المقال 113 عن الآية : طوبى للرحماء لانهم يرحمون

طوبى للرحماء لانهم يرحمون

 

حينما ارى بعض الناس يستمعون الى كلمات الانجيل بعدم انتباه، ويضحكون بدون سبب من وصايا مخلصنا، معتقدين ان الوصايا مستحيلة وانها لا تتفق مع الطبيعة، فأني اتعذب مثل هؤلاء التجار الذين بحثوا عن اللآلئ الثمينة حسب قول ربنا، وبعد ان حصلوا على بعضها وارهقوا انفسهم جاهدين في الاعمال التجارية، استسلموا في النهاية للراحة، فرأوا البعض ممن لا خبرة لهم ولا دراية باستعمال هذه الاشياء حتى لربما يغطون اللؤلؤة الثمينة برصاص عديم القيمة او بإحدى المواد التي لا بريق لها ولا قيمة ايضا، فاغتاظوا وغضبوا، ثم هبوا في حماس ضد هؤلاء الناس الذين لا يتذوقون الجمال وليس لهم به خبرة وهم يصبحون قائلين: (ماذا تفعلون انتم تخفون بريق اللؤلؤة وتألقها إذ تكسوها مادة قليلة القيمة وتضيفون اليها قبحا بدلا من ان تكسبوها جمالا كنتم تتوقعونه؟ لقد كان يجب ان تؤلفوا بين الحجر الذي له بياض الثلج وبين الذهب الذي يشبه الشمس وبذلك تكملون جمال المنظر الفريد بالتناسق بين الالوان الجميلة).

بين المساكين بالروح والاغنياء المترفين:

فإني كذلك حينما تقرأ كلمات الرب التي كتبها لوقا البشير: ( طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله. طوباكم ايها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم ايها الباكون الآن لأنكم ستضحكون. ولكن ويل لكم ايها الاغنياء لأنكم قد نلتم عزائكم) (لو 6: 20-21، 24). بالاختصار كنت اشعر انكم من ناحية لم تتوبوا بقلوبكم ولم تحزنوا بسبب هذه الكلمات، ومن ناحية اخرى سمعت البعض يقول: (حاشا) لن يصبني شيء من هذا، ان اصبح فقيرا او باقيا محتاجا، او احزن وابكى موت احد اقربائي! بل بالعكس ارجو ان أمتلئ بالأموال والخيرات واتمتع بها، ورأى الغني يأتيني من كل جانب، فيطيب لي العيش واكون مسرورا، واروّح عن نفسي وتكون حياتي خالية من كل حزن!.

قول السيد المسيح: (طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله) (لو6: 20).

نور البصيرة:

اني اصرخ في هؤلاء مثل هذا التاجر، بعد تجارة قد طال بي امدها، حتى حان لي ان اركن للراحة، إلا اني ماكنت لأحتمل احتقارهم لهذه الاحجار الكريمة والنور العظيمة الثمينة.

ايها المختارون:

ان تلك الكلمات الحية حقيقة، الطاهرة المقدسة السماوية، حينما تقيلها الانفس الذهبية المنثورة يتألق البريق الذي يشّع منها، ولكن حينما تسقط في قلوب رصاصية او بالحري في قلوب طينية، او في قلوب خنازير- حتى استعمل الفاظا اكثر ملاءمة، فهي تختفي وتستتر في ظلمات عدم البصر، بينما يغمضون اعينهم طواعية، وان كانوا فتحوها قليلا ما كان البرق يمّر دون ان يرى. لذلك كان مخلصنا يقول: ( لا تعطوا القدس للكلاب . ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير. لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم) (مت 7: 6).

فبعد ان داسوا بأقدامهم لعدم تبصرهم بريق الكلمات الالهية وشوهوه ما استطاعوا، لانهم لم يروا ولم يفهموا، يحاولون مرارا كثيرة ان يستغلوا المناقشة. فيثيرون الاعتراضات، معتقدين بذلك انهم يستطيعون ان يسقطونا ويغلونا في المعارك.

ان ارادوا فليميلوا آذانهم ويطهروها قليلا وينصتوا الى رقعة الكلمات الانجيلية ويستمعوا الى صوت العقل. لم يقرر الكتاب المقدس ابدا من كان صفر اليدين من الخيرات هو المسكين، ولا عكس ذلك ان الانسان الممتلئ بالخيرات هو الغني. ولكنه يعلن الطوبى لذاك الذي يكون مسكينا في فكره مسكنة تستحق المديح، وديعا في اسلوبه، يعرف فضل الله فيما اعطاه ولا يشتهي ما لم يعط. فلو ان احدا لا يملك شيئا، ولكنه يشتهي الخيرات، فإنه يكون مختنقا بشهوة الغنى، يمتلك القليل ولا يسكته وبالقوت والكساء حسبما حدده قانون الرسول بولس عن الكفاف إذ يقول: ( فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما) (1تي 6: 8).

من كان هكذا فهو ليس المسكين المطّوب، بل هو في الواقع غني بائس، فإنه يسبب الطمع والرغبة في الحصول على اكثر من حاجته، يريد في قرارة نفسه ان يكون غنيا ويتجه في ذلك اتجاها شريرا.

فإن ما نجده في انجيل لوقا البشير بصفة عامة ( طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله) (لو 6: 20) يقول متى البشير موضحاً معناه الخاص : ( طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات) (مت 5: 3).

الاغنياء المغبوطون

فمن له الخيرات الوفيرة وينعم بامتلاكها، فليسمع بولس الرسول الذي كتب الى تيموثاوس: (اوصِ الاغنياء في الدهر الحاضر ان لا يستكبروا ولا يلقوا رجائهم على غير يقينية الغنى بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى التمتع. وان يصنعوا صلاحا وان يكونوا اغنياء في اعمال صالحة وان يكونوا اسخياء في العطاء كرماء في التوزيع. مدخرين لأنفسهم اساسا حسنا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الابدية) (1تي: 17-19).

ومن ذا الذي يفصل ذلك بالحقيقة؟

هو ذلك الذي يملك مالا، ليس لنفسه. بل للمحتاجين، فلا يكون مثل ذلك الغني الذي يرثي لحاله، بل يصبح عليه انه ذلك المسكين بالروح ووارث ملكوت السموات.

الم يكن ايوب الصديق في حالة الازمنة الصعبة وفي سبيل التقوى والفضيلة غير المسلوك يفكر تفكيرا كاملا بحسب الانجيل؟ كان في احلام الملوك ينعم بوفرة الممتلكات، وفي عدم اهتمامه بالمادة اتخذ لنفسه اسلوب الحياة الفقيرة، فلم يكن متشبثا بالغنى الذي كان يأخذ طريقه اليه، بل كان يقترف منه بيد غنية  ولا يخفيه في الارض، لكي ينال الحرية وبقول الرب الذي عليه، بعد تجربة القروح الغريبة، مقرا من جهة ولاجل تعليمنا لكي نتمثل به من جهة اخرى:

(ان كنت قد جعلت الذهب عمدتي او قلت الابريز انت متكلي ان كنت قد فرحت إذ كثرت ثروتي ولان يدي وجدت كثيرا).

فهذا ايضا إثم يعرض للفضاء لاني اكون قد جحدت الله من فوق) (اي31: 24-25-28).

فهو من ناحية يبين بهذه الكلمات انه يحتقر المادة، ومن ناحية اخرى يبين مقدار الثروة التي كان ينفقها عن سعة بغية ان يصير مسكينا بالروح، غنيا في سخاء وكرم ومحبة. فلنستمع اليه يقول:

( غريب لم يبت في الخارج. فتحت للمسافر ابوابي) (اي31: 16-17).

وايضا قبل ذلك: ( ان كنت منعت المساكين عن مرادهم او افنيت عيني الارملة. او اكلت لقمتي وحدي فما اكل منها اليتيم)(اي31: 16-17).

ابراهيم قدوة الانبياء

بنفس هذا الاسلوب كان ابونا ابراهيم ايضا غنيا، فكانت لديه الاملاك الكثيرة من كل نوع، وفضلا عن ذلك كان مسكينا بالروح يحتقر المادة كل يوم، بعيدا عن شهرة الملكية الزائدة عن الحاجة، لدرجة انه بعد ان حارب خمسة ملوك وكانوا قد اتوا لمحاربة سدوم وعامورة، وانتصر عليهم في المعركة واسرهم، كان يحتقر الغنيمة ويقول لملك سدوم الذي كان قد هب لمساعدته ويأمل ان يكرمه بجزء منها:

(فقال ابرام لملك سدوم رفعت يدي الى الرب الاله العلي مالك السماء والارض. لا اخذن لا خيطا ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول انا اغنيت ابرام. ليس لي غير الذي اكله الغلمان واما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي عانر واشكول وممرا فهم ياخذون نصيبهم.) (تك 14: 22-24).

ان هذه التعبيرات وهذه الالفاظ كانت نابعة حقيقة من فكر مسكين بالروح. يقول: اني احتقر النصيب الذي يليق بي بسماحة، يكفي خدمي وعشيرتي ان يأكلوا فقط. اما الذين ذهبوا معي في نفس الوقت وساندوني، فليعطوا نصيبهم من الغنيمة. باطل ما يأتي من المجد الباطل، ابدر كريما بتقديم هدايا مما للغير؟

بل يستطيع المرء ان يمارس الحياة الفلسفية الحكيمة جيدا بما له. هذا ما كان يفعله بولس الرسول ايضا، إذ يوصي الذين يبشرون بالانجيل ومن المذبح: (الستم تعلمون ان الذين يعملون في الاشياء المقدسة من الهيكل ياكلون الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح. هكذا ايضا امر الرب ان الذين ينادون بالانجيل من الانجيل يعيشون.) (1كو9: 13- 14). فكان يترك نصيبه بأسلوبه الرفيع ويقول: ( اما انا فلم افعل شيئا من هذا. ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا. لانه خير لي ان اموت من ان يعطل احد)…( فما هو اجرى إذ وانا ابشر اجعل إنجيل المسيح بلا نفقة حتى لم استعمل سلطاني في الانجيل) (1كو9: 15، 18).

من يتنازل عما هو خاضع لسلطانه فإنه يستحق المدح لسماحته ومن يكن بلا رحمة حتى فيما يختص بالاخرين بشجب.

إن ابانا ابراهيم كان كريما في الصرف بسبب غناه، وهذا ما تشهد به ممارسته للضيافة، لدرجة انه كان يجلس عند الظهر بالقرب من باب خيمته وينتظر لكي يستضيف احد الغرباء العابرين، وهكذا استضاف بالحقيقة الملائكة كما يقول بولس، او بالحري استضاف الله ذاته في شكل رجال وفي شكل ملائكة: (لا تنسوا اضافة الغرباء لان بها اضاف اناس ملائكة وهم لا يدرون.) (عب 13:2).

هذه حال المساكين بالروح المطّوبة. فلا يخضع الغنى في غناه لأصحابه ويكون عبدا مسخرا في الاعمال. ان الغنى فيما يملك الانسان من اسره، فيملك الجواد ما يأتيه ويستأثر به حائلا بينه وبين مقومات البخل، وقد يبلغ بالبخيل الامر الا يستطيع ان يبسط يده ويعطي صدقة واحدة لأحد، مثل هذا الغنى يجعل صاحبه يبدر مملوكا بعد ان كان مالكاً.

كان مخلصنا يدين هذه العبودية التي تستدعي الشفقة فيقول:

اسرى خدمة المال:

(لا يقدر احد ان يخدم سيدين لانه اما ان يبغض الواحد ويحب الاخر او يلازم الواحد ويحتقر الاخر لا تقدرون ان تخدموا الله والمال.) (مت 6: 24).

(لا يقدر خادم ان يخدم سيدين لانه اما ان يبغض الواحد ويحب الاخر او يلازم الواحد ويحتقر الاخر لا تقدرون ان تخدموا الله والمال. 14 وكان الفريسيون ايضا يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزاوا به.) (لو 16: 13).

وليس بمحرم ان يصير المرء غنيا، اما ان يخدم الانسان شهوة الغنى فيكون بها مقيدا كعبد حقير، فهذا ما ينهانا عنه.

فلا نكن إذا مسترخين في حياتنا، فاترين في افكارنا، ولا نحزن، بل نسرّ بالحري لدى سماع الحكم بالنجاة من الدينونة: ( ولكن ويل لكم ايها الاغنياء. لانكم قد نلتم عزائكم) ( لو6: 24).

(فقال يسوع لتلاميذه: الحق اقول لكم انه يعسر ان يدخل غني الى ملكوت السموات) (مت 19: 23).

فإن الكلمة لا تخص كل الذين في وفرة من الثراء، بل فقط من يضمون كل فكرهم في الخيرات والممتلكات، ويتركون انفسهم تأسرها الافكار وهم ليسوا مساكين بالروح.

وهذا ما بينه مرقس الرسول حينما ينقل بوضوح فكرة مخلصنا فيكتب هذه العبارات: (فتحير التلاميذ من كلامه فاجاب يسوع ايضا وقال لهم يا بني ما اعسر دخول المتكلين على الاموال الى ملكوت الله.) (مر10: 24).

ان ما يغلق ملكوت السموات امام الانسان ليس هو امتلاكه للخيرات، بل انه ان يضع ثقته فيها. ومن ذا الذي يضع ثقته في الاموال الا الذي لا يسمع كلمة ربنا القائلة: (لا تكنزوا لكم كنوزا على الارض حيث يفسد السوس والصدا وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدا وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لانه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك ايضا.) (مت 6: 19-21).

ولكن عند ذلك ربما تقول: ( ماذا اترك إذن لورثتي؟).

بقدر ما تركه هذا الفيلسوف العظيم ايوب وابراهيم البار واسحق ويعقوب ايضا.

في الواقع انه لن ينقص شيء مع سخاء نعمة الله حتى يكون في ذلك تعارض مع الجود في عطيتك انه يعطيك الاف المصادر للخيرات حينما تكون غنيا، ربما تنفقه في التقوى تكون ( مسكينا بالروح).

ايهما افضل واكثر نفعا، ان تترك ميراثا لأولادك كنزا سموايا، او كنزا مخفيا في الارض يخفي مع قلبك ايضا؟ الكنز السمواي به نصبح اغنياء حسب الناموس.

لان الذين كانوا من عشيرة ابراهيم كانوا متنبهين لهذه النقطة، كانوا يتركون ميراثا مملوءا بركة لخلفهم.

الخيرات الارضية تطلب البركة:

حينما كان اسحق يبارك يعقوب كان يبتدئ بالبركة أي الميراث بالسماء:

( فليعطيك الله من ندى السماء ومن دسم الارض، وكثرة حنطة وخمر) (تك 27: 27).

لان كل خيرات الارض تضاف ايضا الى خيرات السماء في نفس البركة، لان كل الباقي يزاد للذين يطلبون ملكوت الله.

( لكن اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم) (مت6: 23).

لكن الترتيب بالنسبة لعيسو كان عكسيا فقد ظهر انه غير مستحق للبركة، ولم يبدأ الميراث بالسماء. فماذا قال له ابوه؟ ( فأجاب اسحق ابوه وقال له هوذا بلا دسم الارض يكون مسكنك. وبلا ندى السماء من فوق) (تك27: 39).

أرأيت كيف يسبق من يلي نزولا ولا هنا الاعلى وذلك لا يكون ايضا خاليا تماما من فيض الله بسبب سماحة كرم الله، الذي يمطر على الابرار وعلى الاشرار ويجعل الشمس تشرق على الاشرار وعلى الابرار. (فإن يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين) (مت5: 45).

تأمل إذن كيف تتلاءم دقة كلمات الكتاب المقدس مع ما يحق عليها. فمن ناحية قال بشأن ما بدأه ببركة السماء تلك كلمة البركة التي وضعت في المكان الاول: ( فيعطيك الله من ندى السماء ومن دسم الارض. وكثرة حنطة وخمر) (تك 22: 28).

ومن ناحية اخرى لم يضع اولا فيما بدأه بالأرض هذه الكلمة: ( ليعطيك الله)، بل: ( هوذا بلا دسم الارض يكون مسكنك وبلا ندى من السماء من فوق) (تك27: 29).

ذلك انه حينما يكون هنالك الاقدام للعالم فقط لا تكون هناك بركة مثالية عالية.

للمساكين بالروح لا يغلظون افكارهم بالانتفاخ:

إذن طوبى للمساكين بالروح، الودعاء في روحهم، الذين هم معتدلون، ولا يغلظون افكارهم بانتفاخ الغنى ولا يتعلقون بما لا يبقى ربما يزول. أي الفقراء بسبب قانون الروح القدس، وفقا لما قاله مخلصنا الصالح لتلاميذه: (ولكن منكم قوم لا يؤمنون لان يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه) (يو6: 64).

مفهوم الروح في الكتاب

فإن كلمة روح حينما نجدها في الكتب الالهية بطريقة غير محددة، دون ان يكتب معها شيء فهي تعني على العموم إما روح الانسان، وإما روح الله القدوس.

فمن المعنى الاول يشير اليها ما هو مكتوب في سفر زكريا النبي فيما يختص بالله: ( باسط السموات ومؤسس الارض وجابل روح الانسان في داخله) (زك12: 1).

ويشبه ذلك ايضا ما قاله الملك حزقيا حينما كان مريضا وكانت روحه على وشك ان تخرج من جسده، يقول إشعياء النبي: (مسكني قد انقلع وانتقل عني كخيمة الراعي لففت كالحائك حياتي من النول يقطعني النهار والليل تفنيني) (إش38: 12).

هذا ايضا ما قيل في سفر باروخ النبي: (افتح عينيك وانظر فانه ليس الاموات في الجحيم الذين اخذت ارواحهم عن احشائهم يعترفون للرب بالمجد والعدل. 18 لكن الروح الكئيب من الشدة والذي يمشي منحنيا ضعيفا والعيون الكليلة والنفس الجائعة هم يعترفون لك بالمجد والعدل يا رب.) (باروخ2: 17-18).

ويشبه ذلك ايضا ما قاله ربنا في الاناجيل: ( اما الروح فنشيط واما الجسد فضعيف) (مت26: 41).

وما كتبه بولس الى اهل كورنثوس: (لان من من الناس يعرف امور الانسان الا روح الانسان الذي فيه هكذا ايضا امور الله لا يعرفها احد الا روح الله) (1كو2: 11).

وعن المعنى الثاني تشير ايضا بطريقة غير محددة تلك الكلمات التي قالها الرسول: (اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد) (غلا5: 16).

وايضا: (غير متكاسلين في الاجتهاد. حارين في الروح، عابدين الرب) (رو12: 11).

وايضا: (واما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول اناة، لطف، صلاح، إيمان) (غلا5: 22).

وفي مكان آخر: لان الروح يفحص كل شيء حتى اعماق الله) (1كو2: 10).

وقد حاول البعض مع ذلك ان يفهموا المقصود بلفظة الروح في قوله: ( طوبى للمساكين بالروح) (مت5: 3). انه الروح الشرير الذي كان يقول عنه بولس الرسول حينما كتب الى اهل افسس: (التي سلكتم فيها قبلا حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الان في ابناء المعصية) (اف2: 2).

حتى ان المطوبين يكونون من اولئك الفقراء الذين تحرروا من روح العدو ومن كل حركة وكل هوى شرير.

لكن هذا ليس صحيحا، فإننا لا نجد فعلا في اي مكان اخر من الكتب المقدسة ان الاشارة الى الروح الشرير والوسواس تكون بطريقة عامة غير محدودة، بل تكون حينما مع اضافة، مثل: ( اذا خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد) (مت12: 43).

( متى خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة، واذ لا يجد يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه) (لو11: 24).

وايضا: ( ولما خرج من السفينة للوقت استقبله من القبور انسان به روح نجس) (مر5: 2).

(لانه امر الروح النجس ان يخرج من الانسان) (لو 8: 29).

وايضا: (فلما رأى يسوع ان الجمع يتراكضون انتهر الروح النجس قائلا له ايها الروح الاخرس الاصم انا امرك اخرج منه ولا تدخله ايضا) (مر9: 25).

بالروح القدس تُطرد الروح الشريرة

يمكننا ان نفهم بتقوى ايضا الآية التي نحن بصددها حسب هذا الرأي، فيكون معناها: طوبى للذين بواسطة الروح القدس قد طردوا بعيدا عنهم جميع الاهواء المخزية وهم فقراء منها وكانوا اطهارا يقولون الحق بالأكثر، لانه حيث يسكن الروح الالهي يكون حينما هروب الاعداء وتضائلهم والقضاء عليهم.

لنصر إذن ( مساكين بالروح ) بكل وسيلة ولتكن لنا افكار معتدلة، لنخفف من حمل المال الثقيل ومن احمال الممتلكات والاهواء, حتى لا يغلق بكثرتها وكبر حجرها امامنا الباب الضيق المحصور لملكوت السموات.

( ما اضيق الباب واكرب الطريق الذي يؤدي الى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه) (مت7: 14).

إذن (طوبى للمساكين بالروح) (مت5: 3).

تخيلات المجد الباطل:

وفي الواقع ان الذين يحتقرون امتلاك المادة تخاذلا منهم في سبيل الروح والقوانين الالهية، ويصرفون من اجل شهوات الجسد وتخيلات المجد الباطل بإسراف كثير بلا فائدة، هؤلاء يلزمنا ان نرثي لحالهم من اجل إسرافهم، كما اننا لا ندعو محب اللهو كرماء.

ويبدو لي ان دلالة لفظة المساكين في قول لوقا البشير بصفة عامة: ( طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله ) (لو6: 20). ليست مطلقة ولا ينقصها التحديد الخاص حسب قول متى البشير: (طوبى للمساكين بالروح) (مت5: 3).

ففي الواقع ورد بعد هذه التطويبات قوله: (طوباكم اذا ابغضكم الناس واذا افرزوكم وعيروكم واخرجوا اسمكم كشرير من اجل ابن الانسان) (لو6: 22). وبهذا تشمل كل التطويبات بنفس الطريقة، وفضلا عن ذلك فهي تتفق مع جميعها.

اشتراط الطوبى بالارتباط بالمسيح:

( طوباكم ايها المساكين) (لو 6: 20). يجب ان نفهم انه مكتوب ايضا معها: ( من اجل ابن الانسان).

بمعنى: (طوباكم ايها المساكين) بسبب ابن الانسان. وهذا يعني نفس الشيء كقوله: ( طوبى للمساكين بالروح) (مت5: 3).

الجحود باب للتجديف

كثيرون فعلا ليسوا مساكين من اجل ابن الانسان او من اجل المسيح، لا يتشكرون الله في حالة الفقر الذي يأتي بسبب الحرمان والضيق، ولا يعرفون الجميل وهم يحدقون ضد الله.

طوبى للرحماء من اجل ابن الانسان. (طوبى للرحماء لانهم يرحمون) (مت5: 7).

يروق للبعض ان يفعلوا ذلك لكي يظهروا للناس، اولئك ليسوا مطوبين.

( طوبى لصانعي السلام) (مت5: 9). اذا كانت وداعتهم من اجل ابن الانسان.

في الواقع اننا نرى البعض يؤسسون السلام مع بعضهم البعض على القسوة والاتفاق السوء الذي يقول عنه داود النبي في المزامير: ( لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الاشرار) (مز:73: 3).

( طوبى لأنقياء القلب) (مت5: 8). من اجل ابن الانسان.

لا ينقي القلب بدون المسيح:

من يستطيع ان يكون نقي القلب دون ان ينظر نحو ابن الانسان؟ فإذا حول المرء نظره عن التأمل في إبن الانسان يصير خارجا وبعيدا عن نقاوة بالكلية لذلك كتب يوحنا اللاهوتي: (ايها الاحباء الان نحن اولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم انه اذا اظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر) (1يو3: 2-3).

البقاء في الطهارة إكراما لجسد المسيح:

وكتب ايضا اغناطيوس لابس الاله الى بوليكارب بهذه العبارات: ( اذا كان احد يستطيع ان يبقى الطهارة إكراما لجسد ربنا يسوع، فليبق في الاتضاع، لكن ان كان يفتخر فقد ضاع) فإنه يبدو في الواقع ان بقاءه في الطهارة ليس من اجل ابن الانسان.

شواهد الوداعة:

( طوبى للودعاء) (مت5: 5). من اجل ابن الانسان.

فإن اولئك هم الذين بسبب القوانين نفسها يحرمون الغضب، والضجة والحقد والتجديف وكل قساوة وما ارضخه بولس الرسول تفصيلا: ( ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث) (اف4: 31).

هؤلاء هم الذين يجب تطويبهم، وليس اولئك الذين يشبهون المجانين عد بمى الاحساس فقد اصبحوا خارج الطبيعة. لان هؤلاء بحق لن ينالوا اكاليل الفضيلة كما انه لن يكفي ما يصيبهم عن العقاب من اجل القسوة.

( طوبى للجياع والعطاش الى البر) (مت5: 6).

من المؤكد ان ذلك يكون من اجل ابن الانسان، فإن الذين يطلبون المسيح وهم جياع وعطشى اليه، يبحثون عن البر الحقيقي وليس عما يسر الناس مطلقا، الامر الذي يتسبب عنه مرارا كثيرة الكذب. لان كثيرين بعد ان القوا المقالات الطويلة عن البر، والعدل، لم يستطيعوا ان يجدرا ما هو عادل حقا.

بهذا المعنى يعلمنا سفر المزامير المقدس كيف نميز العدل الحقيقي. (تحطمهم بقضيب من حديد مثل اناء خزاف تكسرهم) (مز 2: 9).

كذلك فإن هذه العبارات: ( طوباكم ايها الباكون الان لأنكم ستضحكون) (لو6: 21). وايضا: ( طوبى للحزانى لانهم يتعزون) (مت5: 4). متفقة مع نفس المعنى، ويفهم منها ايضا انها من اجل ابن الانسان.

وفي الواقع ليست كل الاحزان وهي الاصل تعبنا ودموعنا، تأني من اجل ابن الانسان او تثاب عنها الطوبى من عند الله، وفي ذلك كان بولس الرسول ايضا يقول:

الحزن بحسب مشيئة الله

( لان الحزن الذي بحسب مشيئة الله يفشى توبة الخلاص بلا ندامة. واما حزن العالم فيفشى موتا) (2كو7: 10).

ومن الناس من يحزن من اجل العالم و يأسف على الحرمان من شهوات الجسد ويجعل من خسارته نشئ من الاشياء السارة سببا لآنيته هكذا كان الإسرائيليون حينما تذكروا اواني اللحم في مصر، كانوا يبكون في الصحراء ويثيرون بطونهم الشرهة ويطلبون من موسى ان يشبع رغبتهم، حتى قال موسى لله: ( من اين لي لحم حتى اعطي جميع هذا الشعب. لانهم يبكون عليَّ قائلين اعطنا لحما لنأكل) ( عد11: 13).

الحزن المكروه

ويقع في ذلك الحزن المتبلد المكروه المشجوب ايضا اولئك الذين يبقون صامتين بسبب عطايا المكروه المشجوب ايضا اولئك الذين يبقون صامتين بسبب عطايا تافهة بسيطة ويشتهون اموال الغير ظلماً: كما كتب عن آخاب ملك اسرائيل الذي اشتهى ان يأخذ كرم نابوت دون موافقته. يقول الكتاب: (فدخل اخاب بيته مكتئبا مغموما من اجل الكلام الذي كلمه به نابوت اليزرعيلي قائلا لا اعطيك ميراث ابائي واضطجع على سريره وحول وجهه ولم يأكل خبزا) (2مل21: 4). فنال موضوع شهوته بعد ان قتل هذا الرجل.

بهذا الحزن المكروه من الله نجد ايضا اولئك الذين يفتحون على موت احبائهم في غير اعتدال او لياقة، فيجلبون التجديف وليس الايمان فيما يختص برجاء القيامة، وهم الذين يقول عنهم بولس: (ثم لا اريد ان تجهلوا ايها الاخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم) (1تس4: 13).

الحزن على الخطأ

من هو إذن من الحزانى يكون مضبوطا يبكى من اجل ابن الانسان؟

انه ذلك الذي يسكب الدموع على خطاياه ويطلب ان يتطهر ويكون قريبا من المسيح، وكان سبب حزنه هو الانفصال عن الله لانه اخطأ، يقول مع داود: (لأني اخبر بإثمي واغتم من خطيتي) (مز38: 18).

(جعلت لباسي مسحا وصرت لهم مثلا) (68: 12).

(كمن يتوح على امه انحنيت حزينا) (مز35: 14).

(جداول مياه جرت من عيني لانهم لم يحفظوا شريعتك) (مز119: 136).

فإنه بالتطهير بمثل هذه الممارسات يرتفع الانسان الى درجة كبيرة ويتنهد حيا في الاخرين ايضا الذين يستدعى حالهم الآنين، ويقول مرنمّاً: ( الحية اخذتني بسبب الاشرار تاركي شريعتك) (مز119: 53).

بهذه الطريقة ايضا كان ارميا النبي حزينا إذ يرى مواطنيه يخطئون ويفرحون، يقول: ( لم اجلس في محفل المازحين مبتهجا من اجل يدك جلست وحدي لانك قد ملأتني غضبا) (ار15: 17).

كذلك كان صموئيل النبي وقد كان يرى منذ طفولته ما هو خفي، واضحى مشهورا بين الانبياء والقضاة، فإنه عندما رأى شاول الذي كان قد مسحه ملكا، قد اخطأ وكان مسيئا لاحتقاره وصايا الله، وكان مرفوضا بعيدا عن رضى الله، فبينما كان صموئيل النبي يحيد عنه كان يبكي على خطبته، الى ان كشف الله له ان هذه الخطية لا شفاء منها، ويجدر بنا ان نستمع الى كلمات الكتاب الملهم به من الله:

(ولم يعد صموئيل لرؤية شاول الى يوم موته لان صموئيل ناح على شاول والرب ندم لانه ملك شاول على اسرائيل) (1صم15: 35). (فقال الرب لصموئيل حتى متى تنوح على شاول وانا قد رفضته عن ان يملك على اسرائيل املا قرنك دهنا وتعال ارسلك الى يسّى البيتلحمي لاني قد رأيت لي في بنيه ملكا) (1صم16: 1).

بنفس هذا الاسلوب ايضا كان بولس الرسول يتصرف حينما كتب الى اهل كورنثوس:

(ان يذلني الهي عندكم اذا جئت ايضا وانوح على كثيرين من الذين اخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنا والعهارة التي فعلوها) (2كو12: 21).

الحزن لاسترداد كرامة النفس

توجد ايضا درجة عليا عند صفوة الذين يشعرون بالحزن وهم من المغبوطين، فقد يأخذ الانسان في اعتباره كرامته بعد ان يطهر نفسه من المادة ويعرف لنفسه كرامتها وكيف انها بعد ان سقطت من الفردوس ونبذت بعيدا من نعمة الخلود، لبست قمصان الجلد التي ترمز الى حالة الموت، فيشتهي الانطلاق مع المسيح كقول بولس الرسول: ( فإني انا الان اسكب سكيبا ووقت انحلالي قد حضر) (2تي4: 6).

( فإني محصور من الاثنين لي اشتهاء ان انطلق واكون مع المسيح. ذاك افضل جدا) (في1: 23).

(  فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين اذ لسنا نريد ان نخلعها بل ان نلبس فوقها لكي يبتلع المائت من الحياة) (2كو5: 4).

عطش النفس الى الله

كان داود النبي ايضا يتألم من جراء هذا الحنين والشوق إذ قال: (عطشت نفسي الى الله الى الاله الحي متى اجيء واتراءى قدام الله. صارت لي دموعي خبزا نهارا وليلا اذ قيل لي كل يوم اين الهك) (مز42: 2-3).

وانطونيوس العظيم ايضا كان يتحمل حينما كان يصعد وسط امواج حياة النسك الطاهر، حتى درجة التحرر من الجسد وكان يفكر فيما يليق برقعة الروح، وكان يجهد نفسه وينتحب في كل مرة يضطر الى ان ينزل الى طعام الجسد.

وقد كتب عنهم:

( طوباكم ايها الباكون الآن لأنكم ستضحكون) (لو6: 21)

ويدعو لوقا السرور والتعزية (ضحكا)، بينما يكتب متى البشير ( لانكم ستضحكون)، بل: (لانهم يتعزون) (مت5:5).

ويدعو الكتاب الالهي عادة السرور ضحكا. لذلك بعد ان ولدت سارة اسحق قالت: ( قد صنع الى الله ضحكا. كل من يسمع يضحك لي) (تك21: 6).

وقال ايوب ايضا عن الله: ( عندما يملأ فاك ضحكا وشفتيك هتافاً) (اي8: 21).

اما ضحك الجهلاء فيشجبه سفر الحكمة قائلا: (لانه كصوت الشوك تحت القدر هكذا ضحك الجهال. هذا ايضا باطل) (جا7: 6).

اين هم اولئك الذين يضيعون طول اليوم في مشاهدة العروض، ويذهبون ليلا الى اماكن اللهو الدنس، ويصيحون مثل الغربان بكلمات مضحكة، انهم قوم ممقوتون يجلبون العار على الصغار فضلا عن الرجال الكاملين؟

لكني ربما استمع الى من يردًّ عليَّ في ذلك قائلا: ( لماذا تشتمنا دون ان تكون انت ذاتك مجرحا في شيء؟ انستهزىء بالاجتماعات التي تتم بالكنيسة؟ اكنا نحث غيرنا على الذهاب الى الملاهي؟ الا فاصمت إذن كما اننا صامتون)..

من السهل ان نقول لهم: ( انتم لكم طريق منزلق يتحدر الى الاسفل، هو طريق الملذات بحرف فجأة الكثيرين مرة واحدة في غير حاجة الى أي كلمة اخرى، اما انا فإذ ادرّب في طريق الفضيلة المتعب الوعر ذا المنحدرات، فإني احتاج الى اوتار روحانية كثيرة، حتى بعد جهد اجذب واحدا واحدا الى المستويات العليا، فليس يكتسح النهر في فيضانه السهول المغطاة بالسنابل والكروم والاشجار التي تثمر الفاكهة وغير المثمرة، اذا اغلق الزارع المدخل امام المياه الجارفة.

لنكن هادئين إذن ونتوقف عن الضحك غير اللائق وعن الاباحية، قبل ان يجيء الموت الذي لا مفر منه، ولنحزن حقا في غير معاناة الجهال غير المتعلمين ذوي الافكار السقيمة، ونسمع كلمات الاناجيل المقدسة القائلة:

( طوباكم ايها الباكون الان لأنكم ستضحكون) (لو6: 21).

( طوبى للحزانى لأنهم يتعزون) (مت5: 4).

المجد والتسبيح للمسيح الذي يرفعنا الى مثل هذه الرفعة والى هذا السمو في الفضيلة في حياة النسك. له المجد الى الابد امين…..