايا العقائدية التي ناقشها المجمعان واحدة. بل من الواضح ان مهمة دنديني، في هذا االمضمار، والمجمع الذي عقده للبحث عن ” الأضاليل ” في الكتب المارونية كانت امتداداً لمهمة اليانو ومجمعه

 

إذا تـأملنا قائمة ” الأضاليل ” التي عثر عليها دنديني في الكتب المارونية، نجد أنه باستثناء إنكار الخطيئة الأصلية وإمكانية إنكار المرء لإيمانه علناً في حين يحتفظ به في قلبه، فإن كل ما تبقى يمثل العقائد الجوهرية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية. ولكن نظراً لجهل دنديني بعقائد الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، فقد أساء فهم أكثر عقائدها الأساسية وهي، الطبيعة الواحدة والثالوث. يقول دنديني بأن إحدى “الأضاليل” التي وجدها في الكتب المارونية هي الاعتقاد بأنه لم تكن في المسيح سوى طبيعة واحدة، الإلهية . هذا ما لا تعتقده الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. فإن هذه الكنيسة تدين بعقيدة القديس كيرلس الاسكندري، وهي أن طبيعتي المسيح اتحدتا معاً بطريقة تفوق الوصف وأصبحتا طبيعة واحدة، ولكن دون أن تـفقد الطبيعتان خصائصهما، ومن هنا جاءت عبارة القديس كيرلس طبيعة متجسدة واحدة للوغوس الإلهي. لذا فإن فصل هاتين الطبيعتين بعد اتحادهما واعتبارهما متمايزتين الواحدة عن الأخرى هو عودة إلى الآراء اللاهوتية لمدرسة أنطاكية اي ” النسطرة ” التي تؤمن بأن الابن الذي وُلد من الآب قبل خلق العالم هو غير الذي وُلد من العذراء القديسة مريم. هذا ما عنى به نسطور وهو أن العذراء لم تحمل الاهاً بل مجرد إنسان. والظاهر، أن دنديني، جرياً على قاعدة الكتّاب الخلقيدونيين القدماء والمعاصرين ، قد خلط بين هذه العقيدة الأرثوذكسية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية وعقيدة الهرطوقيين أبوليناريوس وأوطاخي، اللذين اعلنا نتيجة اتحاد طبيعتي المسيح هي طبيعة إلهية واحدة  وهذا ما حرمته الكنيسة السريانية الارثودكسية

 

كذلك نجد ان الامر قد اختلط اختلاطاً جمّاً على دنديني بخصوص التقديسات الثلاث. فمنذ القرن السابع وحتى ابتداء دنديني بفحص الكتب المارونية، كان الموارنة يرتلون ترنيمة التقديسات الثلاث كما ترتل في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية مع عبارة يا من صُلبت من أجلنا. لقد قمنا بمناقشة التقديسات الثلاث من ضمنها هذه العبارة بشكل وافٍ وأظهرنا بأن الكنيسة استعملتها منذ القرن الرابع . كما بيَّنا أيضاً أرثودكسيتها وأن بطريرك أنطاكية بطرس القصّار قد اتهم بهتاناً بإضافة العبارة المستـشهد بها إلى التقديسات الثلاث وذلك من أجل إثبات معتقده “المونوفيزي”. ان الكنائس الخلقيدونية، ومنها كنيسة روما، كانت قد ادانت هذه العبارة في المجمع الخامس وفي المجامع التي تلته. والحقيقة التي يجب ان تقال في هذا الصدد هي ان الخلقيدونيين اعتقدوا خطأً بأن هذه العبارة موجهة إلى الثالوث بأجمعه، مما يؤدي الى النتيجة بأن الثالوث بأجمعه قد تجسد ومات على الصليب وقام من القبر. هذه هي الكيفية التي أدت بدنديني، وهو الخلقيدوني تقليداً، إلى إساءة فهم يا من صُلبت من أجلنا وارتباطها بالثالوث. والحقيقة هي ان الكنيسة المارونية قبل أن تصبح كياناً مستقلاً وحتى بعد ذلك استمرت، على غرار الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، في ترتيل التقديسات الثلاث مع هذه العبارة المضافة لا بنية توجيهها إلى الثالوث بأجمعه بل إلى الشخص الثاني في الثالوث (المسيح) وحده. لذا كان من غير المجدي الادعاء، كما فعل دنديني، بأن الثالوث بأجمعه قد تجسد وصُلب وقام . ان إساءة فهم التقديسات الثلاث على هذه النحو هو خرق لتعاليم العديد من آباء الكنيسة الذين فهموا عبارة يا من صُلبت من أجلنا في التقديسات الثلاث بهذا المدلول. وبهذا المدلول فهم أفرام الآمدي، بطريرك أنطاكية الخلقيدوني هذه العبارة ذاتها . إن ما يبرهن على أن هذه العقائد موجودة في الكتب المارونية القديمة هو الكتب المنسوبة إلى يوحنا مارون، بالإضافة إلى كتاب الهدى (Nomocanon). لقد سبق وان قمنا بمناقشة وافية لعقائد المشيئة الواحدة والطبيعة الواحدة والتقديسات الثلاث وانبثاق الروح القدس من الآب وحده ولا حاجة لتكرارها هنا

 

تشمل قائمة دنديني أيضاً معتقدات وتقاليد أخرى تؤمن بها الكنيسة السريانية الأرثوذكسية منها انحلال عقد الزواج لعلة الزنى وإنكار وجود المطهر وعدم وجود ثواب او عقاب قبل الدينونة العامة وان سر التثبيت المقدس غير متميز عن المعمودية ومناولة القربان المقدس للأطفال الصغار . بمقدورنا إذاً ان نتوصل بكل بثقة الى النتيجة وهي ان العقائد التي احتوت عليها هذه الكتب تعلن بأن الموارنة كانوا ولم يزالوا سرياناً أرثوذكسيين “يعاقبة” آمنوا بعقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي منذ القرن السابع حتى القرن السادس عشر

 

يمكن التوصل إلى بعض النتائج من تضاعيف ارساليتي اليانو ودنديني إلى الموارنة. منها ان العدد الكبير من الكتب التي قام هذان الموفدان الباباويان بفحصهما هي من أصل سرياني أرثوذكسي. ولكن ذلك لا يدل على ندرة المؤلفات الدينية في الكنيسة المارونية فحسب بل يدل ايضاً على اعتمادها الكلي على مؤلفات الآباء السريان. والاكثر من ذلك يدل على أن الكنيسة المارونية حتى القرن السادس عشر لم تـنفصل بشكل واضح وحاسم عن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأم في معتقداتها وطقوسها وتقاليدها. من الصحيح أن الرهبان الموارنة والكنيسة المارونية والطائفة المارونية التي جاءت بعد ذلك عمدوا، نتيجة إكراه الإمبراطور هرقل واضطهاده للرهبان الموارنة في القرن السابع، إلى قبول الإيمان الذي حدده مجمع خلقيدونية، وكذلك عقيدة المشيئة الواحدة التي روَّج لها هرقل، إلا أن الكنيسة المارونية لم ترفض رسمياً عقيدة الطبيعة المتجسدة الواحدة للوغوس الإلهي (المونوفيزية) أبداً. بل ظلت هذه العقيدة حية في الكتب الطقسية المارونية حتى نهاية القرن السادس عشر بالذات، عندما خضع الموارنة أخيراً لسلطة البابا

 

هناك نقطة واحدة لا بد من عرضها بخصوص حق البطريرك الماروني في استعمال لقب ” بطريرك أنطاكية “. يُعلن البطريرك بولس مسعد الماروني بأن ” بطريرك الطائفة المارونية هو بطريرك أنطاكية الحقيقي الوحيد ” . هذا الادعاء لا أساس له من الصحة من الناحيتين التاريخية والكنسية. فقد أثبتنا سابقاً بأن البطريركية المارونية لك ترتكز على اساس القوانين والتقاليد الكنسية. إذ لم يبدأ بعض البطاركة الموارنة بإضافة لقب “بطريرك أنطاكية” إلى أسمائهم حتى القرن الثالث عشر فقط بل لم يبدأوا بإضافة اسم بطرس إلى أسمائهم إلا مؤخراً لإظهار كونهم القيمين على سدة أنطاكية ، وهو منصب أسسه الرسول بطرس بحسب التقليد. والذي يؤكد بان كنيسة روما لم تعتبر البطريرك الماروني بطريركاً شرعياً لأنطاكية هو رسالة البابا اينوسنت الثالث التي وضع بموجبها البطريرك الماروني تحت سلطة البطريرك اللاتيني . ففي هذه الرسالة يخول البابا اينوسنت البطريرك الماروني ارميا العمشيتي ومن يخلفه من البطاركة ارتداء الباليوم ( درع التثبيت ) الذي يسعد “بطريرك أنطاكية اللاتيني” أن يخلعه عليه. يقول اينوسنت “إننا بهذا نمنحكم ونمنح من يخلفكم بموجب سلطتنا الرسولية الحق الكامل للباليوم كما يقتضيه الإجراء المعهود للمنصب البطريركي وهو الحق الذي كان على بطريرك أنطاكية (بطريرك أنطاكية اللاتيني) أن يكون قد منحكم إياه دون قيد وفقاً للعرف المقبول والذي نؤمن بأن أسلافكم في كنيسة أنطاكية قد تمتعوا حقاً به”

 

يبدو هنا أن البابا قد أخضع البطريرك الماروني لسلطة “بطريرك أنطاكية” اللاتيني لأنه اعترف بأن هذا البطريرك هو “بطريرك أنطاكية الوحيد” وإلا لأصبح لديه بطريركان خاضعان لسلطته يطالبان بنفس اللقب. وبالرغم من أن تعليمات اينوسنت الثالث قد فوّضت البطريرك اللاتيني بتقليد الباليوم للبطريرك الماروني، إلا أن المطران الماروني يوسف الدبس يصر خطأً بأن البابا أرسـل الباليوم الى البطريرك ارميا العمشيتي مباشرة، لا بواسطة البطريرك اللاتيني . هناك في الواقع بيِّنة بأن البابا اينوسنت الثالث قد اعتبر جاثاليق الكنيسة الأرمنية في مركز أعلى من مركز البطريرك الماروني، لأنه أرسل له الباليوم شخصياً مع موفده، الكاردينال بطرس من رهبنة القديس مارسيلوس. وقد ذكر البابا بينيدكتس الرابع عشر، في خطابه الذي ألقاه في اجتماع الكرادلة في 23 أيلول 1750، بعض الحالات التي انعم فيها باباوات سابقون بالباليوم على بعض رؤساء كنائس الشرق. ومن هذه الحالات إرسال اينوسنت الثالث الباليوم مع موفديه الكاردينال سوفرد (أو جيوفري) وبطرس من رهبنة القديس مارسيلوس، إلى يوحنا السابع جاثاليق أرمينيا الكاثوليكي عام 1203 ( من الواضح أن البطريرك اللاتيني هو الذي قلد الباليوم للبطريرك الماروني على خلاف الجاثليق الارمني إلا أن الباباوات لم يكونوا سواسية في اضفاء لقب ” بطريرك أنطاكية ” على البطريرك الماروني. فبينما دعا البابا اسكندر الرابع، البطريرك الماروني شمعون (سمعان) الثاني بـ “بطريرك  أنطاكية” فان كرسي روما الرسولي اشار إليه على أنه البطريرك الماروني وحسب. ومهما يكن الامر فإن لقب “بطريرك أنطاكية” الذي يستعمله البطاركة الموارنة اليوم هو لقب اعتباطي لا يقره القانون أو التقليد الكنسيين. واذا اتبعنا رأي الكاتب الكاثوليكي ميخائيل لكيان، نجد انه لا يُعّد البطريرك الماروني من بين بطاركة كرسي أنطاكية الحقيقيين، بل يؤكد ان لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي مازال البطاركة الموارنة يضيفونه إلى أسمائهم لعدة أجيال هو لقب فخري ليس الاّ

 

على ضوء ما قيل أعلاه، يعتبر بيان أعضاء المجمع اللبناني عام 1736 الذي يؤكد بأن بطريركهم، منذ انفصال الموارنة عن الطوائف الشرقية الأخرى، كان دائماً يدعي ” ببطريرك أنطاكية ” هو بيان لا أساس له من الصحة تاريخياً ( كما أن ادعاء أعضاء هذا المجمع بأن الأحبار الرومان لم يعترضوا أبداً على لقب ” بطريرك أنطاكية ” الذي يستعمله البطاركة الموارنة بل دعوهم في الحقيقة دائماً “بطاركة أنطاكية “، هو بنفس الوقت ادعاء عديم الاساس التاريخي


25 تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية

كان لارساليتي الموفدين البابويين اليانو ودنديني الى الموارنة في أواخر القرن السادس عشر الاثر الفعال في تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية نهائياً. وقد بدأت المحاولات للقيام بذلك في عهد البابا اينوسنت الثالث في أوائل القرن الثالث عشر، إلا أن إتّباع العادات اللاتينية في هذا الطور لم يتعد التقاليد الخارجية كارتداء الكهنة الموارنة حُللاً كهنوتية لاتينية، ولبس المطارنة الخاتم واعتمار التاج وهي عادات قلما تأثر بها نظام الكنيسة المارونية. ولكن عملية الانتقال الى العادات اللاتينية اثرت على نظام الكنيسة المارونية في مجمع قنوبين الأول الذي عقده اليانو عام1580 وبشكل محدود في مجمع قنوبين الثاني الذي عقده دنديني. يقول المطران الماروني بيير ديب في هذا الصدد ” ان عمل اليانو ودنديني كان بمثابة مفترق الطرق في عملية التحويل (الى العادات اللاتينية) المنتظمة والذي مسَّ جوهر المذهب بالذات ” . كانت إحدى دلائل هذا التحويل تبني كتاب صلوات الكنيسة الكاثوليكية في عام 1592. يُـفيد المطران ديب أنه بالرغم من أن التعديلات أدخلت قبل القرن السادس عشر ( حلول الطقس اللاتيني للمعمودية، محل الطقس التقليدي على سبيل المثال ) إلا أنه يعتقد بأن تطبيق هذه التعديلات ” كان بالأحرى مقيداً جداً ”

 

والحقيقة هي أن الكنيسة المارونية منذ نهاية القرن السادس عشر اصبحت خاضعة لسلطة البابا الفعلية . والذي شجع على تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية هو يوسف الرزي (ت – 1608) الذي انتخب بطريركاً اثناء وجود جيروم دنديني في لبنان. وكما يقول المطران ديب، فقد كان الرزي ” داعياً متهوراً من دعاة الانتقال الى اللاتينية وقد ضحى بعدد كبير من العادات الجليلة مفضلاً الاقتداء بتقاليد روما . أما العادات التي لم يحددها المطران ديب فهي السماح للمطارنة بأكل اللحم والسماح للعامة من الناس فقط بأكل السمك وشرب الخمر خلال الصيام الأربعيني. كما ألغى البطريرك مراعاة صيام نينوى ومدته أسبوعاً والذي كان الموارنة يؤدون خلاله صلوات متواصلة لغفران الخطايا. وأخيراً إختزل البطريرك المدد التي تسبق الاحتفالات بعيد الرسل وعيد الميلاد والتي لم يسمح فيها للموارنة بأكل اللحم

عقد الرزي مجمعاً في ضيعة موسى عام 1598، اي بعد سنتين من انتهاء مهمة دنديني ومغادرته لبنان، لم يثبت فيه التقاليد اللاتينية التي اقترحها مجمع قنوبين الذي عقده دنديني فحسب بل اضاف أيضاً ستة قوانين أخرى تتضمن إحلال التقويم الغريغوري محل التقويم الشرقي وهي خطـوة أخـرى نحـو جعل الكنيسة المارونية كنيسة لاتينية . وقد أثار تبني البطريرك والمجمع للتقويم الغريغوري احتجاج بطريرك الروم الأرثوذكس (البيزنطيين) الذي قدم عريضة إلى حاكم دمشق يشكو فيها “تبني الطائفة المارونية للتقويم الغريغوري الامر الذي خلق إرباكاً كبيراً لبقية الطوائف المسيحية فيما يتعلق بحساب السنين وأعياد الكنيسة ” . واستجاب الحاكم وقام بإلقاء القبض على الكهنة والأعيان الموارنة في دمشق، ولم يطلق سراحهم الا بعد جهد كبير بذله البطريرك الماروني

 

استمرت الكنيسة المارونية الاقتداء بالتقاليـد اللاتينية في عهد البطريرك جرجس عميرة (ت 1644). كان عميرة احد أوائل خريجي المدرسة المارونية في روما وكان كاثوليكياً ورعاً ومخلصاً جداً في تبعية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بحيث أطلق عليه كهنة الكنائس الشرقية الأخرى اسم ” المطران الروماني ” . والامر الذي شغل البطريرك عميرة جداً، وهو الكاثوليكي الروماني المتحمس، هو نشر وتعزيز مطامح كنيسة روما إلى حدٍّ كبير بين الموارنة. ولذلك أثارت سياسته في التحيز الى اللاتينية حفيظة المطارنة المحافظين حيث انقلبوا ضده

 

وفي عهد البطريرك يوحنا الصفراوي (ت 1656) وُضع الموارنة في لبنان تحت حماية فرنسا في عام 1649، ويعود الفضل في ذلك إلى المهمة الناجحة لرئيس الأساقفة اسحق الشدراوي الذي أوفده البطريرك إلى الحكومة الفرنسية . اصبح الموارنة الآن قادرين على التمتع بحماية الملك الفرنسي لويس الرابع عشر من مضايقات الحكومة العثمانية وأعوانها المفسدين. وبفضل جهود البطريرك الصفراوي، تمَّ تأسيس نيابة قنصلية فرنسية في بيروت وكان أول موظفيها ماروني كاثوليكي غيور هو أبو نوفل الخازن . وقد أدى أحداث هذه القنصلية بشـكل غير مباشـر إلى تطوير علاقات قوية بين الأمراء الشـهابيين في لبنان والمـوارنة، وبحلول عام 1770 اعتنق الشهابيون المسيحية وانضموا إلى الكنيسة المارونية

 

من البطاركة الموارنة الذين أحزنتهم سياسة روما في تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وخاصة استبدال الطقس الماروني بالطقس اللاتيني هو اسطفان الدويهي (ت 1704). يُـقال أن الدويهي عانى كثيراً من مناورات المبشرين اللاتين في الشرق الذين كانوا ينتهكون العادات القديمة للكنيسة المارونية ويحلون الطقس اللاتيني محل الطقس الشرقي . بيد أن هذا لا يعني بأن تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية أو أن سلطة روما هذه الكنيسة قد تـناقصت. ويجب القول هنا بأن الدويهي، ككاثوليكي ورع وخريج مدرسة الموارنة في روما، لم يتحرج ابداً في ابداء ولائه لسلطة كرسي روما أو في دفاعه عن الإيمان الكاثوليكي. غير انه كان يود أن يُترك الطقس الشرقي أي السرياني سليماً بشكله الفطري .

 

إن تعلق الكنيسة المارونية بسلطة روما، وخاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، جعلها موضع ريبة الحكومة العثمانية وممثليها. كما أصبحت طوائف مسيحية أخرى ايضاً موضع ريبة بسبب ارتباط الموارنة بروما مما اثار حفيظتها فصارت تبغض الموارنة بغضاً شديداً. وتفاقمت حدة الخصومة بين مسيحيي الشرق من غير الكاثوليك وبين الموارنة إلى درجة ان الدويهي كتب إلى البابا اينوسنت التاسع يقول بأن الموارنة ” مكروهون بشدة بسببك أنت ”

 

اعتز الدويهي بحماية فرنسا للموارنة واعتمد على سلطة ومركز السفير الفرنسي اللذين كان يتمتع بهما لدى الباب العالي. وفي عام 1700 التمس الدويهي الحكومة الفرنسية لكي تقنع السلطان العثماني برفع المظالم التي ابتلي بها مسيحيو لبنان. واستجابت الحكومة الفرنسية لذلك وتدخل سفيرها لدى الباب العالي، نيابة عن مسيحيي لبنان، مذكراً الحكومة العثمانية بأن حماية فرنسا للموارنة ستظل موضع التـنفيذ والاحترام

 

كما استخدم الدويهي ايضاً حماية فرنسا للموارنة لإنقاذ منصبه البطريركي من الخضوع لسلطة السلطان العثماني. فقد جرت العادة منذ زمن الاحتلال العثماني لسورية عام 1516 ان يحصل بطاركة الطوائف المختلفة على فرمانات من السلطان العثماني تثبتهم في مناصبهم. وكان هذا التـثبيت مهماً جداً من الناحية القانونية اذ بدونه لم يكن البطريرك يعتبر رئيساً شرعياً لطائفته أو كنيسته. إلا أن البطاركة الموارنة لم يطلبوا مثل هذه الفرمانات من السلاطين العثمانيين معتمدين على فرضية أن البطاركة الموارنة والشعب الماروني كانوا تحت حماية فرنسا ولذلك لم تكن لهم حاجة إلى تـثبيت السلطان في منصبهم. ومع هذا فقد أثيرت مسألة حصول البطاركة الموارنة على فرمانات في أيام الدويهي اذ اشتكى بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لدى الباب العالي بأن البطريرك الماروني هو كسائر رؤساء الكنائس الآخرين في الشرق أحد الرعايا العثمانيين وان عليه أن يحصل على فرمان لتوليته. ولهذا طلبت الحكومة العثمانية من الدويهي تقديم طلب رسمي لإصدار فرمان لتوليته. إلا أن الدويهي استجار بالامتيازات الخاصة التي كانت طائفته قد حصلت عليها بواسطة حماية فرنسا وهكذا واجهت الحكومة العثمانية قضية سياسية ودبلوماسية حساسة مع فرنسا. وبالتالي، تمكن الدويهي من الإبقاء على استقلال البطاركة الموارنة عن السلطة المباشرة للسلطان العثماني . ولكن بالرغم من هذا الجهد الذي صرفه في الحفاظ على الطقس الشرقي السرياني، لم يستطع هذا البطريرك الحسن النية الحؤول دون تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية

 

يعتبر الدويهي أشهر بطاركة الموارنة لمؤلفاته الدينية والتاريخية وعلى الأخص لدفاعه عن الكنيسة المارونية وإيمانها. ولكن عندما توضع آراؤه التاريخية المتعلقة بأصل كنيسته وإيمانها موضع التحقيق نجدها تـفتقر إلى البرهان أو الى الأساس التاريخي. لو أن الدويهي استطاع فقط تحرير كنيسته من قبضة المبشرين اللاتين، لكان نجح في الحفاظ على لغة وتقاليد وطقوس الكنيسة المارونية والتي كانت مماثلة جداً لتقاليد وطقوس الكنيسة السريانية الأرثودكسية. ولكن هيمنة المبشرين اللاتين، لسوء الحظ على الكنيسة المارونية كانت من القوة بحيث دعتهم الى المزيد من تحويلها الى كنيسة لاتينية بل كانوا عازمين على توسيع تحويل هذه الكنيسة وديمومتها اسوة بما حاولوا القيام به مع كنائس كاثوليكية أخرى متحدة بروما كالكنيسة الكلدانية في العراق ـ ولكنهم بالنتيجة لم يجنوا سوى معارضة عارمة من الكهنة الكلدانيين

 

والذي زاد من عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية هو المجمع اللبناني الذي اجتمع في دير اللويزة في لبنان عام 1736. يعتبر هذا المجمع حدثاً ذا أثر مهم في تاريخ الكنيسة المارونية اذ لم يسبق أن شهدت الكنيسة المارونية مجمعاً ذا خطورة مماثلة. أراد الكهنة والعلمانيون الموارنة انعقاد المجمع لأنهم احسّوا بضرورة إصلاح بعض المساوئ في كنيستهم ومنها “اكتشاف العملية الجريئة لصيرورة الكنيسة لاتينية والتي أسيء فهمها إلى حد كبير، وافتقار التـنظيم الكنسي” . التمس الكهنة وكبار العلمانيين من البابا اقليميس الثاني عشر إرسال يوسف السمعاني كموفد له لعقد مجمع. ردَّ البابا بالإيجاب وأوفد السمعاني إلى لبنان ليرأس المجمع القادم. وصل السمعاني بيروت في 17 حزيران 1736 حاملاً معه إرشادات من جمعية إنتشار الإيمان وفي 1 تموز توجه إلى دير قنوبين والتقى بالبطريرك يوسف ضرعام الخازن (ت 1742)، وتلى عليه وعلى الكهنة الموجودين في حضرته إرشادات البابا وارشادات جمعية إنتشار الإيمان . وفي 30 أيلول، اجتمع المجمع، الذي دعا السمعاني إلى عقده في دير اللويزة ودام الاجتماع ثلاثة أيام. وعندما عرض السمعاني الإصلاحات التي عكف على القيام بها منذ مغادرته روما، فوجئ بمعارضة قوية من البطريرك وبعض الكهنة أخصّهم الياس محاسب مطران عرقا. كما حدث تآمر جمّ من الكهنة لمناهضة مهمة السمعاني لم ينته على حد تعبير المطران الماروني بيير ديب ” إلا نتيجة فطنة الموفد الباباوي وطول أناته، ونتيجة حصافة البطريرك والتدخل الحكيم لقنصل فرنسا السيد مارتان والشيخ نواف الخازن والنشاط الهادئ الذي قام به اليسوعيون والفرنسيسكان ”

 

يُعتبر المجمع اللبناني لعام 1736 ذا أهمية كبرى لدراستنا الحالية لأنه المجمع الماروني الوحيد في العصور الحديثة الذي وضع قواعد وقوانين ثابتة للكنيسة المارونية. بل ما هو أكثر أهمية لدراستنا، أن هذا المجمع كان أول مجمع ماروني يقرر شرعية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية تـثبت الطقس اللاتيني والممارسات اللاتينية التي أدخلها البابا اينوسنت الثالث في الكنيسة المارونية في أوائل القرن الثالث عشر. وفي إحدى جلساته استشهد المجمع برسالة البابا اينوسنت الثالث إلى البطريرك ارميا العمشيتي وأعلن أن من واجب الموارنة بأجمعهم إطاعة كل ما جاء في الرسالة وخاصة العادات اللاتينية

التي اوعز بها البابا . وفيما يلي بعض العادات اللاتينية التي وضعها المجمع

 

إجراء العماد لا بالتغطيس وفقاً لعادة الكنائس الشرقية، بل بسكب الماء فقط فوق رأس المعتمد وفقاً للعادة اللاتينية

 

خلافاً للعادة الشرقية القديمة، يسمح للمرأة النفساء التي وضعت مولوداً، الحضور للصلاة في الكنيسة قبل انقضاء أربعين يوماً على موعد الولادة

 

إجراء المعمودية والتـثبيت بشكل منفصل، ويكون التـثبيت مقصوراً على المطارنة

على المطارنة أن يحاولوا الاستغناء عن صكوك الغفران التي يمنحها كرسي روما الرسولي

 

استعمال الخبز الفطير في خدمة القربان المقدس وفقاً للعادة المرعية في كنيسة روما وبما يتفق مع منشور البابا بولس الخامس، المؤرخ في 20 آب 1566

 

على الكاهن ألا يغطي رأسه (أي يعتمر القبعة التي يضعها عادة الكاهن الذي يرأس القداس وفقاً لعادة الكنائس الشرقية) أثناء احتفاله بالقداس

 

هنا يحقّ الانتباه بأن العادات التي أشار إليها أعضاء المجمع على أنها عادات الكنيسة الشرقية وهي بصورة رئيسية عادات الكنيسة السريانية الأرثودكسية

 

بالإضافة إلى ذلك، ثبت المجمع اللبناني سيادة البابا على المجمع الماروني وعلى الهيئة الكهنوتية المارونية. كما أخضع المجمع البطريرك الماروني للسلطة البابوية إلى درجة أن البطريرك الماروني لم يعد أكثر من ” مطران روماني “. وسوف نرى بعدئذ بأن بعض البطاركة الموارنة أصبحوا كرادلة في كنيسة روما متقبلين بذلك منصباً ادارياً في كنيسة روما، وهو منصب أقل من رتبة البطريرك ناهيك عن رتبة ” بطريرك أنطاكية ” وهي المرتبة التي يدّعيها البطاركة الموارنة لأنفسهم

 

واذا عدنا الى احدى عوائد الكنائس الشرقية وخاصة الكنيسة السريانية الأرثودكسية نجد ان صليباً كبيراً كان يتقدم البطريرك في احتفالات الكنيسة. لكن المجمع اللبناني قرر بألا يحمل صليب أمام البطاركة الموارنة إذا كانوا في روما بسبب وجود البابا أو الموفد الباباوي . كما قرر المجمع ما يلي

 

  1. -وفقاً لبروتوكول الكنيسة يتعين على البطريرك الماروني أن يحتل المقعد مباشرة خلف البابا

لا يحقُّ للبطريرك الماروني إقالة المطارنة من مناصبهم لأن هذا الحق مقصور على البابا وحده

 

يجب المناداة باسم البطريرك الماروني في القداس وفي الصلوات الأخرى الإلزامية بعد اسم البابا

 

  1. -لا يمكن للبطريرك الماروني القضاء في أمور كنسية وانضباطية خطيرة دون استشارة البابا أولاً

يلي ذلك بيان المطارنة والأساقفة الموارنة يتعهدون فيه بولائهم وخضوعهم التامين لسلطة البابا المطلقة أولاً ولبطريركهم ثانياً. كما تعهد المطارنة والأساقفة أيضاً بالمناداة باسم البابا أولاً في القداس يتلوه اسم بطريركهم. وأعلنوا أبعد من ذلك، أنه كما لن يسمح لهم اتخاذ اي اجراء دون استشارة البطريرك، كذلك لن يسمح للبطريرك بالتصرف في مسائل تتعلق بالإيمان أو بانضباط الكهنة (كإقالة المطارنة من مناصبهم) دون مشاورة البابا ( وهكذا جعل المجمع اللبناني خضوع الكنيسة المارونية وهيئة الكهنوت فيها لكرسي روما أمراً قانونياً

 

قدّم السمعاني مقترحات أخرى تخصّ الإصلاح إلى المجمع اللبناني ولكنها لاقت معارضة شديدة. وكان أخص هذه المقترحات يتعلق بوجود أديرة مختلطة حيث يعيش الرهبان والراهبات معاً يفصلهم رواق واحد فقط، مع أن الجانبين كانا يشتركان بنفس الفوائد ويخضعان لنفس السلطة . جاهر البطريرك وكهنته وبعض الكهنة اللاتين باعتراضهم على الأديرة المختلطة. ورحب السمعاني بفكرة الأديرة المنفصلة للرهبان والراهبات وبدأ بإعداد الترتيبات لبعض الأديرة المقصورة على الرجال أو على النساء فقط . إلا أنه واجه معارضة شديدة أثارها الياس محاسب مطران عرقا الذي رغب الإبقاء على العادة القديمة للأديرة المختلطة. ويبدو كما يقول المطران بيير ديب أن المطران محاسب استطاع إقناع البطريرك بتغيير موقفه وتأييد الأديرة المختلطة . كما ان الأب الياس سعد (أمين سر البطريرك) وبعض الأفراد من عائلة البطريرك وأحد المبشرين اللاتين أيدوا بدورهم رأي البطريرك في الإبقاء على الأديرة المختلطة. غير ان الخرق اتسع كثيراً بين البطريرك والسمعاني بحيث وصل الى حدّ أعلن فيها البطريرك بأنه لم يعد يعترف بالسمعاني كموفد بابوي أو أن له سلطة على الموارنة. لا بل تمَّ تحدي شرعية ارسالية السمعاني إلى الموارنة . وفي هذه الأثناء وصلت إرشادات من روما تصر على تـنفيذ فصل الأديرة للرهبان والراهبات. إلا أن السمعاني كان عاجزاً عن تـنفيذ هذه الإرشادات فغادر لبنان عام 1738. وبعد زيارة قصيرة للموارنة في قبرص، وصل إلى روما وقدّم تقريره حول المجمع اللبناني إلى البابا اقليميس الثاني عشر و (جمعية إنتشار الإيمان). فما كان من البابا الاّ ان عيّن لجنة من الكرادلة لدراسة قرارات المجمع اللبناني، وخاصة قضية الأديرة المختلطة. وذهب الأب الياس سعد بدوره إلى روما كممثل عن الحزب المعارض للشكوى ضد المجمع اللبناني وضد السمعاني. لكن وفاة البابا في 6 شباط 1740 حالت دون حل المشكلة. خير ان البابا بينيدكتس الرابع عشر الذي خلف اقليمس الثاني عشر لم يهمل القضية بل دعا إلى اجتماع في 7 آب 1741 حيث ناقشت فيه لجنة الكرادلة المشكلة بحضوره. وبعد مداولة طويلة تمَّ التوصل إلى حل اعلنت اللجنة بموجبه بأن المجمع اللبناني هو مجمع شرعي وسيتم الإبقاء على عادة الأديرة المختلطة . وفي 1 أيلول 1741، صادق البابا بينيدكتس الرابع عشر على قرارات المجمع اللبناني . وهكذا استمرت عادة وجود الأديرة المختلطة حتى سنة 1818 حيث تقرر حظرها في مجمع دير اللويزة المنعقد في ذلك العام. إلا أن التخلص منها نهائياً لم يتم حتى عهد البطريرك يوسف حبيش (1823ـ1845)

 

هنا نخلص بنتيجة عظيمة الأهمية وهي انه منذ اجتماع المجمع اللبناني عام 1736، تـنازل البطاركة الموارنة تماماً عن سلطتهم للبابا. وحتى عهود قريبة، قبل بعض البطاركة الموارنة كالبطريرك بولس المعوشي (ت 1975) منصب كاردينال وهو منصب أقل رتبة من منصب البطريرك، كما أصبح الحبر الروماني هو المرجع الأعلى في الأمور الكنسية والانضباطية في الكنيسة. أجل ان الكنيسة المارونية استمرت بعقد مجامع كنسية إلا أن روما هي التي كانت تقرر نتائجها وتصادق على قراراتها. ولا ادل على ذلك انه عندما اجتمع مجمع بكركي عام 1856 في عهد البطريرك الماروني بولس مسعد (ت 1890)، لم يكن البطريرك هو الذي دعا إلى عقده بل البابا بيوس التاسع وترأسه الموفد الباباوي المونسنيور برونوني . بل تفاقمت سلطة روما عندما بدأت بالتدخل في انتخابات البطاركة الموارنة ـ كما حدث في انتخاب البطريرك سمعان عواد (ت 1756)، الذي اختاره البابا بينيدكتس الرابع عشر بطريركاً ، وكذلك البطريرك بولس المعوشي، الذي اختاره بطـريركاً البابا بيوس الثاني عشر .

احدثت سياسة روما في تحويل الكنيسة المارونية الى اللاتينية نتائج ضارة يكون بعضها اسهم بطريقة غير مباشرة في حدّة المشاكل التي يواجهها الموارنة الآن في لبنان. وهنا يجب القول بأنه مهما كان شعور المبشرين اللاتين بنبل أهدافهم في الشرق الأوسط وخاصة محاولتهم تـثبيت الموارنة في الإيمان الكاثوليكي وحملهم على تبني عادات الكنيسة اللاتينية، فقد كانوا على الأرجح لا يدركون بأن نتيجة مساعيهم في جعل الكنيسة المارونية لاتينية هي هدم الطقوس والتقاليد السريانية واللغة السريانية

 

فبالرغم من ان الطقوس والتقاليد واللغة لم تكن قد تبلورت بعد الا انها كانت الأثر الوحيد لماضي الكنيسة الانطاكية السريانية المجيد التي كانت الكنيسة المارونية جزءاً منها. لم يكن للطقوس السريانية في كنيسة أنطاكية السريانية جمالها وتاريخها الراسخ في التقليد الرسولي وحسب، بل كانت تُعتبر أيضاً الرمز الوطني وفخر الشعب السرياني الذي كانت لغته اللغة الشاملة في بلده (سورية الكبرى) قبل ان احتلها العرب في القرن السابع. صحيح أن تعريب كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية، وخاصة في سورية قد بدأ منذ احتلال العرب لذاك البلد، إلا أن هذه الكنيسة مازالت حتى اليوم متشبثة بطقسها السـرياني وبليتورجيتها السريانية. بل كانت قادرة على الصمود أمام تأثير التيّار العربي محافظة بذلك على شعائرها، بالرغم من ان غالبية اتباعها وخاصة في سـورية والعراق في الوقت الحاضر لا يفهمون اللغة السريانية

 

كانت الكنيسة السريانية قادرة على الحفاظ على شعائرها وتقاليدها لأنها لم تقع تحت النفوذ اللاتيني كالكنيسة المارونية. ولكن العكس هو حال الكنيسة المارونية، فقد تأثرب هذه الكنيسة بالتعريب والتحول الى اللاتينية معاً فكانت النتيجة المؤلمة التي تعانيها في الوقت الحاضر وخاصة فقدان هويتها الآرامية السريانية. لا يمكن للمرء أن يلوم كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية بتعريب أقسام من القداس السرياني لأن اتباع هذه الكنيسة منتـشرون في سائر أرجاء الشرق الأوسط ولا يمكنهم الادعاء بأن لهم بلداً أو قطعة أرض خاصة بهم. بل حتى أولئك الناطقون باللغة السريانية في طورعبدين أو سكان القرى الناطقة باللغة السريانية في شمال العراق يعتبرون في وضع أسيف جداً لا يستطيعون فيه المحافظة على لغتهم بسبب تأثير اللغة والتقاليد العربية في نمط حياتهم. ولكن وضع الموارنة يختلف جداً عن ذلك حيث استطاعوا بتحصنهم مدى عدة أجيال في جبلهم، جبل لبنان بالمطالبة باستقلال أكبر في شؤونهم الكنسية ولذلك كانوا ومازالوا بوضع يساعدهم على إحياء تقليدهم ولغتهم السريانيين. ولكن بدلاً من أن يقوم المبشرون اللاتين بتشجيع الموارنة على الاحتفاظ بتراثهم السرياني والتعلق به وإحياء اللغة السـريانية حتى تصبح مـرة أخرى لغة تخاطب (Lingua Franca) للشعب الماروني، عملوا على ثنيهم عن استعمال هذه اللغة وطعنوا بالتراث السرياني وأضافوا المزيد من البلاء إلى الموارنة الذين جرى التعريب في كنيستهم وذلك بجعلها لاتينية. وهكذا فَقدَ الموارنة بشكل كامل تقريباً هويتهم الوطنية السريانية منذ القرن السادس عشر. وبدلاً من الزهو بتراثهم السرياني، أدعى الموارنة، يأساً منهم في العثور على أصل شرعي لكنيستهم وشعبهم، بأنهم ينحدرون من المردة وهو ادعاء لا أساس له من الصحة تاريخياً. إن الموارنة، كالنساطرة والروم الأرثوذكس (البيزنطيين) والشعب السرياني الأرثوذكسي هم من أصل سرياني ـ آرامي. وعلينا أن نقر بأن المجمع اللبناني لعام 1716 شدد على استعمال اللغة السريانية أولاً والعربية ثانياً في خدمات العبادة في الكنيسة المارونية. ولكن لم يكن المراد بهذا التشديد إحياء اللغة السريانية كما أنه لم يساهم في إحيائها كرمز وطني للكنيسة . ولو ان الجهود لإحياء اللغة السريانية والتقاليد السريانية توافرت لما كان الموارنة اليوم يعانون من فقدان للهوية مدّعين أحياناً بأنهم من أصل يعود إلى المردة وأحياناً من أصل عربي. إن أقل ما يمكن ان يقوله المـرء بثـقة هو أن اسماء القرى والبلدات في لبنان هي اكبر شاهد على الأصل الآرامي السرياني لذلك البلد. في الواقع، إن أهالي العديد من القرى في لبنان وحتى القرن الثامن عشر وخاصة قرية بشري وثلاث قرى مجاورة كانوا يستعملون اللغة السـريانية بمثابة لغة تخاطب (Lingua Franca) لهم

 

أثرت عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية كذلك على الليتورجية المارونية التي تُعتبر مركز العبادة الدينية المارونية. إن الليتورجية المارونية هي بشكل أساسي النسخة السريانية من ليتورجية القديس يعقوب الرسول وهي ليتورجية كنيسة أنطاكية بالذات

 

أظهرنا خلال هذه الدراسة بأنه لم تكن للموارنة ليتورجيات خاصة بهم وأن الليتورجيات التي استعملوها تخص الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. إن الأب سيلي جوزيف بيجياني على صواب عندما يقول أن ” الموارنة لم يؤلفوا ليتورجية جديدة بل تبنوا واقتبسوا الليتورجيات التي استعملها المسيحيون في منطقتهم ” . إن الليتورجية المُسماة شرار، التي يدّعي الموارنة بأنها ليتورجيتهم ” الأصلية “، ليست ليتورجية مارونية؛ بل ليتورجية القديسين أدّي وماري التي استعملها الجزء الشرقي من كنيسة أنطاكية السريانية في العراق حالياً. وقد اعتـنقت هذه الكنيسة تعليم نسطور في النصف الثاني من القرن الخامس ومنذ ذلك الحين أصبحت تُعرف بالكنيسة النسطورية. ومن البديهي تاريخياً ان ليتورجية أدّي وماري سبقت في تاريخها ظهور المارونية في القرن السابع وقيام كنيسة مارونية مستقلة وبطريركيتها في القرن التالي. من المحتمل أن تكون الليتورجية المُسماة شرار هي انتحال ماروني لليتورجية أدّي وماري، كما تكشف المقارنة الدقيقة بين الليتورجيتين . والى الآن لم يقدم أي كاتب ماروني، ولا حتى الأب بيجياني، وهو آخر من كتب عن الليتورجية المارونية بيّنة مقنعة بأن شرار هي ليتورجية مارونية

 

أصبحت ليتورجية القديس يعقوب التي تستعملها الكنيسة المارونية لاتينية. وهذه حقيقة ثابتة كما جاء في التعليم المسيحي حسب الطقس الماروني الذي ينصّ على ان “لاتينية الليتورجية المارونية ”  يعود الى عدة عوامل، كالصليبيين والموفدين الكاثوليك الى الموارنة والإكليريكية الكاثوليكية في روما. وكما قلنا سابقاً فان عملية التحويل الى اللاتينية لم تكن في صالح الكنيسة المارونية. غير ان كنيسة روما بدأت بتقدير جودة الطقس الشرقي واهميته منذ عهد قريب. ففي عام 1935اوعز البابا بيوس الحادي عشر الى المدارس والإكليريكيات الكاثوليكية الاحتفال بيوم سنوي للطقس الشرقي . ولكن هذا لا يعني أن روما كانت تؤيد إزالة الجذور اللاتينية من الليتورجية المارونية بل يعني فقط أن روما أدركت اخيراً أن الطقس الشرقي لا يقل أهمية عن الطقس اللاتيني. هناك اعتراف آخر بأهمية الطقس الشرقي أبداه البابا بيوس الثاني عشر عام 1957. فقد أيَّد هذا البابا ” وجوب الحفاظ على الطقوس الشرقية التي يعتبر قِدمها الجليل حلية بهية للكنيسة بأسرها وتأكيداً لوحدة الإيمان الكاثوليكي (اي ايمان كنيسة روما) المقدس ” . ربما كان موقف كنيسة روما هذا تجاه الطقوس الشرقية هو ما حدا بالبطريرك الماروني بولس المعوشي والمجمع البطريركي الذي عقده إلى اعادة العادات التقليدية في اجراء التـثبيت في آن واحد مع المعمودية كما هي العادة القديمة في كنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية والذي كان مجمع قنوبين الثاني الذي عقده جيروم دنديني عام 1596 قد قام بتغييره

 

أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني (1963ـ1965) الذي اصرّ على المسكونية (وحدة الكنيسة الجامعة) وتفهم الكنائس الشرقية بصورة فضلى قراراً بإحترام الطقوس الشرقية احتراماً كبيراً نظراً لعراقتها الجليلة . ويشكل قرار المجمع هذا روحا وموقفاً يختلفان تماماً عن الروح والموقف اللذين سادا في مجمع قنوبين عام 1596 الذي اثبت ديمومة التحويل الى اللاتينية في الكنيسة المارونية. ويدل المجمع الفاتيكاني الثاني بأن كنيسة روما قد قطعت شوطاً كبيراً في علاقاتها مع الكنائس الشرقية. ولكن مازال هناك الكثير مما يتعين فعله للحصول على مسكونية شاملة لعلاقتها بتلك الكنائس. ولهذا انتهزت الكنيسة المارونية هذا الإنبعاث الجديد للحركة المسكونية ” بالاعتراف بالحاجة إلى الإبقاء على المفاهيم التقليدية ” . وهذا يعني بأن الكنيسة المارونية عزمت على التخلص من التقاليد اللاتينية التي فُرضت عليها، ربما بطريقة تدريجية، واستعادة التقاليد القديمة لكنيسة أنطاكية السريانية الأرثوذكسية

 

واستجابة لمطالبة المجمع الفاتيكاني الثاني بإحياء روح الكنيسة الجامعة من جديد، بادرت الكنيسة المارونية في الولايات المتحدة إلى إدخال بعض الإصلاحات على الليتورجية. وقد بدأ المطران الماروني فرنسيس زايك، رئيس أبرشية القديس مارون في أمريكا  بتطبيق هذه الإصلاحات عام 1973. وكان السبب المهم للقيام بهذه الإصلاحات هو أن الليتورجية المارونية كانت ” قد اصبحت لاتينية إلى حد كبير وجامدة نوعاً ما ” . يرى بعض الكهنة الموارنة في الولايات المتحدة أن ليتورجيتهم أصبحت تعاني من التكرار والهزال نتيجة الافتـقار إلى ترجمة إنكليزية موحدة

 

نجح المطران زايك في تطبيقه التجديد الذي اجراه على الليتورجيه بإستعادة بعضاً من التقاليد القديمة للكنيسة المارونية التي كانت التقاليد اللاتينية قد حلت محلها منذ أمد طويل. وتبعاً لذلك يجري الآن الاحتفال بالمعمودية والتـثبيت في آن واحد، وارتداء الملابس الكهنوتية السريانية في الاحتفال بالقربان المقدس، كما ازيلت التقاليد اللاتينية من الليتورجية المارونية . وفي عام 1969 تمَّ نشر أول كتاب للقداس يحتوي على عدد من التـنقيحات. كما ترجمت مجموعة من الحسايات (صلوات استغفار) إلى اللغة الإنكليزية لإستعمال الموارنة الناطقين باللغة الإنكليزية

 

في عام 1972 اقترح مجلس الكنائس الشرقية المقدس إصلاح الليتورجية المارونية . وتمَّ عرض صيغة منقحة لليتورجية المارونية كان المطران زايك قد تبناها لاستخدامها في أبرشيته في الولايات المتحدة. وقد أجريت أيضاً تغييرات أساسية في الليتورجية المنقحة وخاصة إزالة كل الآثار اللاتينية منها بغية اسـتعادة ” الـروح الحقيقية لليتورجية القديمة ”

 

وهكذا وبعد امد طويل بدأت الكنيسة المارونية بإدراك أهمية التقليد السرياني لوجودها الوطني وإعطاء هذه الأهمية حق قدرها. في الحقيقة ان عملية تحويل الكنيسة المارونية الى كنيسة لاتينية وتعريبها معاً أضرتا بالهوية الآرامية السريانية الحقيقية للموارنة. ولو أن الموفدين اللاتين شجعوا الموارنة على احياء لغتهم السريانية وطقسهم السرياني لكي تصبح اللغة السريانية مرة أخرى لغة تخاطب للكنيسة المارونية واتباعها، لما كان الموارنة في العصور الحديثة أن يحاولون رد جذورهم الاثنية الى المردة أو العرب، وهو المسلك الذي أدى في النهاية إلى إضعافهم بشكل كبير خاصة في المحيط العربي السائد. إن لدى الموارنة كل الامكانيات الضرورية لإحياء اللغة السريانية والتقاليد السريانية النبيلة مرة أخرى والتي تُعتبر موضع فخر كنيسة أنطاكية السريانية


26 الهوامش

علمنا من الفصول السابقة بأن الموارنة ظهروا لأول مرة في القرن السابع. وفي القرن التالي ، أصبحوا طائفة مستقلة تعيش في الأغلب في جبال لبنان. كانت غالبية الشعب اللبناني ، ومنهم الموارنة من الآراميين السريان الذين كانت لغتهم وطقوس كنيستهم سريانية. غير أن الإسلام وجد طريقه إلى لبنان في القرن الثامن في عهد الأمويين والعباسيين الذين حاولوا احتلال لبنان إلا أنهم أخفقوا بسبب التضاريس الجبلية. ومنذ القرن الحادي عشر ، أضاف الدروز عنصراً جديداً إلى بنية لبنان الديموغرافية. وفي الوقت الحاضر ، نجد عدداً كبيراً متـنوعاً من الأديان والملل في لبنان ، لا يعيشون على الدوام في سلام وانسجام. كما أضافت الثورة الإسلامية القريبة العهد في إيران بعداً آخر إلى وضع ديني معقد في لبنان. فآية الله الخميني يستخدم جماعة الشيعة في لبنان لهيمنة شيعية في ذلك البلد بالقوة واستعمال السلاح إذا دعت الضرورة لذلك. فما هو موقف الموارنة من هذه الفوضى السياسية والطائفية الحالية في لبنان ؟

بالرغم من أن الموارنة ظهروا كجماعة دينية مستقلة في القرن الثامن إلا أننا لا نسمع بأنهم لعبوا أي دور في الشؤون السياسية في الشرق الأوسط حتى زمن الصليبيين

 

حصل الصليبيون ، بعد احتلالهم أنطاكية سنة 1079 ، وأثناء حملتهم على أورشليم ، على مساعدة كبيرة من قِـبَـل الموارنة ، الذين رحبوا بهم في عيد الفصح ، في 10 نيسان عام 1099 . إن لهذا الاتصال بالصليبيين مغزاه الكبير لأنه احيا آمال الموارنة فصاروا يعتقدون أن في مقدورهم ولأول مرة الاعتماد على حليف مسيحي ضد المسلمين. كما أن هذا الاتصال قد أيقظ أيضاً شعوراً جديداً لدى الموارنة بأنهم طائفة متفردة ، وهي الطائفة القديمة الوحيدة ، التي يرتبط مصيرها بمصير لبنان. وهكذا أصبح لبنان ، كما يقول الأب بطرس ضو ، مرادفاً ” للأمة المارونية ” وامتداداً ” لهذه الأمة ” . إن هذا الوعي الطائفي أيضاً ، هو الذي جعل الموارنة ، كمسيحيين يبدؤون بإقامة علاقات مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وأول اتصال جاد للموارنة بروما حدث اثناء زيارة البطريرك الماروني ارميا العمشيتي لكنيسة روما عام 1215. إلا أن علاقات الكنيسة المارونية مع روما ظلت قلقة ولم تستـقر حتى عام 1596 في مجمع قنوبين الذي عقده جيروم دنديني. في ذلك الحين فقط تبنت الكنيسة المارونية وطائفتها اخيراً الإيمان الكاثوليكي وأضحت تحت سلطة الفاتيكان مباشرة ( كما ان المعلومات ، عن حيويات وفعّاليات البطاركة الموارنة قبل القرن الثالث عشر ضئيلة جداً وغامضة. ولكن قد تكون زيارة ارميا العمشيتي لروما نهاية عزلة الموارنة. والمهم هو ان الكنيسة المارونية وطائفتها اكتسبا أعظم قوة من الارساليات المختلفة التي أوفدتها كنيسة روما إلى الموارنة. اذ كان الأوروبيون (الصليبيون) في القرن الثالث عشر مازالوا يغزون جزءاً من الشرق واضعين آمالاً كبيرة على أصدقائهم الموارنة لإعادة تـثبيت وضعهم في بلاد الشام سورية

 

وفي غضون القرن السادس عشر ، كان بطاركة الموارنة على اتصال مع توسكانيا وأسبانيا وفرنسا لحماية مصالحهم في الوطن. وفي القرن السابع عشر وصلت علاقات الموارنة مع فرنسا إلى الذروة وذلك بوضع الموارنة تحت الحماية الفرنسية . ولما احتل السلطان العثماني سليم الأول سورية ومصر سنة 1516 ، أصبح الموارنة الذين كانوا يعيشون على الأغلب في جبّة بشري والبترون وجبيل والمنيطرة جزءاً من ولاية طرابلس التي تشكلت حديثاً والتي وضعت تحت سلطة حاكم دمشق العثماني

 

قام البطريرك الماروني موسى العكاري (ت 1567) ، بغضاً بهؤلاء الحكام واستياءً من الضرائب الثقيلة التي فُرضت على الموارنة ، بالاستغاثة بالإمبراطور شارل الخامس ، في رسالة مؤرخة بتاريخ 25 آذار 1527 ، لإنقاذ لبنان من العثمانيين. كما وعد البطريرك الإمبراطور بأنه سيضع تحت تصرفه خمسين ألفاً من الرجال المقاتلين المدربين. وفي عام 1550 أصدر السلطان سليمان القانوني (1520ـ1566) ، استجابة لمساعي البطريرك ، فرماناً إلى حاكم طرابلس لحماية حقوق البطريرك الماروني وجماعته. كان هذا المرسوم في الحقيقة اعترافاً باستقلال الجماعة المارونية بشؤونها  الداخلية

 

وفي عهد هذا البطريرك أيضاً ، بدأ الموارنة بالانتقال من طرابلس إلى كسروان المتن ، والغرب والشوف في الجزء الجنوبي من جبال لبنان. ولما كانوا مزارعين أكفاء فقد استخدمهم الإقطاعيون الدروز في زراعة أراضيهم. ولما كانت المصلحة المشتركة تجمع بين الموارنة والدروز فقد قرروا حماية مصالحهم ومحاربة فساد الحكام العثمانيين

 

تمتعت الطائفة المارونية بمكانة تحسد عليها في عهد الأمير فخر الدين الثاني المعني (1590ـ1634). كان المعني درزياً خلف والده قرقماز في قيادة الدروز في الشوف عام 1584. وبحلول عام 1591 كان قد مدَّ سلطته لتشمل المتن وبيروت عام 1598 ، وأخيراً كسروان عام 1605 والتي كانت مأهولة بالموارنة. كذلك حصل المعني على صور وجزءاً كبيراً من فلسطين. كان العديد من فرق الدروز خصوماً للمعني ما عدا الشيخ يزبك بن عبدالعفيف ، الذي كان يميل جداً إلى الموارنة . وهنا أوفد البطريرك الماروني يوحنا مخلوف  المطران جرجس عميرة (وهو الذي اصبح بطريركاً بعدئذ) إلى روما وإلى توسكانيا طالباً التحالف مع فرديناند دوق توسكانيا الكبير ضد الحكومة العثمانية. زار المطران عميرة أوروبا ، في الواقع ، مرتين ، وقام بالعديد من الاتصالات مع الأوروبيين بوساطة الطلاب الموارنة في المدرسة المارونية في روما. كما شجع الأوروبيين ومبشريهم الدينيين على القدوم إلى لبنان . كما ان فخرالدين المعني جنّد العديد من الموارنة في جيشه حيث اصبحوامصدراً كبيراً من مصادر القوة لذلك الجيش. كما جنّد الموارنة مرشدين له وكان أحد مرشديه البطريرك الماروني نفسه

 

انتقل العديد من الموارنة ، بتشجيع من سياسة فخرالدين المعني المؤيدة للمسيحيين  جنوباً إلى الشوف ووادي البقاع حيث استقروا كمزارعين أكفاء. وسرعان ما انخرط الموارنة في صناعة الحرير التي أدخلها المعني إلى لبنان. بل اكثر من هذا أصبح المزارعون ورجال الأعمال الموارنة العمود الفقري الاقتصادي في متصرفية المعني. وكان بالنتيجة ان تغير الوضع الديموغرافي لهاتين المنطقتين ، حيث قام الموارنة بإنشاء مدينتي دير القمر وزحلة في وسط جماعة درزية بينما كانت كسروان وجبيل والبترون في الشمال قد أصبحت على الغالب مارونية ، وفي نهاية القرن الثامن عشر ، عندما طرد الموارنة آل حمادة الشيعة حكام تلك المناطق ، أضحت هذه المناطق مارونية بأجمعها

 

يمكننا ، على ضوء ما تمَّ قوله ، أن نستنتج بثـقة بأن فترة حكم فخر الدين الثاني المعني شاهدت ارتقاء الجماعة المارونية إلى مقام رفيع لم يسبق له مثيل. صحيح أن الأمير كان قد ربط نفسه مع العديد من الملل الدينية بحيث لم يستطع الناس معرفة فيما إذا كان درزياً أم سنياً. ومع ذلك فإن سياسته الممالئة للموارنة عززت الكنيسة المارونية والطائفة المارونية وشجعت الموارنة على الهجرة إلى الجنوب حيث اكتسبوا المزيد من الثروة والقوة . كما ان الوعي الديني المتنامي عند الموارنة كطائفة متلاحمة ذات صفات سياسية اجتماعية ودينية متميزة قد ساهم في مفهومهم بأن لبنان ما هو الا امتداد للهوية المارونية. هذا ما يبرهن عليه التعليق المدون في أسفل الصورة الخيالية ليوحنا مارون والذي يقول: مجدُ لبنان أعطي له ”

 

استمرت الطائفة المارونية في اكتساب القوة والجاه في القرن السابع عشر وخاصة في عهد الأمير ملحم (ت 1568) ، وهو ابن أخ الأمير فخر الدين. ولكن الأمير الجديد جابه مشاكل مع السلطان العثماني الذي رفض الاعتراف به خليفة لفخر الدين. فما كان من ملحم الا الإتصال بالبطريرك الماروني جرجس عميرة (ت 1644) يلتمسه لكي يطلب من البابا التوسط لدى السلطان العثماني للاعتراف بملحم حاكماً على لبنان. كتب البطريرك التماساً إلى البابا بيَّن فيه بأن ملحم كان احد الأمراء المعنيين الذين نال المسيحيون في عهدهم حرية كبيرة. وطلب منه أن يقوم بحث ملك فرنسا على إقناع حليفه السلطان العثماني على الاعتراف بملحم حاكماً على لبنان.وبالنتيجة نجح البطريرك في مهمته ونصّب ملحم في مركزه ( ولهذا أعاد ملحم الأعضاء الموارنة من عائلة الخازن إلى مناصبهم وخاصة أبا نادر حيث عينه حاكماً على كسروان. كما أعيد آل الحبيشي أيضاً إلى مناصبهم في غزير. وبعد وفاة أبي نادر في عام 1647 خلفه ابنه أبو نوفل الخازن

 

بعد أن استعاد الموارنة مناصبهم في كسروان بدأوا بشراء أراض زراعية من الشيعة. وفي غضون ذلك انتـقل عدد كبير من الموارنة من مساكنهم في الشمال وفي منطقة الدروز إلى كسروان مسببين بذلك احتكاكاً بينهم وبين الشيعة الذي خشوا منافسة القادمين الجدد. وبالرغم من هذا الاحتكاك استمر الموارنة في الهجرة إلى كسروان التي أصبحت ، خلا بضع القرى ، تحت سيطرتهم التامة في القرن الثامن عشر

 

كانت هجرة الموارنة إلى إقليم الدروز في الجنوب كبيرة جداً وسرعان ما فاق المـوارنة الدروز عـدداً. وقد رحّـب بهم الأمير أحمد (ت 1679) ، وهو آخر الأمراء المعنيين الذي كان قد خلف والده عام  1658 . وأصبحت دير القمر بسبب الموارنة مركزاً تجارياً مزدهراً للحرير الذي كان يتم تصديره إلى بيروت وصيدا ومرافيء أخرى من البحر الأبيض المتوسط. وأصبح تسامح الأمير أحمد مع الموارنة وحمايته لهم مثلاً يحتذى بحيث وجد البـطريرك المـاروني اسـطفان الدويهي (ت 1704) ملجأً عند الأمير أحمد في دير القمر هرباً من ظلم آل حمادة الشيعة في جبّة بشري في شمال لبنان

 

كانت الطائفة المارونية ، كما رأينا سابقاً ، قد وُضعت تحت حماية فرنسا وكان الملوك الفرنسيون قد بدأوا باختيار قناصلهم من بين الوجهاء الموارنة  الذين استخدموا سلطة فرنسا وهيبتها كأداة لسيطرتهم على الكنيسة المارونية وكهنتها. كان الموارنة فخورين جداً بأن يكونوا تحت حماية فرنسا بحيث سمى بعض الموارنة أنفسهم بـ “فرنسيو الشرق” . وهكذا أدرك الأمراء الشهابيون ، الذين ستتم مناقشتهم بعد حين قوة النفوذ الفرنسي ومن ثم أهمية الحكم الماروني والسلطة المارونية وأصبحوا متحدين مع الموارنة تجمعهم مصلحة مشتركة

 

في عام 1697 توفى الأمير أحمد دون وريث فأختار وجهاء الدروز ابن أخيه بشير الشهابي حاكماً جديداً لهم. وفي عام 1707 خلف الأمير بشير الأمير الشاب حيدر الشهابي ، وهو حفيد الأمير أحمد المعني. اعترف حيدر بسلطة آل الخازن وآل حبيش الموارنة في كسروان وغزير وعامل هاتين العائلتين على قدم السواء مع العائلات الإقطاعية الدرزية. وقد أيد وجهاء الدروز حيدر لكنهم عارضوا ابنه ملحم ، الذي خلفه عام 1732 اذ لم يروا فيه سوى ممثلاً للسلطان العثماني خاصة في فرض الضرائب عليهم ولهذا ارادوا إحلال آخر مكانه. وما لبث االأمير ملحم ان تنازل  ، تحت ضغط الدروز عام 1754 لصالح أخويه ، منصور وعساف ، وانتقل إلى بيروت حيث كرمه الموارنة تكريماً عظيماً حتى وفاته عام 1761

 

كان عام 1754 نقطة تحول في تاريخ الشهابيين عندما اهتدى الأمير علي الشهابي إلى المسيحية وانضم إلى الكنيسة المارونية. وتبعت الأمير غالبية الشهابيين وأقرباؤهم الأمراء المعنيون الدروز الذين انضموا إلى الكنيسة المارونية (18). وهكذا أصبحت الإمارة الشهابية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مارونية. إن اهتداء الشهابيين إلى المسيحية المارونية لا يعني أنهم صاروا أعداء المسلمين أو الدروز؛ بل ان ارتدادهم الهب حدّة المنافسة والصراع بين العائلات الإقطاعية البارزة

 

تمتع الموارنة تحت حكم الشهابيين الذين كانوا قد تحولوا إلى المسيحية ، دون سائر الطوائف المسيحية الأخرى ، بمكانة فريدة في الإمبراطورية العثمانية. كانوا تحت الحماية المباشرة لفرنسا ولم يكن بطريركهم بحاجة للحصول على مصادقة السلطان العثماني ليثبته في مركزه. في الواقع ، اختار الأمراء الشهابيون ، منذ أواسط القرن الثامن عشر ، مارونياً ليشمل منصب المدبّر (مدير ومستـشار أول). وكان أول من شغل هذا المركز هو سعد الخوري (ت 1780). ثم تـنامت سلطة المدبّر وهيبته إلى درجة استطاع فيها أحد المدبرين وهو جرجس باز التصرف دون استشارة الأمير أو الحصول على مصادقته. وهذا ما أثار حفيظة الأمير بشير ضد جرجس وأخيه ، عبدالأحد. وأخيراً أمر الأمير بشير بقتل الأخوين عام 1807

 

من الأهمية الملاحظة في هذا الصدد بأن “الأيديولوجية المارونية” الهامدة في القرن التاسع عشر كانت قد استفحلت منذ القرن الثامن عشر فصاعداً حيث أضحت الإدارة الشهابية مرادفة لـ ” المارونية ” (21). وبدأ الموارنة اعتبار لبنان وطنهم الخاص مما بعث الهلع بين الطوائف الأخرى ، وخاصة الدروز الذين اعتبرهم الموارنة غرباء

 

اعتبر بعض الموارنة أنفسهم طائفة متميزة ضمن الإمارة الشهابية ، كما اعتبروا الأمير يوسف الشهابي ، الذي اهتدى إلى المسيحية ، بأنه أول حاكم شهابي للموارنة . وفي الوقت نفسه اعتقد موارنة آخرون كالمطران نقولا مراد (ت. 1862) ، بأن الموارنة هم الأغلبية في لبنان وبأن الإمارة الشهابية هي إمارة مسيحية بشكل أساسي. واعتبر مراد الدروز متمردين ضد ” السلطة المارونية الشرعية ” .  وهكذا أصبح الموارنة يعتقدون بأنهم طائفة منفصلة عن بقية شعب لبنان سواء كانوا مسيحيين ام دروزاً أم مسلمين. بل ان كنيستهم أضحت المؤسسة التي تعكس معتقدات الموارنة ومبادئهم كما أضحت بطريركيتهم رمز السلطة الدينية والعلمانية معاً

 

نجم الصراع بين الموارنة والدروز بصورة خاصة عندما تـقلد الأمير بشير الشهابي الثاني السلطة عام 1788 بعد وفاة الأمير يوسف. وقد استغل الأمير بشير الثاني انشغال الحكومة العثمانية بطرد الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا مصر بقيادة نابليون عام 1798 ، ليصبح أكثر استقلالاً عن السلطة العثمانية. كما قام الموارنة بمساندة الأمير بشير الثاني الذي كان مارونياً مهتدياً باعتباره أميرهم

 

عارض وجهاء الدروز الأمير بشير الثاني وتعاونوا مع أحمد باشا الجزار ، والي عكا السيء السمعة ، ضده ولكن عندما توفي الجزار عام 1804 ، انقلب الأمير بشير على وجهاء الدروز فقضى على سلطتهم مما أبهج الموارنة. وفي غضون ذلك اعتقد المقتطعون (أصحاب الأراضي المقتطعة أو الإقطاعيين) في الجنوب صواباً ام خطأً بأن الإقطاعيين والمزارعين الموارنة كانوا يحاولون انتزاع أراضيهم منهم ، مما زاد مخاوف الدروز من مطامح الموارنة العدائية المتزايدة

 

وما ان تـنازل الأمير بشير الثاني عام 1840 عن عرش الإمارة حتى فقد الموارنة مؤيداً صلباً. كان الأمير بشير قد تعاون مع محمد علي باشا نائب السلطان في مصر ، في احتلال بلاد الشام عام 1832. إلا أن تدخل القوى الأوروبية أجبرت الجيوش المصرية على الانسحاب من بلاد الشام عام 1840. كما أجُبر الأمير بشير على التـنازل وتمَّ نفيه

 

خلف الأمير بشير الثاني ، الأمير بشير الثالث الملقب بأبي طحين عام 1860. وقد خلق عزل بشير الثاني فراغاً سياسياً كبيراً لأن ابا طحين كانت تعوزه الصفات الضرورية للحاكم القوي. ولذلك استغل الدروز في الجنوب ، إقالة بشير الثاني بمهاجمة الموارنة وقتلهم بعد سنة من تـنازله. واستمرت المذبحة بصورة متفرقة حتى عام 1860 حيث أضحى لبنان حمّاماً من الدم

 

وبسبب هذه المذابح أرسلت الحكومة العثمانية الجنرال مصطفى نوري باشا للتحقيق في الوضع. وأول ما فعله هذا الجنرال انه أقال الأمير بشير الثالث وأرسله إلى المنفى ، ووضع لبنان تحت حكم الحكومة العثمانية المباشر مما اثار استياء الموارنة من هذا الترتيب الجديد. وفي عام 1842 طالبت الكنيسة والطائفة المارونيتين وخاصة البطريرك يوسف حبيش بإعادة الحكم إلى الشهابيين. لكن الحكومة العثمانية رفضت ذلك بحجة أن الشهابيين ، وخاصة الأمير بشير الثالث ، آثروا الموارنة وعادوا الدروز. وكحل لمشكلة المسيحيين والدروز معاً ، عمدت الحكومة العثمانية ، بالاتفاق مع القوى الأوروبية ، إلى تـقسيم لبنان إلى مقاطعتين ، المقاطعة الشمالية تحت سلطة حاكم ماروني والمقاطعة الجنوبية تحت سلطة حاكم درزي

 

احتج البطريرك حبيش لدى الحكومة العثمانية على هذا التدبير الجديد بحجة أن القرى المارونية والمزارعين الموارنة في الجنوب (الشوف) قد وضعوا تحت رحمة إقطاعييهم من الدروز. فكان بالنتيجة ان وافقت الحكومة العثمانية على تعيين وكيل ماروني على كل قرية من القرى للعمل مع الحاكم في حل مشاكل الموارنة . وبالرغم من هذا التدبير ، رفض الموارنة في الجنوب أن يكونوا تحت سلطة حاكم درزي. وقد حرضهم على ذلك الكهنة الذين أيقظوا فيهم شعوراً دفيناً من الكراهية حيال الدروز. فما كان من الدروز والموارنة الاّ اللجوء إلى العنف واندلعت من ثم الحرب الأهلية في نيسان 1845 ، عندما هاجم مقاتلون موارنة قرية درزية وأحرقوها . وهنا وقفت الحكومة العثمانية إلى جانب الدروز في هذا الصراع ونزعت الأسلحة عن السكان بشكل جزئي. كما أجرى العثمانيون بعض التغييرات في الجهاز الإداري أملاً في الحد من سلطة الإقطاعيين وضامني الضريبة

 

وفي الفترة ما بين عامي 1845 و 1858 ، ابتلت مقاطعة شمال لبنان المارونية بنزاع نشأ بين الفلاحين والإقطاعيين من عائلتي الخازن وحبيش. بدأ الإقطاعيون الذين استغلوا ضعف حاكم المقاطعة باضطهاد الفلاحين مما جعل الفلاحين يطيحون بنير الإقطاعيين. وتمكن الفلاحون ، بقيادة شاب متحمس ، هو يوسف كرم ، وبتشجيع من الكهنة الموارنة والإقطاعيين المتعاطفين الجدد من تأسيس حكومة من الفلاحين. وقاموا بتـقسيم الأملاك الواسعة وجردوا الإقطاعيين من امتيازاتهم . يعتقد البعض بأن البطريرك بولس مسعد وافق شخصياً على أعمال الفلاحين إلا أن الأمر لم يكن كذلك. كل ما هنالك ان البطريرك نادى بالاعتدال واضعاً نفسه فوق الصراع

 

شجع تمرد الفلاحين الموارنة في الشمال الموارنة ومسيحيين آخرين في مقاطعة الدروز في الجنوب للتمرد على إقطاعييهم من الدروز. وكما كانت الحال في الشمال فقد قام الكهنة بتحريض الموارنة في الجنوب. وهكذا بدأت الحرب الأهلية في 29 نيسان عام 1860 ، عندما هاجم الموارنة قرى درزية وهاجم الدروز قرى مارونية. وكان النزاع ، تماماً كما في الشمال ، نزاعاً بين الإقطاعيين الدروز والمزارعين الموارنة. وقد لعبت الطائفية دوراً كبيراً في هذا الصراع ، واعتبرت القوى الأوروبية المذابح التي ارتكبها الدروز ضد المسيحيين اعتداءٌ على المسيحيين. وانصبّ اكثر اللوم على حاكم صيدا العثماني ، خورشيد باشا ، بسبب كراهيته للمسيحيين. وفي الحقيقة ، دعا البطريرك بولس مسعد شعبه في الشمال إلى الاندفاع باسم الدين لنجدة أخوتهم في الجنوب مّما جعل الطرفين المتحاربين يعتقدان بأنهما يخوضان حرباً دينية

 

يقع اللوم على الكنيسة المارونية ، والقوى الاوربية الكبرى والحكومة العثمانية جميعاً ، في المأساة اللبنانية لعام 1860. كانت الكنيسة المارونية قد شجعت المسيحيين على تحدي إقطاعييهم من الدروز ، كما دعمت الحكومة الفرنسية الموارنة لأنهم كانوا كاثوليكاً تحت الحماية الفرنسية ، ودعمت الحكومة البريطانية الدروز توازناً مع دعم فرنسا للموارنة. وبالنتيجة انتهت محنة عام 1860 بإقامة إدارة جديدة للمتصرفية ، وهو نوع من التسوية بين جميع الأطراف المعنية

 

وفقاً لهذه التسوية ، اشترط أن يحكم لبنان متصرف مسيحي غير لبناني يعينه السلطان بالاتفاق مع القوى الاوربية الكبرى. ويساعد هذا المتصرف مجلس إداري منتخب يمثل سائر الطوائف في البلاد. بالإضافة إلى ذلك ، تمَّ القضاء على كل الامتيازات الإقطاعية كما جرى تـقسيم لبنان إلى سبع مناطق إدارية يحكمها ممثل يعينه المتصرف  الذي كان يتمتع بسلطة تنفيذية كاملة ، كما تقرر أن تكون للبنان قوته الخاصة من الشرطة ونظامه القضائي الخاص به. وقد بقي النظام الحكومي الجديد قائماً حتى الحرب العالمية الأولى

 

كانت تلك الفترة عموماً فترة ازدهار كبير للبنانيين ، كما أن الموارنة على ما يظهر حصلوا على أفضل ما في الاتفاق. وفي عهد النظام الجديد بدأ الموارنة بالنضج سياسياً ، كما اخذت نظرتهم الضيقة والطائفية إلى لبنان بالتغير. اصبحوا ينظرون إلى لبنان كله على أنه وطنهم خاصاً بهم دون غيرهم. وأصبحت الكنيسة المارونية نصيرة لمفهوم القومية اللبنانية الوليد

 

إلا أن فترة المتصرفية لم تكن دون مشاكل. فقد أضرم إلغاء الامتيازات الإقطاعية الصراعات بين الفلاحين الموارنة والدروز من جديد ، وفي عام 1861 ثار الموارنة ضد حكومة أول متصرف (داود باشا) بقيادة يوسف كرم. إلا أن الحكام ، عموماً ، كانوا خلال هذه الفترة من خارج لبنان ، وكانوا حكاماً أكفاء ، يتمتعون بالإنسانية وقد دافعوا عن كيان لبنان ضد محاولات الحكومة العثمانية لتعكير هذا الحكم الذاتي . لكن لا بد من التبيان بأن بعض الكهنة الموارنة كانوا ضد داود باشا وأن الموارنة ، اعتبروا شمال لبنان ، خلال فترة المتصرفية ، أرضاً مسيحية ، ولهذا لم ير البطريرك الماروني مسعد بداً من قبول الحكم الجديد بإعتباره أفضل صفقة كان للموارنة أن يحصلوا عليها في ذلك الوقت.

 

وفي عام 1915 وضعت الحكومة العثمانية لبنان تحت حكمها العسكري المباشر وألغت كل الامتيازات في لبنان وبضمنها امتيازات الكنيسة المارونية. وقد اعتبر البطريرك الماروني الياس حويك ( ت 1931) هذا الإجراء جائراً ، واضطر خرقاً لتـقليد قديم أن يطلب من السلطان العثماني تثبيت توليته كبطريرك

كانت فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى قد أنزلت قوات في لبنان وفي نهاية الحرب احتلت لبنان وفقاً لمعاهدة سايكس ـ بيكو السرية بين فرنسا وبريطانيا العظمى ، الموقعة في عام 1916

 

عندما انعقد مؤتمر السلام في باريس عام 1919 لمناقشة مصير المقاطعات العثمانية التي حررها البريطانيون والفرنسيون في الشرق الأوسط ، أراد العديد من اللبنانيين ، وبشكل خاص الموارنة الاستقلال الذاتي تحت الحكم الفرنسي. وقد لعب البطريرك حويك ، المشهور بالبطريرك اللبناني ، دوراً كبيراً في مؤتمر السلام في باريس لتحقيق استقلال لبنان عن سورية ، خاصة وأن الأمير فيصل كان يطالب في مؤتمر السلام اعتبار لبنان جزءاً من سورية. وفي عام 1920 تحقق حلم الموارنة بالحصول على دولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي ، وفي عام 1926 حصلت دولة لبنان الكبير الجديدة على حكومتها ودستورها الخاصين بها

 

حبّذت الطائفة المسلمة في لبنان الاتحاد مع سورية ، وخاصة أهالي طرابلس بسبب ارتباط مصالحهم الاقتصادية مع سورية. إلا أن بعض العائلات المسلمة من السنة التي تعيش في بيروت دافعت عن إنشاء لبنان الكبير. ويقول رئيس جمهورية لبنان الأسبق بشارة الخوري في هذا الصدد أن المناداة بلبنان الكبير تمَّ بحضور مفتي السنة في لبنان

 

كانت لمسلمي لبنان آراء مختلفة بخصوص دولة لبنان الكبير. وقد نظروا إلى هذه الدولة بكونها دول مسيحية بحتة اعتبرت فيها حقوق المسلمين هامشية. كان لبنان الكبير يعني بالنسبة لهم الوحدة مع سورية؛ لذا ، عقد مسلمو لبنان مؤتمراً دعي بمؤتمر الساحل عام 1933 ، ناقشوا فيه الوحدة مع سورية ولكن لم يكن هناك إجماع في الرأي بشأن طبيعة الاتحاد

 

عقد مؤتمر آخر عام 1936 كشف عن الشقاق بين المسلمين بخصوص فكرة لبنان الكبير. بل ان الطائفة المارونية نفسها لم يكن لديها اجماع في كيفية دعم السياسة الفرنسية. فقد كان الموارنة يتطلعون إلى بطريركهم لا إلى المفوض السامي الفرنسي ، بأنه قائدهم الوحيد الذي يمثل مصالحهم الوطنية . وهكذا نجم صراع بين السلطات الفرنسية والبطريركية المارونية. وعندما انتخب أنطون عريضة بطريركاً عام 1932 ، تردد البابا في إرسال الباليوم (درع التثبيت) له. في الحقيقة ، أراد الفاتيكان تغيير عملية انتخاب البطريرك الماروني بحيث يقوم بهذا الانتخاب الفاتيكان لا المطارنة الموارنة إلا أن الطائفة المارونية أبدت معارضة شديدة لهذا التغيير

 

كان الصراع بين البطريرك عريضة والمفوض السامي الفرنسي نتيجة لمساعي البطريرك لاستقلال لبنان. وفي 25 كانون الأول 1935 ، دعا البطريرك إلى انعقاد مؤتمر في المقر البطريركي في بكركي لمناقشة اسـتقلال لبنان. ودعا في خطابه الافتتاحي إلى تحقيق استقلال لبنان ، بشرط أن تنال كل طائفة حقوقها بناءً على وضعها وأهميتها وعلى إرادة لبنان المستقل على التعاون مع جيرانه إلى الشرق من لبنان ومع البلاد الغربية ، وعلى الاخص فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة . كانت هذه ، أول محاولة منذ بدء الانتداب الفرنسي لخلق انسجام أصيل بين الجماعة المسيحية التي رفضت الاتحاد مع سورية والجماعة المسلمة التي طالبت بالاتحاد مع سورية ورفضت الحماية الفرنسية. ولذا يمكن اعتبار المؤتمر ، في جوهره ، سابقاً للميثاق الوطني في المستقبل (1943) الذي كان بمثابة تسوية سياسية بين المسيحيين والمسلمين قام البطريرك بدعمها

 

كان تأثير معارضة البطريرك للمفوض السامي الفرنسي والانتداب الفرنسي عارماً بحيث خرج المصلّون المسلمون من الجامع في دمشق هاتفين ” لا لإله إلا الله والبطريرك عريضة حبيب الله “. ” لا إله إلا الله وتاج الدين الحسيني عدو الله ” . كان تاج الدين آنئذٍ رئيس الدولة السورية الذي لم يعارض الانتداب الفرنسي كما فعل البطريرك الماروني. وفي الحقيقة ، اصطدم بعض القادة الموارنة ، ومنهم أميل أده ، الذي كان صديقاً مخلصاً للفرنسيين ، مع الحكومة الفرنسية عندما رفضت تعيين حاكم لبناني على لبنان. علاوة على ذلك ، لم يكن أده على علاقة طيبة مع المفوض السامي الفرنسي اثناء توليه رئاسة الوزارة بين 1929 و 1930 وكرئيس للجمهورية من عام 1936 وحتى 1941

 

حاول بعض الموارنة ، كيوسف السودا ، التحريض على قيام جهد مشترك بين المسيحيين والمسلمين لتحقيق استقلال لبنان عن فرنسا ، والذي كان مدعاة لخيبة السلطات الفرنسية. كانت ثمرة جهود يوسف السودا حصول اجتماع بين المسيحيين والمسلمين عام 1936 والذي كانت نتيجته اقرار ميثاق وطني مماثل للميثاق الذي أعلن عام 1943. وفي الحقيقة اصطدم ، حزب الكتائب الماروني الذي أسسه بيير الجميل عام 1936 ، بالفرنسيين في العام الذي يليه حول قضية استقلال لبنان. وبينما اتخذ العديد من المسيحيين في عام 1943 موقفاً محايداً بشأن قضية الاستقلال خوفاً من أن يجعل الاستقلال الغالبية العربية المسلمة تطغى كلياً على المسيحيين ، كان حزب الكتائب المجموعة الشعبية المسيحية الوحيدة التي دعمت الكتلة الدستورية ورئيسها بشارة الخوري في صراعهم من أجل الاستقلال

 

هذا ما يدل على أن مصلحة الموارنة لم تتـفق دائماً مع مصلحة الفرنسيين وأن بعض القادة البارزين اتخذوا مواقف خنوع للفرنسيين. كانت الجماعة المسيحية تخشى أن وجودها بالذات سوف يضمحل اضمحلال قطرة ماء في محيط عربي. ولكن بالرغم من هذا الخوف المتأصل كانت الطوائف الدينية المختلفة قادرة على التعايش إلى اليوم الذي أضاف اللاجئون الفلسطينيون في الفترة ما بين 1948ـ1975 ، وبعدئذ الشيعة الراديكاليون من إيران ، أبعاداً دينية وديموغرافية جديدة أضرمت من جديد الطائفية الهاجعة والأزمة الحالية في لبنان

 

منذ بداية الانتداب عام 1920 ، نشأ الصراع بين البطاركة الموارنة والمفوضين الساميين الفرنسيين حول حكم لبنان. ويكشف مثل هذا الصراع تـنامي السلطة الزمنية للبطريرك التي اكتبسها أيام المتصرفية. إلا أن البطريرك بدأ ، في عهد الانتداب بفقدان سلطته بينما اكتسب رئيس البلاد المزيد من السلطة. وعندما نشر دستور دولة لبنان الكبير رسمياً عام 1926 ، كان رئيس البلاد هو المنفرد بالسلطة لا البطريرك

 

من الواضح أن الموارنة تمتعوا في عهد الانتداب بمركز أفضل من مركز الشيعة والسنة والدروز وأفضل حتى من الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية. فقد كان لبنان بشكل أساسي بلداً مكوناً من طوائف شغل الموارنة من بينها جميعاً أغلب المراكز البارزة في الدولة. إلا أن الطائفية التي عمل الفرنسيون على تشجيعها لم تكن مقبولة لدى الجماعات الأخرى ، وخاصة المسلمين. وبعد إعلان استقلال لبنان كانت معظم المبادئ الطائفية في دولة لبنان الكبير بحاجة إلى تعريف واسع النطاق لكي تكون مقبولة لدى المجموعات الدينية المختلفة

 

كانت هناك حاجة الى تغيير جذري في الدولة ، بحيث يخلق توازناً طائفياً تقبله كافة الطوائف في لبنان. كانت النتيجة الإعلان الرسمي للميثاق الوطني عام 1943 الذي قام باعداده رئيس جمهورية لبنان المنتخب حديثاً بشارة الخوري بالمشاركة مع رئيس الوزراء السني رياض الصلح

 

ومن جملة ما نصّ عليه الميثاق هو ان يتخلى مسيحيو لبنان عن فكرة لبنان منعزل عن محيطه العربي ويقبلون لبنان كدولةً مستقلة ضمن الحظيرة العربية. كما نصّ ايضاً ان يتخلى المسلمون بدورهم عن فكرة إعادة تلك الأراضي التي الحقت بلبنان في عام 1920 إلى سورية. وأخيراً نصّ الميثاق على ان يرفض العرب الحماية الأجنبية ويتوقفون عن نشاطهم في إخضاع لبنان لسورية أو للعالم العربي. بعبارة أخرى ، وفقاً لهذا الميثاق يكون لبنان بلداً مستقلاً لكافة الشعب العربي الذي يقطنه بغض النظر عن دينهم ويكون احد الدول في مجموعة الدول العربية .

 

كان الميثاق ، بشكل اساسي ، حلاً وسطاً لا تغييراً راديكالياً لهيكلية لبنان الطائفية. بل ظل النظام البرلماني للبنان قائماً على تمثيل طائفي ، كما كان في زمن الانتداب. وكان على المراكز الثلاثة الرئيسية ضمن الحكومة أن توزع على النحو التالي : يكون رئيس الجمهورية مارونياً ، ورئيس البرلمان شيعياً ورئيس الوزارة سنياً. فليس من الغرابة اذن أن كان العديد من الكتّاب ، موارنة أو خلافهم قد نظروا إلى الميثاق الوطني على أنه ترسيخ للطائفية التي أوجدها العثمانيون وأعادت السـلطات الفرنسية تثبيتها . لكن البطريرك الماروني رحب بالميثاق ودعمه

 

كان الميثاق الوطني وفقاً لميخائيل غريِّب الماروني ، جائراً ومعيباً. كما كان ترسيخه للطائفية سبباً في احتراق لبنان اليوم وانهيار دعائمه على شعبه. ويرثي غريِّب الحقيقة وهي ان الميثاق خلق فراغاً سياسياً هائلاً في لبنان حرض الفلسطينيين ومن ثم السوريين وأخيراً كل العرب على محاولة ملء هذا الفراغ

كان الميثاق في الحقيقة تسوية بين فردين لا طائفتين مختلفتين في لبنان. كان علاجاً مؤقتاً لا شفاءً تاماً من مرض الطائفية التي هي مصدر الأزمة اللبنانية حالياً. هذا ما شجع القادة الدروز والشيعة بعدئذ على الجدل بأن الميثاق الوطني لعام 1943 لم يعد مجدياً

 

لقد تغيرت الأمور ، وتكاثرت الطائفتين الدرزية والشيعية عدداً ومكانةً بالقدر الذي يكفي ليجعلهما تطالبان بإعادة نظرة جذرية حول مضمون الميثاق الوطني ، لا على أساس طائفي بل على أساس حكم الأغلبية. كان الميثاق الوطني ، من وجهة نظر الرابطة المارونية دلالة على الإيمان الواقعي والعملي لتاريخ الموارنة وتطلعاتهم. كان ، قبل كل شيء ، تعبيراً عن أقصى رغبة لهم في التعايش مع الطوائف غير المارونية. ويجادل بعض الموارنة بأن الميثاق قد خصّ رئاسة الجمهورية بالموارنة لأكثر الأسباب جوهرية ـ وهو أن منصب الرئاسة المرموق يشكل رمزاً للأقليات المسيحية في العالم العربي الإسلامي . ولكن قادة الموارنة الشباب كانت لديهم على الاخص ، بعد الحرب الأهلية التي اندلعت عام  1975 ووفاة الرئيس الراحل بشير الجميل ، نظرة مختلفة بخصوص الميثاق الوطني لعام 1943. ففي آذار من عام 1977 اجتمعت مجموعة من الشخصيات اللبنانية البارزة من كل الأديان والصبغات الدينية في الكسليك لمناقشة إيجاد نظام سياسي جديد للبنان يحل محل الميثاق الوطني. وفي هذا الاجتماع أعلن بشير الجميل صراحة بأن الميثاق الوطني بدأ منذ عام 1958 بالانهيار أمام أعين اللبنانيين والعرب والعالم أجمع. وأضاف قائلاً ” إذا كان عام 1958 هو بداية إصابة صيغة الميثاق الوطني بالسرطان ، فلا بد من اعتبار عام 1975 تاريخ اعتلاله الحقيقي”. ويختتم الجميل بأنه يـرفض صيغة الميثاق قائلاً: ” لقد اشتركت شخصياً في طعنه بمديه وفي دفنه ووضع حراس على قبره بحيث لا يبعث مرة أخرى ”

 

اما البطريرك عريضة فقد سُرَّ بالميثاق الوطني لأنه أبقى الرئاسة ، وهي أعلى منصب في الحكومة ، بأيدي الموارنة. كان اهتمام البطريرك الرئيسي هو لبنان مستقل لأنه البلد الوحيد في العالم العربي الذي استطاع فيه المسيحيون وخاصة الموارنة التمتع ببعض السلطة الحكومية. وعندما التقى ممثلوا الدول العربية في الاسكندرية ووقعوا بروتوكول الاسكندرية في 7 تشرين الأول 1944 لإنشاء جامعة الدول العربية اعترض البطريرك الماروني على بعض الصياغة الواردة في البروتوكول. فقد فهم البطريرك ومستـشاروه ان دعوة البروتوكول لقيام منظمة من الدول العربية ، تعني اتحاداً كونفدرالياً يُختزل فيه لبنان ليكون أقلية لا أهمية لها وسط أغلبية عربية مسلمة بشكل ساحق. كما اعترض البطريرك ايضاً بأن صيغة بروتوكول جامعة الدول العربية ليست صيغة اتحاد كونفدرالي بل اتحاد دول عربية مستقلة

 

ان اهتمام البطريرك باستقلال لبنان ككيان مسيحي كان من الشدة بحيث انه راجع بشـأنه مناشدة الأمم المتحدة التي تمَّ تأسيسها عام 1945. ويصرح الكاتب اللبناني أنيس صايغ ، في كتابه لبنان الطائفي تصريحاً يدعو الى العجب حول تصرف البطريرك عريضة. يقول أنيس صايغ أن البطريرك عريضة بمراجعته الأمم المتحدة طلب تأسيس دولة صهيونية في فلسطين ودولة مسيحية في لبنان. لا بل أرسل مطرانه مبارك إلى فرنسا لترويج هذا الطلب. وعندما قدمت لجنة الأمم المتحدة إلى لبنان للاستفتاء بشأن القضية الفلسطينية ، طلب المطران مبارك من اللجنة العمل على تحقيق قيام دولة صهيونية في فلسطين ودولة مسيحية في لبنان . ان تصرف البطريرك هذا والذي يستند فقط إلى ما قاله أنيس صايغ ، لا يظهر سوى منتهى قلق البطريرك الذي كان جلّ همّه ان يحفظ لبنان نفسه ككيان سياسي مسيحي وحيد في الشرق الأوسط بين غالبية مسلمة. كما يظهر أيضاً أن البطريرك كان يتمتع بسلطات زمنية كبيرة وكان بمقدوره التدخل في الشؤون السياسية للبلاد

 

كتب رئيس جمهورية لبنان الأسبق ، بشارة الخوري حول كيفية معارضة البطريرك عريضة على ترشيحه عضواً في البرلمان. فهو يقول أن بعض أعضاء البرلمان الموارنة ذهبوا عام 1932 إلى المقر البطريركي في بكركي طالبين من البطريرك عدم المصادقة على ترشيحه. ويتابع الخوري قائلاً أنه حاول إقناع البطريرك بأن أعضاء البرلمان هؤلاء كانوا يلعبون لعبة سياسية ضده ، إلا أن البطريرك لم يقتـنع بذلك. يُـضيف بشارة الخوري ، بأن المطران عقل غالباً ما زار مكتب المفوض السامي الفرنسي لإعلان معارضة البطريرك في ترشيح الخوري لعضوية البرلمان

 

ظل البطريرك عريضة حتى آخر حياته متمسكاً بإيمانه بأن لبنان يشكل كياناً فريداً منفصلاً عن بقية العالم العربي. هذا ما تجلى في الرسالة التي كتبها قبل وفاته بشهر واحد فقط في 19 أيار 1955 ، إلى الرئيس كميل شمعون والتي تنطوي على الرأي الماروني الرسمي لما يجب أن تكون عليه السياسة الصحيحة للبنان. أوضح البطريرك في هذه الرسالة بأن لبنان له كيان فذّ في الحياة ، بتأثير ظروف سياسية وجغرافية وروحية. وأن على كميل شمعون ، كرئيس للجمهورية ، ألا يربط لبنان بتحالفات في المنطقة. كان البطريرك هنا يُـشير إلى الاتفاقية التركية العراقية لعام 1955 ، التي أضحت نواة حلف بغداد. وأخيراً اشار البطريرك بأن يبقى لبنان محايداً وألا ينزلق في الصراعات الداخلية بين الدول العربية

 

تغيرت هذه السياسة الضيقة ووجهة النظر المسيحية عن لبنان الى حدّ ما بمجيء البطريرك الجديد بولس المعوشي الذي خلف البطريرك عريضة في 30 أيار 1955. تبنى البطريرك الجديد سياسة متسعة الأفق محبذاً التعاون مع جيران لبنان المسلمين. وتطبيقاً لهذه السياسة قام البطريرك المعوشي في آذار عام 1956 بزيارة حي البسطة المسلم في بيروت وقال للمسلمين الذين حيوه بأبهة كبيرة بأنهم أقرباؤه الأعزاء وأنه كان سعيداً جداً بلقائهم على مستوى القومية العربية. أكَّد البطريرك وسط هتافات المرحبين به ، الذين خاطبوه على أنه بطريرك العرب ، بأن لبنان هو للكل ـ مسلمين ومسيحيين ـ وسوف يتعاون مع جيرانه. ومما يدل على ترحيب المسلمين بالبطريرك ان مسلمي حي البسطة علّقوا الصليب والهلال في أماكن بارزة على طول الطريق التي كان البطريرك سيجتازه ، رمزاً للوحدة المسيحية ـ الإسلامية . إلا أن هذه اللفتة الجديدة من النية الحسنة تجاه المسلمين لم يشارك بها كل الكهنة الموارنة. والمقصود هنا أن البطريرك الجديد إنهمك انهماكاً شديداً في السياسة اللبنانية وخاصة في الجدل حول الإصلاح الانتخابي. فبينما تمسك الرئيس شمعون بأن مجموع أعضاء البرلمان يجب أن يكون ستة وستين نائباً ، فكر البطريرك بأن عدد ثمانية وثمانين نائباً هو أكثر ملاءمة وأصدق تمثيلاً للبنان. وقد هتف المسلمون والمسيحيون للبطريرك على هذا الاقتراح

 

وزاد إنهماك البطـريرك بشكل أكبر في السـياسة في السنة التالية 1957 ، عندما قبل لبنان مبدأ ايزنهاور الذي قدم المساعدة الاقتصادية والعسكرية لبلدان الشرق الأوسط التي طلبتها. في هذه الآونة قام المسلمون والدروز ، وبعض رجالهم ومنهم صائب سلام وكمال جنبلاط وغيرهم بتشكيل الجبهة القومية المتحدة لمضادة كميل شمعون والتي ضمت ايضاً شيوعيين وبعثيين وأعضاء من كتلة بشارة الخوري الدستورية. وفي 30 أيار من عام 1957 ، خرجت مظاهرة يقودها صائب سلام ضد كميل شمعون وضد قبوله لمبدأ ايزنهاور أصيب خلالها صائب سلام بجراح . واعتبر البطريرك المعوشي الحكومة مسؤولة عن الإصابة التي ألمت بصائب سلام . ويُـقال أن صائب سلام زار البطريرك في بكركي حيث بارك البطريرك جراحه

 

وفي هذه الآونة وصلت موجة مد القومية العربية ، التي قادها الرئيس عبدالناصر منذ عام 1954 أوجاً جديداً باتحاد مصر مع سورية وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. فقد اعتبر العديد من القوميين العرب هذه الوحدة بداية حلم طالما داعبهم بالوحدة العربية ، أما بالنسبة للبنان فقد تلقى كميل شمعون ومؤيدوه المناداة بالجمهورية العربية المتحدة بكثير من الخوف والقلق لإعتقادهم بأن الوحدة العربية ستعرض استقلال لبنان في النهاية الى الخطر

 

حاول البطريرك بولس المعوشي تبني سبيلاً اكثر انفتاحاً وتعاوناً مع الوحدة العربية مما حمل الرئيس عبدالناصر على مدح البطريرك لموقفه من الوحدة العربية. أوضح الرئيس عبدالناصر أنه كان على استعداد لدعم الوحدة الوطنية في لبنان وتقاليده وعاداته  ولكن البعض فسروا موقف البطريرك بكونه محاولة لكسب أكبر شعبية في العالم العربي والظهور بمظهر الصديق للقوميين. ربما كان البطريرك من الرأي القائل بأن مصالح لبنان كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح الدول العربية

 

ذعر القادة الموارنة ، وخاصة بيير الجميل ، رئيس الكتائب من علاقات البطريرك مع عبدالناصر فاعلن في رسالة مطولة وجهها إلى البطريرك عن خوفه من أن يكون البطريرك قد رضخ لضغوط المؤيدين لاتحاد لبنان بالجمهورية العربية المتحدة. وجلب الجميل انتباه البطريرك بأن منصبه ومركزه يمثلان جوهر التاريخ اللبناني وبأن لدى الموارنة منتهى الإيمان ببطريركهم كوصي على التقاليد اللبنانية والاستقلال اللبناني. لذا ، ناشد الجميّل البطريرك بإعلان موقفه صراحة حول الشائعات المتداولة بأن لبنان سينضم إلى الجمهورية العربية المتحدة

 

في هذه الأثناء سرت الشائعات بأن المجلس الماروني الأعلى قد اجتمع ووجّه رسالة إلى البابا بيوس الثاني عشر يحتج فيها على آراء البطريرك ونشاطه السياسي  وفي 4 آذار 1957 ، اجتمع بيير الجميل على رأس وفد ، بالبطريرك لمعرفة الحقيقة عن موقف البطريرك. ولكي يطمأن الوفد صرّح البطريرك بأن بكركي هي فوق سياسات الأحزاب والاعتبارات الشخصية. وأضاف أنه يؤمن دون قيد أو شرط بسيادة لبنان وحريته لأن لبنان كبلد حر ذي سيادة يستطيع ان يقدم احسن خدمة للبلدان العربية. كما أكَّد البطريرك للوفد أن لبنان لن ينضم إلى أي اتحاد أو يصبح تابعاً لأية دولة في المنطقة

 

واستمر تدخل البطريرك بالسياسة في قضية إعادة انتخاب الرئيس شمعون. ان الدستور اللبناني ينص على انتخاب رئيس الجمهورية لمدة واحدة فقط ولكن يبدو أن شمعون كان يحاول تعديل الدستور لتعبيد الطريق لإعادة انتخابه. ولما كان البطريرك ضد أي تعديل للدستور ، فان موقفه يعني بأنه كان يعارض إعادة انتخاب شمعون. ربما كان البطريرك يعتقد أن مارونياً آخر ، غير شمعون ، سيكون افضل لخدمة مصالح الطائفة المارونية

 

وهكذا بدأ الصراع بين البطريرك وشمعون حول قضية الانتخاب ، واشتدت حدّة التوتر عندما أنشأت الحكومة ميليشيا من المواطنين اعتبرتها الجماعات المناوئة لشـمعون بأنها غطاء تستخدمه الحكومة لتعزيز موقف شمعون ومؤيديه. لكن البطـريرك كان مصراً على إدانته لإنشاء الميليشيات . وهناك بعض الأدلة بأن البطريرك حاول إقناع القائد العام للجيش ، فؤاد شهاب ، للحصول على منصب رئاسة الجمهورية إلا أن شهاب رفض ذلك. وبينما كانت معركة الانتخابات جارية في لبنان نشط الناصريون جداً في محاولتهم إزاحة شمعون عن كرسي الرئاسة وإعادة انتخاب رئيس جمهورية ناصري

 

وهنا اخذ الناصريون وكذلك السلاح بالتسرب إلى لبنان ، مما حدا بمجلس الأمن في الأمم المتحدة إلى اتخاذ قرار في 11 حزيران 1958 ، بإرسال فريق لإغلاق حدود لبنان مع الجمهورية العربية المتحدة. وفي غضون ذلك تولّد لدى الرئيس شمعون الانطباع بأن أزمة لبنان كانت مدفوعة من الخارج للتدخل في شؤون لبنان ، وخاصة من رئيس مصر عبدالناصر الذي كانت له اليد الطولى في هذا التدخل. غير ان الانقلاب العسكري العراقي الذي حصل في 14 تموز 1958سبب صدمة للحكومة اللبنانية ، وخاصة لشمعون ، الذي ظنَّ بأن حكومته قد تسقطها قوى إسلامية خارجية. وكإجراء فوري لحماية حكومته وحماية لبنان طلب شمعون من حكومة الولايات المتحدة وفق شروط مبدأ ايزنهاور التدخل في لبنان لمساعدته.

واستجابت الولايات المتحدة فأرسلت قوة بحرية إلى لبنان انزلت في بيروت عام  1958. وأخيراً جرى الانتخاب وفاز فؤاد شهاب الذي سانده البطريرك برئاسة الجمهورية. وخلال الأسابيع التي تلت انتخاب شهاب ثارت مناقشة حامية حول وضع لبنان بعد انسحاب القوات البحرية الاميريكية ومن سيحمي لبنان؟ كان هناك اقتراح بتدويل لبنان قد يستوجب وضع قوات أجنبية في لبنان للحفاظ على كيانه. وطرح اقتراح آخر مفاده أن يكون لبنان بلداً محايداً على النمط السويسري. كما ان البطريرك المعوشي طالب بحياد لبنان بالاتفاق مع الدول العربية

 

المقصود هنا أن البطريرك ظل يتدخل في شؤون لبنان ويتكلم باسم لبنان كما لو كان رئيس الجمهورية. مثلاً عندما زار البطريرك الولايات المتحدة  ، في أيلول عام  1962  ناقش مع الرئيس كينيدي وضع لبنان ومصيره وأبدى اهتماماً كبيراً بتحقيق الجامعة اللبنانية في العالم. وفي غضون الخلوة الروحية في أيار 1963 ، وبينما كان الناس ينتـظرون ان يصدر البطريرك بعض الإرشادات الروحية طفق يتحدث عن استقلال لبنان ” الذي تعتبره البطريركية وديعتها بدلاً عن ذلك “. وفي 8 أيار 1963 ، كتب الكاتب اللبناني يوسف الخال في جريدة بيروت اليومية النهار انه مع كل احترامه للبطريرك وإيمانه بحكمته الدينية يفتقد بأن بيان البطريرك بشأن استقلال لبنان لم يكن ضرورياً أو مفيداً

 

وبينما كان البطريرك المعوشي يتكلم عن كل قضية سياسية تقريباً في لبنان ، حاول خلفه البطريرك أنطونيوس خريش ، إدراكاً منه للضرر الذي سببه سلفه أن يبقى بعيداً عن السياسة. كانت الأمور قد تغيرت في لبنان منذ الخمسينات ، وكان على البطريرك الجديد الذي تولى مقام منصبه عام 1975 ان يعالج المشاكل التي كانت إما هاجعة أو في طور الظهور في عهد سلفه بمزيد من الحكمة. ربما كانت المشكلة الرئيسة هي إقحام لبنان في حرب أهلية. كان البطريرك قبل المناداة بالميثاق الوطني لعام 1943 الرجل الفذ الذي يستطيع التكلم باسم الطائفة المارونية وحماية المصالح المارونية. ولكن بعد عام 1943 عندما اصبح رئيس الجمهورية مارونياً ، واصبح بمقدوره ومقدور رجال دولة موارنة علمانيين آخرين التكلم لمصلحة الطائفة المارونية. وهذا لا يعني بأن الميثاق الوطني قضى على مكانة البطريرك كناطق باسم شعبه؛ بل جعل مكانته ثانوية بالنسبة لمكانة رئيس الجمهورية في المسائل المدنية. وليس أدل على كراهية البطريرك خريش للسياسة كالبيان الذي أدلى به لمندوبي مجلة الصياد نقولا صيقلي وفؤاد دعبول ومنير نجار ومريم أبو جودة وفوتين مهنا الذين اجتمعوا معه زهاء ثلاث ساعات ونصف. قال البطريرك للموفدين

 

إنني رئيس كنيسة لا رئيس طائفة. لذا يجب ألا يفرض أحد رأيه على البطريرك. ليس هناك من حل (لمشاكل لبنان) إلا بالعلمنة أو العودة إلى الميثاق الوطني بعد تطهيره من الممارسات الخاطئة. إن من مصلحة المسلمين في العالم وفي لبنان خاصة أن يبقى لبنان كما كان

 

تابع البطريرك قائلاً: ” في الماضي كان الموارنة بمفردهم وكان البطريرك كل شيء. ولكن عندما صارت لنا جمهوريتنا الخاصة عام 1943 ، تغيرت مهمة البطريرك ودوره ”

 

يبدو ان البطريرك كان يشـير الى الحـرب الأهلية (1975ـ1976) وهجوم إسرائيل واحتلال جنوب لبنان عام 1978. فقد كانت الحرب الأهلية ذروة المأساة اللبنانية الحالية لا سبباً لها. ويرجع البعض سبب الحرب إلى الطبيعة الطائفية للمجتمع اللبناني وانقسامه إلى ما لا يقل عن سبع عشرة طائفة رسمية تعترف بها الدولة ولكل منها الحق بتطبيق قانونها الديني للأحوال الشخصية في المحاكم الروحية. وبناء على هذه الطائفية المذهبية لم يكن يسمح لأية طائفة الهيمنة على الأخرى ، بل تمّ توزيع المراكز والامتيـازات الحكومية وفقاً لصيغة الميثاق الوطني لعام 1943 . يعزو آخرون أسباب المأساة إلى نشوء القومية العربية في الخمسينات في عهد الرئيس جمال عبدالناصر كما ينسبها آخرون ايضاً إلى تهجير إسرائيل الفلسطينيين وخلق مشكلة اللاجئين التي عانى لبنان الكثير بسببها

 

إن ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللاجئين الفلسطينيين في لبنان هو اتفاقية القاهرة لعام 1969 ، التي تبعتها اتفاقية مماثلة وهي اتفاقية ملكارت في 15ـ17 أيار 1973 ، التي تُعتبر على حد تعبير عضو البرلمان اللبناني ريمون أده ” المصيبة التي نزلت حقاً بمسيحيي لبنان لا بل بكل لبنان ” . وقد تمَّ التـفاوض بشأن هذه الاتفاقية في القاهرة بين وفد لبناني يرأسه اللواء أميل البستاني ووفد فلسطيني يرأسه ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بحضور ممثلين عن الجمهورية العربية المتحدة. وأعطى المندوبون الذين اجتمعوا في 3 تشرين الثاني 1969 ، الحق للفلسطينيين ، بالتعاون مع السلطات المحلية ، بتسليح أنفسهم للإبقاء على الثورة الفلسطينية حية بواسطة النضال المسلح ولكن دون خرق سلامة لبنان وسيادته . بعبارة أخرى ، اعترفت اتفاقية القاهرة لعام 1969 بوضع الفلسطينيين في لبنان ككيان عسكري منفصل عن الكيان اللبناني لغرض القيام بالنضال المسلح ضد إسرائيل. إن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الاتفاقية صادق عليها كميل شمعون وبيير الجميل ، وخاصة الأخير الذي سيصبح العدو اللدود للفلسطينيين

 

أخذ الفلسطينيون بتشجيع هذه الاتفاقية لكي يحصلوا على السلاح وخزنه في تل الزعتر في وسط بيروت دون أن يعلموا السلطات اللبنانية بذلك. وبحلول عام 1975 أصبح تل الزعتر ترسانة عامرة بالأسلحة التي كان بمقدور الفلسطينيين استعمالها لا ضد إسرائيل فحسب بل ضد حكومة لبنانية ضعيفة لم يكن لديها سوى قوة عسكرية رمزية. اعتقد الفلسطينيون ، باستغلالهم ضعف الحكومة اللبنانية وربما بتشجيع من بعض الدول العربية ، أن باستطاعتهم الاستيلاء على لبنان وتحويله إلى قاعدة فلسطينية يستطيعون منها قتال إسرائيل. في الحقيقة ان هذا الحلم راود الفلسطينيين منذ أن فقدوا سلطتهم في الأردن ، حين قام الملك حسين في أيلول الأسود 1970 بقتل زهاء عُشر الفلسطينيين تقريباً الذين كانوا قد تحولوا بقوتهم ضده وتصرفوا كدولة ضمن دولة. وبعد أن فقد الفلسطينيون موقعهم في الأردن ، تحولوا الى لبنان الذي أصبح الأرض الوحيدة المناسبة لعملياتهم. ومما زاد من حدة التوتر بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية هو ازدياد الغارات الإسرائيلية على جنوب لبنان في عام 1971 و 1972 وقصف مخيم الفلسطينيين ، والانتـقام المحدود من جانب الفلسطينيين. لكن التوتر استمر في التصاعد حتى 12 نيسان 1975 عندما اعتقد الفلسطينيون أن الوقت قد حان لكي يحوزوا السلطة في لبنان

 

في ذلك اليوم ، وكان يوم أحد ، حضر بيير الجميل ، رئيس حزب الكتائب الماروني احتفالاً دينياً لتقديس كنيسة مارونية جديدة في عين الرمانة في بيروت الشرقية. وما أن غادر مبنى الكنيسة مع حارسه حتى بدت على الفور سيارة تحمل رجالاً فلسطينين وفتحت النار. وقتل ثلاثة أشخاص منهم مرافق الجميل الخاص. وفي نفس الوقت اطلق الكتائبيون النار على حافلة وصلت على الفور تحمل ثلاثين فلسطينياً مسلحاً ، وقتلوا سائر ركابها. وهكذا بدأت الحرب الأهلية . سعى كمال جنبلاط القائد الدرزي للحزب التقدمي الاشتراكي إلى معاقبة الكتائبيين بإقصائهم عن الحكومة كما أمر الجميل وزيريه في حكومة رشيد الصلح بالاستقالة ، إلا أن الوزراء الآخرين الموجودين في الوزارة ، وخاصة الوزير الدرزي مجيد أرسلان ، عارضوا جنبلاط بشدة

 

أعلن البطريرك خريش صراحة أن إقصاء الكتائبيين عن الحكومة كان أمراً لن تقبله الكنيسة . ومن ثم بقي الوزراء الكتائبيون في الوزارة. ولكن الجميل وجد نفسه يحارب نفس الأشخاص الذين كان قد دعمهم بالتصديق على اتفاقية القاهرة التي سمحت لهم بتسليح أنفسهم. ومع أن البطريرك أراد من الوزيرين الكتائبيين المارونيين البقاء في الحكومة ، إلا أنه لم يفعل ذلك من موقف متّسم بالقوة بل كان يعبر بالأحرى عن وجهة نظره الخاصة. لان السلطة الدينية كانت في أيدي سلك الرهبنة المارونية ورئيسها الآباتي شربل قسيس ، الذي أضحى بمثابة القلب والروح لحزب الكتائب

 

كان الاب شربل قسيس هو الرئيس غير الرسمي للكتائبيين والذي صاغ بعض بياناتهم الرسمية المتطرفة  لأجل وجود لبنان يتمتع بالسيادة. وبرهاناً على دعمهم للكتائبيين الموارنة ضد الجماعات غير المسيحية ، هرع هؤلاء الرهبان إلى اتخاذ مواقع حول أديرتهم رافعين أثوابهم الكهنوتية فوق ركبهم وحاملين بنادق الكلاشينكوف في أيديهم ( هذا ما يدل على أن البطريرك لم يعد قادراً على التكلم لصالح الطائفة المارونية حول المسائل السياسية

 

قام كتّاب آخرون بكتابة تاريخ لبنان منذ عام 1975 وحتى الوقت الحالي بحثه ولا حاجة الى اعادته هنا. بل يكفي إعطاء صورة سريعة عن الأحداث في لبنان المتعلقة بموقف الكنيسة المارونية والطائفة المارونية على ضوء هذه الأحداث

 

في عام 1976 داهم الكتائبيون تل الزعتر تساعدهم جماعات مسيحية أخرى. ومع أن الفلسطينيين فقدوا ترسانتهم وعدداً كبيراً من الضحايا إلا أن الحرب الأهلية لم تقصم ظهورهم. فقد أعادوا تكتيل أنفسهم ونقلوا قواهم الى الجنوب لقصف الأجزاء الشمالية من إسرائيل بالقنابل. وفي عام 1976 قررت جامعة الدول العربية إرسال قوة عربية رادعة إلى لبنان قامت الدول العربية المنتجة للنفط بتقديم العون المالي لها ، وخاصة المملكة العربية السعودية والكويت. وكانت سورية هي إحدى الدول العربية التي اشتركت في هذه القوة

 

كانت سورية ، من بين كل البلاد العربية ، قلقة جداً بخصوص الوضع في لبنان لأسباب سياسية واقتصادية. وبما أن سورية هي جارة لبنان فقد كان بمقدورها ان تلعب دور كبيراً في الشؤون الداخلية للبنان. وقد اتاح لها الكتائبيون الفرصة عندما طلبوا منها عام 1976 مساعدتهم ضد الفلسطينيين. وهكذا دخلت القوات السورية لبنان ولم تزل جاثمة على صدره حتى اليوم

 

وفي 15 آذار 1978 ، أغارت إسرائيل على حدود لبنان الشمالية لصد الفلسطينيين. وتكرر الاجتياح في حزيران 1982 عندما وصلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت واضطر القادة الفلسطينيون مغادرة لبنان واللجوء إلى تونس. وفي 6 آذار 1985 أبلغ رئيس الوزارة الإسرائيلي شمعون بيريز صحيفة لوموند بأن بيير الجميل وابنه بشير الجميل طلبا المساعدة من إسرائيل بهيئة أسلحة وتمويل ، فسارعت إسرائيل لمساعدة الكتائب. وكانت إحدى نتائج هذا الاجتياح مذبحة الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين. ولكن يجب الا ننسى بأن الفلسطينيين كانوا مسؤولين عن مذابح مماثلة لكهنة ومدنيين مسيحيين أبرياء في الدامور وفي قرى جنوبية أخرى من لبنان. وإذا كانت إسرائيل قد أنزلت الدمار بلبنان بسبب اجتياحه في عام 1978 وثانية في عام 1982 ، فإن سورية وبعض الدول العربية لم تكن أقل مسؤولية عن دمار لبنان بتزويدها الفلسطينيين ومجموعات لبنانية أخرى بالسلاح والمال

 

عندما اجتاح الإسرائيليون لبنان عام 1982 كانوا على ثـقة بأن بشير الجميل ، حليفهم ، سيكون راغباً جداً في توقيع اتفاقية تعترف بإسرائيل. بل كل ما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بيغين يتوقعه في صيف 1982 هو إما ان تكون هناك حكومة مركزية قوية في لبنان صديقة لإسرائيل أو على الاقل اتفاقية سلام يوقعها كلا البلدين. لكن بشير الجميل تردد في توقيع اتفاقية مع إسرائيل لأنها في نظره كانت جزءاً فقط من حل شامل في الشرق الأوسط. وفي 14 أيلول 1982 ، قُـتل بشير الجميل عندما ألقيت قنبلة داخل مركز القيادة الرئيسي لحزب الكتائب في الأشرفية وخلفه أخوه أمين كرئيس جديد للبنان

 

كان أمين الجميل هو اختيار إسرائيل فقد انتخب في ثكنة للجيش بدعم من وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون. ولهذا وقع أمين ، وهو الأكثر عزماً ولكن الاقل اندفاعاً من أخيه في معالجة الشؤون السياسية ، اتفاقية مع إسرائيل في 17 أيار 1983 وأعلن دون وجل من رد فعل سوري أو عربي على هذه الاتفاقية قائلاً بأنه سوف ” يرد القنابل السورية صوب دمشق ” (68). لكن موقفه تغير بعدئذ. وتحت ضغط أو إقناع الرئيس السوري حافظ الأسد ، نقض امين الجميل اتفاقية 17 أيار مع إسرائيل بعد ثلاثة أشهر وكاد أن يصبح ألعوبة بيد السوريين. واثار الغاء الاتفاقية مع إسرائيل استياء الولايات المتحدة التي تخلت على ما يبدو عن أمين الجميل

 

أصبح الموارنة اليوم في عهد آل الجميل أكثر ضعفاً مما كانوا عليه من قبل؛ لا بل نجدهم يسيطرون على جزء يحتلون من لبنان أصغر مما كانوا يشغلونه سابقاً. إن مركز أمين الجميل اليوم قلق جداً ، ولبنان اليوم هو دولة أقل قدرة على الحياة. وربما كانت أكثر الضربات الموجعة لأمين الجميل ، من وجهة النظر المارونية ، هي المصالحة القريبة العهد بين سليمان فرنجية رئيس جمهورية لبنان الماروني الأسبق وايلي حبيقة قائد القوى اللبنانية التي أسسها بشير الجميل في ربيع 1976 لتنظيم المجهود الحربي المسيحي في لبنان

 

وفي 13 حزيران 1978 هاجمت مجموعة من القوى اللبنانية قصر الرئيس فرنجية في أهدن وقتلت بهدوء أعصاب ابن الرئيس طوني الذي كان عضواً في البرلمان وزوجته فيرا وابنتيهما والخادمة وكلبهم. وبالرغم من أن بشير الجميّل أقسم بأن لا علم له بأن طوني وزوجته كانا داخل القصر إلا أن أعذاره لم تـقنع اللبنانيين . وفي يوم الخميس الواقع في 8 آب 1985 ، دفن سليمان فرنجية وايلي حبيقة أحقادهما بمعانقة أحدهما الآخر. وبعد أربع وعشرين ساعة فقط من هذه المصالحة ، والتي أعادت على ما يُزعم الوحدة بين الخصمين المسيحيين ، طالب الرئيس فرنجية بتنحية أمين الجميل ، دالاً بذلك على الصدع العريض بين صفوف الموارنة والقـادة المـوارنة في لبنـان . كما يـدل هذا على أن الجبهة المسـيحية والجبهة الإسـلامية أيضاً رفضتا الرئيس الحالي للبنان

 

مازال لبنان اليوم يعاني من الطائفية أكثر مما عاناه في الأجيال الماضية. إن التوزيع الحالي للطوائف الدينية الرئيسة ، أي المسيحيين ، والموارنة بشكل أساسي ، والمسلمين والدروز كل في منطقته ، يدل على وجود التقسيم الفعلي للبنان. فبيروت ، العاصمة ، يقسمها خط أخضر إلى بيروت غربية مسلمة وبيروت شرقية مسيحية. والاكثر من هذا ان الحكومة المركزية فقدت سلطتها على معظم البلاد بل هي موجودة بالاسم فقط. ومما زاد في ارتباك هذا الوضع المشوش وجود السوريين في شرق لبنان والإسرائيليين في جنوبه. وهكذا اصبح هذا البلد الذي كان يوماً بلداً جميلاً ، يُوصف بأنه “سويسرا الشرق” كومة من ركام

 

فأين تقف الكنيسة المارونية والطائفة المارونية حيال هذا الوضع الحالي الذي يرثى له ؟ لقد بيّنا سابقاً أن المنصب الزمني للبطريرك الماروني قد ضعف جداً بعد الحرب الأهلية في عام 1975. وان البطريرك خريش لاحظ هذا الضعف وأقر بأنه رئيس كنيسة فقط وليس رئيس طائفة. بعبارة أخرى ، لم يستطع البطريرك التحدث لصالح الطائفة المارونية ، ولا التأثير على الشؤون السياسية للبنان. وعندما سُئل فيما إذا كانت بكركي قد لعبت أي دور في تحقيق سلام بين الأحزاب المتناحرة ، أجاب البطريرك “ليس لدينا نحن في المقر البطريركي (بكركي) قوة عسكرية رادعة ، إن ما نملكه فقط هو القوة المعنوية التي وضعناها في خدمة لبنان”

 

نعلم ، من البيانات التي قدمها البطريرك خريش للصحافة في لقاءات مع كهنة من طوائف مسيحية أخرى ، أو لقاءات مع رجال دين ووجهاء من المسلمين والدروز بأنه يؤيد تعايشاً سلمياً بين المسيحيين وغير المسيحيين دون تعريض الموارنة للخطر كطائفة لها مكانتها واهميتها. إنه يرفض الاتهام الموجه اليه بأنه يفضل الابتعاد عن السياسة بل يؤمن أن لبنان هو للبنانيين. اذ يقول: “صحيح أن الموارنة جاءوا أولاً إلى هذا البلد ، ولكن من الصحيح أيضاً أن لبنان هو لكل أولئك الذين يعيشون فيه”

 

يدرك البطريرك أن لبنان بمذهبيته هو بلد فريد من نوعه ولذلك يتطلب نمطاً فريداً من الحكم. كما يكشف حقيقةً كبرى عندما يُعلن بأن مسيحيي لبنان يعانون عقدة الخوف من المسلمين. فهم يخشون أن تبتلعهم الأغلبية المسلمة أو تجعلهم يفقدون تراثهم المسيحي. يتابع البطريرك قائلاً ان هذا الخوف كان عقدة مصطنعة قبل عام 1943. ولكن بعد هذا التاريخ وخاصة بعد أحداث 1975 اصبح عقدة حقيقية. ويستمر البطريرك قائلاً بأن الميثاق الوطني لعام 1943 أعلن بأن رئيس لبنان يجب أن يكون مارونياً. ولكن ما الفائدة من أن يكون الرئيس  مارونياً؟ هل باستطاعة رئيس ماروني أن يحول دون حرب أهلية في لبنان ؟

 

أخيراً اقترح البطريرك خريش العلمنة كحل وحيد لمذهبية لبنان. إن ما يعنيه البطريرك بالعلمنة هو ألا يكون للدولة اللبنانية دين رسمي وأن عليها ان تحترم حرية كل فرد وأن تتم الاحتفالات الدينية بطريقة تلاءم النظام العام. بعبارة أخرى يؤكد البطريرك بشدة على مفهوم فصل الكنيسة عن الدولة. ولكن إذا كان من غير الممكن تطبيق هذه المبادئ فإن الحل الأخير هو اعتماد صيغة الميثاق الوطني لعام 1943 مع بعض التعديل. إلا أن البطـريرك يصر على أن العلمنة هي الحل الجذري  الوحيد . يبدو أن الفاتيكان يشارك البطريرك رأيه في تعايش سلمي للطوائف الدينية في لبنان

 

يقول الكاردينال ايجيكاراي ، الموفد البابوي الذي زار لبنان في 4ـ11 تموز 1985 ، بأن سياسة الفاتيكان منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 وحتى الوقت الحالي كان لها هدف واحد وهو التعايش الأخوي بين المسلمين والمسيحيين. ولكنه رفض بإصرار فكرة تقسيم لبنان أو احالته كانتونات. كما أوضح الكاردينال أن الفاتيكان يساند لبناناً مستقلاً واحداً تعيش فيه سائر الطوائف الدينية جنباً إلى جنب. إن جوهر ما يقوله الكاردينال هو أن الفاتيكان يعارض مبدأ تقسيم لبنان الذي اقترحته الكتائب أو احالته الى كانتونات (على غرار الكانتونات السويسرية) وهو المبدأ الذي اقترحه كميل شمعون. وفي الوقت نفسه أعلن الكاردينال بأن البابا يوحنا بولس الثاني يؤمن بأن لبنان لن يستطيع ان يكون دولة حيّة دون سلام وانسجام بين الطوائف الدينية المختلفة

 

لكن الرهبانيات المارونية كان لها رأي يختلف عن رأي رئيسهم الروحي ، البطريرك خريش. ويقول عضو البرلمان اللبناني ريمون أده في هذا الصدد بأن الرهبان الموارنة يتحدثون عن تقسيم لبنان ولكنهم في الوقت نفسه يرتأوون بأن مسيحيي لبنان لن تكون لهم حياة هادئة دون كيان سياسي منفصل عن الشيعة والسنة والدروز ( إن ما يعنيه أده بالطبع بعبارة الكيان السياسي هو وجود دولة مسيحية منفصلة أو بمعنى أكثر تحديداً دولة مارونية. وهنا يبدو ان رأي الرهبان الموارنة هذا يعارض رأي البطريرك خريش الذي يؤيد علمنة الدولة اللبنانية

 

ولكن لماذا يعارض هؤلاء الرهبان بطريركهم ويلقون أنفسهم في خضم السياسة ؟ قد يكون سبب ذلك اعتقادهم إلى حد ما بأن البطريرك قد هجر دوره التاريخي لا كرئيس ديني للموارنة وحسب بل ايضاً كقائد زمني لهم. بعبارة اخرى لم يعد البطريرك قادراً على التصرف في محور سياسي. فضلاً عن ذلك ، كان القادة العلمانيون الموارنة كبيير الجميل (ت 1983) وكميل شمعون قد استنفذوا طاقتهم السياسية ولم يعودوا قادرين على مواجهة التحدي السياسي الحالي في لبنان. لذا ، فإن الرهبانيات هي المؤسسات المارونية الوحيدة التي تستطيع مجابهة التحدي وتأمين قيادة قوية فعّالة للطائفة المارونية سيما وان الرهبان الموارنة يعتبرون أكثر تماسكاً وأقل عرضة للخطر من القادة العلمانيين فهم يديرون العديد من المدارس كما أنهم على اتصال شديد بالرعايا الموارنة. لذلك فهم ينالون احتراماً وثـقة الجمهور أكثر مما يناله السياسيون

 

يؤمن الرهبان الموارنة أن لبنان هو مجتمع مذهبي ذو صفة مسيحية بشكل أساسي أي ان صبغته مسيحية مارونية. فهو مزيج من ثـقافات متعددة أبرزها المارونية. لهذا السبب نرى الرهبان يوافقون على الميثاق الوطني لعام 1943 بكونه الوثيقة التي تعكس الهيكلية البانورامية للمجتمع اللبناني. ولهذا أصروا على أن تكون لرئيس لبنان الماروني سلطة واسعة لحماية الطائفة المارونية. وإلا فإن مارونية الرئيس دون سلطة واسعة لا معنى لها كما يعتقدون

 

يؤمن الرهبان الموارنة في مجمل القول أن لبنان مرادف للتاريخ الماروني وعبقرية الشعب الماروني وأن مارونية لبنان تسبق زمنياً الفتح العربي لسورية ولبنان وأن العروبة هي مجرد صدفة تاريخية . وفي هذا الصدد تُـعتبر آراء الآباتي بولس نعمان وهو الرئيس الحالي للرهبانيات المارونية ، ذات أهمية قصوى. ففي حديثه عن التراث الروحي الماروني لا كتجسيد للطائفة المارونية فقط بل كتجسيد لشخصية لبنان الثـقافية ، اعلن الاباتي نعمان بالبيان الجوهري التالي قائلاً: ” المارونية هي عقيدة دينية-مدنية أنطاكيةٍ لها صفاتها الاستثنائية المرتبطة مباشرة بحضارة قديمة وهي “الحضارة الآرامية السريانية” (79). إن جوهر ما يقوله الآباتي نعمان هو أن الموارنة هم من أصل آرامي سرياني وينتمون الى الكنيسة الانطانية العريقة. وبعبارة أخرى ان الموارنة ليسوا عرباً. إن هذا المفهوم للمارونية والذي يعني في الحقيقة “القومية المارونية ” قد بحثه بالتـفصيل الأب بطرس ضو. وتمَّ شرحه بشكل وافٍ في الفصول السابقة. إن بيان الآباتي نعمان هو المفتاح لمعضلة الموارنة الحالية في لبنان. فهو الحل الوحيد لأزمة الهوية لديهم. إن على الموارنة أن يقرروا فيما إذا كانوا شعباً آرامياً سريانياً ذا لغة وثـقافة متميزتين أم أنهم عربٌ. ان الاتجاه العارم في هذا الكتاب هو البيان بأن الموارنة آراميون ـ سريان ثـقافةً وأن كنيستهم هي فرع من كنيسة أنطاكية السريانية. اي إن كنيستهم سريانية لغةً وطقوساً. كما أن تراثهم برمته ولغتهم وكتب صلواتهم وقديسيهم هو تراث ولغة وكتب صلوات وقديسوا الكنيسة السريانية الأرثوذكسية (اليعقوبية). ليس الموارنة مردة أو جراجمة كما يدّعي بعض كتّابهم. بل هم سريان آراميون أصلاً وتراثاً ، وهو ما يؤمن المؤلف به ، واذا كان الموارنة سرياناً آراميين فعليهم يقع العبء في إحياء هذا التراث كحلٍّ لأزمة الهوية التي يقاسونها. وإلا كان عليهم أن يقبلوا الواقع وهو أن وجودهم مرتبط بالأمة العربية وأن عليهم أن يتقاسموا العيش في لبنان مع الجماعات الدينية الأخرى

 

يؤمن موارنة لبنان اليوم بأن لبنان هو بلد مسيحي للمسيحيين. إنه وطنهم وهم يرفضون كمسيحيين العيش في أي مفهوم ” للذمة ” ، أي مسيحيين تحت حماية الإسلام. لقد استمروا وسيستمرون في الشهادة لمسيحيتهم في الشرق الأوسط. وهم يرغبون في الاحتفال بطقوسهم وتقاليدهم متى شاءوا. وعلى حد تعبير رئيس لبنان الراحل ، بشير الجميل     ” لبنان هو وطننا وسيبقى وطناً للمسيحيين… نريد الاستمرار في التعميد وفي الاحتفال بطقوسنا وتقاليدنا ، بإيماننا وعقيدتنا متى شئنا… نحن نرفض العيش تحت أي مفهوم ” للذمة “