رسالة إلى الوثنيين

رسالة إلى الوثنيين

للقديس أثناسيوس الرسولي

تعريب القمص مرقس داود


مقدمة الرسالة

هذه الرسالة والتي تليها (تجسد الكلمة) تكوِّنان في الواقع فصلين من سفر واحد. فإن جيروم Jerome يُشير إليهما “كسفرين ضد الوثنيين”.

وكلتاهما موجهتان إلى الوثنيين. على أنه يُلاحظ في الرسالة التي نحن بصددها أن النقد موجه بصفة أخص وبدرجة أقوى إلى معتقدات الوثنيين وعبادتهم. وكلتاهما ترجعان إلى أوائل أيام أثناسيوس. ولذا فإننا لا نجد فيهما أثراً للثورة الأريوسية (حتى في فصل 46 : 8 من هذه الرسالة. أنظر أيضاً الحاشية) التي قامت سنة 319 قبل أن يبلغ الثانية والعشرين من عمره. ولا يعرف بالتحقيق وقت كتابتهما.

أما الإشارة الواردة في فصل 9 : 5 بأن عصر تأليه الأباطرة بقرار من مجلس الشيوخ قد زال وانتهى فإنها تُشير إلى تجديد قسطنطين كنهاية للمرحلة. وأما وصول رسالة “تجسد الكلمة” إلى أقصى درجات البلاغة لدرجة اعتبارها كقطعة نموذجية في علم اللاهوت المسيحي فإنه يدفعنا إلى الاعتقاد بأنها وزميلتها قد كُتبتا في وقت متأخر جداً.

لأجل كل هذه الأسباب فالمرجح انهما كتبتا في سنة 318 أو قبيلها بقليل، أي حينما كان عمر أثناسيوس 21 سنة.

والغرض من كتابة هذه الرسالة هو (فصل 1) لتوضيح وسمو الإيمان المسيحي ومعقوليته. وأعظم ما يوضح الإيمان نتائجه العملية. الأمر الذي يستنتج تأثيرها مهاجمة العبادة الوثنية، الأمر الذي يستنتج من نفس سبب الشر بوجه عام. أي من ابتعاد الإنسان عن مثله الأعلى – “الكلمة” (ف 2-5)، وبإساءة استعمال الإنسان لقوة الاختيار السليم التي وهبت له سقط (ف 6-8) في وهذه العبادة الوثنية وضلالاتها وأنحط من درجته (ف 9-15).

بعد ذلك يُناقش الحجج الشائعة للعبادة الوثنية وبراهينها العلمية (ف 16-26) وبذلك يصل إلى النقطة الرئيسية عن إدراك الله. فيبرهن في (ف 27-29) أن الله ليس هو الطبيعة، وذلك من اعتماد أجزاء الكون المختلفة بعضها على بعض، أذن فلا يمكن أن يكون أحدها هو الله، أو كلها مجتمعة، لأن الله لا يمكن أن يكون مكوناً من أجزاء يعتمد عليها، بل هو نفسه مصدر وجود الكل. اله كهذا تستطيع روح الإنسان أن تدركه (ف 30-33) بل لابد أن تدركه إذا تطهرت من الخطية (ف 34).

وإذا أعاقتها نقائصها عن هذا فإن مظاهر العقل والنظام في الكون (ف 35-46) تعينها على إدراك صنعة الله، ووجود “الكلمة” والله الآب عن طريق “الكلمة”. أن رجوع الإنسان الخاطئ وانتشاله من وهدة السقوط لا يمكن أن يتم إلا برجوعه إلى الكلمة (ف 47). وهذا يمهد الطريق للبحث الذي يعالجه القديس أثناسيوس في كتابه التالي “تجسد الكلمة”.

هذا هو الاتجاه العام للرسالة إلى الوثنيين. وان أهميتها العظمى أمر لا شك فيه قط. ونحن نعترف في نفس الوقت أن بعض تفاصيلها قد لا تلذ للقارئ في العصر الحالي.

في هذه الرسالة والتي تليها يتطلع أثناسيوس إلى الأمام والى الخلف. فالرسالة الثانية – عن التجسد – يراها علماء اللاهوت في الوقت الحاضر جوهرية جداً. ويرون فيها آراء أكثر حداثة من أي بحث لاهوتي في جميع الأجيال السابقة إلى الآن.

أما الرسالة إلى الوثنيين فإن أبحاثها عن الأمور السحيقة التي تلاشت كلية ([1])، وحججها الموجهة إلى الكثير من الآراء التي تبدو غريبة عنا كل الغرابة، ونظرتها إلى بداية وتاريخ العبادة الوثنية، ونظرياتها العلمية العتيقة (ف 36، 44، 39)، وحججها التي قد تبدو ضعيفة (ف 16، 33 : 1) – كل هذه قد تنفر قراء العصر الحاضر لدى قراءتها لأول مرة. ولعل هذا يُفسر السبب في عدم ترجمتها قبل الآن. ولكن رغم كل هذا فان تكرار درس هذه الرسالة يزيدها قيمة في نظر القراء. فإن سموها من الناحية الأدبية، وتركيز البحث في الحقائق المسيحية الرئيسية، ودقة التحري في معالجة بعض المشاكل كالشر والخطية، وعلاقة الله بالطبيعة، والمقارنة الأدبية بين عقيدة المسيحية في الإله الواحد والعقيدة الوثنية في تعدد الآلهة، وفوق كل هذا أن العقلية المتسعة، وحجة المنطق – هذه تبرز الكتاب كسفر نفيس، وكسفر جدير بأن يكون متمماً لقرينه الذائع الصيت.

وهذان السفران كما قال شاف Schaff في كتابه Nicene Christianity صفحة 82 هما أول مجهود علمي في المسيحية عن بعض العقائد الأساسية المتعلقة بالله والعالم، الخطية والفداء. ويمكن اعتبارهما الفاكهة الناضجة للبراهين الايجابية في الكنيسة الارثوذكسية، وذلك بعد كتاب “المبادئ” لأوريجانوس. لقد أكثر كتاب المسيحية الأولون من مهاجمة العبادة الوثنية وكتاباتها. ولكن ما يميز اثناسيوس عمن سبقوه – عدا اوريجانوس – هو طريقة كتابته المبتكرة. وان تضامن الفلسفة مع العبادات الوثنية الشائعة وقتئذ جعل أمام المسيحية مهمة جديدة شاقة نحو قوة التدليل. فإن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، اذ انزعجت بسبب تقدم المسيحية، تضاعف مجهودها نحو تدعيم نظرياتها بالحجج الفلسفية.

ومما يُلاحظ أخيراً أن آثار نظريات اوريجانوس واتباعه ظاهرة في هاتين الرسالتين اللتين كتبهما في أوائل حياته أكثر من ظهورها في كتاباته التالية. وفي رسالة “تجسد الكلمة” (ف 41) نراه ينتفع بالنظرية الأفلاطونية عن “الكلمة” (Logos) دون الاسهاب في شرح الاختلاف الجوهري بينهما وبين العقيدة المسيحية. كذلك نرى آثار تعاليم اوريجانوس في نظريته عن طبيعة الشر باعتبار أنه سلبي محض (أنظر ف 5 بالمقارنة مع ما ورد في تعاليم اوريجانوس Orig. C. Cels. Lv 66 في تفسيره لجنة عدن بأنها رمزية (أنظر ف 2 : 4، 3 : 3).

وعلى العموم أن تفكير أثناسيوس أثناء المنازعات الأريوسية كان أبعد ما يكون عن عقلية اوريجانوس وأقرب ما يكون إلى عقلية الغربيين في طريقة البحث.

الفصل الأول

مقدمة. غرض الكتاب توضيح العقيدة المسيحية سيما عقيدة الصليب، وذلك تبرئة لها من هجمات الوثنيين. نتائج هذه العقيدة:

1- أن معرفة ديانتنا وحقيقة الأمور لا تحتاج إلى معلمين من البشر بقدر ما هي واضحة من تلقاء ذاتها، لأنها في كل يوم تؤكد نفسها بالوقائع الملموسة، وتظهر نفسها أسطع من الشمس، وذلك بتعاليم المسيح.

2- ومع ذلك فطالما كنت تتوق أن تسمع عنها أيها العزيز مكاريوس ([2]). تعال لنبسط بعض نقط قليلة عن إيمان المسيح على قدر الاستطاعة. ورغم انك تستطيع أن تلبينها من الأقوال الإلهية إلا أنك بكرمك تريد الاستماع من غيرك أيضاً.

3- لأنه رغماً عن أن الكتب المقدسة الموحى بها كافية لتوضيح الحق ([3])، ومع أنه توجد مؤلفات أخرى لمعلمينا المغبوطين ([4]) وضعت لهذه الغاية، إذا ما عثر عليها المرء حصل على بعض المعلومات عن تفسير الأسفار المقدسة، واستطاع أن يتعلم ما يريد معرفته. رغم ذلك فطالما لا توجد بين ايدينا في الوقت الحاضر مؤلفات معلمينا لنبعث اليك – كتابة – ما تعلمناه منهم عن الإيمان، أعني ايمان المسيح المخلص، لئلا يظن أحد أن التعاليم التي نودي بها بيننا رخيصة، أو يتوهم أن الإيمان بالمسيح غير معقول. لأن هذا ما يتهمنا به الأمم ويهزأون بنا، ويضحكون علينا جداً من أجله، مصرين على التحدث عن هذه الحقيقة الواحدة عن صليب المسيح. وهنا لا يسع المرء إلا الإشفاق عليهم لإنعدام عقليتهم. لأنهم اذ يهزأون بصليب المسيح فإنهم لا يرون أن قوته ملأت كل العالم، وان به أصبحت نتائج معرفة الله ظاهرة للجميع.

4- لأنهم لو كانوا قد التفتوا بإخلاص إلى طبيعته الإلهية لما كانوا قد هزأوا بحقيقة كهذه، بل لكانوا بالعكس قد أدركوا بدورهم أن هذا الإنسان هو مخلص العالم، وان الصليب لم يكن كارثة، بل كان شفاء للخليقة.

5- لأنه أن كان بعد الصليب قد اندثرت كل العبادة الوثنية بينما تتبدد كل مظاهر الشياطين بهذه العلامة ([5])، وأصبح المسيح وحده هو الذي يعبد، وبه يعرف الآب، وأن كان المخالفون قد خزوا، لأنه كل يوم يربح نفوس هؤلاء المخالفين ([6]) بطريقة غير منظورة – ألا يحق للمرء أن يسألهم: ألا زلتم ترون أن هذا الأمر بشرى عوضاً عن الاعتراف بأن ذاك الذي صعد على الصليب هو كلمة الله ومخلص العالم؟ على أنه يبدو لي أن هؤلاء الأشخاص الأشرار جداً كمن يعير الشمس إذا غطتها السحب، مع أنه لا يزال يعجب بنورها اذ يرى أن كل الخليقة تستضيء بها.

6- لأنه إن كان النور شريفاً، والشمس – باعثة النور – أشرف، على هذا القياس نقول أن كان امتلاء العالم كله بمعرفة الله أمراً إلهياً، فبالتالي يكون باعث هذا الإجراء هو الله “وكلمة” الله.

7- إذاً فنحن نتحدث حسب طاقتنا مفندين أولاً جهل غير المؤمنين، حتى إذا ما زهق الباطل ظهر الحق من تلقاء ذاته، وزدت أنت أيها الصديق تأكيداً أن ما آمنت به حق، وانك إذ عرفت المسيح لم تخدع.

وفضلاً عن هذا فأعتقد انه من اللائق أن أوجه الحديث إليك – كمحب للمسيح – عن المسيح، طالما كنت واثقاً انك تحسب الإيمان به ومعرفته أسمى من أي شيء آخر على الإطلاق.


الباب الأول

الفصل الثاني

ليس الشر عنصراً أساسياً في طبيعة الأشياء. خلقه الإنسان الأصلية، وتكوينه في النعمة، وفي معرفة الله.

1- في البدء لم يكن الشر موجوداً. بل أنه ليس له وجود الآن في الذين قد تقدسوا، كما أنه ليست له علاقة بطبيعتهم بأي حال من الأحوال. على أن الناس فيما بعد بدأوا يخترعونه، ويحكمون صنعه لضررهم. ومن ثم اخترعوا الأصنام أيضاً حاسبين غير الموجود كأن له وجود.

2- لأن الله جابل الكل، وملك الكل، الذي يعلو على كل جوهر، ويعجز البشر عن اكتشافه، نظراً لعظم صلاحه، وسموه كل السمو، خلق – مخلصنا يسوع المسيح بكلمته – الجنس البشري على صورته، وكوَّن الإنسان قادراً على رؤية وادراك الحقائق بواسطة هذه المشابهة لشخصه، مانحاً اياه أيضاً أن يدرك ويعرف حتى أزليته، حتى إذا ما احتفظ بطبيعته كاملة لا ينحرف عن فكرته عن الله قط، ولا يرتد عن شركة القديسين. بل إذ نال نعمته التي وهبها اياه، ونال أيضاً قوة الله من كلمة الآب، استطاع أن يغتبط وتكون له شركة مع اللاهوت، عائشاً حياة الخلود كاملة ومباركة يقيناً. لأنه إذا لا يعوق معرفته للاهوت شيء فانه يحتفظ أبداً – بطهارته – بصورة الآب، الله الكلمة، الذي خلق هو نفسه على صورته. وانه ليدهش إذ يتأمل في العناية الإلهية التي تمتد إلى الكون عن طريق “الكلمة” مرتفعاً عن الأشياء الحسية والمظاهر الجسمية ومتصلاً بقوة عقله بالإلهيات والأشياء التي تُدرك بالعقل في السماوات.

3- لأنه حينما لا يتصل العقل البشري بالأجساد، ولا يختلط به من الخارج أي شيء من شهواتها، بل يبقى سامياً فوقها تماماً، ويظل مستقلاً بنفسه كما قصد به من البدء، فإنه يتعالى إلى فوق متسامياً عن الحسيات وكل الأمور البشرية، وإذ يرى “الكلمة” فإنه يرى فيه أيضاً أبا “الكلمة”، متلذذاً بالتأمل فيه، ومكتسباً التجديد من الانعطاف نحوه.

4- وذلك تماماً كأول إنسان خلق – الذي سُمي بالعبرانية آدم – إذ وُصِفَ في الكتب المقدسة بأن عقله كان متجهاً نحو الله بحرية لا يعيقها الخجل، وبأنه كان يشارك القديسين في التأمل في الأمور التي يدركها العقل، والتي كان يتمتع بها في المكان الذي كان فيه – الذي دعاه القديس موسى رمزياً بالجنة. لذلك فإن طهارة النفس كافية في حد ذاتها للتأمل في الله، كما يقول الرب أيضاً “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”.

الفصل الثالث

إنحطاط الإنسان من الحالة السالف شرحها، بسبب انهماكه في الماديات.

1- إذاً فهكذا صور الخالق جنس البشر كما قلنا، وهكذا قصد به أن يستمر. ولكن الناس إذ استخفوا بالأمور الأفضل، ورفضوا ادراكها، بدأوا يبحثون عن الأمور الأقرب اليهم التي فضلوها على تلك.

2- على أن الأمور الأقرب اليهم هي الجسد وحواسه. وهكذا إذ أبعدوا عقلهم عن الأشياء المدركة بالتفكير بدأوا يفكرون في أنفسهم، وبهذا، وبحصر الفكر في الجسد وسائر الأمور الأخرى الحسية، واذ أنخدعوا بما حولهم، سقطوا في شهوات أنفسهم، منفضلين ما هو لذواتهم عن التأمل فيها هو لله. واذ انغمسوا في هذه رافضين ترك الأمور القريبة اليهم، أوقعوا نفوسهم في حبائل الملذات الجسدية فاضطربت (نفوسهم) وارتبكت بكل أنواع الشهوات، بينما نسوا كلية القوة التي نالوها أصلاً من الله.

3- على أن صحة هذا تتبين في الإنسان الذي خُلق أولاً كما تخبرنا الكتب المقدسة عنه. لأنه هو ايضاً طالما كان عقله مركزاً في الله ومداوماً على التأمل في الله كان متحولاً عن التأمل في الجسد. ولكنه عندما ابتعد عن التفكير في الله بمشورة الحية، وبدأ يتأمل في نفسه، فانهما لم يترديا إلى شهوات الجسد فحسب، بل عرفا أنهما عريانان، واذ عرفا هذا خجلا. على انهما لم يعرفا انهما عريانان من اللباس بقدر ما عرفا انهما تجردا من التأمل في الأمور الالهية، وحولا ذهنهما إلى الضد. لأنهما إذ ابتعدا عن التأمل في الواحد الحق أي الله، وعن الرغبة فيه، فانهما منذ تلك اللحظة انشغلا بشهوات مختلفة، وشهوات الحواس الجسدانية المتعددة.

4- ونتج من هذا بطبيعة الحال أنهما إذ تولدت فيهما الرغبة لكل شيء بلا استثناء بدأا يألفان هذه الرغبات لدرجة أنهما كانا يخشيان أن يتركاها. لهذا بدأت النفس تخضع للجُبن والخوف والملذات والتفكير في الفناء. لأنها إذ لم تشأ أن تترك شهواتها صارت تخشى الموت وانفصالها عن الجسد. وايضاً إذ بدأت تشتهي، ووجدت انها عاجزة عن اتمام شهواتها تعلمت ارتكاب القتل والمظالم. وهذا يدفعنا بطبيعة الحال لكي نوضح على قدر الاستطاعة كيف تفعل هذا.

الفصل الرابع

انحدار النفس تدريجياً من الحق إلى الباطل بسبب إساءة استعمالها حقها نحو حرية الاختيار.

1- وإذ ابتعدت عن التأمل في الأمور العقلية، واستخدمت لأقصى حد كل نواحي نشاط الجسد، وتلذذت بالتأمل في الجسد، ورأت أن الملذات جيدة لها، فإنها ضلت وأساءت استعمال اسم الخير، وظنت أن الملذات هي خلاصة الخير، كما لو أصيب إنسان بآفة في عقله وطلب سيفاً ليشهره ضد كل من لقيه، وظن أن هذا هو العقل السليم.

2- ولكنها إذ تردت في محبة الملذات بدأت تخرجها في أشكال مختلفة. لأنها إذ هي بالطبيعة متحركة فإنها لا تفقد حركتها حتى ولو ابتعدت عن الخير. اذن فهي تتحرك لا نحو الفضيلة فيما بعد، ولا لكي ترى الله، بل تستخدم قواها استخداماً غريباً، مفكرة فيما لا وجود له، ومسيئة استخدام تلك القوى كوسيلة للملذات التي اخترعتها، طالما كان لها السلطان على ذاتها.

3- لأنه كما كان في استطاعتها من الناحية الواحدة أن تنعطف نحو الخير، كذلك كان في استطاعتها من الناحية الأخرى أن ترفضه. ولكنها برفضها الخير انشغل تفكيرها بطبيعة الحال فيما هو ضده، لأنها لم تستطع مطلقاً أن تمتنع عن الحركة، فهي كما قلت متحركة بالطبيعة. وإذ كانت تعرف سلطانها على ذاتها فإنها كانت ترى بأنها تستطيع استخدام أعضاء جسدها في أحد الاتجاهين، إما إلى ناحية الموجود، أو إلى ناحية العدم.

4- على أن الخير هو الموجود، والشر هو العدم. إذاً فإنني أقصد بالموجود ما هو خير، لأن له مماثلة في الله الموجود. وأقصد بالعدم ما هو شر لأنه ينحصر في الأوهام الباطلة في أفكار البشر. لأنه مع أن للجسد عينين لرؤية الخليقة، ولأدراك الخالق بتركيبها المتوافق كل الموافقة، وأذنين للاصغاء إلى الأقوال الالهية ونواميس الله، ويدين لإتمام الأعمال الضرورية، ولرفعها إلى الله في الصلاة، الا أن النفس وقد ابتعدت عن التأمل في الخير، والتحرك في دائرته، صارت تهيم شاردة وتتحرك نحو ما هو ضده.

5- وهي – كما قدمت – إذ ارتضت، أو أساءت استعمال قواها، أدركت أن في استطاعتها تحريك أعضاء الجسد ايضاً في اتجاه مضاد. ولذلك فعوضاً عن النظر إلى الخليقة صارت تحول العين إلى الشهوات، مظهرة أن لها هذا السلطان ايضاً، ومتوهمة انها بمجرد التحرك تحتفظ بكرامتها ولا ترتكب اية خطية إذا تصرفت كما تريد وتشتهي، غير عالمة أنها لم تُخلق لمجرد التحرك بل للتحرك في الاتجاه المستقيم. وهذا هو الذي من أجله يؤكد لنا أحد الأقوال الرسولية أن “كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق” ([7]).

الفصل الخامس

إذاً فالشر يتضمن جوهرياً في اختيار الأمور السفلى وتفضيلها على الأمور السامية.

1- على أن وقاحة البشر إذ لم تبال بما هو لائق ومناسب، بل بما هو في إمكانها، بدأت تدفعهم إلى العكس، وبالتالي إذ حركت أيديهم إلى العكس جعلتها ترتكب القتل، وقادت أسماعهم إلى العصيان، وعدم الطاعة، وأعضاءهم الأخرى إلى الزنى، بدلاً من انتاج النسل الطبيعي، واللسان إلى النميمة والشتيمة والحلف كذباً بدلاً من الكلام اللائق، والأيدي أيضاً إلى السرقة وضرب الأخوة، وحاسة الشم إلى الروائح الشهوانية المتنوعة، والإقدام للإسراع في سفك الدم، والبطن إلى السكر والنهم ([8]).

2- وكل هذه رذائل وخطية للنفس. كما انه لا مبرر لها على الإطلاق، سوى رفض ما هو أفضل. لأنه كما أن قائد العربة إذا ما ركب عربته في ساحة السباق لا يُبالي بالهدف الذي أمامه الذي يجب أن يقود العربة نحوه، بل يتجاهله ويقود الحصان حسبما يستطيع، أو بتعبير آخر حسبما يريد، وكثيراً ما يدوس بعربته من يلتقي بهم، وكثيراً ما يسقط في حفر شديدة الانحدار، ويندفع بسرعة السباق التي آل على نفسه السير بها، متوهماً أنه بهذا لم يخطئ الهدف، لأنه لا يراعي إلا الركض، ولا يرى أنه قد تجاوز الهدف جداً. هكذا النفس أيضاً، فإنها إذ تحولت عن الاتجاه نحو الله، ودفعت أعضاء الجسد وأبعدتها عما هو لائق، أو بالحري طوحت بنفسها معها بأعمالها، فإنها تخطئ وتؤذي نفسها، دون أن ترى انها ضلت الطريق، وانحرفت عن هدف الحق، الذي كان يتطلع اليه المغبوط بولس لابس المسيح عندما قال “أسعى نحو الغرض، لأجل جعالة دعوة المسيح يسوع العليا” ([9]). وهكذا إذ جعل هذا القديس الخير هدفه لم يرتكب الشر قط.

الفصل السادس

آراء باطلة عن طبيعة الشر، أي أن الشر متغلغل في طبيعة الأشياء، وله وجود جوهري. (1) فالوثنيون يقولون أن الشر مستقر في المادة. دحض هذه الإفتراءات (2) والمعلمون المهرطقون يعلمون بعبود الهين. دحض هذا من الكتاب المقدس.

1- واذ انحرف بعض اليونانيين عن الطريق المستقيم، ولم يعرفوا المسيح، نسبوا للشر وجوداً جوهرياً مستقلاً. وبهذا ارتكبوا خطأ مزدوجاً. بإنكارهم أن الخالق خلق كل الأشياء، وذلك أن كان للشر كيان مستقل من تلقاء ذاته. أو انهم أن كانوا يقصدون انه خالق كل الأشياء فانهم بالطبيعة يعترفون انه خالق للشر ايضاً. لأن الشر – حسب ادعائهم – كائن ضمن الأشياء الموجودة.

2- على أن الأمر واضح كل الوضوح أن هذا مليء بالمتناقضات، علاوة على استحالته. لأن الشر لا يخرج من الخير، كما أنه غير موجود في الخير، ولا هو نتيجة له. وإلا ففي هذه الحالة لا يمكن أن يكون الخير خيراً طالما كان مختلطاً بطبيعة الشر، أو نتيجة له.

3- ولكن المتحزبين الذين انحرفوا عن تعاليم الكنيسة، “وانكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان” ([10]) يتوهمون خطأهم أيضاً أن للشر كياناً جوهرياً. على انهم يتوهمون استبدادياً وجود اله آخر سوى الإله الحقيقي أبا ربنا يسوع المسيح. وأنه هو الباعث – غير المخلوق – للشر، ورأس كل الشرور، وهو أيضاً بارئ الخليقة. ولكن هؤلاء الأشخاص يمكن دحضهم بسهولة، لا من الأسفار الالهية فحسب، بل من الذهن البشري نفسه، الذي هو مصدر هذه الأوهام الجنونية.

4- ولنبدأ الآن بالقول أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح يقول في اناجيله مؤيداً كلمات موسى “الرب الإله واحد”، “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض” ([11]) فان كان الله واحداً، وفي نفس الوقت هو رب السماء والأرض، فكيف يمكن أن يكون هنالك اله آخر سواه؟ أو أي مجال يبقى للإله الذي يتوهمونه أن كان الإله الحقيقي الواحد يملأ كل الأشياء في دائرة السماء والأرض؟ أو كيف يمكن أن يكون هنالك خالق آخر أن كان اله وأب المسيح هو نفسه رب كتصريح المخلص؟

5- إلا إذا نادوا بالمساواة وقالوا أن للإله الشرير مقدرة على إخراج الخير من اله الخير. ولكن أن قالوا هذا فانظر إلى أية هاوية من الإلحاد يتردون. لأنه إذا تساوت القوى فإن الأسمى والأفضل لا يمكن إدراكه. ولأنه إذا وجد الواحد رغم إرادة الآخر، فكلاهما متساويان في القوة، وكلاهما متساويان في الضعف. متساويان لأن نفس وجود الواحد انهزام لإرادة الآخر. وضعيفان لأن ما يحدث هو ضد إرادتهما. ولأنه أن كان اله الخير موجوداً رغم إرادة اله الشر، فان اله الشر موجود بالتساوي رغم إرادة اله الخير.

الفصل السابع

دحض التعليم بوجود الهين من المنطق. استحالة وجود الهين. حقيقة الشر هي ما تعلمه الكنيسة: انه ينشأ ويستقر في الاختيار المعكوس للنفس المظلمة.

1- وهم بنوع أخص يعرضون أنفسهم للإجابة التالية. أن كانت الأشياء المنظورة هي من نصع اله الشر فما هو عمل اله الخير؟ لأنه لا شيء ينظر سوى عمل الصانع. أو أي دليل لوجود اله الخير على الإطلاق لو لم تكن هنالك أعمال من أعماله حتى يمكن إدراكه بها؟ لأن الصانع يُعرف بأعماله.

2- أو كيف يتسنى وجود مبدأين متناقضين؟ أو ما الذي يفصل بينهما فيكون الواحد بعيداً عن الآخر؟ لأنه يستحيل وجودهما معاً إذ أن كلاً منهما يحاول إبادة الآخر. كذلك لا يمكن للواحد أن يوجد في الآخر لأن طبيعتيهما غير قابلتين للإندماج، وغير متماثلتين. بناء على هذا فإن الذي يفصلهما لابد أن يكون من طبيعة ثالثة، أي اله. ولكن من أي طبيعة يمكن أن يكون هذا الثالث؟ من طبيعة الخير أو الشر؟ من المستحيل أن نقرر رأياً، لأنه لا يمكن أن يكون من طبيعة الاثنين؟

3- اذاً وقد إتضح أن غرورهم هذا فاسد وجب أن تسطع لامعة حقيقة تعاليم الكنيسة التي تلخص في أن الشر لم يكن من البدء مع الله أو في الله، كما انه ليس له وجود جوهري بل أن البشر لقصورهم عن رؤية الخير بدأوا يخترعون ويتوهمون لأنفسهم ما لم يكن، منساقين وراء شهواتهم.

4- لأنه كما أنه إذا أغلق إنسان عينيه، والشمس ساطعة وكل الأرض مستضيئة بنورها، وتوهم الظلمة وليس لها وجود، ثم سار هائماً كأنه في ظلام، وتعثر مراراً، وسقط في حفر شديدة الانحدار، متوهماً أن الدنيا مظلمة وليست منيرة، لأنه لا يرى على الإطلاق رغم توهمه بأنه يرى – هكذا أيضاً نفس الإنسان إذ تغلق عينيها اللتين بهما تستطيع رؤية الله فكرت في الشر لذاتها، وأصبحت وهي تتحرك في الشر لا تعرف أنها لا تفعل شيئاً رغم توهماً بأنها تفعل شيئاً. لأنها تفكر في العدم، كما أنها لم تلبث بعد في طبيعتها الأصلية. ولكن الحالة التي هي فيها هي بطبيعة الحال نتيجة اختلال توازنها.

5- لأنها خُلقت لكي ترى الله، ولكي تستنير به. ولكنها عوضاً عن أن تطلب الله طلبت من تلقاء نفسها الأمور الفاسدة، وبحثت عن الظلام كما يقول الروح كتابة في مكان آخر “أن الله صنع الإنسان مستقيماً، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” ([12]) اذاً فقد ثبت أن البشر من البدء اخترعوا أو دبروا وتوهموا الشر لأنفسهم. ولكن قد حان الوقت الآن لنقول كيف وصلوا إلى جنون عبادة الأوثان، لكي تدرك أن اختراع الأوثان ناشئ كلية لا عن الخير بل عن الشر. على أن ما ينشأ من الشر لا يمكن بأي حال أن يُسمى خيراً، لأنه شر بجملته.

الفصل الثامن

وأصل العبادة الوثنية مماثل. وإذ أصبحت النفس مادية بتناسيها الله، وانجرفت في تيار الأمور الأرضية حولتها إلى الهة. فهوى الجنس البشري إلى هاوية من الضلالات والخرافات بدرجة تدعو إلى اليأس والأسى.

1- وإذ لم تقنع النفس البشرية باختراع الشر بدأت بالتدريج تجترئ على ما هو أسوأ وأشر. لأنها إذ اختبرت شتى الملذات، وتناست الإلهيات، وسرت بالأكثر بملذات الجسد التي وضعتها نصب عينيها، ولم تحفل بشيء سوى الأشياء الحاضرة والتأمل فيها، لم تعد تفكر انه يوجد شيء غير المنظور، أو انه يوجد خير سوى الأشياء الوقتية والجسدية، لذلك فأنها، وقد تحولت وتناست أنها كانت على صورة الله الصالح، لم تعد بالقوة التي فيها ترى الله الكلمة الذي خُلقت على مثاله. ولكنها إذ ابتعدت عن نفسها صارت تتوهم وتتخيل ما ليس له وجود.

2- لأنها – بمضاعفات الشهوات الجسدية – أخفت المرآة التي فيها، والتي بها وحدها تستطيع رؤية صورة الآب، لذلك لم تعد ترى ما يجب أن تراه النفس، بل حملت في كل تيار، وأصبحت لا ترى سوى الأشياء التي تقع تحت الحس. وبالتالي تثقلت بكل الاهواء الجسدية. وإذ ارتبكت وسط تأثيرات هذه الأشياء توهمت أن الله الذي نسيه تفكيرها يوجد في الأشياء الجسدية المنظورة، معطية الأشياء المنظورة اسم الله، وممجدة فقط تلك الأشياء التي تهواها، والتي تبهج أنظارها.

3- بناء على ذلك فالشر هو السبب الذي يجر العبادة الوثنية في أذياله. لأن البشر إذ تعلموا أن يخترعوا الشر الذي ليس له أصل في حد ذاته، فأنهم بنفس الطريقة تخيلوا لأنفسهم آلهة من الكائنات التي ليس لها وجود حقيقي. إذاً فكما أنه إذا غطس الإنسان في الأعماق، ولم يعد يرى النور ولا ما يظهر بالنور، لأن عينيه تحولنا إلى أسفل، والمياه كلها فوقه، وإذ اصبح لا يرى الا الأشياء التي في الأعماق فأنه يتوهم انه لا يوجد شيء سواها، بل أن تلك التي يراها هي وحدها الحقيقية، هكذا ايضاص إذ فقد أناس العصر السابق عقلهم، وغرقوا في الشهوات وأوهام الأشياء الجسدية، ونسوا معرفة ومجد الله لبلادة عقولهم، أو بالحري لإنعدام عقولهم، فانهم جعلوا لأنفسهم آلهة من الأشياء المنظورة ممجدين المخلوق دون الخالق ([13]) اله، ومؤلهين المصنوعات دون السيد علتها وبارئها.

4- ولكن كما راينا في التشبيه السابق عمن يغطسون في الأعماق انهم كلما ازدادوا تعمقاً وصلوا إلى أمكنة أظلم وأعمق، هكذا الحال ايضاً مع البشرية، لأنهم لم يلبثوا في العبادة الوثنية في حالة بسيطة، ولم يستمروا فيها بدأوا به، لكنهم كلما طال بهم الزمن في حالتهم الأولى ازدادوا توغلاً في اختراع خرافات جديدة. وإذ لم يكتفوا بالشرور الأولى ازدادوا توغلاً في غيرها، وازدادوا تقدماً في الخزي الذي لا مزيد له، وتنافسوا في أعمال الفجور. وعن هذا تشهد الكتب الإلهية إذ نقول “إذ جاء الشرير إلى عمق الشرور فانه يزدري” ([14]).

الفصل التاسع

امتداد العبادة الوثنية بأشكال مختلفة: عبادة الأجرام السماوية، والعناصر، والأشياء الطبيعية، والمخلوقات الخرافية، والشهوات المجسمة، والبشر الأحياء والأموات. حالة انتينوس والأباطرة المؤلهين.

1- لأن ذهن البشر قفز مبتعداً عن الله، وإذ ازدادوا تسفلاً في أفكارهم وأوهامهم أعطوا المجد اللائق بالله أولاً للسماء والشمس والقمر والنجوم، متوهمين أنها ليست آلهة فحسب، بل هي أيضاً علة الآلهة التي هي دونها، وإذ ازدادوا تسفلاً في أوهامهم المظلمة أطلقوا اسم الآلهة على الأثير العلوي والهواء وما في الهواء. وإذ ازدادوا توغلاً في الشر الهوا العناصر والمبادئ التي تتكون منها الأجسام، الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة.

2- ولكن كما أن الذين سقطوا بالكلية يزحفون في الوحل كالقواقع الأرضية، هكذا إذ ازداد أشر البشر تسفلاً وابتعاداً عن فكرة الله أقاموا البشر كآلهة، وكذا أشكال البشر، بعضهم لا يزالون أحياء، والبعض الآخر حتى بعد موتهم. والأكثر من ذلك أنهم إذ فكروا. فيما هو أشر حولوا أخيراً اسم الله السامي الإلهي للأحجار والأخشاب وزحافات الأرض والماء والبهائم البرية غير العاقلة، مقدمين لها كل كرامة إلهية، ومتحولين عن الإله الحقيقي الواحد أبي المسيح.

3- ولكن ليت حماقة هؤلاء البشر الأغبياء وقفت عند هذا الحد، ولم يتوغلوا في اضطراباتهم الوقحة. لأنهم تسفلوا في أفكارهم إلى هذا الحد من ظلام العقل حتى انهم اخترعوا لأنفسهم وأقاموا آلهة من الأشياء التي لا وجود لها على الإطلاق، ولا مكان بين الخليقة. لأنهم إذ مزجوا بين الخليقة العاقلة وغير العاقلة، وجمعوا بين الأشياء غير المتشابهة بطبيعتها، عبدوا النتائج ([15]) كآلهة، مثل آلهة المصريين التي لها رأس كلب أو رأس حية أو رأس حمار، وعمون اله الليبيين الذي له رأس كبش بينما فصل غيرهم أعضاء جسم الإنسان، الرأس والكتف واليد والقدم، أقاموا من كل عضو إلهاً، وألهوها كأن ديانتهم لم ترتض بأن يبقى الجسم كله سليماً.

4- أما غيرهم فقد استغرق في الفساد لأقصى حد فألهوا الباعث على اختراع هذه الأشياء واختراع شرورهم، أي الملذات والشهوات، وعبدوها، مثل عيروس ([16])، وافروديت ([17]) في بافوس. بينما تجاسر بعضهم – كأنهم ينافسونهم في الرذيلة – ليقيموا آلهة من حكامهم بل من أبنائهم، اما من باب الاحترام لرؤسائهم، أو خوفاً من بطشهم، مثل زفس ([18]) الكريتي الذي له الشهرة العظيمة بينهم، وهرمس ([19]) بين أهل اركادياس وديونيسيوس بين الهنود، وايزيس واوزيريس وهورس بين المصريين، وفي عصرنا انثينوس محبوب هادريان امبراطور الرومانيين، الذي رغم أن الناس يعرفونه انه مجرد انسان، وليس انساناً محترماً، بل بالعكس مليء بالرذائل والدعارة، الا انهم يعبدونه خوفاً ممن أوصى بعبادته. لأن هادريان إذ أتى للإقامة في أرض مصر عندما مات انتينوس خادم لذاته وشهواته، أمر بعبادته، لأن افتتن بحب الشاب فعلاً حتى بعد موته. ولكن رغماً عن ذلك فضح نفسه وقدم برهاناً ضد كل عبادة وثنية لأنه عرف بين الناس أن هذه العبادة لم تنشأ الا بسبب الشهوة التي تملكت على مبتدعيها، كما شهدت بذلك حكمة الله من قبل إذ تقول “أن اختراع الأصنام هو أصل الفسق” ([20]).

5- ولا تعجب، بل لا تظن، أن ما نقوله صعب التصديق، إذ ما قررنا انه إلى عهد قريب – ولو لم تستمر هذه الحالة للآن – كان مجلس الشيوخ في الإمبراطورية الرومانية يصوت للأباطرة الذين حكموهم من البداية، لكلهم أو لمن يشاءون، ويقررون، ليعطوهم مكاناً بين الآلهة، ويأمرون بعبادتهم ([21]) لأن الذين كانوا يبغضونهم كانوا يعاملونهم كأعداء ويعتبرونهم بشراً، معترفين بطبيعتهم الحقيقية. أما الذين كانوا يحبونهم فكانوا يأمرون بعبادتهم بسبب فضائلهم، كأن لهم السلطان أن يقيموا آلهة، رغم أنهم هم أنفسهم بشر، ولا يمكن أن يدعوا بأنهم أكثر من خليقة فانية.

6- مع أنهم، أن جاز لهم أن يقيموا آلهة، لوجب أن يكونوا هم أنفسهم آلهة، لأن الصانع يجب أن يكون أفضل من المصنوعات، والحاكم يتحتم بالضرورة أن يكون له سلطان على المحكوم. وللمعطي، أو من له، الذي يهب فضلاً وإحساناً كالملك الذي يهب مما له، لا شك أعظم وأسمى مركزاً من الآخذ. فإذا ما قرروا اعتبار أي شخص شاءوا إلهاً وجب أن يكونوا هم أنفسهم أولاً آلهة. ولكن الغريب انهم بموتهم هم أنفسهم كبشر يظهرون بطلان آرائهم نحو أولئك الذين يقررون انهم آلهة.

الفصل العاشر

مصدر بشري مماثل لآلهة اليونان بأمر ثيسيوس. العملية التي بها تصبح الخليقة الفانية آلهة.

1- على أن هذه العادة ليست حديثة، كما أنها لم تبدأ من مجلس الشيوخ للإمبراطورية الرومانية، بل بالعكس إنها سبق أن وجدت منذ القديم، ومارسها البشر – لإختراع الأصنام – من قبل لأن الآلهة التي اشتهرت منذ القديم بين اليونانيين مثل زفس وبوسيدون وأبولو وهيفاستوس وهرمس، ومن أناثهم هيرا وديمتر واثينا وأرطاميس، هذه كلها اتخذت اسم الآلهة بأمر من ثيسيوس ([22]) الذي يحدثنا عنه تاريخ الإغريق وهكذا نرى أن الناس الذين يصدرون أوامر كهذه يموتون كبشر، ويحزن عليهم، بينما نرى أن الذين صدرت الأوامر في مصلحتهم يعبدون كآلهة. فياله من تناقض عظيم وجنون بيِّن لأنهم مع علمهم بمن أصدر الأوامر يؤدون إكراماً أعظم لمن صدرت من أجلهم.

2- وليت جنون عبادتهم الوثنية وقف عند حد الذكور، ولم ينحدروا بلقب الآلهة إلى الاناث. لأنهم يعبدون حتى النساء اللاتي من الخطر تدخلهن في الشئون العامة، ويؤدون لهن الإكرام الواجب لله، كأولئك اللاتي صدر بهن أمر من ثيسيوس كما تقدم، واللاتي اشتهرن بين المصريين من ايزيس والفتاة والأصغر منها ([23])، وبين غيرهم افروديت. أما أسماء غيرهن فلست أظن انه من اللائق حتى ذكرهن، لأنها مليئة بكل أنواع القبائح.

3- لأن الكثيرين – ليس في القديم فقط بل في أيامنا أيضاً – إذ فقدوا أعزاءهم اخوتهم وأقرباءهم وزوجاتهم، ونساء كثيرات ممن فقدن أزواجهن، هؤلاء كلهم الذين اثبتت الطبيعة أنهم بشر فانون أقاموا ممثلين لهم ([24]) واخترعوا تقدمات، وقدسوهم. اما الاجيال اللاحقة فانها إذ افتتنت بمهارة الصانع عبدوهم كآلهة، وهكذا اصبحوا متناقضين مع الطبيعة. لأنه بينما حزن آباؤهم من أجلهم دون اعتبارهم آلهة (لأنهم لو أدركوا أنهم آلهة لما حزنوا عليهم كأنهم قد هلكوا. لأن السبب في إقامة تماثيل لهم ليس لأنهم لم يعتبروهم آلهة فحسب بل أنهم لم يعتقدوا في أن لهم وجوداً على الإطلاق. ولكي يتعزوا عن عدم وجودهم بمنظرهم في التماثيل) فان الشعب الأحمق يصلي اليهم كآلهة، ويؤدون لهم الإكرام الواجب للإله الحقيقي.

4- فمثلاً في مصر لا تزال حتى اليوم مرثاة الموتى توجه لأوزيريس وهورس وتيفو وغيرهم. والقدور ([25]) في دودونا، والكهنة في كريت، تثبت أن زفس ليس الهاً بل انساناً، وانساناً ولد من أب آكل لحوم البشر. والغريب أنه حتى أفلاطون الحكيم الذي يعجب به الأغريق، نراه – رغم افتخاره بمعرفته لله – ينزل مع سقراط إلى بيريه لعبادة ارطاميس التي هي بدعة من اختراع الإنسان.

الفصل الحادي عشر

أعمال الآلهة الوثنية، سيما أعمال زفس.

1- على أن هذه وأمثالها من اختراعات العبادة الوثنية الجنونية سبق أن حدثنا عنها الكتاب المقدس منذ زمن طويل حين قال (لأن اختراع الاصنام هو أصل الفسق. ووجدانها ([26]) فساد الحياة. وهي لم تكن في البدء ولا تدوم إلى الأبد. لأنها انما دخلت العالم بحب الناس للمجد الفارغ. ولذلك عزم على الغائها عن قريب. وذلك أن والدا قد فجع بشكل معجل فصنع تمثالاً لأبنه الذي خطف سريعاً، وجعل يعبد ذلك الإنسان الميت بمنزلة اله، ورسم للذين تحت يده شعائر وذبائح. ثم على ممر الزمان تأصلت تلك العادة الكفرية فحفظت كشريعة، وبأوامر الملك عبدت المنحوتات. والذين لم يستطع الناس اكرامهم بمحضرهم لبعد مقامهم صوروا هيئاتهم الغائبة، وجعلوا صورة الملك المكرم نصب العيون حرصاً على تملقه في الغيبة، كأنه حاضر. ثم أن حسب الصناع للمباهاة كان داعية للجاهلين إلى المبالغة في هذه العبادة. فأنهم رغبة في ارضاء الآمر قد افرغوا وسهم في الصناعة لإحراج الصورة على غاية الكمال فاستميل الجمهور ببهجة ذلك المصنوع حتى أن الذي كانوا قبل قليل يكرمونه كانسان عدوه الهاً. وبهذا كان اقتناص الخلق ([27]). فان رزيئة بعض الناس أو اقتصار الملوك استعبدهم ([28]) حتى جعلوا على الحجر والخشب الاسم الذي لا يشرك فيه أحد ([29]).

2- وإذ كانت بداءة وتدبير اختراع الأصنام بهذا الشكل كما يشهد الكتاب المقدس فقد حان الوقت الآن لنظهر لك بطلانها بأدلة مستقاة من آراء نفس هؤلاء الاشخاص عن الأصنام أكثر مما هي مستقاة من الخارج. وللبدء بأسفل نقطة – إذا ما تأمل المرء في أعمال أولئك الذين يسمونهم آلهة – فانه لا يجد انهم ليسوا آلهة فحسب، بل انهم كانوا بشراً وأقبح البشر. فيالها من شناعة إذ ترى آثار أهواء زفس السافلة، وأعماله القبيحة في الشعراء. يا لها من شناعة إذ تسمع عنه من الناحية الواحدة حاملاً غنيميد ([30]) مرتكباً الفسق اختلاساً، ومن الناحية الأخرى، انه في هلع وذعر لئلا تسقط أسوار أهل طروادة، رغم ارادته. يا لها من شناعة إذ تراه حزيناً مكتئباً من أجل موت ابنه سربيدون متمنياً اغاثته وهو عاجز عن الاغاثة، وعندما تدبر ضده المؤامرات بواسطة الآلهة الأخرى أي اثينا وهيرا بوسيدون، معضداً من امرأة – ثيتيس – وايجيون ذي المائة يد ([31]) ومنغلباً من الشهوات فيصبح عبداً للنساء، ولأجلهن يرتكب المخاطر متنكراً في شكل البهائم والزحافات والطيور. وأيضاً يا لها من شناعة حينما تراه يختبئ بمناسبة مؤامرة أبيه ضده، أو موثقاً كرونوس، أو مشوهاً أباه. أيليق أن يُسمى الهاً ذاك الذي ارتكب أعمالاً كهذه، ويتهم بأمور لا تجيزها القوانين الرومانية العادية لمجرد البشر؟

الفصل الثاني عشر

أعمال مخزية أخرى تنسب لآلهة الوثنيين. وكلها تبرهن على أنهم بشر عاشوا في الأزمنة السابقة، وليسوا حتى بشراً صالحين.

1- لأنه – مع ذكر القليل من الأمثلة الكثيرة منعاً من اطالة الكلام – من ذا الذي رأى سلوكه الفاسد المعيب نحو سميلي وليديا والكمين وأرطاميس وليتو مايا وأوروبا وداني وأنتيوب ([32])، أو رأى ما تجاسر أن يأخذه بيده من جهة اخته بسماحة أن تكون نفس المرأة اختاً وزوجة له ولا يحتقره ويحكم بأنه مستحق الموت؟ لأنه لم يرتبك الزنى فقط بل انه اله، ورفع إلى السماء اولئك الذين ولدوا من فسقه هو شخصياً، مدبراً التأليه كستار لفضائحه مثل ديونيسوس وهرقل وديوسقوروس وبيريسيوس وسوتيرا ([33]).

2- ومن ذا الذي يرى تلك الآلهة المزعومة في نزاع مستمر، بينها وبين أنفسها في طروادة بسبب الإغريق وأهل طروادة دون أن يعترف بضعفها، لأنها بسبب الغيرة المتبادلة بينها دفعت حتى الخلائق البشرية للإشتباك في النزاع؟ ومن ذا الذي يرى أزيس وأفروديت ([34]) جرحهما ديوميد ([35]) أو هيرا وايدونيسيوس ([36]) من تحت الأرض، ومن يسمونه الهاً جرحه هرقل، وديونيسوس جرحه برسيوس ([37])، وأثينا جرحها اركاس ([38])، وهيفاستوس ([39]) طرح به وصار أعرج دون أن يعترف بطبيعتهم الحقيقية، وبينما يرفض أن يدعوهم آلهة يتأكد (حينما يسمع انهم قابلون للفناء وسريعوا التأثر) انهم ليسوا إلا بشراً، بل بشراً ضعفاء، ويعجب بأولئك الذين احدثوا الجراح دون أن يعجب بالمجروحين؟

3- أو من ذا الذي يرى زنى اريس مع افروديت، وهيفاستوس يدبر فخاً لكليهما، والآلهة المزعومة الأخرى يدعوها هيفاستوس لتشهد الزنى فتحضر وتطلع على رذائلهم، دون أن يضحك ويدرك أخلاقهم السافلة؟ أو من ذا الذي لا يضحك إذ يشهد حماقة سكر وسوء اخلاق هرقل نحو اومفالي ([40])؟ لأن تصرفاتهما الشهوانية، وهيامهما الخارج عن حدود العقل، وتماثيلهما الإلهية من ذهب وفضة وبرونز وحديد وحجر وخشب ليست في حاجة أن نفضحها بالحجة طالما كانت الحقائق الواقعة كريهة في حد ذاته، وتكفي وحدها لاثبات الخداع والغش. ولذلك فإن احساس المرء العام هو الاشفاق على اولئك الذين خدعوا بها.

4- لأنهم إذ يكرهون الزاني الذي يعبث بإحدى زوجاتهم لا يخجلون أن يؤلهوا الذين يعلمون الزنى، وإذ يمتنعون عن الفسق بالأهل المحرم الزواج بهن يعبدون الذي يمارسه، وإذ يعترفون بان افساد الأولاد شر فإنهم يعبدون الذي يتهم به، ولا يخجلون من أن ينسبوا لمن يدعونهم آلهة أموراً تمنع القوانين من وجودها حتى بين البشر.

الفصل الثالث عشر

حماقة عبادة التماثيل وتحقيرها من شأن الفن.

1- ثم أنهم بعبادتهم أشياء من خشب وحجر لا يرون أنهم بينما يطأون بأقدامهم ويحرقون ما لا يختلف عنها بأي حال من الأحوال يدعون أجزاء من هذه المواد آلهة. وما كانوا يستعملونه في خدمتهم منذ وقت وجيز ينقشونه ويعبدونه بحماقتهم، دون أن يروا أو يفكروا مطلقاً أنهم لا يعبدون آلهة بل صنعة الخراط.

2- لأنه طالما كان الحجر غير منحوت والخشب غير مشغول فإنهم يطأون الواحد ويستخدمون الآخر لأغراضهم المختلفة، حتى في الأغراض الوضيعة. ولكن حينما يصورها الصانع حسبما يتفق مع مهارته، ويصوغ المادة في شكل رجل أو امرأة، فأنهم إذ يشكرون الصانع يشرعون في عبادتها كآلهة بعد أن كانوا قد اشتروها من الخراط بثمن. وفضلاً عن هذا فإن صانع التماثيل كثيراً ما يصلي لمصنوعاته، كأنه قد نسى العمل الذي أتمه هو نفسه، ويدعو تلك التي كان يقضبها وينحتها ويخرطها قبل ذلك مباشرة آلهة.

3- ولكن كان الأولى – إذا لزم الأمر للإعجاب بهذه الأشياء – الإعجاب بمهارة الصانع الماهر لا تفضيل المصنوعات على الصانع. لأنه ليست المادة هي التي جملت الفن بل أن الفن هو الذي جمل واله المادة. إذن فكان أكثر عدلاً أن يعبدوا الصانع لا صناعته، أولاً لأن وجوده سابق للآلهة التي برزت بصنعته، وثانياً برزت إلى الوجود في الصورة التي أرادها. أما والحال كما هو، وقد دعوا العدل جانباً، وحقروا المهارة والفن، فأنهم يعبدون منتجات المهارة والفن، وحينما يموت الشخص الذي صنعها، فأنهم يكرمون مصنوعاته كأنها غير فانية مع أنها لو لم تنل منهم عناية يومية لقضى عليها حتماً قضاء طبيعية مع مرور الوقت.

4- أو كيف لا يرثي لهم المرء من هذه الناحية ايضاً إذ يراهم يعبدون ما تعجز عن أن ترى، ويسمعهم يصلون لما تعجز عن أن تسمع ويشهد أناساً مثلهم ولدوا ولهم حياة وعقل ولكنهم يدعون آلهة تلك الأشياء التي لا حركة لها على الإطلاق، بل ليست لها الحياة نفسها؟ والأغرب من الكل أن التي يحفظونها تحت سلطانهم يخدمونها كأسياد. ولا تتوهم أن هذه مجرد حقائق من عندياتي،أو انني أفتري عليهم. لأن تحقيق كل هذا واقع تحت البصر، وهذه الأمور ترى عياناً لمن أراد.

الفصل الرابع عشر

عبادة التماثيل يشجبها الكتاب المقدس.

1- وأفضل شهادة عن كل هذا يقدمها الينا الكتاب المقدس الذي سبق أن أنبأنا حينما قال ([41]) “أصنامهم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أعين ولا تبصر لها أفواه ولا تتكلم. لها آذان ولا تسمع. لها مناخر ولا تشم. لها أيدي ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي. ولا تنطق بحناجرها. مثلها يكون صانعوها” وكما أنهم لم ينجوا من توبيخ الانبياء، فاليك ايضاً دحض تلك العبادة حيثما يقول الروح ([42]) “يخزى الذين صوروا الهاً وسبكوا أصناماً لغير نفع. وكل الذين صنعوها يختفون. ليجتمع كل الصم بين البشر ويقفوا معاً ليرتعبوا ويخزوا معاً. حدد النجار حديداً طبعه بالقدوم، وبالمطارق صوره، وصنعه بذراع قوته، يجوع أيضاً فليس له قوة، لا يشرب ماء. اختار النجار خشباً، نجره، صوره بالفراء، صنعه كشبه رجل، كجمال انسان، واقامه في بيته، خشباً قطعه من الغابة مما غرسه الرب وانماه المطر ليصير للناس للايقاد، ويأخذ منه ويتدفأ، يشعل أيضاً ويخبز خبزاً عليه، ولكن البقية صنعوها آلهة، وسجدوا لها، نصفه أحرقوه بالنار، على نضفه شوي لحماً وأكل وشبع وتدفأ وقال. حسن لي لأني قد تدفأت رأيت ناراً. وبقيته سجد لها، قائلاً نجني لأنك أنت الهي. لم يعرفوا ولا فهموا لأنه قد طُمست عيونهم عن الإبصار وقلوبهم عن التعقل. ولا يردد في قلبه وليس له معرفة ولا فهم انه أحرق نصفه بالنار، وخبز أيضاً على جمره خبزاً شوى لحماً وأكل. وصنع بقيته رجساً وسجد له. اعرفوا أن قلبهم رماد، وانهم مخدعون ولا يستطيع أحد أن ينجي نفسه. أنظر، ألا تقل: في يميني كذب”؟.

2- إذاً كيف لا يكم عليهم من الجميع أنهم كفرة اولئك الذين اتهمتهم الكتب الالهية بالإلحاد؟ وهل يمكن أن يكونوا إلا تعساء اولئك الذين ثبتت عليهم هكذا جهراً عبادة الأشياء الميتة بدلاً من الحق؟ وأي رجاء يكون لهم؟ وأي عذر يُلتمس لهم إن كانوا يثقون في اشياء عديمة العقل أو الحركة يكرمونها بدل الله الحق.

الفصل الخامس عشر

إن التفاصيل التي ذكرت عن الآلهة والتي حملها تصوير الشعراء لها والفنانون تدل على أنها عديمة الحياة، وأنها ليست آلهة، بل ليست رجالاً أو نساء شرفاء.

1- وليست الصانع يصور الآلهة بلا صورة حتى لا تتعرض لمثل هذا الافتضاح الواضح بأنها عديمة الحس. لأنه كان يجوز أن يخدعوا عقول القوم البسطاء ليظنوا بأن للأصنام حواس لو لم تكن لها رموز الحواس، كالأعين مثلاً أو المناخر والآذان والأيدي والفم، دون أية إشارة للإدراك الحسي الفعلي ودون أن تكون واضعة يدها على الأمور الحسية. ولكن الواقع أن هذه الحواس كائنة وغير كائنة، فهي واقفة وغير واقفة، وجالسة وغير جالسة. لأنها ليست لها الحركة الفعلية لهذه الأشياء، بل كما أراد صانعها: لذلك فهي تبقى ثابتة، دون أن تعطي أية علامة للإله، بل مجرد أشياء عديمة الحياة، وضعت هنالك بصنعة الإنسان.

2- وليت سفراء وأنبياء هذه الآلهة الكاذبة، أقصد الشعراء والكتاب اكتفوا بأن يكتبوا أنها آلهة ولم يسجلوا أيضاً أعمالها مما فضحها وأعلن فسادها وانحطاط حياتها. لأنه كان يجوز بمجرد اسم اللاهوت اخفاء الحق، أو بالأحرى دفع الكثيرين من البشر للإنحراف عن الحق. أما وأنهم يروون الكثير عن شهوات زفس وأرجاسه، وافساد الشباب بواسطة الآلهة الأخرى، وغيرة النساء الشهوانية. والمحاوف وأعمال الجبن ورذائلهم الأخرى فأنهم يثبتون على أنفسهم انهم يروون عن اشياء ليست هي آلهة، ولا بشر محترمين بل بالعكس انهم يروون أقاصيص عن اشخاص مخجلين بعيدين عن كل ما يُشرف.

الفصل السادس عشر

حجج الوثنيين لتلطيف ما سبق، وقولهم (1) “أن الشعراء مسئولون عن هذه الأقاصيص التي لا تبني”. ولكن هل يمكن التدليل على وجود الآلهة وأسمائها بوسيلة أفضل؟ فإما أن يثبت الاثنان معاً أو يسقطا معاً. اما أن يدافع عن الأعمال أو لا يعترف بألوهية الآلهة. والأبطال لا يمكن تصديقهم إن ادعوا أنهم اتوا أعمالاً لا تتفق مع طبيعتهم، كما هو الحال مع الآلهة هنا.

1- أما فيما يتعلق بكل هذا فلعل الملحدين يلجأون إلى اسلوب الشعراء الخاص قائلين أن من خاصية الشعراء أن يتخيلوا ما لا وجود له، وأنهم ارضاء لسامعيهم يروون أقاصيص وهمية، وانهم لهذا السبب كتبوا رواياتهم عن الآلهة. ولكن حجتهم هذه تبدو واهية – أكثير من غيرها – من نفس تفكيرهم وادعاءاتهم عن هذه الأمور.

2- لأنه أن كان ما قاله الشعراء خيالياً ولا حقيقة له فكذلك لابد أن تكون التسمية التي أُطلقت على زفس وكرونوس وهيرا واريس وغيرها باطلة ولا أصل لها. وربما – كما يقولون – تكون الأسماء نفسها وهمية، ومع أنه لا وجود لمثل هذه الكائنات أي زفس أو كرونوس أو اريس فان الشعراء يتخيلون وجودها لتضليل سامعيهم. ولكن أن كان الشعراء يتخيلون وجود كائنات غير حقيقية فلماذا يعبدونها كأنها كائنة.

3- أو لعلهم ايضاً يقولون انه أن كانت الأسماء غير وهمية فانهم ينسبون اليها أعمالاً وهمية. ولكن حتى هذا الدفاع واه كسابقه. لأنهم أن كانوا قد لفقوا الأعمال فلا شك في انهم ايضاً قد لفقوا الاسماء التي نسبوا اليها الأعمال. اما أن كانوا صادقين في ذكر الاسماء لكانوا بالتالي صادقين في ذكر الأعمال ايضاً. وعلى الأخص أن الذين قالوا في أقاصيصهم بأن هذه آلهة يعلمون يقيناً ماذا يجب على الآلهة أن تعمل، فلا يمكنهم أن ينسبوا للآلهة آراء البشر، كما لا يستطيع أحد أن ينسب للماء خاصيات النار، لأن النار تحرق بينما طبيعة الماء بالعكس باردة.

4- إذاً فإن كانت الأعمال جديرة بالآلهة وجب أن يكون الذين يعملونها آلهة، اما أن كانت أعمال بشر، بشر منحطين، كالزنى والأعمال السابق ذكرها، وجب أن يكون الذين يعملون مثل هذه الأعمال بشراً لا آلهة. لأن أعمالهم يجب أن تتفق مع طبيعتهم، حتى يمكن في الحال معرفة الفاعل من أعماله، والتحقق من العمل من طبيعته. فكما انه إذا تحدث المرء عن الماء والنار مبيناً أعمالها لن يقول أن الماء تحرق والماء تبرد، أو إذا تحدث عن الشمس والأرض فهل يقول أن الأرض تشع نوراً اما الشمس فإنها تزرع أعشاباً وثماراً، وان قال هذا فانه يفوق أعظم درجات الجنون – كذلك لا يمكن لكتابتهم، وبالأخص لأشهر شعرائهم، أن كانوا يعلمون حقيقة أن زفس وغيره آلهة، أن ينسبوا اليهم مثل تلك الأعمال التي تظهر أنها ليست آلهة بل بالحري بشراً، بل بشراً غير طاهرين.

5- أو أن كانوا كشعراء قد تكلموا كذباً وأنتم تطعنون فيهم فلماذا لم يتكلموا كذباً أيضاً عن شجاعة الأبطال، ويدعوا الضعف بدل الشجاعة، والشجاعة بدل الضعف؟ لأنه كان يتعين عليهم في هذه الحالة كما تحدثوا عن زفس وهيرا أن يتهموا اخيل ([43]) بعدم الشجاعة، وان يشيدوا بمقدرة ثيرسيت ([44])، وإذ يتهمون اوديسيوس ([45]) بالغباوة يعتبرون نسطور ([46]) شخصاً عديم الأهمية، ويروون أعمالاً نسائية عن ديوميد ([47]) وهكتور ([48]) وأعمال الرجولة والبطولة عن هكيوبا ([49]) لأن الخيال والأوهام التي ينسبونها للشعراء يجب أن تمتد إلى كل الحالات. ولكن الواقع انهم احتفظوا بالصدق لرجالهم بينما لم يخجلوا من ذكر الأكاذيب عن آلهتهم المزعومة.

6- وإذا ما احتج بعضهم بأنهم إنما يذكرون الأكاذيب عن أعمالهم الشهوانية، ولكنهم في ذكر فضائلهم يتكلمون بالصدق عندما يتحدثون عن زفس كأب الآلهة وأسماها الذي يحكم في السماء، فهذه الحجة لا أدحضها أنا فحسب بل أن في استطاعة أي شخص أن يدحضها. وإذا ما أعدنا ذكر براهيننا السابقة وضح الحق ضدهم. لأنه بينما تثبت أفعالهم انهم بشر فان الثناء الذي يكال إليهم يرتفع فوق طبيعة البشر. إذا فكلا الأمرين يتناقضان، لأنه لا يمكن أن تتصرف طبيعة الكائنات السماوية بمثل هذه الطرق، كما أنه لا يمكن أن يخطر ببال أي امرئ أن الأشخاص الذين يتصرفون هكذا يكونون آلهة.

الفصل السابع عشر

فالحقيقة على الأرجح هي أن الروايات المشينة صحيحة، إما الصفات الإلهية المنسوبة إليهم فأنها تعزي إلى تملق الشعراء.

1- وأي استنتاج بقى لنا إذا سوى أن نقرر بأن أقوال الاطراء والثناء كاذبة ومن باب التملق، اما الأعمال التي يذكرونها عنهم فانها صحيحة؟ وهذه الحقيقة يمكن التأكد منها من الاختبارات المألوفة. لأنك لن تجد شخصاً يطري أي امرئ وفي نفس الوقت يتهمه بفساد الأخلاق. بل بالحري أن كانت تصرفات البشر مخزية فانهم يكيلون لهم المدح جزافاً بسبب الفضائح التي تسببها هذه التصرفات، لعلهم بمبالغتهم في المديح يؤثرون على سامعيهم ويسترون معايب الآخرين.

2- وكما انه إذا اراد إنسان أن يثني على بعض الأشخاص ولا يجد مادة للثناء في تصرفاتهم أو في اية صفة من صفاتهم الشخصية بسبب ما فيها من المخازي، فانه يبالغ في امتداحهم بطريقة أخرى، ويتملقهم ناسباً إليهم ما ليس فيهم، هكذا فعل شعراؤهم العجيبون، فانهم إذ انزعجوا بسبب التصرفات المعيبة التي ارتكبها آلهتهم المزعومة نسبوا إليهم اللقب الذي يسمو عن الطبيعة البشرية، غير عالمين انهم بمزاعهم التي تسمو عن الطبيعة البشرية لا يستطيعون أن يسدلوا الستار على تصرفاتهم البشرية، ولكنهم بالحري ينجحون في اظهار هذه الحقيقة وهي أن صفات الله غير خليقة بهم، وذلك بسبب تقصيراتهم البشرية.

3- وانني أميل إلى الاعتقاد بأنهم ذكروا تصرفات هذه الآلهة وعواطفها الشهوانية مرغمين. إذ طالما انهم كانوا يسعون أن ينسبوا ما يسميه الكتاب المقدس “الاسم الذي لا يُشرك فيه أحد” وكرامة الله ([50]) لمن ليسوا هم آلهة بل بشر فانون، وطالما كانت هذه الجرأة منهم بالغة ووقحة، لأجل هذا السبب اضطرهم الحق – رغم ارادتهم – أن يذكروا العواطف الشهوانية عن هؤلاء الأشخاص لكي تبقى هذه العواطف الشهوانية التي سجلت كتابة عنهم دليلاً لكل الأنسال على أنهم لم يكونوا آلهة.

الفصل الثامن عشر

تكملة دفاع الوثنيين (2) “إن الآلهة تُعبد لإختراعها فنون الحياة”. ولكن هذه أعمال بشرية طبيعية لا إلهية وتمشياً مع هذه القاعدة لماذا لا يؤله كل المخترعين.

1- إذاً فأي دفاع أو برهان على أن هؤلاء آلهة حقيقيين يمكن أن يقدمه اولئك الذين ينادون بهذه الترهات؟ لأنه مما تقدم قد برهنت حججنا على انهم بشر، بشر غير محترمين. ولكن لعلهم يتذرعون بحجة أخرى فيلجأون بكبرياء إلى الأشياء النافعة للحياة التي اكتشفوها، قائلين أن السبب في انهم يعتبرونهم آلهة أنهم كانوا نافعين للبشرية. لأن زفس يُقال عنه أنه صاحب الفن التشكيلي ([51])، وبوسيدون ([52]) صاحب فن الملاحة، وهيفاستوس ([53]) فن صناعة المعادن، واثينا فن النسيج، وابولو فن الموسيقى، وارطاميس فن الصيد، وهيرا صناعة الملابس، وديمتر ([54]) الزراعة، وغيرهم فنون أخرى، كما روى الذين حدثونا عنهم.

2- ولكن ينبغي للبشر أن ينسبوا هذه الفنون وأمثالها لا للآلهة وحدها بل للطبيعة البشرية العادية، لأن البشر يخترعون الفنون بملاحظة الطبيعة. فإن نفس الحديث العادي يدعو الفنون تقليداً للطبيعة. إذاً أن كانوا قد برعوا في الفنون التي تتبعوها فهذا لا يبرر الإعتقاد بأنهم آلهة، بل بالحري هذا يبرر الإعتقاد بأنهم بشر، لأنهم لم يخلقوا الفنون، ولكنهم بها قلدوا الطبيعة كغيرهم.

3- لأن البشر إذ لديهم مقدرة طبيعية على المعرفة طبقاً للوصف الذي وصفوا به ([55]) فليس هناك ما يدهشنا أن توصلوا إلى الفنون بذكائهم البشري وبتطلعهم إلى طبيعتهم ومعرفتها. اما إذا قالوا بأن اختراع الفنون يخولهم الحق أن ينادى بهم آلهة فقد حان الوقت للمناداة بمخترعي الفنون الأخرى آلهة، على نفس الأساس الذي بموجبه ظن أن السابقين جديرون بمثل هذا اللقب. فالفينيقيون اخترعوا الحروف، وهو مر الشعر القصصي، وزينون الذي من بلدة اليا ([56]) علم المنطق، وكواركس السراقوسي ([57]) علم البلاغة وارسطوس ([58]) علم تربية النحل، وتربثوليموس ([59]) زراعة الحنطة، وليكورجو الاسبارطي ([60]) وسولون الاثيني التشريع، بينما اكتشف بالاميدس ([61]) تصفيف الحروف والأرقام والمقاييس والأوزان. واكتشف غيرهم أشياء كثيرة أخرى نافعة للحياة البشرية حسب شهادة مؤرخينا.

4- إذاً فإن كانت الفنون تخلق آلهة، وان كانت الآلهة المنقوشة وجدت بسبب الفنون، لترتب على هذا طبقاً لمنطقهم – أن الذين اكتشفوا الفنون الأخرى في ايام الأخيرة لابد أن يكونوا آلهة. أما إذا حكموا بأن هؤلاء غير خليقين بالكرامة الالهية بل اعتبروهم بشراً لكان من اللائق أن لا يطلق اسم الآلهة على زفس وهيرا وغيرهما، بل وجب الاعتقاد انهم هم ايضاً كانوا كائنات بشرية، سيما وانهم لم يكونوا محترمين في أيامهم. وليس أدل على هذا من أنهم عندما يصورون أشكالهم في التماثيل يظهرون بأنهم ليسوا إلا بشراً.

الفصل التاسع عشر

تناقض عبادة التماثيل – الحجج التي يقدمونها تبريراً لموقفهم (1) أن الطبيعة الإلهية يجب إظهارها في علامات منظورة (2) أن التمثال واسطة للاتصالات (السامية فوق البشر) للإنسان بواسطة الملائكة.

1- لأنه أية صورة أخرى يعطونها لهم في النحت سوى صورة الرجال والنساء، والمخلوقات الأدنى غير العاقلة، وكل أنواع الطيور، والوحوش الأليفة والبرية، والزحافات، وكل ما تخرجه الأرض والبحر وكل دائرة المياه. لأن البشر إذ سقطوا في جنون شهواتهم وملذاتهم، وعجزوا عن أن يروا شيئاً آخر سوى ملذات الجسد وشهواته نظراً لتركيز عقلهم في هذه الأشياء غير العاقلة، فانهم توهموا المبدأ الإلهي في الأشياء غير العاقلة، ونقشوا آلهة كثيرة لتطابق شهواتهم المتعددة.

2- لأنه توجد بينهم تماثيل للوحوش والزحافات والطيور كما يقول مفسر الديانة الإلهية الحقيقية. “حمقوا في أفكارهم. وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون انهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى، والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان”. لأنهم إذ سبقوا فدنسوا روحهم بجنون الملذات كما ذكرت آنفاً انحدروا إلى اختراع الآلهة هذا، وإذ سقطوا انغمسوا فيها من ذلك الوقت فصاعداً كأنهم قد تركوا في رفضهم لله، وبدأوا يصورون الله، أب الكلمة، في أشكال غير عاقلة.

3- أما الذين يحسبون فلاسفة ورجال معرفة بين الإغريق فبينما اضطروا للاعتراف بأن آلهتهم المنظورة هي اشكال ورسوم البشر والاشياء غير العاقلة، تراهم يقولون – دفاعاً عن هذا – بأنهم صوروا هذه لكي يجيبهم اللاهوت بواسطتها ويكون ظاهراً. لأنهم بغير هذا لا يستطيعون معرفة الله غير المنظور سوى بمثل هذه التماثيل والشكليات.

4- وأما الذين يدعون بأنهم يقدمون أسباباً أعمق وأكثر فلسفة من هؤلاء فإنهم يقولون أن السبب في تهيئة الأصنام وتصويرها هو لاستدعاء واظهار الملائكة والقوات الإلهية، حتى إذا ما ظهروا بهذه الوسائل أمكنهم تعليم البشر عن معرفة الله، وحتى يصبحوا كرسائل كتابية للبشر بالرجوع إلى ما يمكن أن يتعلموه ليدركوا الله من اظهار الملائكة الالهية بواسطتها. إذاً فهذه هي أساطيرهم ([62])، لأنه حاشا لنا أن ندعوها علم اللاهوت. ولكن إذا ما فحص المرء الحجج بدقة وجد أن آراء هؤلاء البشر ايضاً لا تقل بطلاً وضلالاً عن آراء أولئك السابق التحدث عنهم.

الفصل العشرون

ولكن أين توجد هذه الفضيلة المزعومة للتماثيل؟ هل في المادة، أو في الصورة، أو في مهارة الصانع؟ عدم إمكان الدفاع عن كل هذه الآراء.

1- لأن المرء يمكن الرد عليهم – مقدماً الدعوى أمام محكمة الحق – قائلاً: كيف يجيب الله بمثل هذه الأشياء أو يصبح معروفاً بواسطتها؟ أيعزي ذلك للمادة التي صنع منها، أو للصور التي صور عليها؟ لأنه أن كان يعزي للمادة فما هو الداعي للصورة بدلاً من أن يظهر الله ذاته في كل أنواع المادة بلا استثناء قبل أن تصور هذه الأشياء؟ وعبثاً قد بنوا هياكلهم ليحبسوا قطعة واحدة من الحجر أو الخشب أو الذهب طالما كان كل العالم مليئاً بهذه المواد.

2- وأما أن كانت الصورة هي السبب للظهور الإلهي فما هو الداعي للمادة – الذهب وسواه – بدلاً من أن يظهر الله ذاته في الحيوانات الفعلية الطبيعية التي ترمز اليها التماثيل؟ لأن فكرتهم عن الله كان ممكناً – بنفس القاعدة – أن تكون أكثر نبلاً وسمواً لو أنه أظهر ذاته بواسطة الحيوانات الحية، عاقلة أو غير عاقلة، بدلاً من التطلع اليه في أشياء عديمة الحياة والحركة.

3- وهم بهذا يرتكبون أشر أنواع الرذائل الظاهرة ضد أنفسهم. لأنهم وهم يبغضون وينفرون من الحيوانات الحقيقية والوحوش والطيور والزحافات، أما بسبب شراستها أو بسبب قذارتها، فانهم ينقشون صورها على الحجر أو الخشب أو الذهب ويدعونها آلهة. ولكن كان خيراً لهم أن يعبدوا الكائنات الحية نفسها بدلاً من عبادة صورها في حجارة.

4- ولكن كلا الحالتين إدعاء باطل، فلا المادة ولا الصورة هي السبب في الحلول الإلهي، ولكن هي براعة الفن التي تستدعي اللاهوت، نظراً لأن الفن هو تقليد الطبيعة. ولكن أن كان اللاهوت يتصل بالتماثيل بسبب الفن فما الداعي ايضاً للمادة طالما كان مستقراً في البشر؟ لأنه أن كان الله يعلن ذاته بسبب الفن فقط، وان كانت التماثيل تعبد كآلهة لهذا السبب، لكان من الصواب عبادة وخدمة الإنسان الذي هو سيد الفن، لأنه عاقل ايضاً وفيه الذكاء.

الفصل الحادي والعشرون

وفكرة الاتصال عن طريق الملائكة تجر متناقضات أشد، كما انها – على فرض صحتها – لا تبرر عبادة التماثيل.

1-أما عن دفاعهم الثاني الذي يقولون انه أقوى فيمكن للمرء إضافة الآتي صواباً. أن كانت هذه الأشياء صنعت بواسطتكم أيها الإغريق، لا من أجل اظهار الله لنفسه، بل من أجل حضور الملائكة فيها، فلماذا تعتبرون التماثيل التي بها تستدعون القوات كأنها أسمى وأرفع شأناً من القوات المستحضرة؟ لأنكم تنقشون الصور لأجل إدراك الله كما تقولون، ولكنكم تنسبون للتماثيل الفعلية كرامة الله كما تقولون، ولكنكم تنسبون للتماثيل الفعلية كرامة الله ولقبه، وبذلك تضعون أنفسكم وضعاً مزرياً.

2- لأنكم بينما تعترفون بأن قوة الله تفوق صغر التماثيل وحقارتها، ولأجل هذا لا تتجاسرون على استدعاء الله بواسطتها، بل القوات الأقل فقط، فانكم انتم أنفسكم تخطيتم هذه الأخيرة، وخلعتم على الحجارة والخشب اسم ذاك الذي فزعتم من حضرته، ودعوتموها آلهة بدلاً من الحجارة وصنعة البشر، وعبدتموها. وعلى فرض أنها خدمتكم – كما تدعون كذباً – كرسائل كتابية للتأمل في الله، فليس من الصواب أن تعطوا الرموز كرامة أكثر من المرموز إليه. لأنه إذا أراد إنسان كتابة اسم الإمبراطور فانه أن أعطى للاسم كرامة اكثر مما للإمبراطور عرض نفسه للخطر. بل بالعكس أن إنساناً كهذا يستحق عقوبة الموت. مع أن الكتابة رسمت بمهارة الكاتب.

3- هكذا أنتم أيضاً لو كانت لكم قوة العقل والتمييز كاملة لما حقرتم من شأن هذا الإعلان العظيم عن اللاهوت نسبتموه للمادة، بل لما أعطيتهم التمثال كرامة أعظم من الإنسان الذي نحته. لأنه لو كان هنالك أي ظل للحقيقة في هذه الحجة وهي أنها كرسائل كتابية تدل على ظهور الله ولذلك فهي كإشارات لله خليقة بأن تؤله، لكان حرياً جداً أن يؤلمه الصانع الذي نحتها وصورها لأنه أقوى منها جداً وأكثر ألوهية، لأنها قطعت وصورت حسب إرادته. إذاً فان كانت الرسائل الكتابية تستحق الإعجاب لأستحق الكاتب إعجاباً أشد بسبب فنه وذكاء عقله. وان كان لا يليق الاعتقاد بأنها آلهة لهذا السبب وجب على المرء أن يسألهم عن جنونهم بصدد الأصنام، طالباً منهم أن يبرروا كونها على مثل هذه الصورة.

الفصل الثاني والعشرون

والتمثال لا يمكن أن يُمثل صورة الله الحقيقية، وإلا كان الله قابلاً للفساد.

1- وان كان سبب تصويرها بهذا الشكل هو أن للاهوت صورة بشرية فلماذا يعطونها أيضاً صورة المخلوقات غير العاقلة؟ أو أن كانت صورته هي صورة الأخيرة فلماذا يصورونه ايضاً على مثال المخلوقات العاقلة؟ أو أن كانت صورة الاثنين معاً في وقت واحد، ويظنون أن الله على صورة الاثنين مجتمعين، أي انه على صورة المخلوقات العاقلة وغير العاقلة، فلماذا يفرقون ما اجتمع، ويفصلون تماثيل البهائم عن تماثيل الناس، بدلاً من تصويرها دائماً من كلا النوعين، كالصور الخيالية في الأساطير الخرافية، مثل سكيلا ([63]) كربديس ([64]) والقنطروس ([65]) وانوبيس ([66]) المصريين الذي له رأس كلب؟ لأنه كان يجب إما أن يمثلوها فقط من طبيعتين بهذه الكيفية، أو أن كانت لها صورة واحدة فكيف ينبغي أن لا يمثلوها في الصورة الأخرى في نفس الوقت.

2- وأيضاً أن كانت لها صورة الذكور فلماذا يصورونها في صورة الإناث كذلك؟ أو أن كانت لها الصورة الأخيرة فلماذا يصورونها تصويراً كاذباً كأنها ذكور؟ أو كان مزيجاً من الاثنين فكان يجب عدم تفرقتهما، بل اتحادهما معاً، مقتفين آثار ما يسمونه خنثوي ([67])، حتى تقدم خرافاتهم للناظرين لا منظراً مليئاً بالخلاعة والفجور فحسب بل ايضاً سخيفاً ومضحكاً.

3- وبصفة عامة أن كانوا يظنون أن للاهوت جسداً، ولذلك فانهم يجتهدون بأن يصوروا له البطن واليدين والقدمين والعنق أيضاً والثدي وسائر الأعضاء التي يتكون منها الانسان، فانظر لأي حد من الوقاحة والفجور تسفل عقلهم، حتى تكون لهم مثل هذه الآراء عن اللاهوت. لأنه ينتج من هذا انها لابد أن تكون عرضة لكل الأعراض الجسدية الأخرى، والقطع والفصل، بل للفناء كلية. ولكن هذه وأمثالها ليست من خاصيات الله، بل بالحري من خاصيات الاجساد الأرضية.

4- لأنه في الوقت الذي نرى فيه الله غير جسدي (أو هيولي) وغير قابل للفساد أو الفناء، ولا يحتاج لأي شيء لأي غرض، نرى هذه قابلة للفساد كما تراها صوراً لأجساد، وتحتاج للخدمات الجسدية كما قلنا سابقاً ([68]). لأننا كثيراً ما رأينا تماثيل عتقت فجددت، وتلك التي عبثت بها يد الزمن أو الأمطار، أو بعض حيوانات الأرض، أو غيرها قد أعيدت إليها صورتها. لهذا السبب لا يسع المرء إلا أن يحكم بحماقتهم لأنهم ينادون بهذه الأشياء – التي يصنعونها هم أنفسهم – آلهة، ولأنهم هم أنفسهم يطلبون الخلاص من تلك الأشياء التي يخلعون عليها فنونهم لحفظها من الفساد، ولأنهم يتوسلون أن تقضي حاجاتهم من كائنات يعلمون هم أنفسهم علم اليقين أنها في حاجة لرعايتهم، ولأنهم لا يخجلون أن يدعوا تلك الكائنات التي يغلقون عليها غرفاً صغيرة أرباب السماء وكل الأرض.

الفصل الثالث والعشرون

إن تنوع العبادات الوثنية يبرهن على بطلانها.

1- على أن المرء لا يحكم بإلحادهم لهذه الاعتبارات فحسب بل أيضاً من آرائهم المتناقضة عن الأصنام نفسها. لأنها أن كانت آلهة – حسب آرائهم وتأكيداتهم – فلمن منها يقدم المرء الولاء؟ ومن منها يحكم الإنسان بأنه هو الأسمى، حتى يعبد الله بإطمئنان؟ أو لكي يدركوا اللاهوت بواسطتها – كما يقولون – بدون غموض أو التباس؟ فليست نفس الكائنات تُدعى آلهة بين الجميع، بل بالعكس، أن لكل أمة تقريباً اله خاص. وهنالك حالات ترى فيها المقاطعة الواحدة أو المدينة الواحدة في تناقض داخلي بصدد خرافاتهم الخاصة بأصنامهم.

2- فالفينيقيون مثلاً لا يعرفون تلك التي تُسمى آلهة بين المصريين، ولا المصريون يعبدون نفس أصنام الفينيقيين. وبينما يرفض السكيثيون آلهة الفرس، فإن الفرس يرفضون آلهة السوريين. على أن البيلاسجيين ([69]) يرفضون آلهة تريس ([70])، وأهل تريس لا يعرفون آلهة طيبة. وعلاوة على ذلك فالهنود يختلفون عن العرب بصدد أصنامهم، والعرب عن الاثيوبيين، والاثيوبيون عن العرب. والسوريون لا يعبدون أصنام الكيليكيين، بينما الأمة الكبدوكية تقيم آلهة من كائنات مخالفة لهذه. وبينما اتبع البيثينيون آلهة أخرى ابتدع الأرمن آلهة أخرى أيضاً. وما الداعي لكي أعدد الأمثلة؟ فأهل القارة يعبدون آلهة خلاف التي يعبدها أهل الجزيرة، بينما يعبد هؤلاء الأخيرون آلهة سوى التي يعبدها أهل الأراضي الأصلية.

3- وعلى العموم أن كل مدينة وقرية تفضل آلهتها – متجاهلة آلهة جيرانها – وتحكم بأن هذه وحدها هي الآلهة. أما عن المكرهات التي في مصر فلا داعي حتى للتحدث عنها، لأنها ماثلة أمام أعين الجميع. فانك ترى كيف أن للمدن ديانات مضادة ومناقضة بعضها للبعض، ويسعى الجيران دواماً لعبادة آلهة ضد القريبين منهم ([71])، لدرجة أن التمساح الذي يعبده البعض يعتبره جيرانهم مرذولاً، والأسد الذي يعبده الآخرون كإله لا يمتنع جيرانهم عن عبادته فحسب بل أيضاً يقتلونه – أن وجدوه – كوحش مفترس، والسمك الذي يقدسه بعض الشعوب يستعمل كطعام في مكان آخر. وهكذا تقوم الحروب والفتن والفرص المتعددة لسفك الدم وكل الانغماسات الشهوانية بينهم.

4- والغريب جداً – حسب رواية المؤرخين – أن البيلاسجيين الذين تعلموا من المصريين أسماء الآلهة لا يعرفون آلهة مصر، بل يعبدون غيرها عوضاً عنها. وبصفة عامة أن لكل الشعوب التي افتتنت بالأصنام آراء مختلفة، وديانات مغايرة، ولا توجد ملاءمة في حالة واحدة. وليس هذا بالأمر العجيب.

5- لأنهم إذ انحرفوا عن التأمل في الإله الواحد انحدروا إلى أمور عديدة ومتنوعة. وإذ تحولوا عن كلمة الآب، المسيح مخلص الكل، تشعب ذهنهم بطبيعة الحال في جهات متعددة، وكما أن الناس إذا ما تحولوا عن الشمس وذهبوا إلى أمكنة مظلمة داروا وهاموا على وجوههم في طرق وعرة دون أن يروا الأشخاص الموجودين، وفي الوقت نفسه يتخيلون وجود من ليس لهم وجود، فيصبحون وهم مبصرون لا يبصرون، كذلك أيضاً أولئك الذين تحولوا عن الله، وأظلمت نفوسهم، قد أصبحت عقولهم هائمة حائرة، يتخيلون ما ليس حقيقياً، كقوم سكارى لا يستطيعون أن يبصروا.

الفصل الرابع والعشرون

والتي تُدعى آلهة في مكان ما تستعمل كذبائح في مكان آخر.

1- إذاً فليس هذا برهاناً يسيراً على إلحادهم الحقيقي لأن آلهة كل مدينة ومملكة إذ تعددت جداً، وأصبح كل واحد يحاول إبادة الآخر، أصبح الجميع يحاولون إبادة جميعها لأن تلك التي يعتبرها البعض آلهة تقدم ذبائح وتقدمات للشرب للآلهة المزعومة عند الآخرين، وتلك التي تعتبر ذبائح عند البعض يعتبرها الآخرون بالعكس آلهة. فالمصريون يعبدون الثور، والعجل أبيس، وغيرهم يقدمون هذه البهائم ذبائح لزفس. وحتى إذا لم يقدموا نفس البهائم – التي قدسها الآخرون – كذبائح، فإنهم إذ يذبحون نظائرها يبدو أنهم قدموها هي بعينها. والليبيون يؤلهون كبشاً ويدعونه أمون، وفي الأمم الأخرى يذبح هذا الحيوان كذبيحة لآلهة كثيرة.

2- والهنود يعبدون ديونيسوس، مستعملين الاسم رمزاً للخمر، والآخرون يسكبون الخمر كتقدمة للآلهة الأخرى. وغيرهم يكرمون الأنهار والينابيع، والمصريون فوق الكل يؤدون احتراماً خاصاً للمياه ويدعونها آلهة، ومع ذلك فالآخرون حتى المصريون أنفسهم الذي يعبدون المياه، يستخدمونها لغسل الأقذار من غيرهم ومن أنفسهم، وبطريقة مخزية يطوحون ما استعملوه. وتكاد تنحصر كل أصنام المصريين فيما يقدم كذبائح لآلهة الأمم الأخرى، ولذلك يهزأ بهم من الآخرين، لأنهم يؤلهون تلك التي ليست آلهة بل هي ذبائح كفارية وتضحيات لدى الآخرين بل لديهم هم أنفسهم.

الفصل الخامس والعشرون

الذبائح البشرية. سخافتها. كثرتها. نتائجها الوخيمة.

1- على أن البعض قد انحدروا في هذه الأيام إلى هوة سحيقة من الضلال والحماقة فأصبحوا يذبحون حتى الرجال ويقدمونهم ذبائح لآلهتهم الكاذبة، رغم أنها على شكل وصورة الرجال. ولم ير هؤلاء التعساء أن الضحايا التي يذبحونها هي بنفس صورة الآلهة التي يصنعونها ويعبدونها، والتي يقدمون اليها الرجال. ويمكن القول انهم يقدمون النظائر للنظائر، أو بالحري الأعلى للأدنى. لأنهم يقدمون مخلوقات حية لمخلوقات ميتة، وكائنات عاقلة لأشياء عديمة الحركة.

2- لأن السكيثيين، الذين يدعون التوريين ([72]) يقدمون كذبائح لعذرائهم – كما يسمونها – أولئك الذين نجوا من السفن التي تحطمت، أي الإغريق الذي يلقون القبض عليهم، وبهذا يمعنون في القسوة والفساد ضد أناس من جنسهم، ويفضحون وحشية آلهتهم، لأن أولئك الذي أنقذتهم العناية الإلهية من الخطر ومن البحر يقتلونهم هم، مقاومين العناية الإلهية، لأنهم يبطلون أعمال رحمة العناية الإلهية باخلاقهم الوحشية أما الآخرون فإنهم عندما يعودون من الحرب ظافرين يقسمون أسراهم إلى مئات، ويأخذون رجلاً من كل مائة ويذبحون لاريس الرجل الذي اختاروه من كل مائة.

3- على أنه ليس السكيثيون وحدهم هم الذين يرتكبون هذه الفظائع بسبب الوحشية الطبيعية فيهم كمتوحشين، بل بالعكس أن هذا العمل كان نتيجة لازمة للشر الذي يتصل بالاصنام والآلهة الكاذبة. لأن المصريين كانوا معتادين سابقاً أن يقدموا ذبائح من هذا القبيل إلى هيرا، والفينيقيين والكريتيون كانوا معتادين أن يترضوا وجه كرونوس ([73]) بذبح أطفالهم. وحتى قدماء الرومانيين اعتادوا عبادة المشترى لاثياريوس ([74]) – كما كانوا يدعونه – بتقديم ذبائح بشرية، البعض بإحدى الطرق، وغيرهم بطريقة أخرى، ولكن الكل بلا استثناء ارتكبوا الرجاسات ودنسوا أنفسهم، فدنسوا أنفسهم بارتكاب أعمال القتل، ونجسوا هياكلهم إذ ملئوها بدخان مثل تلك الذبائح.

4- إذاً فقد كان هذا مصدر الشرور المتعددة للبشرية. لأنهم إذ رأوا أن آلهتهم الكاذبة سرت بهذه الأمور بدأوا يقلدون آلهتهم بنفس الأعمال السيئة، ظانين أن تقليد الكائنات السامية – كما كانوا يعتبرونها – فخر لهم. من ثم بدأت البشرية يتضاءل عددها بقتل الرجال البالغين والأولاد، وبإعطاء التصريح لإرتكاب كل الأنواع. والآن أصبحت كل مدينة تقريباً مليئة بكل أنواع الفجور، نتيجة طباع آلهتها الوحشية، كما انه لا يوجد واحد ذو حياة وقورة في هياكل الأصنام سوى ما شهد الجميع بفجوره ([75]).

الفصل السادس والعشرون

إن الفساد الأدبي بين الوثنيين ناشئ عن الآلهة حسب اعتراف الجميع.

1- فالنساء مثلاً اعتدن الجلوس في الأيام القديمة في هياكل فينيقية مكرسات لآلهتها أجرة أجسادهن، متوهمات انهن ترضين آلهتهن بالزنى، وانهن بذلك حصلن على رضائها. أما الرجال فقد أنكروا طبيعتهم، ولم يقبلوا أن يظلوا ذكوراً بعد، بل تخفوا في شكل النساء، اعتقاداً منهم انهم بهذا يرضون ويكرمون أم آلهتهم المزعومة. على أن الجميع يعيشون حياة متسفلة، بل يتنافسون في أقذر الموبقات، وكما قال بولس، خادم المسيح المبارك ([76])، “لأن اناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة. وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الانثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور”.

2- ولكنهم إذ يتصرفون بهذه الكيفية وأمثالها يعترفون ضمناً، ويبرهنون على أن حياة آلهتهم المزعومة هي على هذا المثال. لأنهم تعلموا من زفس افساد الشباب والزنى، ومن افروديت الدعارة، ومن ريا ([77]) الفجور، ومن اريس القتل، وينفر منها كل رجل عفيف. ايليق تسمية من يرتكب مثل هذه آلهة، بدلاً من اعتبارها أشد بهيمية من البهائم بسبب دعارة طرقها؟ أيليق اعتبار عابديها كائنات بشرية بدلاً من الرثاء لهم لأنهم عديموا العقل أكثر من البهائم، وعديمو الروح أكثر من الأشياء عديمة الحياة؟ لأنهم لو اعتبروا الناحية العقلية في نفوسهم لما انغمسوا في هذه الأشياء بمثل هذه الرعونة، ولما أنكروا الإله الحقيقي، أبا المسيح.

الفصل السابع والعشرون

وإذ وصلنا إلى هذه النتيجة الحاسمة وهي دحض العبادة الوثنية الشعبية، نتقدم الآن إلى النوع الأرقى أي عبادة الطبيعة. كيف تشهد الطبيعة لله باعتماد كل أجزائها بعضها على بعض، الأمر الذي يمنعنا من أن نعتقد في أي واحد منها انه هو الإله العلي. توضيح هذا أخيراً.

1- ولكن لعل أولئك الذين تخطوا حدود هذه الاشياء، والذين يقفون منزعجين أمام الخليقة، يتشكرون في التبرؤ مما صار دحضه وشجبه على كل الوجوه، إذ قد اخجلوا بالكشف عن هذه الرذائل، ولكنهم في نفس الوقت يظنون انهم على أساس متين في اعتقادهم الذي لا يُناقش، أي في عبادة الكون وأجزاء الكون.

2- لأنهم قد يفتخرون أنهم يعبدون لا مجرد أخشاب وحجارة وأشكال البشر والطيور والزحافات والبهائم غير العاقلة، بل الشمس والقمر وكل الكون السماوي، والأرض أيضاً، وكل دائرة المياه. وقد يقولون انه لا يستطيع أحد أن يبين بأي حال أن هذه ليست ذات طبيعة الهية طالما كان واضحاً للجميع انه لا ينقصها الحياة أو العقل، بل تفوق حتى طبيعة البشر، لأن الواحد يسكن السماء، والآخر يسكن الأرض.

3- إذاً فخليق بنا أن نتأمل في هذه النقط أيضاً، ونفحصها، لأن بحثنا هنا أيضاً سوف يبين أن براهيننا ضدها حقيقية. ولكن قبل البدء بأدلتنا أو النظر فيها يكفي القول أن الخليقة ترفع صوتها ضدهم مشيرة إلى الله كخالقها وبارئها، الذي يسيطر على الخليقة وكل الاشياء، والذي هو أب ربنا يسوع المسيح، الذي يتحول عنه الفلاسفة المدعون ليعبدوا ويؤلهوا الخليقة التي أبدعها، والتي هي نفسها مع ذلك تعبد الرب الذي ينكرونه هم بسببها، وتعترف به.

4- لأنه إذا كان الناس يقفون هكذا منذهلين أمام أجزاء الخليقة، متوهمين انها آلهة، فانه يمكن توبيخهم باعتماد هذه الأجزاء بعضها على بعض، وانها فضلاً عن هذا تظهر أبا الكلمة (الذي هو رب وصانع هذه الأجزاء أيضاً) وتشهد له بناموس طاعتها له الذي لا ينقض، كما يقول الناموس الالهي ايضاً (السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ([78])).

5- على أن البرهان على كل هذا ليس غامضاً، بل واضح كل الوضوح للذين لم تنطمس بصيرتهم انطماساً تاماً. لأنه إذا أخذ المرء أجزاء الخليقة منفصلة، وتأمل في كل منها على حدة، كالشمس مثلاً على حدة، والقمر على حدة، وأيضاً الأرض والهواء، والحرارة والبرودة، وعناصر الرطوبة والجفاف، وفصلها عن ارتباطها المتبادل، فانه يجد حتماً انه لا يمكن أن يكون أحدها كافياً لنفسه، بل كل منها في حاجة لمساعدة الآخر، وانها تحتفظ بكيانها بمساعداتها المتبادلة. فالشمس تسير في كل دائرة السماء ولن تتعدى فلكها، والقمر وسائر النجوم تشهد للمساعدة التي تستمدها من الشمس. وظاهر أن الارض ايضاً لا تعطي محصولها بدون الأمطار، وهذه بدورها لا تهطل على الأرض بدون مساعدة السحب، والسحب لا يمكن أن تظهر من تلقاء ذاتها وتوجد بدون الهواء، والهواء يسخنه الهواء الأعلى ([79])، ولكنه يستضيء لامعاً بواسطة الشمس لا من تلقاء ذاته.

6- والآبار أيضاً والأنهار لا يمكن أن يكون لها وجود بدون الأرض. ولكن الأرض لا ترتكز على نفسها، بل هي قائمة على دائرة المياه، وهذه ايضاً محفوظة في مكانها لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بمركز الكون. والبحار والمحيطات العظمى التي تتدفق خارجاً حول كل الأرض تحركها الرياح وتحملها حيثما تدفعها قوة الريح. والرياح بدورها لا تنبعث من تلقاء ذاتها، بل وفق من كتبوا في هذا الموضوع، أي تتولد في الهواء من الحرارة المحرقة ودرجة حرارة الهواء العلوي الأكثر ارتفاعاً من الهواء السفلي والذي يهب في كل اتجاه مندفعاً نحو الأخير ([80]).

7- أما عن العناصر الأربعة التي تتكون من طبيعة الأجساد أي الحرارة والبرودة، والجفاف والرطوبة، فمن ذا الذي اختل توازنه العقلي فلا يعرف أن هذه الأشياء كائنة فعلاً مرتبطة ببعضها، ولكنها إذا فصلت عن بعضها وأخذ كل منها على حدة فانها تميل إلى أن تلاشي حتى بعضها بعضاً وفق القوة الأعظم في العنصر الأوفر. لأن الحرارة تلاشيها البرودة أن كانت هذه الأخيرة بكمية أغزر، والبرودة أيضاً تعدمها قوة الحرارة، والشيء الجاف بتشبع بالرطوبة، والرطب يجففه الجاف.

الفصل الثامن والعشرون

على أن النظام الكوني لا يمكن أن يكون الهاً. لأنه يترتب على هذا أن الله مكون من أجزاء غير متشابهة، وتخضعه للانحلال.

1- إذاً فكيف يمكن أن تكون هذه الأشياء آلهة وهي مفتقرة لمساعدة بعضها البعض؟ وكيف يليق أن نسأل منها أي شيء أن كانت هي أيضاً تطلب المساعدة لنفسها بعضها من بعض؟ لأن الحقيقة المسلم بها عن الله انه ليس في حاجة لأي شيء، بل هو معتمد على ذاته مستقل بذاته، ومنه تستمد كل الأشياء كيانها، وهو يخدم الكل قبلما يخدمه الكل، فكيف يجوز أن ندعو الشمس الهاً والقمر وسائر أجزاء الخليقة، التي ليست من نوع الآلهة، بل هي مفتقرة لمعونة بعضها البعض؟

2- ولكن لعلها إذا جُزئت وأخذت على حدة فإن خصومنا أنفسهم لابد أن يعترفوا بأنها تعتمد بعضها على بعض، لأن المظاهر واضحة وعينية. على أنهم قد يتحدون الكل معاً كأنها تكون جسماً واحداً ويقولون أن الكل هو الله. لأنه إذا ما اقترن الكل معاً لا يحتاج إلى معونة خارجية، بل تكون المجموعة كافية لذاتها ومستقلة من كل الوجوه. هكذا قد يقول لنا على الأقل أولئك الفلاسفة المزعومون. ولكننا هنا نفند آراءهم مرة أخرى.

3- وهذه الحجة لا تقل عن سابقتها – التي عولجت – في اظهار فسادهم مقروناً بالجهل المطبق. لأنه إذا كان اقتران الأجزاء يكون الكل، وكان الكل مكوناً من الأجزاء، فان الكل يتضمن الأجزاء، وكل منها جزء من الكل. ولكن هذه بعيدة كل البعد عن فكرة الله. لأن الله هو الكل، وليس مكوناً من مجموعة أجزاء، ولا يحتوي على عناصر متعددة، بل هو نفسه خالق النظام الكوني. انظر أي تجديف ينطقون به ضد اللاهوت عندما يقولون هذا؟ لأنه إذا كان مكوناً من اجزاء فانه يتبع هذا حتماً انه لا يماثل نفسه، وانه مكون من اجزاء غير متماثلة. لأنه أن كان شمساً فهو ليس قمراً، وان كان قمراً فهو ليس أرضاً، وان كان أرضاً فلا يمكن أن يكون بحراً. وهكذا إذا أخذ المرء الأجزاء واحداً فواحداً تبين له سخافة نظريتهم هذه.

4- على أن النقطة التالية المستقاة من مشاهدة جسمنا البشري كافية لدحضهم. لأنه كما أن العين ليست حاسة السمع، ولا الأخيرة يداً، ولا البطن صدراً، والعنق قدماً، بل لكل عضو وظيفته، والجسم الواحد يتكون من هذه الأجزاء المتميزة، التي اتحدت لتكون نافعة، والمقدر لنا أن تنفصل على مدى الزمن عندما تسمح الطبيعة التي اتحدتها معها بأن تفصلها كإرادة الله الذي أمر بها – هكذا (وليسامحنا العلي لإستخدام هذه الحجة) إذا ما اتحدوا أجزاء الخليقة في جسم واحد ونادوا به الهاً فانه يتبع هذا أولاً أنه لا يماثل نفسه كما وضحنا سابقاً، وثانياً انه مقضي عليه أن يتجزأ ثانية وفقاً للميل الطبيعي لإنفصال الأجزاء.

الفصل التاسع والعشرون

وتوازن القوى في الطبيعة يبين انها (الطبيعة) ليست هي الله، سواء كانت مجتمعة أو مجزأة.

1- وبطريقة أخرى يمكن فضح الحادهم بنور الحق. لأنه أن كان الله بطبيعته لا جسد له، وغير منظور، ولا ملموس، فكيف يتخيلون أن الله جسد، ويعبدون بكل اكرام اله تلك الأشياء التي نراها باعيننا ونلمسها بأيدينا؟

2- وايضاً أن كل ما قيل عن الله حقيقياً، أي انه قادر على كل شيء، وانه لا سلطان لأي شيء عليه، بل له السلطان والسيادة على الكل، فكيف عجز أولئك الذين يؤلهون الخليقة عن أن يروا انها لا تستوفي هذا الوصف عن الله؟ لأنه حينما تكون الشمس تحت الأرض فإن ظل الأرض يجعل نورها غير منظور، بينما في النهار تحجب الشمس القمر بشدة ضيائها. والصقيع كثيراً ما أضر ثمار الأرض، والنار تطفأ بغزير المياه. والربيع يلزم الشتاء بان يفسح له المجال، بينما الصيف لا يسمح للربيع بأن يتعدى حدوده، وهو بدوره يمنعه الخريف من أن يتعدى أوانه.

3- إذاً فان كانت آلهة لوجب أن لا يقهر أو يحجب بعضها بعضاً، بل أن تتعاون على البقاء دواماً، وتؤدي وظائفها متعاونة. كان يجب أن تضيء الشمس والقمر وسائر مجموعة الكواكب في الليل وفي النهار بالتساوي معاً، وتعطي نورها للكل لكي تستضيء بها كل الأشياء. كان يجب أن يستمر الربيع والصيف والخريف والشتاء وتسير معاً دون تغيير. كان يجب أن تؤدي النار والمياه نفس الخدمة للانسان. لأنه يجب أن لا ينال أي واحد أي ضرر منها أن كانت آلهة كما يقول خصومنا، لا تفعل أي شيء للضرر بل بالحري تفعل كل شيء للخير.

4- ولكن أن لم يكن أي شيء من هذه ممكناً بسبب تناقض بعضها بعضاً فكيف يظل ممكناً أن يعطي اليها اسم الآلهة، أو تعبد بالإكرام اللائق بالله مع أنها مخالفة بعضها لبعض، وفي نزاع مستمر، وعاجزة عن أن تتحد معاً؟ كيف يمكن للاشياء المتنازعة بطبيعتها أن تهب السلام للآخرين اجابة لصلواتهم، وتصبح لهم مصدر وئام وألفة وسلام؟ اذن فلا يمكن أن تكون الشمس أو القمر، أو أي جزء آخر من أجزاء الخليقة، بل تماثيل الحجر أو الذهب أو اية مادة أخرى، أو زفس وابولو وغيرهما التي تدور حولها اساطير الشعراء – لا يمكن أن تكون آلهة حقيقية. هذا ما بينته براهيننا على أن بعض هذه أجزاء من الخليقة، والبعض الآخر عديم الحياة، والبعض الآخر كانوا مجرد بشر قابلين للفناء. لذلك فإن عبادتها وتأليهها ليسا من الديانة في شيء، بل هما مصدر للفساد وكل أنواع الفجور، وعلامة على شدة الابتعاد عن معرفة الله الواحد الحقيقي، أي أبا المسيح.

5- اذن فإذ قد تم اثبات هذا، وتبين أن العبادة الوثنية للإغريق مليئة بكل فساد، وان اختراعها لم يكن للخير بل لتدمير الحياة البشرية. تعال الآن – كما وعدنا في براهيننا في البداءة – لنسير في طريق الحق، بعد أن زهق الباطل، تعال لتنظر مدبر ومبدع الكون، كلمة الآب، لكي تدرك الآب به، ولكي يعرف اليونانيون كيف طوحوا بأنفسهم عن الحق بعيداً.

الفصل الثلاثون

تستطيع نفس الإنسان أن تعرف الله من تلقاء ذاتها، لأنها عاقلة، وذلك إن كانت أمينة لطبيعتها.

1- لقد ثبت بأن الاعتقادات السابق التحدث عنها ليست أكثر من مرشد مضل للحياة. اما طريق الحق فإنه يهدف للوصول إلى الله الحقيقي. ولكي نصل إلى معرفة هذا الطريق، وادراكه ادراكاً تاماً، لا يحتاج الأمر لشيء آخر سوى أنفسنا. وان كان الله أسمى منا جداً فالطريق إليه ليس بعيداً، ولا خارجاً عن أنفسنا، بل هو فينا، ومن الميسور أن نجده من تلقاء ذواتنا لأول وهلة كما علم موسى ايضاً عندما قال ([81]) “الكلمة (أي كلمة الإيمان) في قلبك” الأمر الذي أعلنه المخلص وأيده حينما قال “ملكوت الله داخلكم” ([82]).

2- لأنه أن كان لنا في أنفسنا الإيمان وملكوت الله استطعنا بسرعة أن نرى وندرك ملك الكون كلمة الآب المخلص. لذلك فلا يلتمسن اليونانيون – عبدة الأوثان – المعاذير لأنفسهم، ولا يخدعن أي إنسان آخر نفسه، مدعياً أنه ليس لديه مثل هذا الطريق، متخذاً هذا الإدعاء تكئه أو مبرراً لإلحاده.

3- لأننا جميعاً قد وضعنا أقدامنا على هذا الطريق، وكلنا امتلكناه، حتى وان كنا لا نريد جميعاً السير فيه، بل يفضل البعض الانحراف عنه، وارتكاب الأخطاء بسبب مسرات الحياة التي تستميلهم من الخارج. وان سأل البعض ما هو هذا الطريق، قلت انه هو نفس كل واحد منا، وقوة الذكاء الكامنة في النفس. لأن بها وحدها يمكن التأمل في الله وإدراكه.

4- إلا إذا أنكر الفسدة أن لهم نفساً كما أنكروا الله، وهذا أمر أكثر معقولية من سائر أقوالهم، لأنه لا يليق بأناس ذوي إدراك إنكار الله خالق ومبدع الإدراك. إذاً فمن الضروري – من أجل البسطاء – أن نبين بإيجاز أن لكل واحد من بني البشر نفساً، وهذه النفس عاقلة، سيما وان بعض الطوائف تنكر هذا ايضاً، ظانين أن الإنسان ليس إلا مجرد الجسد المنظور. وهذه النقطة إذا ما تم البرهان عليها قدم إليهم – من أشخاصهم – برهان أوضح ضد الأوثان.

الفصل الحادي والثلاثون

البرهان على وجود النفس العاقلة (1) اختلاف الإنسان عن الحيوان (2) قدرة الإنسان على التفكير الموضوعي. التفكير للعقل كالموسيقى لآلاته. ظواهر الأحلام تدعم هذا.

1- أولاً – إذاً فالطبيعة العاقلة للنفس تتثبت بشدة من اختلافها عن المخلوقات غير العاقلة. لأن السبب في تسميتها بهذا الاسم (أي المخلوقات غير العاقلة) هو أن الجنس البشري عاقل.

2- ثانياً – وليس هذا برهاناً عادياً أن الإنسان هو وحده الذي يفكر فيما هو خارج عن نفسه، ويعلل الأشياء غير الموجودة أمامه فعلاً، ويتأمل، ويختار الأفضل. لأن الحيوانات غير العاقلة ترى فقط ما هو أمامها، ولا تتأثر إلا بما تقع عليه أعينها، حتى ولو كانت النتائج ضارة لها، بينما لا يتأثر الإنسان بمجرد ما يراه، بل يحكم فكره فيما يراه بعينيه. فغرائزه مثلاً كثيراً ما يتحكم فيها العقل، وعقله خاضع لإعادة التأمل والتفكير. وكل واحد يدرك – إن كان محباً للحق – أن عقل البشرية متميز عن حواس الجسد.

3- ولأنه متميز فهو يتحكم في الحواس، التي حينما ترى المرئيات فإن العقل يميز، ويتأمل، ويبين لها ما هو أفضل. لأن الوظيفة الوحيدة للعين أن ترى، ووظيفة الأذن أن تسمع ووظيفة الأيدي اللمس. ولكن ماذا يجب على المرء أن يرى ويسمع، ماذا يجب عليه أن يلمس ويذوق ويشم، هذا أمر خارج عن نطاق الحواس، ويتعلق بالنفس وبالعقل المستتر فيها. فاليد تستطيع أن تستل السيف، والفم قادر أن يذوق السم، ولكن كلاهما لا يعرف أن هذه مؤذية أن لم يقرر العقل.

4- وإذا ما تأملنا إلى هذه الحقيقة بالاستعانة بتشبيه وجدناه تشبه قيثارة دقيقة الصنع في يد موسيقي ماهر. لأنه كما أن لكل من أوتار القيثارة نغمتها المضبوطة، مرتفعة كانت أو منخفضة أو متوسطة، حادة أو غير حادة، إلا أن اوزانها لا يمكن تمييزها، وأزمانها لا يمكن ادراكها بدون الفنان. لأن الأوزان لا تتبين، والأزمان لا تستقيم إلا إذا ضرب على الأوتار ماسك القيثار ولمس كلا منها بدقة. هكذا الحال ايضاً فإن الحواس في الجسد كالقيثارة متى ساد عليها العقل الماهر استطاعت النفس أيضاً أن تميز وتعرف ماذا تصنع وكيف تتصرف.

5- على أن هذا تتميز به البشرية فقط، وهذه هي الناحية العقلية في النفس البشرية، وبه تختلف عن البهائم، وتبين انها حقيقة متميزة عما يرى في الجسد. فمثلاً كثيراً ما فكر المرء وتأمل فيما هو في السماء في الوقت الذي يكون الجسد ملقى على الأرض. وعندما يكون الجسد ساكناً ومستريحاً ونائماً كثيراً ما تحرك المرء داخلياً ([83]) ورأى ما هو خارج عن نفسه، متجولاً في ممالك أخرى هائماً، ملتقياً بمعارفه، وبهذه الوسائل يتكهن ويتنبأ عن أحداث النهار. وهل يمكن أن يعزى هذا إلا للنفس العاقلة التي بها يفكر الإنسان في الأشياء التي تسمو عليه ويدركها؟.

الفصل الثاني والثلاثون

(3) والجسد لا يمكنه أن يُبدع مثل هذه الظواهر. والواقع أن عمل النفس العاقلة يرى من تحكمها في غرائز أعضاء الجسد.

1- والآن نضيف نقطة أخرى لتكملة بحثنا لفائدة أولئك ([84]) الذين – بلا خجل – يلتجئون إلى إنكار العقل. كيف يمكن – والجسد فان بالطبيعة – أن يفكر الإنسان فيما يتعلق بالخلود، وكثيراً ما رحب بالموت إذا تطلبت الفضيلة ذلك؟ وطالما كان الجسد لا يبقى إلا لوقت محدود فكيف يفكر الإنسان في الأمور الأبدية، حتى يحتقر ما هو أمامه، ويرغب فيما وراءه؟ والجسد لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يفكر هذه الأفكار عن نفسه، فهو فان ولا يدوم إلا لوقت محدود. ويتبع هذا أن من يفكر فيما هو ضد الجسد وضد طبيعته يجب أن يكون متميزاً في نوعه إذاً فهل يمكن أن يكون هذا إلا النفس العاقلة الخالدة؟ لأنها تنقل صدى الأمور الأعلى، لا خارج الجسد بل داخله، كما يفعل الموسيقي بقيثارته.

2- وأيضاً كيف يمكن للعين وقد خُلقت بطبيعتها لكي ترى، والأذن لتسمع، كيف يمكن أن تتحولا من بعض الأشياء لتختار غيرها؟ لأنه ما الذي يصد العين عن النظر؟ أو ما الذي يغلق الأذن عن السمع الذي هو وظيفتها الطبيعية؟ أو ما الذي كثيراً ما يمنع الحلق – الذي من طبيعته أن يذوق الأشياء – عن وظيفته الطبيعية؟ أو ما الذي يعوق اليد عن حركتها الطبيعية وهي لمس الأشياء؟ أو يحول حاسة الشم عن وظيفتها العادية؟ ما الذي يعمل هكذا ضد غرائز الجسد الطبيعية؟ أو كيف يمكن للجسد، وقد تحول عن طريقه الطبيعي أن يخضع لمشورة غيره، ويسمح لنفسه أن يكون رهن إشارته؟ هذه تبرهن بكل بساطة أن النفس العاقلة تسود على الجسد.

3- لأن الجسد لم يتكون ليقود نفسه بنفسه، بل هو يتحرك كإرادة غيره، كما أن الحصان لا يضع النير على عنقه بنفسه، بل يقوده سيده. من هنا كانت النواميس للكائنات البشرية لتعمل الخير وتمتنع عن الشر، بينما لا تفكر البهائم في الشر ولا تدركه، لأنها ([85]) خارجة عن دائرة المعقولية والفهم. إذاً فأظن أن وجود النفس العاقلة في الإنسان قد تبرهن مما قدمناه.

الفصل الثالث والثلاثون

النفس خالدة، البرهان على ذلك (1) من أنها متميزة عن الجسد (2) أنها مصدر الحركة (3) قدرتها على أن تسبح فيما هو خارج عن الجسد بالتأمل والتفكير.

1- أما أن النفس جعلت خالدة فهذا موضوع آخر في تعليم الكنيسة يجب أن تعرفه لكي تتبين كيف يجب تحطيم الأوثان. على أننا سوف نصل – بدرجة أقرب – إلى معرفة هذا مما نعرفه عن الجسد، ومن اختلاف النفس عن الجسد، لأنه إن كانت براهيننا قد أثبتت أن النفس متميزة عن الجسد، وإن كان الجسد بالطبيعة فانياً، فيتبع هذا أن النفس خالدة لأنها لا تماثل الجسد.

2- وأيضاً لأنه أن كانت النفس – كما بيننا – تحرك الجسد، الذي لا يتحرك بغيرها، فيتبع هذا أن حركة النفس اختيارية ذاتية، وهذه الحركة الذاتية تستمر بعد دفن الجسد في التراب. إذاً فإن كانت النفس يحركها الجسد لترتب على هذا أن انفصال محركها عنها ينشىء موتها. ولكن أن كانت النفس تحرك الجسد أيضاً لترتب على هذا انها تحرك نفسهابالأحرى. وان كانت تحرك نفسها ترتب على هذا أنها تحيا بعد الجسد.

3- لأن حركة النفس هي بعينها حياتها، كما نقول تماماً بطبيعة الحال أن الجسد حي أن كان يتحرك، وانه مات أن بطلت حركته. ولكن هذا يمكن تبيانه بأكثر وضوح – بصفة قاطعة – من فعل النفس في الجسد. لأنها حتى أن كانت وهي متحدة بالجسد ومجتمعة به ليست محبوسة أو محدودة بحدود الجسد الضيقة، بل حينما يكون الجسد مضطجعاً في الفراش عديم الحركة مستغرقاً في نوم يشبه الموت، كثيراً ما ظلت النفس مستيقظة بفضل قوتها، وفاقت قوة الجسد الطبيعية، وراحت تتخيل وتنظر أشياء أسمى من الأرض كأنها تتجول خارج الجسد مع أنها باقية فيه، وكثيراً ما أتصلت بالقديسين والملائكة الذين هم أسمى من دائرة الوجود الأرضي والجسدي. واقتربت منهم بفضل طهارة قوتها العقلية، ألا يحصل بالأولى. حينما تنفصل عن الجسد في الوقت المحدد من الله الذي جمعهما معاً أن تزداد معرفتها عن الخلود بأكثر ايضاح؟ لأنها أن كانت وهي مجتمعة بالجسد كانت تحيا حياة خارج الجسد، فبالأولى تستمر حياتها بعد موت الجسد، وتحيا بلا انقضاء بفضل الله الذي خلقها هكذا بكلمته ربنا يسوع المسيح.

4- لأن السبب في أن النفس تفكر وتذكر ما يتعلق بالخلود والأبدية هو انها هي نفسها خالدة. وكما أن الجسد أن كان فانياً فإن حواسه أيضاً تتصل بما هو فان، كذلك طالما كانت النفس تنظر وتتأمل فيما هو خالد فيترتب على هذا انها خالدة وتحيا للأبد. لأن الآراء والأفكار عن الخلود لا تفارق النفس أبداً، بل تلازمها وتلبث فيها كأنها الوقود لها، مما يؤكد خلودها. إذاً فهذا هو السبب في أن للنفس قدرة على رؤية الله، توهذا هو طريقها اليه، مستمدة معرفتها وادراكها عن كلمة الله لا من الخارج بل من ذاتها.

الفصل الرابع والثلاثون

إذاً فإن تخلصت النفس من أدران الخطية استطاعت أن تعرف الله مباشرة، إذ تصور لها طبيعتها العاقلة كلمة الله الذي خُلقت على صورته. ولكن حتى إذا لم تستطع اختراق السحب التي بسطتها الخطية على بصيرتها فإنها تواجه بشهادة الخليقة عن الله.

1- إذاً فإننا نكرر ما سبق أن ذكرناه وهو انه كما أنكر البشر الله وصاروا يعبدون اشياء لا نفس لها، هكذا أيضاً يتوهمهم أنهم ليست لهم نفس عاقلة ينالون حالاً قصاص غباوتهم أي انهم يحسبون في عداد المخلوقات غير العاقلة. لذلك فإنهم يستحقون الشفقة والإرشاد طالما كانوا بخزعبلاتهم يعبدون آلهة عديمة النفس كأنهم عديمي النفس.

2- أما إن اعترفوا بأن لهم نفساً، وافتخروا بحق بالنفس العاقلة، فلماذا يتجاسرون على تجاوز حدود العقل، كأن لا نفس لهم، ولا يفكرون كما ينبغي، ويتوهمون في أنفسهم بأنهم أعلى حتى من اللاهوت؟ لأنهم وهم لهم نفس خالدة وغير منظورة يجعلون لأنفسهم صورة لله من الأشياء المنظورة الفانية. ولماذا لا يحملون أنفسهم ويرجعون إلى الله ثانية كما ابتعدوا عنه؟ لأنهم يستطيعون أن يسموا بقوة ادراك نفوسهم ويرجعوا ثانية إلى الله كما حولوا ذهنهم عن الله وتوهموا لأنفسهم آلهة من العدم.

3- على أنهم يستطيعون الرجوع، إذا خلعوا ثوب دنس كل الشهوات الذي ارتدوه، وانتزعوه بمثابرة، إلى أن يتخلصوا من كل المواد الغريبة التي أثرت في نفوسهم، ويستطيعون أن يظهروا نفوسهم في بساطتها كما خُلقت، وبهذا يستطيعون أن يروا بها كلمة الآب الذي خلقوا على صورته. لأن النفس خُلقت على صورة الله ومثاله، كما تبين الكتب الإلهية حين تقول على لسان الله ([86]) “نعمل الإنسان على صورتها كشبهنا”. لذلك أيضاً فإنها حينما تتخلص من كل أدران الخطية التي تغطيها وتستبقي فقط شبه الصورة في طهارتها فإنه إذ تستنير هذه الصورة استنارة كاملة ترى النفس يقيناً – كما في مرآة – صورة الآب، أي الكلمة، وبه تصل إلى فكرة الآب، الذي نعلم أن صورته هي المخلص.

4- أما إذا كانت تعاليم النفس غير كافية بسبب الأشياء الخارجية التي تطمس عقلها، وتعوقها عن رؤية ما هو أعلى، فإنها على ذلك تستطيع معرفة الله من الأشياء المنظورة، طالما كانت الخليقة تعلن بصوت عال – كما في حروف مكتوبة – ربها وخالقها، وذلك بنظامها وتناسقها.

الفصل الخامس والثلاثون

الخليقة إعلان عن الله سيما في النظام والتناسق اللذين يسودان الكل.

1- ولأن الله صالح ومحب للبشر، ويعني بالنفوس التي خلقها، ولأنه بالطبيعة غير منظور وغير مدرك، إذ أن شخصه فوق كل الكائنات المخلوقة ([87])، الأمر الذي لأجله كان الجنس البشري عرضة ليضلوا عن طريق معرفته، لأنهم خلقوا من العدم، أما هو فإنه غير مخلوق. لهذا السبب أعطى الله الكون – “بكلمته” – نظامه الحالي، ليتمكن البشر من معرفته على أي حال بأعماله طالما كان هو بالطبيعة غير منظور. فكثيراً ما عرف الصانع بصنعته حتى ولو كان غير منظور.

2- وكما يقولون عن فيدياس ([88]) النحات أن صناعته الفنية تنبئ عنه في الحال لكل من يراها حتى ولو لم يكن موجوداً، وذلك بسبب دقتها التامة وتناسق أجزاءها، هكذا إذا تأمل المرء في نظام الكون وجب أن يدرك الله صانعه وبارئه حتى وان كان لا يرى بالأعين الجسدية. لأن الله لم يكتف بطبيعته غير المنظورة (ولا يتخذن أحد ذلك حجة) ولم يترك نفسه غير معروف للبشر كلية، بل كما قلت سابقاً رتب الخليقة ونظمها حتى يعرف بأعماله وان كان غير منظور بالطبيعة.

3- ولا أقول من تلقاء ذاتي بل بقوة ما تعلمته من البشر الذين تكلموا بلسان الله، ومنهم بولس الذي كتب لأهل رومية قائلاً ([89]) “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركه بالمصنوعات”. ولأهل ليكاؤنية صارخ قائلاً ([90]) “نحن أيضاً بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم. مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد. وهو فعل خيراً وأعطاكم من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة مالئاً قلوبكم طعاماً وسروراً”.

4- لأنه من ذا الذي يرى دائرة السماء، ومجرى الشمس والقمر، وأوضاع وحركات سائر النجوم، إذ تتخذ أمكنتها في اتجاهات مضادة ومختلفة، ومع ذلك فإنها في اختلافاتها تحفظ نظاماً ثابتاً بالإجماع، من ذا الذي يرى هذا وينكر هذه النتيجة إنها لم تنتظم من تلقاء ذواتها، بل لها خالق يتميز عنها ويحفظ لها نظامها؟ أو من ذا الذي يرى الشمس تشرق نهاراً والقمر يضيء ليلاً متناقصاً ومتزايداً بلا اختلاف، وفق نفس عدد الأيام، وبعض النجوم تسير في أفلاكها المختلفة والمتعددة، وبعضها تتحرك، ولكن دون أن تكون على غير هدى، وبعد ذلك يعجز عن أن يدرك أن لها يقيناً خالقاً يرشدها؟

الفصل السادس والثلاثون

والأغرب من كل هذا إذا ما تأملنا في القوى المضادة بعضها لبعض، والتي عنها ينتج هذا النظام الحالي.

1- ومن ذا الذي يرى الأشياء المتنافرة في طبيعتها متحدة، ومتناسقة، كالنار مختلطة بالبرودة مثلاً، والجفاف مختلطاً بالرطوبة، دون أن تتنازع معاً، بل تكون جسماً واحداً كأنها متجانسة الأجزاء. من ذا الذي يرى هذا دون أن يستنتج أن هنالك شخصية خارجة عن هذه الاشياء، وهي التي أتحدتها معاً؟ من ذا الذي يرى الشتاء يفسح المجال للربيع، والربيع للصيف، والصيف للخريف، وهذه تختلف طبيعتها، لأن الواحد يسبب القشعريرة والآخر يحرق، الواحد ينعش والآخر يتلف، ومع ذلك فالكل تتوازن وتنتج خيراً للبشرية من ذا الذي يرى هذا دون أن يدرك أن هنالك من هو أسمى منها، يوازنها ويهديها كلها، حتى وان كان لا يراه؟

2- من ذا الذي يرى السحب محمولة على الهواء، وثقل الماء متكتلاً في السحب دون أن يدرك ذاك الذي جمعها إلى فوق، ورتب هذه الأشياء على هذه الحال؟ أو من ذا الذي يرى الأرض وهي أثقل من كل شيء بالطبيعة، مثبتة على المياه ولا زالت ثابتة فوق ما هو متقلقل بطبيعته، دون أن يدرك أن هنالك من خلقها ورتبها على هذه الحال، أي الله؟ من ذا الذي يرى الأرض تعطي أثماراً في الأوقات المناسبة، والأمطار تهطل من السماء، وفيضان الأنهار، وتفجر الينابيع، وتوالد الحيوانات من آباء غير متشابهة، وهذه الأشياء تحدث لا في كل الأوقات، بل في فصول معينة، وبصفة عامة بين اشياء متنافرة ومضادة بعضها للبعض ولكنها تتوازن وتتوافق معاً – من ذا الذي يرى هذا ويستطيع مقاومة هذا الاستنتاج أن هنالك “قوة” تنظمها وتديرها، وترتب الأشياء حسناً حسبما تراه مناسباً؟

3- لأنها لو تركت لنفسها لما أمكنها البقاء، بل حتى لما أمكنها الظهور بسبب مخالفتها بعضها لبعض بالطبيعة. فالماء بطبيعته ثقيل، ويميل للانسكاب إلى أسفل، بينما السحب خفيفة وتدخل في دائرة الأشياء التي تميل أن تحلق وتصعد إلى فوق. ومع ذلك فإننا نرى الماء – وهو ثقيل يحمل في السحب إلى فوق. كذلك أيضاً الأرض ثقيلة جداً، بينما المياه خفيفة نسبياً، ومع ذلك فالأثقل محمول على الأخف، والأرض لا تغرق بل هي باقية لا تتزعزع. والذكر والأنثى ليس واحداً، ومع ذلك فإنهم يتحدان معاً، والنتيجة هي تناسل الحيوان الذي يخرج من كليهما مشابهاً لهما. وبالإيجاز أن البرودة مضادة للحرارة، والرطوبة تحارب الجفاف، ومع ذلك فإنها تجتمع معاً دون أي نزاع، بل تتفق، وتنتج جسماً واحداً، ويتولد منها كل شيء.

الفصل السابع والثلاثون

تكملة نفس الموضوع.

1- إذاً فالأشياء المتنافرة بطبيعتها، والمضادة بعضها للبعض، لا يمكن أن تصطلح معاً لو لم يكن هنالك من هو أسمى منها وسيدها ليتحدها، الذي تخضع له العناصر طائعة كما يطيع العبيد السيد. وبدلاً من أن يراعي كل شيء طبيعته ويتنازع مع جاره، فأنها كلها تدرك الرب الذي اتحدها، وتتناسق بعضها مع بعض، مع أنها مضادة لبعض بالطبيعة، وتتوافق حسب إرادة ذاك الذي يرشدها.

2- لأنه لو لم يكن امتزاجها معاً يعزي لسلطة أعلى فكيف كان ممكناً للثقيل أن يمتزج ويتحد مع الخفيف، والرطب مع الجاف، والمستدير مع المستقيم، والنار مع البرودة، أو البحر مع الأرض، أو الشمس مع القمر، أو النجوم مع السماء، والهواء مع السحب، مع أن طبيعة الواحد تختلف عن طبيعة الآخر؟ لأنه كان لابد من حصول نزاع شديد بينها فالواحد يحرق والآخر يشع برودة، والثقيل ينحدر إلى أسفل والخفيف يتجه اتجاهاً مضاداً إلى أعلى، والشمس تنير بينما يذيع الهواء ظلمة، بل النجوم نفسها تتنازع بعضها مع بعض طالما كان البعض وضعه أعلى والبعض وضعه أسفل، ولرفض الليل أن يفسح المجال للنهار، بل أصر أن يظل مجاهداً ضده ومقاوماً اياه.

3- على أنه أن كان الحال هكذا لما رأينا الكون منتظماً بل مشوشاً، ولما رأينا تناسقاً بل اضطراباً وفوضى، ولما رأينا دقة وإحكاماً بل لرأينا كل شيء مختلاً، ولما رأينا تناسباً بل كل الأشياء متفاوتة. لأنه في النزاع العام، والصراع المشترك، إما أن تبيد كل الأشياء أو يظهر مبدأ السيادة وحده. وحتى هذا المبدأ الأخير فإنه تظهر الفوضى بين الجميع، لأنه لو ترك أي شيء وحده وحُرم من معاونة سائر الأشياء لسبب الاضطراب بين الجميع. كما انه لو تركت اليد والرجل وحدهما فإن ذلك لا يحفظ للجسم كماله.

4- لأنه كيف يصير حال الكون لو أن الشمس وحدها هي التي تظهر، أو أن القمر وحده هو الذي يسير في مجراه، أو لو لم يكن سوى الليل، أو لو كان للنهار صفة الدوام؟ أو هل يبقى ايضاً هنالك أي تناسق لو أن السماء وجدت بدون النجوم، أو وجدت النجوم بدون السماء؟ أو ما المنفعة لو كان هنالك بحر فقط، أو لو وجدت الارض وحدها بدون مياه، وبدون أجزاء الخليقة الأخرى؟ أو كيف كان ممكناً للانسان، أو أي حيوان أن يظهر على الأرض لو صارت العناصر في نزاع متبادل، أو صارت السيادة والغلبة لعنصر واحد، ولم يكن هذا العنصر الواحد غير كافٍ لتركيب الأجساد؟ لأنه لا يمكن لأي شيء في العالم أن يتكون من الحرارة وحدها أو البرودة، أو الرطوبة، أو الجفاف، والا صارت كل الأشياء بدون نظام أو امتزاج. وحتى العنصر الذي تبدو له السيادة لا يمكن أن يوجد دون معاونة بقية العناصر، لأن هذه هي الطريقة التي بها يوجد كل عنصر الآن.

الفصل الثامن والثلاثون

تتضح وحدة الله من تناسق نظام الطبيعة.

1- إذاً فإن كان يوجد هنالك في كل مكان نظام لا اضطراب، وتناسب لا تباين، وترتيب لا تشويش. وكل شيء في نظام متناسق، وجب علينا حتماً، بل دفعنا دفعاً أن ندرك السيد الذي جمع كل الأشياء معاً، وأحكمها، وأوجد فيها تناسقاً. لأنه وان كان لا يُرى بالعين إلا أنه يمكن من رؤية نظام وتناسق الأشياء المضادة أن ندرك ضابطها ومرتبها وملكها.

2- لأنه كما اننا أن رأينا مدينة تحوي شعباً كثيراً ومختلفاً، عظماء وحقيرين، أغنياء وفقرا، كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً في حالة منظمة، ووجدنا أن سكانها وان كانوا يختلفون بعضهم عن بعض الا انهم متحدون فيما بينهم، فالغني لا يقوم على الفقير ولا العظيم على الحقير، ولا الشباب ضد الشيوخ، بل يعيش الجميع في سلام متمتعين بحقوق متساوية – إذا رأينا هذا فلابد من الاستنتاج أن هنالك حاكماً، وان وجوده هو الذي يسبب هذا النظام حتى وان كنا لا نراه، (لأن سوء النظام علامة على عدم وجود حكم، بينما يبين النظام أن هنالك سلطة حاكمة. فاننا حينما نرى التناسق المتبادل في أعضاء الجسد، فالعين لا تتنازع مع السمع، ولا اليد تتشاحن مع القدم، بل كل عضو يؤدي وظيفته دون أي نزاع، فاننا ندرك من هذا أن هنالك يقيناً نفساً في الجسد تضبط هذه الاعضاء وان كنا لا نراها). كذلك الحال ايضاً عندما نرى نظام وتناسق الكون يجب أن ندرك الله ضابطه كله، وانه واحد غير متعدد.

3- اذن فهذا النظام في ترتيبه، وهذا التناسق والتوافق في كل الأشياء – هذه تبين أن الكلمة، ضابطة ومدبرة غير متعدد بل واحد. لأنه لو كان هنالك أكثر من ضابط واحد للخليقة لما استمر هذا النظام الجامع الشامل، بل لوقعت كل الأشياء في فوضى نظراً لتعددها ([91])، فكل منها يحاول أن يدفع كل الأشياء حسب ارادته محارباً الآخر. وكما قلنا أن تعدد الآلهة معناه الكفر والالحاد وعدم الاعتقاد باي اله. هكذا يتبع أن حكم أكثر من واحد معناه عدم حكم أحد على الاطلاق، لأن كل واحد يريد أن ينقض حكم الآخر، فلا يظهر أي واحد حاكماً، بل تحل الفوضى في كل مكان. وحيث لا يوجد حاكم وجدت الفوضى وسوء النظام بطبيعة الحال.

4- وبالعكس أن النظام الواحد والتناسق بين الأشياء المتعددة والمختلفة يبينان أن الحاكم ايضاً واحد. فكما إذا سمع المرء عن بعد قيثارة مكونة من أوتار متعددة مختلفة وأعجب بتوافق نغماتها، أي أن صوتها لا يتكون فقط من نغمات منخفضة ولا من نغمات عالية أو متوسطة فقط، بل تعطي كل الأوتار أصواتها متوازنة معاً، لا يتسرب إلى ذهنه قط أن القيثارة تلعب من تلقاء نفسها، أو أن اشخاصاً كثيرين يضربون عليها، بل يثق تماماً أن هنالك موسيقياً واحداً (حتى وان كان لا يراه) استطاع بمهارته أن يوجد توافقاً بين كل الأوتار لتعطي نغمة شجية – هكذا ايضاً إذا كان نظام كل الكون في توافق كامل، دون أن يكون هنالك نزاع أو ثورة من الأعلى ضد الأسفل، أو من الأسفل ضد الأعلى، وكل الأشياء تتحد معاً في نظام واحد، فمن اللائق أن نعتقد بأن ضابط وملك كل الخليقة واحد لا كثيرين، وهو الذي بنوره يضيء ويحرك الكل.

الفصل التاسع والثلاثون

استحالة تعدد الآلهة.

1- لأننا يجب أن لا نتوهم أن هنالك أكثر من ضابط وخالق واحد للخليقة، فالديانة السليمة الحقيقية تعتقد أن بارئها واحد، والخليقة نفسها تشير إلى هذا بوضوح. لأنه أن كان لا يوجد سوى كون واحد لا أكثر، فان هذا برهان قاطع على أن خالقه واحد. فان كان هنالك تعدد للآلهة وجب أن يكون ايضاً هنالك حتماً أكثر من واحد. لأنه لا يعقل أن آلهة كثيرين يصنعون كوناً واحداً، أو أن الكون الواحد يخلقه أكثر من واحد، بسبب ما يتبع هذا من سخافات.

2- فأولاً أن كان الكون الواحد خلقه آلهة كثيرون كان هذا معناه الضعف من جانب الذين خلقوه، لأن الكثيرين اشتركوا في نتيجة واحدة، وكان هذا برهاناً قوياً على النقص في المقدرة على الخلق في كل منهم. لأنه أن كان واحداً كافياً لما كانت هنالك حاجة للكثيرين لكي يكمل كل واحد نقص الآخر. أما القول بأن هنالك أي نقص في الله فإن هذا ليس معناه الحاداً فحسب بل هو فوق كل شيء وقاحة. لأنه حتى بين البشر لا يمكن أن يدعى أي صانع الكمال أن كان يعجز عن اتمام عمله، قطعة واحدة من العمل، بمفرده بدون مساعدة الكثيرين غيره.

3- أما أن كان كل واحد يستطيع اتمام العمل بأكمله، غير أن الجميع عملوا فيه لكي يساهموا في النتيجة، فان الاستنتاج المضحك الذي نخرج به أخيراً هو أن كل واحد عمل لينال شهرة لئلا يشك في مقدرته. ومرة أخرى نقول انه من أشد السخافات أن ينسب للآلهة حب الظهور.

4- وأيضاً أن كان كل واحد كافياً لخلقة الكل فما الداعي لأكثر من واحد، طالما كان في الواحد كل الكفاية للكون؟ وعلاوة على هذا فمن الوقاحة والسخافة أن يجعل الشيء المخلوق واحداً بينما الخالقون كثيرون ومتعددون، فالقاعدة العلمية هي أن ما كان واحداً وكاملاً هو أسمى من الأشياء المتعددة.

5- وهذا ما يجب أن تعرفه انه أن كان الكون قد خلق بآلهة متعددة لصارت حركاته عديدة ومخالفة بعضها للبعض. لأنه إذا التفت إلى كل واحد من خالقيه فان حركاته لابد أن تكون مختلفة بالتبعية. وهذه الاختلافات ايضاً – كما قدمنا – تتضمن الاضطراب وعدم النظام. لأنه حتى السفينة لا يمكن أن تسير مستقيمة أن كان يقودها كثيرون، وما لم يمسك الدفة ربان واحد. والقيثارة لن تعطي نغمات متوافقة أن كان يضرب عليها الكثيرون، ما لم يضرب عليها فنان واحد.

6- إذاً فطالما كانت الخليقة واحدة، والكون واحداً، ونظامه واحداً، وجب أن ندرك أن ملكها ومبدعها واحد ايضاً. لأن هذا هو السبب في أن البارئ نفسه صنع كل الكون واحداً، لئلا يتوهم تعدد البارئين إن وُجِدْ أكثر من كون واحد. أما أن كان ما عمل واحداً فانه يعتقد أن صانعه ايضاً واحد. ويجب أن لا يستنتج من وحدة البارئ أن الكون يجب أن يكون واحداً، فالله كان قادراً أن يخلق أكواناً أخرى في نفس الوقت. ولكن لأن الكون الذي خلق واحد وجب الاعتقاد أن بارئه ايضاً واحد.

الفصل الأربعون

أن معقولية الكون ونظامه يبرهنان على انه من صنع العقل، أو كلمة الله.

1- إذاً من يكون هذا البارئ؟ لأن هذه نقطة يجب توضيحها لئلا يتوهم الإنسان بارئاً آخر بسبب جهله البارئ الحق، فيتردى مرة أخرى في ضلالة الإلحاد القديمة. على انني اعتقد انه لا يوجد من يتسرب إليه الشك في هذه الحقيقة. لأنه أن كانت أدلتنا قد برهنت أن آلهة الشعراء ليست آلهة، واثبتت خطأ من يؤلهون الخليقة، وبينت بصفة عامة أن العبادة الوثنية كفر والحاد وفساد، نتج عن هذا حتماً من استبعاد هذه الآلهة أن الديانة الحقيقية بجانبنا، وان الاله الذي نعبده ونكرز به هو الإله الحق الواحد، الذي هو رب الخليقة وبارئ كل الوجود.

2- ومن يكون هذا سوى أب المسيح السامي في القداسة والمتعالي فوق كل الموجودات المخلوقة، الذي – كربان ماهر – يدير دفة كل الأشياء بحكمته وكلمته ربنا ومخلصنا المسيح، ويحفظها وينظمها، ويفعل كل ما يراه صالحاً؟ على أن ما عمل، وما نراه حادثاً هو الأصلح، طالما كان هو ما يريده، وهذا يعسر على الإنسان أن يرفض الاعتقاد به.

3- لأنه لو كانت حركة الخليقة غير معقولة، ولو كان الكون يسير بلا خطة، لحق للانسان أن لا يصدق ما نقول. أما أن كان قائماً بالدقة والحكمة والمهارة، وان كان منتظماً كل الانتظام في كل نواحيه، نتج عن هذا أن ذاك الذي هو أعلى منه ونظمه ليس إلا (عقل أو) كلمة الله.

4- ولا أقصد بالكلمة تلك القوة الغريزية المودعة في كل الأشياء المخلوقة التي اعتاد البعض أن يسموها المبدأ الخلقي، ([92]) والعديمة النفس التي ليست لها قوة المعقولية أو التفكير، بل تعمل من الظاهر حسب فطنة من يستخدمها، ولا أقصد كلمة الكائنات العاقلة والمكونة من مقاطع وتتلون حسب قوة تعبيرها، بل اقصد “الكلمة” الحي القوي، كلمة الله الصالح، اله الكون، نفس “الكلمة” الذي هو الله ([93])، الذي وهو يختلف عن كل الأشياء التي خلقت، وعن كل الخليقة، فهو “الكلمة” الواحد للآب الصالح، الذي بعنايته نظم هذا الكون وينيره.

5- وإذ هو “الكلمة” الصالح للآب الصالح فقد أبدع نظام كل الاشياء، متحداً الشيء الواحد مع سائر الأشياء التي تخالفه، ومخضعاً اياها لنظام واحد متناسق. وإذ هو قوة الله وحكمة الله فإنه يجعل السماء تدور، وعلق الأرض وثبتها بمجرد اشارة منه ([94])، رغم انها لا ترتكز على شيء. والشمس إذ تستضيء به تنير العالم، والقمر له مدته المحدودة للإضاءة. واليه ([95]) يعزى تعلق الماء في السحب، هطول الأمطار على الأرض، وحفظ البحار في حدودها، والأرض تحمل العشب وتكتسي بكل أنواع النباتات.

6- وان شك أي إنسان فيما نقول وتساءل أن كان يوجد هنالك كلمة الله على الإطلاق ([96]) فإن انساناً كهذا لابد أن يكون معتوهاً إذ يشك في كلمة الله. ومع ذلك فمن الممكن توضح الأمر مما يرى، لأن كل الأشياء كائنة بكلمة الله وحكمته، كما انه لا يمكن لأي شيء مخلوق أن يكون له وجود ثابت لو لم يكن قد خلقه العقل، وهذا العقل هو كلمة الله كما قلنا.

الفصل الحادي والأربعون

وجود (الكلمة) في الطبيعة ضروري ليس فقط لخلقتها أصلاً، بل أيضاً لدوامها.

1- على أنه وان كان هو “الكلمة” فانه ليس – كما قلنا – كالكلمات البشرية مكوناً من مقاطع، بل هو صورة أبيه غير المتغيرة. ولأن البشر مكونون من أجزاء، ومخلوقون من العدم، فإن أحاديثهم مزيج من أشياء مختلفة وقابلة للتجزئة. أما الله فله وجود حقيقي، وليس مزيجاً من اشياء مختلفة، ولذلك فإن كلمته ايضاً له وجود حقيقي وليس مزيجاً، بل هو الله الواحد الوحيد ([97])، خرج بصلاحه من الآب كما من ينبوع صالح، وهو يضبط كل الأشياء ويدبرها.

2- أما السبب الذي لأجله اتحد الكلمة، كلمة الله، نفسه () بالمخلوقات فهو عجيب حقاً، ويعلمنا أن النظام الحالي للأشياء لائق كل اللياقة. لأن طبيعة المخلوقات – وقد برزت إلى الوجود من العدم – زائلة وضعيفة وفانية، أن كان مكونة من نفسها فقط. على أن اله الكل صالح وسام في النبل بالطبيعة، ولذلك فهو رحوم. لأن الشخص الصالح لا يمكن أن يحسد أحداً ([98])، ولذلك السبب فإنه لا يمكن أن يحسد أحداً حتى على الوجود، بل يتمنى أن يوجد الجميع ليظهر فيهم رأفته وحنانه.

3- إذاً فإنه إذ رأى أن كل الطبيعة التي خُلقت زائلة وعرضة للانحلال، وفق نواميسها، ولكي لا تنتهي إلى هذا المصير، ولكي لا يتحطم الكون مرة أخرى ويعود إلى العدم، لهذا خلق كل الأشياء بكلمته الأزلي، وأعطى الخليقة وجوداً كيانياً، وعلاوة على ذلك لم يتركه يطوح به في عاصفة في اتجاه طبيعته، لئلا يتلاشى من الوجود مرة أخرى ([99]). ولكنه نظراً لصلاحه يرشد كل الخليقة ويركزها بكلمته الذي هو نفسه الله أيضاً، لكي يكون للخليقة نور بتدبير ورعاية وتنظيم “الكلمة”، ولكي تتمكن من أن تستقر آمنة دواماً. لأنها تشترك مع “الكلمة” الذي يستمد الوجود الحقيقي من الآب، وتستمد منه المعونة للوجود، لئلا يصيبها ما كان ممكناً أن يحل بها لولا بقاؤها بواسطة “الكلمة”، أي لئلا يصيبها الانحلال، لأنه “هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فانه به وفيه كل الأشياء كائنة، ما يُرى وما لا يُرى، وهو رأس الكنيسة” كما يعلم خدام الحق في كتاباتهم المقدسة ([100]).

الفصل الثاني والأربعون

وصف عمل الكلمة هذا بتوسع.

1- إذاً فإن كلمة الآب القدوس، الكلي القدرة، والكلي الكمال، إذ اتحد بالكون وكشف عن قواته في كل مكان، وأنار الكل، ما يُرى وما لا يُرى، وهو يمسكها كلها ويربطها بنفسه، دون أن يترك شيئاً خالياً من قوته، بل بالعكس يحيي كل شيء، ويعضد كل شيء في كل مكان، كل شيء على انفراد، وكل الأشياء مجتمعة، ويجمع إلى واحد مبادئ كل الكائنات المحسوسة، أي الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف، ولا يسمح لها بأن ينازع بعضها بعضاً، بل تتفق كلها في تناسق واحد.

2- وبفضله وبفضل قوته لا تتنازع النار مع البرودة، ولا الرطوبة مع الجفاف، بل تمتزج معاً المبادئ المتناقضة كأنها أخوة أو أصدقاء، وتعطي حياة للاشياء التي نراها، وتكون المبادئ التي بها توجد الاجسام، وبإطاعته – أي بإطاعة الله الكلمة – فإن ما على الأرض يحيا وما في السماء ينتظم. وبفضله تتحرك كل البحار والمحيطات العظمى في حدودها المعينة، بينما – كما قدمنا – تعطي الأرض الجافة أعشاباً وتكتسي بكل أنواع النباتات. ولعدم اضاعة الوقت في تعداد التفاصيل مع وضوح الحق نقول انه لا يوجد شيء كائن يشغل حيزاً إلا وخلق به، وقائم به، كما يقول أيضاً اللاهوتي ([101]) “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان”.

3- وكما انه إذا ضبط موسيقى قيثارة، وبذكائه جعل النغمات العالية متوافقة مع المنخفضة، والنغمات المتوسطة مع بقية النغمات، وكانت نتيجة هذا إعطاء نغمة واحدة، هكذا ايضاً إذ امكست حكمة الله الكون كقيثارة، فجعلت ما في الهواء متوافقاً مع ما على الأرض، وما في السماء متوافقاً مع ما في الهواء، واتحدت الجزء مع الكل، محركاً كل الأشياء باشارته وارادته، كانت النتيجة الطيبة الجميلة وحدة الكون ونظامه، اما هو فإنه يلبث – غير متحرك – مع الآب، مع انه يحرك كل الأشياء بتدبيره كما يبدو صالحاً لكل شيء أمام أبيه.

4- لأن ما يدعو للدهشة في لاهوته هو هذا: انه باجراء واحد لإرادته، وبنفس الاجراء الواحد، يحرك كل الأشياء في آن وحد، لا في فترات معينة، بل كل الأشياء مجتمعة، المستقيم والمنحنى، ما هو فوق وما هو أسفل وما توسطهما، الرطب والبارد والحار، ما يُرى وما لا يُرى، وينظمها بحسب طبائعها المختلفة. لأنه بصفة مستمرة، وبإشارة واحدة منه، يتحرك المستقيم مستقيماً، والمنحني ايضاً والمتوسط يسير كل في حركته. والحار ينال حرارة، والجاف جفافاً، وكل الأشياء تحيا وتنتظم به حسب طبائعها المختلفة، ونتيجة لهذا فهو يخرج حقاً توافقاً عجيباً الهياً.

الفصل الثالث والأربعون

ثلاثة تشبيهات لإيضاح علاقة الكلمة بالكون.

1- ولإمكان فهم حقيقة عظمى كهذه بأحد الأمثلة لنشبه ما نريد شرحه بجوقة مرتلين. فكما أن الجوقة مكونة من اشخاص مختلفين، أطفال وسيدات ورجال، مسنين وأحداث. وإذا ما أعطى أحدهم (قائدهم) إشارة فكل منهم يخرج صوتاً متفقاً مع طبيعته وقوته، الرجل كرجل، والطفل كطفل، والمتقدم في السن كمسن، والشاب كشاب، بينما الكل يؤلفون نغمة واحدة متوافقة.

2- أو كما أن نفسنا تحرك في وقت واحد حواسنا المختلفة وفق الوظيفة التامة لكل حاسة، حتى إذا مثل أي موضوع تحركت كل الحواس معاً، فالعين ترى، والأذن تسمع، واليد تلمس، وحاسة الشم تشم، والحلق يذوق، وكثيراً ما تحرك سائر أعضاء الجسم أيضاً، فالقدمان تسيران مثلاً.

3- أو – لإيضاح قصدنا بمثل ثالث – كأن مدينة عظيمة جداً قد بُنيت وهي تدار بوجود الحاكم والملك الذي بناها، لأنه حينما يكون حاضراً، ويعطي الأوامر، ويضع عينه على كل شيء، فالكل يطيعون، البعض ينشغلون في الزراعة، والآخرون يسرعون للمساقي لأخذ المياه، والآخر يخرج لتدبير المؤونة. الواحد يذهب إلى المنصة، والرئيس إلى مكتبه. والصانع أيضاً يجلس إلى مهنته، والنوتي ينزل إلى البحر، والنجار إلى مصنعه، والطبيب إلى علاجه، والمهندس المعماري إلى بنائه، وبينما يذهب الواحد إلى الريف يعود منه الآخر، وبينما يسير البعض حمل المدينة يخرج منها الآخرون ويعودون اليها. على أن كل هذا يسير ويدبر بحضور الحاكم الواحد وبتدبيره.

4- هكذا ايضاً يجب أن تكون فكرتنا عن كل الخليقة – وان كان المثل غير واف بالغرض – ولكن بفكرة أوسع. لأنه بإيماءة واحدة، كما من كلمة الله، تنتظم كل الأشياء في وقت واحد، وكل “يؤدي وظيفته المناسبة، وكلها تؤول معاً إلى نظام واحد”.

الفصل الرابع والأربعون

تطبيق التشبيهات على كل الكون، ما يُرى وما لا يُرى.

1- لأنه بإيماءة وبقوة كلمة الآب الالهي الذي يدبر ويترأس على الكل، تدور السماء وتتحرك الكواكب، والشمس تضيء، والقمر يسير في دائرته، والهواء يتلقى نور الشمس، والأثير حرارتها. والرياح تهب، والجبال ترتفع شامخة، والبحر يضطرب بالأمواج، والكائنات الحية فيه تنمو، والأرض تلبث ثابتة، وتثمر، والانسان يتكون ويحيا ويموت ثانية، وكل الأشياء – مهما كانت – تحيا وتتحرك، والنار تحرق، والماء يبرد، والينابيع تنبع، والأنهار تفيض، والفصول والساعات تتوالى، والأمطار تهطل، والسحب تمتلئ، والبرد يتكون، والثلج والجليد يجمدان، والطيور تطير والزحافات تسير، وحيوانات المياه تعوم، والبحر يعبر، والأرض تزرع وتعطي محصولات في أوقاتها، والنباتات تنمو. بعضها صغير، والبعض ينضج، والبعض الآخر يشيخ في نموه ويتلف. وإذ تختفي بعض الأشياء يتوالد البعض الآخر ويظهر إلى النور.

2- على أن كل هذه الأشياء ýýýý، وأكثر منها مما لا يمكن ذكره لكثرتها، إذ يعطيها كلمة الله – صانع العجائب والمعجزات – نوراً وحياة، يحركها ويرتبها بإيماءة منه، جاعلاً الكون واحداً. كما انه لا يتغافل حتى عن القوات غير المنظورة. لأنه إذ يعتبر هذه أيضاً في الكون، على أساس انه هو خالقها ايضاً، فأنه يضبطها معاً، ويحييها بإيماءة منه وبتدبر عنايته. ولا يمكن أن يلتمس أي عذر لعدم الإيمان بهذا.

3- وكما انه بعنايته تنمو الأجساد، والنفس العاقلة تتحرك، وتنال الحياة وقوة التفكير، وهكذا لا يحتاج إلا لبرهان وجيز لأننا نرى ما هو حادث، هذا أيضاً نفس كلمة الآب بإشارة بسيطة بقوته يحرك ويضبط الكون المنظور والقوات غير المنظورة، معطياً لكل شيء وظيفته المناسبة، وبذلك تتحرك القوات الإلهية في طريق أكثر إلهية، اما الأشياء المنظورة فإنها تتحرك كما نراها. على انه هو نفسه، إذ هو فوق الكل، وهو الضابط الكل، والملك والقوة المدبرة، فإنه يفعل كل شيء لمجد أبيه ومعرفته، حتى يعلمنا بنفس الأعمال الصادرة من قبله قائلاً “بعظم جمال المبروءات يبصر فاطرها على طريق المقايسة ([102])“.

الفصل الخامس والأربعون

الخاتمة. تعليم الكتاب المقدس عما ورد في الباب الأول.

1- وكما أنه بالتطلع إلى السماء ورؤية نظامها، ونور الكواكب، يمكن استنتاج ادراك “الكلمة” الذي نظم هذه الاشياء، هكذا برؤية “الكلمة” وجب على المرء أن يرى أيضاً الله أباه، الذي إذ خرج من قبله يمكن أن يُدعى بحق ترجمان أبيه ورسوله.

2- وهذا يمكن أن يراه المرء من اختباراتنا. لأنه أن كانت الكلمة حينما تخرج من البشر نستنتج أن العقل هو باعثها، وبتفكيرنا في الكلمة نستطيع أن نرى بعقولنا العقل الذي تعلنه، هكذا ايضاً – مع الفارق في القياس بدرجة لا تقدر – إذ نرى قوة “الكلمة” فاننا نحصل ايضاً على معرفة ابيه الصالح، كما يقول المخلص نفسه “الذي رآني فقد رأى الآب ([103])“. على أن هذا يعلمه كل كتاب موحى به بوضوح أكثر وسلطان أعظم، حتى اننا بدورنا نكتب إليك بجسارة كما نفعل، وأنت أن رجعت اليها استطعت أن تتحقق مما نقول.

3- لأن البرهان إذ تأيد بسلطة أعلى صار من غير الممكن دحضه. إذاً فمن البداءة علمت الكلمة الإلهية الشعب اليهودي بقوة عن إبادة الأصنام حين قالت ([104]) “لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت”. على أن سبب ابادتها يعلنه كاتب آخر ([105]) “أصنام الأمم فضة وذهب. عمل أيدي الناس. لها أفواه ولا تتكلم. لها أعين ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع. لها مناخر ولا تشم. لها أيد ولا تلمس. لها أرجل ولا تمشي”. كما انها لم تدع عقيدة الخليقة تمر بسكون، ولكنها إذ عرفت جمالها تمام المعرفة، وخشيت من أن يعيد أي امرئ هذه الأشياء – إذا ما تأمل في هذا الجمال فقط – كأنها آلهة، بدلاً من أن ينظر اليها كصنعة الله فإنها علمت البشر مقدماً بقوة حين قالت ([106]) “وحين ترفع عينيك وتنظر الشمس والقمر وكل جند السماء فلا تضل وتعبدها هذه التي أعطاها الرب الهك لجميع الشعوب التي تحت السماء”. ولكنه أعطاها، لا لكي تكون آلهتهم، بل لكي يعرف الأمم بواسطتها – كما قلنا – الله صانعها كلها.

4- لأن الشعب اليهود قديماً كانت لديهم تعاليم وافرة، ولذلك كانت لديهم معرفة الله ليس فقط من أعمال الخليقة بل ايضاً من الكتب الإلهية. وعلى العموم فإنه لكي يبعد البشر عن الضلال والتصورات غير المعقولة عن الأصنام نراه يقول ([107]) “لا يكن لك آلهة أخرى سواي”. وليس هذا معناه انه ينهاهم عنها كأنه توجد آلهة أخرى، بل لئلا يتحول أي واحد عن الإله الحقيقي، ويتخذ لنفسه آلهة من العدم، كتلك التي تُدعى آلهة في كتابات الشعراء والكتاب، مع أنها ليست آلهة. ونفس اللغة تدل على انها ليست آلهة “لا يكن لك آلهة أخرى”. وهذه تشير فقط إلى المستقبل. وما يشير إلى المستقبل ليس فه وجود وقت التكلم.

الفصل السادس والأربعون

تعليم الكتاب المقدس عما ورد في الباب الثالث.

1- إذاً فهل مرت بسكون تلك التعاليم الإلهية التي فندت الحاد الوثنيين، وأمرت بإرادة الأوثان، ام هل تركت الجنس البشري ليسيروا دون امدادهم قطعاً بمعرفة الله؟ كلا فإنها سبقت عقولهم حين قالت ([108]) “اسمع يا اسرائيل الرب الهك اله واحد” وايضاً “تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل قوتك” وأيضاً “للرب الهك تسجد، وايه وحده تعبد. وبه تلتصق”.

2- اما أن عناية “الكلمة” – الذي هو فوق الكل – وقوته المنظمة قد شهدت لهما كل الكتب الموحى بها فإن هذه الفقرة تكفي لتدعيم حجتنا حيث يقول الرجال الذين يتكلمون بلسان الله ([109]) “أسست الأرض فثبتت. اليوم يثبت حسب أحكامك” وأيضاً ([110]) “رنموا لإلهنا بعود. الكاسي السموات سحاباً المهيء للأرض مطراً المنبت حشيشاً على الجبال وعشباً أخضر لخدمة الإنسان. المعطي للبهائم طعاماً”.

3- ولكن بمن يعطيها إلا بمن خُلقت به كل الاشياء؟ لأن العناية المهيمنة على كل الأشياء هي بطبيعة الحال من اختصاص ذاك الذي خُلقت به. ومن يكون هذا إلا كلمة الله. الذي يقول عنه في مزمور آخر ([111]) “بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها” لأنه يخبرنا أن كل الأشياء خُلقت فيه وبه.

4- من أجل هذا فإنه هو ايضاً يقنعنا ويقول ([112]) “وهو تكلم فصنعت. هو أمر فخلقت” كما يؤيد قولنا أيضاً موسى العظيم – في بدء وصفه للخليقة – بعبارته قائلاً ([113]): وقال الله “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”. لأنه ايضاً عندما كان يخلق السماء والأرض وكل الأشياء قال له الآب ([114]) “ليكن جلد.. ولتجتمع المياه.. ولتظهر اليابسة.. لتنبت الأرض عشباً وبقلاً”. لذلك يجب أيضاً اتهام اليهود لسبب عدم التفاتهم للكتب المقدسة باخلاص.

5- لأنه يمكن توجيه السؤال إليهم: لمن كان الله يتكلم مستعملاً صيغة الأمر؟ لو أنه كان وقتئذ يأمر ويخاطب الأشياء التي كان يخلقها لكان الكلام لغواً لأنها لم تكن قد خُلقت بعد، بل كانت على وشك أن تخلق. على أنه لا يمكن لأحد أن يتحدث لما ليس له وجود، أو يوجه أمراً لما لم يخلق بعد لكي يخلق. لأنه لو كان الله قد أصدر الأمر للأشياء المزمع أن تكون لكان قد قال “كوني أيتها السماء وكوني أيتها الأرض وأطهر أيها العشب وكن أيها الإنسان”. ولكنه في الواقع لم يفعل هكذا، بل أصدر الأمر هكذا “نعمل (لنعمل) الإنسان”، “لينبت العشب”، وهذا دليل على أن الله كان يتكلم عنها لشخصية أخرى موجودة. ويتبع هذا أنه كانت هنالك شخصية أخرى معه تكلم معها عندما خلق كل الأشياء.

6- فمن إذاً يمكن أن يكون هذا إلا كلمته؟ لأنه لمن يمكن أن يقال أن الله تكلم إلا لكلمته؟ أو من كان معه عندما خلق كل الكائنات المخلوقة إلا حكمته التي قالت ([115]) “لما خلق السماء والأرض كنت هناك أنا معه”. على أنه عند ذكر السماء والأرض فإن هذا يتضمن أيضاً كل مخلوقات السماء والأرض.

7- على أنه إذ كان حاضراً معه كحكمته وكلمته، ومتطلعاً إلى الآب، صور الكون ورتبه ومنحه نظاماً، ولأنه هو قوة الآب أعطى كل الأشياء قوة الوجود كما يقول المخلص ([116]) “كل الأشياء التي أرى الآب يعملها هذه أيضاً أعملها كذلك” وقد علم تلاميذه القديسين أن “الكل به وله قد خُلق”.

8- ولأنه المولود الصالح من الآب الصالح، والابن الحقيقي، فهو قوة الآب وحكمته وكلمته، ليس عن طريق المشاركة ([117])، ولا كأن هذه الصفات اكتسبها من الخارج، كما هو الحال مع من يشتركون في طبيعته، ويصيرون حكماء به، وينالون منه قوة وتعقلاً، بل انه هو نفس حكمة الآب، ونفس كلمته ونفس قوته. ونفس النور. ونفس الحق. ونفس البر ونفس الفضيلة. وهو يقيناً صورته الظاهرة.وبهاؤه. وشبهه. وبالإجمال هو ثمرة الآب الفائقة الكمال. وهو وحده الابن وصورة الآب غير المتغيرة.

الفصل السابع والأربعون

ضرورة الرجوع إلى الكلمة إن أردنا تجديد طبيعتنا الفاسدة.

1- إذاً من ذا الذي كان يستطيع أن يعلن الآب بالإحصاء ([118]) لكي يتبين قوات كلمته؟ لأنه كما أنه هو كلمة الآب وحكمته هكذا أيضاً إذ تنازل للمخلوقات قد صار نفس بهائه ونفس الحياة والباب والراعي والطريق، كما صار ملكاً وحاكماً ومخلصاً فوق الكل، ونور الحياة وواهبها والمهيمن على الكل، وذلك لكي يعرف العالم بمن ولده فيدركه. ولأن الآب له ابن كهذا مولود منه، وصالح وخالق، فانه لم يخبئه عن نظر خلائقه، ولكنه كان يعلنه يوماً فيوماً بواسطة نظام وحياة كل الأشياء التي هي صنعته.

2- على أنه فيه وبه يعلن نفسه أيضاً كما يقول المخلص ([119]) “أنا في الآب والآب فيَّ”، ويتبع هذا أن “الكلمة” في ذاك الذي ولده، وان المولود يحيا مع الآب إلى الأبد. وعلى هذا الأساس، ولأنه لا شيء خارج عنه، بل السماء والأرض وكل ما فيهما تعتمد عليه. إلا أن البشر في حماقتهم نبذوا معرفته وعبادته. وأكرموا الأشياء التي لا وجود لها بدل الموجودة. وعوضاً عن الله اليقيني الحق الهوا ما ليس له وجود. “وعبدوا المخلوق دون الخالق” ([120]) وهكذا حكموا على أنفسهم بالحماقة والجهل والفساد.

3- وما مثلهم إلا مثل من يعجب بالصنعة أكثر من الصانع، أو من يدهش للأعمال العامة في المدينة حتى يستخف بمن بنوها، أو من يمتدح آلة موسيقية ولكنه يحتقر من صنعها ونغمها. يا لها من حماقة وجهل محزن في نظر العين البشرية. لأنه كيف ممكناً لهم أن يعرفوا البناء أو السفينة أو القيثارة أن لم يكن صانع السفينة قد بناها، والمهندس المعماري شيدها، والموسيقي صورها.

4- وكما أن من يفكر بهذه الطريقة مجنون، بل يتخطى كل حدود الجنون، هكذا يعتبرون مخبولين في عقولهم – في رأيي – كل الذين لا يدركون الله ولا يعبدون كلمته ربنا يسوع المسيح مخلص الكل، الذي به ينظم الآب كل الأشياء ويضبطها ويهيمن على كل الكون، والذي إذ آمنت به واتقيته يا صديقي حبيب المسيح فثق وافرح وليمتلئ قلبك رجاء حسناً، لأن الخلود وملكوت السموات هما ثمر الإيمان به، وتقواه، إذا ما تزينت النفس حسب نواميسه. لأنه كما أن جزاء الذين يسلكون حسب مثاله الحياة الأبدية، هكذا جزاء الذين يسلكون الطريق المضاد لا طريق الفضيلة – هو الخزي العظيم، والهلاك بلا مغفرة في يوم الدينونة، لأنهم رغم معرفتهم طريق الحق كانت أعمالهم تخالف معرفتهم.

 

الهوامش :


([1]) على أن الموقف يختلف كل الإختلاف في البلاد الوثنية. وقد نُشرت في بلاد الهند ترجمة انجليزية لهذا السفر منذ فترة وجيزة.

([2]) أنظر الملاحظة عن هذا في “تجسد الكلمة” الفصل الأول، قد يكون هذا الاسم مستعملاً رمزياً. ولكن وروده في كلتا الرسالتين يدل على أن المقصود به شخص معين. ويغلب على الظن انه شخص مسيحي له دراية بالكتاب المقدس.

([3]) هذا ما يُصرح به أثناسيوس دواماً. أنظر (تجسد الكلمة) ف 5.

([4]) تجسد الكلمة 56 : 2. ولعله يشير أيضاً لمؤلفات معلمي مدرسة الاسكندرية ككتاب اوريجانوس (المبادئ).

([5]) علامة الصليب. أنظر “تجسد الكلمة” 47 : 2، 48 : 3.

([6]) أنظر “تجسد الكلمة” 50 : 3، 51 : 3 الخ.

([7]) 1 كو 10 : 23.

([8]) رو 3 : 10 الخ.

([9]) في 3 : 14.

([10]) 1 تي 1 : 19.

([11]) مر 12 : 29، مت 11 : 25.

([12]) جا 7 : 29.

([13]) رو 1 : 25.

([14]) أم 18 : 3 (الترجمة السبعينية).

([15]) أي هذا المزيج.

([16]) Eros اله الحب عند الإغريق.

([17]) Aphrodite إلهة العشق والجمال عند الإغريق.

([18]) Zeus رب الأرباب عند قدماء الإغريق.

([19]) Hermes رسول الآلهة وابن الاله الأكبر. اله العلم والتجارة والسفر واللصوص.

([20]) حكمة 14 : 12.

([21]) كان قسطنطين آخر إمبراطور صدر الحكم رسمياً باعتباره إلهاً، بل حتى ثيؤدوسيوس رفعه كلوديان إلى السماء.

([22]) Theseus.

([23]) ويحتمل النص الأصلي هذه للترجمة أيضاً (ايزيس الفتاة الأصغر).

([24]) أي للذين فقدوهم.

([25]) جمع قدر أي مرجل أو دست.

([26]) أي ابتداعها.

([27]) أي خداع العالم.

([28]) ترجمة النص الانجليزي “فان الناس إذ خدموا الرزايا أو المظالم جعلوا على الحجر الخ”.

([29]) حكمة 14 : 12-21.

([30]) Ganymede ساقي الآلهة عند الإغريق.

([31]) Aegaean تسمية أخرى برايروس Briareos وهو عملاق له مائة يد وخمسون رأساً وهو ابن اورانوس Uranus وجايا Gaea (أي السماء والأرض).

([32])  Semele, Leda, Alcmene, Artemis, Leto, Maia, Europe, Antiope.

([33])  Dionysus, Heracles, the Dioscuri, Hermes, Perseus, Soteira.

([34])  Aces Aphrodites.

([35])  Diomed.

([36])  Flera, Aidoneus.

([37])  Persens.

([38])  Arcas.

([39])  Hephaestus.

([40])  Omphalo.

([41]) مز 115 : 4-8.

([42]) أش 44 : 9-20 (الترجمة السبعينية).

([43]) Achilles اسم الياذة هوميروس.

([44])  Thersites.

([45])  Odysseus.

([46])  Nestor.

([47])  Diomde.

([48])  Hector.

([49])  Hecuba.

([50]) حكمة 14 : 21. أنظر أيضاً أش 42 : 8، 48 : 11.

([51]) النحت والتصوير.

([52])  Poseidon.

([53])  Hephaestus.

([54])  Demeter.

([55]) بواسطة أرسطاطاليس.

([56]) Elea بلدة جنوب ايطاليا وكانت بها مدرسة للفلسفة اليونانية.

([57])  Corax of syracuse.

([58])  Aristaeus.

([59])  Triptolemus.

([60])  Sparta & Solon of Athens of Lycurgus.

([61])  Palesamed.

([62]) أو خرافاتهم Mythology.

([63]) Scylla حيوان له خمس رؤوس.

([64]) Charybdis حيوان له خمس رؤوس.

([65]) Hippocentaur حيوان خرافي له جسم حصان ورأس إنسان.

([66]) Anubis اله من آلهة المصريين له رأس كلب وكانوا يزعمون انه حارس القبور ومرشد الموتى.

([67]) Hermaphrodites أي ذكر وأنثى في واحد.

([68]) أنظر فصل 13 : 3.

([69]) Pelasgians شعب قديم سكن شواطئ وجزائر شرق البحر الأبيض وبحر اليونان.

([70]) Thrace منطقة قديمة في الشمال الشرقي من مكدونية.

([71]) هيرودتس 2 : 69.

([72]) Taurians قسم من السكيثيين وكانوا يعيشون في شبه جزيرة القرم بجنوب روسيا ولا تزال المنطقة تُدعى باسمهم توريدا Taurida.

([73]) Cronos من أسمى آلهتهم وكان لا يفضله سوى زفس.

([74]) Jupiter Latius الإله الذي كان يعتبر محامياً للتحالف اللاتيني الذي كان مكوناً من ثلاثين مدينة لاتينية.

([75]) أي أن التمثال عديم الحياة هو الوحيد بين المصلين الفاجرين الخالي من الرذيلة، رغم أن المصلين ينسبون إليه صفات الهية، وبالتالي ينسبون إليه حياة داعرة حسب خزعبلاتهم.

([76]) رو 1 : 26 و27.

([77]) Rhea أم الآلهة وأخت اورانيوس وزوجة كرونوس.

([78]) مز 19 : 1.

([79]) وفي بعض النسخ “يسخنه الجو”.

([80]) أي نحو الهواء السفلي.

([81]) تثنية 30 : 14.

([82])

([83]) وفي بعض القراءات (كثيراً ما تحرك الإنسان الباطن أي النفس).

([84]) فصل 30.

([85]) أي البهائم.

([86]) تك 1 : 26.

([87]) أنظر ف 40 : 2.

([88]) Phidias مهندس ونحات أثيني (500 – 422 ق.م.).

([89]) رو 1 : 20.

([90]) أع 14 : 15-17.

([91]) تعدد الآلهة.

([92]) القدرة على خلق النوع.

([93]) يو 1 : 1.

([94]) أو “بإرادته” أو “بأمره” كما قد يفهم من الأصل اليوناني.

([95]) إلى كلمة الله.

([96]) أنظر “تجسد الكلمة” 41 : 3.

([97]) يو 1 : 18.

([98]) أنظر “تجسد الكلمة” 3 : 3 الخ.

([99]) أنظر “تجسد الكلمة” 43 : 7 (الحاشية).

([100]) كو 1 : 15-18.

([101]) يو 1 : 1-3.

([102]) حكمة 13 : 5.

([103]) يو 14 : 9.

([104]) خر 20 : 4.

([105]) مز 115 : 4-7.

([106]) تث 4 : 19.

([107]) خر 20 : 3.

([108]) تث 6 : 4 و 5 و 13.

([109]) مز 119 : 90 و 91.

([110]) مز 147 : 7-9.

([111]) مز 33 : 6.

([112]) مز 148 : 5.

([113]) تك 1 : 26.

([114]) تك 1 : 6-11.

([115]) أم 8 : 27.

([116]) يو 5 : 19، كو 1 : 16.

([117]) كانت هذه هي آراء الأريوسيين وغيرهم من المبتدعين الكثيرين.

([118]) أي ليحصي قوات كلمته.

([119]) يو 14 : 10.

([120]) رو 1 : 25.